أممٌ من طين وماء

كاظم فنجان الحمامي

الناس من جهة التمثيل أكفاءُ، أبوهمُ آدمٌ والأم حواءُ، نفسٌ كنفسٍ وأرواحٌ مشاكلةٌ، وأعظمٌ خلقت فيهم وأعضاءُ، فإن يكن لهم من أصلهم نسبٌ، يفاخرون به فالطين والماءُ. ففي حجة الوداعِ أعلن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أولَ ميثاقٍ متكاملٍ لحقوق الإنسان أينما كان، ينظمُ فيه المعالم الفاصلة بين الحقِّ والواجبِ والمأْمُورِ بِهِ والمنهيِّ عَنْهُ، فمن التزم به وصان أُسُسَهُ وسار على ضيائه فاز بالعزِّةِ والسَّعَادَةِ في العاجل والآجل. وأفاض في ذلك اللقاء الحاشد من الحديث حول العلاقات الدولية والاجتماعية، وأعاد ضبط ما انفرط من عقد التعقل بسبب الجهل والعصبية واتباع الهوى، خصوصاً في مجال الاحترام والتقدير للناس، ووضعهم في مواضعهم الحقيقية بلا إفراطٍ في التمادُحِ، ولا تفريطٍ في التجني. وقد عطبتْ عقولُ كثيرٍ من الناس في زماننا، وسلكوا في هذا المضمارِ صِرَاطاً غيرَ مُسْتَقيمٍ، فإذا بهم يرفعون من الخلْقِ ما لم يأذن الله تعالى برفْعِهِ، ويخفضون منهم من شاؤا بلا دليلٍ يَرْقَى إلى مرتبة القبول عند أهل التُّقَى، وأضحت الصورة العامة للأفراد والمجتمعات تخبرُ أن كثيراً منهم يرفعون أقدار الناس، ليس على مبدأ التقوى كما أمرَ الدين القويم ولهم في ذلك مآربُ وفُنُون.
قال النبي الكريم في بيانه الحكيم: (يا أيها الناس: إن ربكم واحد، و إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي و لا عجمي على عربي، و لا لأحمر على أسود و لا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، )إن أكرمكم عند الله أتقاكم(، ألا هل بلغت ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فيبلغ الشاهد الغائب). هذا ميزانٌ لا يخطئه العدل إن جردناه في علاقاتنا التي يكتنفها كثيرٌ من التجافي عن النظرة العادلةِ للأفراد والعائلات، فترى البعض يزكي نفسه وعائلته في صورٍ تستفز البغضاء وتحرك دواعيها من تَعَالِيِ الإنسان على أخيه المتماثل معه تماماً في الخلقة الأولى.
قبل بضعة أيام شاهدت مقطعا فيلمياً لفحص مختبري، خصص لمعرفة الانتماءات العرقية الحقيقية لمجموعة من الناس من مختلف الجنسيات والقوميات، استمعت لما يقولونه قبل الفحص، وكيف يتبجحون بمفاهيم الفصل القومي والعرقي والعنصري، ثم فوجئت كيف انقلبت عندهم الرؤية، بعدما أدهشتهم النتائج غير المتوقعة التي حملتها لهم نتائج الفحص، واتضح لي إن الخرائط السياسية التي رسمتها القوى الغاشمة ما هي إلا خطوط وهمية وضعها الطغاة والغزاة كأسيجة لتحديد الحظائر البشرية. ثم وضعوا لها التصنيفات العرقية المتوافقة مع نزعاتهم العنصرية ورغباتهم الاستعلائية، وكأنهم لا يعلمون إن الله خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف ونتعاون ونتعاضد، وإن أكرمنا عند الله أكثرنا خدمة للإنسانية، وأكثرنا نفعا للناس على اختلاف أعراقهم. أما الذين يرهقون أنفسهم في الغوص بين أنقاض الصفحات التاريخية الملطخة بدماء الأبرياء فيتعين عليهم أن لا يتركوا كتاب الله وراء ظهورهم، وأن يتمسكوا بقوله تعالى. بسم الله الرحمن الرحيم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).