هذا المستشرق يجمع بين الجهل والغرور السمج!
بقلم إبراهيم عوض


البحث الذى نتعرض له هذه المرة عنوانه: "عبد المُطَّلِب: إِلَهٌ في نَسَب مُحمَّد"، وصاحبه المستشرق چيل كورتيو الأستاذ بجامعة ليون الثالثة (" AL MUTTAIB: la présence d’un dieu dans la famille de Mohomet"
Par Gilles COURTIEU Professeur à l’Université de Lyon III). وهو يدور حول إثبات أن اسم "عبد المطلب" جد الرسول معناه "عبد وثن يسمى: المطلب"، كل هذا ليدلل على أن الوثنية ضاربة فى حياة الرسول. وهو، حين يقول ذلك، لا يقدم أى دليل. إنما هو عناد بغالى حرون لا يحترم عقلا ولا منطقا ولا علما ولامنهجا. وموقفه هذا يذكرنا بالمثل القائل: "نقول له: ثور. فيقول: احلبوه". وهذا البحث المضحك الجهول يبدأ على النحو التالى: "يتعلّق الأمر هنا بمجالٍ كانت فيه كلّ تدليسات وغشّ الفطاحِل من المؤلِّفين المسلمين جائزةً، وذلك من أجل إعطاء نبيّ الإسلام، على غرار يسوع المسيحيّين، نسَبًا يرقى هذه المرّة إلى آدم مباشرة بواسطة أجدادٍ عرب وعِبرانيّين. وتعرض سيرة ابن هشام ذلك بوضوح في أوّل سطورها"
وكما هو واضح يبدأ الكاتب كلامه باتهام العلماء المسلمين الكبار بالغش والتدليس، لكن دون أن يقدم دليلا على هذا الغش والتدليس المفترَى عليهم. فهو يزعم أنهم صنعوا للنبى نسبا كاذبا. فأين الدليل على أنهم كاذبون؟ قد يجد بعضنا أنه من الصعب تتبع الأنساب وتسجيلها على مدى كل تلك الأجيال دون أخطاء، لكن علماءنا القدامى كانوا يظنون أنه من الممكن الوصول بنسب الشخص إلى ذلك المدى البعيد. فهم، إذا صح أنهم مخطئون، كانوا مضلَّلين لا كاذبين. ولم يكذبون؟ أيريدون أن يصلوا نسب النبى بناس يرون أنهم أفضل منه، ومن ثم يكتسب بالانتساب إليهم شرفا لم يكن له أو يزداد شرفا على شرف على الأقل؟ لكن فات المستشرق الفرنسى الهجام العياب أن المسلمين يؤمنون بأن نبيهم أفضل الأنبياء، وبالتالى فهو ليس محتاجا إلى التعلق بأى شخص آخر يكتسب منه الشرف أو يستزيده. ألم يقل عليه السلام: "فُضِّلْتُ على الأنبياء بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جوامعَ الكَلِم، ونُصِرْتُ بالرُّعبِ، وأُحِلَّت لِيَ الغنائمُ، وجُعِلَت لِيَ الأرضُ مسجِدًا وطَهُورًا، وأُرْسِلْتُ إلى الخلقِ كافَّةً، وخُتِمَ بِيَ النَّبيُّونَ"؟ إذن فعلماؤنا لم يكونوا بحاجة إلى اختراع نسب له عليه الصلاة والسلام. ثم إن كتاب العهد الجديد قد فعلوا نفس الشىء مع المسيح: فأحد الأناجيل أوصل نسبه إلى إبراهيم، والآخر أوصله إلى آدم نفسه. فلماذا لم يتهمهم المستشرق العياب الهجام بالكذب والتلفيق هم أيضا؟ أما إبراهيم، وهو آخر حلقة فى نسب المسيح كما أشار المؤلف متجاهلا النسب الآخر الذى يصل إلى آدم، فلم ينازع العربَ أحدٌ فى صحة انتساب قسم منهم إليه، ومن ثم فمحمد، بوصفه واحدا من هؤلاء العرب، ينتسب هو أيضا إلى إبراهيم. ولقد كان اليهود يسمعون القرآن يؤكد أن جد العرب هو إبراهيم، بل كانوا يسمعون العرب حتى من قبل مجىء الإسلام يقولون نفس الشىء. ومع ذلك لم يحدث أن اعترضوا على ذلك رغم أنهم جعلوا هِجِّيرَاهم الإنكار على المسلمين فى كل أمر من أمورهم والتهكم به وبهم. فلولا أنهم يرون صحة ذلك الانتساب لما كفوا ألسنتهم عن الانتقاد العنيف القارص. وكيف كان يمكنهم أن يعترضوا أو ينكروا، وكتابهم المقدس يتحدث عن العرب بوصفهم ذرية إبراهيم من ناحية ابنه إسماعيل؟ بل لقد كان أهل الكتاب يسمون العرب والمسلمين: "الإسماعيليين" أو "السراسنة": الأولى نسبة إلى إسماعيل بن إبراهيم، والثانية نسبة إلى أَمَة سارة الفقيرة هاجَر، التى كانت أَمَةً لإبراهيم. وقد يسمونهم: الهاجَريّين أيضا نسبة إلى هاجر نفسها أم ابنه البِكْر إسماعيل. فأين المشكلة فى نسب النبى إذن؟ نعم يمكن أن تكون حلقةٌ أو أكثر قد سقطت هنا أو هناك أو تقدمت أو تأخرت عن موضعها أو نُطِق اسم حلقة من الحلقات نطقا خاطئا، لكن لم يحدث أن اعترض أحد من غير المسلمين لا من العرب ولا من غير العرب على هذا الانتساب إلى إبراهيم.
والمضحك أنه يعزو "اختلاق" هذه السلسلة النسبية له عليه السلام إلى أن "الذّهنيّات البدويّة، والعربيّة بصورة أوسع، كانت تفرض من جانبها أن يُقدَّم لها نبيٌّ يتمتّع بكلّ خصال آبائه، وأن يكون منغمسا تمام الانغماس في السياق القَبَلي، وذلك قبل أن يقود ثورته". ووجه الطرافة والإضحاك فى الأمر أنه يتحدث عن النبوات فى العرب وكأن النبوات كانت متصلة فيهم لا تتوقف واستقروا فيها على شروط ولوائح لمن يريد أن يكون نبيا مقبولا، مع أن القرآن لم يورد من أنبياء العرب سوى ثلاثة هم هود وصالح وشعيب ليس إلا، وكانوا ينتمون إلى الماضى السحيق. كما أن العرب، حتى من غير الأنبياء، كانوا حرصاء على تأصيل أنسابهم. ومن ثم فكلام المؤلف عن أن النبوة كانت تقتضى هذا لا يزيد عن أن يكون رغاوى صابون تتفقع للحال فى الهواء. ثم إن أولئك الأنبياء الثلاثة لم تكن معروفة أنسابهم لمعاصرى النبى، بل إننا لا نعرف أبا أى منهم. كذلك فسلسلة النسب الطويلة هذه إنما ظهرت فى كتب السيرة، أى بعد وفاة النبى عليه السلام بزمن طويل وبعدما انتشر الإيمان به بين العرب جميعا، بما يعنى أن نبوته صلى الله عليه وسلم لم تكن تقتضى هذا ولا استندت إليه أو استمدت قوتها منه كما يدعى الكاتب الهرّاف.
ثم إن نسب يسوع فى الأناجيل قائم على غير أساس، إذ ليس له أب: لا عندنا ولا عند النصارى، فنحن وهم نؤمن بأن ولادته إعجازية، أى من غير أب (بشرى)، وإن قالوا هم فى ذات الوقت بأنه ابن الله. ومن هنا فإن نسبة الإنجيل يسوعَ إلى داود هى نسبة غير صحيحة، إذ ينتهون بهذه النسبة الداودية إلى يوسف النجار، وفى ذلك ما فيه مما لا نحب التعرض له. كما أن فى حلقات ذلك النسب بكل يقين خروما أو زيادات، وتقديمات وتأخيرات طبقا لما نلاحظه من المقارنة بين نسبه فى إنجيل متى ونسبه فى إنجيل لوقا. فالإنجيلان لا يتفقان فى نسبه أبدا. وكان المؤلف حَرِيًّا أن يغلق فمه فلا يفتح هذا الموضوع لو رُزِق الحصافة. لكنه بكل الأسف لم يُرْزَقها، فكان ما كان.
وفوق هذا رأيناه يزعم أن هناك فرقا بين نسب يسوع فى التراث النصرانى ونسب محمد فى التراث الإسلامى: فالتراث النصرانى يقف بنسب يسوع عند إبراهيم فى حين توصّل السيرةُ نسبَ محمد إلى آدم كما قال. وقد استشهد على هذا بإنجيل متى حصريا مع أن النسب الذى أورده إنجيل لوقا، وهو من التراث النصرانى طبعا، يرتفع بيسوع إلى آدم أيضا. أما الفرق الثانى الذى يزعمه فهو أن نسب يسوع يبدأ من فوق حتى يصل إلى المسيح، لكن نسب يسوع، الذى يصل هو أيضا عند لوقا إلى آدم، يبدأ كذلك من تحت، أى من المسيح صعودا حتى آدم. فكلام البروفيسير إذن فاشوش لا حقيقة له. وهذا هو مستوى بروفيسير كبير فى جامعة من جامعات الغرب الكبرى.
ليس هذا فحسب، بل يدعى ذلك الجاهل أن العرب كانوا يصرون على أن يكون النبى الذى يأتيهم نبيا ذا نسب إنسانى. وهو بهذا يبرهن على أنه جهول جهلا مغلظا. وإليكم البيان: أولا كان هناك عرب نصارى كثيرون. فكيف يا ترى قبلوا الإيمان بالمسيح رغم نسبه الإلهى الذى تعطيه الكنيسة إياه؟ الشىء الثانى: ألا يعرف جاهلنا الكبير أن العرب كانت تعترض على نبوة محمد وترفض الإيمان به لأنه بشر، وكانت تريده ملاكا؟ لنقرأ: "وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)" (الإسراء). بل لقد قال هذا الكلام قبلا قوم نوح: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)" (المؤمنون)، وقيل هذا لرسول أتى من بعد نوح: "ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ (أى من بعد قوم نوح) قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)" (المؤمنون). كما قاله فرعون وملؤه لموسى وهارون: "ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)" (المؤمنون). وكذلك قالته ثمود لنبيهم صالح: "كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)" (القمر). وقاله قوم شعيب لشعيب: "وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)" (الشعراء). وقاله أيضا أصحاب القرية لرسلهم: "وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)" (يس). لقد كان هذا حال أقوام الأنبياء جميعا: "أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)" (التغابن). لقد طمس الله على عقل هذا الرجل، فأينما اتجه كانت الأبواب كلها مسدودة فى وجهه. ومع هذا يظن نفسه شيئا خطيرا! إن هذا لهو الخزى العظيم!
ثم يمضى الكاتب قائلا إنه سوف يركز على حلقة قريبة فى نسب النبى هى حلقة عبد المطلب وحدها تاركا الحلقات البعيدة المغلفة بالأساطير ومركزا على هذه لأن دراستها سهلة، إذ هى فى متناول أيدينا، ونستطيع أن ندرسها فى سياق التقاليد العربية والروايات المتعلقة بها والمتوفرة لدينا... إلخ. وتدور دراسته لعبد المطلب على الرغبة فى إثبات أن المقصود من اسمه لا أنه عبد عمه المطلب بل على أن المطلب اسم وثن عربى، وأن المسلمين اخترعوا حكاية عبوديته المتوهمة لعمه كى يبعدوه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون أحد من آبائه وثنيا، إذ كان كل همهم، كما يقول المستشرق، هو إزالة أى دنس عنه بكل وسيلة وسبيل.
وهنا يقول المستشرق الهجاص: "إنّ سلسلة النّسب المحمّدية لها طابع فريد من حيث أنّها لا تشمل أباه (ولا أمّه، ولكنّها تعتبر كمًّا مُهْمَلًا): عبد الله هو هيولى خارجيّة (ectoplasme)، كائن بلا تضاريس، بدون شخصيّة، ولا أهمّية له. فحتّى اسمه فهو شفّاف إلى أقصى حدود الشفافيّة، أو الأكثر تعتيما، هذا إذا كان يُخْفي هويّته الحقيقية. ولهذا يكون لزاما علينا أن نمرّ إلى مراتب الجدّ، وجدّ الجدّ، والجدود الجانببيّن (من الحواشي) ومن بينهم مرجعيّة محمّد الأساسيّة، وهو جدّه عبد المطّلب ومن خلفه شخص غامض: المُطَّلِب، وهو الشخص الذي يهمّنا هنا. محمّد ليس له أب، وهذا مفهوم بالضرورة، فهو بهذا يختلف عن الإنسانيّة. فلو كان قد خضع لسلطة أبويّة لكان قد فقد كلّ هيبته وكلّ كاريزما له في أعين الآخرين. وهو ليس أيضا أبا أحد (كما يقول القرآن) بمعنى أنّه لم يكن له ابن بقي على قيد الحياة. وهذا يمكن أن يكون مفتاح هذه الشّخصيّة: فبعض الآيات القرآنيّة يبدو أنّها تفسِّر هذه النقيصة. ولكن يبقى لمحمّد، وهو بدون أب ولا ابن، إلاّ النُّبوّة لكي ينجح في حياته وسط العرب (وهذا على غرار ما عاشه الإسبان تحت حكم الديكتاتور فرانكو. فحتّى يصبح الإسباني شخصيّة محترمة كان عليه أن يصير إمّا قسًّا أو عسكريًّا أو مصارع ثيران). وهذه الوضعيّة في الوسط القبلي هي وضعيّة خَطِرة ومؤثِّرة تدفع الفرد الذي يلحق به مثل هذا العار إلى البحث في كلّ مكان عن حماية ممكنة، عن رعاية أجداد وأعمام أو آلهة تكبر قوّتها وتنمو أكثر فأكثر. والله بدون شكّ هو الإله الذي بدأت قوّته تزداد في تلك الفترة".
وهذا الكلام هو مما يقال عنه: سمك، لبن، تمر هندى. فالمستشرق يبدأ قائلا إن محمدا لم يكن له أب لأنه لو كان له أب لفقد هيبته وسحره وجاذبيته كزعيم للعرب. ثم يعود فينقلب على نفسه قائلا إن كل من يعيش فى هذا المجتمع العربى لا بد له من البحث عن عزوة وحماية من أجداده وأعمامه. فكيف يبحث محمد صلى الله عليه وسلم عن عزوة، وهو قد تخلى عن تلك العزوة متمثلة فى أبيه؟ ثم إن المستشرق المخلول العقل يتحدث عن موت والد الرسول وكأن الرسول هو الذى تخلص من أبيه حتى تصير له جاذبية. ترى ألا يكون للشخص هيبة وجاذبية وسحر إلا إذا كان بلا أب؟ وهل كان محمد يخطط وهو فى بطن أمه ليكون نبيا فرأى أنه لا بد من التخلص من أبيه حتى يخلو له الجو، فخرج من بطن أمه ليلا فى غفلة منها ومن سائر أفراد الأسرة وهم نائمون، فقتل أباه ثم عاد سريعا إلى قواعده سالما قبل أن يكتشف أحدٌ الملعوب. إلا أن مستشرقنا اللوذعى قد فقس الفولة وقشرتها وعرف بالأمر كله وفضح الخطة. كلام سخيف ومتهافت وتافه وناقص المنطق والعقل والحياء جميعا، ثم يقول بعض الأوغاد من بيننا إن الدراسات الاستشراقية هى وحدها الدراسات العلمية المحترمة. خيبة الله عليكم وعليهم فى آن!
ثم إن والد الرسول لم يكن شخصا مجهولا. ألم تحك كتب السيرة عن زواج عبد الله بأمينة، وعن الفداء الذى نجاه الله به، وعن خروجه فى تجارة إلى الشام، وعن موته ومحمدٌ ما فتئ فى بطن أمه؟ لقد مات شابا فلم تكن هناك فرصة لإنجازات كثيرة يمكن أن تساق هنا. كما أن المستشرق يتراقص كالمخبول حول اسم عبد الله مدعيا أنه اسم شفاف أو معتم بمعنى أنه لا يقول شيئا بل يخفى عبد الله وراءه. وهو يرى أيضا أن هذا الاسم اسم نصرانى، فكأنه ينكر أن يكون اسم والد النبى هو عبد الله، الذى يرى فيه اسما لا نتوء له أو تضاريس ولم تكن تعرفه العرب. إنه اسم والسلام بمعنى أنه يمكن أن ينطبق على أى إنسان فى أى زمان ومكان. أليس كل منا عبد الله؟
لكن هذا الاسم كان معروفا لدى العرب فى الجاهلية كما توضح لنا الشواهد الشعرية التالية، ومن ثم لا يصح أن نقول إنه اسم شفاف أو معتم لا يعنى شيئا بل يراد له إخفاء شىء خلفه، وإنه لم يكن له وجود بين العرب. تقول ابنة أبى الجدعاء الطهوى فى رثاء أبيها:
دَعَا دَعْوَةً إِذْ جَاءَه ثَمّ مالِكًا ولم يَكُ عبدُ اللهِ ثَمَّ ونَهْشَلُ
كما كرر أبو مثلم الهذلى فى ميمية له هذا الاسم سبع مرات منها هذا البيت على سبيل التمثيل ليس إلا:
أَصَخْرُ بنَ عبدِ اللهِ إن تَكُ شاعِرًا فَإِنَّك لا تُهْدِي القَريضَ لِمُفْحَمِ
ويقول الجميح الأسدى:
عمرو بن عبدِ اللَّه إنَّ بهِ ضَنًّا عن الملحاةِ والشَّتْمِ
ويقول الحارث بن ظالم المرى:
وأفلت عبد الله مني بذعرةٍ وعروةُ من بعد ابن جعدةَ شاهدي
ويقول حاتم الطائى:
أَيا ابنةَ عبدِ اللهِ وَابنةَ مالِكٍ ويا ابنة ذي البُرْدَيْنِ وَالفَرَسِ الوَرْدِ
ويقول زهير بن أبى سلمى:
فَمَهْلاً آلَ عبدِ اللهِ عَدُّوا مَخازِيَ لا يُدَبُّ لَها الضَّرَاءُ
ويقول عمرو بن الداخل:
تَذَكَّرَ أُمَّ عبدِ اللهِ لَمّا نَأَتْهُ وَالنَّوَى مِنها لَجُوجُ
ويقول عنترة بن شداد:
فَإِن يَكُ عبدُ اللهِ لاقَى فَوارِسًا يَرُدّونَ خالَ العارِضِ المُتَوَقِّدِ
ثم يستمر هذا الملتاث فى هلوساته قائلا إن محمدا لم يبق له، كى تكون له حيثية بين العرب، سوى النبوة، وكأن محمدا قد اتخذ قراره بأن يكون نبيا. ما علينا! سوف نُعَدِّى له عن هذه ونقول إنه حر فى أن يؤمن أو لا يؤمن بنبوة رسولنا عليه السلام. ولكن من قال لذلك المتخلف إن النبوة هى التى ستأتى لمحمد الفاقد الحيثية فى مجتمع العرب بتلك الحيثية المفقودة؟ أترى مستشرقنا من الجهل وضياع العقل والفهم بحيث لا يعرف أن النبوة قد جَرَّتْ على النبى المتاعب والبلايا والمؤامرات والشتائم والقذف بالحجارة والتخطيط لقتله ومطاردته فى الشوارع وعبر طرق الصحراء وفرضت عليه الدخول فى معارك طاحنة وعرَّضَتْه لمؤامرات اليهود والمنافقين والمشركين؟ ألا لعنة الله على الكافرين، وبخاصة إذا كانوا كافرين ثقال الظل وخيمى الشخصية! والحمد لله أن النبى ظهر فى المجتمع العربى آنذاك ولم يظهر فى أسبانيا على عهد الجنرال فرانكو، وإلا كان، أستغفر الله، مصارع ثيران كما يلمح الكاتب السخيف العقل البارد الطبع؟ لو كان عنده شىء من الفهم لعرف أن أصحاب الرواج بين العرب فى ذلك الوقت هم الشاعر والمحارب والكاهن لا النبى. لكن ماذا نقول فيمن أراد الله طمس بصيرته فساقه إلى حتفه بظلفه، وأوقعه فى معالجة هذا الموضوع كى يكون فرجة لكل إنسان؟ وخيبة الله أيضا على ناصر بن رجب مترجم المقال السخيف، ذلك الصغير الرأس دلالةً على ضعف العقل وقلة الفهم، إذ يظن أنه بترجمته لذلك المقال بأسلوبه الركيك المتعاظل قد أتى بالذئب من ذيله!
ونعود إلى زعم الكاتب المتهافت بأن محمدا قد أراد ألا يكون له أب حتى لا يفقد هيبته وكاريزماه، وكأن محمدا صلى الله عليه وسلم أنكر أن يكون له أب. ولنفترض أنه أنكر أباه، ولا أدرى كيف، أفلم يذكر كتاب السيرة جده وأنه هو الذى رباه وعطف عليه وأكرمه وكان له خير عوض عن أبيه، وكان يفيض عليه الاهتمام ويقربه إليه فى مجلسه عند الكعبة؟ ألم يقولوا إن عمه أبا طالب قد كفله بعد جده؟ ألم يقولوا إن أبا طالب هذا هو الذى حماه من المشركين وهو يؤدى دعوته ولم يتخل عنه يوما قط؟ ألم يقولوا إن خديجة وقفت معه بمالها وحبها وتعاطفها وإيمانها واهتمامها؟ ألم يقولوا إن العام الذى مات فيه هذان الاثنان قد سمى: عام الحزن؟ ألم يقولوا إن حمزة قد ضرب أبا جهل بقوسه على رأسه عند الكعبة يوم أتاه الخبر بأن هذا الفظ الجهول قد أساء إلى ابن أخيه، ثم زاد فأعلن يومذاك أنه من أتباعه وتحدى بذلك المشركين جميعا؟ ألم يقولوا إن حليمة السعدية قد أخذته وأرضعته رغم يتمه وقلة ماله وإنه ظل يذكر لها هذا الأمر حتى بعد أن صار نبيا وزعيما يطير اسمه فى الآفاق، وأكرم ابنتها (أخته من الرضاع) بعد سنوات طوال احتراما لهذه الذكرى الجميلة؟ ألم يقل كتاب السيرة إن العباس عمه قد وقف إلى جواره ليلة العقبة كى يطمئن إلى أن أهل يثرب لن يتخلَّوْا عنه بعد أن يهاجر إليهم طبقا للاتفاق بينهم وبينه؟ ألم يذكر هو للأنصار جميلهم هذا بعد الهجرة يوم شعروا بشىء من الغضاضة حين أعطى ناسا شيئا من الغنائم أكثر مما أعطاهم، فظنوا أنهم قد فقدوا مكانهم عنده؟ ألم يعترف هو نفسه بأيدى أبى بكر عنده حتى لقد سماه: "خليل الله"؟ هل نال هذا كله من كاريزماه؟ أبدا بل زادها تألقا. وهكذا نرى أن كلام المؤلف هو كلام لا رأس له ولا ذيل، وأنه لا يزيد عن كونه ذبذبات صوتية فى الهواء لا تعنى شيئا!
ونعود إلى زعم المؤلف بأن محمدا أنكر أباه، إذ يشير إلى ما أعلنه فى بعض المواقف من أنه "ابن عبد المطلب": " وكمثال على ذلك ما حدث في المعركة ضدّ هوازن (غزوة حنين). وفي لحظة حاسمة، وعندما أراد أن تنصاع له جيوشه ولكي يحضّها، قام محمّد باستخدام المشاعر القبليّة وتَحدَّى قوانين البيولوجيا حين صرخ في الجموع مناديا لمّا حَمِيَ الوطيس: "ولقد رأيت رسول الله على بغلته البيضاء وإنّ أبا سفيان ابن الحارث آخِذٌ بزمامها، وهو يقول: أنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ. أنا ابْنُ عبْدِ المُطَّلِبْ". هناك حديث يقدّم لنا كيف كان كفّار تلك الفترة ينادون محمّدا: "يَقُولُ (أنس بن مالك): بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النبِي صَلى اللهُ عَلَيهِ وَسَلمَ فِي المَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثُم عَقَلَهُ ثُم قَالَ لهم: أيكم محمدٌ؟ والنبي صلى الله عليه وسَلمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِم، فَقُلنَا: هَذَا الرجل المُتَّكِئُ. فَقَالَ لَهُ الرجُل: يَا ابنَ عَبدِ المُطَّلِب. فَقَالَ لَهُ النبِي صَلى اللهُ عَلَيهِ وَسَلّمَ: قَد أَجَبْتُكَ". فالأب يقع إنكاره وإنكاره مرّات ومرّات على عين الملإ من طرف ابنه. والجدّ يحصل، بعد الوفاة، على صفة الأب".
وليس فى ذلك أية غضاضة، بل هو إشارة إلى أن جده هو الذى رباه بعد أن مات أبوه وهو فى بطن أمه حتى إن بعض من كانوا يفدون عليه من العرب كانوا، كما شاهدنا، يستعملون للجد هذا الاسم. ولقد لقن هو نفسه زوجته صفية أن تقول لضراتها اللاتى كن يضايقنها بذكر أنسابهن إنها ابنة موسى، وإن عمها هارون، مع أن هذا غير صحيح فى الواقع بل على المجاز. كما ذكر القرآن أن اليهود، عندما رأوا مريم تحمل عيسى على صدرها دون أن تكون قد تزوجت، قرَّعوها قائلين: "يا أخت هارون، ما كان أبوكِ امرأ سَوْءٍ، وما كانت أمُّكِ بغيًّا". وقد شغب وما زال يشغب أهل الكتاب متسائلين: كيف ينسب القرآن مريم أم عيسى إلى هارون باعتباره أخاها مع ما يفصل بينهما من القرون المتطاولة؟ رغم أن القرآن ليس هو الذى نسبها إلى هارون، بل هو مجرد راو لما وقع ليس إلا. كما أن الكتاب المقدس مفعم بمثل ذلك النسب أبوةً وبنوةً وأخوةً على ما توضح مواد "أب" و"أخ" و"أخت" فى "دائرة المعارف الكتابية". وما أكثر ما سمعنا هذا الشاعر الشعوبى أو ذاك وهو يتنفج على العرب بأنه ابن قيصر أو ابن كسرى (أو ساسان) رغم أنه لا يربطه شىء لا بهذا ولا بذاك، بل كثيرا ما يكون صعلوكا حقيرا لا قيمة له فى عالم الأنساب. وهذا من الشهرة بحيث لا أحتاج إلى سوق الشواهد عليه.
وما دام الشىء بالشىء يذكر فإن المسيح يسمى فى الأناجيل: "ابن داود" مع أن داود ليس جده بيولوجيا كما وضحنا آنفا على عكس عبد المطلب، الذى ينحدر محمد من صلبه فعلا، علاوة على أنه هو الذى رباه منذ ولادته إلى أن بلغ ثمانى سنوات. وفى الكتاب المقدس كثيرا ما ينسب الشخص إلى من ليس بأبيه أو أخيه البيولوجى لكثير من الاعتبارات كما هو معروف. ومن يرد التحقق من هذا فليرجع إلى مواد "أب" و"أخ" و"أخت" فى "دائرة المعارف الكتابية" كما قلت قبل قليل. وعلى هذا فلا معنى للقول بأن محمدا، حين انتسب إلى جده عبد المطلب، قد تحدى قوانين البيولوجيا كما يقول الكاتب. وكيف يتحدى قوانين البيولوجيا، وهو فعلا من ظهر عبد المطلب عبر عبد الله بخلاف الأُبُوّات والأُخُوّات المجازية الكثيرة فى الكتاب المقدس التى لا تسندها أية قوانين بيولوجية بحال؟ وكانت قريش، تعبيرا عن غيظها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسميه بـ"ابن أبى كبشة" تشبيها له برجل خالفها فى عبادة الشعرى كما خالف محمد قومه فى عبادة الأوثان. كما كان رسول الله عليه الصلاةوالسلام كثيرا ما يسمى عبد الله بن مسعود: "ابن أم عبد". أتراه كان يجهل أن أباه هو مسعود؟ وكانت خديجة تنادى رسول الله زوجها أحيانا بـ"يا ابن عم" مع أنها كانت من عشيرة غير عشيرته.
ومع هذا فالغالب فى المواقف المختلفة أن يُذْكَر أبو الرسول رغم موته وهو جنين فى بطن أمه فلم يكتب له أن يناديه بـ"يا أبى" قط: فعن عفيف الكندى: "كُنْتُ امرأً تاجرًا فقدِمْتُ مكَّةَ فأتَيْتُ العبَّاسَ بنَ عبدِ المطَّلبِ لأُبايِعَ منه بعضَ التِّجارةَ، وكان امرأً تاجرًا. قال: فواللهِ إنِّي لعندَه بمنًى إذ خرَج رجلٌ من خباءٍ قريبٍ منه إذ نظَر إلى السَّماءِ، فلمَّا رآها مالَت قام يُصلِّي... قال: فقُلْتُ للعبَّاسِ: يا عبَّاسُ، ما هذا؟ قال: هذا محمَّدٌ ابنُ أخي ابنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطَّلبِ...". وعن ابن عباس "أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لخديجةَ: إني أرَى ضوءًا وأسمعُ صوتًا، وأنا أخشَى أن يكونَ بي جِنٌّ. قالت: لم يكنِ الله ُليفعلَ ذلك بك يا ابنَ عبدِ اللهِ...". وفى صلح الحديبية رفض المشركون أن يكتبوا فى الاتفاقية "محمد رسول الله" وكتبوا "محمد بن عبد الله" وأمضى صلى الله عليه وسلم الأمر كما أرادوا. "جاء العَبَّاسُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وكأنَّهُ سمعَ شيئًا، فقامَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على المِنْبَرِ فقال: مَنْ أنا ؟ فَقَالوا: أنتَ رسولُ اللهِ عليكَ السلامُ. قال: أنا محمدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ...". حتى الحديث الذى ساقه المستشرق ليدلل به على أن رسول الله كان يهمل تماما ذكر أبيه، وهو الحديث الذى يقول فيه رسول الله يوم انهزم فى بداية الحرب مع ثقيفٍ صحابته، فناداهم كى يفيئوا إليه قائلا: "أنا النبى لا كذب. أنا ابن عبد المطلب" هذا الحديث له رواية أخرى تقول إنه نادى صحابته يومئذ بقوله: "أين أيُّها النَّاسُ؟ أنا رسولُ اللهِ وأنا محمَّدُ بنُ عبدِ الله". "خطبَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم فقالَ: أَنا محمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ المطَّلبِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ مَنافِ بنِ قصيِّ بنِ كلابِ بنِ مرَّةَ بنِ كعبِ بنِ لؤيِّ بنِ غالبِ بنِ فِهْرِ بنِ مالِكِ بنِ النَّضرِ بنِ كنانةَ بنِ خُزَيْمةَ بنِ مُدْرِكَةَ بنِ إلياسَ بنِ مُضرَ بنِ نزارٍ. وما افترقَ النَّاسُ فِرقتينِ إلَّا جعلَني اللَّهُ في خيرِهِما". وعن أنس بن مالك "أنَّ رجلًا قال: يا محمَّدُ , يا سيِّدَنا وابنَ سيِّدِنا, وخيرَنا وابنَ خيرِنا. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عليكم بقولِكم، ولا يستهويَنَّكم الشَّيطانُ. أنا محمَّدُ بنُ عبدِ الله، عبدُ اللهِ ورسولُه. واللهِ ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي الَّتي أنزلني اللهُ عزَّ وجلَّ".
ويا سيدنا المستشرق، ترى لو كان النبى عليه الصلاة والسلام يضع اعتبارات الهيبة والكاريزما فى حسبانه فلماذا كان متواضعا غاية التواضع حتى ليقول عن نفسه لرجل ارتعد فى حضرته مهابة وخشية: هَوِّن عليك يا أخى، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة؟ ولماذا قال فى موقف آخر: إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد؟ ولماذا لم يتخذ الجلاوزة والحراس يمنعون الناس من الاقتراب منه حتى تظل صورته بعيدة عن الخدش؟ ولماذا صبر على البدوى الجلف الذى شده من طوق جلبابه وقال له فى غلظة: "أعطنى من مال الله لا من مالك ولا مال أبيك"، فلم يعاقبه أو يعنفه؟ ولماذا كان يعلن أمام الناس جميعا أنه كان يرعى الغنم مقابل أجرة؟ ولماذا نجد فى القرآن عتابا له بما يدل على أن السماء لا توافقه على هذا الرأى أو ذاك الموقف أو ذلك القرار؟ ولماذا قال القرآن له: "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل، وما أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم"؟ ولماذا يقول له القرآن أيضا: "ليس لك من الأمر شىءٌ أو يعذِّبَهم أو يتوبَ عليهم"؟ ولماذا قال عن نفسه: إنما أنا بشر، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر، فأقضى له بغير حقه؟ ولماذا يوم سها وصلى إحدى الصلوات الرباعية ركعتين اثنتين فقط أقر، حين نُبِّه إلى هذا، أنه سها، ولم يقل مثلا إن الصلاة قد خففت هذه المرة إلى ركعتين بدلا من أربع؟ ولماذا كان ينزل إلى قبور الفقراء يدفنهم بيده؟ ولماذا كان إذا سافر مع رفقة له اشتغل كما يشتغل أى واحد فى الرحلة رغم تسابق الجميع إلى إعفائه من العمل وحرصهم على راحته؟ ولماذا كان يعمل فى حفر الخندق ولم يتذرع بأنه القائد وجلس فى الظل مرتاحا مكتفيا بمراقبة العاملين وتوجيههم من بعيد؟ ولماذا بكى أمام قبر امه وعند موت صغيره إبراهيم بكاء شديدا، ولم يتمالك نفسه أو على أقل تقدير: لم ينعزل عن الناس فيبكى ملء جفونه لكن بعيدا عنهم حتى لا يطلعوا على ضعفه فتظل صورته فى نظرهم ثابتة لا تهتز؟ ولماذا، حين رأى أخته البدوية من الرضاع بعد عشرات السنين، فرش لها ثوبه كى تجلس معززة مكرمة، ولم يتشامخ بأنفه ويتجاهلها حتى لا يبدو سهل المنال رخيصا كما يفهم الناس الرخص وسهولة المنال؟ أهذا سلوك من يحرصون على المهابة والكاريزما؟ أم هل هو سلوك التلقائيين البسطاء النفس والضمير؟
وهكذا يرى القارئ كيف أن المستشرق يأتى إلى أى شىء يخدم قضيته رغم قلة قيمته فيلقى عليه الضوء ساطعا وهاجا، ويهمل فى ذات الوقت النصوص الكثيرة التى تكشف خزيه وتهافت موقفه وتفاهة رأيه. ثم يمضى المستشرق المدلس قائلا: "نصل الآن إلى مرتبة الجدّ، إلى كبير الأعيان ذائع الصّيت هذا. الوثائق غزيرة بشأنه، وخاصّة حول شبابه؛ ولكن كلّها تهدف إلى غرض واحد وحيد هو تفسير، بشكل أو بآخر، لماذا كان يحمل هذا الاسم، وهو بكلّ وضوح، من حيث تركيبه بإضافة "عَبْد"، اسم إله، ولكن قبل الإسلام، وليس هو اسم "عبد الله" الذي يمكن أن يُبَرَّر بأنّه اسم مسيحي... والقصص التي تُرْوَى من أجل إدخاله على خشبة المسرح الرئيسة، أي مكَّة، هي أُحْدوثات (حكايات صغيرة) تدور حول تركيبة اسمه المثيرة للإرباك والمتمثِّلة في "عَبْد" لشخص يُدْعى "المُطَّلِب". وللخروج من هذا المأزق عمد نوابغ الكتّاب المسلمين إلى إقحام عمِّه في المسألة أخي هاشم، الذي كان يحمل نفس هذا الاسم. إجمالا، الرّوايات حول هذا الموضوع تتشابه ولا تفتَرِق إلاّ في جزئيّات طفيفة. فهي تحكي قصّة جلب الصَّبي شَيْبة من يثرِب إلى مكّة... ويصوِّر المأثورُ الإسلاميُّ الغلامَ عائدًا على ظهر بَعِير عَمِّه وهو راكب خَلْفه، وذلك لسبب سخيف لا يقبله العقل. فعندما رَأَتْهُ جُمُوع مكَّة قادمًا وهو خلف عمّه ظنّت أنّه عبد له ...: "وَقدِم ثابت بن المنذر بن حِزام، وهو أبو حسّان ابن ثابت الشّاعر، مكّةَ مُعْتَمِرًا فلقيَ المُطَّلب، وكان له خليلا، فقال له: لو رأَيْتَ ابنَ أخيكَ شَيْبة فينا لَرَأيْتَ جَمالا وهَيْبة وشَرَفًا. لقد رأيْتُه وهو يُناضِل فتْيانًا من أخوالِه فيُدْخِل مِرْمَاتَيْه جميعًا في مثل راحَتي ويقول كلما خَسَقَ (أصاب المرمى بسهمه): أنا ابن عَمْرِو العُلَى! فقال المُطَّلب: لا أُمْسي حتّى أَخرُج إليه فأَقْدَم به... فخرج المُطَّلِب فوَرَد المدينة فنَزَل في ناحية وجَعل يسْأَل عَنْه حتّى وجَدَه يرمي في فِتْيانٍ من أَخْوالِه. فلمّا رَآهُ عَرَف شيْبَةُ أَبَاهُ فيه، ففاضت عيناه، وضمَّه إليه وكَساهُ حُلَّةً يمانيّة وأنْشَد يقول:
عَرَفْتُ شَيْبَةَ والنَّجّارُ قدْ حَفَلَتْ * أَبْناؤُها حولَه بالنَّبْلِ تَنْتَضِلُ
عَرَفْتُ أَجْلادَه مِنّا وشِيمَتَهُ * ففَاضَ مِنِّي عليه وابِلٌ سَبَلُ
ودخَلَ به المُطَّلب ظُهْرًا، فقالت قريش: هذا عبد المُطَّلِب! فقال: فلم يزل عبد المُطَّلب مُقيمًا بمكّة حتّى أَدْرَكَ".
ثم يعلق الكاتب على ذلك قائلا: "من الصّعب جدًّا، سواء في ذلك العصر أو في يومنا هذا، أن نَعْتَقِد في صْحَّة خُرافةٍ كهذه والتي تتناقض أشدّ التناقض مع قواعد الشّرف لدى البَدْو... إنّ روح الفُكاهة العربيّة ما قبل الإسلام كانت معروفة جدًّا في الشّعر: فهي تأخذ شكل الهِجَاء والتّهجّم العنيف ضدّ الآخرين، وهي قد تكون سُخرية لاذِعة، وكذلك قد تُعبّر عن اليأس، ولكّنها لم تكن أبدًا تسمح لنفسها بالقَدْح في الظّروف الاجتماعيّة للفَرْد والحَطِّ منها. فعبد المطَّلب لم يكن ليعيش طيلة حياته وهو يحمل اسمًا مُخْزِيًا يُعبِّر عن العُبوديّة، وهذا بسبب الخطَأ الذي ارتكبه بَعْضٌ من عامّة قريش. وهي أيضا تتهكّم على مكانة جدّ محمّد وتتحدّث عنه بكلّ استخفاف، في حين أنّ كلّ التقليد الإسلامي، عندما يتناول مسألة محمّد ومحيطه وأقاربه، يُظْهِر دائما احتراما مطْلَقًا لم يَحِدْ عنه أبدًا... في عالم قُدَماء العرب أنْ يكون المرء عبدًا لإنسان فذلك كان يُعَدُّ عيبًا من أبشع العيوب. أمّا أن يكون عَبْدًا وخادِمًا لإله من الآلهة فذلك كان فخْرًا لا يُضاهيه فخر. غير أنّ الكلمة كانت مع ذلك هي نفسها، "عبيد" أو "عبد". ولكي يتجنَّب الأدب الإسلامي تعريض سُمْعَة محمّد للخَطَر لجأ إلى اللّعب على الغموض الذي يكتنف هذه اللّفظة، ولم يتردّد في تحقير شَيْبَةَ بإعطائه مكانةً وضيعَة".
ومستشرقنا يرفض تلك الرواية لغاية فى نفس يعقوب، ألا وهى الزعم بأن المطلب ليس اسم شخص، بل اسم إله. أى أن عبد المطلب هو عبد إله وثنى. يريد أن يقول إن جد النبى كان يعبد هو وأهله الأوثان: "كلّ الروايات تعطي الانطباع بأنّ المُطَّلب لا معنى لوجوده سوى إضافة حَجَر إلى البناء الرئيسي، ألا وهو سلسلة نسب نَبيّ المسلمين وإثبات وجوده، وهو الذي يحضى بكلّ أشكال الطّاعة والخشوع. كلّ الأشخاص الآخرين مُسَخَّرون لهذه القضيّة، ولكنّنا هنا أمام حالة جليّة للعيان لأنّ المُطَّلب موجود فقط لتفسير اسْمِ شخص آخَر. ففي كلّ مصنّفات الحديث، بالرّغم من أنّها مُفعَمة بالأسماء، لم أعثُر إلاّ على "مُطَّلب" واحد في سلسلة الأسانيد: "حدَّثَني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن السّائب بن يزيد عن المُطَّلِب بن أبي وَدَاعَةَ السَّهْمِيّ...". في أكبر خَزين للنّقوش في شمال وجنوب شبه الجزيرة العربيّة لا يوجد بين الأسماء العربيّة التي عُثِر عليها أيُّ "مُطَّلِبٍ" واحد. فلو كان الأمر مُقتَصِرًا على الأدب فقط فإنّه يحُقّ لنا الاعتقاد بأنّ المأثور الإسلامي سارَع بمحو آثار كلّ ذِكر لاسم "المُطَّلب" حفاظًا على وحدة وتماسك نسب نَبيِّه. ولكنّ المصدر النقشي هو أقلّ خضوعًا للرّقابة من غيره من المصادر. فعلى امتداد ملايين الكيلومترات المربّعة وعلى امتداد قرون كان من المفروض أن يظهر هذا الاسم في مكان مّا.
باختصار شديد: هذه الشّخصيّة هي ظِلٌّ يُخْفِي وراءه حقيقة، شائبة، وصْمَة، أمرا مُشِينا. وقد حاولت الأخبار والرّوايات تغطية ذلك حتّى لا تنتقل عدواها إلى الشّخصيّة النّقية، شخصيّة محمّد بذاتها. فكلّ مُطَّلِعٍ على سيرة النّبيّ، وخاصّة في فترة صِبَاه، ما قبل الإسلام بطبيعة الحال، يُدْرِك مدى العناية الفائقة التي وقع اتّخاذُها لكي يُبْعَد عنه أيّ احتكاك بشعائر آلِهَة النّظام القديم، وذلك باستخدام أساليب قد تبدو في بعض الأحيان مضحِكة. إنّ معرفة هل كان محمّد، قبل مبعثه ونزول الوحي عليه، مُشْرِكًا أم لا تظلّ إلى يوم النّاس هذا مسألة حارِقة في العالم الإسلامي قد تصل إلى درجة الهوَس. إنّنا لم نزل بعد في صُلْب المشكلة مع مسألة "المُطَّلِب". فقد كان من الضروري على الإطلاق، حتى ولو تطلَّب الأمر استخدام حكايات شاذّة، تحوير معنى "عبد المُطَّلب"، جاعلين منه عبْدًا لإنسان عِوَض خادِمٍ لِصَنَم. فقد كان من الواجب تجنيب محمّد الوقوف أمام الملإ ويُعلِن أنّه ابنُ عبدِ إلَهٍ قديم (صنم من أصنام الجاهليّة)... هذا بالإضافة إلى انّ الوضعيّة تتعكَّر أكثر إذا ما ثبتت الرّوايات بأنّ عبد المُطَّلب كان عابدًا حقيقيًّا للأوثان".
ورغم أنه ليس هناك أى إله عند العرب (ولا عند غير العرب) اسمه "المطلب" فإن مستشرقنا لا يكف عن هلوساته وتهوساته فيقول: "يجب علينا الآن أن نجْرُأَ على إعلان ذلك بصوت أعلى: المُطَّلِب لم يكن إِنْسانًا، ولكنّه كان إلَهًا. إلهٌ لا نعرفه إلاّ بفضل رجل يُكَنَّى به، كما يقول هو ذلك بنفسِه "عَبْدِي"، "عبد لي"، "عبد المُطَّلِب". ولكنّ هذا ليس استِثْناءً. هناك العديد من الآلهة العربيّة القديمة لم يستطع العلم الحديث التّعرُّفَ عليها إلاّ من خلال عِلْم أسماء الأَعْلام، بواسطة الأسماء التي تحمل آلهة. ففجأة، ومن خلال اكتشاف اسم واحد منقوش على الحجارة، إلاّ ويَبْرُزُ من العدم إلَهٌ عَربيّ. الديانة العربيّة القديمة هي ديانة وثنيّة تحتوي على العديد من الآلهة العامّة أو المحلّية التي يمكن أن تنحصِر في بيت أو في إطار عائلة واحدة. هناك "عبد المُطَّلِب" الذي وُهِب عند ولادته إلى الآلهة، ويجد نفسه بحكم كُنْيَته مرتَبِطا إلى الأبد بهذه القوّة الخارقة للطّبيعة. ليس بحوزتنا أيّ أثر لوجود مثل هذا الإله في وسط الجزيرة العربيّة. ولكنّ النّقوش في هذه المنطقة نادرة جدًّا، والنّصوص الإسلاميّة دأبت على محو آثارها إن عثرت عليها. بالمقابل نجد في جنوب الجزيرة، الذي يُحدِّده المأثور الإسلامي، كما سبق ورأينا، كوِجْهَة لرحلات المُطَّلب وكمكان لوفاته، آلهة متواجدة فيه بكثرة تحمل اسم "طَلَب": وظيفة هذه الآلهة كانت حماية أماكن خاصّة وقبائل مُعيَّنة، وخاصّة حماية قطعان الأنعام. و"طَلَب" هذا مُمثَّل في شكل حيوان هو العَنْز البَرِّيّ والذي نجده منحوتًا على جدران المعابد. كما يمكن أن يُشبَّهَ بالقَمَر، وهو موجود في كلّ مكان... وسط الجزيرة العربيّة، حول مكّة، عالَمُ الآلهة غير معروف كما هو الحال مع آلهة جنوب الجزيرة. ففي هذه المنطقة الأقلّ تَطوُّرًا قدّمت لنا النُّقوش المعروفة قليلا جدّا من الوثائق. والأدهى من ذلك أنّ الأدب الإسلامي قام إمّا بفسخ أو مسْخِ عالم الآلهة الذي سبق مجيء الإسلام. ومعرفتنا به تنحصِر بصورة أساسيّة في كتابٍ يتيمٍ هو كتاب "لأصنام" لابن الكَلْبي الذي لا يذكر أيّ إله يحمل اسم "المُطَّلب"...".
فكما نرى بكل وضوح يعمل المستشرق بكل جهده المسعور على أن يعبث باسم جد النبى، وينكر الرواية التى يوردها كتاب السيرة تفسيرا لذلك الاسم رغم أنه تفسير معقول جدا. وحتى لو رفضه أحدنا فإن رفضه له لا يستلزم أبدا كل هذا الخلط والتلبيس والاختراع والكذب والتزييف. من حقك أن ترفض الرواية التى تشرح سبب تسمية عبد المطلب بهذا الاسم، لكن ليس من حقك ممارسة كل هذا الاعتساف والتغشمر وشغل الثلاث ورقات لإثبات شىء لا يمكن إثباته. أولا: ما الدليل على أنه لا يمكن أن يقول العرب الجاهليون فى تسمية شخص من الأشخاص: "عبد فلان"؟ ألم يأت مستشرقَنا اللوذعىَّ خبرُ الأبيات التالية؟ يقول الأسود بن يعفر النهشلى:
خالي ابنُ فارِس ذي الوُقوف مُطلقٌ * وأبي أبو أَسماءَ عبدُ الأسودِ
وتقول جيداء بنت زاهر الزُّبَيْدية:
كانَ لي فارسٌ سقاهُ المنايا * عَبْدُ عبسٍ بجَوْرهِ والتعدّي
ويقول الحصين بن حمام الفزارى:
أَقيمي إِلَيكِ عَبْدَ عَمرٍو وَشايِعي * عَلى كُلِّ ماءٍ وَسْطَ ذُبْيانَ خَيَّما
* * *
جَزَى اللَهُ عَنّا عَبْدَ عَمرٍو مَلامَةً وَعَدْوانَ سَهْمٍ ما أَدَقَّ وَأَلأما
وتقول الخرنق بنت بدر:
أَرى عَبْدَ عَمرٍو قَد أَساطَ ابنَ عَمَّهِ وَأَنْضَجَهُ في غَلْيِ قدرٍ وما يدري
* * *
أَلا ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ عَبْدَ عَمرٍو * أَبالخِزيات آخَيْتَ المُلوكا؟
ويقول زهير بن جَنَاب الكلبى:
فَجَّعتُ عَبْدَ القَيْسِ أَمسِ بِجَدِّها * وَسَقَيْتُ هَدّاجاً بِكَأْسِ الأَقْزَلِ
ويقول طرفة بن العبد:
يا عَجَبا من عَبْدِ عَمْروٍ وَبَغْيِهِ * لَقَد رامَ ظُلْمي عَبْدُ عَمروٍ فَأَنعَما
وهناك أيضا "عبد الدار" و"عبيد العصا" مثلا. وفى مواجهة هذا يقول النبى عليه السلام: "لا يَقُلْ أحدُكم: أَطْعِمْ ربَّك، وَضِّئْ ربّك، واسْقِ ربّك. ولا يقُلْ أحدٌ: ربي. ولْيقُلْ: سَيِّدي، ومولاي. ولا يقلْ أحدُكم: عبدي، وأَمَتي. ولْيقُل: فتاي، وفتاتي، وغلامي". كما كان يغير الأسماء والألقاب ذات النكهة الوثنية بأسماء ليس لها تلك النكهة. وهذا متعالم مشهور.
وفى عالم الألقاب كل عجيب وغريب. وقد كان عند العرب من الأسماء جحش ويعفور والشَّنْفَرَى وقُرَاد وكلب وكليب وجمل وثور وحنش وحية ومعاوية والمشؤوم وتأبط شرا والكذاب والسكران والأبرش وذو الإصبع وأم ندبة مثلا. وبعد الإسلام رأينا الأبجر والأخطل وجرير والفرزدق والجاحظ وجحظة وديك الجن وشيطان الطاق والموسوس والمجنون ومسروق وابن خروف والأخفش والأعمش والأعمى وابن عُنَيْن وقبيحة، وكلهم شعراء وعلماء وأدباء ومفكرون وقادة كبار، وليسوا ناسا مغمورين لا قيمة لهم. وفى عصرنا هذا لدينا "خدّام" لقب سياسى كبير فى سورية، و"البغل" صاحب أشهر مطاعم للفول والطعمية فى محافظة الغربية، ويعلق لافتة طويلة عريضة باسمه على محلاته المختلفة تفاخرا بلقبه، وعندنا كذلك فى مصر "الخَـ .. َل"، وهو فسخانى مشهور جدا فى القاهرة، ويصر على كتابة اسمه على دكانه كأنه مفخرة يُحْرَص عليها. ومن الألقاب المشهورة عندنا أيضا "الشحات" و"الحشاش" و"أبو حشيش" و"زعلوك" و"الأقرع" و"ملوخية" و"عدس" و"طبل" و"أبو الريش" و"أبو الرُّوس" و"بصل" و"الحيوان" و"غراب" و"قطة" و"خيشة" و"سمك" و"البلطى" و"فسيخ" و"خنفس" و"الناقة" و"الديك" و"الضبع" و"العبد" و"الجبان" و"العاصى". وكان فى قريتنا أيام طفولتى وصباى امرأة لا يقال عنها إلا "فلانة المعرّصة"، ولا أدرى السبب. وقد ماتت يرحمها الله. وكان فى قريتنا أيضا "فلان أبو فشلة"، وانتقل أيضا إلى العالم الآخر رحمه الله. والناس تتعايش بطريقة أو بأخرى مع اللقب المسىء. وقد يضيقون به وينقمعون فى البداية، لكن سرعان ما تتغير الأحوال كما حدث مع بنى "أنف الناقة"، إذ كانوا يشعرون بالعار من ذلك اللقب إلى أن قال فيهم شاعرٌ مادحًا:
قومٌ هم الأنف، والأذناب غيرهمو * ومن يسوِّى بأنف الناقة الذَّنَبا؟
فانقلبت الآية منذ ذلك الحين، وصاروا يتفاخرون به. ثم إن لقب "عبد المطلب" لا يعبِّد صاحبه لرجل غريب، فضلا عن أن الأمر لايعدو أن يكون سوء فهم لا عبودية حقيقية، فهو لا يسوؤه على أى حال.
ورغم ذلك كله ورغم أنه لا يوجد وثن أو إله عند العرب (ولا غير العرب) اسمه "المطَّلِب" يصر مستشرقنا فى عنادٍ بِغَالِىٍّ على أنه لا بد أن يكون هناك وثن بهذا الاسم! أين؟ وكيف؟ وما الدليل؟ هو كذلك، والسلام! ثم يتمطى وينطلق إلى اليمن قائلا: هنا يوجد وثن اسمه "طلب"، و"طلب" و"المطَّلب" قريب من قريب. أليسا مشتقين من نفس الجذر؟: "ولكي نعود إلى إلَهِنَا الجديد فإنّ المُطَّلب يمكن أن يُفْهَم بمعنى "الشخص المطلوب"، "الشخص الذي ننتظر منه شيئا ما"، وذلك بكلّ ورع وخشوع. وهذا الاسم يتماشى بصورة جيِّدة مع إطار نظام دينيّ تَعَاقُديّ يكون فيه من الطّبيعي جدًّا أن يَطْلُب المرْءُ من قوّة إلهيّة أن تُغدِق عليه نِعَمًا كثيرة. وللتَّذكير كانت قريش، كما رأينا، تُطْلِق على عبد المُطَّلِب لقب "الفَيْض" لسماحته وسخائِه".
وهو كلام يعكس عنادا حرونا وتشبثا عاريا عن المنطق وبعدا شديدا عن المنهجية العلمية. ولا يقف الأمر عند ذلك الحد بل نراه يتهم المسلمين بأنهم قد حذفوا أسماء أصنام وأوثان كثيرة. يريد أن يقول: لا بد أنه كان عندهم إله اسمه "المطلب" لكنهم حذفوا اسمه. ولكن لماذا، وهم لم ينكروا أن قومهم كانوا قوما وثنيين، فضلا عن أن ذلك مسجل فى القرآن المجيد والحديث الشريف والسيرة النبوية وكتب التاريخ بتفصيل كبير؟ ثم مرة أخرى لماذا، وهم لم يحذفوا مثلا منافًا ولا العُزَّى، الوثنين اللذين عُبِّدَ لهما جده عبد مناف وعمه عبد العزى أبو لهب؟ بل إن هناك أحاديث تتكلم عن مصير أمه صلى الله عليه وسلم وأنها من أهل النار. ولو كان المسلمون يفتعلون الأمور كى تظل صورته نقية بعيدة عن الوثنية وكل ما يذكّر بالوثنية لما أَتَوْا على ذلك الموضوع أو لقالوا كذبا وزورا مثلما يقول مستشرقنا كل ما هو كذب وزور: إنها من أهل الجنة. وذلك رغم أنى لا أفهم كيف أنها من أهل النار ما دامت تنتمى إلى أهل الفترة، أى الزمن الذى يسبق الإسلام حين لم يكن ثم نبىٌّ يبين للعرب أنهم على ضلال؟ لكنى مع هذا أتابع المستشرق على طريقة تفكيره وأنظر إلى الأمور من وجهة نظره المختلة حتى أُفْهِمَه أن كل الأبواب مسدودة فى وجهه بما فيها الأبواب التى يخترعها هو اختراعا ليثبت صدق سخافاته وتفاهاته!
ومع هذا فلنستمر مع علامتنا الذى ليس له نظير. فهو يقول إن "المطلب" يمكن أن يُفْهَم بمعنى الشخص المطلوب"، وكأنه مجرم هارب من العدالة ومطلوبٌ القبضُ عليه حيا أو ميتا، أو ربما كان شابا جاء عليه الدور للخدمة فى الجيش، فهو مطلوب للتجنيد. أىّ كلام وطحينة. وهذا السخف الجهول يخر عليه ناس من بنى جلدتنا يطنطنون بما فيه من عبقرية فريدة، ويترجمونه ويذيعونه فى الناس حتى لا يحرموا من بركته! إى والله! هذا الجاهل لا يستطيع أن يفرق بين "المطلوب" و"المطلوب منه". فنحن نطلب من الإله أن يحقق لنا آمالنا، لكنه هو ذاته ليس مطلوبا. كذلك يظن بسلامته، ربنا ينصره على من يعاديه ويحميه من شرور العين، أن "مُطَّلِب" اسم مفعول فى حين أنه اسم فاعل، ولهذا انكسرت اللام فيه. وهو مأخوذ من الفعل: "اطَّلَبَ" بمعنى "حاول وجود الشىء وأخذه". ومع هذا فالمستشرق اللوذعى يقول فى خاتمة بحثه التافه: "باختصار: إنّ نوابغ المسلمين، وحتى يتجنّبوا وجود اسم يحمل إِلَهًا قد يتسبّب في تلويث سلسلة نَسَبِ النّبيّ الزَّكِيَّة، خلقوا شخصيّة، ولكنّها شخصيّة كانت تمتلك كلّ مواصفات آلِهة قديمة. إلهٌ في نسب محمّد، باسمه مباشرة أو بكنية تحمل إلهًا. كان هذا من شأنه أن يُحدِث تشويشًا جسيمًا. ولذلك كان من الواجب تدارك الأمر. لقد انْطَلَت هذه الحيلة على عامّة المسلمين طيلة قرون لأنّها كانت أيضا تقوم على التخويف والتّرهيب. ولكن قد آن الأوان اليوم للخوض في هذه المسائل بحرّية دون تحفّظ أو وجل". والحمد لله أن قيض لنا إماما من أئمة العلم وشجاعة العقل والضمير وحرية التفكير والتنقير والتدقيق والتحقيق. فهل هناك نعمة أحسن من تلك النعمة؟ ألا تبا للجهل وسحقا! ألم يبق إلا أنت يا أبا الجهل وأمه وعمه وخاله وعمته وخالته وجده وجدته أيضا حتى تعلّمنا وتفهّمنا؟
على أن جهله هذا المغلظ لا ينتهى هنا، إذ يصر على أنه قد بحث عن اسم "المطلب" بين رواة الحديث فلم يجد سوى واحد فقط. وهذا، عنده، دليل على أن اسم "المطلب" لم يكن معروفا لدى العرب، وأن المسلمين حين قالوا إنه اسم لعم والد الرسول إنما كانوا يتقولون ويدلسون للتغطية على أن جد رسول الله كان عبدا لوثن من الأوثان. وهذا "المطلب" الواحد الذى وجده بين رواة الحديث هو المُطَّلِب بن أبي وَدَاعَةَ السَّهْمِيّ. وهذا نص دعواه: "فكلّ الروايات تعطي الانطباع بأنّ المُطَّلب لا معنى لوجوده سوى إضافة حَجَر إلى البناء الرئيسي، ألا وهو سلسلة نسب نَبيّ المسلمين وإثبات وجوده، وهو الذي يحظى بكلّ أشكال الطّاعة والخشوع. كلّ الأشخاص الآخرين مُسَخَّرون لهذه القضيّة، ولكنّنا هنا أمام حالة جليّة للعيان لأنّ المُطَّلب موجود فقط لتفسير اسْمِ شخص آخَر. ففي كلّ مصنّفات الحديث، بالرّغم من أنّها مُفْعَمة بالأسماء، لم أعثُر إلاّ على "مُطَّلِب" واحد في سلسلة الأسانيد: حدَّثَني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن السّائب بن يزيد عن المُطَّلِب بن أبي وَدَاعَةَ السَّهْمِيّ...". فما رأيه فى أنه يوجد بين رواة الحديث عدد من الأشخاص كل منهم اسمه "المطلب"، وليس واحدا فقط؟ وها هم أولاء: "المطلِّب السلميُّ: له ذكر في غَزْوة بئر معونة، فأخرجه الطبراني، عن عروة قال: ... ثم بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنذر بن عمرو الساعدي، وبعث معه المطلّب السّلمي ليدلَّهم على الطريق..."، و"المطلب بن أبي البختري بن الحارث القرشيّ الأسديّ: قتل أبوه كافرًا يوم بَدْرِ، وعاش هو بعد ذلك، وهو أخو الأسود، ذكره الزبير بن بكّار، وقال: كان عظيم الجثة، وكذلك أخوه"، و"المطلّب بن أبي وداعة. واسم أبي وداعة الحارث بن ضُبيرة بن سعيد القرشيّ السّهميّ:
أمه أَرْوىَ بنت الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ووَلَد المُطَّلِبُ بن أَبِي وَدَاعَة..."، "المطّلب بن أزْهر بن عبد عوف الزهري: أمّه البُكَيْرة بنت عبد يزيد بن هاشم بن المطّلب، وهو أخو عبد الرّحمن وطليب ابني أزهر. وكان المطلّب وطليب من مهاجِرَة الحبشة. وقد أسلم المطلب بمكّة قديمًا، وهاجر إلى أرض الحبشة في المرّة الثانية، ومعه امرأته رَمْلَةُ بنت أبي عوف بن ضُبَيْرَة. وكان للمطّلب من الولد عبد الله. وأمّه رملة بنت أبي عوف، وَلَدتْه بأرض الحبشة في الهجرة الثانية. وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف بن عبد عَوْف، وذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فيمن هاجر إلى الحبشة..."، و"المطّلب بن حَنْطَب بن الحارث القرشيّ المخزوميّ: من ولد المطّلب بن حنطب هذا الحكم بن المطّلب بن عبد الله، وكان أكرم أهل زمانه وأسخاهم، ثم زهد في آخر عمره، ومات بمنبج..."، و"المطلب بن حَنْطب بن الحارث: كنيته أبو عبد الله، ذكره ابْنُ إسْحَاقَ فيمن أُسِر يوم بدر، ثم أسلم"، و"عَبْدُ المُطَّلِب بن رَبِيعة بن الحارِث بن عَبْد المُطَّلِب بن هاشم بن عبد مَنَاف القرشي الهاشمي، وقيل: اسمه المُطَّلِب. أمّه أمّ الحكم بنت الزبير بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف. كنية أبيه أبو أَرْوَى. وكان ربيعة أسنَّ من عمه العباس. وقال الزُّبَيْرُ في ربيعة: ولم يشهد بَدْرًا مع قومه لأنه كان غائبًا بالشام. وأُمُّ أبيه عزَّة بنت قيس الفهرية..."، و"المطّلب بن زِياد بن أبي زُهير القُرَشي: وهو مولى جابر بن سَمُرة السّوائي، وجابر حليف لبني زُهْرة من قريش؛ ولذلك قيل للمطّلب بن زياد: القرشي. يُكنى أبا محمد. وكان نازلًا في ثقيف، وكان ضعيفًا في الحديث جدًّا، وتوفّي بالكوفة سنة خمسٍ وثمانين ومائة في خلافة هارون‏"، و"المُطَّلبُ بنُ عَبْدِ الله بن المطلب المخزومي: أمه أم أبان بنت الحكم بن أبي العاص. وَلَدَ المُطَّلبُ بن عبد الله: الحكمَ، وأمه السيدة بنت جابر بن الأسود، وسليمانَ، وعبدَ العزيز (ولي قضاء المدينة لأبي جعفر المنصور) والفضلَ والحارثَ وأُمَّ عبد الملك، وأمهم أم الفَضْل بنت كُلَيْب بن حَزْن، وعليًا، وأمُّه فاخِتة بنت عبد الله بن الحارث، وقَرِيبَة، وأمها أم القاسم بنت وهب. وكان المطلب كثير الحديث، وليس يُحْتَجّ بحديثه لأنه يُرسل عن النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم كثيرًا، وليس له لُقِيّ، وعامة أصحابه يُدَلِّسُون" (عن موقع "صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم": http://www.sahaba.rasoolona.com/Default.aspx)
وبالمناسبة فكل ما كتبه المستشرق اللوذعى عن الأسماء والألقاب يدل على جهل مبين وطيش عجيب: خذ مثلا قوله إن أبا بكر إنما سمى بهذه الكنية لأنه أبو عائشة العذراء، أى البِكْر. فهل كان اسم الصحابى الجليل: "أبا بِكْر" ونحن لا ندرى؟ إن مستشرقنا لا يستطيع التمييز بين "بَكْر" و"بِكْر". كما أن عائشة لم تكن بِكْر أبى بَكْر بل سبقتها أختها أسماء. ثم إن العرب لا يتكنَّوْن فى العادة ببناتهم بل بأبنائهم الذكور. وعلى كل فالبَكْر اسم من أسماء الجمل، ومن هنا سخر منه المرتدون عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمَّوْه: "أبا الفَصِيل" تحقيرا له وتهوينا من شأنه لأن الفصيل أصغر من البَكْر. لكن على من تنشد مزاميرك يا داود؟ كما أنه كان يلقب بذلك قبل إصهار الرسول إليه, فضلا عن أن هذا لو كان هو السبب لقيل: "أبو البِكْر" لا "أبو بِكْر" على أساس أنه ليس أبا أىّ بِكْر بل أبا بِكْرٍ معينة، فمن ثم يستخدم لها ألف ولام العهد. والمصيبة أن الكتاب العرب يسخرون منذ عقود طويلة من تفسير المستشرقين لهذا اللقب بأن المقصود "البِكْر"، ورغم هذا فإن مستشرقنا يصر على أن يقع فى ذات الحفرة غير متعلم الدرس أبدا. صحيح أننا لا نعرف له ولدا اسمه بكر، وبعضهم يقول: لا يلزم فى الكنية أن يتكنى الشخص باسم أحد من أبنائه، بل كثيرا ما تكنى الأعزاب أيضا، كما أن الشخص قد يتكنى قبل أن يتزوج. إلا أن قول الحطيئة فى حروب الردة:
أطعنا رسول الله مذ كان بيننا * فيا لعباد الله ما لأبى بكرِ؟
أيورثها بكرا إذا مات بعده؟ * وتلك، لَعَمْرُ اللهِ، قاصمة الظهرِ؟
وكذلك سخريتهم منه بتسميته: "أبا الفَصِيل" قد يدلان على أنه كان له ولد اسمه بكر. أفيكون له هذا الولد فعلا لكنه مات رضيعا قبل أن يشتهر أو يهتم به أحد؟ وفى البخارى عن عروة بن الزبير عن عائشة أن أبا بكر رضي الله عنه تزوّج امرأة من كلب يقال لها: "أمّ بكر"، فلما هاجر أبو بكر طلّقها...". المهم أنه لم يكن يُكَنَّى بـ"أبى بِكْر" بل بـ"أبى بَكْر".
ولدينا أيضا فتوى سيدنا المستشرق الخاصة باسم "أبى طالب" عم النبى. يقول، لا فُضَّ فوه، فى تفسير اسم العم الكريم: "أبو طَالِب والدُ مَنْ أراد العِلْم... هو أب لشخص اسمه "طالِب"، الذي هو ابنه "علي" كما يقول التقليد الإسلامي. وقد أعطى هذا الجذرُ كلماتٍ متداولَةً إلى اليوم في لغات عديدة من لغات الشعوب الإسلامية من التّركيّة إلى الفارسيّة مرورا بالأفغانيّة أين (حيث) أعطى "طَالِبان" المتطرّفين ذائعي الصّيت. وقد فهِم المسلمون هذا الاسم بمعنى "طلب المعرفة الدّينيّة"، فالطالب هو الضالع في علوم الدّين والشّغوف في طلبها". يقول سيدنا المستشرق هذا وكأن الشبان فى عصر النبى كانوا يذهبون إلى المدارس والمعاهد والجامعات ويرسَلون فى بعثات للحصول على الدكتورية من السوربون وكمبريدج وروما طلبا للعلم. بل هل كان هناك فى ذلك العصر، بعيدا عن حكاية المدارس والجامعات، مصطلح "الطالب" بهذا المعنى؟ طبعا لم يكن. وحتى لو جارينا الكاتب وقلنا إن المقصود بـ"طالب" هو علىّ لقد كان ينبغى أن تكون كنية أبيه: "أبا الطالب" لا "أبا طالب" لأن أباه ليس أبا أى طالب بل أبا طالب بعينه، فيقال: "أبو الطالب". لكن هل كُنِّىَ عم الرسول بـ"علىٍّ" أصلا؟ الجواب هنا أيضا بالنفى. ذلك أن "طالبا" هو أكبر أبناء العم، ولهذا كُنِّىَ به على عادة العرب من تكنية الشخص بأكبر أولاده الذكور. وقد كان أسنّ من على بسنوات غير قليلة. ومن هذا يتبين لنا مقدار الجهل والتغشمر فى كلام المستشرق الذى يتهجم على أمور ليس على مستواها ولا هو مستعد لها. وإن هذا لهو الجهل الثخين!
وعلى أية حال هذه هى شواهد الشعر الجاهلى على كلمة "طالب"، وقد أتت بمعنى "طالب الحق" أو "طالب الحاجة" أو "طالب العطية" أو "طالب الثأر"، لكن ليس بمعنى طالب العلم. يقول الأفوه الأودى:
وَإِنّي لَأُعْطِي الحَقَّ مَنْ لَوْ ظَلَمْتُهُ * أَقَرَّ وَأَعْطاني الذي أنا طالِبُ
ويقول المتلمس الضبعى:
بِالبابِ يَطلُبُ كُلَّ طالِبِ حاجَةٍ * فَإِذا خَلا فَالمَرءُ غَيرُ مُسَدَّدِ
وتقول خويلة الرئامية:
يا خير معتمَدٍ وأَمْنَعَ ملجإٍ * وأعزَّ منتقِمٍ وأَدْرَكَ طالبِ
ويقول عروة بن الورد:
وَما طالِبُ الأَوتارِ إِلّا ابنُ حُرَّةٍ * طَويلُ نَجادِ السيفِ عاري الأَشاجِعِ
* * *
وَما طالِبُ الحاجاتِ مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ * مِنَ الناسِ إِلّا مَنْ أَجَدَّ وَشَمَّرا
وتقول عصيمة بنت زيد النهدية:
ولو مارسوا ما كنت فيه لأحرجوا * ورائي، ولم يطلب إلى المهر طالبُ
ويقول حاجز الأسدى:
قَتَلْنا ناجيًا بِقَتيلِ فَهْمٍ * وَخَيْرُ الطالِبِ التِرَةَ الغَشُومُ
ويقول زبان بن سيار الفهمى:
وَسِعْنا وَسِعْنا في أُمورٍ تَمَهَّلَتْ * عَلَى الطالِبِ المَوتورِ أَيَّ تَمَهُّلِ

ويقول المثقِّب العَبْدِىّ:
كَالأَجْدَلِ الطّالِبِ رَهْوَ القَطَا * مُسْتَنْشِطًا في العُنُقِ الأَصْيَدِ