زقورة عراقية في إيران
جغازنبيل وحكايتها المنسية


كاظم فنجان الحمامي

لا ادري ما الذي يشدني إلى المعابد السومرية القديمة ؟، وما الذي يجذبني إليها ؟، فيجعلني أحوم حولها في أور وعقرقوف وكيش ولكش ؟. ربما لأني انتمي من طرف الأم والأب إلى الأرض التي كانت مسرحاً سحرياً لملحمة الطوفان، وربما لأن السومريين هم الذين علموا الناس ركوب البحر، فتعلمت منهم ركوب البحر بالتوارث، حتى أصبحت حارساً ملاحياً لمنافذنا المائية المطلة على بحار الله الواسعة.
لم تكن اهتماماتي تاريخية ولا تنقيبية. لكنني وجدت نفسي من حيث لا أدري أطالب بضمان سلامة زقورتنا المهجورة في أور، وأدعو لحمايتها من عبث المتاجرين بالقطع الأثرية النفيسة، وأحرص أشد الحرص على ضرورة تحريرها من تراكمات الأنقاض والملوثات، وأكداس مكبات النفايات، التي طوقتها حتى كادت تخنقها.
كانت مقالاتي عنها من أفضل كتاباتي التحقيقية المصورة. ثم كتبت عن زقوراتنا الأخرى حتى كادت أن تكتمل صورتها كلها بسلسلة من المقالات. نشرتها صحفننا المحلية والعربية، فشددت الرحال إلى (الشُوش) في إيران، لزيارة زقورتنا السومرية المتناظرة مع زقورة (أور) في موقع (جغازنبيل Chogha Zanbil)، الذي يبعد كثيراً عن مركز مدينة (الشُوش).
استغرقت زيارتي الأولى لها حوالي يومين متتاليين. انطلقت فيها قبل بضعة أيام من مدينة (الأحواز)، حتى وصلت إلى مدينة (شاوور) التي تقع إلى الجنوب من (الشُوش) بحوالي (12) كيلومتراً، ثم انعطفنا نحو يمين الطريق لنقطع المسارات الملتوية المؤدية إلى موقع الزقورة، الذي يبعد عن الطريق العام بنحو (25) كيلومتراً، بمحاذاة مزارع قصب السكر، وبموازاة سكة الحديد المؤدية إلى مدينة (شوشتر)، ثم ارتقينا هضبة متموجة تتداخلها صخور مبعثرة، وتغطيها تشكيلات متناثرة من النباتات البرية الكثيفة. كنت أحسب خطوات الطريق خطوة بعد خطوة، وصلت في نهاية المطاف إلى تلال رملية عالية يخترقها طريق ضيق متعرج، وما أن عبرت التلال حتى ظهرت لي الزقورة بوقارها السومري المُذهل، وأناقتها الجنوبية المشبعة بنكهة التاريخ وعبق الماضي العريق.
بدت لي رموزها المسمارية صامدة شامخة واضحة. تبهر الأبصار بأسرارها المخفية في منطقة محمية، مُصانة بأسيجة محكمة. بينما كانت الزقورة نفسها في موقع مرتفع فوق أرض زراعية متموجة. لكنها مرتبطة بالطريق العام بشبكة من الممرات الأنيقة المزينة بالشجيرات اليانعة المشذبة بعناية فائقة. لن تضل طريقك هناك، فالعلامات والإشارات المرورية تدلك على مداخل الزقورة، وترشدك إلى بواباتها وأروقتها الخاضعة لرقابة الكاميرات وأبراج الحراسات المشددة، بينما تنساب تفرعات نهر الكرخة (كارخينا) على مسافة ليست بعيدة عن الموقع، ليمر النهر الرئيس بمحاذاة قبر سيدنا دانيال، ويرسم لك ملامح خارطة مملكة ميسان بألوانها الزاهية، فتظهر لك معالم عاصمتها (خاراكس) في المكان الذي بسط نفوذه على الشرق كله لقرون وقرون.
ما أثار دهشتي هناك، إن الزقورة تحرسها قبيلة عربية بدوية، ترتبط من حيث لا يدري أفرادها بالقبيلة المكلفة بحماية زقورة أور، والتي تنتمي إلى (آل غِزِّي)، بينما تنتمي القبيلة المستوطنة في (جغازنبيل) إلى (بيت خمّاط)، وربما تزداد دهشتك عندما تعلم إن سكة القطار المتري القديم (البخاري) كانت تربط الموقعين مباشرة، بمعنى أن محطة قطار (أور) كانت ترتبط عبر محطة قطار (المعقل) بمحطة قطار (الأحواز)، ومنها إلى (الشُوش)، ثم إلى (جغازنبيل).
لا شيء يختلف بين الزقورات السومريات من حيث الانتماء والهوية التاريخية، ومن حيث الشكل والمكونات المعمارية، لكن نقطة الاختلاف الوحيدة، التي تلفت انتباه القاصي والداني في زقورة (جغازنبيل). تجدها تتجلى أمامك متمثلة بحسن العناية والرعاية، التي توفرت لها، فعمليات الصيانة الأثرية تجري على قدم وساق، والاهتمام بها يرتقي إلى أعلى مستوياته الإدارية المتحضرة، ويبسط نفوذه على الزقورة ومقترباتها، أما اللافتات التوضيحية والتحذيرية والتوجيهية، المكتوبة باللغات الفارسية والانجليزية، فتراها في كل زاوية. ترافقك في كل خطوة تخطوها حيثما تتحرك في تجوالك، وربما تقودك أقدامك لتقف بإزاء الأكشاك المتخصصة ببيع بعض النماذج المصغرة للزقورة وجلجامش ومسلة حمورابي بأسعار رمزية. تجد فيها أيضاً بعض الأقراص والأفلام واللوحات الفنية، التي تتحدث عن عظمة الزقورة وأهميتها التاريخية. تباع المعروضات كلها بأسعار رمزية تشجعك على الشراء. تجدر الإشارة إن منظمة اليونسكو بذلت قصارى جهدها عام 1998 للحفاظ على سلامة الزقورة الجغازنبيلية، واتفقت معها فرنسا واليابان، حتى جاء اليوم الذي شملتها فيه هيئة الأمم المتحدة برعايتها الخاصة.
وصلت أولى البعثات الاستكشافية إلى مقاطعة (إيلام) في بداية القرن العشرين، وكانت فرنسية الهوية، فاستقرت في مدينة الشُوش (سوسا Susa)، وباشرت بحل شفرات اللغة السومرية المدونة على الألواح الطينية، التي تعود إلى القرن السادس والعشرين قبل الميلاد، باعتبارها من الألواح النادرة التي لم تصل إليها يد الملك الآشوري (آشوربانيبال)، الذي استحوذ على معظمها في القرن السادس قبل الميلاد.
بدأ الفرنسيون تنقيبهم في الموقع بحفر نفق طويل في الركن الشمالي الغربي من الزقورة، وكان هذا النفق هو النافذة التنقيبية المقترحة لسبر أغوار الزقورة، فاكتشفوا من خلالها إن هيكلها الهرمي العام تم تنفيذه على مرحلتين، حيث شيدوا قاعدته في المرحلة الأولى، وكانت عبارة عن قاعدة مربعة، بطول (105) متراً لكل ضلع من أضلاعها. تضم القاعدة مجموعة من الغرف الحصينة، التي تطل بواباتها من الداخل على باحة مركزية مربعة، ثم شيدوا السقوف والطبقات العلوية ومدرجاتها في المرحلة الثانية، وكانت الجدران والمصاطب والمدرجات الخارجية مبنية بالطابوق المشوي، بينما استعملوا الطابوق الطيني (اللبن) غير المشوي في تغليف الجدران الداخلية.
تجدر الإشارة إن مفردة (زقورة) من المفردات الأكدية، التي تشير إلى المعابد الكبيرة بطوابقها الهرمية المتدرجة. تحيط بالزقورة الجغازنبيلية أربعة سلالم مدرجة، ولكل جانب من الجوانب الأربعة سلمه الخاص، الذي يتموضع في المنتصف تماماً، ولهذه الزقورة هيبتها وحرمتها، فالزائر غير مسموح له هناك بالتحدث بصوت عال، وغير مسموح بالتدخين أو تناول الأطعمة والمرطبات.
لا شيء هناك سوى أصداء جلجامش ونداءاته الملحمية، ولا شيء سوى بصمات أتونابشتم وإنليل وأنكيدو، وتصاوير الثيران المجنحة وهي تحلق منتشية في فضاءات فجر السلالات، بينما يخيم السكون السومري الساحر على معابدها القديمة المتماسكة بحجارتها المرصوفة بالقير الممتزج بالنفاش والبردي. أجمل ما تراه في الموقع هو المتحف الأنيق، والساحات الجانبية المخصصة لاستقبال الزائرين، والتي تتيح لهم التصرف على هواهم من دون أن يعني ذلك الخروج على المألوف، فالانضباط في السلوك العام هو الذي يتسيد أركان هذا الصرح التاريخي الأصيل.
التقيت هناك بفريق آسيوي، جاء من جامعة (تايوان) لزيارة الموقع، تحدثت معهم، وأخبرتهم بانتمائي إلى الزقورة السومرية في (أور)، فالتفوا حولي مندهشين، وأخذوا يلتقون لي الصور بعدساتهم الالكترونية، وكأنهم يصورون أحد الكائنات الفضائية، التي هبطت عليهم من المجهول لتحدثهم عن عظمة الزقورات السومريات المنسيات.
ختاما، وفي نهاية زيارتي. عدت أدراجي بعد الغروب فوصلت الأحواز بوجهي المبلل بالتعاسة في ليلة رعدية ممطرة، ثم عبرت نهر (الكارون) نحو الضفة الأخرى.
قلت لنفسي: ترى متى يأتي الزمن الذي نصون فيه إرثنا الحضاري، ونحرسه ونحميه من الضياع ؟، ومتى نتعامل معه بالأساليب، التي تليق بمكانته التاريخية والوطنية والإنسانية ؟. فقط متى، ومتى فقط، ولا شيء غير إطلاق الحسرات والزفرات والتساؤلات المتكررة.