من دفاتر عاشق الأهوار

كاظم فنجان الحمامي

لن ينقطع الوطنيون الأحرار عن أوطانهم مهما تباعدت المسافات، ولن ينفصلوا عنها مهما تعاقبت السنوات، فليس من أخلاقهم التنكر للأرض التي نشأوا عليها، وتربوا في أحضانها، ولا من شيمتهم التكبر على الشعوب، التي ينتمون إليها، فالوطني الشريف لا يخون وطنه، ولا يتآمر على أمته، وتبقى ذاكرته تحتفظ بخزين هائل من تراكمات الماضي الجميل.
قبل بضعة أيام كنت اتصفح مذكرات مشحونة بالشوق والحنين لأهوار جنوب العراق. كتبها رجل شهم غيور. يدعى (أبو عبد الله النجدي). يبدو أن دروب الاغتراب خطفته منذ عقود، فأبعدته عن ضفاف شط العرب، لكنها لم تقتلع جذوره من أديم الميزوبوتاميا، على الرغم من وقوفه على أعتاب العقد الثامن من العمر، فقد أمضى ستين عاماً متنقلاً في هذا الفردوس الخرافي، الذي احتضن الحضارة السومرية لقرون وقرون.
قبل بضعة أسابيع اقترب موسم الصيد في الأهوار، وبدأت تباشيره، فتلقى دعوات من أصدقائه في (الطيب) للقيام بجولة فوق هذه المسطحات المائية الغنية بالثروات، لكنه لم يستطع تلبية الدعوة، فقد انفرط عقد صحبته القديمة، التي كانت تجمعه بأعز الأصدقاء. فتبددت عبر تقلبات الزمن منذ اليوم الذي رحل فيه صديقه الحميم (يوسف ياسين العامر)، ورحل قبله (رعد عبد القادر الموسى)، ورحل بعدهما (فالح عبد الرزاق السعدون). ولا ننسى هنا بقية أفراد المجموعة، التي كانت تضم: فالح محمد نصيب، وخيون مغامس، وسيد ناظم اللعيبي، وناصر الفردان، ورزاق الجدوع، وصديق آخر من خارج المجموعة هو: (سامي كاظم بريچ)، الذي ظل يذود وحده في مواجهة تحديات الحياة وأعبائها.
لم تعد مسطحات الأهوار بالجمالية، التي كانت عليها في أيام الغزارة المائية، وبخاصة بعدما فقدت مقوماتها البيئية الساحرة، لكن صدى الذكريات ينقله من وقت لآخر نحو جنائنها الفردوسية، حيث عذوبة النسائم المشبعة بأسرار الحياة.
كانوا يستيقظون مبكرين قبل أن تفاجئهم الشمس بخيوطها الذهبية المتسللة بين تشابكات القصب والبردي. تتعالى أصوات الصيادين شيئاً فشيئاً في الأغوار المقمرة، وتُسمع من بعيد وسط هذا المحيط المائي المترامي الأطراف. تبدأ جولاتهم الصباحية بقرع الصفيح، وإثارة الضجيج بضرب المجاذيف الغائرة في الأعماق، فتتقافز الأسماك نحو شباكهم المنصوبة لهذه الغاية، وكأنها على موعد أزلي مع الصيادين، الذين ظلوا يمارسون طقوسهم الموروثة على إيقاعاتها القديمة الضاربة في أعماق التاريخ.
كانوا يتركون خيامهم على حافات المياه، ويتركون وراءهم أغراضهم الثمينة، من دون أن يقلقوا عليها، فالأمن والأمان هما الصفتان المتلازمتان في سلوك عرب الأهوار، كانت قناعتهم أغنى من كنوز الدنيا بثرواتها، لكنها اختفت الآن للأسف الشديد، وتحولت بعض مجاهلها إلى أوكار للمارقين والمنفلتين والخارجين على الأصول والأعراف.
كانت غابات البردي متهيئة دائماً لاستقبال الطيور المهاجرة، حيث تجد الدفء والملاذ الآمن. وحيث الماء والخضراء والأجواء الطيبة، وحيث تستكمل دورة حياتها، التي بدأتها هنا منذ بدأ الخليقة. أما اليوم فقد حاصرها الجفاف، وخنقتها السحب الكربونية، وسمومها المنبعثة من حقول جولات التراخيص، فغادرها الإنسان مكرهاً، ونفقت أسماكها في تجاويف البرك الآسنة، وهجرتها أسراب الطيور إلى غير رجعة.