كتَبَ القمر

على صفحة الماء الهادئة حاول القمر ذات ليلة أن يكتب للشّجر قصّة إحدى النّجمات، لكن بعض النّسمات كنّ يأتين على حين غرّة يدغدغن البحيرة و يرحلن فتُفلتُ البحيرة ضحكاتها موّيجات تمحو كلمات القمر فلا يسعه إلّا أن يراقب اللّجين المسفوك على أكام و وهاد منتظرا بفارغ صبر هدأة أخرى.
و ما إن استقرّت ملامح البحيرة حتى أخذ نديم السّاهرين يخطّ سطوره الفضيّة رواية يقرؤها نُزلاء المكان و العابرون...
و على أوراق الجوْن اتسعت رقعة النور تكتب و تكتب، و الطّير و اللّيل و الحصى و الحجارة و الصّمت و الهمس و حتى معشر النّجوم كلّهم منصت للأغصان السّاكنة تقرأ الحكاية فلا ينطقون :
كان بذات فلك في جواري نجمة كالشمس في جمالها بل أجمل، كانت توقَد من عيون الحُسن فلا حسناء بين النّجوم مثلها، كانت ما مرّت بسماء إلّا و فتنت المتأمّلين و المناجين و الشّعراء و المغرمين... كانت سقاية اليائسين و منهل الظّامئين، بل كانت تحجّ إليها قلوب العاشقين من كلّ مكان و يمثلُ بين يديها سفراء الوافدين و حاملي رسائل الأباطرة و السلاطين...
كانت آسرة حدّ الخرافة بعِقدها الذي ما ملكت مثله ملكة و لا سلطانة و لا أميرة، كان عقدا مملوءا سحرا كان أسطورةَ إزيس التي يحكيها البُردي و نقوش المسلّات و الرّكائز الشاهقات و تمائم التوابيت و أسرار الكهنة و الحكماء و الملهَمين...
كانت تسوّي من الحجارة خلودها و تنفخ في طين الضّفاف "حواديت" الطيبين، كانت تنير بعيدان القش و قصيدة شاي ظلمات المُتعبين فتسكب قناديل الحبّ و الرّضا في قلوب الفقراء و المعدَمين. كانت مشكاة نور و سلام تبعث الحياة من عباءة الموت، كانت و ما كان التاريخ قبلها كانت مصر...
و سكتت الأغصان هنيهة بعدها اهتزت و ألقت بحفيفها نداءا يدعوها... و أين أنت مصر؟
فماجت البحيرة و ضجّت السّماء و طفقت الأطيار ترفرف بجناحيها و راح الهدهد يطير سفيرا يُلقي على قلوب البائسين حديث القمر...