كتب .. نزار القريشي
قبل 90 سنة من اليوم، ألف عميد الأدب العربي كتابا أثار ضجة في الأوساط الثقافية العربية وأحدث رجة في علاقة العرب بتراثهم وماضيهم، بأدبهم ودينهم وتاريخهم.
إنه كتاب “في الشعر الجاهلي” الذي ألفه طه حسين سنة 1926، وألقاه مثل حجرة في بركة الثقافة العربية الآسنة يومها وإلى اليوم ربما… وبمنهج ديكارتي ملؤه الشك والمساءلة النقدية، شكك طه حسين في صحة الشعر الجاهلي، جملة وتفصيلا، وزعم بما طرح من مسائل، وما أوتي من حجج ودلائل، ورأى أنه منحول موضوع، انتحله المسلمون ونسبوه للشعراء الجاهليين، لأسباب دينية وسياسية وقبلية عصبية.
يقول الدكتور طه حسين، وهو يقم لكتابه الشيق والمثير: “هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربى جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقا آخر سيزورون عنه ازورارا. ولكنى على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح أريد أن أقيده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة. وليس سراً ما يُتحدث به إلى أكثر من مائتين. ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعاً ما أعرف أنى شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي، وهذا الاقتناع القوى هو الذي يحملني على تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول، غير حافل بسخط الساخطين ولا مكترثٍ بازورار المزورّ. وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق على آخرين، فسيرضى هذا الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد”.
من هنا، كان طه حسين على وعي بالمغامرة التي يخوضها، والمخاطرة التي يواجهها، والمؤامرة التي قد تواجهه. كما كان طه حسين واعيا بالمنهج الشكي الذي يعتمه، مدعيا أن في الشعر الجاهلي ريب وعيب كبير.
وفي هذا السياق، يحاول طه حسين خلق استعداد لدى المتلقي، من أجل القبول بكتابه والإقدام على قراءته، والاقتناع بأطروحته، حين يقول: “وأول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أنني (شككت) في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك، أو قل ألح على الشك، فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إن لم يكن يقينا فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هى (منتحلة) مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم أكثر مما تمثل الجاهليين”. ويمعن العميد في الشك إمعانا، وهو يقول: “أكاد لا أشك في أن ما بقى من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء، ولا ينبغى الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النظرية، ولكن مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها، ولا اضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القرّاء أن ما تقرؤوه على أنه شعر امرؤ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء، وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين… وأنا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يضع، وأنا نستطيع أن تصوره تصوراً واضحاً قوياً صحيحاً. ولكن بشرط ألا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى”.
وانطلاقا مما تقدم، وضع العميد فرضية أولى نطلق منها، يزعم فيها أنه لا يمكن تفسير القرآن والحديث النبوي بالشعر، بل وجب تفسير هذا الشعر بالقرآن والحديث، على أساس أن القرآن سابق على هذا الشعر المنحول، وأن “القرآن وحده هو النص العربي القديم الذي يستطع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخصاً للعصر الذي تُلي فيه. فأما شعر هؤلاء الشعراء وخطب هؤلاء الخطباء وسجع هؤلاء الساجعين فلا سبيل إلى الثقة بها ولا إلى الإطمئنان إليها”، كما جاء في الكتاب. ذلك أن “الكثرة المطلقة مما نسميه الشعر الجاهلي ليست من الشعر الجاهلي في شيء”، في ما يقوله طه حسين. ويوغل الرجل بعيدا حين يقول إن المسلمين قد نحلوا الشعر ونسبوه للجاهليين ووضعوه وضعا من أجل أن يثبتوا صحة فهمهم وتأويلهم للقرآن ومذهبهم في قراءته، لأسباب عصبية أو سياسية، مثلما وضعوا الكثير من الأحاديث النبوية واختلقوها اختلاقا، لأسباب دينية وعصبية وسياسية. والخلاصة عند العميد أن “مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تُلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي”.
في سنة 1932، وعلى عهد الوزير إسماعيل صدقي، سوف يتم فصل طه حسين من الجامعة، بعدما ظل يشغل منصب رئيس كلية الآداب. فما كان لرئيس الجامعة أحمد لطفي السيد سوى أن قدم استقالته من منصب رئيس الجامعة. ولم يعد طه حسين إلى منصبه وإلى كرسي الأدب العربي إلا بعد صعود حزب الوفد إلى الحكم سنة 1936.
وقد كان خطاب طه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي” خطابا صادما بالنسبة على أبناء جيله في مصر المحروسة. فتمت مصادرة الكتاب، ومنع من التداول، بفتوى من الأزهر، وتم حذف فقرات وفصول بكاملها من الكتاب، وهي الفصول والفقرات التي جعلت البعض يشكك في عقيدة طه حسين، هو الذي دعاهم إلى الشك في كل شيء، فشكوا في عقيدته وحده.
لكن العميد كان مصرا على ما يقول، ممعنا في الشك، وهو يردد بثقة مفرطة: “نعم! يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين، يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح. ذلك أنّا إذا لم ننس قوميتنا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف، وسنغل عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين. وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل افسد علم القدماء شيء غير هذا ؟ كان القدماء عرباً يتعصبون للعرب، أو كانوا عجماً يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم؛ ولأن المتعصبين على العرب غلو في تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضاً . كان القدماء مسلمين مخلصين في حب الإسلام، فأخضعوا كل شيء لهذا الإسلام وحبهم إياه، ولم يعرضوا لمبحث علمي ولا لفصل من فصول الأدب أو لون من ألوان الفن إلا من حيث إنه يؤيد الإسلام ويعزه ويعلي كلمته. فما لاءم مذهبهم هذا أخذوه، وما نافره انصرفوا عن انصرافا. أو كان القدماء غير مسلمين : يهودا أو نصارى أو مجوسا أو ملحدين أو مسلمين في قلوبهم مرض وفي نفوسهم زيغ، فتأثروا في حياتهم العلمية بمثل ما تأثر به المسلمون الصادقون: تعصبوا على الإسلام ونحوا في بحثهم العلمي نحو الغض منه والتصغير من شأنه، فظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام وأفسدوا العلم وجنوا على الأجيال المقبلة. ولو أن القدماء استطاعوا أن يفرقوا بين عقولهم وأن يتناولوا العلم على نحو ما يتناوله المحدثون لا يتأثرون في ذلك بقومية ولا عصبية ولا دين ولا ما يتصل بهذا كله من الأهواء، لتركوا لنا أدبا غير الأدب الذي نجده بين أيدينا، ولأراحونا من هذا العناء الذي نتكلفه الآن”.
غير أن طه حسين سيناقض نفسه بنفسه، في كثير مما ذب إليه. وإذا كان الرجل قد دعانا إلى إعمال الشك في قراءة الشعر الجاهلي، فلا نظن أنه سيرفض أن نتناول كتابه بالمنهج نفسه، وأن نشك في ما ذهب إليه، أو في كثير مما انتهى إليه. وهكذا، نجده يقول إن “القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية”. ويرى أنه ليس من اليسير أن نفهم أن الناس قد أُعجبوا بالقرآن حين تُليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة هي هذه الصلة التي توجد بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه. كما أنه “ليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا على أسراره ودقائقه. وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدا كله على العرب. فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر”. بل يطرح السؤال عريضا على العميد نفسه، وهو حول جدوى نزول القرآن من أصله إذا كان سينزل بلغة لا تفهمها العرب، وليس من أدبها.
وهذا يناقض المقدمات التي انطلق منها طه حسين. إذ إن العرب إنما جادلوا الرسول في القرآن، أو آمنوا به وانبهروا بسحره وإعجازه، لأنهم قاموا بعملية “قياس الشاهد على الغائب”، كما يشرحها الجابري في “بنية العقل العربي”، أي أنهم لما سمعوا القرآن كان في سجلهم تراث الشعر الجاهلي، بلغة أمبيرطو إيكو، فقاسوا القرآن إلى الشعر فوجدوه أبلغ وأعمق وأصدق… وأما الذين جالوا في القرآن، فقد استندوا إلى العملية نفسها، وقاسوا القرآن إلى الشعر، فسجلوا ملاحظاتهم وأدلوا باعتراضاتهم أو حاولوا ذلك… ولو لم يكن هنالك من شعر جاهلي قريب من لغة القرآن لما تذوق العرب القرآن أصلا، ولما ناقشه آخرون، ولما فهمه الجميع على الإطلاق.
وأما ما روي عن أبى عمرو بن العلاء من أنه كان يقول “ما لسان حِمْيَر بلساننا ولا لغتهم بلغتنا”، فهذا ما لا يثبته الفيلولوجيون من علماء اللغة، مع أن أبا عمر ابن العلاء هذا هو من بين منتحلي الشعر، مثل محمد بن إسحاق وخالد بن كلثوم وخلف بن الأحمر وغيرهم، ولا يستبعد أن يكون أدلى بهذا الكلام لكي يدافع عن شعرية القصيدة الجاهلية التي يرويها، وإن كانت بعيدة عن لغة حِمْيَر.
وثمة مغالطة أخرى لم ينتبه إليها عميد الأدب العربي، حين زعم أن الشعر المنسوب إلى العصر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية. ويرى العميد بان الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه هو أن العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانيون منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانيون منازلهم الأولى في الحجاز. وهم متفقون على أن القطحانية عرب منذ خلقهم الله فُطروا على العربية فهم العاربة، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابا، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها اللغة الثانية المستعارة.
والحق أن هذا التقسيم الذي يورده طه حسين ليس تقسيما لغويا، بل هو تقسيم جينالوجي، عن شجرة أنساب العرب الأولى. وأما اللغة فتنقسم إلى لهجات بحسب التجمعات البشرية (القبائل يومها)، مثلما تختلف لهجات المغاربة من جهة إلى أخرى ومدينة إلى أخرى، وكما تختلف لهجات الدول العربية، بينما تجمعهم عربية واحدة اليوم هي العربية الحديثة.
وفي العصر الجاهلي، كان العرب يتكلمون كل بحسب لغة قبيلته، مثل بنو قيس وبنو تميم وبنو أسد وقريش وبنو وبنو الحارث ربيعة وعقيل وهذيل وسعد وكنانة وجهينة. والشاهد عندنا في قول العجلي:
إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها
حيث رفع المضاف إليه في “أباها” الثانية، من صدر البيت الشعري. وهي لغة بني الحارث بن كعب، حيث يقولون “مررت برجلان” ولا يقولون “مررت برجلين”، وقد استشهد ابن قتيبة بالبيت في قوله تعالى: “إن هذان لساحران”، بدلا من “إن هذين لساحرين”، حيث يرفعون ما هو مجرور عند غيرهم في حال التثنية.
والحق أن القرآن إنما نزل بلغة قريش، ليس لأنها أفصح اللغات، كما يزعم المتعصبون للعربية وعربية القرآن، تحديدا، بل لأسباب اقتصادية، أساسا، حيث كان العرب يجتمعون في أسواق قريش، من أجل التجارة والتبضع والمقايضات والمبادلات التجارية. وقد اقتضت هذه السوق الاقتصادية “قريش” خلق “سوق لغوية” بعبارة السوسيولسانيين، وهو الأمر الذي اقتضى قيام لغة مشتركة ومبسطة وجماعية، يتكملها ويتواصل بها أبناء جميع القبائل العربية. أي أنها لغة معيارية بعبارة الأستاذ تمام حسان، كان يفهمها كل العرب ويتداولونها في هذه السوق اللغوية، مثلما يتداولون البضائع والسلع في السوق الاقتصادية التجارية. وقد انتهى الأمر واستقام، أدبيا، بقيام سوق شعرية هي سوق عكاظ، فحدث تقارب على مستوى لغة الشعر، واستقام الخطاب الشعري في الغالب الأعم على منوال واحد، ونسق لغوي مشترك، لا يفترق إلا في تفاصيل دقيقة، وجزئيات وخصوصيات عميقة.
وهنا، يورد الأديب محمد فريد وجدي في الكتاب الذي خصصه للرد على طه حسين ونقده ومناقشته تفاصيل في غاية الأهمية، حيث يقول في كتابه “نقد كتاب في الشعر الجاهلي” إنه، و”من الوجهة اللغوية، يوجد خلاف جوهري [بين القحطانيين والعدنانين] وإن كان الجميع يتكلمون العربية، والخلاق يتناول الإعراب والضمائر والاشتقاق والتصريف. كان هؤلاء العرب العدنانية على حالة قبائل، وكان لهم ماشية كبيرة وتجارة، وكان مقامهم في تهامة والحجاز ونجد على حالة بداوة، إلا قريشا فقد تحضرت وسكنت مكة”. كما أن الكثير من المصادر التاريخية ومظان وكتب تاريخ الأدب العربي لا تتردد في الحديث عن لغات العرب، بصيغة الجمع، مثلما تتحدث عن لغة العرب، بصيغة المفرد. والقصد من وراء ذلك وجود لغات شتى متلفة، هي لغات القبائل المتفرقة، وهي لغات قبلية بدوية، وفي مقابل ذلك، وجود لغة حضارية موحدة مشتركة، على غرار لغة قريش، هي التي يتكلمها أبناء كل هذه القبائل، حين يلتقون في أسواق الحجاز، وهي التي ينشدون بها أشعارهم في سوق عكاظ.
كاتب مغربي