الخوف لا يبعد المكتوب!
آمنت بذلك، فما من هروب من مكتوب، لا مفر، إذا حان وقته فرض حضوره، وتركك حانقا، مستغربا، ذاهلا، فاقدا لكل حس، عاريا من كل دفاعاتك، ويصير أسلحتك باردة.
هكذا كان، وما خفت منه حدث.
حل الظهر، واقترب موعد العمل، فسارعت إلى تناول صحن اللوبياء بشهية إلى أن أتيت عليه كاملا؛ وقد اعتذرت مني زوجتي لأنها لم تعد الوجبة إلا متأخرا، لأنها صائمة، ولم تستيقظ باكرا على غير عادتها، ولهذا، لم تهيئ سلطة، ولا أضافت وجبة ثانية، سامحتها، ونهضت سريعا إلى الحنفية لغسل يدي، ثم ارتديت ملابسي على عجل، وركبت سيارتي باتجاه المؤسسة، كانت الطريق غير مزدحمة، فحمدت الله على هذه النعمة التي وفرت علي حرق أعصابي، ورفع ضغطي.
وجدت المدير ينتظرني وقد أدخل التلاميذ إلى الفصل المنعزل عن بقية الفصول الأخرى، وعن الإدارة، كما لو أنه جزيرة منفصلة لا تنتمي لأية قيادة.
سلم علي مبتسما، سلمني المهمة، وانصرف.
حياني التلاميذ بحرارة. طلبت منهم الجلوس، ثم قررت أن أجعل الحصة نقاشا حول الحرية، الأمر الذي استجاب له التلاميذ بحمية، علمت أن المراهقين بحاجة ماسة لهذه القيمة المفتقدة لعوامل شتى، ثم إنها سن الرغبة في التحليق من دون قيود. المهم كان حماس المشاركة منقطع النظير، مما دفعني إلى القيام من كرسي والتجول بين الصفوف مشجعا ومنوها، وطارحا أسئلة مستفزة، وفي لحظة، شعرت بضغط الأمعاء، وانتفاخ البطن، وبقرقرة في المعدة، وبغازات تريد تحقيق شرط الانفجار، سرت إلى مكتبي بخطو متعثر، وأنا أقوم بمجهود جبار لاحتواء الوضع، ومنع حدوث الكارثة؛ لكن الريح كانت الأسبق، فسمعت مني دويا كبيرا، كان ذا رائحة نفاذة تشبه رائحة الكبريت، انتابتني مشاعر متضاربة؛ فقد شعرت، بوضاعتي ، لكن شعورا بالزهو منحني ثقة بطاقة متجددة، ذلك أني الريح قد دخلت رحاب الجامعة، وأشرق نورها وهي تتوج باختيارها موضوع أطروحة جامعية نالت استحسان اللجنة، ثم ذاب منسوب اعتدادي حين تخيلت نفسي سخانة ماء رخيصة، تصاب بالجنون فتترك الغاز يتسرب منها عن سبق إصرار وترصد، فتودي بالمستحمين الأبرياء، لقد جنيت على الكثيرين، ثم قلت مع نفسي محاولا تخفيف الألم: لا مبر لأحساسي بالذنب، فلست سخانة، وما كنتها أبدا، إن هي إلا أمعائي سمحت لنفسها بإخراج غازاتها، تحرر نفسها من ضيق ما تجمع بداخلها فانفجرت محدثة دويا صاعقا؛ فخفت انفجار ضحك التلاميذ، أنا في وضع لا يحسد عليه، إذ كيف سأواجه هؤلاء الصبية بعد فضيحة الريح؟ كيف سأداري خجلي؟ كيف سأتابع عملي في هذه المؤسسة وأنا أشعر بدبابيس السخرية تنهش ظهري؟ حين استدرت لأستطلع أمر الصمت المريب، وجدت الجميع دائخا؛ فقد وضع التلاميذ رؤوسهم على الطاولة وراحوا في نومة مكرهين؛ لقد كانت النوافذ مغلقة كما الباب لأنه شدة البرد فرضت علينا سد كل المنافذ.
حمد الله على أن المكان بعيد وإلا كان حضر المدير محاطا بمساعديه ولخرج التلاميذ كما الأساتذة مستطلعين، ولربما فكر الجميع في عمل إرهابي حط بمؤسستهم الهادئة، لكن الله لطف، فلم يحضر أحد، ولا بلغ سمع أحد دوي الصوت المزعج، ولا شمت الأنوف الغازات المسيلة للدموع. وقد كانت بركات الرعد بلسما لجراح خوفي.
بقيت زمنا أنتظر نأمة أو حركة يأتي بها التلاميذ لأرتاح من خوف الموت، وعذاب الضمير، وما سيسفر عنه القادم المجهول؛ لقد تخيلت أمورا سوداء، رأيت باب المحاكمة، والسجن، وضياع المستقبل، رأيت السوء يلطم وجهي بأجنحة شائكة.
انفرجت أساريري لما بدأ التململ، لكن خوفا أشد استيد بي، هل عرفوا ما حدث؟ يا ربي، سترك، لا أريد فضيحة، وعاد السؤال الصعب: كيف سأواجههم؟ الأمر محرج، وأنا في ضيق من نفسي، وضربات قلبي ترتفع، ولما استعاد التلاميذ أنفاسهم، وكامل لياقتهم، تابعوا النقاش بحمية أكبر، وكأنهم كانوا في راحة بين شوطين، ظللت أتابعهم عساني ألمح على وجوههم سخرية مني، ومما أتيت، لكن صفاءهم لم يخالطه لمز ولا غمز. ارتاحت نفسي، واستعدت توازني، وانخرطت معهم في النقاش من جديد، واستبد بي النشاط فنهضت عن مقعدي، وفكرت في التجول بين الصفوف مشجعا، ومشتفزا، ثم عدلت، فتكفيني التجربة، وما كل مرة تسلم الجرة!

!