الشاعر العباسى صالح بن عبد القدوس: فنه واتهامه بالزندقة
بقلم إبراهيم عوض

من شعراء مخضرمى الدولتين: الأموية والعباسية. عاش فى ظل الأخيرة نحو ثلاثين عاما، ولا ندرى كم من الأعوام قضاها تحت حكم الأولى لأننا لا نعرف متى ولد. وليس بين أيدينا شعر كثير له، وإن لم يكن فى ذات الوقت شحيحا. ويدور معظم ذلك الشعر على الحِكَم والأمثال والمواعظ والتوجيهات الأخلاقية والدينية والتأملات فى الحياة وأحوال البشر. وكان قد اشتغل بالقَصّ فى مسجد البصرة فترة من الزمن، وانتهت نهاية مأساوية، إذ أعدمه الخليفة العباسى المهدى أو هارون الرشيد على اختلاف فى الروايات، جراء زندقته كما قيل، أى بسبب إبطانه الكفر وتظاهره بالإسلام. ومن أشعاره:
رَأَيتُ صغيرَ الأمرِ تَنْمِي شُؤُونُه فَيَكْبَرُ حَتّى لا يُحَدّ وَيَعْظُمُ
وَإِنّ عَناءً أَن تُفَهِّم جاهِلًا فَيَحْسَب جَهْلا أَنَّهُ مِنكَ أَفْهَمُ
متى يَبْلُغُ البُنْيانُ يَومًا تَمامَه اِذا كُنْتَ تَبْنِيهِ وَغَيْرُك يَهْدِمُ؟
متى يفْضل المُثْرِي اِذا ظَنَّ أنَّهُ إذا جادَ بِالشيءِ القَليلِ سَيُعْدِمُ؟
متى يَنْتَهِي عن سَيِّءٍ مَنْ أتى بِهِ إذا لم يَكُن منه عَلَيْهِ تَندُّمُ؟
وما الرزقُ إِلّا قِسمَةٌ بَين أهلِه فَلا يَعْدَم الأَرزاقَ مُثْرٍ وَمُعْدِمُ
ولن يستطيع الدَّهْرَ تغييرَ خُلْقِه لئيمٌ، ولن يستطيعه مُتَكَرِّمُ
كما أن ماءَ المزن، ما ذِيقَ، سائِغٌ زلالٌ، وماء البَحْرِ يَلْفِظُه الفَمُ
ومنها:
الدار جَنَّةُ عَدْنٍ إِنْ عَمِلْتَ بِما يُرْضِي الإِلهَ، وَإِن فَرَّطْتَ فالنارُ
هما محلَّان ما لِلنَّاسِ غَيْرُهما فَانْظُر لِنَفْسِكَ ماذا أنتَ مُخْتارُ
ومنها:
اللهَ أحمدُ شاكِرًا فَبَلاؤُهُ حسنٌ جميل
أصبحتُ مستورًا مُعَا فًى بَيْن أَنْعُمِه أَجُول
خِلْوًا من الأحزانِ خِفْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفَ الظَّهْرِ يُقْنِعُني القَليل
حُرًّا فلا ضِمْنٌ لِمَخْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلو قٍ عَلَيَّ وَلا سَبِيل
سِيَّانِ عِندي ذو الغِنَى الــــــــــــــــــــــــــــمِتْلافُ وَالمُثْرِي البَخِيل
وَنَفَيْتُ بِالْياسِ المُنَى عَنِّي، فَطابَ لِيَ القَليل
وَالناسُ كُلُّهُمو لِمَنْ خَفَّتْ مَؤُونَتُه خَلِيل
ومنها:
اِذا ما خَلَوْتَ الدهرَ يومًا فَلا تَقُلْ: خَلَوْتُ، وَلكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقيبُ
فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ ساعَةً ولا أن ما يُخْفَى عليه يغيبُ
ومنها فى القضاء والقدر والمسؤولية الأخلاقية:
لَم تَخْلُ أَفعالُنا اللاتي نُذَمّ بها إِحدى ثلاث خِصالٍ في مَعَانيها:
إِما تَفَرُّد مَوْلانا بصنعتها فاللومُ يَسْقُط عَنّا حينَ نأتيها
أو كانَ يَشْرَكُنا فَاللَّوْمُ يَلْحَقُه إِن كانَ يَلْحَقُنا من لائِمٍ فيها
أَوْ لَمْ يَكُنْ لِإِلهي في جِنَايَتِها صُنْعٌ فَمَا الصُّنْعُ إِلا ذَنْبُ جانيها
وقد سارت بعض أبياته مسرى الأمثال كقوله فى المرائى الخؤون:
مَتَى يَبْلُغُ البُنْيانُ يَوْمًا تَمامَه اِذا كُنْتَ تَبْنيهِ، وَغَيْرُكَ يَهْدِمُ؟
وقوله:
اِذا لَمْ تَستَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ وَجاوِزْه إلى ما تَسْتَطِيع
وقوله:
إذا وَتَرْتَ امرءًا فَاحْذَرْ عَداوَتهُ مَنْ يَزْرَعِ الشَّوْكَ لا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبا
وقوله:
والشيخُ لا يَتْرُك أخلاقَهُ حَتّى يُوَارَى في ثَرَى رَمْسِهِ
وقوله:
ليسَ مَنْ ماتَ فَاسْتَراحَ بِمَيْتٍ إِنَّما المَيْتُ ميِّت الأحياءِ
إِنَّما المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئيبًا كاسِفًا بالُه قَليلَ الرَّجاءِ
وقوله:
يُعْطِيكَ مِن طَرَفِ اللِّسانِ حَلاوَةً وَيَرُوغُ مِنكَ كَما يَرُوغُ الثَّعْلَبُ
ولكن ليس كل ما قاله ابن عبد القدوس حكيما معقولا مقبولا. فعلى سبيل المثال يسير رأيه فى الرزق على النحو التالى:
لا تَحْرِصَنْ، فالحرص ليس بِزائِدٍ في الرزقِ بَل يُشْقِى الحريصَ ويُتْعِبُ
وَيظل ملهوفًا يروح تحيُّلًا والرزقُ ليس بِحيلَةٍ يُسْتَجْلَبُ
كَم عاجِزٍ في الناسِ يأتي رزقُه رَغَدًا، وَيُحْرَم كَيِّسٌ وَيُخَيَّبُ
ولا مشاحة فى أن للحظ دورا فى الرزق لا ينكر، وأن الغنى قد يكون من نصيب من لم يسع وراءه، كما أن الفقر والحرمان قد يصيبان المجتهد الناشط وراء الكسب. إلا أن هذه ليست القاعدة، بل القاعدة أن النشاط مظنة الكسب، والكسل والتبلد مظنة الفقر والحاجة. ولو جرى الناس على نصيحة ابن عبد القدوس ما كان عملٌ ولا إنتاجٌ ولا إبداعٌ ولعاشت البشرية كلها فى فقر مدقع، بل لمات أفرادها جميعا من الجوع والعطش والعرى ما داموا لا يبذلون جهدا ولا يؤدون عملا، اقتناعا منهم بتلك العقيدة الخطلاء. كما أن الحرص ليس شيئا معيبا، بل صفة إيجابية مطلوبة حسنة، اللهم إلا إذا زاد الحرص عن حده المعقول واستحال قلقا يفرى الأعصاب ويحرم صاحبه النوم وراحة البال. الحرص مطلوب، لكن الإيمان بالله مطلوب إلى جانبه بحيث لا يبخع الحريصُ نفسَه هما وغما أو انتحارا إذا لم تسر الأمور على النهج الذى خطه بالسَّنْتِى والمِلِّى مما لا تعرفه الحياة ولا تمضى على أساسه.
وعلى كل حال ها هو ذا صالح بن عبد القدوس يقول شيئا مختلفا عن الرزق فى البيتين التاليين. إنه يأمر بالحركة والنشاط وهجرة الأماكن الضيقة الرزق إلى أخرى أوسع رزقا وأفسح مذهبا. ولو اتبع مذهبه لبقى حيث هو مهما شَحَّ الرزق وضاق الفضاء وحاصر الفقر الإنسان من كل ناحية. على أنه لا ينبغى أن تكون نظرة الإنسان من الضيق بحيث لا يرى سوى وضعه الفردى، إذ هناك الرزق العام الذى تُرْزَقه الأمة، وهو محصّلة عمل أفرادها جميعا. ومن ثم لا يصح أن يتقاعس الإنسان بحجة أنه قانع بالقليل، وإلا افتقرت الأمة وذلت ومدت يديها بالشحاتة واعتراها الضعف والهوان:
وَاِذا رَأَيْتَ الرزقَ عَزَّ بِبَلْدَةٍ وَخَشِيتَ فيها أَنْ يَضِيقَ المذهبُ
فَارْحَل، فَأَرْضُ اللهِ واسِعَةُ الفَضَا طُولاً وَعَرْضًا: شَرْقُها وَالمَغْرِبُ
ومما يحتاج من نصائح ابن عبد القدوس إلى إعادة نظر أيضا قوله عن النساء:
وَتَوَقَّ من غَدْرِ النِساءِ خِيانَةً فَجَميعُهُنَّ مَكايدٌ لَكَ تُنْصَبُ
لا تَأْمَنِ الأُنْثَى حياتَك. إِنَّها كَالأُفْعُوانِ تُرَاع مِنهُ الأَنْيُبُ
لا تأمن الأُنثى زمانَك كلَّه يَوْمًا. وَلَوْ حَلَفَتْ يَمِينًا تَكْذِبُ
تُغْرِي بِلين حَدِيثِها وَكلامِها وَاِذا سَطَتْ فَهْيَ الصَّقِيلُ الأَشْطَبُ
فليس كل النساء هكذا، بل المنحرفات منهن فحسب. والأغلبية الساحقة تريد أن تعيش فى كنف زوج تحبه ويحبها، وحولهما أولاد وبنات يرعيانهم ويفيضان عليهم من عطفهم وحنانهم واهتمامهم. صحيح أن النساء يبدون فى بعض الأحيان عنيداتٍ مولعاتٍ بالمخالفة والجدال، لكن السبب فى ذلك هو اختلاف عقليات الرجال والنساء. وكما أننا نحن الرجال نضيق بما نراه عنادا وميلا إلى المشاكسة فهن أيضا يَرَيْنَنا جبابرة مستبدين ذوى عقول عصية لا تلين.
أما الغدر فهو عيب بشرى لا يختص بالنساء ولا بالرجال. وليس وجود هذا التصور عند بعض المسلمين والعرب بدعا بين الأمم والشعوب، فالأوربيون كلما رَأَوْا مصيبة أو جريمة قالوا: فَتِّشْ عن المرأة. وإذا سرد الرجال شواهد على غدر النساء فمن السهل جدا عليهن الاستشهاد الكثير الغزير على غدر الرجال بما يشاهدنه حولهن، بل بما خبرن أثره فى حياتهن من أقرب الرجال إليهن بما فى ذلك الأخ والقرين. وكم من رجل ضحك على زوجته وأكل ثروتها أكلا غير هنىء ولا مرىء، وصير حياتها جحيما. صحيح أن الرسول قد حذر من فتنة النساء، لكنى أفهم هذا التحذير على أن المراد منه التنبيه إلى عُرَام شهوة الجنس ذاتها، وليست المرأة مسؤولة عن هذه الشهوة، بل جعلها الله سببا فى إثارتها فطرةً فيها لا تنفك عنها. وقد انتهج الرسول عليه السلام فى التعبير عن ذلك المعنى نهجا مجازيا، إذ النساء أداة تلك الاستثارة: خلقهن الله على ذلك الوضع، ولا يستطعن عنه حِوَلًا. وهذا الوضع مقصود قصدًا كى ينجذب الرجال إلى النساء ويتم الزواج ويكون الولد، فتستمر الحياة. وفى أثناء ذلك كله تحصل اللذة والبهجة والسعادة.
ومع ما قلناه فإن فى شعر ابن عبد القدوس بعض الجديد. إنه مثلا يبدأ قصيدته بمقدمة النسيب ككثير من الشعراء القدامى، إلا أنه يجعل منها تمهيدا للشكوى من الزمن وإرسال التأوهات حسرةً على أوضاعه المؤلمة:
صَرَمَتْ حبالَك بَعْد وَصْلِكَ زينبُ وَالدَّهرُ فيهِ تَغَيُّرٌ وَتَقَلُّبُ
نَشَرَتْ ذَوائِبَها التي تزهو بِها سُودًا، ورأسُك كَالثَّغَامَة أشْيَبُ
وَاستَنْفَرتْ لما رَأَتْك، وطالما كانَتْ تَحِنُّ إِلى لِقاكَ وَتَرْغَبُ
وَكَذاكَ وَصْل الغانِياتِ، فَإِنَّهُ آلٌ بِبلقَعَةٍ وَبَرْقٌ خُلَّبُ
فَدَعِ الصِّبا، فَلَقَد عَدَاك زَمانُهُ وَازْهَدْ، فَعُمْرُك مَرَّ مِنْهُ الأطيبُ
ذهب الشبابُ، فما لَهُ مِن عَوْدَة وَأَتَى المَشِيبُ، فَأَيْنَ مِنهُ المَهْرَبُ؟
دَعْ عَنْكَ ما قد كان في زمن الصِّبَا وَاذْكُرْ ذُنوبَكَ، وَابْكِها يا مُذْنِبُ
وَاذْكُر مُناقَشَةَ الحسابِ، فَإِنَّهُ لا بُدَّ يُحْصَى ما جَنَيْتَ وَيُكْتَبُ
لَم يَنْسَه الملَكان حينَ نَسِيتَه بل أَثْبَتاه، وَأَنتَ لاهٍ تَلْعَبُ
وَالرُّوحُ فيكَ وَديعَةٌ أُودِعْتَها ستردُّها بالرغم مِنْكَ وَتُسْلَبُ
وغرور دُنياكَ الَّتي تَسْعَى لَها دارٌ حَقيقَتُها متاعٌ يَذْهَبُ
كما نراه يتخذ من المقدمة السهدية التى يرعى فيها الشاعر النجوم بابا يلج منه إلى ذات الشكوى:
تَأَوَّبَني هَمٌّ، فَبِتُّ أُخَاطِبُهْ وَبِتُّ أُرَاعِي النجمَ ثُمَّ أُراقِبُهْ
لِمَا رابَنِي من رَيْبِ دَهْرٍ أَضَرَّني فَأَنْيابُه يَبْرِينَني وَمَخالِبُهْ
وَأَسْهَرَني طولُ التَّفَكُّر. إِنَّني عَجِبْتُ لِدَهْرٍ ما تَقَضَّى عَجائِبُهْ
وقد لفت انتباهى فى شعره أيضا جَرْيُه مرة على لغة "أكلونى البراغيث" فى قوله: "يُرْزَقون الناسُ" بدلا من "يُرْزَق الناس" فى البيت التالى:
لو يُرْزَقُونَ الناسُ حَسْبَ عُقولِهِم أَلْفَيْتَ أَكْثَرَ من تَرَى يَتَصَدَّقُ
كما استخدم مرةً أيضا فعلا مضارعا بعد "إذا" على خلاف الشائع حتى إن القرآن، رغم استعماله "إذا" مئات المرات، لم يستخدم هذا التركيب إلا على قلة قليلة، وغالبها مع فعل يدل على "التلاوة". قال صالح:
إنّ التَّرَفُّقَ لِلمُقِيمِ موافقٌ وإذا يُسَافِرُ فَالتَّرَفُّقُ أَوْفَقُ
كذلك يكثر فى شعره استعمال "إنَّ" فى أول الأشطار، وهى سمة مناسبة لطبيعة شعره الوعظى النصحى، إذ الواعظ يحتاج إلى تأكيد نصائحه كى يدفع مستمعيه وقراءه إلى الانصياع إلى التقويم والتوجيه. وبالمثل يكثر لديه توكيد أفعال الأمر والنهى بنون التوكيد، والسبب فى ذلك هو السبب فى كثرة استعمال "إن". ونجد لديه ايضا اللجوء أحيانا إلى الاعتراض بعبارات النصح والدعاء، مثل "هُدِيتَ، فاعْلَمْ"، إقامةً للوزن. ويبرز بين نصائحه تحسين الصمت والتنفير من الكلام. وهو يقتبس أحيانا تعبيرات القرآن، مثل"سَمَكَ السماءَ"، "أرض الله واسعة"، "بعض الظن إثم"، "فلا تحسبنَّ الله يغفل...". وتتكرر عنده كلمة "الدهرَ" ظرفا منصوبا للدلالة على التأبيد مما يستخدم غيره لها كلمة "أبدا".
والملاحظ أن كثيرا مما وصلنا من شعره عبارة عن مقطوعات أو نتف أو بيت أو بيتين. والقصائد منه ليست بالطويلة، اللهم حاشا اثنتين تقريبا طولهما رغم هذا نسبى. وقد مدح هذا الشعرَ عددٌ من النقاد القدماء كابن المعتز مثلا فى كتابه: "طبقات الشعراء". كما يكثر استقاء الشواهد منه فى كتب الأدب والنقد والبلاغة وغيرها مع إبداء الإعجاب به فى بعض الأحيان صراحةً. وتجد بعضا من أشعاره فى كتب "الحماسة" وأمثالها من كتب المنتقيات الجياد من الشعر. وفى "حماسة" البحترى نجد له أكثر من ثلاثين شاهدا.
وللأصمعى رأى فى إكثار صالح من الأمثال والحكم فى قصائده حتى لتصير فى غالبيتها الساحقة أمثالا صافية من أولها إلى آخرها. وقد أورد الجاحظ فى "البيان والتبيين" هذا الرأى للأصمعى فى سياق كلامه عن الشعراء الذين يعملون بكل طاقتهم على صقل أشعارهم تماما ويسرفون فى ذلك أشد الإسراف حتى ليبدو عليها التعمل المملّ: "لو أنّ شِعرَ صالح بنِ عبد القُدُّوس وسابقٍ البربريّ كان مفرّقًا في أشعار كثيرة لصارت تلك الأشعارُ أرفَعَ ممّا هي عليه بطبقاتٍ، ولصار شعرهُما نوادِرَ سائرةً في الآفاق. ولكنَّ القصيدة إذا كانت كلُّها أمثالاً لم تَسِرْ، ولم تَجرِ مَجرى النَّوادر. ومتى لم يخرج السّامعُ من شيء إلى شيء لم يكن لذلك عنده موقع". وبالمناسبة فكل من استشهد من المحدثين بهذا الكلام الذى نقلناه من "البيان والتبيين"، كالدكتور شوقى ضيف ود. عمر فروخ مثلا، قد سها فعزاه إلى الجاحظ بوصفه قائله، وليس إلى الأصمعى.
وقال الآمدى فى "الوساطة بين أبى تمام والبحترى": "إن الشاعر قد يعاب أشد العيب إذا قصد بالصنعة سائر شعره، وبالإبداع جميع فنونه. فإن مجاهدة الطبع ومغالبة القريحة مُخْرِجَةٌ سهلَ التأليف إلى سوء التكلف وشدة التعمل كما عِيبَ صالح بن عبد القدوس وغيره ممن سلك هذه الطريقة حتى سقط شعره، لأن لكل شيء حدا إذا تجاوزتَه سمي: مفرطا. وما وقع الإفراط في شيء إلا شانه، وأعاد إلى الفساد صحته، وإلى القبح حسنه وبهاءه".
ويقول كاتب المادة الخاصة بابن عبد القدوس فى "الموسوعة العربية" السورية: "يُعَدّ شعر الوعظ والحكم والأمثال الذي قاله صالح بن عبد القدوس في أعلى درجات الشعر الذي قيل في هذا الغرض، لكن النقّاد الذين امتدحوه لبراعته في هذه الأغراض رَأَوْا أنه مقصِّر في أغراض الشعر الأخرى، والشاعر لا يسير شعره في الآفاق، ولايجري مجرى النوادر، إلا إذا قال شعرا في أغراض مختلفة. قال الجاحظ: "لو أن شعر صالح بن عبد القدوس وسابق البربري كان مفرقًا في أشعار كثيرة لصارت تلك الأشعار أرفع مما هي عليه بطبقات، ولصار شعرهما نوادر سائرة في الآفاق. ولكن القصيدة إذا كانت كلها أمثالاً لم تَسِرْ ولم تَجْرِ مجرى النوادر. ومتى لم يخرج السامع من شيء إلى شيء لم يكن لذلك عنده موقع".
ومن هنا لم يكن رأى د. شوقى ضيف طيبا فى شعر صالح، فقد كتب فى آخر ترجمته له فى كتابه: "العصر العباسى الأول": "وعلى هذه الشاكلة تجرى أشعاره فى صورة تقريرية خالية من العاطفة، وقلما شُفِعَتْ بخيال أو تصوير. ولعل ذلك ما جعل شعره يسقط من أيدى الأجيال التالية إلا قليلا". وبعد أن عضد الأستاذ الدكتور حكمه على شعر الشاعر بما نقله الجاحظ فى "البيان والتبيين"، وبعد أن أورد بعض ما احتفظت به كتب الأدب من أبيات حكمية سائرة لابن عبد القدوس، عاد إلى الحكم على شعره فقال: "وواضح، فيما أنشدناه من أشعاره، أنه كان يُعْنَى باللفظ الجزل الرصين والبناء القوى المحكم، كما كان يُعْنَى بالتدليل والتعليل ودقة القياس".
وأما عن حكمى أنا فإنى أذهب مذهبا وسطا فى شعر ابن عبد القدوس، فليست أمثاله وحكمه شعرا عقليا باردا ونظما متخشبا، لكنها فى ذات الوقت ليست من روائع الأدب إلا فى القليل. فالحق أنها لا تخلو من الدفء فى غير قليل من الأحيان، لكنها تفتقر إلى الحرارة التى تلفحنا من شعر المتنبى مثلا. ومبعث الدفء فيها ما يوشى به شعره من صور بيانية ومطابقات، وحرصُه عادة على إحكام التعبير وصب ما يقول فى موازنات تضفى على الكلام تناظرا واتساقا وعلى نفض شعوره بالحيرة والاضطراب أمام مفارقات الحياة كما هو الحال مثلا فى الأبيات التالية:
تَأَوَّبَني هَمٌّ فبِتُّ أخاطبُهْ وبِتُّ أراعي النجم ثم أراقبُهْ
لما رابني من ريبِ دهرٍ أضرَّني فأنيابه يَبْرِينَني ومخالبُهْ
وأسهرني طولُ التفكر. إنني عجبتُ لدهرٍ ما تَقَضَّي عجائبُهْ
أرى عاجزا يُدْعَى: "جَلِيدًا" لغُشْمه ولو كُلِّف التقوى لفُلَّتْ مضاربُهْ
وعَفًّا يسمَّى: "عاجزًا" لعَفَافه ولو لا التُّقَى ما أعجزته مذاهبُهْ
وأحمق مصنوعا له في أموره يُسَوِّده إخوانُه وأقاربُهْ
على غير حزمٍ في الأمور ولا تُقًى ولا نائلٍ جَزْلٍ تُعَدّ مواهبُهْ
وليس بعَجْزِ المرء إخطاؤه الغنى ولا باحتيالٍ أدرك المالَ كاسبُهْ
ولكنه قَبْضُ الإله وبَسْطُهُ فلا ذا يجاريه ولا ذا يغالبُهْ
إذا كَمَّل الرحمنُ للمرء عَقْلَهُ فقد كملتْ أخلاقُه ومناقِبُهْ
على أن قصيدته فى السجن، إذا صحت أنها له وليست لأحد من ولده كما قال المعرى فى "رسالة الغفران"، هى من أبرع ما نُظِم. ومثلها قصيدته اللامية، التى يقارن فيها بين شبابه وشيخوخته، ويتعرض فيها لوصف الجميلات الفاتنات متوقفا لدى بعض ملامحهن الجسدية التى تدفق الشهوة فى العروق. بل إن أبياته فى مدى مسؤولية الشخص عن أفعاله وصلة ذلك بالقضاء والقدر هى أبيات قوية رغم أنها إنما تدور على قضية عقلية محضة. ذلك أن ما وراء الأبيات من حيرة لاعجة ومعالجتها لقضية إنسانية شائكة لم ولن يتوقف بحث الإنسان لها على مر الأجيال قد زوَّدها بحرارة من نوع خاص، حرارة لا تحس فى ظاهر الأمر، لكنها موجودة بقوة رغم ذلك. ولا ينبغى المسارعة إلى اتهام الشاعر بالزندقة، فهو يقر طول الوقت، خلال تقليبه الأمر على وجوهه المختلفة، بوجود الإله، بل يملأ هذا الوجود عليه عقله وضميره مسميا إياه: "مولانا" و"إلهى"، وهما تسميتان تعبقان بحميمية محببة. كل ما فى الأمر أنه حيران يريد أن يعرف أين تبدأ مسؤوليته عن أفعاله، وأين تنتهى، فهو يقلب الأمر على كل الوجوه مرتبا على كل وجه النتيجة التى تلزم عنه:
لَم تَخْلُ أَفعالُنا اللاتي نُذَمّ بِها إِحدى ثلاث خِصالٍ في مَعَانيها:
إِما تَفَرُّد مَوْلانا بصنعتها فاللومُ يَسْقُط عَنّا حينَ نأتيها
أو كانَ يَشْرَكُنا فَاللَّوْمُ يَلْحَقُه إِن كانَ يَلْحَقُنا من لائِمٍ فيها
أَوْ لَمْ يَكُنْ لِإِلهي في جِنَايَتِها صُنْعٌ فَمَا الصُّنْعُ إِلا ذَنْبُ جانيها
لكن الحق يلزمنا أن نقول إن ابن عبد القدوس لا يوفق دائما على هذا النحو، بل قد يسرد الأمثال سردا يفتقر إلى الدفء. أما ما ذكره د. شوقى ضيف من أنه "كان يُعْنَى باللفظ الجزل الرصين والبناء القوى المحكم، كما كان يُعْنَى بالتدليل والتعليل ودقة القياس" فلا أوافق عليه تماما، ففى أشعاره أحيانا تهافت وتفكك. كما أن أقيسته ليست دقيقة من ناحية المنطق، وإن ساغت كأقيسة شعرية تحرك الخيال لكنها لا تقنع العقل. فمثلا فى قوله:
لا تَجُدْ بِالعَطاءِ في غير حَقٍّ لَيْسَ في مَنْع غَيْرِ ذي الحَقِّ بُخْلُ
إنَّما الجودُ أن تَجودُ عَلى مَنْ هُوَ لِلجُودِ مِنكَ وَالبَذْلِ أهلُ
إِنْ يَكُن ما بِهِ أُصِبْتَ جليلًا فذهاب العَزاءِ مِنهُ أَجَلُّ
كُل آتٍ لا شَكَّ آتٍ، وذو الجَهْل مُعَنًّى، وَالغَمُّ وَالحُزْنُ فَضْلُ
نجد أن الانتقال من الكلام عن الجود ووضعه فى موضعه إلى ما يقع بالإنسان من بلايا ومصائب انتقال غير مبرر، إذ لا صلة بين الأمرين. كما أن حشر "الجهل" فى هذا السياق غير مفهوم، فضلا عن أن التعبير عن عدم جدوى الحزن بعد الإصابة بالبلوى بأنه "فضل" هو تعبير غير دقيق. ثم إن عبارة "كل آتٍ لا شك آتٍ" هو بمنزلة "الأرض أرض، والسماء سماء". ومثله قوله:
إِنّ الأَرِيبَ إذا تفكَّر لم يَكَدْ يَخْفَى عليه من الأمورِ الأَوْفَقُ
كما أن قوله:
وَلَنْ يَهْلِك الإنسانُ إلا إذا أتى مِنَ الأَمْرِ ما لَمْ يَرْضَهُ نُصَحَاؤُهُ
غير موفق، وإلا كان على كل إنسان ألا يصغى إلى صوت عقله وضميره هو بل إلى عقول الآخرين وآرائهم دائما أبدا. ومن يقول ذلك؟ أجل على الإنسان المشاورة والاستنصاح، لكن ليس معنى هذا أن يأخذ بما يقال له ضربة لازب، وإلا كان مخطئا ضالا. فكثيرا ما يكون رأى الشخص هو أفضل الآراء لأنه يعرف من ظروف نفسه وأسرار أوضاعه ما يجهله الآخرون أو لا يستطيعون تقديره التقدير الصحيح، ويفهم مصلحته أحسن مما يفهمونها.
وفى قوله:
وَاعْمَلْ بِطاعَتِهِ تَنَلْ مِنهُ الرِّضَا إِن المُطِيعَ لَهُ لَدَيْهِ مُقرَّبُ
وَاقْنَعْ، ففي بعضِ القَنَاعَةِ راحةٌ وَاليَأس مِمّا فاتَ فَهْوَ المَطْلَبُ
ركاكة تتمثل فى تعاقب "له لديه" هذه التى تحتاج إلى فض اشتباك حتى يفهم القارئ ما يريده الشاعر، وكذلك فى استجلاب الفاء بين المبتدإ: "اليأس" وضمير الفصل: "هو المطلب" رغم أنه لا يوجد فى الجملة شرط ولا شبهته. أما إذا قلنا إن "اليأس" مُغْرًى به منصوب فمعنى هذا أنه معطوف على جملة "واقنع"، وهو عطف غريب رغم صحته نحويا، إذ يعطف فعل أمر على أسلوب إغراء مما يفتقر إلى الاتساق. كما جانب التوفيقُ التعبيرىُّ الشاعرَ فى قوله:
لا تَحْرِصَنْ، فَالحِرْصُ لَيْسَ بِزَائِدٍ في الرِّزْقِ بَل يَشْقَى الحَرِيصُ وَيَتْعَبُ
ويظلّ ملهوفًا يَرُوحُ تَحَيُّلًا والرِّزْقُ لَيْسَ بِحِيلَةٍ يُسْتَجْلَبُ
إذ استعمل المصدر: "تَحَيُّلًا" بدلا من الحال: "مُتَحِيِّلًا" مما لا أجد له مساغا فى حلقى، وإن كان له وجه من النحو. ومثل هذه الركاكة قوله فى التحذير من المرأة ومن حلفها الكاذب:
لا تَأْمَنِ الأنثى زمانَك كلَّه يَوْمًا، ولو حَلَفَتْ يَمِينًا تَكْذِبُ
ذلك أن "لو" إنما تستخدم فى الأمور المستبعدة النادرة، وحَلِفُ المرأة ليس من هذه الأمور، إذ هى (والرجل أيضا) يحلفان فى اليوم مرات ومرات، وفوق ذلك يكذبان. ليس ذلك فقط، بل إن عبارة"حلفت يمينا" تزيد الأمر ندرة، إذ المعنى: "لو أنها حلفت يمينا واحدة..."، وكأنها لا تحلف أصلا، ولو حلفت لكان أقصى ما ينتظر منها حلف يمين واحد ليس إلا. والأَوْلَى إذن أن يقال: "حين تحلف" مثلا. ثم هناك مطلق "الأنثى"، بما يعنى الصغيرة والكبيرة، والزوجة والعشيقة والأم والجدة والخالة والعمة... إلخ. فهل كل هؤلاء خوانات غدارات كذابات، ولا يرعوين عن الكذب مهما أقسمن؟
والآن نصل إلى قضية شديدة الأهمية والخطورة تتعلق بالشاعر وشخصيته وحياته، ألا وهى اتهامه بالزندقة وقتله جراء ذلك الاتهام. ويعد المهدى أول مَنْ أَخَذَ الزنادقة أخذا عنيفا وقَتَلَهم دون رحمة، وكان فيمن أعدمهم ابن عبد القدوس، وإن كانت هناك رواية أخرى تقول إن قتله تم على يد الرشيد. وعن المهدى وحربه التى أعلنها على الزنادقة يقول المسعودى فى "مروج الذهب ومعادن الجوهر": "أمعن في قتل الملحدين والمداهِنين في الدين لظهورهم في أيامه وإعلانهم باعتقاداتهم في خلافته لما انتشر من كتب ماني وابن دَيْصَان ومرقيون مما نقله عبد اللّه بن المقفع وغيره وترجمه من الفارسية والفهلوية إلى العربية وما صَنَّفه في ذلك ابن أبي العوجاء وحماد عَجْرَدٍ ويحيى بن زياد ومطيع بن إياس من تأييد المذاهب المانية والدَّيْصَانية والمرقيونية، فكثرت بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس. وكان المهدي أول مَنْ أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب ردا على الملحدين ممن ذكرنا من الجاحدين وغيرهم، وأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شُبَهَ الملحدين، فأوضحوا الحق للشاكِّين".
وعن صلة ابن عبد القدوس بموضوع الزندقة والزنادقة يقول عبد الله بن المعتز فى كتابه: "طبقات الشعراء": "أخذ صالح بن عبد القدوس في الزندقة، فأُدْخِل على المهدي، فلما خاطبه أُعْجِبَ به لغزارة أدبه وعلمه وبراعته وبما رأى من فصاحته وحسن بيانه وكثرة حكمته، فأمر بتخلية سبيله. فلما وَلَّى ردَّه وقال: ألستَ القائل:
وإنّ مـــن أَدَّبْــَـتـــه فـــي الـــصِّـــبـــا كالعود يُسْقَى الماء في غَرْسِهِ
حتـــى تـــراه مـــورقـــا نـــــــاضـــــــرا من بعد ما أبصرتَ مـن يُبْـسِـهِ
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يُوَارَى في ثَرَى رَمْسِهِ
إذا ارعوى عاد إلى جهلِهِ كذِى الضَّنَى عاد إلى نِكْسِهِ
قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: وأنت تترك أخلاقك? ونحن نحكم في نفسك بحكمك. فأمر به فقُتِل.
وحُدِّثْتُ من غير هذا الوجه بما هو عندي أثبت من الأول، وذلك ما رُوِينَاه أنه أُنْهِىَ إلى الرشيد عنه هذه الأبياتُ يُعَرِّض فيها بالنبي صلى الله عليه وآله:
غُصِبَ المِسْكينُ زَوْجَتَهُ فَجَرَتْ عَيْناهُ من دِرَرِهْ
ما قَضَى المِسكينُ من وَطَرٍ لا ولا المعشارَ من وَطَرِهْ
عُذْتُ بِاللهِ اللطيفِ بنا أَن يكونَ الجَوْرُ مِن قَدَرِهْ
عليه لعنة الله إن كان قالها! فقال له الرشيد: أنت القائل هذه الأبيات? قال: لا، والله يا أمير المؤمنين، ما أشركت بالله طرفة عين. ولا تسفك دمي على الشبهة، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله: "ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" وأخذ يرقق قلبه، ويستنزله عما عزم عليه بفصاحته وبيانه، ويتلو القرآن، حتى رقّ له وأمر بتخلية سبيله. فلما أراد أن يخرج من بين يديه قال: أنشدني قصيدتك السينية فأنشده، حتى إذا بلغ قوله:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يُوَارَى في ثَرَى رَمْسِهِ
قال: يا شيخ، هذا الكلام يشبه هذا الكلام، وهذا الشعر من نمط ذلك الشعر (يعني الأبيات التي نسبت إليه)، ونحن نتمثل وصيتك. ثم أمر فضُرِبَتْ عنقه وصُلِبَ على الجسر.
وحدثني أبو جعفر قال: حدَّثني زياد بن أحمد قال: اجتمع قوم من أهل الأدب في مجلس فيهم صالح بن عبد القدوس يتناشدون الأشعار إلى أن حانت الصلاة، فقام القوم إلى ذلك، وقام صالح فتوضأ وأحسن ثم صلى أتم صلاة وأحسنها، فقال بعضهم: أتصلي هذه الصلاة، ومذهبُك ما تَذْكُر? فقال: "إنما هو رسم البلد، وعادة الجسد". والله أعلم بتحقيق ذلك. أما الرجل فله في الزهد في الدنيا والترغيب في الجنة والحث على الطاعة لله عز وجل والأمر بمحاسن الأخلاق وذكر الموت والقبر ما ليس لأحد. وكان شعره كله أمثالاً وحكمًا. فمما يستحسن له قوله:
...
وليس بعَجْزِ المرء إخطاؤه الغنى ولا باحتيالٍ أدرك المالَ كاسبُهْ
ولكنه قَبْضُ الإله وبَسْطُهُ فلا ذا يجاريه ولا ذا يغالبُهْ
إذا كَمَّل الرحمنُ للمرء عقلَهُ فقد كملتْ أخلاقُه ومناقِبُهْ
فيا عجبا كيف يمكن أن يقول زنديق مثل هذا القول؟! وكيف يكون قائله زنديقاً؟ ومما يستحسن له قوله:
ألا أحدٌ يبكي لأهل محلةٍ مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا
كأنهمو لم يعرفوا غير دارهم ولم يعرفوا غير التضايق والبلوى؟
ومما يختار من شعره قوله:
فوَحَقِّ مَنْ سَمَكَ السماء بقدرةٍ والأرضَ صَيَّرَ للعباد مِهَادا
إن المصرَّ على الذنوب لهالكٌ صَدَّقْتَ قولي أو أردتَ عنادا
وحدثني أحمد بن إبراهيم المعبر قال: رأيت صالح بن عبد القدوس في المنام ضاحكا مستبشرا، فقلت له: ما فعل الله بك? وكيف نجوتَ مما كنت فيه? فقال: إني وردتُ على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته وقال: قد علمتُ براءتك مما كنت تُعْرَف به وتُرْمَى باعتقاده".
وفى ترجمة ابن عبد القدوس بـ"وَفَيَات الأعيان" لابن خَلِّكَان إشارة إلى الأبيات التى يقال إنه عرَّض فيها بذكر النبي صلى الله عليه وسلم فى موضوع زيد وزينب. لكنْ من ناحية مضمون الشعر ذاته، وبعيدا عن مدى الصحة فى نسبة الأبيات إلى ابن عبد القدوس أو لا، وبعيدا كذلك عن الحكم الشرعى فى كيفية معاملة المتهمين فى هذه الحالة، فإنى أرى أن كل ما قيل فى تلك الأبيات لا ينطبق على واقعة زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب، بل هو خطأ فى خطإ: ذلك أن زيدا لم يُغْصَب زوجتَه بأى وضع. فالرسول هو الذى زوجه بها على الرغم من أنها وأخاها لم يطيبا نفسا بهذه الزيجة إذ رأياها أقل من مركز العروس وأسرتها. ثم إن زينب ظلت تشمخ على زيد حتى ضاقت نفسه، وفكر فى تطليقها لولا أن النبى كان يأمره بإمساكها، فأصر زيد على تطليقها. وحينئذ وبعد انقضاء العدة تزوجها النبى، وكانت متاحة له طوال الوقت قبل أن يزوجها هو بنفسه زيدا. فلو كان يريدها لرأت أسرتها فى ذلك الزواج الشرف كل الشرف. بل لقد عرضتْ نفسها قبل زواجها من زيد على النبى صلى الله عليه وسلم، فأصر على تزويجها من زيد، فكيف يقال إنه اشتهاها وغصبها زيدا؟
كما أن زيدا لم يبك على فراقها ولم يُرِقْ عليها دمعة حتى يقال إنه قد جرت منه الدِّرَر، بل وجد فى ذلك راحة من العناء الذى كان يلقاه من شموخها عليه. ولا شك أنه قد قضى منها وطره بغض النظر عن أنها كانت راضية به أو لا. ألم تكن زوجته؟ ولو افترضنا أنه لم يقض منها وطرا فهل كان الرسول هو السبب؟ وحتى لو قلنا مع المجانين إنه غصبه إياها هل كان غصبه إياها من زوجها تَوَّ دخوله بها بحيث لم يعطه فرصة لقضاء وطره منها؟ ألا إن ذلك لعجيب! وكيف يقال إن الرسول قد غصبه إياها بينما الحقيقة أنه عانى من فراق زيد لها ما عانى، إذ كان عليه أن يتزوجها حتى يضع حدا للفهم الممسوخ عند العرب بأن الابن غير الحقيقى كزيد هو كالابن الحقيقى تماما حتى لَيَحْرُم على أبيه المتبنِّيه أن يتزوج طليقته أو أرملته مثلما يحرم زواجه من طليقة ابنه الحقيقى أو أرملته. ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يطالب زيدا بإمساك زوجته وعدم مفارقتها لأنه يعرف أنه سيواجه عاصفة من سوء الفهم والاتهامات. فالرسول عليه السلام كان فى موقف حرج لا يحسد عليه، وكان أحرى بالتعاطف منه بالاتهام بأنه غصب زيدا زينب.
ولو افترضنا أن كل ما قلتُه هنا غير صحيح فهل كان زيد ليسكت ويظل مؤمنا متحمسا لمحمد ودينه على النحو الذى نعرف بعد أن غصبه محمد زوجته ثم زعم أنه قضى منها وطره بينما الحقيقة أنه لم يقض منها ولا معشار ذلك الوطر؟ بل هل كان محمد يطمئن إليه فيوليه قيادة الجيش الذى بعث به إلى حدود الدولة المسلمة الشمالية ليصد جحافل الروم عن التفكير فى غزو البلاد، وقد غصبه زوجته، فهو قمين أن يخون أو يفكر فى الخيانة؟ وفى كل الأحوال لست أفهم دخل الجور الإلهى هنا. أيكذّب الشاعر بما جاء فى القرآن إذن ويرى أن محمدا هو الذى صنع تلك الآيات بل صنع القرآن كله؟ لكن الرجل، وكما لاحظ ابن المعتز نفسه، يعبر فى شعره عن إيمان بالله وبالآخرة وثيق، إيمان استقاه بطبيعة الحال من محمد ومن الدين الذى أتى به محمد والقرآن الذى نزل على محمد صلى الله عليه وسلم. إن ثمة موضعا لسؤال مهم هنا، وهو: هل أمر الله زيدا بتطليق زينب والتنازل عنها للرسول حتى يكون هناك مساغ أى مساغ للقول بالجور كما تنص الأبيات؟ فهذا أيضا أمر عجيب!
أما من ناحية صحة الأبيات من حيث نسبتها إلى صالح أو لا، وقد رأينا الرشيد يحكم عليها بالصحة وأنها من نفس ماء الشعر المنسوب لابن عبد القدوس، فالملاحظ أن مفرداتها غريبة على أسلوبه، إذ لم أجده فى شعره يستعيذ بالله كما استعاذ به هنا أن يكون الجور من قدره، كما لم أره وصف الله بـ"اللطيف" قط. ثم إن كلمات "المسكين، والدِّرَر، والوَطَر، والمعشار، والجَوْر، وجَرَتْ عيناه" ليست من معجمه رغم توفر الدواعى لظهورها فى شعره إذ هى من ألفاظ الوعاظ والقصاصين وعباراتهم حين يتكلمون عن المسكين الذى يعدو خلف أوطاره وشهواته لتحقيقها عاصيا لربه جائرا على نفسه وعلى حدود الله، محاولين استثارة عاطفته الدينية واستدرار الدمع من مآقيه ندما على ما اجترحه من معاصٍ، فضلا عن أن الموضوع ذاته غريب جد غريب على شعره بل شاذ وسطه. كما أن هذا الشعر يتناقض مع الروح السارية فى أشعار الديوان بوجه عام، إذ تعكس إيمانا بالله ووحدانيته وعلمه بكل صغيرة وكبيرة مهما دقت أو خفيت وبالحساب الأخروى والجنة والنار ومسؤولية العبد عن أعماله جميعا. ثم من يا ترى سمعه وهو يتلو هذه الأبيات أو قرأها فى كتاب فأداها إلينا؟ هل يمكن أن يكون الأمر قد مر بتلك البساطة فلم يثر اعتراضا لدى من قرأ الأبيات أو سمعها؟
ولقد مر بين وقوع الحادثة إن صحت وبين تسجيل ابن المعتز لها، وهو أول من رواها لنا فى حدود تقصِّىَّ الطويل، عشرات السنين سبقه فيها الجاحظ وابن سلام وابن قتيبة وأبو حاتم السجستانى وغيرهم من مؤرخى الأدب ونقاده فلم يتعرض أى منهم إلى تلك الأبيات ولا أومأ إليها مجرد إيماء، وبعضهم قد تناول شعر ابن عبد القدوس وصرح فيه برأيه. بل إن أبا الفرج رغم مجيئه بعد ابن المعتز وغرامه بإيراد مثل تلك الروايات لم يتعرض لها فى "أغانيه" من قريب أو بعيد. ودعنا من الشعراء، وهم لا يُحْصَوْن، ومنهم كثيرون كانوا خصوما لابن عبد القدوس، أو على الأقل: معاصرين له، ويهم بعضهم أن يشنعوا به لمثل هذا الشعر، لكنهم لم يفعلوا. فكيف ذلك يا ترى؟ وهذا كله دون التعرض للأشخاص المقصودين بالضبط فى تلك الأبيات، إذ هى خِلْوٌ من أى اسم، وليس فيها تحديد لزمان أو مكان أو واقعة بعينها، بل كلام عام عن مسكين أُخِذَتْ منه زوجتُه قبل أن يقضى منها وَطَرَه. وقد يكون المراد رجلا من معارف ناظم هذه الأبيات أو جيرانه أو أقاربه أو خصومه، واستعار للحديث عن أمره بعض المفردات القرآنية كما يصنع الشعراء والكتاب دائما فى كل العصور جادين وهازلين. وهذا ما أميل إليه ما دامت التفاصيل التى تتعرض لها الأبيات لا تنطبق على الرسول ولا زيد كما رأينا. ومع هذا كله نرى د. شوقى ضيف، فى "العصر العباسى الأول"، يؤكد أن "الأبيات طعن صريح فى الرسول الكريم والذكر الحكيم".
والغريب أن تقول الرواية إن الرشيد أُعْجِب بحسن منطق ابن عبد القدوس واستقامة عقيدته فصفح عنه، إلا أنه سرعان ما تذكر قوله:
والــشـــيخُ لا يتـــركُ أخـــلاقـَــهُ حتى يُوَارَى في ثَرَى رَمْسِهِ
فعاد عن عفوه عنه وأمر بقتله. ولقد كان معه أثناء تلك المواجهة مع الخليفة شاعر آخر اتُّهِم بالزندقة هو على بن الخليل، لكن ذلك الشاعر كان أحسن حظا من صالح، إذ كان قد دَبَّج قبل وفوده على الرشيد قصيدةَ مدحٍ فيه تلاها على مسامعه رغم أنها مكتوبة فى رقعة يحملها فى يديه، وأراد الرشيد أن يقرأ ما فيها بنفسه قبل أن يعرف أنها مدحة صنعها له، وظنها قصة يريد رفعها إليه لينظر فى أمرها، مما أعجب الرشيد واستولى على قلبه، فلم يفكر له فى بيت شارد يجعله يعيد النظر فى عفوه عنه، بل كافأه بخمسة آلاف درهم، وقرّبه إليه وجعله من مداحيه. ترى لو كان ابن عبد القدوس قد صنع هذا الصنيع أكان يكون مصيره القتل أيضا؟ مجرد سؤال. كما أن مثل تلك الأمور لا يصح أن يُقْضَى فيها بتلك الطريقة التى تقوم على بزوغ خاطر فى ذهن القاضى بغتة فيتخذه تكأة لإصدار حكم الإعدام على المتهم بعدما اقتنع ببراءته واستقامة فكره وضميره وعفا عنه قبيل لحظة.
أما صالح بن عبد القدوس فقد قتله الرشيد محتجا بأنه لا يقبل له توبة لقوله:
والــشـــيخُ لا يتـــركُ أخـــلاقـــَه حتى يُوَارَى في ثَرَى رَمْسِهِ
وقال: إنما زعمتَ ألا تترك الزندقة ولا تَحُول عنها أبدا.
وقد فات الرشيد أن صالحا إنما يتحدث عن الأخلاق وما تعوَّد عليه الشخص من التصرفات والسلوك، وهذا غير العقيدة والفكر، فما أكثر من يغيرون أديانهم ومذاهبهم من الشيوخ، وإلا فكيف تتم التحولات الدينية والعقيدية فى التاريخ؟ أفنقول إن كل من دخل دين محمد عليه السلام ممن كانوا يكذّبونه أولا ويتهمونه بالجنون مثلا كان إسلامهم باطلا؟ ثم إن الشخص حين يبذل النصيحة غيرُه حين يتصرف ويحاول السلوك بمقتضاها، إذ كثيرا ما يأتى السلوك مخالفا تماما للنصح. ومعروف أن النصيحة اجتهاد فى الفكر والاستنتاج قد يصيب، وقد يخطئ. وهى على كل حال كلام نظرى لا يصح أن نقيم عليها حكمنا على من قالها. كما أن الحدود فى الإسلام تُدْرَأ بالشبهات، التى ينبغى أن تفسَّر فى مصلحة المتهم. والشبهات هنا متوافرة بحمد الله. وقد شهد الرشيد من ابن عبد القدوس ما أعجبه وراقه وطمأنه، فكيف تجاهل كل ذلك؟ ولنفترض أن صالحا قد قال ذلك فعلا فى لحظة طيش أو حيرة وشك أو حتى كفر، أفليس هناك شىء اسمه التوبة، وبالذات حين نرى الدلائل غير كافية لإدانته حسبما شاهدنا؟
وهناك بيتان آخران ينسبان لابن عبد القدوس فى الحديث عن مكة لا يليق صدورهما من مسلم بغض النظر عما يقصده بالضبط منهما، وهذا نصهما:
كَمْ أَهْلَكَتْ مَكَّةُ مِن زائِرٍ خَرَّبها اللهُ وَأَبياتَها
لا رَزَق الرحمنُ أحياءَها وَأَشْوَتِ الرحمةُ أمواتَها
إلا أننى أعود فأتساءل: أمام مَنْ تلا صالح تلك الأبيات؟ وإلا فكيف وصلت إلينا؟ وفى هذه الحالة كيف لم تثر ضجة ومرت على العكس هادئة خافتة كأنها لم تُقَل؟ ومع هذا فإنها، فى "رسالة الغفران" لأبى العلاء المعرى ، قد عُزِيَتْ إلى أبى الشاعر لا إلى الشاعر نفسه.
وبالمثل هناك أبياته التالية:
لَم تَخْلُ أَفعالُنا اللاتي نُذَمّ بِها إِحدى ثَلاث خِصالٍ في مَعَانيها:
إِما تَفَرُّد مَوْلانا بصنعتها فاللومُ يَسْقُط عَنّا حينَ نأتيها
أو كانَ يَشْرَكُنا فَاللَّوْمُ يَلْحَقُه إِن كانَ يَلْحَقُنا من لائِمٍ فيها
أَوْ لَمْ يَكُنْ لِإِلهي في جِنَايَتِها صُنْعٌ فَمَا الصُّنْعُ إِلا ذَنْبُ جانيها
وكما يرى القارئ فإن هذه الأبيات تناقش مدى مسؤولية العبد عن اجتراح ذنوبه أو وجوب نسبتها إلى الله. وهى أيضا مما قد يومئ إلى بعض حيرة عقيدية لديه، وإن كان طبيعيا أن تمر مثل تلك الأفكار ببعض الأذهان فى سياقات معينة. فالذهن سيال من التفكير لا يتوقف أبدا، ولا يستطيع صاحبه أن يتحكم فيه دوما، وإن كان من السهل الرد على ذلك بأننا لا نتكلم هنا عن التفكير ذاته بل عن تسجيل هذا التفكير وتثبيته بالكتابة، وهذا غير ذاك، وهو ما كان ابن عبد القدوس بمندوحة منه. إننى لا أتكلم عن حقه فى الإيمان أو الكفر بل عن طبيعة عقيدته ليس إلا. لكننا فى أشعاره الأخرى نجده يؤكد مسؤولية العباد عن أفعالهم وأنهم سوف يحاسبون عليها، وأن الله سبحانه مطلع على كل صغيرة وجليلة لا تخفى عليه خافية، ومن ثم فعليهم أن يبتعدوا عن الغى والعصيان حتى يتجنبوا النار وأهوالها ويكون مصيرهم الجنة. فكيف ينسى هذا كله ويقول تلك الأبيات الثلاثة؟ أنقول إن الأبيات تعبير عن حيرته فى فترة سابقة قبل أن تستقيم خطاه على طريق الإيمان ووعظ الآخرين؟
وبَقِىَ ما يُرْوَى من أنه له كتابا فى "الشكوك" من يقرأه ينتابه فى الحال الشك فى كل شىء سلبا وإيجابا حتى ما لا يصح بطبيعته الشك فيه. ففى "مروج الذهب" للمسعودى عن أبى هُذَيْل العلاف أنه لقي صالح بن عبد القدوس وقد مات له ولد، وهو شديد الجزع عليه، فقال له أبو الهذيل: لا أرى لجزعك عليه وجها، إذ كان الإنسان عندك كالزرع. فقال صالح: يا أبا الهذيل، إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب "الشكوك". فقال: وما كتاب "الشكوك"؟ قال: كتاب وضعتُه مَنْ قرأه يشكّ فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، ويشك فيما لم يكن حتى يتوهم أنه كان. فقال له أبو الهذيل: فشُكَّ أنت في موته واعمل على أنه لم يمت، وشُكَّ في قراءته الكتاب، واعمل على أنه قرأه، وإن لم يكن قرأه. فأخجله، وقيل: إنما قال ذلك ابن أخته إبراهيم النظام. وهو الصحيح".
وأول شىء أن هذا الكلام قد جرى فى بواكير العصر العباسى، فهل يمكن أن يكون مثل ذلك الكتاب من ثمار الفكر فى ذلك العصر حقا؟ ألا إن هذا لبعيد جدا، فلم تكن حركة الفكر والفلسفة قد بلغت المدى الذى ينتج ذلك اللون من التأليف. بل مَنْ مِنَ المؤلفين المسلمين على طول تاريخنا القديم قد وضع مثل ذلك الكتاب؟ إن أقصى ما أُلِّف فى هذا المجال هو كتيِّب الإمام الغزالى الموسوم بـ"المنقذ من الضلال"، وكان ذلك بعد ابن عبد القدوس بعدة قرون، فضلا عن أن الكتاب ليس فى التشكيك بل فى وصف ما اعترى صاحبه فى بعض مراحل تطوره الفكرى من شكوك خارجة عن إرادته وعَمِل هو من جانبه على التخلص من أوهاقها والوصول إلى بر الأمان، وهو ما أنجزه فعلا، واعتمد عليه كبار الفلاسفة الأوربيين فى تأسيس منهج فكرى يقف أمام أعاصير الشك صلبا صامدا لا يتزعزع. أما فى العصر الذى عاش فيه ابن عبد القدوس فلم يكن هناك سوى الرسائل الديوانية وسيرة ابن إسحاق و"كليلة ودمنة" وما إلى ذلك.
وثانيا هل يعقل الذهن أن يتخلى ابن عبد القدوس عن مشاعر الأبوة الطبيعية فيكون كل ما يحزنه فى وفاة ابنه أنه لم يقرأ كتابا كان قد ألفه؟ وماذا سيعود على الأب من قراءة الابن ذلك الكتاب؟ ومنذ متى يكون مثل ذلك الأمر سببا فى حزن البشر؟ فلماذا لم يبصِّره بما فيه قبل أن يموت؟ وهل الشكوك مما يحرص عليه الإنسان وتكون هِجِّيرَاه أن يعلمه أولاده؟ وإذا كان ما تقوله الرواية صحيحا فكيف لم يظهر فى سلوك صالح وتفكيره أثر كتابه هذا فيشك فى كل شىء على النحو المضحك الذى صوره؟ لقد كان الرجل يتحدث عن الله والآخرة والتقوى والحساب فى أشعاره ومواعظه حديث الموقن الذى لا يعرف الشك إلى قلبه سبيلا. فكيف هذا؟ ثم أين ذلك الكتاب العجيب؟ وكيف لم يتعرض له أحد من العلماء والمؤلفين المسلمين متناولا ما فيه بالموافقة والتحبيذ أو بالإنكار والتفنيد؟ ومنذ متى كان ابن عبد القدوس كاتبا متفلسفا؟ لقد كان شاعرا وقصاصا واعظا ليس إلا. بل متى كان الوعاظ والقصاصون شكاكين؟ إن عقول أمثالهم لا تعرف التفلسف والشكوك، بل تردد المواعظ وتقص الحكايات فى تصديق لا تلجلج فيه ولا ارتياب لأن جماهيرهم هم العامة الذين لا يصلح لهم أمثال ذلك الكتاب. ولنفترض أن شاعرنا لم يُؤْتَ الحكمة الكافية التى تحجزه عن الرد بمثل ذلك الكلام المفتقر إلى المشاعر الأبوية الطبيعية فأين ذُهِب بعقل العلاف ولياقته فلم يزجر العلاف وينبهه إلى وجوب مراعاة الظرف والسياق، أو لم يزجر هو نفسه عن التمادى فى ذلك السخف والتنطع؟ ولو كان هذا صحيحا فكيف لم يشر إليه الجاحظ مثلا، وكان قريب عهد به؟
ونقرأ فى "رسالة الغفران" ما نصه: "وأما صالح بن عبد القدوس فقد شُهِر بالزندقة. ولم يُقْتَل، ولله العلم، حتى ظهرت عنه مقالات توجب ذلك. ويُرْوَى لأبيه عبد القدوس:
كم أهلكتْ مكةُ من زائرٍ خرَّبها الله وأبياتَها
لا رَزَق الرحمن أحياءها وأَشْوَتِ الرحمةُ أمواتَها
وقد كان لصالح ولد حُبِس على الزندقة حبسا طويلا، وهو الذي يُرْوَى له:
خرجنا من الدنيا ونحن مِنَ اهْلِها فما نحن بالأحياء فيها ولا الموتى
إذا ما أتانا زائرٌ متفقدٌ فَرِحْنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا
وأما رجوعه عن الزندقة لمّا أحس بالقتل فإنما ذلك على سبيل الخَتْل. فصلى الله على محمد، فقد رُوِيَ عنه أنه قال: "بُعِثْتُ بالسيف، والخير في السيف، والخير بالسيف". وفي حديث آخر: "لا تزال أمتي بخيرٍ ما حملت السيوف". والسيف حمل صالحًا على التصديق، ورده عن رأي الزنديق، وتلك آية من آيات الله إذا هي ظهرت للنفس الكافرة فقد فني لا ريب زمانها، ولا يقبل هناك إيمانها: "لم تكن آمنت من قَبْل"، وللسفه طَلٌّ ووَبْل".
وفى "أمالى" المرتضَى: "وأما صالح بن عبد القدوس فكان يتظاهر بمذاهب الثنوية. ويقال إن أبا الهذيل العلاف ناظره فقطعه، ثم قال له:على أي شئ تعزم يا صالح؟فقال أستخير الله، وأقول بالاثنين. فقال أبو الهذيل: فأيَّهما استخرتَ، لا أُمَّ لك؟ وروى أن أبا الهذيل ناظره في مسألة مشهورة في الامتزاج الذي ادَّعَوْه بين النور والظلمة، فأقام عليه الحجة، فانقطع وأنشأ يقول:
أبا الهذيل، هداك الله يا رَجُلُ فأنت، حقًّا لَعَمْرِي، مُعْضِلٌ جَدِلُ
وروى انه رُؤِىَ يصلى صلاة تامة الركوع والسجود، فقيل له: ما هذا، ومذهبك معروف؟ قال: سُنَّةُ البلد، وعادةُ الجسد، وسلامةُ الأهل والولد.
ويقال إنه لما أراد المهدي قتله على الزندقة رمى اليه بكتاب. قال له: اقرأ هذا. قال: وما هو؟ قال: كتاب الزندقة. قال صالح: أو تعرفه أنت يا أمير المؤمنين إذا قرأتُه؟ قال: لا. قال: أفتقتلني على ما لا تعرف؟ قال: فإني أعرفه. قال صالح: فقد عرفتَه، ولستَ بزنديق. وكذلك أقرؤه، ولستُ بزنديق. وذكر محمد بن يزيد المبرد قال: ذكر بعض الرواة أن صالحا لما نُوظِرَ فيما قُذِف به من الزندقة بحضرة المهدي قال له المهدي: ألستَ القائل في حفظك ما أنت عليه:
رُبَّ سِرٍّ كتمتُه فكأنى أخرسٌ أو ثَنَى لسانيَ خَبْلُ
ولَوَ انِّي أبديتُ للناس علمى لم يكن لي في غير حبسيَ أَكْلُ
قال صالح: فإني أتوب وأرجع. فقال له: هيهات! ألستَ القائل:
والشيخ لا يترك عاداته حتى يُوَارَى في ثَرَى رَمْسِهِ
إذا ارعوى عاوده جهلُه كذِى الضَّنَى عاد إلى نِكْسِهِ
ثم قُدِّم فقُتِل. ويقال إنه صلبه على الجسر ببغداد".
ولدى التدقيق فى هذه الأخبار نجد أشياء تلفت النظر لفتا قويا ولا يقبلها المنطق بسهولة: خذ مثلا دعوته للعلاف. إنها دعوة مسلم يؤمن بالله، وليست دعوة مانوى يعتقد بوجود إلهين. وخذ أيضا جوابه على العلاف بأنه سوف يستخير الله ويقول بالاثنين. فكيف يستخير الله على شىء قد قرر فعلا ما ينوى أن يصنعه فيه؟ إن هذا ليناقض الاستخارة تماما. كما أن الاستخارة لا تكون فى مثل ذلك الأمر، بل فى أمر من أمور الحياة يقف أمامه الإنسان حائرا بين رأيين أو أكثر ولا يستطيع اتخاذ قرار، وليس فى أمر من أمور العقائد والمذاهب. ثم كيف يستخير ابن عبد القدوس الله فى أمر يناقض التوحيد تمام المناقضة؟ كذلك فإن الردود التى أجاب بها الرشيد فيها جرأة شديدة على مقام الخلافة وتدعو إلى الضحك، ولا يعقل أن تكون هى ردوده الحقيقية فى سياق عابس مأساوى كذلك السياق الذى كانت حياة صالح تتأرجح أثناءه بين السلامة والقتل الوَحِىّ فى كِفَّتَىْ ميزان.
أما سؤال مستغربى صلاته التامة الأركان فغريب غير معقول، إذ ليس له من معنى إلا أن تلك كانت أول مرة يصلى فيها رغم أن الرجل كان يعظ الناس ويقوم بالقصِّ فى المساجد بما يعنى أنه لم يكن غريبا عنها ولا عن شهود الصلاة فيها، فضلا عن أن أمثال صالح فى تلك العصور حينما كانوا يصلون إنما كانوا يصلون جماعة بما فيهم هؤلاء المنكرون عليه المتهكمون به، أى يعملون جميعا ما يعمله الإمام، ولا يصلون صلاة خاصة بهم، فلا وجه لتوجيه مثل ذلك السؤال إليه هو بالذات، وإلا فكيف كانت صلاتهم هم يا ترى؟ أم تراهم كانوا يريدونه أن يشذ وهو فى الصف يصلى مع الجموع فيركع ويسجد ويقوم ويتشهد قبل الإمام ويسلم قبل أن ينتهى الإمام والمأمومون من صلاتهم وينصرف وهم لا يزالون فى الركعة الأولى مخترقا الصفوف مربكا المشهد كله؟ أم ماذا؟ ثم كيف يتطوع الرجل بكل تلك البساطة فيرد بما رد به ويفضح نفسه، وهو إنما يفعل ذلك لإخفاء حقيقة تلك النفس ذاتها؟ ولنلاحظ السجع والموازنة فى الرد، وكأن الظرف مُوَاتٍ لمثل ذلك التعمل! والحق أن قوله: "عادة الجسد" ينسف التهمة من جذورها، إذ معنى ذلك أنه متعود على تلك الصلاة المتأنية منذ وقت طويل، بما يدل على أن مثل تلك الصلاة ليست شيئا جديدا طارئا بل أمرا يمارسه من قديم، فكيف لم يُدْلُوا بملاحظتهم التهكمية تلك سوى هذه المرة؟ كما أن تحججه بأن فى تصرفه على هذا النحو سلامة للأهل والولد كلام لا معنى له لأنه لا صلة بين ثنويته المدعاة وتعرض أسرته للعقاب. ثم ها هو ذا قد عوقب على تلك الثنوية المزعومة دون أن يمتد العقاب لأحد من أفراد بيته. فما القول فى هذا؟
وفى "الأغانى:"كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وبشار الأعمى، وصالح بن عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد... فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي ويختصمون عنده: فأما عمرو وواصل فصارا إلى الاعتزال. وأما عبد الكريم وصالح فصححا التوبة. وأما بشار فبقي متحيرًا مخلِّطًا. وأما الأزدي فمال إلى قول السُّمَنِيَّة، وهو مذهب من مذاهب الهند، وبقي ظاهره على ما كان عليه. قال: فكان عبد الكريم يفسد الأحداث، فقال له عمرو بن عبيد: قد بلغني أنك تخلو بالحَدَث من أحداثنا فتفسده وتستزلّه وتدخله في دينك،. فإن خرجتَ من مصرنا وإلا قمتُ فيك مقاما آتي فيه على نفسك. فلحق بالكوفة، فدُلَّ عليه محمد بن سليمان، فقتله وصلبه بها". فها هى ذى الرواية تقول عن ابن عبد القدوس إنه صحح التوبة، وإن كنت لا أدرى مِمَّ، إذ لم يُتَّهَمْ بشىء، اللهم إلا إذا عُدَّ الاشتغال بعلم الكلام تهمة تستوجب معاقبة صاحبها. فكيف يكون قد صحح التوبة ثم يُقْتَل بسبب زندقته؟ ألا إن هذا لغريب! بيد أن المسرحية لا تنتهى فصولها هنا، فقد مضت الرواية تقول إن ابن أبى العوجاء، الذى وَصَفَتْه، كما رأينا، بأنه صحح التوبة، قد عمل على إفساد الغلمان. فكيف يكون قد صحح التوبة إذن؟ وماذا كان سيفعل بالله لو لم يكن قد تاب وصحت توبته؟
إن هذا يعطينا فكرة عن طبيعة مثل تلك الروايات ويبين لنا أننا ينبغى أن نحاذر كثيرا حين نقرؤها، وأن نعمل عقولنا جيدا ونفتح أعيننا على اتساعها ونحن نفكر فيها. وعلى أية حال لم يحدث أن أعطانا أحد فكرة عن طبيعة زندقة صالح بن عبد القدوس، إذ الأمر كله مجرد كلام واتهامات دون نَصّ ما كان يقوله من أفكار الزنادقة. لقد قالوا مثلا إنه كان يقول بالثنوية. لكن أين نص ما قاله؟ إن نصوص كلامه كلها إقرار بالله وبوحدانيته وعلمه الشامل وبعثه للبشر وحسابه إياهم ووجوب ملازمتنا طاعته ومراعاته دائما فى كل ما نصنع وندع. فأين مكان الثنوية من هذا؟ هل كان معاصروه يعرفون عنه ما لا نعلمه نحن بحكم اختلاطهم به ومشاهدتهم لما يعمل واستماعهم لما يقول؟ لكن لماذا لم يوردوا نص ما كان يقوله؟ إن الأمر لا يخرج للأسف عن الاتهامات النظرية. وفى يومية للعقاد بعنوان "ابن عبد القدوس" بالحادى عشر من يوليه 1962م بجريدة الأخبار نراه يختم اليومية بالاستغفار له غير مستبعد أن يكون قد قُتِل ظلما وافتراء، مؤكدا أن مقتل مثله ظلما وافتراء ليس بالعجيب ولا بالقليل.
وفى كتابه: "A Literary History of the Arabs" يؤكد المستشرق البريطانى رينولد نيكلسون أنه لا يوجد فى شعر الشاعر ما يشير إلى أية زندقة، وإن لم يستبعد أن تكون التهمة التى لاحقته وكانت سببا فى مقتله راجعة إلى أنه كان ذا عقل فلسفى، والعقل الفلسفى أوانذاك كان يُنْظَر إليه من قِبَل المسلمين المحافظين بتوجس وارتياب. وفى ذات الوقت يتعجب نيكلسون من المصير الذى انتهى إليه الشاعر رغم أنه كان يشتغل بالقص، إذ كانت طائفة القصاصين سمنا على عسل مع السلطات. ثم إنه لم يجعله من الموالى قولًا واحدا، بل تأرجح بين نسبته إلى الأزد ميلادا أو على سبيل الولاء. فهو إذن لم يستبعد أن يكون عربيا أصيلا، وهو ما لا أذكر أنى قرأته عند أحد ممن رجعت إليهم.
ويذكر المقال المتعلق به فى الطبعة الجديدة من "The Encyclopedia of Islam" أن شعره الذى فى أيدينا يخلو من أى أثر للزندقة أو الثنوية، ولا يوجد فيه ما يخالف تعاليم الإسلام، وهو ما يجعل اتهامه بالزندقة وقتله بسببها أمرا مثيرا للشبهة. وفى "Encyclopedia of Arabic Literature" يلاحظ كاتب المادة الخاصة بالشاعر أن ما وصل إلينا من شعره إنما يدل على تدينه لا على زندقته، ويعضد هذا ما ذكرته مادة "Zuhdiyya" فى نفس الموسوعة من أن ذلك الشعر يخلو مما يُتَّهَم به صاحبه. أما روجر ألن فقد ادعى، فى كتابه: "An Introduction to Arabic Literature"، أن فى شعر ابن عبد القدوس إشاراتٍ إلى بعض الاعتقادات الثنوية، بيد أنه لم يستشهد على دعواه بشىء من ذلك الشعر، فبقيتْ دَعْوَى معلقةً فى الفراغ.
ويقول د. عمر فروخ فى المجلد الثانى من "تاريخ الأدب العربى" إنه "كان يجلس فى مسجد البصرة للوعظ ويقص الأخبار، غير أنه كان يزيِّن الثنوية (الدين الفارسى القديم)"، ولا أدرى كيف كان يجمع بين الأمرين: الوعظ وحث الناس على العمل الصالح ومراقبة الله من جهة، والقول بإلهين من جهة أخرى. كذلك لا أستطيع أن أفهم كيف يكون ابن عبد القدوس فى نظر الدكتور فروخ ثنويا، وفى ذات الوقت "أديبا فاضلا" حسب تعبيره. وبالمثل يرمى د. شوقى ضيف ابن عبد القدوس بالقول بإلهين ويقبل اتهامه بالزندقة دون أن يورد ولو شاهدا واحدا على مانويته، لكنه لا يتوانى عن القول بأنه كان متأثرا بالذكر الحكيم والحديث النبوى الشريف. فكيف؟
والطريف أنه، حين يتحدث عن أشعار صالح فى التزهيد فى الدنيا والحث على مكارم الأخلاق وطاعة الله، يعقب قائلا: "لعله يريد إله النور والخير" مع التأكيد بأن دعوته الزهدية متأثرة بالزهد المانوى دون أن يستشهد بشىء على ذلك، مكتفيا بترديد الاتهام الذى وجهه بعض القدماء لعقيدته من غير أن يشفعوا دعاواهم بدليل. لكن هل يتسق هذا مع كلام الشاعر عن القضاء والقدر وأن الله هو الباسط الرازق، أو مع حديثه عن تسجيل الملكين لكل ما نعمل، وكلامه عن الحساب والجنة والنار، وقوله إن الجنة حُفَّتْ بالمكاره، وغير ذلك مما لا يمكن أن يكون المقصود به سوى الإسلام، مما استغربَ معه ابنُ المعتز، وهو من سلالة المهدى والرشيد وتولَّى الخلافة مثلهما، أن يكون صاحب هذا الشعر زنديقا؟