الأدب الشعبى وبناء الشخصية
سمير الأمير


لو تأملنا فى أثر الأدب الشعبى المصرى على شخصية المبدعين فسنجد منهم من يعيدون انتاجه كاملا وهؤلاء هم من "وارثى الحقيبة كاملة" و يعتبرون أن مهمتهم المقدسة هو نقلها دون تحريف إلى الزمن القادم وهو ما يتناقض مع الطبيعة الحية والمتحولة لهذا الأدب الذى يفعل به كل جيل فعلته حزفا أو إضافة أو تعديلا، ومنهم على الجانب الآخر من يخاصمه بالكلية ليسقط فى التغريب وينهل من مفردات البيئات الثقافية الأخرى فتشعر أن ابداعتهم ليست سوى رجوع ألحان بائسة لسيمفونات عظيمة فى بلادها ، لذلك كان من الضرورى هنا أن نؤكد على أن اعتناق التراث الشعبى بشكل مبالغ فيه هو أمر بالغ الضرر وأن تجاهلة والاستعلاء عليه يؤدى لاستلاب روح المبدع و يحول ابداعه إلى مسخ لا معنى له عند مواطنيه، لذلك أتمنى أن يكون هذا البحث متوخيا للموضوعية فى كونه محاولة للسير فى طريق ثالث بين الطريقين ، طريق يستخلص روح التراث الشعبى ويعيد صياغته وفق متطلبات الحداثة بعد أن يخلصه من القيم السلبية ويعظم قيمه الإيجابية وهى كثيرة ولكن كما قال أحد شعراء جيلنا قبل أن يصمت:- " ضجت بحارُ بالرؤى والسيد الزبد"
على أنه يجدر بى أن أعترف منذ البداية أن خبرتى الذاتية كشخص تربى وسط أهله الفلاحين قد شكلت جل رؤيتى للموضوع ..
..........
طبقا لموقع " الموسوعة العربية" على شبكة المعلومات الدولية " الأدب الشعبي folk literature، أو التراث الشعبي، هو فرع من فروع المعرفة الإنسانية يُعنى بمظاهر الحضارة لشعب من الشعوب. وبسبب تعدد المعايير التي يُنطلق منها في النظر إلى طبيعته ووظيفته ومجالاته، فإن تعريفاته التي يقع عليها المرء يكتنفها نوع من الغموض والاضطراب"،
ولذلك أرى أنه من المهم فى البداية أن نحدد مفهوما معينا للأدب الشعبى نتفق عليه مؤقتا على الأقل من الناحية النظرية ، مع تسليمى بحق البعض فى أن يتساءل ولماذا " مؤقتا؟" وجوابى أنه مبحث عظيم ولايمكن لباحث واحد أو حتى مجموعة باحثين أن يحيطوا بكل هذا التراث الضخم ويتفقوا على تحديد مفهوم جامع مانع باعتبار أن الظروف والعقائد تضفى تأثيرها على طبيعة تعريف " الأدب الشعبى"
يمكننا أن نتبنى ما ذهب إليه الدكتور محمد عبد الحليم غنيم فى بعض كتاباته من أن "إن الأدب الشعبي لأية أمة هو أدب عاميتها التقليدي الشفاهي ،مجهول المؤلف،المتوارث جيلا بعد جيل".
إذن فهو "أدب العامة" انتاجا وتذوقا وتعديلا وهو ما يشكل جل ثقافتهم ويؤثر فى سلوكهم ويتوارثونه ، أما لماذا يتجاوزهم ليصبح فى بؤرة اهتمام الأدباء والمفكرين فذلك لأن الحاجة لفهم الشعوب أصبحت بالغة الأهمية لمحبيها ولأعدائها بنفس القوة.
وفى تقديرى أن مصطلح " التراث الشعبى" هو مصطلح أكثر شمولا حيث يتسع ليضم كل ما أنتجته المخيلة الشعبية من فن وأغان ومواويل وأمثال وقصص بل ونكات وكل ما من شأنه أن يشكل ما يمكن أن يطلق عليه " الثقافة الشعبية" التى تتجاوز كل تلك الأنواع التعبيرية لتضم السلوك العام وأسلوب الحياة لدى أية جماعة شعبية فى بلد ما ، ومن هنا يمكننا أن نلمس تأثير هذا التراث فى أخلاق وطرائق تفكير الجماعة الشعبية ولا يشترط أن تكون تلك الجماعة واعية بشكل ذهنى بهذا التراث إذ أن عمقه وقدمه وتسلله إلى وجدانهم تم على مدى زمنى بعيد لا يمكن تأريخه ، ثم أضافت إليه الأجيال ونقحته وعدلته أو تجاهلت أجزاء ومناطق منه لصالح أجزاء ومناطق أخرى طبقا لحاجات تلك الجماعة الحياتية و طبقا لمقتضيات الحفاظ على وجودها ذاته فالوظيفية أو البرجاماتية هى سمة أصيلة من سماته ،

التراث الشعبى فى مهب العولمة
والجماعة الشعبية لا تعيش خارج هذا التراث وليس لها وجود بدونه ولذلك ينتفض المثقفون والمناضلون ضد نمط العولمة الأمريكى باعتباره سيقضى على الهوية الوطنية التى يشكل التراث والعادات والتقاليد الموروثة جانبا أساسيا منها، ورغم أن هؤلاء المثقفين يصطدمون ببعض تلك العادات والتقاليد باعتبار أن بعضها يشكل عقبة فى سبيل الحداثة والتقدم إلا أن ذلك لا يعنى رفضهم لمجمل تراث آبائهم ولكنهم بالأحرى يسعون للتأكيد على الجوانب الإيجابية التى تدفع بالمجتمع إلى الأمام وتحافظ على هويته الثقافية وملامحه العامة دون أن يعتبروا الحداثة والعولمة رجس من عمل الشيطان ، الهدف هنا يصبح مجابهة العولمة القائمة على اعتبار شعوبنا شعوبا مهزومة، والراغبة فى استلاب هويتنا حتى لا نقاوم نهب ثرواتنا واحتلال أراضينا، أعنى أن البديل هنا هو عولمة أكثر إنسانية تقبل بتعدد الثقافات وتكاملها وتشكل وعيا جديدا لدى الجماعات المنغلقة على نفسها والتى تخشى الانقراض كما تشكل وعيا مغايرا لدى الأمم التى حققت تقدما ماديا والتى تدفع غطرسة القوة والهيمنة نظمها وحكوماتها التى تمثل مصالح الرأسمالية المتحوشة ذات الشركات العابرة للقارات ، تدفعها تلك الغطرسة المرتبطة برأس المال المتعولم لمحو تراث الشعوب الأخرى باعتباره يقف فى وجه أنماط معينة للاستهلاك،

وهذه العولمة التى نقبلها هى العولمة ذات الوجه الإنسانى وهو ما تحدث عنه كثيرا المرحوم المفكر محمود أمين العالم و قبل ذلك ما سعت إليه اللجنة الوطنية للدفاع عن الثقافة الوطنية والتى قادتها المرحومة " لطيفة الزيات" تلك اللجنة التى خفت صوتها وسط ضجيج وصخب العالم والسيولة بل " الميوعة" التى اتسمت بها الحياة الثقافية فى عالمنا العربى منذ انتهاء الحرب الباردة وحتى الآن، ولعلنا قد شهدنا ما حدث من تدمير رهيب للتراث الحضارى لبلاد الرافدين ولسوريا وقبلهما ما حدث فى أفغانستان وهو الأمر الذى كشف عن الجوهر القبيح لتلك العولمة الاستعمارية التى تتشح برداء حقوق الإنسان وحرية الشعوب وهى ليست سوى " الغولة التى ترتدى الفستان " كما تحدثنا " حواديت الجدات"

المؤلف المجهول

فى تقديرى أن لكل ابداع شعبى سواء كان " حكاية " أو موالا أو مثلا أو " نكتة" مؤلف معين يعبر عن ثقافة جماعته ولكن نظرا لأن "الموضوع" هنا أهم من " الذات" فقد اندثرت الأسماء باعتبار أن الانتقال الشفاهى للمتن كان أهم من المؤلف الذى أصبح هامشا من أجل عيون الجماعة الشعبية تماما كما يحدث فى المظاهرات حين تنطلق الشعارات البديعة التى يؤلفها محرض مبدع ولكنها حين تنتشر وتتناقلها الألسن وتعدل فيها لن تجد من يقول " من فضلكم قبل أن تهتفوا اذكروا اسمى كمؤلف للشعارات" وباعتبار أن حركة تنقل الناس لم تكن تتم على فترات متقاربة لكى يتتبع القائل ما قاله ناهيك عن أن ذلك كان سيعد ضربا من الجنون فالمثل أو الموال أو الحدوتة لم تكن تشكل للفلاح الفصيح الذى صاغ تلك الأشياء فرصة للربح المادى ، ولا يعقل مثلا أن تسمع الآن أن أحدا من ظرفاء المصريين يرفع دعوة أمام المحكمة ليثبت أن جده هو مؤلف حكاية " الذئب وأبى الحصين" أو أنه هو نفسه الذى صاغ نكتة عن كذا وكذا .. يمكننا القول أنه على الرغم من اليقين بأن هناك مؤلفا لأصل الغنوة أو الموال أو الحدتوه إلا أن مؤلفين آخرين ينتمون لذات الجماعة الشعبية قد عدلوا وحذفوا وأضافوا طبقا للحاجة أو للانتماء أو حتى طبقا لطبيعة تحزبهم لأبطال السير و كلنا يعرف أن مناطق معينة فى مصر تتحيز مثلا " لدياب بن غانم" ومناطق أخرى " لأبى زيد الهلالى" ومن ثم فإن رواية نفس السيرة قد تختلف أيضا من منطقة لأخرى فى نفس الفترة الزمنية.

اللغة واللهجة

لن أخوض فى إشكالية " العامية المصرية" وهل هى لغة بذاتها تأثرت باللغات التى جاورتها أو غزتها ككل اللغات ولكنى سأقرر بكل ثقة أن اللغة العامية ليست شرطا من شروط شعبية الأدب وإن كان جل الأعمال الشعبية يستخدمها فلدينا سير وحكايات عربية ومدائح دينية مجهولة المؤلف أو غير ذلك أصبحت فى عمق الأدب الشعبى ، ربما لأنها مكتوبة بلغة بسيطة تقترب من العامية وتبتعد عن المعاظلة وخشونة الألفاظ
وبالمثل يمكننا أن نلاحظ دون أدنى عناء أن ابداعات كثيرة تستخدم العامية المصرية لا يمكن بل من المستحيل وضعها تحت عنوان الأدب أو الفن الشعبى، فمعظم مسرحيات يوسف إدريس ونعمان عشور وسعد وهبة وهشام السلامونى وبهجت قمر ولينين الرملى و معظم أغانى أم كلثوم وفايزة وشادية وعبد الحليم حافظ وكذلك معظم الأفلام السينمائية، كل تلك الأشكال الأدبية تستخدم العامية ولكنها بالقطع لا تندرج تحت مصطلح الأدب الشعبى ناهيك طبعا عن كل تراث شعر العامية المصري منذ بيرم وبديع مرورا بجاهين وفؤاد حداد والأبنودى وحتى شعراء العامية الذين لا يزالون على قيد الحياة ، كل هذا الابداع الشعرى أيضا لا يمكن اعتباره أدبا شعبيا ليس لكونه معلوم المؤلف كما أسلفنا ولكن لأسباب أخرى، كما يقول غنيم " فلا يصبح الإنتاج شعبيا بأتم معنى الكلمة إلا بعد أن يدخل عدد لا حصر له من الرواة، تعديلات وتنقيحات وتحويرات عليه، يتحول الأدب الشعبي إذن باستمرار ولكن هذا التعديل مرتبط أساسا بالظروف التي انجز فيها هذا العمل الشعبي نفسه، إذ يحاول المؤدون تعديل آثارهم الشعبية حسب مزاجهم وطبيعة مستمعيهم".

الرواية
ربما كانت الرواية سمة أساسية من سمات " الأدب الشعبى" ولكنها أيضا غير كافية لجعل " المرويات" أدبا شعبيا .
يقول غنيم "أسهمت الرواية في نقل التراث العربي الرسمي، فكان القرآن الكريم والحديث الشريف يرويان شفاهيا، ويعتبر الفقهاء التواتر من المصادر الهامة،"
وتظل الرواية أداة هامة في نقل الأدب الشعبي الموزع بين المقلدين والمبدعين من الرواة ولكن لا يمكن أن تكون الرواية مع ذلك شرطا أساسيا، إن اشتراط الرواية يتضمن عدم الإعتراف بالأدب الشعبي المطبوع مثل ألف ليلة وليلة والسير الشعبية، فكل السير الشعبية بلا استثناء تم تدوينها وطباعتها فى وقت مبكر "وقد زادت الطباعة هذا الأدب المكتوب انتشارا".
إن الرواية مجالها أعم من موضوع الأدب الشعبي، فالتراث العربي الشعبى وغير الشعبى وصلنا عن طريق الرواية قبل أن توجد وسائل الطباعة والنشر،.

الموال الشعبى
لسنا بصدد الحديث عن أنواع الموال من سداسى وسباعى وحجازى وغيره ما يعنينا هنا لماذا اختفى الموال الشعبى وفى ظنى أن ارتباطه بالرى باستخدام الساقية الذى كان يمتد ليال باكملها جعله يختفى باختفاء هذا الأسلوب القديم فى الرى ولم يعد يناسب الآلة الجديدة التى تصدر صوتا يستحيل معه أن يشرع أحد فى الغناء وحتى آلة الاحتراق الداخلى ذات الصوت الذى كان يزعجنا حينها أختفت تقريبا ليحل محلها مواتير الكهرباء التى لا تصدر أية أصوات والتى تنجز الرى فى وقت قصير لا يحتاج معه الفلاح لأن يشرع فى تسلية نفسه بالموال، تغير الفلاح وتغير الناس وأصبح من يصدح بموال فى هذا العصر مجنونا أو مزعجا لأن الفلاحين يتابعون المسلسلات العربية والتركية أمام الفضائيات وأصبح فوق كل " تعريشة بهائم طبق لالتقاط البث الفضائى ولكنا نورد هنا بعض الموايل لنتحسر على جمال الابداع الشعبى عّلنا كشعراء ومبدعين نضمنها أو نضمن جوهرها أعمالنا الجديدة ومع اختفاء الموال كان الله قد عوضنا بالمطربين الشعبيين الذين اعتنقوا الموال وجعلوه فى قلب أغنايتهم فارتبط الموال بعد أن غادر بيئته الطبيعية بأسماء مثل ( محمد طه—بدريه السيد- احمد عدويه- ورشدى والعزبى وشفيق جلال.

نماذج من الموال الشعبى
البخت كان باخ وصحصح بس باخ تانى
وصح مع ناس ارازل بس باخ تانى
عدل بخوتهم وميل بس بختى آنى
وعاب عيبه ولا في بحر يغسلها
أنا لو شكيته لحجر صوان يغسلها
لو جيبت للكلبة ماء الورد يغسلها
تلعب بديلها ولا تنسى السباخ تانى

--
شلباية البحر يا بيضا عجبتينى
مديلى خلخالك وع الابحار وعدينى
انا لو خلخالى طويل أنا كنت عديتك
أنا لو خديدى رغيف أنا كنت غديتك
أنا لو خشيمى قليله أنا كنت ساقيتك
أنا لو صباعى سيجارة أنا كنت تحيتك
وحلمت ف النوم حبيتك وظبيتك
يا حلم كداب ريتنى ما شوفتك ولا ريتك
---

للنوم ولائى واعدائى سبع ظلمات
المنع م الشوف وزرع الخوف فى الطرقات
وعتمة الروح اذا ما عششت ع الذات
والجهل باللي حيجرى والسكوت ع الذل
وصلصلات القيود لما تسود الكل
وكره مخصوص اكنه للعدو السابع
اعتى من التانى ومن التالت وم الرابع
ده الحب اذ يجلبوه م السوق مشتريات –( فؤاد قاعود)



المربعات

لا يعلم على وجه اليقين إن كان ابن عروس هذا مصريا أو ينتمى لبلد آخر فقد قرأت فى غير مكان أنه ليس مصريا وربما ليس موجودا أصلا وتم اختراعه فى وقت ما ، لست على بينة وليس فى المجال متسع للتحقيق ولكنه على أى حال شاعر حقيقى أو افتراضى اكتنز الحكمة وساهم فى صياغة وتربية الجماعة الشعبية وطبقا لموسوعة وكيبيديا ولد أحمد بن محمد الشهير بابن عروس لأبوين مصريين فقيرين من قفط أو قوص وكان قاطع طريق فتاب الله عليه وراح ينشد مربعاته الحكيمة ليعلم الناس الحكمة.

نماذج من مربعات بن عروس

1
أنا باوَحِّد اللي خلق الناس
خلق مسلمين ونصارى
وناس نامت على فَرش وِكْناس
وناس ع المعايش حيارى—الفرق الطبقى أوضح من العقائد والملل
2
طبيب الجرايح قوم اِلحق
وهات لي الدوا اللي يوافق
فيه ناس كتير بتعرف الحق
ولاجل الضرورة توافق ( الوعى بانعكاس المصالح الشخصية والطبقية )
3
فَرَطت قِلعِي ما جانيش ريح
وعاودت ع البَر ناوي
ياما ناس زيِّنا مجاريح
لكين صابرة ع البلاوي
4
سكت الهَوى والناموس طار
والسبع طاطا بعينه
خليه دا النومِ أستار
لما الكلب ياخد يومينه ( حكمة الانتظار--- الحياة أقوى من عوارضها)
5
شوف الزمان انتهت عَدَليه
وادي البُطْل ع الحق راكِب
جه السبع يُطلُب عدليه
لَقَي الهِلف ع التخت راكب ( الرجل غير المناسب)
6
يا قلبي إوعى تعاشر الدُون
ولا تكلِّمُه بالاشتراحة
تكلمه الكلامِ موزون
تلقاه يرد بقباحة
7
جاني طبيبي مع العصر
وف إيده ماسك عصاية
اتاري طبيبي قليل أصل
من خصمي جابلي الوصاية
8
كلام الغَرَابا حِمِلناه
فات علينا كما ريح هاوي
كلام القرابا إخ منَّاه
وياجي فوق فرش الكلاوي ( هنا يمكن أن نلحظ تناقضا—القرايب عقارب)
9
إوعى تقول للندل يا عم
ولوكان على السرج راكب
ولا حد خالي من الهم
حتى قلوع المراكب
10
ولابد من يوم محتوم
تترد فيه المظالم
أبيض على كل مظلوم
أسوَد على كل ظالم







حكايات الجدات

تهدف معظم حكايات الجدات فى الأدب الشعبى المصرى إلى السيطرة عليهم بدافع الخوف عليهم فتقتل عندهم الرغبة فى اكتشاف العالم ، والدروس الأخلاقية هنا لا تتعدى موضوعات " الطاعة وسمع كلام الكبار كاملا دون مناقشة والخوف الدائم من الخروج ومن الغرباء و " أمنا الغولة" و " أبو رجل مسلوخة " وعدم الإكثار من الأسئلة هناك حكايات تتحدث مثلا عن أن البطل كان من حقه أن يسأل سؤالا واحدا أو اثنين فقط وأنه إن سأل الثالث تنقلب الأمور ضده فى الحكاية ويتعرض للهلاك وهناك حكايات عن أن البطل أو البطلة يحق لهما دخول كل الأبواب والغرف فيما عدا باب أو غرفة معينة وحين كانوا يفعلون ذلك كانت العفاريت تطاردهم ويدخلون فى دائرة الرعب ، وعلى عكس ذلك فإن الأدب الشعبى الانجليزى مثلا وحكايات الأطفال أنبنت على المغامرة واكتشاف العالم وهجرة الأطفال لأهاليهم وربما أيضا نجد نفس ملمح المغامرة والخروج فى الأدب الشعبى العربى فى ألف ليللة وليلة وأسفار السندباد و فى السير والملاحم ولذا فإن الغزو كان مرتبطا بالقبيلة ونحن لا ننسى أن درة السير الشعبية وهى " رحلة بنى هلال" هى سيرة هجرة وخروج هربا من شظف العيش.
و لا يتسع المجال هنا لكى نعيد على الأسماع حكايات الأمهات والجدات التى شكلت وجدان الأطفال المصريين فى القرى والمدن ولكن سنضع هنا حدوتة " الثلاث معزات" كنموذج:

كان ياما كان يا سادة ياكرام ولا يحلا الكلام الا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام
كان فيه تلات معزات اخوات واحدة اسمها سأسأ والتانية اسمها مأمأ والثلاتة اسمها فرط الرمان ،فى يوم كانوا قاعدين قالوا لمامتهم احنا جعانين اوى ياماما قالتلهم طيب انا هخرج اجبلكوا حشيش(بتاع المعيز مش بتاع البنى آدمين)بس ليه شرط انكوا متفتحوش الباب لأى حد ابدا ابدا ، قالولها طيب ياماما
مين شافها وهى خارجة؟ الديب الشرير ، قال انا لازم اروح اكلهم وراح خبط على الباب …تك تك قالو مين؟ قالوهم انا عمو اللى ساكن جنبكوا ..افتحولى الباب فكروا شوية... وفرط الرمان قالت "لا مستحيل نفتح ماما قالت كدة ..اخواتها قالولها "لا بس دة جارنا مفيش مشكلة اما نفتح الباب وراحو فتحوا الباب لقوا ميين ؟ الديب .."ساسأ" استخبت تحت السرير "مأمأ" استخبت فوق الدولاب
و"فرط الرمان" استخبت فى دولاب المطبخ دخل الديب بص تحت السرير لقى "سأسأ" راح واخدها وبص تحت السرير لقى" مأمأ" راح واخدها ودور على "فرط الرمان" ملقهاش وراح ماشى ..مامتهم جت وقعدت تدور عليهم مش لاقياهم وتعيط تعيط وتقول فينكو ياولادى ..راحت "فرط الرمان" جايلها وقالتلها الديب جه وخطفهم…راحت ماما بسرعة للديب لقيته مولع النار عشان يشويهم ..راحت بسرعة ضرباه بقرونها واخدت بناتها وراحت البيت ..وهما قعدوا يعيطوا ويقولو احنا اسفين اننا مسمعناش كلامك ..وعمرنا ماهنفتح الباب لاى حد غير لما تقوليلنا وخلصت الحدوتة.. حلوة ولا ملتوتة؟
ولأن الابداع والسمر كان تفاعليا وشعبيا فكان على من يجيب " حلوه" أن يغنى غنوة ومن يجيب " ملتوتة" أن يحكى " حدوته"، من الملفت للنظر أن مقابل" حلوه" ليس " وحشه" ولكن " ملتوتة" أى لم تصنع جيدا فاللت والعجن استعارة من الخبيز
فى قريتنا بمحافظة الشرقية لم تكن أسماء الماعز بتلك النعومة ولكن كانت " الحاسكة والباسكة وقرون الغزالات" ،

نماذج للأمثال الشعبية
الأمثلة فى معظمها إيجابية وتحمل قيما ونصائح مفيدة فى تربية الأبناء أو فى توجيه الجماعة لأفرادها ولكن علينا أن ننتبه أن الأمثلة صيغت فى ظروف وسياقات قد تكون مختلفة عن المواقف التى تستخدم فيها فمثلا المثل القائل " أمشى سنه ولا تعدى قنه" يختلف عن " لما العامشة تتكحل يكون السوق خرب" ، فالأمثال تناقض بعضها البعض لأنها ولدت فى بيئات محلية ربما كانت منغلقة ولكن نظرا لتغير الظروف سافرت خارج تلك البيئات فاصطدمت بامثلة مناقضة، ولكن الجماعة الشعبية لم تنشغل بهذا التناقض طالما أنه يبرر مواقفها المتناقضة من موضوعات معينه بمعنى إن آثرت السلامة " فاللى يجوز أمى اقوله يا عمى " وإن قررت المقاومة " فضرب الخناجر ولا حكم الخسيس" " والقحف اللى مهما علي مسيره يبقى مقشة" يختلف عن " إن كانلك عند الكلب حاجه قوله يا سيدى" ، وهنا نذكر بعض من الأمثلة التى يستخدمها المصريون :-

*أهى ليلة وفراقها صُبح.
*الأرض تضرب ويا اصحابها
*أبوك البصل وأمك التوم، منين لك الريحة الحلوة يا مشئوم.
*العلم في الراس مش في الكراس.
*إتداين وإزرع، ولا تتداين وتبلع
*العلم في الصدور وليس في السطور.
*عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة
*القفة اللي ليها ودنين يشيلوها اتنين
*في التأني السلامة وفي العجلة الندامة.
*العجلة من الشيطان.
*اسأل عن الجار قبل الدار، وعن الرفيق قبل الطريق.
*صباح الخير يا جاري، أنت في دارك وأنا في داري:
*اللي ميشوفش من الغربال يبقي اعمي.
*كل تأخيرة وفيها خيرة.
*جه يكحلها عماها.
*البيت بيت أبونا والغرب يطردونا
*الدنيا مراية وريها توريك
*الدنية تتمنى وحمتها والهنيمة تستني وجعتها
*بات كلب و اصبح سبع.
*بخمسة بصل بصل بخمسة
*جحر ديب يساع مية حبيب
* خارج من الحريقة قابله الغراب زغطه
*خاطر الأعمى قفة عيون.
*زى العقربه قرصتها و القبر
*زى الفراخ تبيض و تحزق للتاجر
*سكتنا له دخل بحماره
*علمناهم الشحاته سبقونا ع الأبواب
*عيسى نبي و موسى نبي و اللي ليه نبي يصلي عليه
*كل أكل الجمال و قوم قبل الرجال
*كل ما يعجبك و البس ما يعجب الناس
*ما أسخم من ستي إلا سيدي
*مكسح طلع يتفسح قال بفلوسه



الفشارون " أدباء شعبيون"

لما كان المصريون حتى وقت متأخر يخوضون الحياة دون وسائل الترفيه الحديثة فالتلفزيون تم إداخله فى الستينيات ودور السينما كانت مقتصرة على المدن- فإنهم كانوا معتادين على خلق فنونهم ومن ثم كانوا اكثر ابداعا فارتبط العمل والصيد بالغناء الشعبى وارتبط السهر بالمواويل والحكايات وبرز فى كل قرية مبدعون شعبيون يتحلق الناس حولهم، وفى ظنى أن الفشارين من العامة كانوا فى الحقيقة قصاصين وروائين لم يعرفوا الكتابة ولم يعرفوا رفاهية الثراء فاستعاضوا عن كل ذلك بالفشر و بالحكايات الخيالية ، وأذكر أنه كان فى قريتنا الصغيرة " منشأة الأمير" فلاحا طيبا كان الكبار والصغار يتحلقون حوله فى اليالى المقمرة لكى يستمتعوا ببطولاته التى ينسبها لنفسه فهو يحكى أنه ذات مرة أراد أن ينقل ماكينة الرى إلى الشاطىء الآخر للبحر ولما لم يكن هناك جسرا للعبور حمل الماكينة و حدفها للشاطىء الآخر ثم قفز بسرعه وتلقاها وسط تصفيق الفلاحين، وأنه ذات مرة قرر بعد إرهاق العمل أن ينام تحت النخلة التى كانوا يسمونها فى قريتى " النقيلة" وبعد أن راح فى النوم شعر أن هناك شيئا غير مريح تحت رأسه يسبب له القلق ويحرمه من النوم فمد يده وامسك بالشىء وقربه من عينيه فوجده " ذئبا" ، لم يكن العم عبد العزيز يسلم طبعا من التريقة ولكنه لم يكن يغضب على الإطلاق ويضحك معهم دون أن يعترف أنه أخترع الحكاية.. ولم لا؟ ألم يحبس العفاريت فى ماسورة الصرف حتى بكوا وتوسلوا إليه فأطلقهم بعد أن تعهدوا له بعدم التعرض للصغار الذين ترسلهم أمهاتهم للدكاكين ليلا؟، ألم يحكى ذات مرة أن جده الصياد اصطاد قرموطا طوله40 مترا ،فرد عليه عم محمد أبو عيسى الذى كان يرغب دائما فى معارضته " والنقورة" على فشره بأن جده اشترى حلة عرضها 50 مترا فاعترض العم عبد العزيز وقال له " كيف يمكن أن يكون لدى جدك حلة عرضها 50 مترا؟ فرد عليه الظريف الآخر قائلا " عشان يطبخ فيها قرموط جدك يا عبد العزيز"



الأحجية والألغاز

الأحجية والألغاز فن من فنون الأدب العربى وتم تدوينه فى أزمنة مبكرة ولكنه أنتقل بعد ذلك للأدب الشعبى المصرى ، وربما اختلف عن " الفشر" أو " الحكايات والسير الشعبية كونه كان أكثر شيوعا باعتبار ما يمكن تسميته " بديموقراطية الابداع" فكل الصبية والرجال يبدعونه تلقائيا وكانت التسلية تعتمد على قدرة من يسأل على تذكر الألغاز أو صياغتها فى لحظة المنافسة وتعتمد الصياغة على إحداث دهشة تتدرج لتصل للرعب إذ أحيانا يقع فى روع المستمع أن حل اللغز كلمة قبيحة ولكن الأمر ينتهى إلى غير ذلك تماما ومن الألغاز التى شاعت فى القرى على سبيل المثال :-

عشرة عبيد لابسين طواقى بيض ( الأصابع)
*عدى البحر ولا اتبلش ( العجل)
*أشطه وأبطه ، أشيله وأحطه ، أحطه ابيض نايم ، وأخرجه احمر قايم ؟
( الخبز)
*احمر في صلعته ، لو وجع البنت بلته ، وكل ما بلته دخلته ، وكل ما دخلته استحلته ؟ ( الخاتم)

الأدب الشعبى ليس دائما بريئا
سبق وأن أشرنا إلى أن التراث الشعبى ولا سيما فيما يخص الأمثلة يموج بالتناقضات ، بل ويمكن القول أن هناك أمثلة شعبية ضد الإنسانية ذاتها وتؤكد على أن المصلحة الفردية أهم من القيم الأخلاقية ذاتها ، فلنتأمل معا بشاعة المثل الذى يقول " إن قابلك الاعمى كل عشاه .. إنت مش أحن عليه م اللى عماه" أو " انصح صاحبك م الصبح للضهر ما اتنصحشى ضله بقيت اليوم" أو مثل فى الحسد مثل " زى الفراخ رزقه تحت رجليه، أو " أنا بايت بره يابا.. قال ريحتنا من (عشاك) أحيانا يكون لهذا المثل نهاية أخرى. . أو " إن جالك الطوفان حط ابنك تحت رجليك"
أو " خالتى و خالتك و اتفرقت الخالات" بما فى المثلين الأخيرين من تجاهل لتعاليم صلة الرحم.


أيضا هناك بعض المقطوعات التى كان يتغنى بها أهل الصعيد والتى انطوت على رؤية عنصرية للآخر ومنها " أنا أحمد الله ما احمدش جمايل حد
إليا كبير القبط هلك نهار الحد"
وربما ألقى الغناء السابق بظلاله على قصيدة عبد الرحمن الأبنودى ":؛
ياقمر يا رغيف بعيد
النهارده الحد عيد
الفقير ليه مش سعيد
والغناى ليه مبسوطين
وإن كان الأبنودى قد أضاف عنصرا جديدا وهو الصراع الطبقى ولكن يظل التأثير الطائفى واضحا فى " النهارده الحد عيد"
هناك أيضا فى المجتمعات البدوية ما يمكن اعتباره تمييزا ضد المرأة فالبدوى يقول" كل بعقله راضى .. إلا بماله لأ ..ينبت الشعر بدراعى إلا بكفى لأ.. ولد ابنى منى ولد بنتى لأ"
أو التحذير من سيطرة الزوجة على زوجها ودفعه للتخلى عن أهله بل لجعلهم خدامين للزوجه :-

قال لها بردان يا قرنفلة غطينى
قالتله والله ما اغطيك ولا اقرب يمك
إلا حيث تبيع خالك وترهن عمك
وتكسر السلم على راس أمك

أو فى تعبير آخر:-
آه يا نعيمه يا قليب الخس ريانه
وان شوفتها يالعريس فى الطشت عريانه
تنظر لها ستى اطلعى ده آنا
والله ما اطلع ولا لى فى الطلوع غيّه
غيرشى ان يجينى الدهب ميه على ميه
وابوك يسايس الحصان وأمك مغنيه
عمّك ده شيخ البلد صبّاب على إديّه

أو ماكان سائدا فى أغانى الأفراح حتى وقت قريب والغريب أن البنات كن يتغنين بها دون أن يدركن أن بها إدانة وتعريض بهن:-

فى جيبه ورق (اللامون) مش راضى يشممنى
واللامون فى البحر عايم ومحمد فى سريره نايم
أنا بلحايه وانت بلحايه ناكل لما نشبع والقشر لأمك
قلة ( الأدب الشعبى)
هناك فنون من الأدب الشعبى أو قل من " قلة الأدب الشعبى " شهدتها فى قريتنا وأن بعد فى فى المرحلة الابتدائية ولكنها انقرضت تماما و إن كان أبطالها مازالوا على قيد الحياة وأبرزهم " الحاج أحمد أبو فرج" فقد كانوا يتبارون فى لعبة زجلية تسمى " الملاقنة" ربما من التلقين أو " الملاقمة" من "التلقيم"، كانت عبارة عن مبارة لفظية بين اثنين فى الفحش ولم تكن مثيرة لأية غضاضة بل كان الشباب حتى سن الثلاثين يتحلقون حول المتبارين ليشهدوا أيهما سيغلب الآخر وساضرب مثلا لتلك اللعبة ربما بعد تخفيفه ليصلح للنشر ؛ يبدأ الأول فيقول " خد منى من هنا لهناك على ما خدت منك من هنا لهناك أمك (......) وابوك (.....) فيرد الآخر :- خد منى جزمة بكعب على ما خدت منك جزمة بكعب حلفت ما أنا ( ضارب ) أمك إلا قدام جمال والشعب، فيرد عليه خد منى صفيحة شحم عل ما خدت منك صفيحة شحم ، حلفت ما (اضرب) أمك إلا وابوك بيطعمنى اللحم، وتتوالى المسألة بالتأليف التلقائى حتى يعجز أحدهما عن ملاقمة الآخر فيعترف بالهزيمة أو يطلبه ( للمبارزة) ولكنها كانت مبارزة (بلدى) ليست كما كان يفعل نبلاء أوربا فيعلن أحدهما أنه يتحدى صاحبه ليرى الشباب من منهما الأقوى ويحدد يوم يخرج فيه الشباب تحت سن العشرين جميعا فيذهبون فى زمام قرية أخرى حتى لا يعرف الكبار من أهاليهم بما يجرى ويشتعل التحدى فلكل منهما جمهوره ومن ثم كان يحدث أن ينقلب الأمر إلى معركة بين فريقين كاملين.
أما بالنسبة "للمسرح الشعبى" فقد رصدت بعيون الطفولة ما يدلل على البدايات التى يمكن لباحثين متفرغين أن يؤكدوها أو ينفوها فقريتنا لم تكن تعلم شيئا عن "خيال الظل" ولا عن فرق " المحبظاتية" ولكن مع كل فرح قروى كان هناك ما أطلق عليه فلاحو قريتنا اسم " التقليعة" ولا أعلم سببا لتلك التسمية يتحلق الفلاحون من الرجال والنسوة والأطفال فى ليلة الزفاف حول مجموعة من " المشخصاتية" ربما لا يتجاوز عددهم الثلاثة أفراد ، أذكر أن أحدهم يلعب دور " عثمان" يتم دهن وجه بمكياج مصنوع من الزيت المخلوط با (السكن) وهو تراب أفران الخبيز والثانى يلعب دور العريس والثالث يرتدى فستان فلاحى ليصبح العروسة بعد أن يدهن وجهه بالدقيق ، ويرتجل المشخصاتية الهواة الحوار كيفما اتفق وأتذكر كان " عثمان" الأسود المدهون " بتراب الفرن" يمسك بيده كرباج مصنوع من قش الأرز وكان عصبيا جدا ينفعل لأتفه الأسباب وحينها كان يضرب بالكرباج كل من يراه سواء كان العريس أو العروسه وتنتهى " التقليعة" بان يطارد الجمهور حتى يهربوا إلى بيوتهم وربما كانت وظيفة (التقليعة) هى قلع الناس من حول بيت العريس حتى لا يتلصص أحد على ما يجرى بين العريس وعروسته أثناء الدخلة


الاهتمام الرسمى بالأدب الشعبى

كثيرا ما نتساءل عن سر الاهتمام الرسمى بالأدب الشعبى وهل ثمة توجيه من جانب المؤسسة الثقافية بذلك وهو تساؤل مشروع ولكن القضية الأساسية ليست فى مجرد إقامة مؤتمر هنا أو هناك أو طرح مسابقة حول الموضوع ولا حتى هذا العدد الكبير من الإصدارات التى تدور حول نفس الغرض، فى ظنى أن القضية الأساسية تكمن فى لماذا يجب أن نهتم بالأدب الشعبى لأن بعض الدول قد تقيم المهرجانات وتدعو الضيوف والسياح لمشاهدة الفنون الشعبية باعتبارها وسيلة للجذب السياحى وفقط وهو فى تقديرى ما نشهده على الساحة الآن بعد انقراض الفنون الشعبية فى بيئاتها الطبيعية والتى كان يرعاها الشعب بنفسه فلم يعد " الأراجوز" يجول فى القرى ولم يعد الشعراء الشعبيون مثل " البنا" و " أحمد مجاهد" " ويحيى" نجوم سهرات الأجران فى الأعياد والمناسبات لأن برامج Muppet Show والكارتون والجرافيك والمسلسلات العربية والأجنبية قد انتشرت بانتشار الفضائيات وهى الآن تشكل ما يمكن أن يطلق عليه " ثقافة العامة" وعلينا أن نعترف أن الظروف المادية الاقتصادية والاجتماعية التى صاحبت تلك الظواهر قد انقرضت أو أوشكت على الانقراض بسبب تغير العالم والتطور الهائل فى وسائل الاتصال فجدى كان يطربه الموال الشعبى ليس فقط لأنه يتحدث عن واقع يعرفه ومشكلات يعانيها ولكن أيضا لأن الموال والحكاية وأشكال التعبير الشعبى المرتبطة ببطىء التنقل وندرة المعارف والبعد عن تأثيرات الثقافات الأخرى كانت تحتكر مستمعيها دون أدنى قصدية ، لم يتسع العالم من حولنا ولم تضاف قارات جديدة ولكن المعرفة به قد اتسعت حتى أصبح قرية صغيرة ولم تعد الجدات والأمهات مصدرا لحواديت قبل النوم لأن معظمهن مشغولات بالتعليق على "البوستات" " والتيويتات" على مواقع التواصل الاجتماعى ، فهل ينبغى أن نعتبر ذلك من قبيل الهزيمة ؟ لا أعتقد ذلك مطلقا فشعوب أخرى أكثر تقدما سبقتنا إلى كل تلك الوسائل ولكنها حافظت على هويتها الثقافية وآدابها وفنونها الشعبية باستخدام نفس الوسائل الحديثة ، أعنى أنهم استخدموها ولم يستسلموا لها ويجعلونها تستخدمهم كما جرى هنا فى منطقتنا العربية التى تعانى من منخفض حضارى رغم سمو حضارتها وعمق تراثها!



خاتمة

قلنا أن التراث الشعبى وفى القلب منه الأدب الشعبى فى بؤرة اهتمام كل المراكز البحثية والجامعات فى كل أنحاء العالم وربما يظن البعض أن المجتمعات الأروبية وهى فى طريقها لإنجاز حداثتها قد تجاهلت تراثها وتلك فرية كبيرة فالجامعات الأوروبية تستعين بالحكائين الشعبيين ليحكوا لطلابها حكايات أجدادهم ، كما أن الأغانى الشعبية فى جامعة " إدنبره" مثلا تشكل جانبا كبيرا من البرامج الخاصة بالطلبة الاسكتلنديين والأجانب فالحداثة التى تتجاهل الأدب الشعبى هى حداثة زائفة وهم يذكروننا بالحوار الذى دار بين " محمود بيه " و "الشيخ حسونه" فى فيلم الأرض ... حين أراد محمود بيه أن يتجاهل طلب الشيخ حسونه بالحفاظ على أراضى الفلاحين، يقول "محمود بيه" وهو يتحدث عن تمثال لفنان أوربى " شوف يا شيخ حسونه إزاى الفنان قدر يعبر عن الجسم البشرى... إمته يبقى عندنا فنانين زى كده"
فيرد الشيخ حسونه قائلاً "إحنا عندنا ناس مش لاقيه تاكل يا محمود بيه!!
إن الحداثة الحقيقية هى تعبير عن تطور اقتصادى واجتماعى وسياسى وليست مجرد موضة من أجل التوافق مع المجتمعات الغربية التى أنجزت قدراً من التقدم على كافة المستويات دون أن تتخلى عن ملامحها التراثية ، وأرجو ألا أكون قد وضعت نفسى فى خندق الرافضين لقيم الحداثة الحقيقية وقيمتها ولكن ما أعنيه هو أن علينا أولاً أن نكافح من أجل بناء أوطاننا وانتزاع حريتنا من هؤلاء الذين يستعمرون أراضينا وأيضاً من هؤلاء الذين يستعمرون أرواحنا.. عبر طمس هويتنا وبعدها يمكننا ان نبدي إعجابنا بالتمثال الذي بهر " محمود بيه "




ننصح باللاستزادة بمطالعة المراجع الآتية:-
*نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، ط2 مزيدة ومنقحة (دار نهضة مصر، القاهرة 1974).
* محمد الجوهري، علم الفولكلور، الجزء الثاني - دراسة المعتقدات الشعبية (دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية 1988).
*نبيل جورج سلامة، التراث الشفوي في الشرق الأدنى ومنهجية حمايته (وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1986).
* أحمد رشدي صالح، فنون الأدب الشعبي، جزآن (دار الفكر، القاهرة 1956).. *الدكتور محمد عبد الحليم غنيم ( من شبكة المعلومات الدولية)
*كتاب "الأمثال العامية" لأحمد تيمور باشا الطبعة الثالثة لعام 1970 م.
*كتاب "مختارات من الأدب والحكمة والأمثال الشعبية" للبابا شنوده الثالث.
* محمد رجب النجار -من فنون الأدب الشعبى فى التراث العربى- هيئة القصور
* سمير الأمير_ الحداثة والحداثة الزائفة والشيخ حسونه- مجلة أدب ونقد
* أحمد صادق الجمال- الأدب العامى فى مصر فى العصر المملوكى- هيئة الكتاب