نزار القريشي
على غرار شعراء المهجر، وعلى وقع أشعار هؤلاء، من أمثال جبران وإيليا ونسيب عريضة وندرة حداد وميشيل نعمان وفوزي المعلوف وإلياس فرحات ونضير زيتون… يمكن الحديث عن شعر مهجري جديد، خاصة مع شعراء المنافي واللجوء، منذ الشاعر العراقي سعدي يوسف وابن بلدته وبجدته العراقي صلاح نيازي، كما السوري نوري الجراح، والفلسطيني أحمد الريماوي…
أما عن شعراء المهجر المغاربة، فوجب الحديث عن حلقة باريس، والتي تضم ثلاثة من أشهر الأسماء الشعرية المغربية، ويتعلق الأمر بكل من محمد خير الدين، صديق جون بول سارتر، وعبد اللطيف اللعبي، والطاهر بنجلون، الذي كتب الشعر أيضا. سوى أن هؤلاء إنما كتبوا الشعر بالفرنسية، وتم إدراجهم في خانة الشعراء الفرونكفونيين، رغم تحفظنا على التسمية.
واليوم، ثمة عدد من الشعراء المغاربة المقيمين في المهجر، ولكنهم يواصلون الكتابة من هنالك باللغة العربية. ويتعلق الأمر بجيل شعري جديد، التحق بأوروبا نهاية القرن الماضي وبداية القرن الجاري، في أزمنة الهجرة والعولمة والثقافات العابرة للقارات… بعد الجيل الذي اصطلح على نفسه اسم جيل “الاغتراب الأدبي”، حيث أصدر الشاعر العراقي من مهجره اللندني مجلة بهذا الاسم (الاغتراب الأدبي). ولنا أن نصر على تسمية هذا الجيل الجديد بشعراء المهجر الجديد، أو شعراء المهجر الجدد، من أجل تأصيل هذه التجربة، والبحث لها عن شعرية البدايات من أجل اجتراح أفق أوسع مدى للامتدادات والتراكمات الشعرية…
وهكذا، يأتي هذا الجيل ثالثا في هذا التقسيم التاريخي والجغرافي الذي نقترحه، ونصنف تجاربه الشعرية الثلاث:
1- تجربة شعراء المهجر
2- تجربة شعراء الاغتراب
3- تجربة شعراء المهجر الجديد
وبالنسبة إلى الشعراء المغاربة من هذا الجيل الجديد، تصعد إلى الواجهة ثلاثة أسماء بارزة، فهنالك طه عدنان المقيم في بلجيكا، والذي “يكره الحب”، كما هو عنوان آخر دواوينه، وعبد الإله الصالحي، المقيم في فرنسا، وأميرة عبد العزيز، المقيمة في فرنسا، وتحديدا في عاصمة الأنوار والأشعار باريز.
هذه، إذا، هي شجرة أنساب الشاعر أميرة عبد العزيز، وهي شجرة أنساب وارفة تمتد أغصانها وظلالها بعيدا صوب مختلف العواصم العالمية: لندن وباريس وبروكسيل وواشنطن… لكن جذورها تحفر عميقا في التربة العربية المغربية. كما أن ما يحسب لهذه الشاعرة هي أنها لم تعش تجربة اغتراب واحد، بل عاشت اغترابين اثنين، ولم تتأثر بالثقافة الفرونكوفونية وحدها، ولا بالأنجلوسكسونية فقط، بل تأثرت بهما معا، وأَثْرَتْ تجربتها الشعرية من خلالهما.
ففي العاصمة لندن، تلقت أميرة عبد العزيز أصول الأدب الإنجليزي العالمي، وحصلت على شهادة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي. وفي العاصمة باريس، وجامعة السوربون، تحديدا، تلقي هذه الشاعرة والناقدة المغربية محاضراتها في الآداب والترجمة والفنون.
والحكم على الشاعرة من أنها من شواعر المهجر ليس حكم قيمة، أو قياسا إلى شعراء المهجر الأوائل، بل هو حكم تتفق معه الشاعرة منذ أن أسست سنة 2011 “رابطة أدباء المهجر”. واختيار عبارة “الرابطة” ليس اختيارا بريئا على الإطلاق، ذلك لأن الكبير جبران خليل جبران كان قد أطلق العبارة في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ سنة 1920، حين أسس “الرابطة القلمية” في منزل الشاعر والصحافي السوري عبد المسيح حداد، كما يحدثنا عن ذلك في كتابه الشيق “حكايات المهجر”.
تقول الشاعرة أميرة عبد العزيز:
“صباح الخير…
أردت فقط أن أخبرك أنني وباريس
قررنا تقاسم وقت النقاش معك
فقط حاول أن تصل إليها قطعة واحدة..!”.
هذا ما يؤكد مهجرية القصيدة عند الشاعرة أميرة عبد العزيز. بل يصل الأمر حد التماهي والحلول الصوفي، وتصير الشاعرة هي باريس، وباريس هي الشاعرة، وهي قمة “جماليات المكان”، ومنتهى الألفة بالمكان، كما يحدثنا غاستون باشلار. ألم يكن باشلار فرنسيا، وفي باريس قضى معظم حياته وأبحاثه وأمجاده حتى النهاية..؟
وعلينا أن ننتبه إلى أن في هذا المقطع الشعري حضورا للآخر، قد يكون الحبيب، وقد يكون الحسيب، وقد يكون الغريب، ولكنه الآخر في جميع الحالات، وإن لم يكن من باريس يقينا. ومن هنا، تصبح المدينة فضاء للحوار والاستضافة والرحابة، فضاء للحوار والنقاش، فضاء أليفا بلغة باشلار، وفضاء للأنوار والأشعار، كما تقدم.
بل لكأن الشاعرة تذكرنا بالشاعر المصري الرائد زكي مبارك، حين يقول في عموديته الشهيرة:
كنت في باريس أشكو وحدتي كنت في بغداد أشكو زمني
وأنا اليوم أعاني غربةً مُرَّةً أشقى بها في وطني
بينما يعزف الشاعر الحديث والمجدد عبد الوهاب البياتي عزفا جديدا ومنفردا، وهو يؤسس لقصيدة التفاصيل، حين يقول:
و كرنة العصفور, صوتك لا يزال
في ليل باريس: يناديني! تعال
في ليل: باريس! تعال
حيث البغايا الشقر والعتمات والمتسولون
وضريح ميرابو وروبيسبير والفكر المهان
تحت النعال, وصوتها, في ليل باريس تعال!:
والثلج والعتمات والمتسولون
وسعال طفلتنا المريضة, والبواخر, و الزمان
وصليب ثورتنا القديم:
حرية. عدل. مساواة. يلوث في دماء الأبرياء
إخوتنا الشرفاء في الإبداع والغد والمصير
أما قصيدة أميرة التي تحمل عنوان “تهاويت منك”، فتنطلق الشاعرة ساهمة بكل لوعة واشتياق يؤكدان تجربة الغربة والحنين، حيث تقول الشاعرة. تَهاويتُ منْكَ
أمْشِي هشَّةَ الخُطُوَات
أرْضِي كلُّها عثَرَات
أَنْبِشُ عنكَ في ذاتِي
في شوقٍ صارَ ذَاكرَةً
في همْسَةٍ صارتْ وديعَة
تَحْمِلُنِي على أكْتَافِهَا
وتعْبُرُ إليك”.
ففي ظل الغياب تحضر الذاكرة من أجل استعادة البعيد والمشوق والمحبوب والمطلوب، ويتحرك فعل الشوق بما هو عمل من أعمال القلب والحب. هذا الشوق الذي يحاول تقليص المسافات، وهذه الذاكرة التي تعاند من أجل استعادة الماضي (الزمان) والمكان أيضا. فتختم الشاعرة قصيدتها، وهي تنشد:
يا أنتَ يا أسرارَ أضلُعِي
يا أنتَ ياوحْيَ قَلَمِي
يا نُبُوءةً صدقتْ في الحبِّ
فعَانَقَتْ توْحيدِي
يا بحرَ هواجِسِي
يا سذاجَةَ عمْرٍ يغْدُو
يُحَطِّمُ قَوارِبِي
ويَتذَوَّقُ طعْمَ الشَّوْقِ فِي أوْرِدَتِي
فَيحْتَضِرُ الرَّحيلُ في عيْنَيْك
عَليلاً يتَجَرَّعُ وجَعَ المسَافَاتْ”.
وتؤكد أميرة عبد العزيز مهجريتها الشعرية واغترابها الذاتي في جل قصائدها، ومنها قصائد “الهايكو” الخاطفة واللامعة التيب كتبتها،:
أنا القادمة من بعيد
لا أحمل في كفي قوس المطر
أو حين تقول:
تركت خلفي وطنا لا ينتظر
وجوازي في وضع قبيح يبتلع من العابرين
مفردات الإغراء والسفر
أنا لا أجيد العودة
ولا مداعبة المسافات
هذا حبري
وقدري الاحتضار على مسافة واحدة.
وتصل “أشعار أميرة عبد العزيز في عاصمة الأنوار باريز″ قمة الاحتفاء بالمكان، مكان الاغتراب والمهجر، في هايكو أخرى:
صباح الخير
أردت فقط أن أخبرك أنني وباريس
قررنا تقاسم وقت النقاش معك
فقط حاول أن تصل إليها قطعة واحدة.
أما الكتابة عند أميرة عبد العزيز فتعمقها من موقعها أستاذة في جامعة السوربون، وفي كلية ديكارت، تحيدا، تخصص علم النفس، ولكنها تلخص معنى الكتاب والإبداع بكثافة وعمق وبهاء وضياء، في هايكو أخرى:
انزعوا امرأة من حياة كاتب
وأسكنوها قلبه
سترون الإبداع.
وأميرة عبد العزيز شاعرة عاشقة للشعر وللأسئلة العميقة وللقيم الإنسانية الجميلة والنبيلة، لأنها في مهجرها، مهجر الأنوار والحداثة، سفيرة حب وعشق. ويمكن أن نسميها سفيرة الشعر والعشق المغربي في باريس. هذا العشق الذي يتسلل إلى شغافها ليجلس على عرش قلبها، مثلما يتسلل إلى أوراقها وقصائدها، وهي تقول في قصيدة “للعِشقِ قَصَائدٌ في أوراقي”
خُيوطُ العنكَبوتِ
تُحَاصِركْ تُكَبلُكْ
في كُلِ زَوايا الحُروفْ
للعِشقِ مَقاعِدُ في قلبي
عُروشٌ تَتوارثُ عبرَ العُصُورْ
ليسَ لهُ مقبرةٌ
ليسَ لكَ مَفرْ
زَمنُ حُبي لا يَشيخْ
لا يَموتْ
حبي تَحدٍ
جَفَاؤكِ يَزيدُ إصرَاري
إنْ قُلتَ عنكَ أبعِدْ …
أطْوي الأرضَ
تَصيرُ أبعدُ الأماكنِِ أقربُها إليكْ
لستُ أيَ امرأةٍ
أنا قَدرُكْ
ذلك أن “الحب سبب كل المعاناة”، كما تقول أميرة عبد العزيز في مقدمة كتابها “أنا وصديقي الرجل”، ولكن الحب هو الوحيد الذي يدفعنا إلى التحدي، وهو الذي يمنح معنى للحياة، برغم المعاناة.
الشعر عند أميرة عبد العزيز “أغنية حب على الصليب”، كما هو عنوان قصيدة له، أغنية “يغنيها الحبيب ولا أحد غير الحبيب”، كما يقول الراحل درويش، وكأننا به يخاطب أميرة عبد العزيز في هذه القصيدة، حين يقول:
أغنية حب على الصليب
يغنيها الحبيب ولا أحد غير الحبيب
مدينة كل الجروح الصغيرة
يناجي جرحي تلك الأميرة
ألا تخمدين يدي؟
ونار تحتل بعدي
ألا تبعثين غزالا إليّ؟
وترتلي تنهدات صلاتك علي
وعن جبهتي تنفضين الدخان.. وعن رئتيّ؟!
وبقايا النبيذ الأحمر من شهوتي
حنيني إليك ..اغتراب
وحبي إليك يطال السحاب.
*كاتب من المغرب