معايير الأداء ومواكب الأمراء

كاظم فنجان الحمامي

قبل بضعة أيام قرأت قصة طريفة عن فتى صغير. دخل محلاً للتسوق في ولاية فلوريدا الأمريكية، ثم حمل صندوقاً من صناديق الحليب، ووضعه في كابينة الهاتف. صعد فوقه ليكون قريباً من أزرار الهاتف، وبدأ اتصاله الهاتفي بصوت مسموع. كان صاحب المحل يراقبه عن كثب، وينصت لحديثه مع الطرف الآخر.
قال الفتى: (سيدتي، هل يمكنني العمل في خدمتك، والسماح لي بتهذيب عشب حديقتك ؟)، أجابت السيدة: (كلا يا ولدي، لدي من يقوم بهذا العمل). قال لها الفتى: (سأقوم بقص العشب بنصف الأجر الذي يأخذه الشخص الآخر)، أجابت السيدة بأنها راضية تماماً عن ذلك الشخص، ولا تريد استبداله.
أصبح الفتى أكثر إلحاحاً. قال لها: (سيدتي، سأنظف الممرات، وأسقي الزهور، واقتلع الحجارة، واصلح السياج الخارجي، وستكون حديقتك من أجمل حدائق المدينة)، فكان جواب السيدة الرفض القاطع.
تبسم الفتى، وأقفل الهاتف، فتقدم منه صاحب المحل. قال له: (لقد اعجبني اندفاعك للعمل، وأدهشتني حماستك المتفجرة بالحيوية، وسأكون سعيداً لو عملت معي في التسويق المنزلي). قال له الفتى: (شكراً سيدي، غير أني فقط أردت أن اتأكد من أدائي لعملي، فأنا أعمل في بيت تلك السيدة، التي كنت اكلمها عبر الهاتف).
كانت هذه حكاية عابرة تتحدث عن فتى صغير يتحرى عن تقييمه الذاتي، ويحرص أشد الحرص على تحسين مهنته، والارتقاء بها نحو أعلى مستويات الاتقان والاخلاص في العمل. وربما نجد في تراثنا الشعبي مئات القصص والحكايات، عن أمراء وملوك كانوا يجوبون الأزقة ليلاً ليتفقدوا أحوال الرعية، ويفتشوا بأنفسهم عن الهفوات والخروقات والانتهاكات، فالإصلاح يتطلب الوقف على مواطن الضعف والخلل ومعالجتها، ويتطلب مواصلة البحث الدقيق، وربما يستدعي القيام بزيارات ميدانية مفاجئة لمواقع العمل، من دون اصطحاب فرق الحمايات والحراسات والسيارات المصفحة وأبواقها الاستفزازية وصفاراتها المدوية.
الوزراء في الصين واليابان، وفي أوربا والغرب الأمريكي، يتحرون بأنفسهم عن معدلات الجودة في أداء تشكيلاتهم الوزارية، ويواصلون سعيهم الحثيث في هذا الاتجاه عن طريق الزيارات الميدانية الفردية المباغتة. آخذين بنظر الاعتبار التزامهم بالزي الموحد، بضمنها ارتداء الكمامات، وقبعات الوقاية، وأحذية السلامة، وبدلات العمل الصفراء أو الزرقاء، بالدرجة التي لا يستطيع فيها الناظر تمييز الوزير من الخفير، فسياقات العمل الرقابي الصحيح في البلدان المتقدمة تحتم على الوزير التحلي بالتواضع، وتوخي البساطة، ونبذ الأساليب البيروقراطية المربكة. وهنا يكمن سر نجاح الأمم الأخرى، وتفوقها علينا في مضمار التنافس الدولي. أما في البلدان العربية فالمظاهر الأميرية هي السائدة على تحركات مواكب أصحاب الجلالة والسعادة والسمو، ولله في خلقه شؤون.