غربة الميزوبوتاميا

كاظم فنجان الحمامي

حدثني العم (أبو عبد الله النجدي)، قال: بينما أنا أطوف في ضواحي المدن المتحضرة. أتنقل من متنزه إلى متنزه، ومن متحف إلى متحف، ومن رصيف إلى آخر، وإذا فتاة تندب حظها العاثر بلهجة عراقية لا تشوبها شائبة: (لويش يا ربي لويش ؟؟، ليش أحنا من دون الأوادم تبهذلنا هاي البهذلة ؟).
كانت تبكي وتلعن الزمن الأغبر، الذي طوّح بها وأسرتها في المنافي البعيدة. شعرتُ أن العراق يناديني، فهرعت لنجدتها على الفور. قلت لها: ما الذي يبكيك يا ابنتي ؟. ألف لا بأس عليك، ما الذي تحتاجينه ؟. تكلمي، لا تخافي، فالدنيا بخير والحمد لله.
كانت مفاجأة لها وهي تراني اقترب منها بملامحي العربية. ربما أذهلتها لهجتي الجنوبية المتأثرة قليلا بلهجة أهلنا في الخليج. أجابتني وهي تجهش بالبكاء: كلا يا جدي. أبكي على حظنا المصخم. أبكي على وطني الذي مزقته الحروب، وعبثت به قطعان الفساد. أبكي على شعبي المحروم من نعمة الأمن والاستقرار. ألا ترى هذا العمران والرقي يتجدد من حولك في كل القارات؟، فما الذي ينقصنا نحن حتى تتحسن أحوالنا بالصورة التي نتساوى فيها مع خلق الله، فنحيا مثلما يحيا بقية شعوب الأرض ؟.
قلت لها: العراق بخير يا ابنتي، ولن تعصف به العواصف، فلا تبتأسي. قالت: هيهات يا جدي، لقد سرقوا ثرواتنا، ونهبوا ممتلكاتنا، وقامروا بمستقبلنا، حتى خسرنا كل شيء، ولم يعد وراءنا وراء بعد خراب البصرة، وخراب العراق كله. قلت لها: لا تحزني يا ابنتي، فلن يختفي العراق من خارطة الكون إلا إذا وقعت الساعة، واختفى الكون كله، فالعراق أقوم البلدان قٌبلة، وأعذبها دجلة، وأقدمها تفصيلا وجملة. خصائصه أثيرة، ومزاياه كثيرة، وكان فضل الله عليه عظيما، وإحسانه له عميما. هو العراقُ سليل المجدِ والحسبِ، هو الذي كلُّ من فيه حفيدُ نبي. كأنما كبرياءُ الأرض أجمعها. تُنمى إليه، فما فيها سواه أبي. هو العراقُ، فقل للدائراتِ قفي. شاخ الزمان جميعاً والعراقُ صبي.
فتحرّقت الفتاة وحوقلت. وأفاقت ولكن حين فات الوقت، فقالت: أوصني أيها الرجل الطيب. فقال لها: هذا العراق، ما ضاق يوماً حوله الخناقْ، إلا رأيتَ مارداً من نومهِ استفاقْ، فضجَّ حتى تَستغيثَ السبعة الطِبّاقْ، من هول ما دماؤه تُراقْ، فاجعلي العراق نصب عينك، وهذا فراق بيني وبينك.
فودعها وعبراته تتحدّر من المآقي. وزفراته يتصعّدن من التراقي، وكانت هذه خاتمة التلاقي.