الأدب بين الانعزال والمجتمع---- سمير الأمير

------------------------------------
من المحزن فعلا أن يشعر المثقف أن أسئلة الماضى تظل مطروحة بنفس القوة فى حاضر الثقافة ومستقبلها ولا سيما عندنا هنا فى أرض النسيان التى ليست سوى أقاليم مصر المحروسة حيث تخرج القاهرة من تلك الهوة ولكنها للأسف تختار لنفسها هوة أخرى فرغم أنها تنفتح مباشرة على المقولات القادمة لتوها من مقاهى باريس فإنها تسقط فى هوة ما بعد الحداثة دون المرور بمرحلتى التنوير والحداثة ، وهنا يمكن الحديث عن عزلتين، العزلة الأولى عزلة الأقاليم التى ترواح مكانها بطرح الأسئلة التى قتلت بحثا من قبيل " الأصالة والمعاصرة " والتراث والتجديد والأدب والمجتمع والشعر العمودى والتفعيلى ثم قصيدة النثر وهل تنتمى للشعر أم لجنس أدبى بين القصة والقصيدة ناهيك عن قضايا كدور الأدب ووظيفته وإن كان ذلك لا ينفى أن بعض المبدعين يحفظون دريدا وبرنار ولا يعرفون شيئا عن عبد القاهر الجرجانى على الأقل لينفوا عن أنفسهم تهمة كونهم أدباء إقليميين

العزلة الثانية هى عزلة العاصمة التى ولت وجهها شطر كل غريب وجديد باعتباره موضة ينبغى مسايرتها فغرق كتابها فى موضوعات لا تغادر جلد مبدعيها فكان على المبدعين الحقيقيين من أدباء مصر فى الأقاليم الذين حاصرتهم غاغة المدعين وغياب الإعلام أن يهجروا المدن والقرى الصغيرة نحو ضوء " وسط البلد" الذى يجعل من البوصة عروسة ورغم أن ذلك كان موقفا هروبيا وسلبيا إلا أنه ساهم لحد بعيد فى ضخ بعض دماء الصدق فى عروق الجسد الابداعى لعاصمة مصر بقدر ما ولكن هذا القدر لم يستطع أن يعيد لعاصمة الفكر والثقافة بريقها الذى كان مبهرا فى الأربعينيات والخمسينيات والذى خبى بعد صعود ثقافة البترودولار كرد فعل طبيعى لهزيمة مشروع الوحدة والاستقلال والارتماء فى أحضان الأعداء التاريخيين لأمتنا العربية.

من هنا يمكن الحديث عن مفهومين مختلفين هما العزلة والانعزال ، الأول فرضته الظروف العامة وسيطرة روح التجارة وانزواء الزراعة والصناعة ثم جاءت العولمة بسلبياتها لتعزل المبدعين الوطنيين باعتبارهم ينتمون لمشروع تمت هزيمته
والمفهوم الثانى هو مفهوم " الانعزال" وهو يعبر عن قرار للمبدع بهجران قبيلته أو جيله واعتبار نفسه مختلفا عن بقية الخلق وعاجزا أو غير راغب فى الانخراط فى مشاكلهم وقضاياهم وغالبا ما ترى ذلك النوع من الشعراء يسعون لعزلتهم الخاصة بغض النظر عن موقف الناس منهم فهم غير مشغولين الا بأنفسهم وهذا النوع على ندرته يتمتع بثقافة رفيعة وقدرة ابداعية هائلة ، لكنهم أيضا يعيشون فى عتمة الكآبة وينظر لعدم تكيفهم واندماجهم على أنه مرض نفسى.

هناك بالطبع نوع " ثالث" يمكن تسميتهم " مدعى الانعزال" ، يموتون لا يابهون لقضية ولا يساهمون فى نشاط ، يريدون أن يسعى لهم الناس دون أدنى جهد من جانبهم ، غاضبون من المؤسسة ومن الناس تقطر أشعارهم حزنا ولا تفتح أدنى طاقة فى الجدران السوداء التى تقيمها




أعتقد أن الحديث عن علاقة الأدباء والمبدعين بالمجتمع أولى بالاهتمام من علاقة " النصوص" بالمجتمع ، أو دراسة الأبعاد الاجتماعية للرؤى ولينابيع الابداع التى أطلقت تلك النصوص، وقد كررت فى غير ندوة وفى غير مقال أن كل النصوص لا قيمة لها مالم تثبت علاقتها بالنص العام للحياة على هذا الكوكب ، ثم النص العام للحياة فى هذا الوطن ، من هنا فقط يمكن أن نميز بين كتّاب وكتبة وبين مبدعين ومزيفين وبين صادقين وكذّبه،

كيف يمكن إذن أن يكون "فؤاد حداد" شاعرا و"مخيمرشلبى" شاعرا، والأخير طبعا لا وجود له كشخص ولكنه موزع بين كثيرين يثيرون الضجيج ويصدعوننا بقصائد تشبه الشعر فى سمته الخارجى لكنها لا تلمس للقصيدة جوهرا ولا تشعل فى السامع قلقا .. قصائد تشبه القصائد تتحدث عن الوطن والفقراء بينما هى مزيفة وكاذبة ، فمفبركها تأثر بالغاغة حتى طن مع الطانين فثار ثوريا بينما لم نشهد له فى كل حياته موقفا منحازا لقيمة نبيلة فى عمله أو فى شارعه الذى يسكن فيه، وقصائد عشق تشبه القصائد تعيد على مسامعنا ما حفظناه حتى صار دارجا ومبتذلا


علي سبيل التوصية


بين قسوة الحياة و هواية/غواية الكتابة يسعى المبدعون الشباب للتواصل مع جمهور شغلته ظروف الحياة وإيقاعها المتسارع عن الاهتمام بالأدب، لكنهم مع كل ذلك يصنعون من إبداعاتهم بديلا للإحباط الذى يدفع كثيرا من شبابنا إلى الجلوس على المقاهى اصطيادا لبهجة مؤقتة أو لنكتة تنتقم لهم من أشخاص يرون أنهم تسببوا فى ضياع مستقبلهم، من هنا وجب على جرائدنا ومجلاتنا الثقافية والأدبية أن تحترم نبلهم وصدق إبداعاتهم وأن تسعى لتغيير الفكرة الشائعة بأنِ العلاقات الشخصية هى السبيل إلى الشهرة، فتفتح أحضانها لاستقبال نزف وجدانهم مدام حقيقيا و أصيلاً، وإذ تفعل ذلك فإن تلك الجرائد والمجلات- فى تقديرى- تحقق لهم ليس فقط مجرد النشر ولكن أيضا التواصل مع جمهور عريض سوف يثق عندئذ فى أن تلك الصحف والمجلات لا تقدم له إلا كل ما هو جيد وأصيل ومن ثم فإنى أتمنى على الأصدقاء محررى الصفحات الأدبية فى صحفنا أن يكون معيارا النشر هما الجدة والأصالة، بغض النظر عن شهرة الأسماء، لأن بعض الشباب قد احترفوا النشر فى صفحات الأدب وصارت أسماؤهم لامعة على الرغم من أنه لا يعلق بالذاكرة أى شىء مما يكتبون، أى أن أسماءهم أصبحت أشهر من إبداعاتهم ، بينما بقى مبدعون وكتاب حقيقيون خارج دائرة الاهتمام، فهل نطمع فى أن تنأى إصدارات وزارة الثقافة بنفسها عن الاستسلام لهذا التقسيم البغيض الذى يصنف الكتاب المصريين إلى أدباء أقاليم و أدباء عاصمة؟ وهل يصبح من الضرورى فى هذا السياق أن أناشد المشرفين على تحرير الصفحات الأدبية ألا ينشروا- بجانب أسماء هؤلاء المبدعين – أسماء المحافظات والقرى، ليس تقليلاً من شأن الأقاليم ولكن تعميما لرؤيتنا للإبداع وللمبدعين فى مصر كلها، بمدنها وقراها واحتفاء بالمبدع مهما كان مغمورا بنشر اسمه فقط إلى جانب عمله، كما تفعل الصحف والمجلات مع الكتاب المشهورين بالفعل،