التثقيف وواقع الأجواء المؤهلة

عدنان عبد النبي البلداوي


لم يكن التثقيف سهل الإنتشار مالم يكن له استعداد للتلقي داخل النفس، ولايتحقق الإستعداد مالم تتوافر مستلزمات خلقه المتمثلة فيما يأتي:
1- الأجواء الامنة المرتبطة سايكولوجيا بباحة الإستقرار العصبي والنفسي،حيث يتعطل استقبال البث التثقيفي في خضم اجواء يتصارع فيها الهدوء والإستفزاز،وتتهيأ فيه قناة النسيان لتفعيل مهامها،كما ان مستلزمات الربط والإستنتاج لأي مضمون فكري ثقافي تصاب بالتصدع اذا افتقرت اجواؤها الى الأمن المتوقف تأمينه على جهود وقرارات الحاكم ..
2- الإستقرار الإقتصادي،على ان لايكون من نوع الإستقرار الجامد الذي يكدّس الأموال ولايحسن توظيفها،فيؤدي سوء التدبير الى عدم ايصال لقمة العيش كما ينبغي وبعدالة، او شمولها بعملية التقتير التي تقف وراءها المصالح الخاصة او سوء النية، ولاشك في ان التقتير بدوره يؤدي الى عدم استكمال ديناميكية التفكير التي لاتتم بنجاح تام في اجواء منغصة مصطنعة،لأن الحقيقة تقول ان الجياع ينشغلون دائما بضمور بطونهم،فلا يستوعبون سطرا من كتاب ولا توجيها من خطيب فإذا شبعوا تتنشط حواسهم فيولد عندهم دافع التلقي والحفظ والاستعداد.. .ولما كانت الامم لا تعرف الا بعلمائها وادبائها ومثقفيها وليس بما عندها من معادن وعمران، فإن مهمة الحاكم او المسؤول المخلص المتفاني من اجل شعبه ان يعي هذه الحقيقة ..
ومن المؤسف ان مدارك بعض الحكام بقيت في دائرة ضيقة يجول فيها الوسواس الخناس الذي يملي عليهم مفاهيم خاطئة بحق شعوبهم،كإقدامهم على اغلاق نوافذ التثقيف خشية ان تنضج العقول وتتسع الافكار،فيولد التمهيد السريع لوسائل الحق بالإنفجار..وهناك صنف اخر منهم يفهم ان التقتير في إيصال مستلزمات العيش يؤدي الى ابقاء شعوبهم خاضعة ومستسلمة لهم وبعيدة عما هم فيه من استبداد وتبذير وفساد، ولاشك في ان مسارات هؤلاء الحكام هي من صنف المسارات المتخلفة في منظور المعيار التقويمي للثقافة المعاصرة، وقد افرزت هذه المسارات الخاطئة تراكم الكثير من عوامل الرفض داخل ضمائر النخب من الشعوب التي انفجر بعضها من شدة الألم وهيمنة الأمزجة الباطلة.
وماذا لو ثقف بعض الحكام انفسهم وفتحوا نوافذ التثقيف لشعوبهم،لكي تسهل عملية انتقاء الاراء الصائبة في الجو الذي يجمعهم مع نخبة المثقفين فتبدأ الخطوة لأولى للإزدهار، اما اذا حدّتهم تشنجات التخلف، ففي الأقل ان يصغوا الى مضامين المثقفين الموضوعيين،بغية الإستزادة وتنوير الطريق بقناديل مجانية تساعدهم في الوصول الى الزوايا المظلمة لتجاوز العقبات ..
وفي ضوء ذلك، ماهو دور المثقف تحت مختلف الظروف..؟
ان المثقف دائما هو المشار اليه بتحمل مهمة نقل الصورة الواقعية للمعاناة او الإحتياجات او التصدعات، لأن المسؤولية تستنهضه بعنف ليؤدي رسالته،انطلاقا من مضمون (من كان أكثر وعيا كان اكثر مسؤولية) والذي ينوء بالمهمة الإجتماعية هو المثقف المؤهل، اما غير المؤهل الذي ما زال لم يستفد من قراءاته وتجاربه لأسباب ..فليس بإمكانه تحقيق الأهداف المنشودة كما ينبغي، وعليه لابد ان يعيد النظر في تفعيل مضامينه ومعرفة حجم ثقافته، لكي لاتختلط المفاهيم المطروحة على الساحة الثقافية ويصبح تحصيل الحاصل قاصرا او ضعيفا، وبالتالي يفرز نتائج غير ذات اثر.
ان المثقف يعني (المهذب) والمهذب هو الذي يوصل نفسه الى مرحلة تسقط في طريقها كل الشوائب التي من شأنها ان تعمل على نثر الغبار على وجه الحقيقة،فليس كل من يكثر قراءة الكتب او اقتنائها يُنعت بالمثقف،فهناك اختلاف في مهام وقدرات كل من: (القارئ – الكاتب – الاديب –الباحث – المثقف ) ورغم اختلاف المهام لابد ان يعمل كل صنف من موقعه على وفق تحصيلاته :
- فالقارئ الجيد يستطيع ان يسهم في توعية المحيطين به من الذين لم تتح لهم ظروفهم الخاصة فرص القراءة.
- والكاتب ان يخلص ويصدق في نقل الحدث او التعبير عن حالة ما بمضامين غنية بالمعلومات.
-والباحث ان يجهد نفسه في الوصول الى الحقيقة لكي يجدها الأديب امامه مع ما عنده فيعبر عنها بإسلوبه البياتي المبدع،ليؤثر في الأسماع والقلوب .
- اما المثقف فعليه تقع مهام هؤلاء جميعا، فهو الذي يشجع القارئ الجيد على مواصلة جهوده التوعوية ليقتدي به سائر القراء، ويشير الى ابداع الأديب ويتعاون معه في عملية التوصيل، ويقتبس من مضامينه المبدعة اذا اراد ادراجها مع كلامه، على ان يضعها بين قوسين أداء للأمانة العلمية والأدبية (اذ ليس كل مثقف اديب) ويلتقي مع الباحث ليتوثق من امور وقضايا يريد ادخالها في مضامينه اللسانية او القلمية.
وفي ضوء ذلك، اذا برز على الساحة نخبة من المثقفين تتوافر فيهم مثل هذه المواصفات فلا بد من ان يصغي اليهم الساسة والحاكمون، لتُصب الجهود مجتمعة في خدمة مصلحة البلاد والعباد ، و الحكام الذين يريدون خيرا لبلدهم بحق وصدق نية ووطنية غير مصطنعة ان يستمعوا الى حملة الأقلام، وان يكتبوا على الأبواب هذه المقولة الخالدة :

(اذا رأيت الملوك على ابواب العلماء فقل نعم الملوك ونعم العلماء، واذا رايت العلماء على ابواب الملوك فقل بئس الملوك وبئس العلماء) .