آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: سعيد ناشيد: الخبث والغباء مجسدا!

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي سعيد ناشيد: الخبث والغباء مجسدا!

    سعيد ناشيد: الخبث والغباء مجسدا!
    بقلم إبراهيم عوض


    منذ عدة أسابيع لفت نظرى أ. طارق منينة إلى كتاب شخص يدعى: سعيد ناشيد من المغرب عنوانه "الحداثة والقرآن" يهاجم فيه الإسلام ويدعى عليه الأكاذيب، وكنت قد انتهيت من سلسلة مقالاتى فى الرد على بعض الكتب التى من تلك النوعية، فشكرته ثم وضعت الكتاب جانبا وأنا ضائق الصدر من كثرة الكتب التى تهاجم الإسلام بغباء وجهل ووقاحة وعناد، وبخاصة من قِبَل الأشخاص ذوى الأسماء والخلفيات الإسلامية، إذ ما أكاد أفرغ من تفنيد مجموعة منها حتى أجد أمامى مجموعات أخرى مثلها على نحو لا ينتهى ولا يبدو أنه سينتهى قريبا. لكن لأن الزمار يموت وإصبعه تلعب فقد ألفيت نفسى بعد قليل تنازعنى إلى قراءة ما فى الكتاب والرد عليه. فكنت أُبْعِد تلك الخاطرة عن نفسى محاولا التركيز على أعمالى الأكاديمية رغم معرفتى أن الطلاب بوجه عام لا يهتمون فى زماننا بهذا الذى نحرق به أعصابنا ونفنى فيه أعمارنا. ثم منذ ثلاث ليال ألفيت نفسى وقد أكلتنى أصابعى شوقا إلى الكتابة، ففتحت الكتاب فى تردد، وإذا بى أنسى ضيق صدرى ومللى، وأشرع مرة واحدة فى قراءته والكتابة عنه. والصفحات التالية هى ثمرة الليالى الثلاث.
    وفى بداية الكتاب يواجهنا سعيد ناشيد بالشعار التالى: "الإيمان تعبير عفوى قد يستدعى الخروج عن النص". ومن هذه العبارة يُفْهَم بكل وضوح أن المؤلف يرى أن النص والتزامه مهم جدا لدرجة أنه يجعل الخروج عليه مجرد احتمال قد يكون لازما، ومن ثم فقد لا يكون. ولكن من الناحية الأخرى يتبين لنا من هذه العبارة أيضا أن ما يدور عليه الكتاب كله باطل تمام البطلان، إذ مدار الكتاب هو أن النصوص ليست لله سبحانه بل للرسول، فالله يوحى المضمون فقط، بل إنه لا يوحى كل المضمون بل جزءا منه فحسب، ثم يأتى الرسول فيعبر عن هذا المضمون بلغته هو متأثرا بظروفه الشخصية وأوضاع عصره من أفكار وعادات وتقاليد وأخلاق ونظم، ومن ثم يتعين علينا ألا نلتزم بما جاء فى القرآن لأنه ليس هو ما أراده الله بل ما استطاع الرسول فهمه والتعبير عنه. أى أن النص القرآنى لا يعكس ما يريده الله بل ما يوجد فى المجتمع العربى آنذاك. وعلى هذا فالعبارة خاطئة لأن المؤلف بطول الكتاب وعرضه يريدمنا ألا نلتزم بنص القرآن على حين تقول هى إن الأساس هو الالتزام به، أما الخروج عليه فأمر عارض قد يحدث وربما لا يحدث.
    على أن أمر المؤلف لا يقف هنا فحسب، إذ هناك قوله: "الإيمان تعبير عفوى"، وهذا يعنى أنه لا يوجد ضابط ولا رابط للإيمان، بل هو مجرد تعبير عفوى. وعلى هذا فلا معنى لقول المؤلف إن هذا التعبير العفوى قد يستدعى الخروج عن النص لأنه ليس هناك أساسا أى نص. فالعفوية شىء، ووجود نص يضبط التعبير والسلوك شىء آخر. ومن هنا أيضا يتبين لنا أن المؤلف غير منضبط الفكر ولا العبارة وأن عقله مشوش، وفكره مضطرب يفتقر إلى الإحكام والاتزان.
    وعلى هذا فلا معنى للكلام التالى الذى وضعه فى مقدمة كتابه: "أحاول في هذا الكتاب أن أستلهم مقاربات كل من الفارابي وابن عربي وسبينوزا لمفهوم النبوّة، وكذلك أستلهم آراء عدد من المصلحين أمثال عبد الكريم سروش ومحمد الشبستري وأحمد القبانجي، وأيضا أستثمر بعض المفاهيم والتصورات التراثية التي صاغها جورج طرابيشي في مشروعه النقدي، وقبل هذا وذاك أعتمد أساسا على علماء القرآن القدماء: السيوطي والقرطبي والسجستاني وغيرهم، وصولا إلى بعض المستشرقين على رأسهم تيودور نولدكه، لكي أستنتج في الأخير أطروحة متكاملة قد تساعدنا في إعادة بناء العلاقة مع النص القرآني على أساس تعبّدي قد يساهم في طمأنينة النفس، بعيدا عن أي توظيف سياسي أو تحريضي أو إيديولوجي قد ينتج البغضاء والطغيان والتطرّف".
    ذلك أن ما يقوله فى كتابه من أوله لآخره إنما هو محاولة لتحطيم النص القرآنى وإشاعة الريبة فيه واتهامه بأنه لا يناسب عصرنا وأن الرسول لم يستطيع نقل ما أراد الله أن يقوله لنا. والسؤال إذن هو: أية طمأنينة للنفس يمكن أن نصل إليه من خلال تعاملنا مع القرآن، وقد أفزع المؤلف نفوسنا من القرآن واتهمه بعدم الصلاحية لنا وكذب ما فيه من قواعد ومبادئ تنظم حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والنفسية والاعتقادية والحربية؟ وأى طغيان وبغضاء يُخْشَيَان من المتدينين، وهم سواء كانوا حكماء أو ساذجين مقموعون مهمشون مرميون فى السجون أو مهددون فى كل ما يعلمون؟ وهناك كذلك قوله إنه ينوى أن يستلهم فلانا وفلانا من الكتاب والعلماء والمتصوفة فى كتابة كلامه عن القرآن، مما يشير إلى أنه لا يمتح من بئره هو بل كل همه هو السطو على ما لدى الآخرين ما داموا يقولون فى القرآن ما يسىء إليه أو ما يظن هو أنه يسىء إليه. إنه مجرد مقلد متابع لا شخص له ذاتية مستقلة كريمة.
    ومرة أخرى ليس هذا هو ما نخرج به من كلامه، فهو يعلن أنه سوف يستلهم المستشرقين، ضمن من سيستلهمهم، فهمه للقرآن. أليس ذلك أمرا مضحكا؟ أليست مهزلة أن يعتمد المستشرقين أساسا من أسس فهمه للقرآن، وعلى رأسهم نولدكه، وهم ألد أعداء القرآن ويعملون بكل ما لديهم من جهد شيطانى على التشكيك فى القرآن وتكذيبه وإشاعة الكفر به؟ لقد قيل قديما إن الخطاب يبين من عنوانه. وعنوان الخطاب هنا سئ أشد السوء، وأول القصيدة كفر كما قيل أيضا. ومن الواضح أن المؤلف واحد من سطحيى الفكر ممن يرددون المصطلحات والشعارات دون هضم أو فهم لها، فهم كالبَبَّغاوات التى تقلد قول ما تسمعه دون أن تعرف شيئا مما يعنيه، وبالذات إذا ما أتته من أجنبى، إن لم يكن مأمورا أمرا من جهة من الجهات المتنفذة بذلك الترديد والتقليد. إنه ببغاء لا أقل ولا أكثر. والمصيبة الكبرى والطامة العظمى أنه يظن نفسه ذكيا وأنه يمكن ببَبَّغائيّته هذه أن يخدعنا عن أنفسنا فنصدق ما يردده بجهل فادح ونحسب أنه هو الحق المبين.
    ويمضى ناشيد قائلا: "يعبِّر القرآن الكريم عن ثلاث قضايا متفاوتة، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نستمرّ في الخلط بينها : أولا قضية الوحي الإلاهي. ثانيا قضية القرآن المحمّدي. ثالثا قضية المصحف العثماني. اِنّنا نعتبر قضية الوحي الإلاهي بمثابة قضية منفصلة ومستقلة عن قضية القرآن المحمدي، فالقرآن خطاب لغوي قام به النبي القرشي للصور الوحيانية، خضع في كل صوره وأطواره للظروف الذاتية والموضوعية لشخصيّة الرّسول عليه السلام:
    - الظروف الذاتية تتعلق بمزاج وثقافة وشخصية وانفعالات الرّسول، وهذا ما يفسر التفاوت العاطفي والانفعالي والنّفسي بين مختلف آيات وسور الخطاب القرآني. وهذا باعتراف الخطاب القرآني نفسه كما سنرى. والظروف الموضوعية تتعلق عموما بأسباب النزول وسياق التنزيل وملابسات الأسئلة والظروف الواقعية والتاريخية. وهذا ما يفسر اختلاف الأحوال وتضارب الأحكام واشتباه المعاني واحتمال الأوجه. وهذا، مرّة أخرى، باعتراف الخطاب القرآني نفسه كما سنرى.
    وهناك أيضا قضية المصحف العثماني من حيث كونها قضية منفصلة ومستقلة في الزّمان والأحوال، وفي المضامين والأشكال، عن قضية الوحي الربّاني بكل تأكيد، وأيضا عن قضية القرآن المحمدي على وجه التحديد، وهي ثمرة اجتهاد تاريخي أنجزه المسلمون على مدى سنوات طويلة. إذن نحن لا نعرف القرآن الكريم على وجه الدقة والتّحديد إلا من خلال تمظهره الأخير: المصحف العثماني. إنّ القرآن ترجمة بشرية للصور الوحيانيّة، التي لها مصدر إلهي وربّاني بالفعل، غير أنها ترجمة أنجزها الرّسول نفسه في خطاب وجّهه إلى الناس في تلك العصور القديمة الماضية وفق ثقافتهم وظروفهم ومدركاتهم. ولأنّ الأمر كذلك، فقد تمّت صياغة الوحي الربّاني باستعمال المعطيات التالية: أولا باستعمال لغة عربية بليغة بالفعل، غير أنها تنتمي إلى مرحلة ما قبل قواعد النحو. ثانيا باستعمال مفاهيم سياسية واضحة بالفعل، غير أنها تنتمي إلى مرحلة ما قبل دولة المؤسسات. ثالثا باستعمال مفاهيم علمية يدركها الناس، غير أنها تنتمي إلى مرحلة ما قبل مناهج العلم. لهذا السبب لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نقيِّم القرآن بمقاييس الحداثة السياسية والثورة العلمية وحقوق الإنسان، ولا يجوز لنا أن نتعامل معه كنصّ في العلم أو السياسة أو الأخلاق. وإذا فعلنا ذلك فإنّنا سنقترف جرما كبيرا، وسنظلم القرآن ظلما عظيما كما يحاول أن يفعل بعض الذين يقدّمون تفسيرات لبعض الاكتشافات العلمية عن طريق ربطها بالقرآن، مثل الحديث عن الذرّة والكواكب والاكتشافات الطبّية وغير ذلك. وهي اكتشافات معرّضة للتجاوز عن طريق اكتشافات جديدة تُخطّئها أو تنفيها، وتجعل القرآن الكريم الذي هو خطاب تعبّدي عرضة لتأويلات متهافتة تدّعي لنفسها العلم في حين أنها لا تتسق أبدا مع شروط العلم، بل هي تأويلات تضع القرآن في مواضع تقلّل من قيمته مدّعية تأكيد ما جاء فيه، وهو عمل لا يطلبه الخطاب القرآني نفسه. القرآن خطاب تعبّدي خالص. وهذا يكفي لمن يملك إيمانًا سويًّا وحسًّا سليمًا".
    وطبعا هو الوحيد الذى يملك هذا الإيمان السوىّ والحسّ السليم. وأكبر دليل على ذلك أنه يسترشد بنولدكه وجورج طرابيشى وأضرابهما. يا له من إيمان! ولكن أى إيمان، وهو لم يترك شيئا فى القرآن إلا وصوب سهام التشكيك والتحقير إليه؟ ألا يكفى أن يقول إن القرآن متخلف تماما عن عصرنا بما فيه من حداثة علمية ومؤسسات سياسية لم يكن لها وجود فى عصر النبوة المتخلف بكل معنى الكلمة؟ حتى لغة القرآن لم تَسْلَم من لسانه الجاهل السامّ، إذ هى تنتمى إلى عصر لم تكن قواعد اللغة قد اسْتُخْلِصَتْ فيه بعد. وهو ما سوف يتخذه تكأة للقول بأن فى القرآن أخطاء لغوية. أى أن القرآن، فى نظر هذا الفَسْل الضئيل، كان ينبغى ألا ينزل قبل أن تُقَعَّد القواعد. ونحن نعرف، وكل الدنيا معنا تعرف، أن القواعد لم يكن يمكن تقعيدها قبل نزول القرآن ودخول كثير من غير العرب فى الدين الذى نزل به واحتياجهم من ثم إلى تعلم العربية لغة ذلك القرآن تعلما لأنها ليست لغتهم، فكان لا بد من ظهور علم النحو والصرف اللذَيْن ينظّمان ويسهّلان تعلم اللغة، أىّ لغة. فالقرآن إذن مكتوب عليه الخطأ حَتْمًا ولِزَامًا فى نظر هذا المعتوه.
    وهو ينطلق، كما أشرنا آنفا، من أن القرآن ليس كله من عند الله بل المضمون التعبدى فقط. ولسوف نناقش هذا الهراء فيما بعد، ولكن نحب بادئ ذى بدء أن نبين مظهرا آخر من مظاهر جهله الفاحش المفحش. إنه يظن أن قوله تعالى: "قل: كُلٌّ من عند الله" معناه أن كل شىء فى القرآن من عقائد وأخلاق وتشريعات وقصص وقيم ولغة وإملاء وخط وورق وحبر هو من عند الله. فانظروا إلى مدى جهله العجيب. إنه لا يكلف نفسه الذهاب إلى موضع الآية ليرى بِمَ تتعلق، وما هذا الكل الذى تؤكد الآية أنه من عند الله. أى أنه يجمع، إلى الجهل، الكسل والبلادة والثقة العمياء بالنفس، وهى شر أنواع الثقة. يقول الله سبحانه وتعالى فى الآية الثامنة والسبعين من سورة "النساء": "وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا". فهل يرى القارئ الكريم شيئا مما فى ذهن هذا "التَّعْبان" حول الآية الكريمة؟ فهذا هو الشخص الذى ألف الكتاب الذى فى أيدينا ليدرس فيه القرآن ويصدر فيه فتاواه وأحكامه التى لا تُصَدّ ولا تُرَدّ والتى ظللنا وظل المسلمون والناس جميعا أربعة عشر قرنا يجهلونها ولا يعرفون عنها شيئا حتى هل هلاله، وهذا هو مستواه فى فهم آية سهلة كهذه تمام السهولة.
    وهو يعود كرة ثانية إلى موضوعه الأثير والخطير والخبيث، ألا وهو أن القرآن له ثلاثة معان أو ثلاثة مستويات، فيقول: "ما المقصود بالقرآن؟ بمعزل عن النّزعات الاختزالية في شقّيها الغيبي والوضعاني يدلّ القرآن كما سبق القول على ثلاث ظواهر متباينة لا يجوز الخلط بينها: 1- الوحي الرباني، وهو يحيل إلى الصور الوحيانية التي استشعرها الرّسول وتمثّلها، إما عبر قوّته التخييلية كما يقول كلٌّ من الفارابي وابن عربي وسبينوزا عن تجارب النبوّة، أو عبر القلب والوجدان كما يشرح أحمد القبانجي. وفي الأخير فإن كلام القرآن هو كلام النبي المؤيَّد بالإرادة الإلهية كما يوضح محمد مجتهد الشبستري. 2- القرآن المحمّدي، وهو ثمرة جهد الرّسول في تأويل الوحي وترجمة الإشارات الإلهية إلى عبارات بشرية، انطلاقا من وعيه وثقافته ومزاجه وشخصيته وقدراته التّأويلية. وقد استغرق هذا الجهد ما يقارب رُبْع قرن من الزّمن. والمؤكد أن هذا الفارق بين القرآن المحمدي والوحي الرباني قد سبق إلى التعبير عنه المصلحان الدينيان الإيرانيان عبد الكريم شروس والشيخ محمد مجتهد الشبسترى. 3- المصحف العثمانى، وهو ثمرة جهد المسلمين في تحويل القرآن المحمدي خلال مرحلة أولى من آيات شفهية متناثرة إلى مصاحف متعددة، ثمّ خلال مرحلة ثانية من مصاحف متعددة إلى مصحف واحد وجامع وفق نمط معيّن من التأليف والتبويب والتّرتيب، وبحسب قواعد محدّدة في اللغة والكتابة والخط. وقد استغرق هذا الجهد زهاء نصف قرن من الزمن على الأقل. وللتذكير فقد تمّت مَفْهَمة هذا الجهد على يد جورج طرابيشي في حديثه عن "مَصْحَفة القرآن"".
    يعنى أن القرآن ليس هو كلام الله بل كلام الرسول. أما الوحى الإلهى فهو مجرد إشارات غامضة تخيّل الرسول معناها من عند نفسه خضوعا لظروفه وظروف عصره. ترى كيف عرف ناشيد ذلك؟ هل كان نبيا فى يوم من الأيام وفَتَشَ السر وعرف اللعبة وأتى ينوّرنا حتى لا ننخدع كما انخدع هو يوما ثم أتيح له بعد ذلك أن يعرف الحقيقة فأراد تبصيرنا وتنبيهنا؟ وهذه هى عبارته التى شرح بها كلامه السابق الخاص بالوحى: "نعيد القول بعبارة أخرى: عند الكلام عن الخطاب القرآني نحن أمام ثلاثة مستويات من التمظهر: أولا الوحي الرباني، وهو عبارة عن صور وَحْيَانِيّة فيها غموض يستشعرها الرّسول ويحاول التعبير عنها انطلاقا من ثقافته ولغته وبيئته". ومعنى هذا أن الوحى ليس شيئا واضحا محددا، بل إشارات غامضة استشعرها الرسول مجرد استشعار. أى أن الأمر ليس أمر فهم وعقل بل أمر استشعار. ومن هنا فالوحى لا يبلغ مرتبة الأحلام لأن الأحلام تكون واضحة رغم ما يكون فيها فى أحيان كثيرة من الأضغاث والترهات. فهذا أول ابتعاد عن مقصود الله سبحانه. أما الثانى فإن الرسول حين عبر عن تلك الإشارات الغامضة لم يستطع الاقتراب، مجرد الاقتراب، منها بل خضع فى محاولةِ تمثُّلِها لرؤية عصره. وعصره كان عصر وثنية وشرك واعتقاد فى معرفة الكهان للغيب وتناحر قبلى وتشرذم سياسى وتخلف اقتصادى وربا وخمر وزنا وقمار وتفاخر وأمية وجهل مبين وإكراه للمرأة على الزواج ممن لا تحب وقسوة على الضعفاء والمساكين ووأد للبنات وإنكار لليوم الآخر وأكل للميتة والدم وأضاحى الأصنام... إلخ. فما معنى هذا؟
    معناه أن الكاتب بلغ به الغباء والتخلف العقلى مبلغا جعله يعمى عن أن ما فى القرآن من عقائد وأخلاق وقيم ومبادئ وذوق جمالى يختلف تماما عما كان سائدا بين العرب فى الجاهلية. لقد حرّم القرآن الوثنية والكهانة والزنا والوأد والنفاق والسرقة وخُلْف الوعد والظلم واضطهاد النساء والقسوة على الضعفاء المحتاجين وأكل مال اليتيم والتطفيف فى الموازين والمكاييل والربا وأكل الميتة والخنزير والدم وما أُهِلَّ لغير الله به والخمر والميسر والتفاخر بالأنساب، وأنكر الاعتقاد فى السحر ومعرفة أى إنسان للغيب بما فى ذلك النبى نفسه، وحَثَّ على العلم والعمل والإتقان ومراعاة الجمال واللياقة والنظام والنظافة والطهارة... إلخ. فكيف يكون القرآن انعكاسا للأوضاع الاجتماعية التى كانت تَسِم المجتمع الجاهلى؟ ثم إن الأمر لم يقف هنا فقط بل تعداه إلى أن أنكر على النصارى تثليثهم وإيمانهم بالصليب والخطيئة الأصلية وتكفير المسيح عنها وتحريفهم لكتابهم، مثلما أنكر على اليهود التحريف لكتبهم وتصورهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم لن تمسهم النار سوى أيام معدودة وأخذهم الربا رغم نهى كتبهم وأنبيائهم عنه وكفرهم بالمسيح وزعمهم أنهم صلبوه وقتلوه وإنكارهم نبوة محمد بعدما كانوا ينتظرون مجيئه، وغير ذلك. كما دعا القرآن إلى حرية التدين، وأعلن أن الله خلق البشر مختلفين، ومن ثم لا إكراه فى الدين. أفلو كان محمد قد أتى قومه بما يتفق مع أوضاع عصره وعادات قومه وتقاليد مجتمعه أكانوا يعارضونه ويؤذونه ويشتمونه ويتهمونه بكل نقيصة ويحاربونه ويتآمرون عليه ويكون انتشار دينه بينهم بطيئا بطء السلحفاة على مدار ثلاث عشرة سنة فى مكة وعددا آخر منها فى المدينة؟ ولم هاجم القرآن هجوما عنيفا تمسك العرب بما وجدوا عليه آباءهم، ورماهم بأنهم لا يعقلون ولا يفهمون ولا يتفكرون؟
    ثم أين الغموض الذى يشعر الإنسان به فى القرآن والادعاء بأن محمدا قد وقف حائرا مرتبكا أمامه حين أراد أن يعبر عن المعنى المتخفى وراء أستاره؟ ألا خزى الله على الكافرين والمغفلين أجمعين! إن المعانى القرآنية واضحة وضوح الشمس ما دام القارئ يعرف مدلولات الألفاظ والتراكيب. أما أن يكون هناك اختلاف بين الحين والحين حول تفسير بعض آياته فذلك أمر طبيعى، وهو ليس خاصا بالقرآن وحده، بل ملحوظ فى كل النصوص، وبخاصة النصوص المصوغة صياغة أدبية. وهذا أمر من الوضوح ومعرفة العلماء والنقاد به بمكان راسخ مكين لا يستطيع عاقل أن يمارى فيه. أما الأغبياءُ وراكبو أدمغتهم الزنخة والذيولُ الذليلة لخصوم القرآن والإسلام فهؤلاء شىء آخر. وأما الآيات التى نشعر أنها، رغم ما ورد لنا فيها من تفاسير قيمة، لا تزال تحتاج إلى مزيد من التعمق والتوسع فى الشرح فقد عودنا القرآن أن يكشف لنا بين الحين والآخر عن المغزى الذى كان خافيا بعض الخفاء فيها ككلامه عن قصور عاد، التى لم أكن أنا مثلا أحقق معناها وأحسب، فى عمايتى، أن المقصود اتخاذهم الجبال مغارات كما يفعل الفقراء ممن لا يستطيعون تشييد مساكن لهم، ثم رأيت منذ بضعة عشر عاما صورا لبعض تلك القصور، فانبهرت بها أيما انبهار لما فيها من روعة وإبداع ودقة فى البناء والزخرفة والجمال والرسوخ. كما كنت لا أفهم إشارة القرآن الكريم إلى توافر الحُلِىّ فى البحار العذبة، وبخاصة أن القدماء بوجه عام كانوا يفسرون قول القرآن بوجودها فى البحر والنهر بأنه على التغليب، إذ هى لا توجد عندهم إلا فى البحار الملحة فحسب رغم وضوح الدلالة فيه على أنها موجودة فعلا فى كل من البحار الملحة والبحار العذبة. ثم تبين لى فى منتصف ثمانينات القرن الماضى أن هناك أنهارا فى مواضع مختلفة من العالم تعج باللؤلؤ والياقوت والألماس والذهب والفضة وغيرها من المعادن النفيسة. وهذا مثلان ليس إلا.
    بل كيف غفل هذا المغفل عن أن الروح السارى فى القرآن لا يمكن أن يكون روحا بشريا، بل روحا إلهيا. فهذا الجلال والشموخ والعظمة والتعالى والكبرياء التى تفيض بها جنبات النص القرآنى لا يمكن أن يكون مصدرها الرسول أو أى إنسان آخر. ولو كان الرسول هو صاحب التعبير وكان متأثرا بأحواله الشخصية وأوضاع قومه الاجتماعية لجامل هذا، وتطامن لذاك، ومدح شيخ القبيلة الفلانية، وأثنى على القائد العلانى أو الترتانى. بل ولسمعنا أنات قلبه وأفراحه وشعرنا بأشجان نفسه وابتهاجاتها فى كل انعطافة من انعطافات القرآن. ألم يشعر بالبهجة يوم انتصار الإسلام فى بدر ولَدُن انكسار الأحزاب فى غزوة الخندق وعند فتح مكة و لَدَى الفوز فى حُنَيْن؟ ألم يحس بالسعادة الكبيرة يوم رزقه الله إبراهيم من مارية القبطية؟ ألم يشعر بروعة الإنجاز الذى تم على يديه يوم أتته الوفود من كل أرجاء الجزيرة تبايعه على الإيمان به نبيا والاعتراف به زعيما وحاكما؟ ألم يتألم أشد الألم لموت خديجة وعمه أبى طالب وابنه إبراهيم؟ ألم يُقَاس اللوعات طوال شهر الإفك؟ ألم يستول الحزن على كيانه يوم قُتِل عمه حمزة على يد وحشىٍّ تلك القتلة المأساوية فى أُحُد؟ ألم تأخذ الأحزان بأكظامه يوم أتاه الخبر بمقتل زيد وجعفر وابن رواحة فى غزوة تبوك؟ فأين أى شىء من هذا كله فى القرآن يا ناشيد؟ خيَّبك الله خيبة تليق بغبائك وتنطعك وجهلك وتماديك مع كارهى الإسلام فى السبيل الذى يسلكون وتَغَيِّى الغاية التى يَنْشُدون. ألا وهى الكيد للإسلام والعمل على استئصاله!
    لقد تنبهتُ للروح الإلهى الجليل المتعالى الذى يبسط جناحيه العظيمين على القرآن منذ زمن بعيد، وظهر ذلك فى تأليفى لكتابى: "مصدر القرآن"، الذى صدر للمرة الأولى عام 1986م. وكنت ولا أزال أستغرب كيف يَعْمَى عامٍ عما فى القرآن من هذا الجلال وذاك المجد وتيك الكبرياء؟ لقد صرت فى الفترة الأخيرة أفتح المصحف وأنا أصلى حتى أستطيع أن أقرأ نصوصا طويلة منه دون خطإ إذ لم أعد أحفظه كما كنت وأنا صبى وشاب، وإنى لأحس وأنا أقرأ بأن هذا لا يمكن أن يكون روح كلام أىٍّ من البشر. وأنا متمرس بأحاديث النبى عليه السلام، ولا أحسب ولو للحظة واحدة أن هذا القرآن من صنعه أو صياغته بأى معنى من المعانى. كما أننى جرىء فى تفكيرى وافتراضاتى وتقليبى الأمور على كل جوانبها لا أحاشى ولا أبالى، ولست من الذين يخدعون أنفسهم عما يدور فى عقولهم. وهناك كثيرون من الغربيين أعلنوا عن إحساسهم بذات الروح رغم أنهم لم يسلموا، ودعنا ممن أسلم منهم، وهم أكثر وأكثر. وممن صرحوا بهذا من غير المسلمين جوته وفكتور هيجو وبوشكين ودرمنجم وآربرى وفرجيل جورجيو وكارين أرمسترونج وكارلا باور. ويمكن أن نُلْحِق بهم غاندى ونصرى سلهب ونظمى لوقا من غير الغربيين. وهذه مجرد عينة ضئيلة من الأسماء أتت إلى ذهنى على الطائر دون أن أحاول تذكُّرها.
    والواقع أنى لا أظن هذا الجاهل هو صاحب الفكرة التى نعالجها الآن، بل هى من وسوسة بعض المستشرقين أو المبشرين الحاقدين الذين اضْطُرّوا هم وأمثالهم إلى الاعتذار عن أخطاء الكتاب المقدس الكثيرة الفادحة والفاضحة بإرجاعها إلى أن كل ما يخرج عن المضمون العقائدى والأخلاقى فيه إنما هو من عند البشر الذين سجلوه بخلاف ما فيه من حديث عن العقائد والأخلاق، فهو من عند الله. ويسمون هذا بـ"Colouring by the medium"، أى التلوين من خلال الوسيط، بمعنى أن تلك الأخطاء لا ترجع إلى الله، بل إلى الوسطاء الذين نزلت عليهم نصوص الكتاب المقدس، والذين لم يستطيعوا، عند تبليغهم إياها للناس من حولهم، أن يعلوا على مستوى عصورهم فى الفكر والثقافة، فارتكبوا تلك الأخطاء التى تفعمها.
    والغريب أنه فى الوقت الذى يزعم هذا الأفاق ما يزعم نجد من الغربيين من يبهره ما فى القرآن من عمق المعارف وصدق الحقائق فيقول إن محمدا كان من الدهاء بحيث لجأ فى صياغته للقرآن، الذى يدعى هذا الغربى أنه من تأليف محمد نفسه، إلى أسلوب فضفاض بحيث لا نستطيع أن نمسك عليه خطأ. فانظر كيف يتفق الاثنان فى التشكيك فى القرآن المجيد، ويختلفان فى السبيل الموصلة إلى ذلك. إن الجهة الغربية التى أملت على هذا الأفاق أن يقول فى القرآن هذه المقالة الشيطانية الكاذبة إنما تريد أن تقول: لا فرق بين القرآن الكريم والكتاب المقدس. وأنتم، أيها المسلمون، إذا ما انتقدتم كتابنا من بعد اليوم فلسوف نقول لكم إن كتابكم يصدق عليه ما تقولونه فى كتابنا. وليس هناك أحد أحسن من أحد. وقد اتخذوا لإشاعة تلك القالة الكاذبة "كبشا" من كباش المسلمين يخبطون به باب حصننا كى يكسروه ويفتحوه وينسلّوا من خلاله إلى داخل ديارنا. فلعنة الله على كل خوان أثيم.
    ثم إن المسألة لا تتوقف هنا، إذ هناك الأسلوب القرآنى والمقارنة بينه وبين أسلوب الحديث. وهذه مهمة قمت بها بنفسى وتبين لى بما لا يترك موضعا للريب أن الأسلوبين مختلفان تماما، وهو ما يعنى أن مصدر هذا غير مصدر ذاك. فثمة مثلا ألفاظ كثيرة تتردد فى كلام الرسول عليه السلام لارتباطها بعصره وبيئته لكنك تبحث عنها فى القرآن فلا تجدها أبدا. ومن ذلك ألفاظ كثير من الأطعمة والأشربة كالجبن والأَقِط والسمن والزبد والدُّبّاء والسَّوِيق والقديد والثريد والفَطُور والعَشاء والسَّحُور، والبِتْع والبُسْر والتمر والزبيب والزَّهْو والفضيخ والمِزْر والنبيذ. ونفس الشىء يصدق على الملابس، التى لم يُذْكَر منها فى القرآن سوى الثياب والقميص والنعلين والسرابيل على حين نُلْفِى فى الأحاديث النبوية البُرْد والرداء والإزار والسراويل والقميص والشِّعار والدِّثار والجُبّة والعمائم والقلانس والخُفّ والطيالسة والمناديل... إلخ. وهو ما ينطبق على كثير من ألفاظ المجالات الأخرى كالموازين والمكاييل والمسافات والحرب والبيع والشراء مثلا. بل إن كلمة "النية"، التى يكثر ورودها فى الحديث لا تقابلنا بتاتا فى القرآن المجيد. ومثلها كلمات "الرخصة والمسألة والرفق والرُّقْيَة والعرس والشبهة والستر والعافية والغش والفحش والهم... إلخ".
    وهناك كلمات وردت فى القرآن مفردة فقط أو مجموعة فقط على حين وردت فى الحديث على الوضعين: فكلمات "أرض وأصابع وأمين وبُدْن وبركات وبنى آدم وثياب وبهائم وأحباء وحرمة وخُلُق ودراهم ورزق وروح وسكارى... إلخ" قد أتت فى القرآن، لكن مفرد المجموع منها، وحمع المفرد لم يأتيا. كما أن عبارة "لا ينبغى أن" لم ترد فى القرآن قط فى التوجيه الأخلاقى أو التشريعى بينما وردت فى هذا الغرض فى أحاديث الرسول. ومن ذلك أيضا أن تعبير "لا يحل لـ..." لم تسند فى القرآن إلا لضمير بينما فى الحديث كثيرا ما أسندت إلى اسم ظاهر. أما عبارة "رحم الله فلانا" الدعائية أو "رغم أنف فلان" فلم ترد فى كتاب الله فى الوقت الذى وردت فيه كثيرا فى حديث الرسول عليه السلام. ومثلها فى ذلك العبارات التى تتحدث عن صلة الرحم. وأما فى التركيب اللغوية فلا يعرف القرآن أبدا تركيب "ألا و..." أو "أَمَا" الاستفتاحية أو "إياكم و..." أو "عليكم بـ..." أو "لعل كذا أن..." أو "بينما كذا إذ...". وكثيرا ما نجد فى القرآن أو الحديث اقتران لفظين معا بينما لا نجدهما فى الطرف الآخر كقول القرآن مثلا: "تابا واصلحوا" وقول الرسول: "رياءً وسمعةً". وعلى نفس الشاكلة لا نجد فى كتاب الله صيغة "مظلمة"، التى يستعمل بدلا منها على الدوام كلمة "ظلم"، بينما نجدها الصيغة الأولى قد تكررت مرات فى الحديث النبوى الشريف... وهلم جرا. وحين يستخدم القرآن "ولو" فإن ما بعدها يمثل الحد الأقصى فى الأمر على العكس من الأحاديث كما فى المثالين التاليين: "أينما تكونوا يدركْكم الموتُ ولو كنتم فى بروجٍ مشيَّدة"، "التمس ولو خاتما من حديد". وبالمثل نجد القرآن يقسم كثيرا بمظاهر الطبيعة وما إليها كالشمس والضحى والليل والطُّور والتين والزيتون، أما فى الأحاديث النبوية فلا نجد شيئا من ذلك. كذلك تختلف القصص الحديثية عن القصص القرآنية فى نكهتها وموضوعاتها وخطوطها، فبينما تهتم القصص القرآنية بالموضوعات الكبرى والخطوط العامة تركز القصص النبوية على الموضوعات الصغيرة والخطوط التفصيلية. كما أنها لا تورد شيئا من قصص الأنبياء، اللهم إلا تفصيلة هنا وأخرى هناك.... وهكذا وهكذا مما أودعتُه كتابى: "القرآن والحديث - مقارنة أسلوبية" البالغ من الصفحات ستمائة أو يزيد، فضلا عما أضفته إلى ذلك فى كتابى الآخر: "عشر لآلئ من كنوز السنة النبوية". فكيف يقول قائل بعد ذلك إن أسلوب القرآن هو أسلوب محمد عليه السلام؟ ألا إن قائل ذلك لغبى لا يفهم. وإنى لأعجب أن يكون فى البشر ناس يزجّون بأنفسهم فيما لا يستطيعون أن يسدوا فيه مسدا، حماقة منهم وتغشمرا، تحدوهم الرغبة فى إرضاء هذه الجهة المريبة أو تلك. والغريب أنهم، رغم جهلهم وغبائهم، يظنون أنهم سوف ينجحون صنعا. لكن الله مخزيهم وفاضح سوآتهم وكاشف ضآلتهم دائما أبدا.
    وردا على الكاتب الغشيم فى دنيا العلم والفكر، الزاعم بأن ما فى القرآن يتخلف عما نعرفه فى عصرنا من مؤسسات واكتشافات وما إلى ذلك، أقول إن العبرة ليست بالمؤسسات والاكتشافات العلمية ولا بالحداثة، تلك الكلمة التى يلوكها أمثال هذا الجاهل دون فهم لأبعادها. فأمثاله يظنون أن القرآن، لكونه نزل على نبى أمى يركب الحمار ويتناول طعامه على الأرض ولا يستعمل الملعقة والشوكة والسكين وليس تحت يده أبنية تعليمية ولا كتب ولا كواتيب (كمبيوترات) ولا يعرف التلفاز مثلا، فإن ما نزل عليه من الوحى لا يصلح لعصرنا المتقدم الذى يعج بالآلات والمؤسسات من كل لون ونوع. وفاته أن عصرنا الذى يفاخر به سوف يأتى يوم على البشرية تنظر إليه بنفس العين التى ينظر بها غشيمنا إلى عصر المبعث، إذ سوف تكون الآلات والمؤسسات آنذاك قد تطورت وتعقدت بحيث تكون نظائرها الحالية شيئا بدائيا متخلفا. فماذا هو قائل آنذاك؟ إن العبرة بتوافر الأفكار والقيم والمبادئ والإيمان الراسخ بها والرغبة فى تطبيقها حتى لو كانت الوسائل والآلات فقيرة ساذجة، وإلا فليفسر لنا كيف نجح الرسول والصحابة فى فتح الدنيا كلها بسيوفهم ورماحهم وسهامهم الساذجة بالقياس إلى ما كان عند الفرس والروم من سلاح متقدم ونظام عسكرى لا يعرفه المسلمون، وقادة لا تقارَن قادتهم بهم، ومؤسسات لم يكن لها وجود لديهم بالمرة، ومعارف كانوا يجهلونها جهلا فاحشا؟
    ولنأخذ مثالين اثنين لا غير: مثال العلم ومثال الحفاظ على البيئة، وهما الميدانان اللذان نجح فيهما الرسول وأتباعه نجاحا عظيما على حين فشلنا نحن فيهما فى عصرنا هذا بكل إنجازاته فشلا شنيعا. ولسوف أترك صوتا غربيا يتحدث عن إنجازات الرسول فى كل مجال من هذين المجالين. ونحن، حين ننظر فى سيرة النبى عليه الصلاة والسلام لنرى موقفه من العلم، سوف نقف ذاهلين أمام ما صنعه، وهو الأُمِّىّ، عقب الانتصار فى غزوة بدر مثلا حين وقع فى يد المسلمين عشرات الأسرى من كفار قريش، إذ عرض عليهم أن يطلق سراح كل من يقوم منهم بتعليم عشرة من صبيان المسلمين فى المدينة القراءة والكتابة. وقد كان هذا الصنيع نقطة الانطلاق إلى نشر التعليم بين المسلمين، فقد كان عدد القارئين والكاتبين فى المجتمع الجاهلى جِدَّ ضئيلٍ كما هو معروف. وجدير بنا أن نتوقف إزاء هذا العمل العبقرى من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فضلا عن إلحاحه صلى الله عليه وسلم على أن طلب العلم فريضة على كل مسلمة ومسلمة، وهو ما يتميز به عن سائر الأنبياء.
    ووجه العبرة فى هذا أن العرب، رغم انتشار الأمية بينهم فى الجاهلية انتشارا واسعا، سرعان ما تخلصوا منها وقَضَوْا عليها وأَضْحَوُا الأمة الأولى للعلم والثقافة والفكر فى العالم بعد قليل. إنه، عليه الصلاة والسلام، لم يؤلف اللجان ولم يخصص الميزانيات ولم يستكثر من بناء المدارس والجامعات لهذا الغرض، إذ كان ذلك صعب التنفيذ فى تلك الظروف بل من مستحيلها، بل اكتفى بالمتاح بين يديه، وهو أقل من القليل. ومع ذلك فإن هذا القليل الذى يكاد يقرب من حد العدم قد أتى بتلك الثمار المدهشة، وهى ثمار لا يمكن المقارنة بينها وبين ما تحقق من نتائج فى ذلك الميدان بطول البلاد العربية وعرضها منذ عصر النهضة الحديثة التى بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمان مع توافر الإمكانات الهائلة التى لم يكن الصحابة يحلمون بواحد على المليون منها. لقد كانوا يتلقَّوْن تعليمهم مثلا فى المسجد، والمساجد لا تكلف الدولة شيئا يذكر. ولم يستقدم عليه الصلاة والسلام لصبيان المدينة خبراء تربويين ولا مدرسين من الخارج بالعملة الصعبة، بل اعتمد على الأسرى الذين لو كان قد استبقاهم عنده دون عمل لكلفوه "شيئا وشويّات". لكنه بثاقب نظره وإلهامه العظيم افترع هذا الحل العبقرى الذى أتى بأعظم النتائج دون أن يدفع فيه شيئا على الإطلاق.
    ولقد قرأت فى لندن عام 1982م كتابا بعنوان "Muhammad and Learning" للبروفسير ن. ستيفن (Prof. N. Stephen) تحدث فيه مشدوها عن دور الرسول الكريم فى مجال التعليم، مستغربا أن يتنبه رجل مثله يعتزى إلى أمةٍ باديةٍ أُمِّيّةٍ تعيش فى القرن السابع الميلادى إلى هذا الجانب من جوانب الحياة وأن يكون له تلك الآراء التقدمية والمواقف المذهلة التى تعكسها آيات القرآن والأحاديث الشريفة، وبخاصة أن الأديان الأخرى كانت تجعل التعلم حكرا على الكهنة والطبقة الحاكمة ليس إلا، إن لم تعاقب على إفشاء العلم بين العامّة، فضلا عن إحراق الكتب، الذى يؤكد أنه سيظل إلى الأبد وصمة عار فى جبين من اجترحوه، وكذلك فى جبين الكنيسة لارتضائها ومباركتها هذا العمل المخزى، على عكس محمد، الذى دعا البشر جميعا على اختلاف طبقاتهم ومهنهم وظروفهم إلى السعى حثيثا فى طلب العلم رجالا ونساء من المهد إلى اللحد، بل أوجبه عليهم غير مكتفٍ بجعله حقا من حقوقهم يمكنهم أن يأخذوه أو يهملوه، وجَعَله بابا إلى الجنة، وساواه فى الفضل بالاستشهاد فى سبيل الله، بل فضّل العلماء على العُبّاد بمثل ما يَفْضُل به البدرُ سائرَ الكواكب. وقد جعل العقاد "التفكير فريضة إسلامية"، بل جعل هذه العبارة عنوانا لواحد من أهم كتبه.
    ومن الحديث الشريف نسوق النصوص التالية، وكلها عجيب فريد لا نظير له فى أى دين أو مذهب أو فلسفة: "ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رِضًا بما يصنع"، "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع"، "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، "منهومان لا يقضي أحدهما نهمته: منهوم في طلب العلم لا يقضي نهمته، ومنهوم في طلب المال لا يقضي نهمته"، "اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم"، "طلب العلم فريضة على كل مسلم. وإنّ طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر"، "إن الله عز وجل أوحى إليَّ أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة"، "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما. ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، "فضل العالم على العابد سبعون درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض"، "خيار أمتي علماؤها، وخيار علمائها رحماؤها. ألا وإن الله تعالى ليغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل ذنبا واحدا. ألا وإن العالم الرحيم ليجيء يوم القيامة وإن لنوره ضوءا يمشي فيه ما بين المشرق والمغرب"، "ذُكِر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليُصَلُّون على معلِّم الناس الخير"، "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب"، "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر"، "من كانت له جارية فأحسن أدبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران اثنان".
    كما كان الإسلام حريصا تمام الحرص فى ذات الوقت على تصفية منابع الخرافة والدجل والأساطير، إذ حرّم السحر تحريما قاطعا ولم يتساهل فيه بتاتا، وأعلن حربا شعواء على الكهانة والعيافة والزجر. وفى القرآن نفىٌ قاطعٌ لما كان المشركون يزعمونه من أنه عليه السلام كاهن، إذ الكهانة خرافة وانحطاط فكرى وحضارى، أما نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فدعوة إلى اليقظة العقلية والإبداعات العلمية والعمل على إحراز المجد فى الدنيا عن طريق العلم وإكرام العلماء والاستعانة بأفكارهم واجتهاداتهم. وأين الكهانة من هذا؟ يقول جل جلاله: "فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ" (الطور/ 29)، "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الحاقة/ 40- 43).
    ويقول عليه السلام: "العيافة والطَّرْق والطِّيَرة من الجِبْت" (والعيافة: زجر الطير. والطرق: الخط يُخَطّ في الأرض. والجبت: الشيطان)، "من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تُقْبَل له صلاة أربعين ليلة"، "من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِل على محمد"، "أكبر الكبائر عند الله يومَ القيامة الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير الحق، والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورَمْي المحصَنة، وتعلُّم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم".
    بل إن الإسلام ليربط بين الفتن المبيرة وبين الجهل حتى ليقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويُرْفَع فيها العلم، ويكثر فيها الهَرْج". والهرج: القتل. كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أن العمل مع الجهل ليس له جدوى مهما كثر، على العكس مما لو كان العمل قليلا، والعلم كثيرا: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: "العلم بالله عز وجل". قال: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: "العلم بالله". قال: يا رسول الله، أسألك عن العمل، وتخبرني عن العلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قليل العمل ينفع مع العلم، وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل".
    أما الحفاظ على البيئة فتقول فرانسيسكا دو شاتِلْ الصحفية والناشطة الأنثروبولوجية الهولندية فى مقال لها بعنوان "محمد رائد الحفاظ على البيئة" ما نصه، والترجمة لى: "جاء فى الحديث النبوى: "ما من مسلم يغرس غرسا‏ ‏أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهمة إلا كان له به ‏‏صدقة". الواقع أن القول بأن محمدا رائد من رواد الحفاظ على البيئة سوف يقع فى آذان الكثيرين فى البداية موقعا غريبا، إذ لا شك أن مصطلح "الحفاظ على البيئة" وما يرتبط به من مفاهيم مثل "البيئة" و"الوعى البيئى" و"ترشيد الاستهلاك" هى ألفاظ من اختراع العصر الحديث، أىْ مصطلحات صيغت لتواجه الاهتمامات المتزايدة بالوضع الراهن لعالم الطبيعة من حولنا.
    ومع ذلك فإن قراءة الأحاديث النبوية عن قرب، أى تلك الروايات المتعلقة بالأحداث الهامة فى حياة محمد، لَتُرِينا أنه كان واحدا من أشد المنادين بحماية البيئة. بل إن بمستطاعنا القول إنه كان فى نصرته للبيئة سابقا لعصره، أى رائدا فى مجال المحافظة على البيئة والتطور الرشيد والإدارة الحكيمة للموارد الطبيعية، وواحدا من الذين يَسْعَوْن لإقامة توازن متناسق بين الإنسان والطبيعة. وبالاستناد إلى ما أوردته لنا الأحاديث من أعماله وأقواله يمكننا القول بأن محمدا كان يتمتع باحترام عميق لعالم النباتات والأزهار وأنه كان على صلة حميمة بعناصر الطبيعة الأربعة: التراب والماء والنار والهواء. لقد كان محمد من الدعاة الأقوياء للاستخدام الرشيد للأرض والماء واستثمارهما، وكذلك المعاملة الكريمة للحيوانات والنباتات والطيور، والحقوق المتساوية لمن يتعاملون معها من البشر. وفى هذا السياق فإن حداثة رؤيته للبيئة وحداثة المفاهيم التى جاء بها فى هذا المجال لمما يَشْدَه العقل شَدْهًا، حتى لتبدو بعض أحاديثه وكأنها مناقشات عصرية حول قضايا البيئة.
    المبادئ الثلاثة: إن فلسفة محمد البيئية هى أولا وقبل كل شىء فلسفة شاملة مترابطة، إذ تقوم على أن هناك صلة أساسية وارتباطا متبادلا بين عناصر الطبيعة، كما أن نقطة انطلاقها هى الإيمان بأنه إذا أساء الإنسان استخدام عنصر من عناصر الطبيعة أو استنزفه استنزافا فإن العالم الطبيعى برُمّته سوف يضارّ أضرارا مباشرة. على أن هذا الاعتقاد لا يُنَصّ عليه فى حديث واحد نصا مباشرا، بل يمثل بالأحرى المبدأ الذى تنهض عليه جميع أقوال محمد وأفعاله. إنه فلسفة حياته التى على ضوئها نستطيع أن نبصر ملامح شخصيته. إن أهم ثلاثة مبادئ فى الفلسفة المحمدية المتعلقة بالطبيعة تقوم على تعاليم القرآن ومفاهيم الوحدانية وخلافة البشر والثقة فى الإنسان. ويمثل التوحيد حجر الزاوية فى دعوة الإسلام، وهذا التوحيد يراعى الحقيقة التى تقول بوجود خالق واحد للكون وأن الإنسان مسؤول أمامه عن أعماله: "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (المائدة/ 120).
    ويقر محمد بأن علم الله وقدرته يشملان كل شىء، ومن ثم كانت الإساءة إلى أى مخلوق من مخلوقاته، سواء كان كائنا حيا أو مصدرا من مصادر الطبيعة، ذَنْبًا من الذنوب يجازَى الإنسان عليه. وفى اعتقاده أن جميع مخلوقات الله متساوية أمامه سبحانه، وأن الحيوانات، وكذلك الأرض والغابات وينابيع المياه، ينبغى أن يكون لها حقوق تُحْتَرَم. أما مفهوما الخلافة البشرية فى الأرض والثقة فى الإنسان فينبعان من مبدإ الوحدانية. ويوضح القرآن أن الإنسان يتمتع بوضع متميز بين مخلوقات الله على الأرض، إذ اصطفاه ليكون خليفة فيها وينهض بمسؤولية العناية بغيره من مخلوقات هذا الكوكب. وهذا واجب كل فرد فينا ووجه تميُّزه، ومجلى الثقة به. ورغم هذا نرى القرآن مرارا وتكرارا ينهى الإنسان عن الكِبْر منبها إياه إلى أنه ليس أفضل من سائر المخلوقات: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" (الأنعام/ 38).
    وكان محمد يؤمن بأن الكون بما فيه من مخلوقات: حيواناتٍ كانت هذه المخلوقات أو نباتاتٍ أو مياهًا أو أرضين، لم تُخْلَق لتكون للبشر. صحيح أن لهم الحق فى استخدام موارد الطبيعة، إلا أنهم لا يمكنهم أن يتملكوها تملُّكًا. ومن هنا ففى الوقت الذى يسمح الإسلام للإنسان بحيازة الأرض نراه يضع حدودا لذلك: فعلى سبيل المثال يمكنه أن يحوز الأرض فقط طالما كان يستعملها، لكنه ما إن يكفّ عن هذا الاستعمال حتى يصبح واجبا عليه التخلى عن هذه الحيازة. ويعترف محمد بمسؤولية الإنسان أمام ربه، بيد أنه كان دائما وأبدا يدعو إلى التواضع، ومن ثَمّ نراه يقول: "إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسلة فليغرسها"، فهو هنا يبين أنه، حتى عند انتفاء كل أمل لدى للبشر، على الفرد أن يحافظ على نمو الطبيعة. لقد كان مؤمنا بأن الطبيعة حسنة فى ذاتها حتى لو لم يستفد البشر منها. وبالمثل نراه يحض أتباعه على التشارك فى موارد الطبيعة، إذ يخاطبهم قائلا: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلإ والنار". كما يعد حرمان العطشان من الماء إثما يعاقَب عليه: "من منع فضل مائه أو فضل ‏ ‏كلئه ‏ ‏منعه الله فضله يوم القيامة". والواقع أن موقف محمد تجاه الاستعمال الرشيد للأرض والمحافظة على الماء والطريقة التى كان يعامل بها الحيوانات هو دليل آخر على التواضع الذى يصبغ فلسفته حول البيئة.
    الاستخدام الرشيد للأرض: "جُعِلت لي الأرض مسجدا وطهورا". فى هذا الحديث يؤكد محمد الطبيعة المقدسة للأرض أو التربة، لا بوصفها ذاتا طاهرة فحسب، بل بوصفها مادة مُطَهِّرة كذلك. ويَظْهَر أيضا هذا الاحترامُ للأرض فى شعيرة التيمم التى تجيز للمسلم استعمال التراب فى الطهارة الواجبة عند الصلاة فى حالة فقدان الماء. وينظر محمد إلى الأرض على أنها مسخَّرة للإنسان، لكن لا ينبغى له مع ذلك أن يفرط فى استخدامها أو يسىء استعمالها، كما أن لها ذات الحقوق التى للأشجار والحيوانات البرية التى تعيش فوقها. ومن أجل المحافظة على الأرض والغابات والحيوانات البرية جعل محمد عددا من المحميات، أى الأماكن التى يحرم فيها استعمال الموارد الطبيعية، وهو ما لا يزال معروفا إلى اليوم، إذ هناك مناطق ممنوعة حول بعض الآبار وعيون الماء غايتها حماية المياه الجوفية من الاستهلاك المفرط والنفاد. ومنها المناطق الخاصة بالحيوانات البرية والغابات حيث يُمْنَع الرعى وقطع الأشجار أو يحرم التعرض لأنواع معينة من الحيوانات. ولم يشجع محمد فقط الاستعمال الرشيد للأرض، بل لفت أنظار أتباعه أيضا إلى المكاسب التى يجنيها الإنسان من إحياء الأرض البور، إذ جعل زرع شجرة أو غرس بذرة أو سَقْى أرض عطشى من أعمال البر والإحسان: "من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر". وعلى هذا فأيما شخص ساق الماء إلى قطعة أرض قاحلة فهى له.
    المحافظة على الماء: فى البيئة الصحراوية الخشنة التى كان يعيش فيها محمد يُعَدّ الماء مرادفا للحياة، فهو نعمة من الله، بل هو أصل الحياة كما يشهد بذلك القرآن: "وجعلنا من الماء كل شىء حى" (الأنبياء/ 30). ويذكِّر القرآن المسلم على الدوام بأنه خليفة الله فى الأرض، لكن لا ينبغى له مع ذلك أن يأخذ الأشياء المخلوقة على أنها أمرٌ مسلَّمٌ به: "أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ" (الواقعة/ 68- 70). كذلك كان الاقتصاد فى الماء والمحافظة على طهارته قضيتين مهمتين عند محمد. ولقد رأينا كيف أدى اهتمامه بالاستخدام الرشيد للماء إلى إقامة المحميات بالقرب من ينابيعه. وحتى عندما يكون الماء متوفرا نراه ينصح بالاقتصاد فى استعماله. ومن ذلك نهيه عن غسل أعضاء الوضوء أكثر من ثلاث مرات حتى لو كان المتوضئ على نهرٍ جارٍ. ويضيف البخارى قائلا: "‏وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم". وبالمثل نهى محمد عن تلويث المياه، وذلك بمنع التبول فى الماء الراكد.
    معاملة الحيوانات: يقول محمد: "من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها سأل الله عز وجل عنها يوم القيامة". وهو حديث يعكس إجلال محمد واحترامه وحبه للحيوانات. ذلك أنه كان يعتقد أنها، بوصفها خلقا من خلق الله، ينبغى أن تحظى بمعاملة كريمة، ففى الأحاديث النبوية عدد ضخم من الروايات والتوجيهات الخلقية والقصص التى ترسم لنا صورة عن علاقته بالحيوانات. وبعض هذه القصص ترينا أنه كان يهتم اهتماما خاصا بالإبل والخيول: فهما فى رأيه نعم الرفيق فى الأسفار والحروب، كما كان يجد كثيرا من الراحة والحكمة فى صحبتهما حسبما يقول لنا الحديث التالى: "الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة".
    وحتى فى ذبح الحيوان نجده يبدى قدرا عظيما من الرقة والمرحمة. وعلى الرغم من أنه لم يكن نباتيا فإن الأحاديث تبين لنا بوضوح أنه كان حساسا للغاية تجاه معاناة الحيوانات حتى لكأنه كان يشاركها ألمها مشاركة وجدانية. ومن هنا نجده يأمر باستعمال سكين حاد فى الذبح واتباع طريقة مسؤولة من شأنها أن تزهق روح الحيوان سريعا بحيث يخف ألم الذبيحة إلى أقصى درجة ممكنة. كما نهى عن ذبح أى حيوان أمام غيره من الحيوانات أو إحداد الشفرة بحضرته، وإلا فكأنه قد ذبحه مرتين حسبما جاء فى حديثه لمن كان يُحِدّ شفرته فى حضور ذبيحته، إذ قال له مستنكرا: "أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟". لقد كان يكره ذلك كراهية شديدة.
    وختاما: نقول إنه من المستحيل إيفاء المدى الذى بلغته فلسفة محمد البيئية، وكذلك الأهمية التى تستأهلها، حقهما فى هذه المقالة القصيرة، فرؤيته الشاملة للطبيعة وفهمه لمكان الإنسان داخل العالم الطبيعى هما رؤية وفهم رائدان فى مجال الوعى البيئى لدى المسلمين. وللأسف فإن الانسجام الذى دعا إليه محمد بين الإنسان وبيئته قد تم تجاهله فى أيامنا هذه إلى حد بعيد. وفى الوقت الذى نواجه فيه آثار التلوث والإسراف فى استخدام موارد الطبيعة والتصحير وشح الماء فى بعض الأماكن فى العالم مع المعاناة من الفيضانات والعواصف فى غيرها من الأماكن ربما يكون من الملائم بالنسبة لنا جميعا: مسلمين ونصارى ويهودًا وهندوسًا وبوذيين وملاحدةً أن نأخذ ورقة من كتاب محمد ونواجه الأزمة البيئية الحاليّة بجِدٍّ وحكمة".
    ومن هذا يتبين لنا مقدار سطحية ناشيد وسذاجته المخجلة. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإننى قد تعاملت ذات مرة مع ممرضة بإحدى مستشفيات أكسفورد حين كنت أدرس هناك فى سبعينات القرن المنصرم، فقالت، ضمن ما قالته، حين أخبرتها أننى ليس عندى هاتف فى شقتى: إننا هنا فى بلد متحضر حيث لا يمكن أحدا أن يعيش بدون هاتف. فقلت لها: إن الهاتف فى حد ذاته لا يدل بالضرورة على أن صاحبه متحضر. لكن لم يعجبها الكلام، لأفاجأ بها فى نفس اليوم قد سرقت منا نحو مائة جنيه إسترلينى أضافتها على ما كنا اتفقنا عليه نحن والمستشفى من تكلفة علاج كنتى التى حلت ضيفة علينا آنذاك من مصر. ولما راجعتها أصرت على أن هذا هو المبلغ الصحيح بعد أن راجعت المستشفى حساباتها. لكن حين أصررت على مقابلة الطبيب للتفاهم معه استسمحتنى للتو أن تتولى هى الاتصال بالطبيب وأنا واقف بردهة الانتظار بالمستشفى، ثم عادت فى لمحةٍ قائلةً إن الطبيب قد وافق على أن ندفع له المبلغ الذى كنا اتفقنا على دفعه دون أية زيادات. وطبعا لم يكن هناك طبيب ولا هُمْ يحزنون، لكنى تظاهرت بالاقتناع بما قالته من كذب. فصاحبنا ناشيد فى فهمه للتحضر هو مثل تلك الممرضة اللصة الغبية، وإن كان هناك فرق بينهما هو أنها تنتمى إلى بريطانيا إحدى دول العالم الأول بينما هو ينتمى مثلنا إلى بلد متخلف مثله، فضلا عن أنه إنما ينفذ خطة واحد من بلد الممرضة أو بلد غربى آخر.
    ومن هنا لا يمكن أن يكون كلام ناشيد صحيحا حين يزعم أن ما نقرؤه فى القرآن ليس كلام الله بل كلاما بشريا قاله محمد: "المشكلة بكل وضوح أن تعامُلنا مع القرآن لم يعد ممكنا إلاّ من خلال تمظهره الأخير، أي المصحف العثماني. بل حتى هذا المستوى لا ندركه إلاّ تجاوزا طالما أن النّسخ الأصلية لمصحف عثمان كانت ولا تزال في حكم المفقودة، ولسنا نملك اليوم من أمرها سوى النّسخ المتأخرة، وهي نسخ تمّت إعادة كتابتها عقب تقعيد اللغة والكتابة والخط، وعلى الأرجح في زمن خلافة عبد الملك بن مروان. السؤال: "أين كلام الله من كل هذا؟ الإجابة: إننا لا نملك من "كلام الله" غير "كلام رسول الله" على وجه التّحديد. وهذا ما ينسجم إلى حد ما مع الاتجاه الذي يدعو إليه الشيخ محمد الشبستري حين كتب يقول : "من الواضح أنّنا لو تبنّينا هذا الاتجاه فإنّ الكلام الوحياني الذي نقله النبي للناس يصبح كلام ذلك الانسان النبي الذي يتميز بتأييد الإرادة الإلهية له. وفي هذه الصورة، وبما أن هذا الكلام هو كلام بشر، فسوف يكون من الممكن فهمه من خلال المعايير الموجودة لفهم كلام الإنسان". أى أنه مملوء بالأخطاء وألوان الجهل والنسيان والسهو والفهم الخاطئ أو الملتبس.
    ولقد بينا آنفا أن أسلوب القرآن يختلف عن أسلوب الرسول عليه السلام. ونضيف هنا أن القرآن مفعم بالآيات التى تخاطب الرسول فى الوقت الذى لا توجد فيه آية واحدة تستخدم ضمير المتكلم له عليه السلام مباشرة. أما حين يأمره ربه بالتحدث عن نفسه فيستخدم بطبيعة الحال حينئذ ضمير المتكلم فشىء آخر. ومنه قوله تعالى مثلا فى سورة "الأحقاف": "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل وما أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم. إنْ أَتَّبِعُ إلا ما يوحَى إلىَّ. وما أنا إلا نذيرٌ مبينٌ". إذن فمحمد فى كل تلك النصوص، وما أكثرها بحيث يصح بكل يقين اتخاذها معيارا نقيس به النص القرآنى كله، لم ينس قط أنه فى حضرة ربه ولم يضطرب عليه الأمر أو يلتبس عليه الحال فيتوهم شيئا لم يقله الله أو ينسب لنفسه شيئا على غير الحقيقة.
    على أن ليس هذا كل شىء، بل هناك الآيات المتعددة التى يعاتب فيها الله رسوله أو يرفض شيئا قاله أو فعله كما فى النصوص التالية: "عبس وتولى * أنْ جاءه الأعمى * وما يدريك؟ لعله يَزَّكى * أو يَذَّكَرُ فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تَصَدَّى * وأما من جاءك يسغى * وهو يخشى * فأنت عنه تَلَهَّى * كلا إنها تذكِرة * فمَنْ شاء ذَكَرَه"، "عفا الله عنك. لم أذِنْتَ لهم حتى يتبيَّن لك الذين صدَقوا وتَعْلَمَ الكاذبين؟"، "ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يُثْخِنَ فى الأرض. تريدون عَرَضَ الدنيا، والله يريد الآخرة. والله عزيزٌ حكيم"، "ولو تَقَوَّل علينا بعض الأقاويل * لأخَذْنا منه باليمين * ثم لَقَطَعْنا منه الوَتِين * فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين"، "وتخشى الناسَ، واللهُ أحقُّ أن تخشاه"، "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا * ليغفر لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر"... إلخ. فلِمَ أبقى محمد تلك الآيات وأمثالها؟ لقد كان الرسول، لو كان الأمر على ما زعم هذا المتخرص الكذاب وأشباهه من الملتاثى العقول، أحرى أن يحول بعض آيات القرآن إلى مفاخرات ذاتية وأسرية مثلا، ولقال فى بعض آياته إن الله سوف يجلسه عن يمينه يوم الحساب ويشركه فى محاكمة البشر كما قيل فى بعض الكتب المقدسة عن غيره من الأنبياء، ولمدح عبد المطلب وأعمامه وأباه وأمه، ولأثنى على خديجة ونبل نفسها وكرم خِيمِها وعظمة إيمانها مثلا ولرثى ابنه إبراهيم وابنتيه رقية وأم كلثوم. لكنه لم يفعل. كما أن القرآن متسق لا يناقض شىء منه شيئا آخر، وصورة الألوهية هى هى فى كل مكان منه. كما أن صورة محمد واحدة فى كل موضع أتى ذكره فيه، فهو دائما أبدا عبد خاشع لربه يلزم حدوده معه سبحانه ولا يتخطاها. فكيف يأتى صعلوك تافه فيدعى أن محمدا قد أخطأ فهم الوحى وبدل به كلاما من فهمه وصياغته؟ ثم لو كان الله سبحانه قد اختار رجلا لا يفهم كلامه ويغير فيه ويبدل واعيا أو غير واع فكيف نفسر هذا من رب العباد؟ أتراه لم يحسن الاختيار؟ أترى محمدا لم يكن على قدر المسؤولية؟ ومَنْ مِنَ العقلاء يا ترى تواتيه نفسه للزعم بمثل تلك الترهات؟ وما دليله؟ وكيف عرف هذا الأفاك بوقوع ذلك فى القرآن؟ وما تلك النصوص التى أخطأ الرسول فهمها؟ وماذا كانت فى الأصل يا ترى؟ وكيف عرف الكذاب الأشر أنها هى النصوص الأصلية؟ هل اتصل به الله وشرح له الأخطاء التى وقع فيها محمد؟ ثم إن معنى ذلك كله أن هذا الكذوب المهلوس أفضل من النبى إذ استطاع تقويم سلوكه وقدرته على الفهم، أو بالأحرى: على إساءة الفهم. فهل هناك من يمكن أن يكون أفضل من النبى محمد؟ وبأى صفة يا ترى استطاع هذا المضطرب العقل والنفس أن يفوق رسول الله، الذى يقول ربه فيه: "اللهُ أعلمُ حيث يجعل رسالتَه"؟ وإذا كان الله سبحانه يقول: "سنقرئك فلا تنسى"، "لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه"، "إنا نحن نزَّلنا الذكر، وإنا له لحافظون" فكيف يأتى هذا التافه المخلول العقل فيدعى أن الله لم يكن عند كلمته فلم يحفظ الذكر الحكيم ولم يجمع القرآن بحيث لا ينسى الرسول شيئا منه؟
    ثم لو كان عثمان قد عبث بالنص القرآنى كما يزعم ناشيد فكيف سكت المسلمون؟ هل صار المسلمون كلهم على بكرة أبيهم موالسين على الباطل والزور فلم يظهر من بينهم شخص واحد يتيم يحكى ما حدث من تزييف وعدوان على القرآن؟ هل يعقل أن أمة كاملة بكل أفرادها تتواطأ على الإثم والبطلان فلا يشذ عنها ولو واحدا فحسب؟ إن هذا لهو المستحيل بعينه. ولو أهملنا كل ما قلتُه هنا واتبعنا ما تساخف به هذا السخيف فأين النص الأصلى يا ترى؟ ثم إن كلامه هذا لا يمكن أن يصدر إلا عن شخص مر بتلك التجربة، فهو يتحدث عن معرفة يقينية. فهل كان هذا الأفاق نبيا فى يوم من الأيام ووجد أن الأمر كما قال؟
    والغريب أنه ينقل بثقة مطلقة كلام الجاهل الخبيث محمد الشبسترى القائل بأن "الكلام الوحياني الذي نقله النبي للناس يصبح كلام ذلك الانسان النبي"! لقد أقر الشبسترى بالوحى، لكنه صيره كلام النبى. كيف؟ لا أدرى. إنه شغل بهلوانات! ثم إن ناشيد يتحدث عن أن القرآن قد أعيدت صياغته نحويا وصرفيا أيام عبد الملك بن مروان. فهل قُعِّدَت القواعد النحوية أيام عبد الملك فعلا؟ فمن يا ترى قعدها فى عهد ذلك الخليفة؟ وهل القواعد التى قُعِّدَتْ أتى بها النحويون المقعِّدون من كلام العرب والقرآن؟ أم هل أَتَوْا بها من الفضاء الخارجى؟ لقد أتوْا بها من شعر العرب والقرآن بطبيعة الحال، فكيف يفترض هذا المجهال أنها قد تغيرت؟ إن بين أيدينا مقياسا خارجيا هو الشعر الجاهلى، الذى يجرى على ذات القواعد التى يجرى عليها القرآن، فهو يرفع الفاعل والمبتدأ والخبر واسم "كان" وخبر "إن" وخبر "لا النافية للجنس" والمضارع الذى لم يسبقه ناصب أو جازم، ويجر ما جاء من الأسماء بعد "مِنْ والكاف والباء والتاء وإلى وعن وعلى..."، وينصب المفعول والحال والتمييز ومعظم المستثنيات والفعل المضارع بعد "كى ولن وإذن وفاء السببية"... وهلم جرا. فكيف يا ترى يصح الزعم بأن المسلمين قد غيروا قواعد القرآن؟
    ثم لماذا يفكرون فى تغيير قواعد كتاب الله الكريم؟ هل كان المسلمون قوما ملتاثين كصاحبنا يأتون من التصرفات كل شاذ نافر من العقل والمنطق فارغ من المعنى والغاية؟ ومرة أخرى أين النص الأصلى الذى كان يجرى على قواعد نحوية وصرفية مختلفة؟ ولماذا لم يأتنا هذا الحمار ولو بشاهد واحد على هذا العته الذى يقول؟ إن القواعد إنما تستخلص من نصوص اللغة ذاتها حفاظا على تلك اللغة لا من خارجها وبغرض قلب أوضاعها رأسا على عقب. وكيف أيضا فات هذا الأمر المشركين واليهود والنصارى والمنافقين فلم يتهكموا بتحدى القرآن لهم أن يأتوا بسورة من مثله؟ لقد كانوا أقمن بأن يجيبوه قائلين: وعلام التحدى يا محمد، ونحن نراك تضطرب فى نقل ما تزعمه وحيا إلينا فتحوله إلى أفكار لك وتصوغها بأسلوبك؟ فكيف تتحدانا إذن بكلامك؟ وبالمناسبة فقد سبق أن ادعى د. إبراهيم أنيس فى الستينات أن القرآن لم يكن مُعْرَبًا ثم أُعْرِب بعد نزوله بعقود من السنين، وهو ما رددت عليه وفضحت تهافته وتفاهته وبعده التام عن العلمية والمنهجية والمنطق والتاريخ فى كتابى: "دراسات فى اللغة والأدب والدين". أى أننا موعودون كل حين بواحد من مهتلسى العقول يطرح علينا أفكار المجانين. وبثقة الخبثاء الجهلاء يقول الحمار فى نهاية هذا الكلام: "إن الوحي الإلاهي بعد أن صيّره الرّسول عليه السلام قرآنا محمديا، ثم صيّره المسلمون مصحفا عثمانيا، صار نصًّا بشريًّا بلغة البشر وعلى قدر أفهامهم".
    وأخيرا فهل كان أعداء الإسلام ليسكتوا فلا ينبسوا ببنت شفة فضحًا للمسلمين وبرهنةً على أنهم قد حرَّفوا كتابهم المقدس الذى يقولون إنه نزل على نبيهم؟ لقد كتب ثيوفانيس المؤرخ البيزنطى الشهير من أهل القرن الثامن الميلادى عن الوقائع الكبرى فى حياة الرسول الكريم مكذبا لنبوته صلى الله عليه وسلم ومتجاوزا حدود الأدب. أَوَلَوْ كان صحيحا ما يزعمه الكاتب الضلالى من أن قواعد النحو والصرف قد تغيرت فى القرآن أكان ثيوفانيس يسكت فلا يطنطن بما حدث وينشره فى العالمين؟ لقد قال فى كتابه:"The Chronicles of Theophanes” عن أحداث سنة 630م: "في هذه السنة تُوُفِّيَ محمد زعيم العرب ونبيهم الكاذب. وقبل موته قام باختيار قريبه أبي بكر ليخلفه فى الزعامة. وعند انتشار أخباره خارج بلاد العرب انتاب الجميع الرعب. وفى البداية صَدَّقه اليهود المغرَّر بهم ظنا منهم أنه المسيح المنتظر، وانضم عدد من زعمائهم إلى دينه، تاركين موسى، الذي رأى الإله. وكان عدد هؤلاء عشرة بَقُوا إلى جانبه إلى أن اغتيل. ولكن حينما رَأَوْه يأكل لحم الإبل عرفوا أنه ليس المسيح المنتظر. ومع هذا كانوا في حيرة من أمرهم لأنهم كانوا يَخْشَوْن ترك دينِه، فبَقُوا معه وعلموه أشياء غير مشروعة ضدنا نحن النصارى.
    ومن الضروري، فيما أتصور، الحديث عن أصل ذلك الرجل. فهو ينحدر من قبيلة كبيرة ترجع بدورها إلى إسماعيل بن إبراهيم، ومن إسماعيل ينحدرُ نزار، الذي يُعْتَقَد أنه أبو العرب أجمعين. وكان لدي نزار ابنان هما مضر وربيعة، وأبناء مضر هم قريش وقيس وتميم وأسد وآخرون غير معروفين. وكانوا يعيشون بصحراء مدين في الخيام ويرعون الماشية، وكان هناك قبائل أخرى بعيدون عنهم وغير منتسبين إليهم هم قبائل قحطان، أى الحميريون. ولكون محمد مُعْدِمًا يتيما فقد عَمِل لدى سيدة غنية من أقربائه اسمها خديجة فى التجارة بأموالها مع القوافل في أسواق مصر وفلسطين. ثم أحبته وتزوجته، وكانت أرملة، وصارت له أموالها وإبلها.
    وعندما كان يذهب إلى فلسطين كان يختلط باليهود والنصارى ساعيا إلى الحصول منهم على المعارف الكتابية. وكان يعانى أيضا من الصَّرْع. وعندما لاحظت زوجته ذلك اعتراها الحزن لأنها، وهى الشريفة، قد ارتبطت برجل يتيم مريض بالصرع، فعمل على خداعها قائلا إنه يشاهد دائما رؤيا فيها ملاك يدعى: جبريل، وكلما رآه سقط مغشيا عليه. فأخبرت خديجة بتلك الرؤيا صديقا لها راهبا كان قد طُرِدَ جراء عقيدته المنحرفة، فعمل على طمأنتها قائلا لها إن محمدا صادق، وإنّ الملاك المذكور هو الملاك الذى يرسله الله إلى جميع الأنبياء.
    وقد أصبحت خديجة، جراء كلام ذلك الراهب المزيف، أول المؤمنين بمحمد، وقامت بتبليغ الدين الجديد إلى جميع نساءِ قبيلتها، اللاتى بلغنه بدورهن إلى رجالهن. وأول من صدق به هو أبو بكر، الذي أصبح خليفته. وقد غزت بدعة هذا الرجل يثربَ عن طريق الحرب كحل أخير بعدما ظل يدعو إليها سرا عشر سنوات، ثم تسعا أخرى من خلال القتال. وقد علّم أتباعه أن من قُتِل على يد الأعداء يدخل الجنة حيث يستمتع بالطعام والشراب ومعاشرة النساء وأنهار الخمر والعسل واللبن وغير ذلك من ضروب التهتك والغباء، وأن المسلمين ينبغى أن يتراحموا ويتعاونوا ويقيلوا من يخطئ منهم من عثاره". فهذا ما قاله ثيوفانس بصوابه وخطئه، ولم يتعرض من قريب أو من بعيد إلى تلك الفرية الكاذبة، فرية تغيير قواعد النحو والصرف فى القرآن الكريم، وكان حريا أن يكتب عنها ويطنطن بها، على الأقل ردا على اتهام القرآن لأهل الكتاب بأنهم حرفوا الكلم فيه عن مواضعه.
    ويمضى ناشيد فى ترهاته زاعما أن فى القرآن مآخذ فيقول: "وفي ذلك نلاحظ وجود أربع سمات طبعت آيات القرآن: 1- أنها لم تكن دائماً على نفس المرتبة من القوة والإتقان. وهذا ما يفسر ظاهرة وجود آيات محكمات وآيات متشابهات. وهو ما تعبِّر عنه الآية: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أُمّ الكتاب وأُخَرُ متشابهات" (سورة آل عمران، الآية 7). يقول جلال الدين السيوطي: "قال تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنَّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات. وقد حكى ابن حبيب النيسابوري في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن القرآن كله مُحْكَم لقوله تعالى: كتابٌ أُحْكِمَتْ آياته". الثاني: كله متشابه لقوله تعالى: "كتابا متشابها مَثَانِىَ". الثالث، وهو الصحيح: انقسامه إلى مُحْكَمٍ ومتشابِهٍ للآية المُصَدَّر بها". وإن اختلف العلماء في تحديد الآيات المحكمات والآيات المتشابهات فقد اتفقوا عموما حول أن الآيات المتشابهات هي الأقل وضوحا. ويعرض السيوطي لأهم الآراء التي تبين ذلك الاتفاق: "وقد اخْتُلِف في تعيين المحكم والمتشابه على أقوال. فقيل: المحكم ما عُرِف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطَّعة في أوائل السور. وقيل: المحكم ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه. وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل أوجها".
    2- أنها ليست دائما على نفس المستوى من القيمة والأفضلية، وأن هناك آيات "خير" من آيات أخرى بحسب ما تعبر عنه الآية: "ما نَنْسَخْ من آيةٍ أو نُنْسِها نَأْتِ بخيرٍ منها أو مِثْلِها" (البقرة/ 106). وهناك آيات "أحسن" من آيات أخرى بحسب ما تؤكده الآية: "واتّبِعوا أحسنَ ما أُنْزِل إليكم من ربكم" (الزُّمَر، الآية 55). ثم إن الرسول نفسه يعترف بأن بعض السور والآيات القرآنية تتمتع بالأفضلية، مثل آية الكرسي وسورة "الإخلاص". بل كان يصر على اعتبار "الفاتحة" هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم، في صيغ كثيرة رواها البخاري ومسلم وغيرهما. وفي كل الأحوال إن الآيات والسور "المفضَّلة" لا تدخل ضمن الأحكام والشرائع، وإنما ضمن آيات التعبّد الرِّبَوِبيّ الخالص.
    3- أنها ليست معصومة عن الخطأ، سواء بسبب الصراع النفسي الذي عانى منه الرسول، أو جَرَّاءَ ظروف إملاء وكتابة المصاحف قبل ظهور قواعد جامعة للغة العربية. وهذان الاعتباران يفسران ظاهرتين اثنتين: أولاهما تسرُّب بعض الآيات الشيطانية قبل نسخها فيما تبرره الآية: "وما أرسلنا من قبلك مِنْ رسولٍ ولا نبيٍّ إلاّ إذا تمنَّى ألقَى الشيطانُ في أمنيّته فينسخ الله ما يُلْقِي الشيطانُ ثم يُحْكِم الله آياتِه. والله عليم حكيم" (سورة الحج، الآية 52). ثانيهما (الصواب: "ثانيتهما"- إبراهيم عوض) تسرُّب الكثير من الهفوات والهَنَات النحوية إلى مصحف عثمان باعتراف القدامى أنفسهم سنذكرها في سياق تناول الموضوع. 4- إن الرسول قد اكتفى أحيانا لدى صياغة بعض الآيات بما بلغ إلى مسامعه من عبارات قالها آخرون من الصحابة فيما اصطلح عليه بـ"ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة". وعلى سبيل الاستدلال نذكر، ضمن ما أورده السيوطي في "الاتقان في علوم القرآن، ما يلى: "أخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. قال ابن عمر: وما نزل بالناس أمر قط فقالوا له وقال إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر". وأخرج ابن مردويه عن مجاهد قال: "كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن". وأخرج البخاري وغيره عن أنس قال، قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث. قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: "واتخِذوا من مقام إبراهيم مصلى". وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البَرُّ والفاجرُ. فلو أمرتهن أن يحتجبن. فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه إنْ طلقكنّ أن يُبْدِله أزواجا خيرا منكن، فنزلتْ كذلك. وأخرج مسلم عن ابن عمر عن عمر قال: "وافقتُ ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم". وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: قال عمر: "وافقت ربي أو وافقني ربي في أربع. نزلت هذه الآية: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين... الآية"، فلما نزلت قلت أنا: فتبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت "فتبارك الله أحسن الخالقين". وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر بن الخطاب فقال: إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدوّ لنا. فقال عمر: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين. قال: فنزلت على لسان عمر. وأخرج سُنَيْد في تفسيره عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة قال: سبحانك! هذا بهتان عظيم، فنزلت كذلك. وأخرج ابن أخي ميمي في فوائده عن سعيد بن المسيب قال : كان رجلان من أصحاب النبي إذا سمعا شيئا من ذلك قالا: سبحانك هذا بهتان عظيم: زيد بن حارثة وأبو أيوب، فنزلت كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما أبطأ على النساء الخبر في أُحُد خرجن يستخبرن، فإذا رجلان مقبلان على بعير فقالت امرأة: ما فعل رسول الله؟ قال: حيّ. قالت: فلا أبالي يتخذ الله من عباده الشهداء، فنزل القرآن على ما قالت: "ويتخذ منكم شهداء". وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا الواقدي حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فقُطِعت يده اليمنى، فأخذ اللواء بيده اليسرى وهو يقول: وما محمد إلا رسول قد خَلَتْ من قبله الرسل أفإنْ مات أو قُتِل انقلبتم على أعقابكم؟ ثم قطعت يده اليسرى فحَنَا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وما محمد إلا رسول... الآية. ثم قُتِل فسقط اللواء. قال محمد بن شرحبيل: وما نزلت هذه الآية: "وما محمد إلا رسول" يومئذ حتى نزلت بعد ذلك". إذن ليس الخطاب القرآني خطبة إلهية نزلت من السماء جاهزة ناجزة وألقيت على السامعين كما أنزلت بالتمام، إنما القرآن إبداع تمثّلي وتأويلي أنجزه الرسول انطلاقا من الطاقة الوحيانية التي تملكها، وفي سياق نفسي واجتماعي وثقافي محدّد".
    فأما قوله إن آيات القرآن ليست على مستوى واحد من القوة والإتقان لأنها تنقسم إلى آيات محكمة وأخرى متشابهة، وإن المحكمة متقنة، بينما المتشابهة غير ذلك، فردنا هو أن علماء القرآن الفرق قد شرحوا الفرق بين المحكم والمتشابه، ولم يذكروا هذا المعنى قط فى كلامهم. نعم من الطبيعى أن يكون هناك فرق بين آيات وآيات: فهذه مثلا تتناول الأمور التى تقع حولنا، وتلك تتناول ما كان أمرا غيبيا، أو هذه تختص بالمبادئ العامة، وتلك بالتفاصيل المتعلقة بتلك المبادئ... وهكذا، لكن هذا لا يعنى أبدا أن هذا الطرف أتقن من ذاك أو العكس. ونحن لسنا مسؤولين عن الاضطراب الذى يدور فى ذهن ناشيد. إن الإتقان إنما يكون فى تأدية الأمر أداء حسنا لا عيب فيه، فهل الآيات المتشابهات بطبيعتها لا تعرف الإتقان؟ كيف؟ وأين الدليل؟ ومن يقول بذلك من العقلاء يا ترى؟
    أما قول الرسول مثلا إن "الفاتحة" هى أم القرآن فلا يعنى أنها أفضل من باقى السور، بل يعنى مثلا أن من يحفظها فقد حاز حظا عظيما، إذ هى النص القرآنى الذى لا بد من تلاوته فى كل ركعة من الصلاة، وفيها أهم ما فى القرآن من حمد لله وتذكر لرحمته ومُلْكه ليوم الدين، وفيها إعلان العبادة لله والاستعانة به وحده... وهكذا، كل ذلك فى آيات معدودات لا تزيد عن ست. و"أم القرآن" صورة مجازية كما هو مفهوم. وعلى كل فالأم وأولادها جميعهم بشر متساوون فى البشرية، وإن كانت هذه أما، وهؤلاء أبناءها. وأما قول ناشيد إن آيات القرآن غير معصومة من الخطإ بدليل أن ثم آيتين شيطانيتين قد تسربتا إلى القرآن فلنفترض أن ذلك صحيح، وما هو بصحيح أبدا كما سنبين بعد قليل، ألم يقم الرسول بحذفهما فى التو والساعة؟ أليس معنى هذا أن هناك رقيبا عليه ينبهه إلى الخطإ وينقى النص القرآنى منه؟ فكيف يتسق هذا مع زعم ناشيد بأن الرسول كان يخطئ فهم الوحى ويذيعه على نحو مخالف متأثرا بأوضاع عصره؟ ألم تكن الوثنية على رأس أوضاع ذلك العصر؟ فكيف هاجمها كل ذلك الهجوم الموجود فى القرآن أولا، ثم لما أخلص لمقتضيات عصره ومدحها سرعان ما حذف ذلك المديح؟ وهذا إن كانت تلك العبارتان هما من القرآن أصلا؟ ذلك أنهما تختلفان عن أسلوب القرآن الكريم تمام الاختلاف. فتركيب "أفرأيتم...؟" الوارد فى قوله تعالى: "أفرأيتم اللاتَ والعزَّى * ومناة الثالثة الأخرى؟" لم يأت قط فى القرآن، على كثرة ما تكرر فيه، إلا فى مخاصمة المشركين والزراية عليهم وتخطئتهم. فكيف يأتى بالذات فى هذا الموضع المشكوك فيه ضمن سياق مدح الأصنام والثناء عليها والقول بقبول شفاعتها على ما تقول العبارتان المقصودتان: "إنهن الغرانيق العلا * وإن شفاعتهن لتُرْتَجَى"؟ ثم كيف غفل المغفلون عن أن كلمة "الغرانيق" ليست من معجم القرآن؟ وكيف غفل المغفلون عن أن الفعل: "ارتضى يرتضى" لم يأت قط فى القرآن مبنيا للمفعول؟ وكيف غفل المغفلون عن أن القرآن لم ينص على قبول الشفاعة من أى أحد فى أى موضع منه دون أن يعلقها على مشيئة الله؟ وكيف غفل الغافلون عن أنه لا يمكن أن تشتمل سورة "النجم"، التى يقال إنها كانت تضم تينك العبارتين المشبوهتين، على مدح تلك الأوثان وذمها فى نفس الموضع، إذ يقول القرآن بُعَيْد ذلك: "إنْ هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن يتَّبِعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس..."؟ إن هذا غير ممكن، ومن شأنه أن يثير استهزاء المشركين وتعجبهم وسخريتهم فى الحال، وهو ما لم يحدث. والغريب العجيب أن ناشيد يصف النبى فى موضع آخر من كتابه بـ"النبى الأمين". وهل ترك ناشيد له شيئا من أمانة؟
    أما قول بعض العلماء إن هذا الصحابى أو ذاك قد وافق القرآن فى هذه العبارة أو تلك فالمقصود أنه قد أشار إلى المعنى لا اللفظ. وما الغرابة فى أن يصيب الصحابى القول فيستحسنه القرآن بعدما تشرب الإسلامَ، واستقر كتاب الله ومضامينه ومبادئه وقيمه فى قلبه وعقله، وسرى سريانا فى دمائه وكيانه؟ أم ترى ذلك الغِرّ يظن أن الصحابة سوف يظلون أوفياء لما فى مجتمعهم من انحرافات عقيدية وتشريعية وخلقية فلا يتأثروا بالدين الجديد الذى تركوا كل ما كان عليه آباؤهم من عقائد وأخلاق وقيم وعادات وتقاليد واعتنقوه والتزموه وتمسكوا به؟ ثم فلنفترض أن الصحابى المذكور قد نطق العبارة بنصها، فما المشكلة فى ذلك؟ ألا يحتوى كلامنا دائما على عبارة قالها فلان أو علان أو ترتان، ولا يقال رغم ذلك إن كلامنا لا يمت إلينا؟ ومع هذا فيمكن مع ذلك تفسير الأمر على النحو الذى نفسره به حين نُلْفِى أحد المستمعين مثلا لقصيدة تُلْقَى أمامه يسارع فيكمل آخر كلمة أو كلمتين فى البيت تفطنا منه وتوقعا لما هو آت من فرط اهتمامه بالموضوع وتعوده على أسلوب الشاعر، وبخاصة أن الفاصلة القرآنية فى نهاية الآية تساعد على إصابة التوقع. إنه انتظار وتوقع وليس إبداعا وخلقا، وبخاصة أننا نعرف تماما أن كثيرا من معانى القرآن وعباراته تتكرر بحذافيرها أو مع اختلاف ضئيل.
    وأما شغب ناشيد بخصوص قوله سبحانه: "ما ننسخْ من آية أو ننسها نَأْتِ بخيرٍ منها أو مِثْلِها" فلا أدرى كيف فاته معناها، وهو أننا إذا ما نسخنا آية أتيناكم بآية أخرى تناسب وضعكم الجديد، ومع هذا سوف تُعْطَوْن على العمل بها أجرا أكبر أو على الأقل لا يقل عن أجر العمل بالأولى. ذلك أن البعض ربما ظن أن الأجر على العمل بالآية المنسوخة كان أكبر، فأراد القرآن أن يبث الطمأنينة فى نفوسهم. والغريب أن ناشيد يحاول إيهام القراء بأن الفارابى يوافقه على تُرَّهَاته هذه حين يقول إن النبوة هى أكمل المراتب التى يبلغها الإنسان بقوة المخيلة. وكلام الفارابى على العكس مما يرمى إليه ناشيد، إذ يؤكد أن مرتبة النبى هى أكمل المراتب. أى أنها أكمل من مرتبة الفلاسفة والعلماء. لكن ناشيد يزعم أن الرسول كان يخطئ مراد الوحى ويضطرب فى فهمه وينزل فى التعبير عنه على مقتضيات عصره الثقافية والحضارية. فكأن الله كان يخطئ ولا يتعلم من خطئه أبدا، إذ كان فى كل مرة يُنْزِل على محمد الوحى سليما نقيا، فيأتى محمد فى كل مرة أيضا فيفسده ويعكره ويجعل عاليه سافله، وسافله عاليه، لكن الله لا يكف عن المحاولة أبدا. ويا لها من محاولات عابثة. هكذا يفكر ناشيد بعقله الإجرامى محاولا مع ذلك إقناعنا أنه الوحيد الذى فهم الفولة وقشرتها، وأنه الشخص الفريد الذى اصطفاه الله فأطلعه على محاولاته الفاشلة مع محمد وقال له: عليك بإبلاغها للمسلمين حتى يكفّوا عن تصديق محمد وعن الإيمان بما تلاه عليهم من قرآن مزيف. وأما إشارة الفارابى إلى المخيلة فمعناها، فيما هو واضح بيِّن، أن أحدا غير النبى لا يمكنه إدراك ما يشاهده أو يسمعه من عالم الغيب عند نزول الوحى، إذ يتطلب قوة تخيلية يرى ويسمع بها ما لا تستطيع العيون ولا الآذان أن تلتقطه. إنه يراها ويسمعها بعين خياله، أى بصيرته، لا بعينه وأذنه الماديتين اللتين لا تدركان مثل تلك الأمور الغيبية. لكن على من تقرأ مزاميرك يا فارابى؟ إن الأغبياء لا يفهمون!
    وهذا نص ما قاله الفارابى، الذى لا نعد كلامه مع هذا وحيا مقدسا لا تصح مخالفته، لكننا أتينا به لنثبت للقراء الكرام أن ناشيد دجال كبير: "وأول الرتبة التي بها الإنسان إنسان هو أن تحصل الهيئة الطبيعية القابلة المعدّة لأن يصير عقلا بالفعل. وهذه هي المشتركة للجميع. فبينها وبين العقل الفعّال رتبتان هما أن يحصل العقل المنفعل بالفعل، وأن يحصل العقل المستفاد. وبين هذا الإنسان الذي بلغ هذا المبلغ من أول رتبة الإنسانية وبين العقل الفعّال رتبتان. واذا جعل العقل المنفعل الكامل والهيئة الطبيعية كشيء واحد على مثال ما يكون المؤتلف من المادة والصورة شيئا واحدا، وإذا أخذ هذا الانسان صورة إنسانية هو العقل المنفعل الحاصل بالفعل، كان بينه وبين العقل الفعّال رتبة واحدة فقط. وإذا جعلت الهيئة الطبيعية مادة العقل المنفعل (الذي صار عقلا بالفعل)، والمنفعل مادة المستفاد، والمستفاد مادة العقل الفعّال، وأخذت جملة ذلك كشيء واحد، كان هذا الإنسان هو الإنسان الذي حلّ فيه العقل الفعّال. وإذا حصل ذلك في كِلا جُزْئَيْ قوّته الناطقة، وهما النظرية والعملية، ثم في قوّته المتخيلة، كان هذا الانسان هو الذي يوحى إليه. فيكون اللّه عز وجل يوحي إليه بتوسّط العقل الفعّال، فيكون ما يفيض من اللّه تبارك وتعالى إلى العقل الفعّال يفيضه العقل الفعّال إلى عقله المنفعل بتوسّط العقل المستفاد، ثم إلى قوته المتخيلة. فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيما فيلسوفا ومتعقلا على التمام، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيا منذرا بما سيكون ومخبرا بما هو الآن عن الجزئيات، بوجود يعقل فيه الإلهي".
    ولا يكتفى ناشيد بزعمه أن الوحى الإلهى يتشكل طبقا لظروف النبى وأوضاع عصره بل يضيف إليه قوله: "اختلف الوحي عند كل نبي طبقاً لمزاجه على النحو التالي: إذا كان النبي ذا مزاج مرح تُوحَى إليه الحوادثُ التي تعطي الناس الفرح مثل الانتصارات والسلام. وبالفعل نجد أن من لهم هذا المزاج قد اعتادوا أن يتخيلوا أمورا كهذه. وعلى العكس من ذلك، إذا كان النبي ذا مزاج حزين تُوحَى إليه الشرورُ كالحرب والعذاب. وإذا كان النبيّ رحيما ألوفا غضوبا قاسيا كان قادرا على تلقي هذا الوحي أو ذاك. كذلك فإن فوارق الخيال تكون على النحو الآتي: إذا كان النبي مرهفا فإنه يدرك فكر الله ويعبّر عنه بأسلوب مرهَف أيضا. وإذا كان مهوَّشا أدركه مهوَّشا. ومثل هذا يصدق على الوحي الذي يتمثل بالصورة المجازية: فإذا كان النبي من أهل الريف كانت صورة الوحي متضمِّنة للأبقار والجاموس، وإذا كان جنديا تكون صورة قواد وجيش، وأخيرا إذا كان رجل بلاط تمثَّل له عرش ملك وما شابه ذلك".
    هذا ما قاله سعيد ناشيد. وإذن فمن الممكن أن يكون النبى ممثلا فكاهيا يقضى يومه فى تبادل النكات والقوافى مع منافسيه وترنّ على الدوام ضحكاتهم لا تتوقف. ولا مانع أيضا من أن يكون النبى بلياتشو فى سيرك كأولاد الحلو فى القاهرة، الذين أكل الأسد واحدا منهم، أو مغنى مونولوجات كإسماعيل يس ومحمود شكوكو وعمر الجيزاوى وحمادة سلطان. ودِينٌ كهذا لا بد أن يدخله الناس بالملايين من أول يوم، وبدلا من أن يشتموا نبيهم أو يطاردوه بالحجارة فى الشوارع أو يتآمروا على اغتياله نراهم وقد انتظموا صفوفا بطول البلاد وعرضها يبغون تسجيل أسمائهم فى الدين الجديد، دين الفرفشة والمزاج العالى. وعوضا عن ارتيادهم المساجد للصلاة وذكر الله نراهم وقد ملأوا الكباريهات وصالات الموسيقى والمسارح يقرقعون بالضحكات والتصفيق لا يشغلهم هَمٌّ ولا يفكرون فى أى شىء مما يفكر فيه أتباع الديانات الأخرى، ديانات الغم والنكد والصيام والحج والصلوات والتحيات (المباركات؟ لا بل) المزعِجات المرهِقات! ولكن ألم يلاحظ هذا المأفون أن دين محمد يتحدث عن بهيمة الأنعام وعن الموازين والمكاييل وعن البحار والأمواج العاتية الهائلة كالجبال وعن القصور والعرش الإلهى مما لا علاقة له بحياة محمد، إذ لم تكن فى حياته بهائم أو مكاييل أو موازين أو بحار أو حتى أنهار أو أسماك وحيتان أو عرش؟ ألا يرى القارئ أن عقل ذلك الشخص عقلٌ مخالَط؟
    وفى خطوة أخرى نحو الغاية المنشودة التى يتوخاها ناشيد نجده يقول: "صِدْقًا نقول: فكرة وجود الله الواحد الأحد والذي لا إله إلا هو فكرة نبيلة وجميلة، بل لعلها من أنبل وأجمل ما أبدع الفلاسفة والأنبياء على السواء، وهي أساس النزعة الإنسانية، بل أساس النزعة العقلانية أيضا. لكن الأسلوب الذي تناولتْ به كافةُ النصوص الدينية فكرةَ التوحيد الربوبي لا يناسب في الغالب سوى المستوى الإدراكي والخلفية الأخلاقية والذوق الجمالي لإنسان العالم القديم: عالم المشكاة والهودج والقبيلة والسيف والطاعة والقصاص والجن والعفاريت والشياطين والسحرة والرقية. وإذا كانت البشرية لا تزال بحاجة إلى الله، سواء بسبب رهبة الموت وقلق العدم ولامعقولية الطبيعة والكون وشاعرية الحياة أو بسبب أن الوجود مجرّد نقص في الأصل ولغز بلا حل، فإن النّصوص الدينية "المقدّسة " لكافة الأديان، ومن ضمنها الإسلام، تنتمي إلى السياق التواصليّ والقِيَمِيّ للعالم القديم. وهي ما عادت تلبي احتياجات مجتمعات الحداثة السياسية والديمقراطية والحريات الفردية وحقوق الإنسان.
    المطلوب بالتالي أن نخلِّص فكرة الله من كل مفاهيم وقيم العالم القديم. وإلا ما معنى عبارة "الله أكبر" إن لم تكن تعني أن الله أكبر من كل الكلمات والأشياء، وأكبر من التراث والأصحاح والمصاحف، وأكبر من مكتسبات السلف خيرها وشرها؟ ما معنى عبارة "وإليه تُرْجَعُون" أو "إلينا مَرْجِعُكم"، التي تتكرّر في النص القرآني مرارا إن لم تكن تعني ألاَّ مرجع دائم ولا مرجعية أبدية لأي شيء آخر إلا الله؟ بل حتى الذات الإلهية نفسها هي أقرب إلى التحوّل منها إلى الثبات. ويكفينا بيانا أن الله يصف نفسه في القرآن الكريم بأنه "كلَّ يومٍ هو في شأن" (الرحمان/ 29). ولستُ أدري إن كان بوسعي أن أجازف قليلا بالقول إنه ما "كان عرشه على الماء" إلاّ من حيث الصورة الوحيانية ولما يرمز له ركوب الماء من غياب للثبات وانعدام للاستقرار بخلاف اليابسة حيث الثبات والاستقرار. ولعل الرّسول قد تمثَّل الصورة الوحيانية هنا بعبارات "حَرْفيَّة". وفي كل الأحوال ترتبط الصور الوحيانية بتمثلات ثقافية وحَدْسِيّة محدّدة في الزمان والمكان. فلقد كان مبدأ الألوهية في العالم القديم يقوم على أساس مفاهيم العبودية بما يعنيه ذلك من تسليم وخضوع وخشوع. وهذا ما كان ينسجم مع التركيبة النفسية لإنسان العالم القديم. لكن مثل هذا لم يعد يناسب إنسان الحداثة. ما نحرص على تأكيده هو أن تقديس النص الديني الكتابي، وهو تقديس لا يجوز لغير الذات الإلهية، قد حَرَم فكرة الله من ذلك الامتياز الشفوي الذي كان يسمح لها بأن تواكب النمو العقلي والمعرفي والأخلاقي للإنسان".
    وهذا كلام عجيب لا يمكن أن يصدر إلا عن عقل مهترئ. إن ناشيد يفسر قوله تعالى: "وكان عرشه على الماء" بمعنى أنه غير مستقر ولا ثابت. طبعا، فالبحر لا تستقر أمواجه، ومن ثم كان من الطبيعى ألا يستقر عرش الله أيضا فوقه، بل هو متراقص يصعد ويهبط. وقد يزداد صعودا حتى ليناطح الجبال، ويزداد هبوطا حتى ليغوص إلى القاع ويغرق بمن عليه، وبخاصة إذا كان مَنْ عليه لا يعرف العوم. وما دام النص القرآنى لم يذكر أنه سبحانه على معرفة بالسباحة فالمصير الحتمى الذى ينتظره، طبقا لهذا المعتوه، أن يغرق بين طيات الأمواج فتأكله الأسماك وتنتهى الألوهية إلى أبد الآبدين ويرتاح سعيد ناشيد المتخلف. ترى هل هذا كلام شخص يتمتع بعقل وفهم وإدراك لما يقول؟ إنه لمجنون رسمى. وبالمناسبة فهذا الكلام عن عدم استقرار العرش الإلهى يذكرنى، وليس فى العلم حياء ولا خجل، بما قالته د. ألفة يوسف التونسية فى كتابها: "حيرة مسلمة فى الميراث والزواج والمثلية الجنسية" دفاعًا عن إتيان النساء فى أدبارهن (ما حكاية الحداثيين والحداثيات بالضبط؟) وردًّا منها على من يحرّم ذلك اعتمادا على قوله تعالى: "نساؤكم حَرْثٌ لكم"، من أن هذا التشبيه لا يعنى وجوب اقتصار جِمَاعهن على الأمام من الموضع الذى ينجبن منه تشبيها له بالأرض التى يُبْذَر فيها الحَبُّ فتنبت، إذ تقول إن الإشارة بالحرث هنا، أى الأرض، إنما تعنى أنها تهتز وتربو كما جاء فى وصف القرآن للأرض غب نزول المطر، فمن المعروف أن المرأة حين يجامعها الرجل من خلفٍ تهتز هى أيضا. فهى إذن تشبِّه الأرض، أى الحرث، فى اهتزازها. فها هو ذا القارئ يرى بنفسه أننا فى كلتا الحالتين أمام اهتزاز وتراقص. وكله يدلّع نفسه!
    وما دام العرش يهتز فالله متحول لا ثابت. ودليل ذلك المتخلف قوله تعالى عن ذاته العلية: "كلَّ يوم هو فى شأن". وفات هذا الجاهل أن شؤون الحياة والمخلوقات لا تنتهى، ومن ثم فالله كل يوم فى شأن بل فى شؤون، بل فى ديشليونات الشؤون. لكنه استخدم الإفراد للدلالة على الجنس كله، فهو سبحانه وتعالى لا يَفْرُق معه أن يكون هناك شأن واحد أو شؤون لا تحصى ولا تعد يدبرها. ولكنه جل جلاله "لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ" كما كان القدماء يقولون. ومع هذا نرى متخلفنا الأخطل بعد قليل يستشهد على ثبات الله وبقائه دون تغير بقوله سبحانه: "ويَبْقَى وجهُ ربِّك ذو الجلال والإكرام"، وذلك فى سياق رده على القول ببقاء أوامر الدين ونواهيه ومفاهيمه ومبادئه وقيمه وعقائده، إذ كل هذا عنده زائل لا يبقى على حال، ولا بد له من التغير والتطور ما عدا الله، فهو الوحيد الباقى على حاله لا يعتريه تغير! ولله فى خلقه شؤون!
    كذلك يقول ناشيد إن الألوهية قديما كانت تقوم على الطاعة والخضوع، أى خضوع البشر وطاعتهم لله سبحانه، وهو ما لم يعد صالحا لعصرنا، عصر الندية وتساوى الرؤوس بحيث إذا ما قيل لنا: أطيعوا الله (وبلاش الرسول وحياة والدك لأننا لم نخلص بعد من طاعة الله) قلنا: بل فليطعنا هو. وإذا ما طولبنا بالخضوع له عز وجل كان ردنا الحاسم: بل عليه أن يطيعنا هو، فقد مللنا من كثرة ما أطعناه قديما. وإذا أوقع بنا مكروها لم نتصبر ونحمده بل وجهنا إليه سبحانه اللكمات: ضربة مقابل ضربة، وصفعة لقاء صفعة. ولا أحد أحسن من أحد. نحن الآن فى عصر الديمقراطية والحداثة. يقول ناشيد هذا، وهو وأمثاله من أجبن الجبناء، فهم ركوبة كل مستبد زنيم. إنهم مطايا طيعة للدكتاتورية!
    وناشيد يجعل فكرة الألوهية مجرد اختراع من اختراعات الفلاسفة والأنبياء. أى أنها فكرة وهمية لا تقوم على أساس، بل ترجع إلى الخوف من المجهول والشعور بنقص الكون وما إلى ذلك كما يزعم. وهذا يعنى أننا لا نؤمن بالله بسبب أنه فعلا موجود بل لأن هناك ما نخاف منه ونرتعب، فنحن نرتكن إلى الله مثل أى أطفال صغار ضعفاء جبناء كلما لَقُوا فى طريقهم إلى المدرسة صباحا أو فى عودتهم إلى البيت مساء أو فى داخل الفصل الدراسى ذاته من يهددهم أو يضربهم قالوا له إنهم سوف يقولون لبابا حتى يأتى ويضربه مثلما يضربهم. أى أنه متى تم اختفاء الخوف من المجهول فى قلوب البشر فسوف تختفى الألوهية، إذ لن تعود لها أية جدوى، وإن كنت لا أدرى متى يتم ذلك بعد أن ظل ذلك الخوف كامنا فى القلوب طوال تلك الدهور المتطاولة. لكن لا علينا، فكل شىء مصيره إلى انتهاء، وباقٍ على الحلو دقة، وينتهى الخوف، وتنتهى معه الألوهية، ونعيش بعد ذلك فى الثبات والنبات، وننجب صبيانا وبنات، وتصبح العيشة آخر أَلِسْطَة! وعلى هذا فما قاله ناشيد من قبل من أن الله موجود وأنه يوحى إلى الأنبياء، وإن كان الأنبياء يخطئون فَهْم مراده ويلوونه بحيث يتلاءم وأوضاعُ مجتمعاتهم الثقافية والحضارية ليس صحيحا، إذ لا إله فى الحقيقة ولا هُمْ يحزنون، بل الأمر لا يزيد عن أن يكون مجرد فكرة ابتدعها الفلاسفة والأنبياء، ولا حقيقة لها فى الواقع.
    وبالنسبة إلى نصوص القرآن فينبغى أن نضعها دبر آذاننا حسب كلام ناشيد: "يجب أن يتجه مجهودنا اليوم نحو تحرير العقل الإسلامي من حالة الولاء لسلطة النص، هذا النص الذي صار أقنوما ثانيا أو ثالثا من أقانيم الألوهية، ومن ثم التوجه نحو ربط وجدان الإنسان المسلم بالتوحيد الرّبوبي الخالص، ما يعني حاجتنا إلى الانتقال من إسلام النص إلى الإسلام الرّبوبي وفق الغاية السامية التي تحددها العبارة القرآنية: "ولكن كونوا رَبّانِيِّين" (سورة آل عمران، الآية 79). وهكذا تنكشف نيات ناشيد فى محاولة القضاء على القرآن وعلى الإسلام وإراحة العالم (الغربى) منه، إذ ما دام كتاب الله موجودا ويؤمن المسلمون به فلسوف يأتى يوم، عاجلا كان أم آجلا، يستيقظون من غفوة البلادة التى هم فيها منذ قرون وينشطون وينافسون الغربيين وينتصرون عليهم كما وقع من قبل واستمر لقرون متعددة كان مجرد ذكر المسلمين خلالها ينشر الرعب فى قلوبهم لما كانوا عليه من قوة سياسية وقدرة عسكرية وانتعاش اقتصادى واستقرار اجتماعى وتفوق علمى. ومن هنا، ولأجل خاطر الغرب، يستميت ناشيد فى الهجوم على آيات القرآن المتعلقة بالقتال رغم إقراره بأنها فى الوقت نفسه تحذر المسلمين من شن الحرب العدوانية على أحد. لكنه يعلم أنه ما دامت آيات القتال موجودة فالخطر على الغرب موجود. الغرب يريد أن يقاتلنا ويقتلنا ويهدم ديارنا ويحتل بلادنا ويستولى على اقتصاداتنا ويقضى على مبادئنا وقيمنا ويخضعنا لعاداته وتقاليده ولواطه وسحاقه وخمره ورباه ويصيرنا ذيولا ذليلة تابعة له لا ترفع فى حضرته صوتا ولا تمد له عينا ولا تحرك نحوه إصبعا، وناشيد وأمثاله جاهزون للعمل على تحقيق ذلك. وهذه هى القضية باختصار ودون تضييع وقت وجهد. وإنه لأمر مريب أن يتجاهل هذا الخَوَّانُ الذليلُ كل عدوانات الغرب علينا طوال القرون الأخيرة واحتلاله لبلادنا وإذلالنا، وعملَه الدائب على إفساد ديننا وقيمنا وتقتيلَه مئات الآلاف منا واعتداءَه على أعراض نسائنا وإجرامَه المتوحش ضدنا، ودعنا من قضاء الأوربيين على الهنود الحمر وسكان أستراليا قضاء شبه تام وخَلْقِهم إسرائيل خلقا، ويذهب فيتكلم عن الإرهاب الإسلامى المزعوم أو المغالَى فيه، والذى يعد بالنسبة إلى إرهاب الغرب لنا وللشعوب المستضعفة قزقزة لُبٍّ. ولا أتكلم هنا عن المذابح الشنيعة التى تمارسها القبائل فى الدول الأفريقية بعضها ضد بعض ولا تلك التى تمارَس فى بعض الدول الأفريقية والآسيوية ضد المسلمين هناك. ورغم هذا كله يخرس ناشيد ولا يفتح فمه بكلمة. لماذا؟ لأن المهمة التى انتدب لها هى تشويه الإسلام والمسلمين والعمل على التنفير منه ومنهم ليس غير.
    ويصل بناشيد الخبث إلى حد أنه يَعُدّ التمسك بنصوص القرآن التشريعية لونا من الشرك، إذ إنك بهذا لا تقدس الله وحده بل تشرك معه فى التقديس تلك النصوص، وكأن تلك النصوص ليست وحيا أوحاه الله لنلتزم به ونعمل بتوجيهاته بل كلاما من كلام الشياطين. فانظر كيف تتحول طاعة المسلم لربه إشراكا به سبحانه عز وجل. فيا له من منطق يعجز إبليس ذاته عن التفكير فى مثله. إن إبليس لا يصلح أن يكون تلميذا لهذا المجرم الذميم. يقول ناشيد فى هذا الصدد: "تحديدا انتقل القرآن الكريم من آيات للتعبّد الرّوحي الخالص وللصلاة الرّوحية المتحررة من مغريات السلطة وجشع المال، ومن اتصال بين العابد والمعبود يطمئن النفس ويدخل اليها الأمان الذي تحتاجه، إلى نص مقدس ووصايا إلهية قاهرة للعقل والوجدان. هذا مجرّد ضرب من ضروب الشرك، ولا شك في ذلك". ولم لا، والإيمان عنده هردميسا يا أم عيسى؟ "الإيمان إبحار بلا بوصلة، لقاء بلا موعد، رحلة بلا طريق، كشف بلا هدف، انكشاف ذاتي، حدس شخصي، لا مكان فيه لأي قيادة أو انقياد، ولا لأي سلطة أو تسلّط، ولا مكان فيه لتجارة رابحة أو خاسرة، وليس فيه خوف بل طمأنينة في أحلك الأوقات".
    وهذا الشيطان يسدد سهامه إلى كل شىء فى القرآن ظانا أنه سوف يتمكن من إصابته فى مقتل عن طريق لَيِّه عن دلالاته وإضفاء دلالات أخرى عليه ما أنزل الله بها من سلطان، فيزعم مثلا أنْ ليس فى القرآن علم بل كلام متخلف يناقض العلم، فمثلا "الغالب على الكون القرآني أنّه امتداد عمودي وتدرّجي من العوالم الفوقية، الإلهية، النورانية، الرّوحانية، إلى العوالم التحتية، البشرية، المادية. وليس يخفى أن هذا التصور الكوسمولوجي للكون باعتباره طبقات عمودية متفاوتة في الطبيعة والجوهر، وإضفاء الطابع الأخلاقي على هذا التفاوت، يتناغم إلى حد ما مع فيزياء أرسطو التي سادت العالم القديم واستمر تأثيرها إلى حدود فيزياء نيوتن. وفي كل الأحوال طبيعيٌّ أن يعكس القرآن المحمدي تصورات البشر الذين كان يخاطبهم بنحو مباشر، بشر ما قبل العلم الحديث. مثل ما جاء في الآيتين التاليتين: "الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت..." (سورة المُلْك، الآية 3)، "ألم تَرَوْا كيف خلق الله سبع سماواتٍ طباقًا" (سورة نوح، الآية 15). محصلة القول: يقوم التصور القرآني لنظام المجموعة الشمسية على أربع مسلَّمات، وهي على النحو التالي: 1-أن السماوات شيء، والأرض شيء آخر. 2- السماوات طبقات من الكون عمودية من الأعلى إلى الأدنى أو العكس. 3- الأرض مستقرة مباشرة تحت السماء الدنيا 4- الكواكب موجودة في السماء الدنيا زينة لها ولحفظ السماء من كل شيطان مارد. هكذا يصعب أن نلوي الكلمات ونستخرج منها إعجازا كوبرنيكيا مزعوما".
    ولنا نحن هنا سؤال: هل انتهى العلماء من اكتشاف الكون أجمع بحيث لم يعد هناك شىء مجهول فيه، ومن ثم اتضح أن السماوات ليست سبعا وليست طباقا؟ أنا أفهم أن السماء التى نراها فوقنا من الأرض هى سماء واحدة فقط من السماوات السبع الطباق، وأن ثم ست سماوات أخرى وراءها. فهل هناك من يستطيع أن يثبت إثباتا علميا بطلان هذا؟ أتحدى! أما تخطئته أن تكون السماء شيئا، والأرض شيئا آخر، فلا أدرى ماذا أقول فيه. إن السماء بالنسبة لنا نحن سكان الأرض هى كل ما علا الأرض. فكيف يمكن أن تكون السماء والأرض شيئا واحدا؟ ولو كنا نعيش على سطح القمر لتغير وضع القمر ولم يعد فى تلك الحالة جزءا من السماء بل تصير السماء هى كل ما يعلو فوقه، إذ القمر سوف يكون حينذاك بمثابة الأرض الآن. ثم أين فى القرآن أن السماوات السبع امتداد عمودى؟ إن الأرض، كما نعرف كرة أو شبه كرة، ومعنى ذلك بالضرورة أن السموات تحيط بها من كل ناحية، فكيف يقال إنها امتداد عمودى؟ ثم من قال إن الله فوق، ونحن تحته؟ هل يمكن أن يحتوى المكانُ المحدودُ خالقَ المكان الذى لا تحده سبحانه أية حدود؟ ألا إن تخطئته القرآن الكريم هنا لهو التخلف بعينه مهما حاول بجهل منه وتنطع أن يتظاهر بأن القرآن مخطئ وأنه هو المصيب. الواقع أنه ليس مصيبا بل مصيبة!
    أما تخطئته القرآن نحويا فتلك حكاية أخرى. إن هذا الجاهل الذى قابلنى فى كتابه عدد من الأخطاء التى لا تغتفر رغم ما فى يقينى من أنه قد عهد بكتابه إلى من أصلحه له لغويا يُقْدِم بوقاحة على تخطئة كتاب الله. إى وربى إن هذا حصل! فمثلا قد أخطأ القرآن فى نظره الكليل حين قال فى سورة "البقرة": "إن الذين آمنوا، والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون"، إذ كان ينبغى أن يقال: "والصابئين" لأنها معطوفة على الذين آمنوا والذين هادوا، وهذان اسم "إن" ومعطوفه، وهما منصوبان، فيُنْصَب المعطوف عليهما بدوره. وهذا الذى يقول معناه بالثلث أنه غشيم أسلوبيا ولغويا، إذ التركيب كما أوردته الآية الحالية تركيب شرعى تماما. فاسم "إن" هو فعلا "الذين آمنوا"، لكن التركيب بعدها اتخذ منحى آخر، فلم يعد "الذين هادوا والصابئون والنصارى" معطوفات على اسم "إن"، بل ابتدأت جملة جديدة مستقلة بمعنى "وكذلك الذين هادوا والصابئون والنصارى". وبالمثل يرى أن قوله تعالى فى "البقرة": "لا ينال عهدى الظالمين" كان ينبغى أن يكون: "لا ينال عهدى الظالمون"، جاهلا أن الفاعل هو العهد لا الظالمون. أى أن العهد الإلهى لا ينالهم أى لا يشملهم، فهم غير داخلين فيه. لكنه يظن أن الكلام لا يصلح إلا إذا كان الظالمون هم الذين ينالون العهد. وهذا ضيق فى الأفق وغباء نحوى لا يرجى له ولا منه شفاء. وبالمثل فقوله عز شأنه: "إن رحمة الله قريب من المسلمين" خطأ لأن الرحمة مؤنث، وكان يجب أن يقال: "إن رحمة الله قريبة من المحسنين". لكنه يجهل جهلا فاحشا أن صيغة "فعيل" بمعنى الفاعل تأتى فى الإخبار عن المؤنث بدون تاء تأنيث. هكذا كان يفعل العرب القدماء، وإن كنا نميل فى العصر الحديث إلى إلحاق التاء بها. كذلك نراه يغلّط القرآن فى قوله سبحانه عن قبائل بنى إسرائيل: "وقطَّعناهم اثنتى عَشرْة أسباطا أمما" إذ الصواب لديه هو "وقطَّعْناهم اثنى عشر سبطا" غافلا عن أنه من المستحسن تغيير الأساليب بين الحين والحين فلا تلزم وتيرة واحدة بل تدخلها التنويعات المنعشة. والمقصود فى الآية هو: "وقطعناهم اثنتى عشرة قطعة أسباطا أمما". فـ"أسباطا" ليست تمييزا بل بدلا من "اثنتى عشرة".
    وهناك أيضا قوله عز شأنه: "وخُضْتُم كالذى خاضوا" إذ يظن المعنى "وخضتم كالذين خاضوا"، جاهلا أن المراد "وخضتم كالخوض الذى خاضوه". ولقد كان بينى وبين محاضر بريطانى شاب طويل اللسان "حبتين" فى جامعة أكسفورد قصة حول هذه الآية حكيتها فى الفصل الأول من كتابى: "من الطبرى إلى سيد قطب - دراسات فى مناهج التفسير ومذاهبه" لدن تناولى تفسير الطبرى بالدراسة، إذ ردد المحاضر طويل اللسان نفس هذا السخف، ولم يشأ أن يستمع لى ويتعلم منى أنا ابن اللغة، وإن كان من العلماء من يقول إن بعض العرب القدماء كانوا يستخدمون "الذى" بمعنى "الذين"، إلا أننى لأسباب ناقشتها هناك لم أحب أن أجرى فى هذا المضمار. وعلى ذات الشاكلة الجاهلة يظن ناشيد أن قوله تعالى: "مَثَلُهم كمَثَل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون" خطأ تصحيحه "فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنوره وتركه فى ظلمات لا يبصر". وهذا إن دل على شىء فعلى انطماس بصيرته. ذلك أن الذى استوقد نارا ليس هو نفسه الذى ذهب الله بنوره وتركه فى ظلمات لا يبصر، بل مستوقد النار شىء، والذين ذهب الله بنورهم شىء آخر. والمراد "مثلهم كمثل الذى استوقد نارا لقوم، فلما أضاءت النار ما حوله ذهب الله بنور أولئك القوم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون". والإشارة فى الآية إلى النبى والكافرين، فهو عليه السلام يضىء لهم الظلام، لكنهم بعنادهم وتمردهم ويبوسة أمخاخهم يُحْرَمون النور والرؤية، فيتركهم الله فى ظلماتهم يعمهون ويتخبطون. ونفس التركيب نجده فى قوله تعالى من ذات السورة: "ومَثَلُ الذين كفروا كمَثَلِ الذى يَنْعِقُ بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً"، إذ المقصود "مثل الرسول معهم فى دعوتهم إلى الحق والنور كمثل الذى ينعق ببهيمة لا تفقه من الدعاء إلا أصواتا ونداءات، إذ البهائم لا تفقه مثل تلك الأحاديث. وهذا من الإيجاز الذى لا يفهمه ذلك المتخلف الذى يزج بنفسه فى مضايق ومآزق ليس أهلا لخوضها.
    أما فى تغليطه قوله تعالى: "مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ" على أساس أن الصواب "من بعد ضراءِ" فقد بلغ الغاية فى الجهل وغلظة العقل. ذلك أن "ضراء" ممنوعة من الصرف لانتهائها بألف التأنيث الممدودة، فتُجَرّ بالفتحة الواحدة. وحتى لو كانت مصروفة فإنها سوف تجر بفتحتين لا بفتحة واحدة أيها الجهول المتخلف! وأكتفى بهذا، وإلا أمللت القارئ. وهذه التخطئات قد نقلها كما هى بعُجَرها وبُجَرها كحَذْو النعل بالنعل من كتب المبشرين الخُطْل. وهى موجودة ضمن تخطئات أخرى فى كتاب تبشيرى تافه ركيك صدر منذ نحو عشرين عاما بعنوان "هل القرآن معصوم؟" لمؤلف جاهل يتخفى تحت اسم "عبد الفادى"، وهو اسم له مغزاه المريب. وهذا دليل لا يصد ولا يرد على أن ناشيد موظف توظيفا لترديد هذا الكلام الذى لا يفقه منه شيئا وأن هناك جهة تبشيرية تَؤُزُّه أَزًّا على هذا الشر الغبى فينصاع لها على غير بصيرة ولا هدى شأن من حرمه الله التوفيق والفلاح. وسبق أن رددت على هذا الهراء التبشيرى فى كتابى: "عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين" باستفاضة وتفصيل وإيراد للقاعدة النحوية واستشهاد على كل شىء بالنصوص الشعرية القديمة. فهو إذن ببغاءُ عقله فى أذنيه، وسعاره وراء عرض الدنيا التافه فى ضميره الخرب، فهو لا يستطيع الانفلات من السلسلة التى قيده الأبالسة بها لتنفيذ أوامرهم وتحقيق أغراضهم. ويا أيها الجاهل المتخلف، هل تظن أنْ لو كان فى القرآن أخطاء لغوية هل كان المشركون واليهود والنصارى والمنافقون يسكتون فلا يقلبوا الدنيا رأسا على عقب شماتة بالرسول وتشنيعا عليه وتحقيرا له؟ خيبة الله عليك من غبى متهافت العقل.








    التعديل الأخير تم بواسطة إبراهيم عوض ; 20/10/2016 الساعة 01:38 PM

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •