على شرف الشهيد هاشيدا

كاظم فنجان الحمامي

شتان بين التكفيريين والتطويريين، وشتان بين المتحجرين والمتنورين، فأبناء الشعوب الرحومة الودودة المتسامحة. المجبولون على العفة والنزاهة والخلق الرفيع، هم المرآة الناصعة، التي تعكس الصورة البهية لدياناتهم، وهم الذين يحرزون قصب التقدم والرقي في كل الميادين، حتى لو كانوا بوذيين يعبدون الأصنام، أو هندوس يقدسون البقر.
الواقعة المؤسفة التي سنلخص تفاصيلها هنا تُثبت مصداقية كلامنا، وترسم حدود الفارق الكبير بين ما وصلت إلية الأمم الواعية، وبين ما اختارته الأمم المتداعية، فتكون شاهدة علينا في هذا الزمن، الذي توسعت فيه مستنقعات ثقافة الموت والدمار في غابات التطرف الفقهي المنبعث من حقول الغاز والألغاز.
لم يخطر ببال الياباني شنسوكي هاشيدا (61 سنة)، الذي جاء إلى العراق لتقديم المساعدة الطبية للطفل محمد هيثم (تسعة أعوام)، أنه سيلقى حتفه بنيران العصابات التكفيرية، التي كانت تتربص به في أزقة مدينة (الفلوجة). ولم يخطر ببال ابن اخته الطبيب كوتارو أوغاوا (31) أنه سيموت مع خاله ببنادق الناس الذين جاء لإنقاذ ابنهم المصاب، وجاء لنقله إلى اليابان لإجراء عملية مصيرية عاجلة لعيونه المهددة بفقدان نعمة البصر. وهكذا تعرضا لوابل من الرصاص، ثم اُحرقا داخل سيارتهما أمام أنظار جمع غفير من المكبرين والمهللين. كان ذلك في نهاية الشهر الخامس من عام 2004.
تجدر الإشارة إن الطفل العراقي (محمد) تعرض لاختراق شظية لإحدى عينيه، وكان مهدداً بالعمى الكامل في غضون بضعة أشهر. لم يكن بالإمكان علاجه داخل العراق، فوعده (هاشيدا) باصطحابه إلى اليابان لإجراء العملية الجراحية هناك على نفقة الشعب الياباني، فكان لابد من عودة (هاشيدا) إلى دياره لوضع اللمسات الإدارية والعلاجية المترتبة على نقل (محمد) من بغداد إلى طوكيو، فعاد مرة أخرى إلى العراق بصحبة ابن اخته (كوتارو)، لكنهما تعرضا للقتل والحرق من دون أن يقترفا ذنباً.
لم تنتقم أسرة (هاشيدا) لموت فقيدها، ولم تتهور على الطريقة التكفيرية الشائعة هذه الأيام، ولم تحاول الثأر لموت أبنها المغدور على الطريقة العشائرية الغارقة في التخلف، بل سارعت لإكمال المهمة الإنسانية، التي ضحى من أجلها بحياته، فأنشأت صندوقاً لبناء مستشفى لعلاج ضحايا الحروب برعاية الأمم المتحدة، وتبرعت لإنشاء مستشفى في مدينة الفلوجة، وسارعت لإكمال مهمة (هاشيدا)، فنقلت الطفل (محمد هيثم) إلى اليابان، ووفرت له العناية الطبية، التي أعادت إليه نعمة البصر.
وصل (محمد هيثم) إلى طوكيو محمولا على أجنحة المحبة والسلام، واستقر هناك لبضعة أسابيع في ضيافة أسرة (هاشيدا)، ثم عاد إلى العراق، ليجد نفسه محاطاً من جديد بصيحات التكفير والتطرف، التي ظلت تتعالى في عموم الوطن العربي، وتنطلق من حناجر الفئات الغارقة في الجهل والتخلف. وشتان بين الذين نزعوا الرأفة والرحمة من قلوبهم المتحجرة، وبين الذين تساموا بأخلاقهم العالية، فارتقوا منصة المجد والتحضر بكل جدارة واستحقاق.