عن الشعر وقوة التجربة
صدوق نورالدين
(1)
بدءا يجدر الاعتراف بأن الإبداع يتفاوت مهما كانت نوعية الجنس الأدبي الذي يخوض المؤلف فيه..و الأصل أن التفاوت مسألة طبيعية مردها الأساسي مقدرة و كفاءة المبدع و مدي تمكنه في الحالة النفسية التي هو عليها من المادة المراد صوغها و التعبير عنها..
فالأصل في عملية الإنتاج الأدبي ، أن المبدع يتوق تحقيق تجاوز لنص سابق ، بخلق جديد يضيف إلي التجربة ، و بالتالي يوسعها ..إنه يضع في تصوره متلقيا غائبا يتواصل و نصوصه ..أي أنه يفتح أفق انتظار متوقع..هذا الأفق يتكسر لما لا يحقق النص صداه الإيجابي..من ثم فالمبدع أول ناقد لإبداعه ، و قبل تحقق عملية النقد من لدن الناقد المتخصص..
(2)
لقد درجت نقود اعتبار المنجز الإبداعي الأول ، الصورة التمثيلية لمسار الكاتب المبدع..و بالتالي كأن الكاتب لا يكتب سوي نص أول ، و أما اللاحق فلا قيمة اعتبارية له..
هذا التصور غير الموضوعي ، يدرج في باب الكسل النقدي ..إذ لا يكفي كي يتم التعرف علي كاتب التعامل معه انطلاقا من الأثر الواحد ..و إنما ، ما يمنح المعني الشمولي ، المقاربة الكلية..
هذه تجعلنا نقف علي حالات تطور المبدع في نص، و تراجعه في آخر، و العكس..
(3)
تأسيسا علي السابق ، فإن رأي الدكتور 'جابر عصفور' الوارد ضمن الحوار المنشور في - أخبار الأدب - ، يحتم أن يؤخذ في سياقه ، و بالتالي كليته ..
فالدكتور - جابر - حدد بداية مفهوم الإبداع بالنسبة للشاعر الكبير كالتالي :
..
الشاعر الكبير هو الذي لا يتوقف عن
الإبداع..و يتجدد دائما..و يبحث عن
وسائل تعبيرية جديدة ..و يفكر في خرائط
و قارات إبداعية لم يطرقها هو أو غيره
من قبل..و أنا أظن أن هذا هو سر توهج
محمود درويش الدائم ..- ..
إن التحديد يفرض اشتراطات :
1 الاستمرارية و التجديد..
2 البحث عن وسائل تعبيرية جديدة..
3 التفكير في حقول إبداعية غير مطروقة..
هذه الاشتراطات في تصور الدكتور - جابر - ، تتوافر أساسا في ثلاثة أسماء شعرية بارزة : محمود درويش ، سعدي يوسف و أدونيس..
إلا أن ما يحسن تمثله ، الرصد المتعلق بالملاحظات النقدية المتداولة بخصوص هذه التجارب ..و هو ما ( قد ) يكون قناعة الدكتور - جابر - أيضا ، دون ادعاء تبنيه..بيد أن الأهم في هذه الملاحظات النقدية ، اعتبار التجارب الإبداعية متفاوتة في قيمتها ، و هذا يقود أحيانا إلي اتسامها بسلبيات موعي بها أو العكس..
يورد الدكتور - جابر عصفور - التالي :
'بعض الأصوات تري أن أدونيس يكرر نفسه
بعد ديوانه ( الكتاب ) ..و يري آخرون أن سعدي
يعلو بين الذري و يهبط أحيانا إلي وديان سحيقة
و أن شعره ليس كتلة واحدة ..و آخرون يرون
أن في شعره بعض الإطناب خصوصا في قصائده
المطولة ..كل هذه وجهة نظر ينبغي أن تحترم
و لكنها لا تنقص من قدرهم..'
إن رأي الدكتور 'جابر' صادر عن كفاءة و تمكن و اقتدار نقدي عال سواء بالشعر القديم أو الحديث، و نتذكر في هذا المقام دراستيه : 'مفهوم الشعر'
و - الصورة الفنية -..إلي كتاباته النقدية عن التجربة الشعرية الحديثة..هذه المرجعيات الأساس ، إلي متابعاته لما هو عربي و غربي ، جعلت منه الباحث الأكاديمي و الناقد الموضوعي.. واللافت أن كتاباته تجمع بين الحديث عن الشعر و النثر علي السواء..و هو ما يدفع إلي اعتماد رأيه..مع مطلق العلم بأنه لم يقص قامة الشعر المصري الحديث - أحمد عبد المعطي حجازي - و إنما أشار إليه بالقول :
.. 'بالنسبة لحجازي أرجوه كصديق أن يعاود
كتابة الشعر و يخرج من هذه الحالة سريعا
و يعود إلي توهجه لأنه شاعر كبير و لا يقل
عن الأسماء التي ذكرتها ..'
إن قوة - محمود درويش - في نظري وليدة غنائيته ، فهو يبرع في الإنشاد و ابتكار الصورة الفنية المحلوم بها..و أما - أدونيس - فإن مزاوجته بين الإبداع الشعري و القول الفكري ، هي ما يمنح قصيدته بعد الرؤيا العميقة..علي أن
- سعدي يوسف - و بالأخص في تجربته الشعرية الأخيرة ، يركز علي الإنساني السامي و الرفيع و هو سمو يضعه في مصاف الشعراء العالميين ، و للبيئة بلاغة تأثيرها.. بالإضافة إلي هذا فإن تجارب هؤلاء الشعرية ترتهن لمرجعيات ثقافية أساسية ومتنوعة ..أقول إن أي حوار مع أحد هؤلاء ، ثقافة و تصور يفرض أخذه بعين الاعتبار (راجع حوار أدونيس مع صقر أبو فخر و محمود درويش مع عبده وازن).
يبقي في الختم القول بأن رأي الدكتور 'جابر عصفور' موضوعي كل الموضوعية، إذ و حتي علي مستوي التلقي و التداول فإن دواوين هؤلاء
تحتضنها كبري دور النشر العربية ، و تحقق طبعات متجددة..
و أما بعد ، فإن كان التركيز بصدد الأحياء، فإن أدونيس و سعدي يوسف و محمود درويش أبرز العلامات، في حين يظل ل'نزار قباني' أثره الدائم..
العدد 721
أخبار الأدب القاهرية
المفضلات