اليوم تمر الذكرى 101 لحروب جاناق قلعة التاريخية
وبهذه المناسبة أود أن أنشر هنا مقالة كتبها العميد الركن المتقاعد الدكتور صبحي ناظم توفيق

معارك چاناق قلعة/غاليبولي

د. صبحي ناظم توفيق
عميد ركــن متقاعد.. دكتوراه في التأريخ

المدة الحقيقية للمعارك:- (10) أشهر (19/شباط/1915- 9/ك2/1916).
الموقع:- شبه جزيرة جاناق قلعة/غاليبولي.
أهم النتائج:- دفاع مستميت ونصر عثماني كاسح، وبروز "مصطفى كمال" قائداً لـ"حرب الإستقلال" وزعيماً لتركيا ما بعد الخلافة الإسلامية.
المتحاربون
1. الإمبراطورية البريطانية، أوستراليا، نيوزيلاندا + فرنسا.
2. الدولة العثمانية.
القـــادة
1. الجنرال البريطاني السير "إيان هاملتون".
2. الجنرال الآلماني "أوتو ليمان فون ساندرز"- المستشار لدى القيادة العليا للجيوش العثمانية.
3. الفريق محمد أسعد باشا.
4. اللواء إسماعيل جواد باشا.
5. العميد وَهِـيب باشا.
6. المقدم الركن مصطفى كمال.

قوات الطرفين
(5) فرق برية للحلفاء (في البداية)... (14) فرقة (في أواخرها).
(6) فرق برية عثمانية (في البداية)... (16) فرقة (في نهايتها).
خسائر الحلفاء
55,000 قتيل + 97,000 جريح +145,000 مريض
تضحيات العثمانيين
87,000 شهيد +165,000 جريح + عشرات الآلاف من المرضى.
دارت معارك "غاليبولي" (بالإنجليزية: Battles of Gallipoli) في شبه جزيرة "جناق قلعة" العثمانية عام (1915م) خلال الحرب العالمية الأولى حيث تم إنزال قوات برية ضخمة بريطانية وفرنسية وأوسترالية ونيوزيلندية حليفة في جنوب شرقي "بلاد الآناضول" في محاولة للتقدم نحو الشمال الشرقي تمهيداً لإحتلال العاصمة العثمانية "إسطنبول"... لكنها باءت بالفشل بعد مصرع ما يقدّر بـ(55.000) من قوات التحالف (بريطانيا، أستراليا، نيوزيلندا، فرنسا) وإستشهاد حوالي (87,000) جندي عثماني ومئات آلاف الجرحى من الطرفين.
تـُعرف هذه المعركة في "تركيا" باسم "چاناق قلعة ساواشي" (بالتركية: Canakkale Savaşı) كونها وقعت في منطقة "چاناق قلعة" المطلة على مضيق "دردنيل" الإستراتيجي... وفي "بريطانيا" تسمى "معركة مضيق الدردنيل" أو "حملة غاليبولي".
كان غزو "إسطنبول" -عاصمة الدولة العثمانية في حينها- الهدف الستراتيجي الأهم لهذه الحملة بمحاولة التوغل براً نحو الجزء الشمالي من "بلاد الآناضول" لمساندة "روسيا القيصرية" أزاء جيوش "آلمانيا القيصرية" من الغرب و"الدولة العثمانية الكبرى" من الجنوب، إثر ضغط القيصر الروسي "نيكولا الثاني" على حليفيه "بريطانيا وفرنسا" بضرورة الإسراع في فتح جبهة حرب جديدة على دول "المحور" بعد تكبد جيوشها هزائم منكرة وخسائر جسيمة أمام الآلمان والعثمانيين معاً في العديد من جبهات الحرب... فقد كان موقف الروس في بدايات الحرب العالمية الأولى حرجاً للغاية، لذلك قررت "بريطانيا العظمى" فتح الطريق المغلق نحو البحر الأسود أمام أساطيلها وأساطيل حلفائها المنتشرة في البحر الأبيض المتوسط بحملة كبرى تستهدف إختراق مياه مضيقي "دردنيل والبوسفور" و"بحر مرمرة" الفاصلة بينها وبين "روسيا" وتحول دون إمدادها بالذخائر والأسلحة التي كانت في أشد الحاجة إليها بعد أن إستنفدت إحتياطيها، وانعدمت قدارتها الضخمة على تلبية أكثر من ثلث حاجتها فكانت تهدد بالخروج من الحرب لإحتمال خسارتها في أتونها على النقيض من حلفائها الذين كانوا يخشون ذلك، فلم يكن أمام "بريطانيا العظمى" وحلفائها سوى بسط السيطرة العسكرية على منطقة المضائق العثمانية ضماناً لإرسال الذخائر والأسلحة إلى "روسيا" بغية حثها على مواصلة الحرب، وقتما كان الإستيلاء على المضائق يشد من أزر الروس ويرفع معنوياتهم المتدنية أمام إنتصارات الآلمان والعثمانيين المتلاحقة.
وفوق ذلك وعدت "بريطانيا" حليفتها "روسيا" أنه في حالة نجاحها -غير المشكوك فيه- فإنها ستهدي مدينة "إسطنبول" إليها، حيث لم تكن هناك هدية أعظم من أن تعود "القسطنطينية" تحت عرش القياصرة الذين ظلوا يحلمون قروناً عديدة في إستعادة مجد "الإمبراطورية البيزنطية" من أيدي العثمانيين الذين جعلوا من "إسلام بول/الإستانة/إستانبول" عاصمة للخلافة الإسلامية منذ عام (1453م) لتـضحى من جديد مقراً لبابا كنيستهم الشرقية/الآرثوذوكسية وسط كنيسة "آيا صوفيا" العريقة.
ويضاف إلى هذه الاعتبارات أن نجاح حملة الدردنيل سيضع محاصيل القمح الوافرة التي تنتجها أقاليم روسيا الجنوبية في متناول بريطانيا وحلفائها، وأن الأسطول البريطاني لو رسى في مياه "إسطنبول" فإنه سيشطر الجيوش العثمانية إلى شطرين، ويفتح المحاور السالكة نحو جميع دول البلقان وحوض "نهر الدانوب".
الإستحضار للهجمات البحرية
في(شهر ذي الحجة/1332هـ=نوفمبر/1914م) إقترب الأسطول البريطاني الضخم من "الدردنيل" وهو يُمَنـّي نفسه بإنتصار حاسم وسريع وسهل للغاية وفي المتناول... وقبل أن تتوغل عدد من البوارج البريطانية في مياه المضائق، ألقت البوارج البحرية والمدمرات قنابلها الثقيلة على الإستحكامات العثمانية التي لم تتحرك -وفقاً للخطة الموضوعة- للرد على هذا القصف الثقيل بل صبرت في مواضعها دون إبداء أية مقاومة، الأمر الذي بث المزيد من الثقة والزهو لدى رجال الأسطول البريطاني، وأيقنوا مدى هزالة القوات العثمانية وعجزها عن التصدي لهم، فتهيأوا لإستكمال حملتهم البحرية.
وبعد مضي شهرين أو يزيد على تلك العملية عزمت بوارج الأسطول البريطاني ومدمراته لعبور مضيق "الدردنيل" الضيق في وضح النهار وبوابل من عظيم قذائفها، وهي لا تشك لحظة في إنجاز مهمتها، مستأنفة قصف الإستحكامات الساحلية الأمامية مرات ومرات، قبل أن تقتحم المضيق بسرعة وجسارة!!! وكم كانت المفاجأة مروعة، حين إصطدمت بحقل مخفي من الألغام البحرية تحت السطح، ليُصاب العديد منها بأضرار بالغة وتتوقف في عرض المضيق لتغدو أهدافاً سهلة للمدافع الساحلية العثمانية التي جربت حظها للمرة الأولى منذ بدء الصراع الدامي، فكان لهذا الإخفاق الحليف دوي هائل وصدى واسع في جميع أنحاء العالم.


هجمات برية بإسناد مدفعية الأساطيل
لم تشأ "بريطانيا" وحلفاؤها السكوت حيال العثمانيين الذين أمسوا يستدرجون قطع الأسطول البريطاني إلى مياه المضيق ليصطادوها واحدة تلو أخرى بسهولة مستثمرين حقول الألغام البحرية المجددة، فرأى القائد البريطاني ضرورة تعزيز عملياته البحرية بتعرض بري لا مناص منه، مقرراً أن تكون قواته النازلة هي الأساس وإقتصار دور القوات البحرية في دعم النازلين على البر بما يحتاجونه من أسلحة وذخائر ومواد، وإسنادهم بأقصى عنف ممكن بمدافع الأسطول الضخمة عند الإقتراب نحو الساحل لغرض الإنزال وأثناءه وبعده لحماية المواقع التي سيستحوذون عليها بالقصف المدفعي القريب تجاه الهجمات المقابلة العثمانية المتوقعة.
كانت القوات البرية مؤلفة في معظمها من تشكيلات أسترالية ونيوزلندية معروفة بالبأس الشديد في القتال بقيادة الجنرال "السير إيان هاملتون"، أما القوات الفرنسية المعززة فكانت تحت إمرة الجنرال "جورو".
تحشدت القوات المخصصة للإنزال في عدد من الجزر المتناثرة القريبة من سواحل شبه جزيرة "جاناق قلعة/غاليبولي" خلال شهر (جمادى الآخرة/1333هـ=نيسان/أبريل/1915م)، وحالما إكتمل تعدادها إثر إلتحاق كتيبتي مشاة -(إحداهما يهودية والأخرى يونانية)- فقد إندفعت بكل جرأة وزخم نحو جانبي المضيق بكثافة عالية وقصف مدفعي هائل من الأساطيل المتمركزة وسط المياه، وإستطاع العديد من تلك الوحدات مسك مواطئ قدم واسعة في بعض البقاع الساحلية، لكن التوفيق خانـها في إختيار مقتربات صالحة للتسلّق نحو الأعالي قبل مسكها والتحول لدرء الهجمات المقابلة عليها، إذْ نزلت في أراض تنحدر تدريجياً نحو ساحل البحر.
أما العثمانيون المتهيئون والمستحضرون لمواجهة هذا الإنزال الواسع والمراقبون لإستعداداته ليل نهار من محيط الهضاب والتلول فقد إستثمروا الفرصة وأظهروا بسالة فائقة وشجاعة نادرة أعادت إلى الأذهان أمجادهم العسكرية، وباشروا بإصطياد العساكر النازلة وهشموا رؤوسهم بوابل من القنص الدقيق أول الأمر قبل أن يشنوا هجمات مجنونة على أعدائهم الذين كانوا ما زالوا في العراء.
وبينما دار القتال الضروس بضراوة بالغة وإصرار على القتال وبدعم مدفعي بحري غير مسبوق في كل التأريخ، فقد أحرز المهاجمون نصراً غير متوقعاً على العثمانيين وتوّجَوه يوم (25/رمضان/1333هـ=6/آب/آغسطس1915م) حين باغتوهم بسلوك محور لم يكن على بال المدافعين... ولكن قائد القوات المهاجمة أخفق في إستثمار هذا النصر الخاطف كي يتوغل بسرعة نحو كل بقاع شبه جزيرة "جناق قلعة/غاليبولي"، بل ظل متردداً خشية خديعة عثمانية من دون أن يتخذ قراراً لتطوير هجومه، الأمر الذي منح فرصة ثمينة للقوات العثمانية لإقتحام صفوف أعدائهم بهجمات مقابلة شرسة مسترجعين ما إستحصلوها من أرض ثمينة مكبدينهم خسائر باهظة في الأرواح والمعدات.
لقد أنقذ العثمانيون حاضرة خلافتهم الإسلامية "إسطنبول" من السقوط بين يدي الأجنبي، مرغمين قوات الحلفاء على الانسحاب من عموم أرض الصراع إثر فقدها الأمل في الإستيلاء على المضايق، فتركوا أرض "جاناق قلعة" ومياهها يوم (10/صفر/1334هـ= 18/ك1/ديسمبر/1915م) بعد أن كلفتهم الحملة (120,000) قتيلاً وجريحاً من دون تحقيق هدفها المبدئي بالإستيلاء على المضايق، فكان فشلهم مزدوجاً في البحر والبر.
ولكل ذلك فقد عُدّت هذه المعركة نصراً ناجزاً للعسكرية العثمانية حتى يومنا هذا، مقابل خيبة أمل وهزيمة كبرى في سجل الجيوش البريطانية وحلفائها ونقطة سوداء في تأريخهم العسكري.
وما يجدر ذكره في هذا الشأن أن "المقدم الركن مصطفى كمال" كان من بين قادة الوحدات العثمانية المدافعة عن تراب وطنها، وقد تميّز بالشجاعة والإصرار على عدم إتخاذ أي قرار إنسحاب من أي موضع دفاعي والإسترجاع الفوري لأي موقع مستحكم في "جاناق قلعة"، ما رفعت من سمعته كثيراً وجعلته -رغم رتبته المتوسطة- أهلاً لتزعّم كبار قادة القوات المسلحة العثمانية الأقدمين الذين إنضووا تحت قيادته لـ(3) أعوام لطرد جيوش أتت من معظم بلدان القارة الآوروبية ومتطوعيها الذين غزوا كل بقاع "بلاد الآناضول" وإحتلوا حوالي نصفها إثر تفكك أوصال الدولة العثمانية أواخر (1918)، فيما سُمِّيَ بعدئذ بـ"حرب الإستقلال" (1919-1922) ليحافظ "مصطفى كمال آتاتورك" والقادة المحيطين به على وطنهم الأم ويطردوا الغزاة قبل تأسيسهم "الجمهورية التركية" القائمة منذ عام (1923).