البصرة وارتباطاتها الكونية

كاظم فنجان الحمامي

يسمونها: عين الدنيا، ويسمونها: خزانة العرب، ويسمونها: أم العراق، ولها الكثير من الألقاب والمسميات، فهي: قبة العلم، ومنارة الفنون والعلوم والآداب، وذات الوشامين، وجسر العالم القديم، وبُندقية الشرق، والفيحاء، وثغر العراق، وبوابة الشرق، لكنها نالت أعلى أوسمتها الحضارية على يد المفكر البريطاني (ج هـ ويلز H.G.Wells)، الذي وصفها بالعاصمة الكونية الثانية لكوكب الأرض، ففي روايته الخيالية المثيرة للجدل (شكل الأشياء القادمة The Shape of things to come) يتحدث (ويلز) على لسان دبلوماسي سابق يدعى فيليب. تنبأ بقيام دولة كونية موحدة عاصمتها بابل، وتنبأ بما سيمر به العالم من أحداث حتى عام 2106، ولإضفاء الإحساس بالواقعية يستعين (ويلز) بخياله العلمي، فينقل لنا الأحداث عن مؤرخين مؤرخين شهدوا اجتماعات المؤتمر الكوني الثاني، الذي انعقد في (البصرة) لاختيار شكل الحكومة الكونية المكلفة بقيادة العالم بأسره، فالبصرة عند (ويلز) من المدن الكونية، التي منحها الله من الثروات والمقومات والمزايا ما لم يمنحه لبلدان كثيرة وأمم كبيرة، لكنها عند عرب الشيخ متعب مجرد مدينة قديمة غارقة في الأوحال والنفايات. تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت وطأة التهميش المتعمد، ولا طاقة لها على تحقيق أبسط استحقاقاتها باعتبارها المحافظة المتميزة في العراق، من النواحي الإستراتيجية والبحرية والمينائية والنفطية والتجارية والزراعية والصناعية والعلمية والثقافية، وبالتالي فإن (ج. هـ. ويلز) لم يختر مدينة البصرة في روايته الخيالية من باب الصدفة، فهو يدرك أهميتها الإستراتيجية، ويعرف قيمتها الحضارية ومكانتها الإنسانية، فجاء اختياره لها كمركز كوني تُعقد فيه المؤتمرات المصيرية لتحديد الصورة المستقبلية للكون كله.
المضحك المبكي في التناقضات العجيبة التي تشهدها البصرة، إنها المدينة المينائية الوحيدة، التي لا تمتلك سلطة بحرية في هذا الكون الفسيح، ولا تمتلك غرفة ملاحية أسوة ببقية أقطار الأرض، وليس فيها قانون بحري ينظم أنشطتها البحرية والملاحية والمينائية، فالقانون البحري الذي ظلت الدولة العراقية تعتمد عليه كمرجع تشريعي حتى يومنا هذا، هو القانون البحري التركي، الذي أصدرته الإمبراطورية العثمانية عام 1876. حتى تركيا التي كانت تمثل مركز الخلافة الأناضولية بأبوابها المتعالية في الأستانة، قررت منذ أكثر من قرن الخروج من أحكام ذلك القانون البالي، والتوجه نحو التجديد والتطوير والتعديل في تشريعاتها البحرية المتماشية مع قفزات النهضة الأوربية الشاملة. بينما تخلفت البصرة كثيرا عن تلبية نداءات التحضر البحري، ولم يستمع المسئولون فيها لنداءاتنا المتكررة، وصيحاتنا المدوية، وكأننا نهتف في خرابة، حتى جاء اليوم الذي انكمشت فيه سواحلنا، وتقلصت فيه رقعتنا البحرية، وضاعت فيه أساطيلنا، وتحطمت فيه أحلامنا.