فى جولة من جولاتى على المشباك صباح اليوم وأنا أعانى بعض الملل والضيق عن لى كتاب "فصول فى الأدب والنقد" للدكتور طه حسين فنزلته وشرعت فى قراءته لتجديد العهد بأفكار الأستاذ الدكتور وأسلوبه العجيب، فأنا مغرم بقراءته رغم اختلافى الحاد معه فى أمور غير قليلة، لكن أسلوبه العجيب بطعمه المز أو الحاد الحلاوة (حسب الظروف) يفتننى. وقد كنت منشكحا فى يوم من الأيام وأنا معار إلى جامعة قطر قبل بضعة عشر عاما، وكت أحاضر فى النثر العربى الحديث، فوضعت للطالبات بعض الفصول، وانتهزت الفرصة فكتبت عن أسلوب د. طه من خلال تحليلى لمجموعة "المعذبون فى الأرض". أتصور أن فى هذا التحليل شيئا يمكن أن يضاف إلى ما قيل عن اسلوب الرجل. وها هو ذا الفصل كله بين يدى القراء لعل وعسى!
==================
"المعذبون فى الأرض" لطه حسين
بين ضعف البناء وجمال الأسلوب
إبراهيم عوض


سبق أن تناولتُ بالنقد رواية الدكتور طه حسين "دعاء الكروان" قبل نحو عشرين سنة، وكان رأيى أنها ليست من فن القصة بمكانٍ يُذْكَر، وذكرتُ الحيثيات التى أقمتُ عليها هذا الحكم. وهذا النقد موجود فى كتابى "فصول من النقد القصصى"، فيمكن الرجوع إليه لمن يريد أن يطَّلع على رأيى فى هذه الرواية وتحليلى لها، فى الفصل الثانى منه. ومع ذلك فإنى لا أخفى أبدا حبى لقراءة طه حسين، فأنا فعلا أستمتع بكتاباته بوجه عام بما فيها قصصه ورواياته رغم رأيى السيئ فيها، فما السبب فى ذلك يا ترى؟ إننى دائم الرجوع لأعمال الرجل بين الحين والحين، وكلما قرأت له شيئا أجد أن متعتى بما أقرأ لا تزال كبيرة وقوية، بل أحيانا ما أجد أنها قد ازدادت قوة مع الأيام بفضل تنامى قدرتى على التذوق العميق واستطاعتى إبصار أوجه الجمال وتعليل هذا الجمال الذى تتمتع به رغم اختلافى العنيف مع ما يقوله الدكتور طه فى بعض القضايا التى تمس الدين والقومية والمعايير التى ينبغى أن تحكم علاقتنا بالغرب وحضارته. فما السر يا ترى؟ وبالمثل فإننى، رغم انتقادى الشديد لبعض قصص "المعذَّبون فى الأرض" لما فيها من سطحية وسذاجة فى الفن القصصى أو فى النظر إلى الحياة ذاتها على السواء، ورغم أنى أرى فى كلام من يُثْنُون عليها من النقاد من الناحية القصصية ويحاولون أن يُبْرِزوا أثرها الاجتماعى مبالغة شديدة لا تنهض على أساس من الواقع، رغم هذا وذاك فإنى أقرؤها الآن وأجد فيها متعة، ومتعة كبيرة فى بعض الأحيان، لا كفن قصصى بل كأسلوب لغوى متميز وروح تهكمية وتصوير فنى ليس إلا. وهذا هو ما أريد أن أوضحه هنا.
لقد قيل كلام كثير عن أثر قصص "المعذبون فى الأرض" فى فضح التفاوت الطبقى الرهيب الذى كان سائدا فى بلادنا قبل الثورة، ذلك التفاوت الذى يقول طه حسين إنه جعل يلتفت إليه ويحس بما يترتَّب عليه "من هذه الفروق الهائلة بين الأغنياء المترفين والفقراء البائسين" منذ اتصل بــ"جريدة" أحمد لطفى السيد، وبمن حوله من الـمُطَرْبَشين أصحاب الثراء العريض والمنزلة الاجتماعية العالية(1). لكن الذى يقرأ الكتاب بعيدا عن هذه الدَّعَاوَى سوف يفاجأ بأن الأمر ليس على هذا النحو دائما، وليس إلى هذا الحد أيضا: فبعض القصص لا علاقة لها بالمشكلة الطبقية من قريب أو بعيد كما فى قصة "خديجة"، الفتاة التى تَقَدَّم لها رغم فقرها النسبى شاب من أسرة أيسر من أسرتها، لكنها لم تكن سعيدة مع ذلك بهذا الزواج وانتهى أمرها بالانتحار، ولا ندرى لماذا، وهو ما يشكِّل عيبا كبيرا فى القصة، لكن هذه نقرة أخرى. وبعضها رغم علاقته بمشكلة الفقر بوجه عام لا تتناول هذه المشكلة من الناحية الطبقية ولا من الناحية الوطنية، أى على مستوى القطر كله، بل من ناحية الوضع الذى يحكم العلاقة بين بعض الأغنياء فى هذه القرية أو تلك وبعض الفقراء الذين يقومون بخدمتهم أو يتصلون بهم عن قرب فيُنْعِمون عليهم ببعض ما يفيض عن حاجتهم من طعام أو لباس أو ما إلى ذلك، وتنتهى المسألة عند هذا الحد. كما أن هذه القصص الطاهاحسينية لا تُعَدّ، فى مجال مكافحة الطبقية فى مصر، شيئا مذكورا إزاء رواية عصام الدين حفنى ناصف: "عاصفة فوق مصر" مثلا، التى صدرت قبل "المعذبون فى الأرض" بأعوام طويلة، إذ صدرت المجموعة التى بين أيدينا فى كتاب سنة 1949م، على حين ظهرت رواية ناصف عام 1939م، أى قبلها بعشر سنوات كاملات، أو بإزاء "سيد العزبة" لبنت الشاطئ، التى ظهرت عام 1944م، أى قبل كتاب طه حسين بخمس سنوات. وهذان مجرد مثالين ليس إلا.
بل إننا لنرى أن طه حسين، فى القِصَص التى نحس أنه قد أراد فيها فعلا أن ينبّه إلى حِدّة المشكلة الطبقية، لم يقدر على أن يُشْعِرنا بأن هناك مشكلةً حادة، إذ إن أحداث القصة وطريقة معالجته لها لا تعطينا هذا الانطباع، بل تقول إن حل المسألة بسيط سهل، فها هى ذى ربة البيت الميسور مثلا لا تتوانى عن التصدق بما تستطيع على هذا الطفل المحروم أو تلك البنت التعيسة، وبذلك ينتهى الأمر. إن القارئ لا يستطيع أن يحس بفداحة المشكلة بسبب ضعف الفن القصصى لدن الدكتور طه، وإن كان للدكتور طه مع هذا أسلوبٌ نَدَرَ أن يُرَى له نظير رغم أن بعض من فُتِنوا بهذا الأسلوب قد عملوا بكل جهدهم على احتذائه والنسج على طريقته، لأن هؤلاء المقلدين، وإن أمكنهم اصطناع بعض سمات الأسلوب الطَّاهَوِىّ، لا يستطيعون فى الحقيقة نقل روحه ونكهته الخاصة التى تستعصى على التقليد.
وهأنذا أعود لقراءة مجموعة "المعذبون فى الأرض"(2) بعد أن كنت قرأتها منذ سنوات طوال جدا، فأجد أن رأيى فيها لم يتغير، فهى مملوءة بالعيوب الفنية التى تنبئ عن أن طه حسين ليس قصاصا كبيرا: فهو مثلا قد يبدأ قصته بمقال ربما كان فى نفسه قطعة أدبية ممتعة، لكنه لا يمكن أن يُعَدّ جزءا عضويا من القصة بحال، بل نصًّا منفصلا قد أُلْصِقَ بها إلصاقا. ففى بداية قصة "المعتزلة" (ص 80- 87) نجده يمضى فيتكلم عن التفاوت الطبقى بين الفقراء والأغنياء ويقول كلاما جميلا عن وجوب الأخذ بناصر المحتاجين، مع توبلة ندائه هذا بشىء من التهكم الخفى الذى يبدو وكأنه يبارك هذه الأوضاع الإنسانية المزعجة، بينما هو فى الحقيقة يحمل عليها بكل قوة. بَيْدَ أن ذلك كله لا يشفع فنّيًّا لهذه الإضافة المجتَلَبَة اجتلابا. إنها، كما قلت، قد تكون مقالا رائعا فى حد ذاتها، لكنها لا يمكن أن تكون جزءا عضويا من القصة. ثم إن الكاتب، بعد ذلك، يستمر فى الطيران خارج سماء العمل فيدخل فى الحديث عن القواعد التى يضعها النقاد لضمان جودة الكتابة القصصية، مؤكدا أنه لا يبالى بما يقوله هؤلاء النقاد لأنه لا يحب لأحد أن يحجر على حريته فى كتابة ما يريد أن يكتب عنه، وبالطريقة التى تعجبه... إلى آخر هذا الكلام الذى سبق أن قاله أو قال شيئا شبيها به فى تضاعيف قصة "صالح" (ص 14 فصاعدا) قاطعًا تيارها فى أكثر من موضع ليدخل مع القارئ فى حوار من طرف واحد ينتهزه ليعلن رأيه فى القواعد المذكورة ومؤكدا أيضا حريته التامة فى أن يقول ما يشاء عمن يشاء، وبالأسلوب الذى يشاء، وهو نفسه أو قريب منه ما فعله فى الصفحات الأولى من قصة "صفاء" (ص 121 وما بعدها)
كذلك فإن هذه الأقاصيص يغلب فيها العنصر السردى على الحوار فلا يترك له مجالا كافيا يتنفس فيه بحرية، وهذا عيب من العيوب التى كانت القصص والروايات تعانى منها على أيدى غير الموهوبين فى هذا الفن فى بعض مراحله السابقة. كما أن الحوار الذى يجريه الكاتب على ألسنة أشخاص قصصه لا يتناسب معهم لا من الناحية اللغوية ولا من الناحية النفسية. إن طه حسين لم يستطع هنا أن ينسى أنه طه حسين، ومن ثم لم ينجح فى أن يتخلى عن أسلوبه العذب الجميل فاصطنعه دائما لأبطاله بغض النظر عن مستواهم الاجتماعى أو الثقافى. فكلهم يتكلم بلسان طه حسين ويستعمل لغته الأنيقة العذبة التى لا نكران فى أنها ممتعة فى حد ذاتها بوصفها لغة طه حسين الأديب الذى نعرفه ونحب أن نقرأ له مقالاته ودراساته، وليس بوصفها لغة هذه الشخصية أو تلك من شخصيات قصصه. وفضلا عن هذا كله فإن نهايات بعض القصص تفاجئنا بما لا يقنعنا، أو تعانى من بعض الغموض، أو يبترها الكاتب بترا ولا يعطيها الوقت والعناية اللازمين لإنضاجها وإقناعنا بها وجعلها مريحة فنيا بدل القلق الذى تبذره فى ذهن القراء من جراء العيوب التى تحدثنا عنها آنفا.
ترى أمن الممكن أن تتحدث بنتٌ أُمِّيّةٌ ريفيةٌ شديدةُ الفقر إلى أمها بهذا المستوى اللغوى الراقى وفى الظروف الذى قيل فيها، فتقول: "تريدين أن تعلمى أين ذهبتُ، وماذا كنت أصنع حين انسللتُ من البيت فى ظلمة الليل. فاعلمى إذن أنى لقيت زوج عمتى غير بعيد من مزرعته وأقمتُ معه ما أقمت، ثم رجعتُ حين كاد الصبح أن يُسْفِر. أعلمتِ الآن ما كنتِ تجهلين؟ أراضية أنت بما عملتُ؟" أو أن ترد عليها أمها قائلة: "ومتى لَقِيَتِ الفتياتُ أزواجَ عماتهن فى جنح الليل؟ إنك لَتَلْقَيْنَه فى وضح النهار" (ص 55)؟
كذلك فإن خاتمة قصة "رفيق" تأخذنا على حين بغتة، ولا تفصح لنا عما يريد الكاتب أن يقوله. ذلك أن القصة تتحدث عن حب بين فتى وفتاة انتهى بالاتفاق بين الأسرتين على ما يشبه خِطْبتهما. لكن ما طرأ من ارتقاء فى المستوى الاجتماعى لأسرة الفتاة قد أدى إلى تجاهلهم تلك الخطبة التى اتُّفِق عليها وقبول خاطب آخر يتفوق على الأول مكانة ووظيفة ومالا، مما آلم الفتى وجعله ينطوى على نفسه، فيظن أهله أنه قد نسى المسألة، على حين أنه كان يدبر فى نفسه أثناء ذلك أمرا لم يفصح أى من تصرفاته عنه أو يومئ إليه بل أومأ إليه المؤلف نفسه من بعيد، لنفاجأ فى نهاية القصة بأنه كان نائما على قضيب القطار ينتظر الموت حتى جاء القطار فشطر جثته شطرين (ص 149). وهكذا تنتهى القصة وأم الفتاة ووالدا الفتى يبكون جميعا ويندبون حظهم التعيس. وهذا كل ما هناك! فالكاتب لم يحاول أن يتدسس إلى نفس القتى لنعرف ماذا كان يزمع أن يفعل، أو على الأقل ماذا كانت مشاعره بالضبط تجاه فصم الاتفاق الذى كان بين الأسرتين، علاوة على أن ما قاله كاتبنا عن استجابة الفتاة لذلك الفسخ ولو ظاهريا قد أوهمنا أن الأمر لم يزعجها كثيرا، إذ هى بنت، ومتى كان للبنات فى مثل هذا المجتمع رأى غير ما يقوله رجال البيت؟ كما أن الهدايا التى أخذت تتوالى عليها من خاطبها الجديد وكونه موظفا ذا مكانة ومرتب مضمون قد أدخل على قلبها شيئا من السلوى بحيث إننا نؤخذ على غرة بنهاية القصة وما فيها من إشارة إلى أنها "قد أصبحت مزوَّجة كالمطلقة". ترى ماذا يقصد المؤلف بالضبط؟ إنه، لِشَديد الأسى والأسف، قد اختصر الكلام اختصارا فلم يستطع أن يمهد لهذا الذى قد حدث، بل لم يستطع أن يساعدنا فى فهم هذا الذى قد حدث!
ليس ذلك فحسب، بل هناك السذاجة المتمثلة فى إثارة بعض الأشياء التى لا يستلزمها الفن القصصى بوجه عام ولا القصة التى يكون الكاتب بصدد حكايتها لنا بوجه خاص: ففى مفتتح قصة "قاسم" الصياد الفقير الذى ستزلّ ابنته مع زوج عمتها بسبب إغوائه إياها ببعض الأساور التافهة الحقيرة التى تَكْلَف بها بنات الريف ولا يجد كثير منهن ما يشترينها به من مال رغم قلته وتفاهته وما إلى ذلك، نرى الكاتب يصف لنا فى عدة صفحات منعطفات الطريق الذى كان يسلكه الصياد فى طريقه إلى النهر ومشاعر الخوف التى تنتابه وهو يمشى وحده فى ظلمة الليل قبيل الفجر قاصدا الماء، وكيف كان يدفع تلك المشاعر بقراءة بعض آيات الذكر الحكيم الكفيلة فى اعتقاده بطرد العفاريت...إلخ (ص 42- 45)، رغم أنه لا علاقة لشىء من ذلك كله ببقية أحداث القصة، وبالذات بنهايتها. وبالمثل نرى المؤلف يبذل جهده فى نفى ما يمكن أن يعترى القارئ فيدفعه إلى الظن بأن خديجة بطلة القصة التى هو بسبيل روايتها "قد نزلت من السماء كما تنزل الملائكة رحمةً ورَوْحًا على الأرض، أو خرجت من النهر كما كانت العذارى يخرجن فى الزمن القديم من الجداول والأنهار ومن العيون والينابيع، أو حملها إلينا السحاب أو أرسلها إلينا نجم من النجوم، بل نشأت فى القرية" (ص65)! الله أكبر! ومتى كان الناس يمكن أن يقعوا فى هذا الظن حتى يجهد المؤلف نفسه فى نفى هذا الوهم؟ إن مثل هذا الكلام، من ناحية أصول الفن القصصى، هو ترف سخيف لا معنى له ولا داعى لتضييع الوقت والحبر والصفحات والجهد فى تحبيره! لكنه من ناحية اللغة التى كُتِب بها شىء آخر له جاذبيته وحلاوته. فما هى إذن تلك السمات التى تميز أسلوب الدكتور طه وتجعل لكتاباته هذه الجاذبية والحلاوة حتى ليمكن أن نستعيض بها، ولو إلى حد ما، عن العيوب الفنية التى فى أدبه القصصى كما هو الوضع فى كتاب "المعذبون فى الأرض"؟
من أهم ما يستلفت نظرنا فى أسلوب د. طه بروز الطابع القرآنى فيه بروزا قويا غلابا. لكن هذا الطابع لا يأخذ شكل الاقتباس المباشر عادة، ولا يتوقف عند التأثر ببعض العبارات فحسب، وإلا لما تميز الأسلوب الطَّاهَوِىّ عن كثير غيره من الأساليب التى تحتذى أسلوب القرآن ثم تتوقف فى الغالب عند نقل هذه العبارة أو تلك منه. إن المسألة لدى طه حسين تتخذ أشكالا أُخَرَ عادة، أما الاقتباس المباشر فهو قليل. ومظاهر تأثر أسلوب الدكتور طه بالقرآن متعددة: فقد يتمثل ذلك فى استعماله لفظا قرآنيا نستعمل نحن الآن بوجه عام لفظا آخر غيره، وقد يتمثل ذلك فى لجوئه إلى صيغة صرفية وترك صيغة أخرى أكثر شيوعا لا لشىء سوى أن الأولى هى الصيغة التى وردت فى القرآن. وقد يتمثل ذلك فى اقتباسه عبارة قرآنية، وإن كان يحدث فيها فى العادة بعض التحويرات أو يوردها فى سياق يختلف عن سياقها القرآنى بحيث لا يلتفت الذهن إلى قرآنيتها رغم وضوحها. وقد يتمثل التأثر فى استخدامه تركيبا قرآنيا لم يعد أحد يستعمله إلا الأقلون إن وُجِدوا. والمهم أن الدكتور فى كل هذا يفعل ذلك بثقة وبساطة وكأنه يتنفس، حتى إننا لا نجد فى الأمر أية غرابة إلا إذا وقفنا ودقَّقْنا النظر.
والآن مع هذه الشواهد التى يقتبس فيها الدكتور طه، على طريقته، بعض عبارات القرآن الكريم، وكلّها من "المعذبون فى الأرض": "والصبى على ذلك كله باسطٌ يدَه إلى رفيقه بهذه الطاقة الساذجة الخشنة من زهر الحقول" (ص 17). وهى مأخوذة من قوله تعالى فى الآية 14 من سورة "الرعد": "كباسطِ كَفَّيْه إلى الماء ليبلغ فاه". ويستطيع القارئ أن يدرك بسهولة ما يميز بين الاستعمالين: فـ"الكفّان" فى القرآن تحولتا إلى "اليد" عنده، كما أن الإضافة هناك بين "باسط" و"كفّيْه" قد فُكَّتْ هنا، فضلا عن اختلاف السياق هنا وهناك كما هو ظاهر، إذ هنا "رفيق"، وهناك "ماء". ومن الشواهد أيضا على هذه السمة قوله: "فلم يكن بُدٌّ إذن من تفقّد هذه الأختام... وعقاب الصبى أو الفتى إذا مُحِيَت آية الختم عن فخذه قبل الأوان" (ص 29)، الذى يتعلق أشد التعلق بقوله سبحانه: "فمَحَوْنا آية الليل وجعلنا آية النهار مُبْصِرة"(3) رغم اختلاف السياق والجو والموضوع والتركيب، هذا الاختلاف الذى يدل على أن تأثر طه حسين بأسلوب القرآن هو من العمق بحيث يتسلل حتى إلى المناطق التى لا يُتَّوَقَّع ظهوره فيها. ومن هذه الشواهد أيضا قول كاتبنا: "ولكنى أعلم أن أبا أمين راح إلى أهله حين تقدم الليل" (ص 41)، فهو يردد صدى قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: "فراغَ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمين"(4)، والفرق لا يزيد عن تبديل "غين" الفعل فى الجملة القرآنية إلى "حاء"، ومع ذلك فمن ذا الذى يستطيع أن يتنبه إلى هذا التأثير القرآنى فى جملة طه حسين بسهولة؟ أما فى العبارة التالية فالأمر يحتاج إلى مزيد من التنبه كى نستطيع اقتناص وجه التأثر. يقول الكاتب عن "محبوبة" إنها كانت تدور فى بيوت القرية تساعد النساء فى صنع الخبز، ثم تعود منتصف النهار إلى بيتها الوضبع الحقير حسبما وصفه، "وقد حملتْ طائفةً من هذا الخبز تضيفها إلى طائفة" (ص 69)، ولا يفد على الخاطر بسهولة أن هذه العبارة متأثرة بقوله تعالى عن المسيح عليه السلام واستجابة قومه لدعوته ما بين مؤمن به وكافر: "فآمنتْ طائفةٌ من بنى إسرائيل، وكفرتْ طائفة"(5). ذلك أن التركيبين متباعدان، فضلا عن الاختلاف التام بين السياقين هنا وهناك، إذ أين الخبز من الدعوة إلى دين الله؟ وأين الحواريون والكافرون من بنى إسرائيل الغلاظ القلوب والرقاب من ألوان الخبز المختلفة؟
ومنه أيضا قول كاتبنا: "أصحاب اليمين" و"أصحاب الشمال" بدلا من مصطلحَىْ: "اليمينيين واليساريين" (ص 89). وهو بهذا يستخدم مصطلحين قرآنيين معروفين، لكن فى معنى غير المعنى الذى يستخدمهما القرآن فيه، إذ هما فى كتاب الله يعنيان "أهل الجنة" و"أهل النار"، أما هنا فالدكتور طه يقصد بهما "الرأسماليين" و"الاشتراكيين". وهذا هو التحوير الذى أدخله مؤلفنا على استعمال هاتين الكلمتين والذى يجعل التنبه إلى أنهما مأخوذتان من القرآن المجيد بطيئا وضعيفا. ومن التأثر بالأسلوب القرآنى أيضا قول الكاتب: "وظهرت سعادتهما وقحةً مسرفةً فى القِحَة لا تتحفظ ولا تحتشم ولا ترجو لشىءٍ وقارا" (ص 113)، وهو ما يذكرنا بقوله تعالى على لسان نوحٍ لمشركى قومه: "ما لكم لا ترجون لله وقارا؟"(6). كذلك لا أستطيع أن أذكر أنى وجدت كاتبا غير طه حسين يستخدم التعبير القرآنى: " أدنى الأرض" فى قوله جل جلاله: "غُلِبَت الروم فى أدنى الأرض"(7)، أى فى أقرب البلاد إلى جزيرة العرب، كما فى قوله: "وهاجرت أُسَرٌ أخرى إلى أدنى الأرض" (ص 116)، مع التحوير المتمثل فى تبديل الحرف "إلى" بالحرف "فى". ومنه قوله: "ويتركون آباءهم وأمهاتهم وأخواتهم يَشْقَوْن بالنقص فى الأموال والثمرات، بل يَشْقَوْن بالبؤس والجوع والحرمان" (ص 131) المتأثر بكل قوة بقوله تعالى: "ولنبلُوَنَّكم بشىء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات"(8)، رغم التحويرات المتعددة التى أصابته. أما فى قوله: "يجهلون ما حولهم من البؤس والضنك والضيق والموت: يضعون أصابعهم فى آذانهم حتى لا يسمعوا، ويجعلون على أبصارهم غشاوة حتى لا يَرَوْا، ويجعلون على قلوبهم أَكِنَّةً وأقفالاً حتى لا يصل إليهم ما يثير فيها شيئا من تضامن أو تعاطف أو رحمة أو إشفاق" (ص 176)، فإن التحوير معقّد بعض الشىء، إذ قد مزج الكاتب فى كلامه بين عدة عبارات من آيات متباعدة، وهى: "يجعلون أصابعهم فى آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت"(9)، "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة"(10)، "وقالوا: قلوبنا فى أكنَّةٍ مما تدعونا إليه"(11)، "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالُها؟"(12)، علاوة على تغير السياق وإدخال العبارات والألفاظ القرآنية فى جمل ذات تراكيب مختلفة.
ومن استلهام طه حسين القرآن فى أسلوبه استخدامه للصيغ الصرفية القرآنية التى لا نستخدمها الآن، مثل كلمة "ضيف" فى كثير من الأحيان بدلا من "ضيوف" كقوله: "وقد كثرت على هذه الصينية الأطباق فيها من كل أصناف الطعام التى قُدِّمَتْ للضيف" (ص 19. وقد تكررت هذه الكلمة عدة مرات فى الكتاب/ ص 14، 15، 16، 17، 18، 20)، ولم ترد فى القرآن إلا بصيغة المفرد رغم أنها لم تستخدم فيه إلا لجماعة الضيوف لا للضيف الواحد، مثل: "فاتقوا الله ولا تُخْزون فى ضيفى"، أى ضيوفى(14)، "هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المُكْرَمين...؟"(15). ومن ذلك كلمة "تَسَاقَط" فى قوله: "فإذا امرأة تساقط دموعها غِزَارا" (ص 61)، وهى موجودة فى القرآن الكريم فى الآية 25 من سورة "مريم": "وهُزِّى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطَبًا جَنِيًّا". وأرجو أن تتنبه إلى أن الفعل فى الحالتين مسند إلى المفردة المؤنثة مما يقرب بين الشاهدين. ومنه أيضا قوله: "ويحمّلنا هموما ثقالا" (ص 86) بدلا من "هموما ثقيلة" كما هو المعتاد فى وصف جمع غير العاقل سواء كان ماديا أو معنويا، أو فى الإخبار عنه. وفى القرآن: "حتى إذا أَقَلَّتْ سحابا ثقالا سُقْناه لبلدٍ ميت"(16). ولاحظ كيف أن العبارتين كلتيهما تتحدثان عن "حمل" شىء ثقيل. وهناك فى القرآن أيضا: "السحاب الثقال"(17)، ولكن الآية الأولى أقرب كثيرا لعبارة الكاتب كما لا يخفى. ومن هذا الضرب قول المؤلف فى وصف فتاة: "وكانت على ذلك ماكرة حديدة اللسان" (ص 111) بدلا من "حادة اللسان"، وذلك متابعة لقول القرآن فى وصف البصر يوم القيامة بالحدّة مستخدما صيغة "فعيل" لا صيغة اسم الفاعل: "حادّ": "فبَصَرُك اليوم حديد"(18). ومن ذلك أيضا إكثار مؤلفنا من استعمال الفعل: "أُنْسِيت"، ببناء الفعل المزيد للمجهول، بدلا من الفعل المجرد المبنى للمعلوم: "نسيت"، كما فى الجمل التالية: "وأُنْسِىَ الصبى بهذا كله صلاةَ الشيخ والضيف والنبأ الذى كان يجب أن يحمله إلى أمه" (ص 18)، "وكان قد أُنْسِىَ قصة صالح، ولم يذكر إلا أنه سيعود معه آخر النهار إلى الدار" (ص 27)، "أريدُ أسرةً مصريةً بائسةً كنتُ أُنسِيتُ أمرها" (ص 80)، "شُغِلْتُ عن الجنين وعن أمه البلهاء، وأُنْسِيتُ أم تمام وابنيها" (ص 101)، وذلك تأثرا بقول القرآن على لسان ساقى الملك فى الآية 63 من سورة "الكهف": "وما أنسانيه إلا الشيطان أن أَذْكُره" بدلا من "وقد نَسِيتُ أن أذكره"، وقوله عن الكافرين فى الآية 19 من سورة "المجادلة": "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله"، بدلا من "فنَسُوا ذكر الله". وهناك شاهدان آخران على الاستعمال القرآنى لهذا الفعل فى "يوسف"/ 42، و"الحشر"/ 19.
وقد وقف د. البدراوى زهران عند هذا الاستعمال الطّاهَوِىّ وردَّه إلى ميل صاحبه بوجه عام، نظرا لظروفه الخاصة التى تجعله قادرا بغيره، إلى استخدام الأفعال المبنية للمجهول بما تدل عليه من أنه لا يقوم بفعل الشىء عادة، بل يعتمد فى فعله على غيره، وأن دوره فى الغالب دور سلبى لا فاعل. بيد أنى، وإن كنت لا أريد أن أعترض على هذا التعليل فيما يخص صيغة المبنى للمجهول لدى الدكتور طه بوجه عام، أوثر أن أركز النظر فيما يخص الفعل "أنسى" على التأثير القرآنى على طه حسين وأسلوبه. وقد رأينا أن مسألة تأثره بلغة القرآن لا تقف عند هذه الصيغة من الفعل "نَسِىَ"، بل تمتد إلى أشياء أخرى كثيرة متنوعة. صحيح أن القرآن يستعمل الفعل المجرد أكثر، لكن طه حسين يستعمل أيضا الفعل "نسى" كثيرا، ومع ذلك فإن مجرد استعماله للفعل "أنسى" يومئ إلى إعجابه بلغة القرآن وحبه لاستلهامها. علاوة على أن صيغة المبنى للمجهول من هذا الفعل لا تساعد على الاختصار، وهو السبب الذى يعلل به الأستاذ الدكتور انتشار هذه الصيغة فى كتابات الدكتور طه، بل تزيد حروف الفعل حرفًا هو حرف الهمزة. كما أن صيغة المبنى للمجهول تُعْفِيه من نسبة النسيان الذى يصيبه أو يصيب من يتحدث عنهم إلى الشيطان حسبما ورد فى ثلاث حالات من الحالات الأربع التى وردت فى القرآن. وحتى فى الحالة الرابعة التى أُسْنِد فيها "الإنساء" إلى الله سبحانه فى قوله تعالى فى سورة "الحشر": "ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهم أنفسهم"، فإن السياق هو سياق الذم لمن وقع عليهم هذا الفعل. ومن هنا فإننى أرى أن طه حسين، حين نبذ صيغة المبنى للمعلوم إلى المبنى للمجهول، قد أراد أن يتجنب هذه الإيحاءات، فجعل الفاعل مجهولا كى ينصرف الذهن فى هذه الحالة إلى الظروف الإنسانية المختلفة لا إلى الشيطان أو إلى رب العزة بما يحصر المعنى فى دائرة العيب والإدانة. ومن ثم يبدو لى أن طه حسين قد أراد عامدا متعمدا تجنُّب استعمال صيغة المبنى للمعلوم من فعل "الإنساء" حتى يبتعد بالناسى من أبطاله عن مجال تأثير الشيطان أو سخط الله، وليس للسبب الذى ذكره الدكتور البدراوى زهران(19).
ومن مظاهر تأثر طه حسين بالقرآن فى أسلوبه استخدامه بعض الكلمات فى سياقاتٍ أو معانٍ لا نستخدمها فيها الآن إلا على ندرة: فمثلا من منا يستخدم الآن كلمة "هنالك" لظرف الزمان؟ إننا إذا استعملناها فإنما نستعملها لظرف المكان لا الزمان. أما طه حسين فى الجمل التالية فيجرى على طريقة القرآن: "هنالك وَجَمَتْ أم الصبى شيئا" (ص 14)، "هنالك استأنف العُودُ تمزيقَه لجسم الفتاة" (ص 55)، "هنالك لم نرفع الأكتاف ولم نهزّ الرؤوس" (ص 184)، أى عندئذ" أو "فى تلك الأثناء". وهذا كقوله تعالى عن زكريا حين جاءته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب بأن الله يبشره بابنٍ عفيفٍ سيدٍ شريف: "هنالك دعا زكريا ربه، قال: رَبِّ، هَبْ لى من لدنك ذرية طيبة"(20)، وقوله واصفًا الظروف الحرجة التى أحاطت بالمسلمين أثناء غزوة الأحزاب: "هنالك ابْتُلِىَ المؤمنون وزُْلْزِلوا زلزالا شديدا"(21). ومنها أيضا استعماله كلمة "اتخذ" بمعنى "استعمل" أو "لجأ إلى" أو "لبس" أو "جعل لنفسه"...إلخ كما فى قوله: "فرأت ابنها وبنتها قد اتخذا ثوبين باليين كذلك الثوب القديم" (ص 39) بدلا من "لبسا"، وقوله: "فاتخذ هذه المرأةَ له زوجا، واستقر فى حياة مطمئنة" (ص 57) بدلا من "تزوج هذه المرأة"، وقوله: "يتخذون من قصصهم أغشية لهذه المواعظ والعِبَر" (ص 88) بدلا من "يجعلون". وهذا كقوله سبحانه: "أتتخذونه وذريته أولياء من دونى، وهم لكم عدوّ؟"(22)، "أم اتخذ مما يخلق بناتٍ وأصفاكم بالبنين؟"(23). ومن ذلك اللون من التأثر بأسلوب القرآن قول كاتبنا: "هنالك وَجَمَتْ أم الصبى شيئا" (ص 14)، "وَجَمَتْ أمّونة شيئا" (ص 55)، بدلا من "وَجَمَتْ أمّونة بعض الوجوم"، وهو مثل قوله تعالى: "إنهم لن يُغْنُوا عنك من الله شيئا"(24). أى أن الدكتور طه استعمل نائب المفعول المطلق بدلا من المفعول المطلق نفسه، وهو كما يرى القارئ استعمال تفوح منه عراقة القديم الجزل الأصيل. ومنه استخدامه الحرف "قد" مع المضارع فى معنى التحقيق، وهو المعنى الذى نستخدمه فيه الآن مع الفعل الماضى فقط، بخلاف ما لو جاء مع المضارع، فإنه فى هذه الحالة يدل على الشك أو الظن لا أكثر. يقول طه حسين: "فقد يجب لتستقيم القصة أن يُحَدَّد الزمان والمكان" (ص 22)، "كانت سيرة أم تمام وبنيها تمنع جيرانها من أن يعرفوا شيئا من أمرها، فقد كانوا يعتزلون الناس اعتزالا غير مألوف. ولكن أوان الحديث عن هذا الاعتزال لم يَئِنِْ بعد، فقد ينبغى أن نعرف قبل ذلك أم تمام هذه" (ص 92). وقد تكرر هذا الحرف فى القرآن بهذا المعنى عدة مرات: "قد نعلم إنه لَيَحْزُنك الذى يقولون"(25)، "قد يَعْلَم اللهُ المُعَوِّقين منكم والقائلين لإخوانهم: "هَلُمَّ إلينا"، ولا يأتون البأس إلا قليلا"(26). وكل الشواهد، كما ترى، تدور على تأكيد علم الله. ومن ذلك استعماله حرف الجر "على" مع الفعل: "غدا يغدو" بدلا من "إلى" التى نستعملها عادة فى هذا السياق، فهو يقول: "لن تغدو على الكتّاب إذا كان الصبح" (ص41)، "ثم لا يكاد الصبح يتنفس حتى يراه فى الطريق العامة غاديا على عمله" (ص 132) متابعة للعبارة القرآنية: "وغَدَوْا على حَرْدٍ قادرين"(27). ومنه قوله: "قد اكتسب ثروةً مكانَ ثروة، وكَنَزَ مالاً مكانَ مال" (ص 166)، الذى بناه على غرار قوله جَلَّ مِنْ قائل: "بدّلنا آيةً مكانَ آية"(28).
ولا يقف التأثر الطاهوى بالقرآن عند هذا الحد، بل يمتد إلى التأثر بتراكيبه: ومن ذلك قوله: "وهم يريدون أن أذكرهم أنا...، وإن كانت حياتهم تلك الأولى لأهون من أن يفكر فيها أصحابها" (ص 124)، وهو ما نجد أصله فى القرآن فى كثير من الايات مثل:"وإن كانوا من قَبْلُ لَفِى ضلالٍ مُبِين"(29)، "وإن كان أصحاب الأيكة لَظالمين"(30)، ومنه كذلك: "ليس هو نائما، وليس بيقظان، وإنما هو شىء بين ذلك" (ص 62)، "يتيح له أن يكفل لأهله حياة إن لم تكن رخية كل الرخاء فلم تكن ضيقة كل الضيق، وإنما كانت شيئا بين ذلك" (ص 126)، حيث نرى المؤلف يستخدم "بين ذلك" بدلا من "بين هذا وذاك"، التى نستعملها نحن الآن جريا على أن "البينية" تستلزم وجود طرفين هما "هذا" و"ذاك"، أما "بين ذلك" فتبدو وكأنها قد اكتفت من البينية بطرف واحد دون الآخر. وهذا غير صحيح، فالعرب يعدون "ذلك" فى هذا التركيب بمثابة "هذا وذاك"، وهذا ما جرى عليه القرآن، وإن كنا لا نجد ذلك الاستعمال فى الأساليب الحديثة، وهو ما لفتنى بقوة إلى وجوده فى كتابات طه حسين. ومن شواهد ذلك فى القرآن قوله تعالى: "ويريدون أن يتخذوا بين ذلك (أى بين الله ورسله) سبيلا"(31)، "وكان بين ذلك (أى بين الإسراف والتقتير) قَوَاما"(32). ومن التراكيب القرآنية أيضا فى أسلوب طه حسين: "ثم تثوب الشيخة إلى نفسها بعد أن شكَّت غير طويل" (ص 139)، "فكَّر غير طويل" (ص 181)، الذى يصطنع فيه التركيب الموجود فى قوله تعالى عن هدهد سليمان: "فمَكَث غير بعيد"(33). ومن ذلك أيضا قوله: "ولكن الله قد أراد بى خيرا" (ص 49)، وفيه تأثُّرٌ بقوله تعالى: "يريد الله بكم اليُسْر، ولا يريد بكم العُسْر"(34)، قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا...؟"(35)...إلخ. ووجه التركيب هنا أن حرف الجر المستعمل مع الفعل "أراد" هو "الباء" لا "اللام"، فنحن نقول عادة: "أراد فلان لى كذا وكذا"، أما "أراد بى كذا" فليس بالشائع. إنما هو استعمال قد تكرر فى القرآن، فقام طه حسين، بحسه اللغوى الرهيف وحرصه الشديد على توفير جو من الفخامة والجلال لأسلوبه، بالتقاط هذا الاستعمال ضمن ما التقط من درارى القرآن المجيد. ومن هذا نرى كيف أن أثر القرآن الكريم منتشر فى أسلوب الدكتور طه حسين انتشارا واسعا وقويا مختلِف الألوان ومندمجا فى معظم الأحيان فى تضاعيفه، فهو بهذه الطريقة أقرب إلى الخيوط الذهبية والفضية الداخلة فى نسيج الثوب منه إلى الحلية المنفصلة كمشبك الصدر مثلا الذى يوضع على الثوب فيزينه، لكنه يمكن أن يُنْزَع من موضعه بسهولة بالغة متى أردنا. والمعروف أن طه حسين قد حفظ القرآن الكريم فى صباه فى الكتاب، واشتغل عريفا صغيرا مع "سيِّدنا" يحفِّظ الصبيان الآخرين القرآن بدوره. كما أنه سلخ أعواما غير قليلة من شبابه فى الأزهر، والدراسة فى ذلك الجامع العريق تقوم أول ما تقوم على القرآن، سواء كان ذلك على نحو مباشر أو غير مباشر. زد على ذلك أنه، سواء فى قراءاته فى التراث أو فى محاضراته فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب أو فى كتاباته، كان قريبا جدا من القرآن الكريم. وأهم من هذا كله أن الله سبحانه جَلَّتْ قدرته قد أسبغ على الرجل حافظة لاقطة أذكاها حرمانه من نور البصر واعتماده على سمع الأذن، كما وهبه ذوقا أدبيًّا رائقا بحيث لا يمكن أن يفلت من إسار هذا الكتاب الجميل الجليل حتى وإن اتخذ فى بعض الأحيان طريقا مخالفا لما يدعو إليه.
وفى أسلوب طه حسين ألوان من الموسيقى: فكثيرا ما نجد عنده الموازنة: أحيانا مع السجع والجناس، بمصاحبة المطابقة أو الترادف أيضا أو بدونهما، وأحيانا أخرى عارية عنها جميعا أو عن بعضها دون بعض. ثم إن هذه الموازنة قد تكون فى الجملتين كاملتين أو فى الجملة الواحدة كلها أو فى جزء فقط منها. ومن ذلك قوله: "فأنا أبعد الناس عن التحكم، وأزهدهم فى التجنى" (ص 23)، "وأقام فى الدار مُلْقًى فى زاوية من زواياها يُهْمَل فى ازدراءٍ، ويُمَرَّض فى عنف" (ص 40)، "كأنما دفعها إلى الوثوب لولب فى الأرض، أو جذبها إلى الوقوف سبب فى السقف" (ص 54)، "وما الذى يَعْنِينى من أن يُتْرَف المترفون حتى يقتلهم الترف، ومن أن يشقى الأشقياء حتى يهلكهم الشقاء" (ص 84)، "ولكنى أُعْرِض عنه بوجهى، وأنأى عنه بجانبى" (ص 124)، "لا يحتاج إلى كثير من ثقافة، ولا إلى إلحاح فى عمل، ولا إلى فضل من جهد، ولا إلى طويل من وقت" (ص 128).
كما أنه قد يجعل النعت صفة مشتقة من المنعوت، محدثا بذلك تجاوبا صوتيا بين اللفظين المتجاورين، وهو ما لا يجده القارئ عند غيره من الكتّاب إلا فى النَّدْرة الشديدة مثل: "البؤس البائس" (ص 86)، "جهدا جهيدا" (ص 93)، "فتنة فاتنة" (ص 112)، "جراءةٍ جريئة" (ص 145)، "عنفٍ عنيف" (ص 161)، "الرحمة الرحيمة" (ص 161)، "الهول الهائل" (ص 175). ويلحق بهذا العبارات التالية: "ثم أجد فى أقصى هذه الحارة الحقيرة حجرة حقيرة" (ص 51)، "نجمٌ من النجوم" (ص 65)، "صياح امرأةٍ تصيح، وبكاء امرأةٍ تبكى" (ص 71)، "كأنما دَفَعه دافع" (ص 105)، "أَقْوَى قُوّةً" (ص 145)، "أَرَقَّ رِقّة" (ص 96)، "أَشَقّ المشقّة" (ص 96).
وكثيرا ما يتعاقب عنده لفظان (أو أكثر) متساجعان ومتجانسان أو يكادان، كما فى الشواهد التالية: "خفيفةً ظريفة" (ص 14)، "الصدور والظهور" (ص 27)، "الجزع والهلع" (ص 27)، "الضجيج والعجيج" (ص 31)، "ضئيلاً نحيلا" (ص 43، 45)، "لم يخطر له قط أن للَّيْل جلالاً وأن للنهار جمالا" (ص 45)، "جامدةٌ هامدة" (ص 61)، "جسمه الضئيل، وقلبه العليل" (ص 61)، "رائعًا بارعًا" (ص 66)، "بلَفْظٍ أو لَحْظ" (ص 70)، "لا أريد أن أُعَلِّم جاهلاً، ولا أريد أن أعظ غافلاً ولا أن أنبه ذاهلا" (ص 88)، "لم أخترعها، ولم أبتدعها" (ص 90)، "ساهيًا لاهيا" (ص 142)، "يتشوَّفون ويتشوَّقون" (ص 149)، "لا يُغْنِى فيهم التحذيرُ ولا النذير" (ص 150).
ومن مظاهر الموسيقى فى أسلوب طه حسين كثرة المفاعيل المطلقة المؤكدة لعامله. وموسيقيتها ناتجة مما تحدثه مع عاملها من تجاوب صوتى يتمثل فى تكرير حروف الكلمة. فهذا التركيب التأكيدى يحدث جرسا موسيقيا، وهذه الموسيقى بدورها تؤكد المعنى... وهكذا. ومن الأمثلة على ذلك قوله: "يلقيه بين يدىْ أمينة إلقاءً" (ص 45)، "فانكبّ نحو الأرض انكبابًا" (ص 53)، "اقتطعتُها من نفسى اقتطاعًا" (ص 90)، "يختلس الوسائل اختلاسا" (ص 134)، "احتزّ القطارُ رأسها احتزازًا" (ص 149)، "نرى الشقاءَ يُصَبّ عليه صَبًّا" (ص 184). وللعلم فلهذا التركيب حضوره الملحوظ فى القرآن الكريم كما يتضح من النصوص التالية: "رأيتَ المنافقين يصُدّون عنك صدودا"(36)، "وكلّم الله موسى تكليما"(37)، "وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"(38)، "ونَمُدّ له من العذاب مَدًّا"(39)، "إنْ نظنّ إلا ظنًّا"(40)، "يوم تمور السماءُ مَوْرًا* وتَسِير الجبال سَيْرًا"(41). ولا أظن إلا أن الدكتور طه قد تأثر فى ذلك الملمح الأسلوبى بهذه النصوص وأمثالها.
كذلك من مظاهر الموسيقى لدن الدكتور طه كثرة التكرار الذى يتخذ صورا مختلفة: فمنها مثلا تكراره للكلمة مرتين متتاليتين بعطفه إياها على نفسها أو بجرّها إلى نفسها للدلالة على اتصال الحدث واستمراره كما فى الأمثلة التالية: "وانقطع صالح عن الكتّاب يومًا ويوما" (ص 33)، "أعادت عليها أمها المسألة مرة ومرة" (ص 53)، "يومًا بعد يوم" (ص 130)، "وأما عبد السيد فيثور ويثور" (ص 141)، "وجعلتُ أتضاءل وأتضاءل"، (ص 184)، "حُسْنًا إلى حُسْن، وروعة إلى روعة" (ص 59)، "وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أياما وأياما فتستقبل بوجهها الغرب تتنسم ريح الموت فلا يحملها إليها النسيم" (ص 98)، أو تكراره لكلمة أو أكثر تكرارا متقاربا مرتين أو أكثر كما فى هذه الشواهد: "المواطن التى يقال فيها الحق، والمواطن التى يقال فيها الباطل" (ص 31)، "وأستطيع أن أُسَخِّرها فى عمل من الأعمال...: فقد أُسَخِّرها لبيع الخُضَر، وقد أسخرها لبيع الفاكهة، وقد أكلِّفها أن تصنع الخبز فى بيوت الأغنياء...، وقد أكلفها أن تغسل الثياب فى هذه البيوت" (ص 36)، "ونهض وهو لا يقدر على النهوض، وسعى وهو لا يقدر على السعى" (ص 47)، "فأنا أستطيع أن أذهب معه إلى السوق...، وأنا أستطيع أن أذهب معه إلى هذه الدُّور...، وأنا أستطيع أن أترك قاسما يشترى من السوق ما يشاء، وأن أترك سيدنا يطوف بالدور..." (ص 50)، ، "وإذا امرأة تساقط دموعها...، وإذا فتاةٌ تنتحب...، وإذا قاسم واجم أول الأمر...، وإذا امرأته تردّ عليه...، وإذا يداه تسترخيان، وإذا هذا الخير... يسقط إلى الأرض، وإذا عيناه تنطفئان، وإذا شفتاه تلتقيان ثم تمتدان، وإذا هو يسعى إلى حصيره...، وإذا امرأته تسمع صوتا خافتا..." (ص 61)، "وفتيان القرية يتسامعون بقصة خديجة...، وفتيان القرية يتحدثون عن جمال خديجة...، وفتيان القرية يُسِرّون فى أنفسهم حبا لخديجة..." (ص 47)، "بين أصوات الصِّبْية النحيلة الضئيلة...، وأصوات الصِّبْية التى أخذت تمتلئ...، وأصوات الشباب التى كادت تشبه أصوات الرجال...، وكانت هذه الأصوات...تحمل إلى الأذن شيئا حلوا رائقا..." (ص 102- 103)، "فى حجرات قليلة لا يظهر عليها الثراء، ولا يظهر عليها الضر، ولا يظهر عليها ما يلفت إليها أحدا" (ص 125)، "فيكون الاقتراض، ثم يكون العجز عن أداء الدين، ثم يكون امتناع القادرين عن الإقراض، ثم يكون الحرمان...، ثم يكون الحرمان...، ثم يكون الضيق بالحياة، ثم يكون الالتجاء إلى الأغنياء...، ثم يكون إعراض الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين" (ص151- 152)، "فإذا نحن نراه عرضة للوباء، بل مرتعا للوباء. وأىّ وباء؟ وباء الكوليرا..." (ص 187).
ومن هذه المظاهر الموسيقية عند طه حسين كذلك تقليب الأمر على وجهيه سلبا وإيجابا باستخدام الألفاظ والتراكيب ذاتها تقريبا كما هو الحال فى العبارات التالية: "تمتد فيه الخطوط الحديدية من الشَّمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الشَّمال" (ص 41)، "فأدى صلاته لم يكلم أحدا، ولم يكلمه أحد" (ص 44)، "خبزٌ حافٍ تبعدان به الجوع عن نفسيهما، أو تبعدان به نفسيهما عن الجوع" (ص 52)، "ثم لم يحسّ شيئا، ولم يحسّه شىء" (ص 63)، "كأنه حلم يُلِمّ بنفوسهن فى آخر عهدها بالنهار وأول عهدها بالليل" (ص 79)، "لا أريد أن أغير منها قليلا أو كثيرا، ولا أحب أن يتغير منها قليل أو كثير" (ص 89)، "يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هى أن يعينها أحد" (ص 98)، "لم يسمع أهل المدينة عنه شيئا، ولم يسمع هو عنهم شيئا" (ص 115)، "أساور... يُدْخِلْن فيها سواعدهن، أو يُدْخِلْنها فى سواعدهنّ" (ص 126)، "وأظن أنك رأيت الخطر الذى يسعى إلينا مسرعا، أو نسعى إليه مسرعين" (ص 155).
وقد عزا المازنى فى "قبض الريح" سمة التكرار والإعادة عند الدكتور طه إلى أنه كان، بسبب كفّ بصره، يملى ما يريد كتابته ولا يكتبه بيده، كما أن طول اشتغاله بالتدريس قد أكسبه التبسط فى الإيضاح والإطناب فى الشرح والتفصيل(42). أما مصطفى صادق الرافعى فقد عَدَّ هذا التكرار "شعوذة مطبعية"، وسخر منه وتهكم به قائلا إنه كان يقرأ مقالةً افتتاحيةً فى جريدة "السياسة"، ومعه أديب، فدفعها إليه وسأله: لمن هذه المقالة؟ فقال إنها بدون توقيع، فردَّ الرافعى بقوله: "لا يجب أن يكون التوقيع فى ذيل المقالة، بل قد يكون فى أثنائها"، فسأله صاحبه: "فأين هو؟"، فردَّ عليه متهكما: اسمع، هذا هو التوقيع: "فعلوا هذا. نعم فعلوه. فعلوه. أقسم لقد فعلوه. فعلوه"(43). كذلك عاد الرافعى إلى التهكم بهذا الأسلوب مؤكدا أنه فى كل ما قرأ من أساليب العرب لم يقابل قَطّ مثل الأسلوب الذى يصطنعه طه حسين كقوله فى صدر قصة المعلمين التى نشرتها له جريدة "السياسة" يومذاك: "نعم قصة المعلمين، فللمعلمين قصة، وللمعلمين قضية. وكنا نحب ألا تكون للمعلمين قصة، وألا تكون للمعلمين قضية، لأننا نربأ بمقام المعلمين عن أن تكون لهم قصة أو قضية، ولكنْ أراد الله، ولا رادَّ لما أراد الله، أن يتورط المعلمون فى قصة، وأن يتورط المعلمون فى قضية. ليست قضيتهم أمام المحاكم، وإن كانت أوشكت فى يوم من الأيام أن تصل إلى المحاكم، وليست قصتهم مُفْزِعة مُهْلِعة، وإن كانت أوشكت فى يوم من الأيام أن تكون مفزعة مهلعة". ثم يعقِّب الرافعى على ذلك قائلا: "فهذه عشرة أسطر صغيرة دارَ المعلمون فيها عدد أيام الحسوم، وحُكِيَت القصة ست مرات، وكان للقضية فيها ست جلسات، غير ما هنالك من "مُفْزِعة" و"مُهْلِعة" قد أفزعت وأهلعت مرتين، وغير ما بقى مما هو ظاهر بنفسه. ولا ريب أن الأستاذ إما أن يكون قد نحا بهذا نحوا لا نعرفه وقصد إلى وجه لم نتبينه، فهو يدلنا عليه لنُجْرِيَه فيما أجريناه من أساليب البلاغة ونؤرخ له فى الذوق الجديد، وإما أن يكون عند ظننا به فى اعتبار هذه الكلمات رُقًى وطلاسمَ للتسخير بقوتها ورُوحانيتها. فإذا قرأ المعلمون هذه المقالة عشر مرات انحلّت المشكلة وجاءهم الرزق وهم نائمون"(44). ولا شك أن تكرار طه حسين فى كتاباته لا يصل عادةً إلى حد الثرثرة المضحكة التى تطالعنا هنا، إذ إن ما يتسم به أسلوبه المتأنى المنبسط من موسيقى وفخامة وأصالة ووضوح وسلاسة ودفء وتهكم وثقافة واسعة متنوعة الألوان يغطى فى كثير من الأحيان على هذه الثرثرة المتحذلقة، أو قل: يحولها إلى ثرثرة فنية لذيذة.
كذلك فإن الموازنة والتكرار وما يمتلئ به أسلوب طه حسين من نغمات موسيقية لا يجرى على وتيرة واحدة، بل كثيرا ما يخرج الأسلوب عما هو متوقع، فتراه لا يمضى لآخر الطريق مع هذه السمة أو تلك، وهو ما يُشِيع فيه مرونة وحيوية وإنعاشا. ولنأخذ بعض الأمثلة لتوضيح ما نقول: فعلى سبيل المثال نراه فى النص التالى لا يتابع التناظر فى موازنته إلى نهاية الشوط، بل يكسرها بما يخرج القارئ عن استنامته لما يجرى: "رأى ابنة هذا الرجل فتاة كاعبا تستقبل الحياة فى قوة وجمال، وفى بؤس وشقاء أيضا، فلم يرقّ لبؤسها ولم يرحم شقاءها، وإنما اشتهى جمالها، وطمع فى محاسنها، وابتغى إليها الوسائل" (ص 58). فانظر كيف كَسَر التناظرَ فى النص بزيادة كلمة "أيضا" بعد كلمة "شقاء"، وإجراء جملة "وابتغى إليها الوسائل" على تركيب مخالف للتركيب الذى صب فيه الجملتين السابقتين عليها. وقس على ذلك العبارة التالية: "لا ترفع صوتا بإعوال، ولا تخفض صوتا بنحيب. لا تلطم وجهها، ولا تخمش صدرها، ولا تصنع صنيع أحد من النساء" (ص 96- 98)، التى كان يتوقع قارئها أن تأتى الجملة الثالثة من الجزء الثانى منها على نفس النسق التركيبى الموجود فى الجملتين السابقتين عليها، وبخاصة أن الجملتين فى الجزء الأول قد رَشَّحَتا لهذا التوقع، لأنهما أيضا تتناظران، ودون أن يحدث ما يعكر صفو هذا التناظر. بيد أنه يفاجَأ بإتيان الكاتب بجملةٍ تركيبُها يختلف عن هذا التركيب. ونَفْسَ الشىء قُلْ فى مظاهر الموسيقى عند الكاتب، فهو لا يلتزمها دائما، كما أنه لا يأتيها فى أى وقت ولا على نظام معلوم بحيث يمكن أن يتوقعها القارئ سلفا، بل تأتى فجأة مثلما تنصرف فجأة كما هو الحال مثلا فى قوله: "وامتلأ الجو من حوله ضياءً يوقظ الأشياء، وغناءً يوقظ الأحياء، ويدعو الناس إلى الصلاة" (ص 63). فالجملة الأخيرة لا تتناغم مع سابقتيها، إذ ليس بينها وبينهما التناظر الموسيقى المتوقع لا فى التركيب ولا فى الفاصلة.
ونمضى فنذكر بقية ما تنبهتُ إليه من سمات أسلوبية فى كتابات الدكتور طه حسين: فمن ذلك أنه حريص فى غير قليل من الحالات على التأكيد بأنه لا يشك فيما يرويه من أحداث أو يورده من أحاديث. ووجه التفاتى إلى هذه السمة أنه اشتهر أول ما اشتهر بإنكاره الشعر الجاهلى وإقامته هذا الإنكار على منهج الشك المنهجى أو الديكارتى، وذلك فى كتابه "فى الشعر الجاهلى"، وإن ظهر لدارسى هذا الكتاب أنه للأسف لم يحسن فهم هذا المنهج ولا تطبيقه على الشعر الجاهلى. وإلى القارئ بعض الأمثلة على ما نقول: "وما أشك فى أن القارئ سيقف عند هذا الموضع" (ص 34)، "ما أشك فى أن السيدة ستُسَرّ بهذا الصيد" (ص 48)، "والشىء الذى لا شك فيه أن الفتاة قد اطمأنت إلى هذا الرجل ووثقت به" (ص 59)، "ولكن الشىء الذى ليس فيه شك هو أن هذا الموظف من موظفى الدولة عاجز عن أن..." (ص 152). ويشبه هذا عنده تأكيدُه المفعولَ المطلق بكلمة "كلّ"، مثل: "يُغْنِى كل الغَناء، ويفيد كل الفائدة" (ص 25)، "ولكنها بعيدة كل البعد عن الإعدام" (ص 74)، "راضٍ عن نفسه كل الرضا، مستقر فى الحياة كل الاستقرار" (ص 104)، أو جعلُ المفعول المطلق أفعل تفضيل مثل: "وانغمس فى القناة كأحسن ما تعلَّم أن ينغمس، وعام فى القناة كأحسن ما تعوَّد أن يعوم" (ص 33)، "صُنِع فى تمهل وتأنُّق وأناة كأحسن ما يتمهل المثّال البارع ويتأنق ويستأنى بعمله" (ص 66)، "وأُعْجِبُ قرائى حتى يَكْلَفوا بى أشد الكَلَف، وأَغِيظهم حتى يمقتونى أعظم المَقْت" (ص 83- 84)، "مزدحمين أشد الازدحام، ملحّين أعظم الإلحاح" (ص 124). وقد سبق أن ذكرنا أيضا المفعول المطلق المؤكد لعامله، وهو لا يقل كثيرا فى هذا الباب عن نظيريه.
ومما لاحظت تكرره عند طه حسين استخدام اسم الإشارة نعتًا يليه نعتٌ آخر أو أكثر، مثل: "وافتقدتْ صاحبَنا ذاك المهذار" (ص 18)، "وكنت تراها...عائدة إلى بيتها ذاك الوضيع الحقير" (ص 68)، "ثم ألقى تحيته بصوته ذاك المرعب المخيف" (ص 106)، "استطاع أن ينقل نفسه من مدينته تلك البعيدة" (ص 137)، "ليس وحيدا فى بؤسه هذا المنكر، وفى عبئه هذا الثقيل" (ص 153).
كذلك يكثر فى كلام كاتبنا هذا التركيب: "ما كاد/ لم يكد فلان... حتى..."، والغالب، فيما يخيل إلىّ، أن يقال هذه الأيام: "ما إن حدث كذا حتى...". ومن أمثلة التركيب المذكور: "ولم يكد يجاوز الدار حتى رفع صوته بالدعاء" (ص 19)، "ثم لم يكد يفرغ من غَدَائه حتى خرج ليشهد صلاة الظهر" (ص 32)، "ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يحمل الفلاحون جثة قد شاع فيها الموت" (ص 99)، "ولم يكد يبلغ داره... حتى أعاد على أمه ما سمع من حديث" (ص 107)، "فلا يكاد يصيب معهم شيئا من الطعام... حتى يأوى إلى مضجعه" (ص 131- 132).
ومن التراكيب اللافتة للنظر فى أسلوب الدكتور طه أيضا النفى بــ"ليس" مع مجىء خبرها فعلا، والغالب فى أساليب العصر الحالى استخدام "لا" بدلا منها. وهذه شواهد من الكتاب الذى بين أيدينا على ما نقول: "ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شىء من القسوة" (ص 35)، "وليس يعنينى ما يريد غيرى من الناس" (ص 35)، "وهنا ليس يحتاج القارئ... إلى أن أمضى به فى هذا الحديث البغيض" (60)، "ولست أكره أن أؤدى للقارئ حقه فى هذا" (ص 123)، "ولست أستطيع أن أبين لذلك سببا" (ص 124)، "لست أبغض شيئا كما أبغض إلقاء الدروس فى الوعظ والإرشاد" (ص 150). ومن الواضح أن الفاعل فى كل هذه الأمثلة تقريبا هو "تاء المتكلم". وتتكرر عند كاتبنا كذلك "كان" التامة، وهو استعمال لا يعرفه كتاب العصر الحديث عادة. وهذه شواهد على هذه السِّمَة: "وسأدفع نصفه الآخر إلى صالح ليؤديه إلى العريف إذا كان الغد" (ص 32)، "لن تغدو على الكتّاب إذا كان الصبح" (ص 41)، "ولم يكن شكٌّ فى أنه ضابط تركى قديم" (ص 106)، "لا يكادون يستقرون فى حجرتهم... حتى تلُمِ ّربة الدار فيكون الحديثُ الرفيقُ والحنانُ الرقيق" (ص 110)، "وطبيعى ألا ينهض هذا المرتب الضئيل بحاجة هذه الأسرة الضخمة فيكون الاقتراضُ، ثم يكون العجزُ عن أداء الدين، ثم يكون امتناعُ القادرين عن الإقراض...، ثم يكون الحرمانُ...، ثم يكون الضيقُ بالحياة، ثم يكون الالتجاءُ إلى الأغنياء بطلب المعونة، ثم يكون إعراضُ الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين..." (ص 151- 152).
ومن التراكيب التى تكررت أيضا على نحو يلفت النظر عند د.طه جملة "جَعَلَ" الشروعية بدلا من "أَخَذَ"، التى يشيع استخدامها فى عصرنا، وربما فى غير عصرنا أيضا: "ومنذ ذلك اليوم جعل الحاج محمود يسعى بالخير بين حين وحين إلى هذه الأسرة البائسة" (ص 59)، "وأخذتْ بيد ابنتها وجعلتا تسعيان فى بطء نحو الغرب" (ص 99)، "وإذا اللقاء الذى كاد يكون بينهما على غير موعد قد جعل يصبح شيئا تُدَبَّر له الخطط...، وإذا الحديث الذى كاد يكون بينهما فارغا... قد جعل يصبح مليئا وراءه كثير من الأشياء" (ص 135)، "وقد جعل هذا الخاطرُ يتردد فى ضمير الفتى يقظان" (ص 145)، "وجعلتْ ألوان الطُّرَف وفنون الهدايا تستبق إلى الدار" (ص 146).
وفى كثير جدا من الأحيان نرى طه حسين يتحول عن حكاية الوقائع المنصرمة من خلال الفعل الماضى إلى حكايتها من خلال الفعل المضارع، يريد أن يقيم أمام أعيننا حوادث الزمان الذى ولَّى وكأنها تقع الآن مباشرة: "وإنها لتتحدث إلى بناتها هذه الأحاديث... وإذا الصبى يقطع عليها حديثها" (ص 21)، "ولكنها فى ذلك اليوم قد أُعْجِلت عن حمل الطبقين، ولا تذكرهما إلا حين رأت أمها مقبلة تحملهما" (ص 73)، "وقد استقامت الأمور بين الأسرتين، ولكنها لم تستقم فى نفس خديجة، فهى تمتنع على هذا الزواج وتلحّ فى الامتناع" (ص 75)، "فقد خُطِبت تفيدة، وما هى إلا أسابيع حتى يقبل قوم من القاهرة، وحتى تقام فى الدار أعياد، ثم يعود الزائرون من حيث أتَوْا" (ص 111)، "ولكنى أصل إلى القاهرة وأسأل عن صاحبى فأعلم أن حُمَّى التيفوئيد قد أسلمته إلى الموت أثناء الصيف" (ص 120)، "والسنّ تتقدم بالمعلم حتى يحس الضعف عن النهوض بأعبائه، والفتى يتقدم فى العلم بمهنة أبيه متباطئا متثاقلا" (ص 133). وفى هذه السمة أيضا يدين طه حسين للأسلوب القرآنى الذى كثيرا ما ينتقل من صيغة الماضى إلى الحاضر مباشرة مستعملا الفعل المضارع أو الجملة الاسمية كما فى الشاهد التالى، وهو مأخوذ من قصة نوح مع قومه حين كان يصنع السفينة تحسُّبًا لهجوم الطوفان: "وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ* وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ* وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُون* فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ* حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ* وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ* قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ". فكما يرى القارئ انتقل الكلام من الماضى فى قوله تعالى: "وأُوحِىَ إلى نوح..." إلى الحاضر فى قوله سبحانه: "ويصنع الفُلْك..." ، وكذلك انتقل من الماضى فى قوله عز جلاله: "وقال: اركبوا فيها..." إلى الحاضر متمثلا فى الجملة الاسمية هذه المرة فى قوله: "وهى تجرى بهم فى موجٍ كالجبال".
هذا، وهناك ألفاظ وصيغ معينة يغرم طه حسين بترديدها فى هذا الكتاب وفى سوى هذا الكتاب أيضا، مثل "نُجْح" بدلا من "نجاح"، و"مِزاج" عوضا عن "مزيج"، وقد تكررت كلتاهما مرات. ومثلهما فى ذلك كلمة "سَرَف"، التى لم أقع عليها مع ذلك فى الكتاب الحالى. وبالمثل نراه يكثر هنا من استعمال كلمة "شىء" فى سياقاتٍ وظلالٍ مختلفة: "هنالك وجمت أم الصبى شيئا"، أى بعض الوجوم (ص 14)، "مهما يكن من شىء فقد غدا الصبى... على كتّابه" (ص 27)، "والواقع من الأمر أنى لا أكلِّف أم صالح شيئا من هذه الأعمال التى ذكرتها" (ص 36)، "الشىء الذى لا أشك فيه ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما وأن أمه لم تكن ميتة" (ص 35)، "لا تستطيع أن تصوّر إلا حزنا هادئا فيه شىء من أمل يسير" (ص 46)، "ليس هو نائما، وليس يقظان، وإنما هو شىء بين ذلك" (ص 62)، "قد تقدمت به السن شيئا" (ص 103)، "وأشعل سيجارته فى شىء من أنفة، ونهض فى شىء من كبرياء" (ص 121)، "ثم هُمْ، على كثرة ما يملكون، ... أشبه شىء بالصخرة المصمتة" ( ص 173)... وهكذا.
وبعد هذا التحليل الأسلوبى المرهق أرجو أن أكون قد قَدَرْتُ على إبراز بعض من السمات التى تميز لغة الدكتور طه حسين وتضفى عليها تلك النكهة الخاصة الحلوة السهلة المتأنية الفخمة المغرية بل المخدِّرة فى كثير من الأحيان. على أن جاذبية كتابات الرجل لا تتوقف هنا، بل ثمة أشياء أخرى فى هذا الكتاب لا بد من الإشارة إليها: فمثلا قد يجد القارئ، فى خروج طه حسين عن تيار الحكاية وانحرافه إلى الحديث عن أصول القصة كما يرسمها النقاد ويطالبون القصّاص بالتزامها، ما يشدّه إلى هذا اللون من الكلام. فها هو ذا المؤلف يشركه معه فى مناقشة أمر من أمور الأدب والنقد بما يشى بثقته فى عقله وذوقه ومقدرته على أن يرتفع إلى مستواه فى هذا المجال، وهو لون من التواضع يحبب الناس فى صاحبه، وبخاصة إذا ما بدا وكأنه يريد أن يستطلع طلعهم ويأخذ رأيهم فى هذه القضايا مما يعنى أنهم قد أصبحوا مثله فهمًا لقواعد الفن القصصى ومقدرةً على تكوين رأى فى مسائله، وبالذات إذا كان تناول الدكتور طه للأمر تناولا سهلا سريعا لا يمس أعماقه، بل يكتفى منه فى الغالب بلمس السطوح القريبة التى لا تعنت الذهن ولا تثقله بالتحليلات المفصّلة وتتبُّع الدقائق واستعراض الآراء المختلفة فى المسألة ومناقشتها واحدا واحدا. إن طه حسين بهذا يكتسى ثوب الرجل الديمقراطى الذى ينزل إلى مستوى ناخبيه (أو قل: قارئيه) يبادلهم الحديث ويستمع إلى آرائهم. ثم إنه هنا يجرِّئ القراء على كسر القواعد التى يتهمها بالظلم والعسف والاستبداد، ومن يا ترى يستطيع أن يكره الدعوة إلى تعرية الظلم والعسف والاستبداد؟ أما القراء الذين لا تجوز عليهم تلك الحيلة الفنية فإنهم يَرَوْن فى ذلك لونا من الخروج على المألوف يتمثل فى قيام القَصّاص بكشف أسرار العملية الذهنية الإبداعية أثناء ممارسته لتلك العملية ذاتها. وأذكر أننى قد تناقشت ذات ليلة أنا وزميل يمنىّ (كان يدرس فى بريطانيا للحصول على درجة الدكتورية من جامعة أوكسفورد فى الأدب الإنجليزى) حول هذا الاستطراد الذى انتهجه طه حسين فى "المعذبون فى الأرض" ومدى جواز قبوله أو لا. وأذكر أيضا أننا قلنا إنه قد يُغْتَفَر لطه حسين ما لا يُغْتَفَر لسواه. نقصد أن أسلوبه العذب الجميل ومكانته التى حققها فى دنيا الكتابة يشفعان له ألا نحاسبه على مثل هذا الانحراف عن قواعد كتابة القصة. وفوق ذلك فطه حسين لا يكتفى بمناقشة النقاد والسخرية من قواعدهم وأصولهم فحسب، بل يضيف إلى هذا ما يمكن أن نقول: مناكفته للقراء، هذه المناكفة الفنية التى تخيِّل لمن لا يعرف الأمر أن هناك من القراء من يعترض على طريقته هذه أو تلك فى معالجة القصة التى بين يديه، على حين أن الأمر لا يعدو رغبة الكاتب فى استفزاز اهتمام قرائه وإثارة شعور الرضا عن النفس لديهم كما سبق أن وضحنا، وبالذات إذا كان الكاتب حريصًا حِرْصَ الدكتور طه على تجنب ما يمكن ان يُشْتَمّ منه رائحة اتهام القراء بعدم الإلمام بما يعلمه هو، إذ يصوِّر الأمر على أنه مجرد رغبة منه فى ألا يخضع لما يريده النقاد والقراء الذين يمكن أن يظاهروهم عليه من الاستبداد به والعمل على خنق حريته الفنية!
والآن مع نص من النصوص التى يناقش فيها طه حسين نقاد القصة والقواعد التى يَدْعون إلى مراعاتها ويتناول الكلام عن موقفه منها، والنص مأخوذ من قصة "صالح"، وهى عن صبى فقير كان بطلُ القصة (وهو صبىٌّ مثله، وأغلب الظن أنه طه حسين نفسه فى صباه)، يدعوه إلى بيتهم ليصيب معه من أطايب الطعام التى تصنعها أمه فى بعض المناسبات الاجتماعية: "وما أشك فى أن القارئ سيقف عند هذا الموضع من الحديث وسيسأل نفسه، ولو استطاع لسألنى أنا: ألم يكن من الخير أن نعرف من أول القصة أن صالحا قد فقد أمه، وأنه كان يعيش يتيما ينعم بما يختلس من حب أبيه سرًّا ويشقَى جهرًا بما يُصَبّ عليه من بغض هذه الضَّرّة التى قامت مقام أمه فى البيت؟ ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شىء من القسوة والسخرية والغيظ فيقول فى نفسه: لو أن الكاتب سلك فى قصته هذه الطرقَ الممهَّدةَ والسبيل المعبَّدة التى رسمها النقاد للقصة لعرَّف إلينا صالحا فى أول حديثه ولأنبأنا بموت أمه وتزوُّج أبيه، ولأعفانا من هذه المفاجأة التى لم نكن فى حاجة إليها. ولكنى أعيد على القارئ ما قلتُه آنفا من أنى لا أضع قصة، وإنما أسوق حديثا. وأضيف إلى ذلك أن الذين يسوقون الأحاديث لا يقدّمون بين يديها هذه المقدمات التى يبيّنون فيها الموطن والبيئة والأسرة والزمان والمكان... إلى آخر هذا الكلام الثرثار الفارغ الذى يلهج به النقاد. ولو أنى بدأت هذا الحديث برسمٍ واضحٍ دقيقٍ لشخصية صالح وأمين ومن يتصل بصالح وأمين من الناس لضاق القراء بهذه المقدمات أشد الضيق ولقال بعضهم: تَجَاوَزْ حديث الطوفان وصِلْ إلى غايتك، فلسنا من الغباء والغفلة بحيث نحتاج إلى كل هذا التمهيد. وبَعْدُ، فمن أنبأ القارئَ بأن صالحا يتيم وبأن أمه قد ماتت؟ الشىء الذى لا أشك فيه ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما وأن أمه لم تكن ميتة، وإنما كانت حيَّة أكثر مما ينبغى أن يحيا الناس إن صَحَّ أن تَكْثُر الحياة وتَقِلّ. وسواء رضِىَ القارئ أم لم يرض فقد كانت أم صالح حية من غير شك، لأنى أنا أريد ذلك، وليس يعنينى ما يريد غيرى من الناس، فأنا الذى اخترع صالحا من لاشىء، أو أخذ صالحا من عُرْض الطريق، لأن صالحا موجود ولأنه غير موجود: موجود فى حقيقة الأمر لأننا نراه فى كل ساعة وفى كل مكان، وغير موجود فى حقيقة الأمر أيضا لأنه يملأ المدن والقرى ويسرف على نفسه وعلى الناس فى الوجود، والشىء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده كما يقال. فأنا إذن وحدى، كما كان يقال أيضا، أعرف من أمر صالح ما لا يعرف غيرى من الناس، وأقرر أن أمه لم تترك الدار لأنها طُلِّقَت، وأنا أستطيع أن أصنع بأمه بعد الطلاق ما أشاء: أستطيع ان أدعها مطلقة تعمل خادما فى بعض الدُّور، وأستطيع أن أجد لها زوجا تعيش معه سعيدة موفورة، وأستطيع أن أسخِّرها لعمل من هذه الأعمال التى يعيش منها أمثالها من البائسات: فقد أسخّرها لبيع الخضر، وقد أسخِّرها لبيع الفاكهة، وقد أكلِّفها أن تصنع الخبز فى بيوت الأغنياء وأوساط الناس، وقد أكلِّفها أن تغسل الثياب فى هذه البيوت، وقد أجد لها ما أشاء من الأعمال غير هذا كله لأنى حُرٌّ فيما أحب أن أسوق إلى القارئ من حديث ولأن القارئ مضطر إلى أن يتلقى حديثى كما أسوقه إليه، ثم هو حُرٌّ فى أن يقبله أو يرفضه، وفى أن يرضى عنه أو يسخط عليه. والواقع أنى لا أكلِّف أم صالح شيئا من هذه الأعمال التى ذكرتُها ولا أفرض عليها شيئا من هذه الخطط التى رسمتُها لأنى، على حريتى فى أن أصنع بها ما أشاء، أُوثِر الأمانة فى رواية التاريخ. وقد حدثنى التاريخ بأن خديجة أم صالح قد كانت شاذة الخلق سيئة العشرة..." (ص 35- 37).
ومع هذا فمن الكتاب من يضيق بهذا الكلام من طه حسين وينتقده عليه انتقادا شديدا، ولكلٍّ وجهةُ نظره ورأيُه الذى يرتئيه. ومن هؤلاء محمود عبد المنعم مراد، الذى قال: "إن طه حسين فى مقدمة قصة "المعذبون فى الأرض" يقول: "لا أضع قصة فأُخْضِعَها لأصول الفن، ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول لأننى لا أومن بها ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لى القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بينى وبين ما أُحِبّ أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلامٌ يخطر لى فأُمْلِيه ثم أُذيعه. فمن شاء أن يقرأه فليقرأْه، ومن ضاق بقراءته فلينصرفْ عنه". ثم يعلله قائلا إنه يضع نفسه فوق النقد ولا يحب أن يسمعه ولا يعترف به ولا يرى أن يُقيم له وزنا! ولماذا؟ لأنه يريد أن يكون حُرًّا فيما يكتب ويُذِيع على الناس! وكيف إذن بنى طه حسين مجده الأدبى؟ ألم يكن ذلك على حساب غيره من الأدباء: القدماء والمُحْدَثين على السواء؟ يخيَّل إلىّ أن الذى ألجأ طه إلى هذه الثورة الغاضبة على النقاد والقراء هو إحساسه فى ذلك الموضع من كتابه أنه يتعرض للنقد، فأراد أن يقطع الطريق على هؤلاء الفضوليين. ولا أعرف فى التاريخ كله كاتبا مَهْمَا تبلغ عبقريته يستطيع أن يقول للناقد: "قف! من أنت؟"، ولن يستطيع طه بهذا الكلام الذى ساقه أن يمنع قارئا من أن يُبْدِىَ إعجابَه بما كتب أو سُخْطَه عليه"(45). إن الأستاذ مراد إنما يأخذ طه حسين بالقواعد التى ينبغى على كاتب القصة مراعاتها والالتزام بها، ومن هنا فإنه ينتقده لقوله إنه غير ملزم بهذه القواعد، وإن من حقه الخروج عليها إذا أحب. لكن ينبغى الالتفات إلى أن الدكتور طه قد قال أيضا إنه لا يكتب قصة حتى يلتزم بأساليب القصة، وإنما يسجل تاريخا. حسنٌ، فنحن إذن عندما نستمتع رغم ذلك بما كتبه طه حسين هنا فإننا لا ننظر إليه على أنه قصة، بل على أنه أسلوب جميل متميز له نكهة خاصة عجيبة حاولنا فيما مضى من صفحات أن ننبه على بعض خصائصها، فضلا عما سنضيفه لذلك لاحقا. وعلى أى حال فقد قال مراد إن هذا الكلام الذى ساقه طه حسين عن القواعد وعدم وجوب خضوعه لها لن يستطيع أن يمنع قارئا من أن يُبْدِىَ إعجابَه بما كتب أو سُخْطَه عليه. وعلى هذا فإن شقة الخلاف بيننا وبين محمد عبد المنعم مراد ليست بالتى تُذْكَر.
ومما يتميز به طه حسين فوق هذا كله البراعة فى الوصف وفى سرد الذكريات. إنه يرتقى مرتقًى عاليًا حين يتحدث عن صباه وشبابه وما جرى أثناءهما من أحداث وما اتصل بهما من أشخاص، وبخاصة الأحداث البائسة والشخصيات الشعبية الفقيرة. وفى "المعذبون فى الأرض" صفحات يبلغ فيها فنُّ الرجل سماواتٍ عليا يصعب مجاوزتها إلى ما فوقها، ومنها على سيل المثال تلك الصفحات التى خصصها لأم تمام فى قصة "المعتزلة"، حيث يحكى قصة أسرة قروية بائسة تتكون من أم عجوز قبيحة شديدة القِصَر متلاشية الصوت، قد فقدت بعض أسنانها وانحنى أعلاها على أسفلها على نحو بشع جعلها أقرب ما تكون إلى العجماوات، وإذا مشت خُيِّل للناظر أنها كرة تتدحرج على الأرض، تجمع روث البهائم من الطرقات وتصنع منها أقراصا تجففها وتبيعها وقودا تستعين بثمنه على ضروريات الحياة، وولدين يشتغلان فى بناء الأكواخ يوما وينقطعان أياما، وبنتٍ فى نحو الثالثة عشرة يتصارع فى وجهها وملامحها القبح والجمال ولا تشتغل بشىء. وكانت هذه الأسرة رغم فقرها المدقع ورثاثة حالها تعتصم بكرامتها فلا تمد يدها إلى أحد ولا تقبل معونة من أحد مما أكسبها احترام الناس وكراهيتهم معا. ولنترك المؤلف نفسه يحكى لنا قصتها: "كانت أم تمام قصيرة مسرفة فى القِصَر، منحنية مسرفة فى الانحناء، همّت قامتها أن ترتفع فى الجو فلم تستطع أن تستقيم، وإنما انعطف أعلاها على أسفلها كأنها خُلِقَتْ لتلتصق بالأرض التصاقا. وكانت من أجل ذلك أشبه بذوات الأربع منها بالإنسان ذى القامة المعتدلة والقَدّ المستقيم، وكانت من أجل هذا إذا مشت خَيَّلَتْ إليك أنها تتدحرج كما تتدحرج الكرة. وكان مشيها بطيئا رفيقا، فكان يشبه حركة الكرة عندما تخفّ عنها قوة الدفع فتضطرب مبطئةً تسعى إلى السكون. وكان صوت أم تمام نحيلا ضئيلا، وكانت قد فقدت بعض أسنانها، فكان صوتها النحيل الضئيل يستحيل إذا تكلمت إلى هواء خافت لا يكاد السامع يتميّز حروفَه إلا بمشقة وجهد...
ولم تحاول أم تمام قَطّ ولم يحاول أحد من بنيها قَطّ الاتصال بالناس إلا حين كانت الضرورة المُلِحّة تضطرهم إلى ذلك اضطرارا، فقد كانوا يحتاجون أحيانا إلى أن يشتروا الطعام ليقيموا أَوَدهم. وكانت أم تمام تحتاج أحيانا إلى أن تبيع، فقد كان يعرض لها فى بعض الوقت أن تخرج إلى الطريق الزراعية العامة، وأن تلتقط من هذه الطريق رَوْث البقر والجاموس تقطعه قِطَعًا متقاربة وتجففه على سقف بيتها وتتخذ منه وقودا لتطبخ إن أُتيح لها الطبخ، وتبيع فَضْله بين حين وحين لبعض نساء القرية بالقروش أو بعض القروش توسِّع بذلك على نفسها وبنيها. ولم يخطر، فيما أعلم، لأحد من المُوسِرين ولأهل الدارين اللتين كانتا تكتنفان بيتها أن يَبَرّوا هذه الأسرة بقليل أو كثير من الخير، لا لأن الموسرين كانوا يبخلون بالمعونة على الذين يحتاجون إلى المعونة، بل لأنهم فى أكثر الظن قد همّوا أن يَبَرّوا هؤلاء الناس فردّوا أيديهم فى شىء من التعفف الذى لا يُحَبّ من الفقراء، فكفَّ الموسرون عن محاولة الرفق بهم والتوسيع عليهم فى الرزق... وكذلك نظر أهل القرية إلى هذه الأسرة على أنها أسرة ثقيلة سمجة ليست منهم وليسوا منها فى كل شىء. وكان أهل القرية مع ذلك يتحدثون فيما بينهم عن هؤلاء الناس فى إشفاق كثير لا يخلو من سخرية، وربما يقسو، إن أمكن أن يكون الإشفاق قاسيا، فيشتمل على شىء من شماتة. كانوا يَرَوْنَ هذين الغلامين يحتملان أشد العناء وأشق المشقة ليكسبا القروش القليلة فى بعض الأيام، ويتساءلون كيف تعيش هذه الأسرة من هذا الكسب القليل. وكانوا يَرَوْنَ هذين الغلامين وقد بَلِيَتْ ثيابهما فكشفت عن مواضع من الجسم من حقها أن تُسْتَر، ورُقِّعَتْ حتى ملَّت الترقيع. وكانوا يَرَوْنَ سعدى فى أسمالها البالية فيرحمون هذا الصِّبا النَّضْر فى هذا الغشاء المبُْتَذَل ويقول بعضهم لبعض: لولا الكبرياء لأصاب هؤلاء الناسُ عيشا أرقَّ رِقّةً وأرفه لينا...
ويُلِمّ الوباء بالقرية فيما يلم به من المدن والقرى، ويفجع الناس فى أنفسهم وأبنائهم وذوى قرابتهم ومحبتهم، وتكون أم تمام فى طليعة الذين يفجعهم الوباء، فهو يختطف ابنيها فى أقل من خمسة أيام، وهى مع ذلك هادئة ساكنة مطرقة بجسمها كله إلى الأرض، لا يرتفع لها صوت بالإعوال، ولا ينخفض لها صوت بالنحيب، وإنما هى مقيمة فى بيتها، وقد آوت إليها ابنتها كأنما تنتظران أن يُلِمّ الوباء بهما ويختطفهما كما اختطف الغلامين. ولكن الوباء قد أرضى حاجته من هذا البيت فهو لا يعود إليه، فإذا طال انتظار أم تمام له فى غير طائل نظر الناس فإذا أطوارها قد تغيرت من جميع جوانبها، وإذا حياتها قد بُدِّلَت تبديلا، فهى لا تألف بيتها ولا تحب الاستقرار فيه، وإنما تمسك فيه الصبيّة وتحرّج عليها أن تخرج منه، وتنطلق هى مع الشمس المشرقة لتعود إلى بيتها وابنتها حين ينشر الليل ظلمته على الأرض، ويسعى الموت والمرض مستخفيين إلى البيوت. كانت أم تمام تخرج من بيتها حين تشرق الشمس ملففة فى شقتها السوداء مطرقة بجسمها كله إلى الأرض فتقف أمام بيتها وقفة قصيرة تستقبل الغرب وترفع رأسها فى تكلف شديد إلى السماء، وتمد بصرها أمامها ثم تلتفت إلى يمين وإلى شِمَال تجذب الهواء بأنفها جذبا كأنما تحاول أن تتنسم رائحة الموت تندفع إلى يمين أو إلى شِمَال، ثم لا يراها الناس أثناء النهار كله إلا فى دار من هذه الدور التى ألم بها الموت وقام فيها المأتم يندين ويبكين. وكانت أم تمام تصل إلى هذه الدار أو تلك فلا تقول لأحد شيئا ولا تلقى إلى أحد سمعا، وإنما تقصد المأتم الباكيات وتجلس حيث ينتهى بها المجلس، لا ترفع صوتا بإعوال ولا تخفض صوتا بنحيب. لا تلطم وجهها ولا تخمش صدرها ولا تصنع صنيع أحد من النساء، وإنما تجلس ساكنة منعطفة على نفسها كأنها قطعة من صخرٍ سُوِّيَتْ على عجل ونُحِتَتْ فى غير نظام، وفاض من عينيها دمعٌ غزير غير منقطع كأنه بعض تلك الينابيع الضئيلة التى يتفجر عنها الصخر فى الجبال. حتى إذا بلغت حاجتها من البكاء فى هذه الدار تركتها إلى دار أخرى ثم إلى دار ثالثة. وما تزال كذلك حتى ينقضى النهار، لا تكلم أحدا ولا يكاد يكلمها أحد، ولا ترد على الذين يكلمونها رجع الحديث.
أكانت تبكى ابنيها أم كانت تبكى أبناء تلك الأسرة التى كانت تلم بها أم كانت تبكى صرعى الوباء جميعا أم كانت تبكى نفسها وابنتها بين الذين لم يصرعهم الوباء؟ وكيف كانت تعيش؟ وكيف كانت تتيح لابنتها الصبية أن تعيش؟ لم يستطع أحد أن يعرف من ذلك قليلا ولا كثيرا. لم يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هى أن تستعين بأحد، وإنما أنفقت أيام الوباء تتنسم ريح الموت حين يُسْفِر الصبح، وتسفح دموعها فى منازل الموت أثناء النهار، وتعود إلى بيتها وبنتها حين يُقْبِل الليل. وتنجلى غمرة الوباء، وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أياما وأياما فتستقبل بوجهها الغرب تتنسم ريح الموت فلا يحملها إليها النسيم، فترجع أدراجها وتدخل بيتها وتغلق من دونها الباب، ولا يراها النهار إلا حين تخرج مع الصبح لتتنسم ريح الموت!
ويراها أهل القرية ذات يوم قد خرجت قبل أن يرتفع الضُّحَى، وأخذت بيد ابنتها وجعلتا تسعيان فى بطء نحو الغرب، فيقول بعضهم لبعض: "هذه أم تمام قد ملَّت البطالة وسئمت السكون وشَقَّ عليها وعلى ابنتها الجوع، فخرجتا تلتمسان الرزق وتبتغيان من فضل الله". ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يأتى نفر من الفلاحين يحملون جثة قد شاع فيها الموت، وجثة أخرى تمتع على الموت امتناعا، قد رأَوْا أم تمام تغرق نفسها وابنتها فى القناة الإبراهيمية، فأسرعوا إلى استنقاذهما، ولكن الموت سبقهم إلى الشيخة وسبقوه هم إلى الصبية". وتصاب الفتاة من جَرّاء ذلك بالجنون ويراها الناس دائما مشردة تسعى فى الطرقات كأنها السلحفاة أو تعدو كأنها الأرنب ، أو جالسة إلى شط القناة تنظر إلى الماء أو تتطلع إلى المساء. وتظلّ فى حالها هذا يعطف عليها الناس مرة ويسخرون منها مرات... إلى أن فوجئوا ببطنها ذات يوم منتفخا، فعلموا أن أحد الذئاب البشرية قد استغل بلاهتها واعتدى على عِرْضها. ثم تفرّق الأيام بين الراوى وسعدى فلا يدرى ماذا حدث لها، إلى أن يعود الوباء كرة أخرى فيتذكر أم تمام وابنتها البلهاء، وإن ظل لا يعرف من أمر الفتاة شيئا" (ص 87- 101).
أرأيتَ إلى فن الكاتب العجيب فى وصف الأم وابنتها وسرد ما وقع لهما؟ ترى كيف استطاع طه حسين، وهو الكفيف، أن يصور أم تمام فى انحنائها ومشيها وتقريصها روث البهائم وتنسُّمها ريح الموت، وهو الذى لم أجد له فى هذا الكتاب من ألفاظ الألوان تقريبًا إلا الأبيض والأحمر: الأبيض والأحمر بإطلاق؟ وكيف استطاع أن يوحى لنا بفظاعة الفقد وجوّ الموت الذى لا يرحم، وأن يتدسَّس إلى قلب أم تمام الملتاع على ولديها ويصوّرها وقد كَظَمَتْ آلامها فلم تُعْوِل بالصياح ولم تلطم خَدًّا، بل اكتفت بالبكاء الصامت وانتظار شبح الموت الشنيع، حتى إذا استبطأته بعد طول انتظار أخذت زمام المبادرة فألقت بنفسها وابنتها فى الترعة التماسًا للراحة من العناء الذى يَؤُود الظهر والفؤاد، لتموت هى وتعيش الابنة، لكنها عيشةٌ الموتُ أفضل منها آلاف المرات! كيف يا إلهى استطاع طه حسين أن يفجر الدمع على هذا النحو فى جوامد العيون؟ إنه حديث الذكريات الذى يبرع كاتبنا فى تناوله بل فى استحيائه براعةً عجيبةً قَلَّ أن يباريه فيها نظير، وهو نفسه ما صنعه فى كتابه "الأيام"، وبخاصة فى وصفه موت أخته الصغيرة ذات الأعوام الأربعة التى كانت ريحانة الأسرة، وأخيه الذى كان قد قُبِل ذلك الصيف طالبًا فى مدرسة الطب وكان يساعد الأطباء فى معالجة المصابين من أهل قريته أثناء انتشار الكوليرا فى مصر فى بداية القرن العشرين، فالتقط العدوى من بعض المرضى وسرعان ما اغتاله الموت بعد أن برّحت به الآلام تبريحا فظيعا، مخلِّفا حسرةً فى قلب أمه إلى آخر حياتها، وهو وصف أبكانى عندما أعدت قراءة ذلك الكتاب فى الصيف قبل الماضى، وكأن الصبيّة والفتى ابناى أنا، وكأن موتهما لم يمرّ عليه سوى أيام معدودات(46)! وقد بلغ من قوة الأثر الذى خلّفه وصف الدكتور طه لموت أخويه أن زكى مبارك كتب فى أوائل الأربعينات يقول إنه فكر أن يرسل له برقية عزاء رغم مرور ما يقرب من أربعين عاما على وفاتهما(47).
الهوامش:
(1) الأيام/ ط 29/ دار المعارف/ 1981م/ 2/ 173.
(2) ط. دار المعارف/ سلسلة "اقرأ"/ العدد 118/ نوفمبر 1952م.
(3) الإسراء/ 12.
(4) الذاريات/ 26.
(5) الصف/ 14.
(6) نوح/ 13.
(7) الروم/ 2.
(8) البقرة/ 155.
(9) البقرة/ 19.
(10) البقرة/ 7.
(11) فصلت/ 5.
(12) محمد/ 24.
(14) يونس/ 78.
(15) الذاريات/ 24.
(16) الأعراف/ 57.
(17) الرعد/ 12.
(18) ق/ 22.
(19) انظر، فى رأى د. البدراوى زهران فى هذا الموضوع، كتابه "أسلوب طه حسين فى ضوء الدرس اللغوى الحديث"/ دار المعارف/ 1982م/ 81- 84.
(20) آل عمران/ 83.
(21) الأحزاب/ 11.
(22) الكهف/ 50.
(23) الزخرف/ 16.
(24) الجاثية/ 19.
(25) الأنعام/ 33.
(26) الأحزاب/ 18.
(27) القلم/ 25.
(28) النحل/ 101.
(29) آل عمران/ 164.
(30) الحِجْر/ 78.
(31) النساء/ 150
(32) الفرقان/ 67.
(33) النمل/ 22.
(34) البقرة/ 185.
(35) يوسف/25.
(36) النساء/ 61.
(37) النساء/ 164.
(38) الإسراء/ 70.
(39) مريم/ 76.
(40) الجاثية/ 32.
(41) الطور/ 9- 10.
(42) انظر محمود مهدى الإستانبولى/ طه حسين فى ميزان العلماء والأدباء/ المكتب الإسلامى/ بيروت ودمشق/ 1403هـ- 1983م/ 594- 595)
(43) المرجع السابق/ 632، نقلا عن كتاب الرافعى "تحت راية القرآن")
(44) السابق/ 592- 593، نقلا عن كتاب الرافعى "تحت راية القرآن".
(45) محمود مهدى الإستانبولى/ طه حسين فى ميزان الأدباء والعلماء/ 496، نقلا عن جريدة "المصرى" القاهرية فى 30 يناير 1953م. على أن ههنا كلمة تعقيب أحب أن أُدْلِىَ بها، فقد ذكر الأستاذ مراد أن طه حسين قال كلامه هذا فى مقدمة قصة "المعذبون فى الأرض"، على حين أن هذا الكلام لا يوجد فى هذا الموضع بل فى تضاعيف قصة "قاسم" فى الصفحة الثانية والعشرين من الطبعة التى بين يدىّ، كما أن الكتاب هو فى الواقع مجموعة من القصص القصيرة والمقالات، وليس قصة واحدة كما قال الأستاذ مراد أيضا.
(46) الأيام/ ط 63/ دار المعارف/ 1988م/ 1/ 118- 137، وهو الفصل الثامن عشر من الكتاب.
(47) كريمة زكى مبارك/ زكى مبارك ناقدا/ دار الشعب/ 1978م/ 65.