لماذا يهاجر المواطن العربي؟


د. كاظم ناصر/ عرب تايمس /مايس /5 /2016


________________________________________استاذ جامعي مقيم في كانساس

لماذا يهاجر المثقف العربي من وطنه ؟
المثقفون في أي مكان من العالم هم أحد أهم مصادر التنوير ، والابداع ، والتجديد ، والتطور المجتمعي لأنهم يشكلون مجموعة الوعي الفاعل في المجتمع ، ولأنهم حاضنة الأفكار الأساسية ألتي تلعب دورا محوريا في إحداث أي تغيير قد يؤدي إلى نمو قيم مجتمعاتهم الأخلاقية ، ويزيد قوتها الانتاجية والادراكية ، ويسرع ازدهارها ، ويطور نمط الحياة ونمط تفكير الانسان فيها ، ويساهم مساهمة فعالة في تخليصها من الجهل والتخلف والانغلاق والتقوقع .
هؤلاء الرواد يدركون بأن قاعدة ألثقافة هي الخلق المستمر للذات ، ولهذا فانهم لا يتوقفون عن تطوير معرفتهم وبحثهم الدائم عن الحقيقة ، ويكرسون حياتهم لكل ما يفيد مجتمعاتهم وينعكس خيرا على البشرية جمعاء . وبما أن هدفهم الأساسي هو معرفة الحقيقة ، وفهمها وتعميمها ، والدفاع عنها ، فانهم لا يستطيعون العيش في عالم يحرمهم من ممارسة حريتهم الفكرية ، ويحرمهم من العيش مع معبودتهم " الحقيقة " ، ومن جهدهم البحثي والنقدي الذي يسلطون الضوء من خلاله على مشاكل وعيوب مجتمعاتهم ، ويحاولون إيجاد فكر متوازن جديد قد يؤدي لفهم وتشخيص واقعي وحقيقي لهذه المشاكل ، ويقود إلى وضع آلية منهخية للتعامل معها تمكن المجتمع من حلها ، أو من تجنب أضرارها إذا كانت عصية على الحل .
الثقافة العربية القائمة والمهيمنة على الساحة الآن ثقافة محدودة التاثير ، وتعاني من مشاكل لا حصر لها منها : الخطاب الشتائمي التسفيهي ، والجدل العقيم الذي لا علاقة له بالفكر أو بإعمال العقل والمنطق ، والتكفير، والتخوين ، والتأثيم ، والتجريح الشخصي ، والاستخفاف بالعقل ، والكذب السياسي الذي يشاهده المواطن يوميا من خلال مشاهدته لحواراتنا التلفزيونية ، وفي جميع وسائل الاعلام الاخرى ، والنفاق الديني الذي يسخره رجال الدين في خدمة الدولة ، والذي لا علاقة له بالدين الاسلامي الحق .
والدليل على ذلك أن " هناك 89 قناة دينية تعمل في الوطن العربي . ستة قنوات منها فقط محايدة في بثها ، " والباقي تبث سموما من الحقد والكراهية بين مكونات المجتمع العربي الدينية ، وبشكل دخيل على ثقافة التعايش المشترك التي مارسناها لقرون مضت . هذه الثقافة المتسترة بالدين وهي في الحقيقة تعمل ضده ، هي ثقافة مأجورة ومعادية للعقل ورافضة للحداثة ، ولهذا فانها تهرب إلى ثقافة التراث والتفسير الديني المشوه ، والتصرفات العنترية ، والممارسات الغوغائية لتبررعجزها وفشلها في خدمة مجتمعها ، وعدم قدرتها على إنقاذه من خلال طرح فكر تجديدي خلاق ، يساهم مساهمة فعالة في إحداث خلخلة عقلية تقود الى تغيير مجتمعي ، يؤدي الى خلق إنسان جديد ، ووضع سياسي حداثي قادر على إنهاء دول القهر والطغيان.
في ظل هذه الاوضاع الكارثية ، لا يوجد مكان آمن للمثقف العربي الحداثي الرافض لهذا الاستهتار بالعقل وبالوطن وبالانسان ، وذي المصداقية ، والذي يؤمن بقول الحقيقة مهما كانت التداعيات التي ستنتج عن قولها ، ويحاول خدمة مجتمعه بصدق وأمانة ، ويرفض بيع ضميره للنظام ، ويتوق إلى الحرية والعيش بكرامة ، سوى المنافي في بقاع أرض الله الواسعة . لقد إختار هذه المنافي مكرها لأنه يرفض العيش في سجن إسمه وطن ، ولا يستطيع أن يقول رأيه في هذا السجن الرهيب بصراحة وصدق ، ولهذا ينطبق عليه قول المتنبي .
" الرأي قبل شجاعة الشجعان...هو أول وهي المحل الثاني
فاذا هما اجتمعا لنفس حرة...بلغت من العلياء كل مكاني "
صدق المتنبي .
يقول المناضل العظيم نلسون مانديلا " لا يوجد بلد يمكن أن تتطور حقا ما لم يتم تثقيف مواطنيه ." الأنظمة العربية والقوى الظلامية السياسية والدينية الطاردة للعقل والابداع تحارب الثقافة ، وتعتبر المثقف عدوها اللدود ، لأنها تدرك جيدا أن الكلمة الحرة الصادقة هي أكثر الأسلحة فتكا ، وأكثرها خطرا عليها وعلى مصالحها ووجودها ، ولهذا فانها نجحت في إسكات أعداد كبيرة من المثقفين مقابل مناصب وإمتيازات ، وحيدت جهود الأغلبية باجبارهم على الانزواء وعدم المشاركة في أي نشاط لا تسمح به القوى المهيمنة ، وذلك خوفا من بطشها .
المثقفون العرب الذين يعيشون في الوطن العربي ، والذين لم يتلوثوا بفساد السلطة موجودون في كل مكان ، ويحاولون مشكورين خدمة أوطانهم بإمكانياتهم المتوفرة وبهامش الحرية الضيق المتوفر لهم .
أما أولئك الذين رحلوا آسفين ويعيشون في المهجر، وخاصة في الدول الديمقراطية ، فانهم ينعمون بحرية فكرية وسياسية مكنت الكثيرين منهم من النجاح والابداع في خدمة الدول التي استقبلتهم ، وقدرت مهاراتهم ، وأكرمتهم ، ووفرت لهم العمل ، والدعم المادي والمعنوي ، والوسائل اللازمة لانجاحهم ومساهمتهم في بناء المجتمعات التي يعيشون فيها . وفوق ذلك كله تمنحهم تقاعد يضمن لهم حياة كريمة وعناية طبية مميزة في شيخوختهم وعجزهم . إن وجودهم في المهجر خسارة كبيرة لأوطانهم وإن نجاحهم يذكرني بمثل نرويجي يقول " طير حر خير من ملك أسير . " نعم...لقد أنتجوا لأنهم أحرار .
كل مثقف في المهجر يشعر بأنه غادر وطنه بقلب دام بعد أن حورب في لقمة عيشه هو وأسرته ، وهمش ولم يعطى حقه ، وظلم من حيث يدري أو لا يدري لانه رفض إلا أن يكون سيد نفسه ، وأن يظل إنسانا يعبد الحق والحقيقة ، ويعمل من أجل الخير العام ، ويجل الناس ، ويشعر بشعورهم ، ويدافع عن حقوقهم . لقد حاول أن يغرس نبتة فكرية جميلة في بلده ، قد تنمو وتزهر يوما ، وتخلق إنسانا جديدا قادرا على صنع حياة متجددة في وطن حديث وخير تعلو فيه مكانة الانسان وقيمته ، ويكون وطن خير وسلام كما أراد الله سبحانه وتعالى له أن يكون ، لكنهم حاربوه وافشلوه .
هذا المثقف في مهجره يشعر بالغربة وبالحنين إلى وطنه . إنه يتوق شوقا إلى الأماكن والذكريات الجميلة في بلده ، ويفتقد أهله وأقاربه وناسه ، وقد يجد في الكتابة السلوى الوحيدة التي يمكن من خلالها أن يخدم وطنه . العقول العربية المهاجرة يمكنها أن تقدم خدمات مهمة جدا لأوطنها وتساهم في تغيير حياة الناس للأفضل من خلال قدراتها ومهاراتها المتعددة والمتطورة جدا . لكن يمكن القول بمرارة وبألم وأسف ، أن هذه الأمنية غير ممكنة التحقيق في الوقت الحالي للأسباب التي سبق ذكرها ومن المتوقع أن هجرة العقول العربية ستزداد في السنوات القادمة .
أوطاننا حاليا تهيمن عليها قوى شريرة غبية فاسدة ، لايمكنها أن ترى النور ، ولن تسمح لشمس الحرية أن تسطع ، ولا للعقل أن يفكر . إنها صحاري ثقافية قاحلة موحشة ، تحتقر العقل وتحتفل بالجهل ، ترفع من شأن الأغبياء وتبدع في تسفيه العلماء ، تبرر بطش السفاحين وتحلل قتل الأبرياء ، سلمت قياداتها لمنافقين سفهاء وأغلقت أبوابها في وجه معظم أبنائها البررة العلماء .
وخير ختام لهذا المقال هو ما قاله الفنان الفلسطيني المناضل ناجي العلي رحمه الله " في كل إنسان هناك ضعف وقوة ... شجاعة وجبن ... صمود واستسلام ... نقاء وقذارة ...فالمخلص يقاوم ... والغادر يخون ... والضعيف يتهاوى تحت اليأس ... والبطل يقاتل ... يا وطني كل العصافير لها منازل إلا العصافير التي تحترف الحرية فهي تموت خارج الأوطان ." ومات ناجي غدرا خارج الوطن .