جزاء كريم طلقة

كاظم فنجان الحمامي

يُضرب المثل العربي (جزاء سِنمَّار) لمقابلة الإحسان بالإساءة، ومقابلة الخير بالشر، ومقابلة المعروف بالمنكر. (سِنمَّار): مهندس موهوب، من مشاهير المهندسين في العراق القديم، كان بنّاءً ماهراً، وهو بطل الحكاية، التي أُخذ منها هذا المثل. تقول الروايات: أنَّ ملك المناذرة (النعمان بن المنذر) طلب من المهندس (سِنمَّار) أن يبني له قصراً في ظاهر الكوفة، فبناه أجمل بِناءٍ، وأتَّمه أحسن تمامٍ، فلما فرغ منه بعد عشرين عاماً من العمل المتواصل. قال لوزراء النعمان: إني لو كنت أعلم أنكم توفونني أجْري، لبنيته أكمل من ذلك، ولجعلته يدور مع الشمس حيثما تدور، فغضب النعمان، ورماه من أعلى القصر لئلا يبني لغيره أحسن منه، فذهب الحادث مثلاً.
شاءت الأقدار أن تتكرر مأساة (سِنمَّار) مع كبير المهندسين (كريم السهيل)، الملقب بـ (كريم أبو طلقة)، أو (كريم طلقة). تعود حكاية (كريم) إلى عام 1985، العام الذي قررت فيه الحكومة استحداث طريق مباشر. يتوسط أهوار الجنوب، ويربط مدينة (قلعة صالح) بشمال البصرة، فانبرى لهذا العمل اثنان من المهندسين المبدعين، كان الأول هو الأستاذ الكبير (عبد الرزاق عبد الوهاب)، وكان الثاني المهندس الكفء (كريم السهيل). وهكذا توزعت مهام التنفيذ بين مجموعتين. مجموعة يقودها (عبد الرزاق) تنطلق من ميسان، ومجموعة أخرى يقودها (كريم) تنطلق من البصرة، فكان لابد من تثبيت نقطة فاصلة في منتصف الطريق، فباشر الفريقان أعمالهما في سباق مع الزمن، للفوز بقصب السبق، والوصول إلى نقطة المنتصف قبل وصول الفريق المنافس، وهنا طرأت فكرة عجيبة في رأس (كريم)، إذ استخرج رصاصة (طلقة) من مخزن مسدسه الشخصي، ثم ربطها على ساعده الأيمن، وحلف بأغلظ الأيمان، أنه سينتحر ويقتل نفسه بتلك الرصاصة إذا خسر الرهان، أو إذا فشل في التفوق على الفريق الآخر.
كان (كريم) يمني نفسه بالحصول على ترقية استثنائية، ترفعه نحو أعلى درجات السلم الوظيفي. لم تمض بضعة أشهر حتى وصل إلى منتصف المسافة، فجاء الرد من رأس النظام السابق، الذي كان يعشق العنتريات، وكانت المفاجأة عندما منحوا (كريم طلقة) وسام الرافدين من النوع المدني.
كاد يغمى عليه من هول الصدمة، لكنه لم يكن يعلم بأنه أصبح مرئياً أكثر من أي وقت مضى، وكان من الطبيعي أن يصبح هدفاً للحاسدين والحاقدين، الذي تربصوا به، ولاحقوه بوشاياتهم التشويهية الخبيثة، فحصلت الصدمة الأولى عندما أصدروا مرسوماً جمهورياً يقضي بحرمان (كريم) من امتيازاته كلها، ومصادرة وسامه الفخري الذي حصل عليه بكل جدارة واستحقاق، ثم حصلت الصدمة الثانية بإعفائه من منصبه، ونقله للعمل بدرجة أدنى في مدينة نائية. وشاءت الأقدار أن يبقى في منفاه حتى نهاية الحرب المجنونة بين العراق وإيران، ثم جاءت حملة إعمار البصرة، التي شارك فيها شيخ المهندسين والمخلصين المتميزين الأستاذ (س. ن)، الذي كان يقود فريق الأمانة وسط مدينة البصرة. فتذكره زملاؤه، وكانوا وراء قرار وزير الاسكان الأسبق (طاهر محمد حسون)، الذي استدعاه، وأشركه في حملة الإعمار بدرجة (مدير عام)، فانطلق (كريم) من جديد بحماسته المعهودة، وتفجرت طاقاته الإبداعية، وراح يبحث عن الفوز بكل الطرق الشريفة المتاحة. كان يحرص أشد الحرص على متابعة الأعمال اليومية، وتوزيع المهام الجديدة، وأحياناً يذهب بنفسه إلى معامل الطرق والجسور في منطقة (الحيانية) ليوزع أطباق الطعام على عناصر فريقه، ويحثهم على مواصلة العمل بمعدل 24 ساعة في اليوم، من دون أن يشعر بالإرهاق، ومن دون أن يفكر باستثمار شركته لمنافعه الشخصية، لكن الأقدار كانت له بالمرصاد في حادثة نادرة، لا يمكن وقوعها حتى في أفلام الأكشن، إذ تحركت (حادلة) جبارة لوحدها، وانحدرت ببطء شديد، وتوجهت نحو المكان الذي كان يجلس فيه (كريم)، ولم تترك له أي مجال للهرب من كتلتها الفولاذية الصماء، فصعدت فوق جسده المنهك، وهشمت عظامه، وفارق الحياة في موقع العمل. فشيّعه زملاؤه في موكب صامت نحو مثواه الأخير، ثم راحوا يكملون ما كان يحلم به بجهود استثنائية، لم تشهدها البصرة منذ ذلك اليوم.