هي قصة من ضمن ملاحم الدجال والمهدي والمسيح لذلك فالمؤمن بهذا الثلاثي يكون مؤمن مباشرة بفتح القسطنطينية آخر الزمان، وقد سبق نسف هذه الخرافات جميعها سواء بالدراسات العلمية المطوّلة أو بفيديوهات على يوتيوب..


إنما قصة فتح القسطنطينية تحديدا لي فيها بعض الإضافات:


أولا: بني أمية منذ اليوم الأول الذي حكموا فيه المسلمين في عهد "عثمان بن عفان" كان عندهم طموح بغزو القسطنطينية (طمعا في كنوزهم) ليكتمل الضلع الثاني لامبراطوريتهم بعد إسقاط بلاد فارس في عهد عمر، هنا ظهرت روايات " هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده، ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله" (صحيح مسلم 2918) لاحظ عندما تكلم عن كسرى كان بصيغة الماضي وعن قيصر بصيغة المستقبل ونسبوا ذلك للرسول برغم أن سقوط فارس كان بعد وفاته..!!


لذلك كانت أول محاولة لغزو المدينة حدثت في عصر عثمان والتي سميت بمعركة "ذات الصواري" ثم شرحنا سابقا كيف أن هذه المعركة كانت هدفها فتح القسطنطينية لكن فشلت وأدت لثورة شعب مصر على عثمان وقتله بعدها بعام نظرا لأن جيش الفتح كان في أغلبه مصري والانتقام من عثمان كان طبيعي وقتها لأسباب سياسية..وحكينا كيف نجح مؤرخي ورواة المسلمين في إخفاء طبيعة المعركة ونتيجتها ومبالغتهم في الانتصار واعتبارها معركة عظيمة..


ثانيا: عندما عادت السلطة مرة ثانية لبني أمية في عصر معاوية حاول مرتين غزو المدينة ولكن أيضا فشل، ولأن خلفاء معاوية من الفرعين السفياني والمرواني انشغلوا بحروب الشيعة وتمرد بن الزبير لم يكن الجيش الأموي مهيأ لإعادة المحاولة، ثم وبعد استقرار الوضع لم يترددوا حتى حاول سليمان بن عبدالملك أيضا وفشل..


ثالثا: في هذه الأثناء ظهرت روايات الملاحم التي تخيل فيها رواة بني أمية أن فتح القسطنطينية سيكون من علامات الساعة نظرا لصعوبتها الشديدة واعتبارهم إن سقوط الدولة البيزنطية يعني نهاية العالم ، وبدأوا بتأليف الروايات ونسبها للرسول كبشريات للجيش وحشد المجندين والمتطوعين للمعركة المقدسة ولمزيد من التشجيع وهموا الناس بأن ما بين فتح القسطنطينية وظهور الدجال 7 سنوات، وسبق شرحت قبل ذلك كيفية حكم الأمويين لدولة كبيرة مترامية الأطراف بلغت من خراسان شرقا للمغرب غربا..دولة كهذه لا يمكن تحكمها فقط بالسلاح ولكن أيضا بالدين وإقناع الشعوب بسلطة الخليفة الأموي دينيا فيما اصطلح عليه بعد ذلك بنظرية الجبر..


رابعا: لما سقطت الدولة الأموية وفشلها في غزو القسطنطينية بدأ عصر الموالي الفرس اللي هو – العباسي الأول – وانتقلت فيه الروايات السابقة لفتح المدينة من الشفوي للعملي..أي بدأ تدوين هذه الروايات ونشرها في بلاد فارس تحديدا مستفيدين من الصراع القديم بين الروم والفرس وأحلام شعب كسرى ودولة الساسانيين بفتح القسطنطينية، يعني العرب وقتها في الحجاز ونجد واليمن مكانوش يعرفوا حاجة عن هذه القصة ولا كانت ليهم طموحات بغزو عاصمة البيزنطيين، بل كانت أحلام فارسية وأموية ترجمت أخيرا في روايات الملاحم بدليل غياب قصة فتح القسطنطينية عن مصنفات العرب وقتها كالإمام مالك..


خامسا: أول راوي إيراني تحدث عن فتح القسطنطينية كان "نعيم بن حماد" المتوفي سنة 227 هـ، ونعيم هذا كان تركماني من مدينة مرو التي كانت جزءا من الدولة الساسانية الإيرانية، ولشدة اهتمام نعيم بها ذكر فتح القسطنطينية ب 57 رواية..تخيل؟؟!..ولأن قصص فتح المدينة مرتبطة بقصة المهدي المنتظر عرفنا إن الربط هذا حدث في عصر متأخر بين رواة بني أمية اللي بشروا بفتح المدينة كعلامة للساعة فقط..وبين رواة آل البيت المطرودين في خراسان وقتها المؤمنين بالمهدي الذي سيخلصهم من جبر وظلم الأمويين، جاء رواة إيران من الفرس والأوزبك والتركمان وغيرهم في عصر الموالي وربطوا بين الإثنين..ويمكن ملاحظة ذلك بأن فتح القسطنطينية جاء في روايات كمجرد بشرى فقط..وروايات أخرى كجزء من أحداث ملاحم مرتبطة بالدجال والمهدي..


سادسا: بني عثمان كان عندهم نفس الحلم بالسيطرة على ممتلكات الفرس والروم، لكن ولأن بلاد فارس وقتها كانت مسلمة فلم تكن هناك حجة دينية لحشد المجندين فبدأوا بالطرف الأضعف وهو الدولة المسيحية البيزنطية التي كانت تعيش خريف عمرها، وبالفعل نجحوا في غزوها خلال عهد السلطان "محمد خان" الشهير بالفاتح سنة 1453 م، وبالتالي تحققت البشرى اللي قال عليها رواة بني أمية..لكن ظهرت شكوك كبيرة في الأحاديث لعدم ظهور الدجال والمهدي...ابتسامة


سابعا: غزو القسطنطينية كان حدث تاريخي مفصلي في أشياء كثيرة مهمة، عند المسيحيين خفف من سلطة الكهنوت الكنسي الذي كان يقوم على قدسية بيزنطة وحكمها باسم يسوع الرب، كان هذا بذرة صعود موجة عقلية شكية اجتاحت أوروبا أدت بعد ذلك لعصر الأنوار، وبالنسبة للمسلمين خفف من أساطير الملاحم وقدسيتها عند الملوك وانشغال العامة بها نوعا ما..ويمكن اعتبار أنه ومنذ وفاة الإمام السيوطي بعد الغزو ب 50 سنة أسدل الستار على عصر الإحياء الثاني لعلم الحديث..وبدأ الناس يعيشون في خرافات الصوفية أكثر ونفي أسبابها والتواكل الذي ساد طيلة العصر العثماني كرد فعل على صدمة سقوط القسطنطينية دون ظهور الملاحم.


ثامنا: ظهرت الحركة الوهابية بعد الغزو ب 300 سنة لتعيد إحياء الحديث وقدسيته وروايات الملاحم مرة أخرى بنفس التوظيف الأموي السابق له، أي كانوا يحشدون الناس في التجنيد لإقامة دولة إسلام تفتح الآستانة (القسطنطينية سابقا) ويمكن ملاحظة ذلك في غزوات الوهابيين ضد ممتلكات العثمانيين في العراق والشام، كانوا عاوزين يفتحوا الآستانة مرة أخرى واعتبروا سقوط الدولة العثمانية من علامات الساعة، وبالتالي أسقط شيوخهم كل أحاديث الملاحم على الباب العالي الكافر بنظرهم، وهذا كان سبب لتكليف السلطان التركي لمحمد علي باشا في مصر بالقضاء على الحركة الوهابية لتهديدهم عرش السلطان..


تاسعا: بعد سقوط الدولة الوهابية الأولى اختفى حلم فتح القسطنطينية لكن ليس للأبد، لأن هناك من سيحيي الحديث مرة أخرى في عصر الدولة الوهابية الثالثة (مملكة آل سعود الحالية) ليعيدوا نشر روايات الملاحم مع جيش عبدالعزيز آل سعود، ولما استفاد الملك عبدالعزيز من جيوش العرب والمسلمين معاه انقلب عليهم في نهاية العشرينات نظرا لضغوطهم الشديدة عليه باستكمال طريق الفتح والجهاد بغزو أوروبا، هنا الملك عبدالعزيز كان براجماتي وقرر القضاء عليهم بمساعدة أوروبا ثم إعلان مملكته الثالثة..


عاشرا: الملك عبدالعزيز لم يقض على الروايات الملحمية ولم يناقشها باعتبارها دين، لكن استعان بكهنته من آل الشيخ في تأويل روايات الملاحم والجهاد في طريق مختلف ، حتى جاء الشيخين ابن باز والألباني بنشر روايات الملاحم وفتح القسطنطينية وإسقاطها على القرن 20 ولما أدى ذلك لفتنة الحرم المكي وجهيمان التعيبي والقحطاني وجماعات التكفير في مصر توقفوا وبدأوا في تأويلها ناحية اليهود فقط خوفا من الملك فهد اللي طلع لهم العين الحمراء وهدد الجميع بالسجن والقتل خصوصا بعد انقلابهم ضده أعقاب حرب تحرير الكويت..


بس ياسيدي..وآدي قصة فتح القسطنطينية التي بدأت من طموحات سياسية أموية وانتهت بجماعات تكفيرية لا حصر لها..وفي خضم كل ذلك عاش أهالي اسطنبول (القسطنطينية سابقا) حياة أخرى مختلفة ولا كأنهم محور الكون..سياحة واقتصاد ودعارة ومساجد..حتى العاصمة انتقلت لأنقرة وأصبحت المدينة من أكثر مدن العالم ثراء تاريخي وجمعا للتناقضات في ذات الوقت..لكن مع كل ذلك كانت ولا زالت محط أنظار ورغبات وأمنيات التكفيريين انهم يفتحوها مرة أخرى ولا أعلم ما أهمية ذلك الآن ومستقبلا..ويفتحوها ازاي وهما سياح ومقيمين فيها أصلا؟..لكن نرجع ونقول طالما الشيخ عبدالله وأنصاره عاوزين يفتحوها يتفضلوا وبالمرة ياخدوا كل شيوخ الأزهر والسلفية والإخوان..آهو تدخلوا الجنة مع بعض ..وربنا يرحم الجميع..