آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: حلقة جديدة أخرى (قبل أن أموت) من كتابى: "من كتاب الشيخ مرسى - محطات على مسيرتى الروحية"

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي حلقة جديدة أخرى (قبل أن أموت) من كتابى: "من كتاب الشيخ مرسى - محطات على مسيرتى الروحية"

    حلقة جديدة أخرى (قبل أن أموت) من كتابى: "من كتاب الشيخ مرسى - محطات على مسيرتى الروحية"
    إبراهيم عوض


    وفى قطر قدر لى أن أشارك فى مؤتمرين أدبيين فى سورية والأردن على التوالى فى عامين متتاليين فى أوائل النصف الأول من العقد الأول من القرن الحادى والعشرين. وفى رحلة سورية ذهبت برفقة د. حسام الدين الخطيب، وهو سورى، إلى دمشق، وتوجهت معه إلى منزله هناك حيث تخلف وتركنى أكمل رحلتى إلى حمص، التى كان قسم اللغة العربية فى آداب البعث بها هو الذى ينظم مؤتمر الأدب المقارن حيث أشارك ببحث عن الاستعراب والأدب المقارن. وأخذت الحافلة إلى حلب من دمشق حيث كان علىَّ أن أسجل بياناتى فى المحطة هناك كأنى سأنتقل من دولة إلى دولة أخرى، وهو ما أشعرنى بالوحشة والتوجس. ولكن ما إن بدأت الرحلة حتى داخلنى إحساس بالحنان نحو البلاد، التى تذكرت فجأة أننا كنا نشكل معها بلدا واحدا فى بعض عهد عبد الناصر. وكان الأصيل جميلا، والحافلة منطلقة على الطريق المختلف عن طرقنا فى الدلتا حيث التلال والغابات حولنا مما لا نشاهده فى طرق مصر. وكانت الحافلة هادئة فلا ضجة ولا ثرثرة ولا مذياع يغنى كما هو الحال فى مصر. وكانت تجلس إلى جوارى فتاة فى العشرينات من عمرها ألفيت نفسى بحاجة إلى أن أتحدث إليها لأعرف كيف أتصرف حين أنزل فى حماة حيث يعيش د. راتب سكر، رئيس قسم اللغة العربية منظم مؤتمر الأدب المقارن الذى كنت ساشارك فيه ببحث، بينما د. حسام الدين الخطيب قد أتى بوصفه مستمعا ومناقشا فحسب.
    وقد ساعدتنى الفتاة أيما مساعدة هى وأبوها، الذى كان ينتظرها فى محطة الحافلات فى حلب بسيارته نصف النقلية، إذ كانت بنته تشتغل فى دمشق، ويأتيها كل يوم ليحملها من المحطة إلى المنزل. وقد ظلا معى إلى أن أتى د. راتب سكر بعد أن اتصل الأب به مشكورا بالهاتف وأعطيت الآنسة كتابين من كتبى التى أحضرتها معى من قطر لأهديها إلى أصحاب النصيب من المكتبات العامة والزملاء المشاركين فى المؤتمر من أهل البلد أو الضيوف. وقد أسعدتنى صحبة د. سكر أيما إسعاد، إذ طاف بى فى وسط حماة وأخذ يقص علىَّ تاريخ كل أثر أو بناية عامة نمر بها، بالإضافة إلى نواعير حماة الشهيرة، التى اصطحبنى إلى الحمامات المتصلة بها وشرح لى كل ما يتعلق بها على الطبيعة. ومما قاله لى فى تلك الليلة أن أباه شارك فى ترميم قبلة الجامع الكائن على نهر العاصى، ولم أكن قد علمت بعد أنه نصرانى. كما حدثنى عن أبى الفدا المؤرخ الشهير وملك حماة (ت732هـ)، وكذلك عن أحمد الفيومى صاحب معجم "المصباح المنير" (ت770هـ)، إذ كان من سكان المدينة زمنا. ثم عرض علىّ أن يعشِّيَنى فى مطعم كباب وكفتة، فآثرت أن آكل طعاما أبسط، وهو ما فعله بعد أخذ ورد، فأطعمنى الفتوش (طبق سلطة سورى معروف غاية فى اللذة والطعامة!) وبعض الأطباق الأخرى. وكانت ليلة من ليالى العمر المعدودة، لا على طريقة شادية وفاتن حمامة الملتاعة، بل على طريقة د.راتب سكر اللطيفة الظريفة الممتلئة حيوية وحبورا رغم أننى كنت متهالكا ومرهقا غاية الإرهاق، والفضل كله لظرافة د. سكر وحيوية شخصيته وروعة حديثه وسحر نبرة صوته وطريقة شرحه للأشياء وتدفق حديثه بالحيوية.
    وانفصلنا على أن يأتينى فجرا إلى الفندق الذى أنزلنى فيه ليصطحبنى إلى حمص حيث يعمل وحيث ينعقد المؤتمر. وفعلا جاءنى فى ميعاد الفجر، وأخبرنى أنه سوف يثرثر قليلا مع صاحب الفندق ريثما أفرغ من الصلاة فى غرفتى فألحق به. وما إن انتهيت من الصلاة وارتداء ملابسى ولحقت به حتى تبين لى أنه دفع عنى إيجار الغرفة، وعبثا حاولت أن أرد له ما دفعه من مال، إذ لم يرض ذلك أبدا. ولو كنت قد ذهبت مباشرة إلى حمص ونزلت فى الفندق الذى حجزت لنا الجامعة فيه غرفة لكل مشارك منا لما كان هناك حرج من جانبى. ولا ريب أن ما صنعه د. سكر معى فى تلك الليلة من طعام وفندق هو مما لا يمكننى نسيانه أبدا مهما طال الزمن، إن طال الزمن بى أكثر من ذلك. وإنى لا أزال أذكره بكل تفاصيله وقوة خطوطه ونصاعة ألوانه، وبخاصة أن من كنت أتوقع منه معاملة أفضل لم يصنع عشر معشار ما فعله راتب سكر، الذى لم يكن يعرفنى من قبل ولم يسمع حتى باسمى. وزادنى تقديرا لما فعله ما عرفته عرضا بعد عودتى إلى الدوحة بوقت طويل أثناء حديث لى مع د.صلاح كزارة السورى من أن د. راتب نصرانى. ثم سارع قائلا إنه، رغم نصرانيته، قوى النزعة العروبية، مثنيا عليه وعلى دماثته، ومؤكدا لى أنه لا وجه لاستغراب ما صنعه معى، إذ هو أهل للكرم والدماثة.
    وقد أثار انتباهى فى حمص الحديقة العامة الهائلة المساحة الكثيرة الأشجار بالقرب من الجامعة، والنظافة النسبية غير المتاحة فى مصر، وتوافر الرصيف فى كل مكان حتى فى الحوارى الضيقة وصلاحيته للسير عليه دون أية مشاكل، على العكس تماما مما فى بلادنا. كما أخذ بصرى تمثال شديد الضخامة بعيد العلوّ لحافظ الأسد يقوم فى الميدان القريب من جامعة البعث. وكان الاحتلال الأمريكى للعراق أيامها فى بدايته، وإسقاط تمثال صدام حسين لا يزال حيا فى الذاكرة. وكنت أشعر كأن الأسد يطأ بقدمه الهائلة فوق رؤوس المارة. وخامرنى إحساس أن يوما سوف يأتى يحدث فيه لهذا التمثال وأشباهه ما حدث لتمثال صدام، على رغم ما ساورنى ساعتذاك من خوف على سورية. ولم أكن أعلم أنه بعد نحو عشرة أعوام سوف تهب فى سورية ثورة شعبية تهدفُ إلى تحطيم الاستبداد والترويع والاستعباد والتعذيب، والتخلص من حكم النصيريين وقهرهم وبطشهم، وتمزِّقُ صورحافظ وبشار الأسد، وإن كانت الثورة لم تنجح بعد رغم التضحيات الجسورة والغالية التى قدمها الشعب السورى من ماله وبيوته وأرواحه. وأملنا فى نجاحها رغم هذا عظيم بفضل الله.
    ولفت نظرى أن المشتركين السوريين فى المؤتمر يتنادون رسميا فى الجلسات بعبارة "الرفيق الفلانى" على عادة الماركسيين، فازداد توجسى، كما لاحظت أن أحدا منهم ولا من غيرهم لا يبدأ إلقاء بحثه أو تعليقه على بحوث الآخرين باسم الله الرحمن الرحيم. وحين أتى دورى لإلقاء بحثى قلت: "بسم الله"، وبدا الأمر لى على قصر العبارة وكأننى أتيت أمرًا إدًّا. ومن بين من استرعى انتباهى من الأساتذة السوريين د. غسان مرتضى لما كان يتمتع به من خفة ظل. ولعله أشار ضاحكا أو جادا إلى شربه الفودكا فى روسيا، إذ أذكر أنه حصل على الدكتورية من الاتحاد السوفييتى، ولعلى لا أكون مخطئا. وقد قرأت منذ عدة سنوات، عندما كنت أعد بحثا لى فى الأدب المقارن بين "حى بن يقظان" و"روبنسون كروزو"، عن ذات الموضوع، فتذكرت الأيام الجميلة التى قضيتها فى حمص بحديقتها العامة الممتدة لمسافة طويلة. كما رأيت بعض الأساتذة السوريين يحتسون الخمر دون حرج فى المآدب العامة التى كانوا يضيفوننا فيها هنا وهناك. وحين عدت إلى الدوحة كان من بين ما فعلت الاتصال بالدكتور راتب سكر لشكره على ذوقه وكرمه وصحبته الممتعة، وبالدكتورأحمد دهمان عميد آداب البعث آنذاك، الذى أبدى دهشته لاهتمامى بالاتصال به من العاصمة القطرية وشكره على حفاوتهم بنا فى المؤتمر.
    وقد التقيت بالدكتورحسام الخطيب فى المطار ونحن عائدان إلى قطر بعدما افترقنا فى حمص، وفتحت معه حساب سيارة الأجرة التى أقلتنا من المطار فى دمشق إلى بيته قبل أن ننفصل لأذهب وحدى إلى حماة كما شرحت آنفا، وكنت فهمت أنه لا يقبل أن أشاركه الدفع، بيد أنه خطر لى أنْ ربما كان الأليق عرض الدفع مرة أخرى، فكان نصيبى ما يساوى عشرة جنيهات مصرية أو نحو ذلك، وقال لى بعد أن حسبها وارتبك بعض الشىء: أرجو مسامحة كل منا للآخر إن كان أحدنا قد دفع أكثر من نصيبه قليلا. وقد ارتحت كثيرا حين أخذ منى الأجرة حتى لا يكون فى نفسه شىء. وفى مطار دبى كنا جالسين ننتظر الطائرة التى ستقلنا إلى الدوحة، إذ كنا نزلنا ترانزيت هناك، فألفيته يقوم من مجلسه بغتة وينادى قائلا باهتمام شديد: يوسف! يوسف! ثم مال علىَّ قائلا: يوسف القعيد. فبقيت فى مكانى حتى سلم وعاد، ولم أسأله عن شىء، ولم يحدثنى هو عن شىء. وتذكرت أول يوم مر علىّ فى جامعة قطر فى رمضان، حين كان بعضنا نحن الأساتذة يصلون، فوجدته يقول ما معناه أنه سوف يصلى معنا، بيد أنه لم يتبع القول بالعمل، ولم يكررها من بعد مثلما لم يفعلها من قبل: لا فى رمضان ولا فى غير رمضان. ولا أدرى لماذا قال ما قال بالذات فى أول أيام رمضان ما دام لا يشارك فى الصلاة أصلا.
    ومن بين ما لفت نظرى فى ذلك المؤتمر أن منظميه قد جعلوا د. حسام الخطيب ضيف شرف رغم أنه لم يشترك بشىء ولا حتى بتعليق، فقام هذا عندى دليلا على المكانة العالية التى يحتلها من نفوس القوم فى سورية، بيد أن د. صلاح كزارة بدد هذا الاستنتاج حين قال لى إن فلانا (أحد كبار منظمى المؤتمر) قد فعل هذا عمدا وأرسل يدعو د. الخطيب من قطر نفسها طمعا فى أن يساعده د. الخطيب على العمل أستاذا معارا إلى جامعة قطر، لكنه خيب ظنه، ولم يصنع له شيئا. وقد أضحكنى هذا الأمر كثيرا. كما ضحكت حين أخبرنى زملائى المصريون فى قطر، ولم يكونوا يعرفون عنى شيئا حين قدمت أوراقى إلى الجامعة هناك، أنه لم يبق فى المنافسة بين المتقدمين فى ذلك العام لوظيفة أستاذ بالجامعة سوى العبد لله وأستاذ سورى أو أردنى (لا أذكر الآن)، وأنه قامت معركة بينهم وبين د. حسام بسبب ذلك: هو يريد أن يأتى يصديق له سورى (أو أردنى)، وهم يتعصبون لى، لا لأنهم يروننى أفضل الاثنين، فقد قلت إنهم لم يكونوا يعرفوننى قبلا، ولكن لأننى مصرى مثلما يتعصب هو للأستاذ الآخر لأنه صديقه. وقالوا لى إن العميد قد سأل عنى د. إبراهيم الجندى، الأستاذ معنا بآداب عين شمس، ولكن فى قسم التاريخ، فقال كلمة طيبة فى حقى ساعدت، فيما يبدو، على ترجيح كفتى.
    وأجد لزاما علىَّ هنا أن أشكره وأشكر كل زملائى المصريين عليها نظرا إلى أن السنوات الأربع التى قضيتها فى قطر كانت، رغم صغر قطر ووجودى وحدى هناك دون زوجتى وأولادى، اللهم إلا زورة من فاطمة وسلوى الصغيرة مرتين كل عام: مرة فى رمضان والعيد الصغير، ومرة فى آخر السنة قبيل العودة الصيفية إلى أرض الوطن، كانت أجمل سنوات عمرى دون أدنى مبالغة، وكأننى كنت أعيش فى الجنة. وأرجو من الله أن يكافئ كل من كان سببا فى فوزى بتلك الإعارة التى أعدها خارج إطار الزمن لما حوته من بهجات وسعادات من بينها تعرفى هناك إلى رجل لطيف أنيق كريم النفس مهذب حلو الروح منفتح على الناس، وكان يحبنى وأحبه كثيرا هو المرحوم الأستاذ هانى الطايع، وهو من إخوان سورية، ولكنه كان شيئا آخر غير الإخوان الذين خبرتهم أو تناولتهم بالحديث هنا. وكنا كثيرا ما نلتقى فى مكتبة الثقافة بالمرقاب بالدوحة أو فى بيته أو فى بيت د. حجر البنعلى وزير الصحة فى ذلك الوقت. وقد هيأ لى بكياسته وحسن تصرفه طباعة كتابين لى فى الدوحة. وجاء عند مغادرتى البلد إلى المطار يودعنى هو ود. خالد ، وهو سورى أيضا، وكانت لى به علاقة طيبة، إلا أن علاقتى بالأستاذ الطايع كانت شيئا مختلفا. رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى. كما عرفت هناك د. حسن على، وهو خريج آداب عين شمس. وقد أتى يزورنى حين علم أننى فى الدوحة، وذكرنى بالمحاضرات التى كنت أدخل لهم فيها وأنا مدرس مساعد أعلمهم النحو بطريقتى الخاصة.
    وكان الزملاء المصريون بجامعة قطر يظنون أننى سوف أحمل فى قلبى حنقا على د. الخطيب، لكننى قلت لهم إن ما صنعه أمر طبيعى جدا مثلما عضدونى هم بدورهم رغم أنهم لا يعرفوننى. ولم أكن أشعر تجاه الرجل بأى شىء، ولا أظننى قد أَوْلَيْتُ أو بدا علىَّ أننى أُولِى الأمر أى اهتمام. وبمناسبة ما نحن فيه من حديث عن الأستاذ الدكتور لا بد من القول بأنه كان طوال الوقت دمثا رغم ما يحيك فى النفس من إحساس بأنه بارد المشاعر لا يهتم بمن حوله ولا يفكر فى إشراك أحد منهم فى خير مما يعرف هو دهاليزه ويستأثر به لنفسه فحسب. كذلك لم يَحِكْ فى صدرى شىء حين علمت أنه، رغم تقدمى بطلب إلى جامعة قطر بالمشاركة فى مؤتمر الأدب المقارن بحمص، قد طلب هو أيضا أن يشارك فيه، مما أحنق د. سلامة السويدى رئيسة القسم قائلة إنه كان ينبغى ألا يفعل هذا لمشاركته من قبل فى عدد من المؤتمرات على العكس منك أنت الذى تشارك فى مؤتمر على حساب الجامعة لأول مرة. ثم أردفت: ومع هذا فسوف أفعل كل ما بوسعى كى تسافر إلى سورية. وقد قام الأستاذ الدكتور مشكورا بقطع تذكرتينا بعد أن أخذ الورق فى غيابى من الجامعة، وأراحنى من عبء الجرى على مكاتب الطيران وما يتصل بذلك من وجع دماغ، وإن كان بعض "الناصحين" قد همس فى أذنى، ولا أدرى مدى صحة ما همس به، بأنه لم يفعل ذلك حسبة لوجه الله، بل ليفوز بأى تخفيض يمكن الحصول عليه على التذكرتين الحكوميتين فى مثل تلك الحالة. وقد تكون تلك الوسوسة بخة من الشيطان. ما علينا، فالمهم أننى استمتعت استمتاعا عظيما بالأيام الرائعة التى قضيتها فى سورية. وشكرا لجامعة قطر، وشكرا للدكتورة سلامة السويدى، التى كنت أطلق عليها: "نسمة القِسْم".
    أما رحلة الأردن، التى قمت بها العالم التالى، فقد كنت فيها وحدى، وكانت أيضا على حساب جامعة قطر. وقد عشنا أياما بهيجة هناك فى صحبة الزملاء العرب وغير العرب. ومن بينهم دكتور مصرى أتى على حسابه للاشتراك فى مؤتمر النقد الأدبى بجرش، وفهمت منه أنه يفعل ذلك كلما أتيحت له فرصة حتى يحرز بعض النقاط التى تفيده عند تقدمه للترقى إلى درجة جامعية أعلى. وكان من جامعة قناة السويس فيما أذكر، لطيف المعشر ضحوكا طيب القلب ولا يعرف الخبث. ومن بينهم مستشرقة صغيرة من بولندا بصحبة دكتور فلسطينى يشتغل معها فى نفس الجامعة التى تشتغل فيها هناك. وكانت مصرية الروح تحب الضحك والاندماج مع الآخرين. وكنا نبقى فى صالة الطعام بعد العشاء وانتهاء النشاطات العلمية النهارية، فنضحك من أعماق قلوبنا. ولكن لم يعجبنى فى الفلسطينى ما علق به على شعر المستشار حسين نجم، الذى كان ينشره فى جريدة "الراية" القطرية دفاعا عن القضايا العربية، وعلى رأسها قضية فلسطين وقضية العراق، من أنه شعر مباشر لا يتمشى مع الاتجاه الجديد فى الشعر. يقصد الغموض والبرود ونشارة الخشب، التى يزعم الفَشَلَة أنها هى الشعر، ولا شعر غيرها. وسبب ضيقى بملاحظته، التى علق بها على بحثى فى مؤتمر جرش للنقد الأدبى، أن القضية الفلسطينية سوف تفقد، بهذه الطريقة، أكبر نصير لها، إذ لا شىء يُبْقِى التحمس لتلك القضية على المستوى الإبداعى الأدبى مشتعلا متلظيا سوى ذلك الشعر الذى لا يعجب سيادته. وهو ما يذكرنى بطنطنة د. محمد مندور، فى كتابه: "فى الميزان الجديد"، بما سماه: "الشعر المهموس"، الذى لا يصلح فى مواقف الحرب والقتال والتهديد والفخر والهجاء، بل لا يصلح أيضا فى بعض مواقف الحب حين يزداد بالمحب أوجاعه فيصرخ ويجأر شاكيا النار المتلهبة بين جنبيه... إلخ.
    وفى تلك الرحلة أعدوا لنا غداء شهيا ذات يوم فى أحد المعسكرات الحربية فوق جبل على الحدود مع إسرائيل. ووقفنا قريبا من حافة المرتفع، فشاهدنا هناك بعيدا فى قاع الوادى رجلا إسرائيليا يعمل وهو جالس القرفصاء فى قطعة أرض هناك. وتساءلت: إلى متى يدوم الاحتلال الإسرائيلى لأرض فلسطين العربية المسلمة؟ وحتام سيظل العرب والمسلمون فى وضعهم هذا المخزى الجبان المتهافت الجعجاع رغم هذا عاجزين عن استرداد الحقوق المغتصبة من أيدى الإسرائيليين؟ ثم جاء الطعام الشهى اللذيذ الذى أعده الجنود والضباط لنا. وعندئذ، لا أقول إننى قد نسيت كل شىء، لكن سأكون كاذبا لو قلت إننى ظللت بنفس تحمسى للأمر كما كنت وأنا أشاهد الرجل الإسرائيلى فى الحقل فى قاع الوادى قبل قليل.
    وقد تعرضت، بعد عودتى من إعارتى إلى جامعة قطر بقليل، لهجوم شديد فى إحدى الصحف زعم صاحبه أن بعض طلابى قد أبلغوه بأننى شتمت فى إحدى محاضراتى المرحوم نجيب محفوظ وقلت عنه إنه كافر ابن كلب. أستغفر الله! إننى أحب الروائى الكبير رغم اختلافى مع بعض اتجاهاته الفكرية والسياسية، وكنت ولا أزال أقول إنه أفضل من كثير ممن حصلوا على جائزة نوبل، كما قلت عن "الثلاثية" من قبل حصوله على نوبل إنها قلما نجد لها نظيرا فى الأدب العالمى، وشعرت بالفخر العظيم به وببلدى وبدينى حين أُعْطِيَتْ له نوبل، فكيف أقول عنه إنه كافر ابن كلب؟ بل إننى، حين سئلت من اللجنة التى عملت معى المقابلة الشخصية عام 1989م قبل ذهابى إلى الطائف فى إعارة إلى فرع جامعة أم القرى هناك، عن وقع فوز محفوظ بالجائزة النوبلية على نفسى، أجبت بأن فوزه بتلك الجائزة مبعث فخار لنا جميعا عربا ومصريين ومسلمين لأن محفوظ مصرى عربى مسلم. ولو كان غيرى مكانى لحاول التنصل من محفوظ خوفا من ضياع التعاقد معه. والطريف أن الدكتور السعودى الذى كان يحادثنى أثناء المقابلة الشخصية قد بدا عليه الارتياح كثيرا من تلك الإجابة، التى من الواضح أنه لم يكن يتوقعها ولا كان يتصور أنها ستكون إجابة أى مصرى فى تلك الظروف.
    وقد استضافتنى بعض الفضائيات أيام الهجوم الآنف الذكر، فقلت إن شتمى للرجل لا يمكن أن يكون قد وقع إلا فى حالة واحدة ليس إلا، وهى أن أكون فقدت وعيى للحظات تلفظت فيها بما قلته ثم ارتد لى وعيى دون أن أعرف أننى شتمت الرجل. وكان مهاجمى معى على الهواء هاتفيا، فتراجع فى الحال عما قاله، وهو ما أثار استغرابى، إذ لو صدقنا أنه برىء فى اتهامه لى وأن بعضهم قد ضلله فعلا فاتهمنى دون نية سيئة أفما كان ينبغى أن يعود إلىَّ أولا فيسألنى ويتحقق من الأمر منى بدلا من الإثارة السخيفة التى أحدثها مقالاه فى الموضوع؟ وكان د. محمد عباس قد كتب مقالا اتهم فيه ذلك المهاجم بأنه، فيما كتبه عنى، كان مدفوعا من جهات نصرانية محلية انتقاما منى لما رددت به عليها من مقالات وكتب فضحتُها وعريتُها ونسفتُها فيها.
    وهناك كذلك كتابا "الحضارة الإسلامية- نصوص من القرآن والحديث ولمحات من التاريخ" و"فى التصوف وأدب المتصوفة"، وقد ألفت كلا منهما فى أسابيع معدودات نزولا على اقتراح من الزميل رئيس القسم، الذى ألفى نفسه فى مأزق حين بدأ العام الدراسى وفرضت عليه الظروف فرضا توفير أستاذ يدرّس هاتين المادتين، فعرض علىَّ الأمر لأجد نفسى أوافق فى الحال اعتمادا على توفيق الله، الذى لم يخذلنى، وكان الكتابان فى أيدى الطلاب منذ وقت مبكر: فأما كتاب "الحضارة الإسلامية" فصدر مع بداية الفصل الدراسى، ثم عقبه الكتاب الثانى بعد عدة أسابيع لا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة. فحمدا لله، الذى لم يخذلنى والذى ابتهلت إليه أن يساعدنى على تقديم شىء نافع وجديد فى ذلك الكتاب.
    وقد اجتهدت فى كتاب "الحضارة الإسلامية" فى أن أقدم للطلاب صورة صحيحة للإسلام فى شموليته، فركزت فيه على أن الإسلام هو أنقى وأنصع وأعظم صورة للحضارة الإنسانية، وأنه لا يتوقف عند الصلاة والصيام والحجاب وما إلى ذلك مما تظن جماهير المسلمين أنه هو وحده الإسلام، بل يمتد إلى العمل والإتقان والنظافة والنظام والجمال والذوق الراقى والإبداع والعلم والثقافة الرفيعة، وأننا لا نُعَدّ مسلمين بحق إذا أهملنا هذه الجوانب وظننا أن العبادات التقليدية وحدها تكفى فى دين محمد، وأنه ليس أمامنا من سبيل للخروج من مأزق التخلف الذى يحاصرنا من كل جانب إلا بإعمال هذه المبادئ الإسلامية، وإلا استمر ضياعنا وخضوعنا لأعدائنا وذلتنا أمامهم وخنوعنا لأوامرهم كأننا عبيد عندهم. وقد ذكرت لى طالبة ممن درسوا الكتاب معى أن أفراد أسرتها عندما قرأوا الكتاب أجمعوا على أن أحدا لم يبصرهم من قبل بأن هذا هو الإسلام.
    ومن الكتب التى ألفتها لمواجهة حاجة الدراسة إليها كتاب "التذوق الأدبى"، وكتاب: "دراسات فى النثر العربى الحديث"، فقد وضعتهما فى الدوحة حين أُْسِند إلىَّ تدريس هاتين المادتين "للطالبات" هناك، إذ لم يكن ينتمى إلى قسم اللغة العربية أى من الطلاب الذكور، بل كن كلهن بنات. وهذا من أعجب العجب. وقد شمرت عن ساعد الاهتمام والقراءة للكتاب الأول، فكنت أؤلفه فصلا فصلا قبل دخول المحاضرة الخاصة بذلك الفصل. ثم نشرته، وصار مقررا على الطالبات لسنتين أو ثلاث. أما الكتاب الآخر فاقتصر أمره هناك على كتابة معظم فصوله بخط اليد، إلى أن عدت إلى جامعة عين شمس بعد أسعد أربعة أعوام فى حياتى قضيتها فى الدوحة تلتها عدة سنين عمدتُ بعدها إلى الكتاب فأتممت بعض ما كان ينقصه، ثم أصدرته لطلاب قسم اللغة العربية وبعض الأقسام الأخرى التى تدرس الأدب العربى كقسم اللغة الإنجليزية مثلا. وإنى لأعتز بـ"التذوق الأدبى" أيما اعتزاز، وأرى، حقا أو وهما، أنه يصمد بقوةٍ للمقارنة مع أمثاله من الكتب الغربية التى تتناول فلسفة الآداب والفنون.
    وفى "دراسات فى النثر العربى الحديث" يجد القارئ فصولا هامة فى بعض إبداعات ذلك الأدب فى العصر الحالى كأسلوب طه حسين مثلا، الذى أتصور أن ما كتبته عنه فى ذلك الكتاب هو تفصيل غير مسبوق فى تحليل أسلوب الرجل، وإنْ تناولتُه من خلال دراستى لمجموعة "المعذبون فى الأرض" وحدها، وكتحليلى لرواية "فتاة مصر" ليعقوب صروف، التى سبقت "زينب" بسنوات، ولم تكن روايةً ساذجةً كما يقال عادة عن كل عمل روائى سبق رواية هيكل، بل اشتملت على بعض القضايا السياسية والاجتماعية والدينية ذات الخطر، فضلا عن ارتفاع مستواها الفنى، وكرصدى لما اعترى الأسلوب النثرى فى العصر الحديث من تطورات: معجما وصيغا وتراكيب وصورا وأجناسا أدبية، إلى جانب مشاركة المرأة العربية أديبةً ناثرةً، وكذلك ظهور أدب الأطفال، لأول مرة تقريبا فى تاريخ الأدب العربى.
    ولكتاب "لتحيا اللغة العربية يعيش سيبويه" قصة طريفة، إذ كنت فى صيف عام 2004م فى بيتى بالقرية أنا وزوجتى وابنتى الصغرى نتناول غداءنا، وفجأة ضرب هاتف المنزل، فأخبرنى المتصل بأنه المذيع فتحى الملا، وأنه بسبيل أن يقدم مساء ذلك اليوم حلقة عن كتاب أ. شريف الشوباشى: "لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه"، ورجانى رجاء حارا أن أترك الغَدَاء الآن وآتى إلى القاهرة للتو حتى أكون أحد ضيوف البرنامج. وكانت هذه أول مرة أعرف فيها الأستاذ الملا، فلم أستطع الاعتذار عن عدم تلبية ملتمسه، وقطعت الإجازة على الفور، وأخذتُ نفسى وزوجتى وابنتى ووصلنا القاهرة بعيد الغروب حيث صليت المغرب وغيرت ملابسى وذهبت للجزيرة القريبة من ميدان التحرير من ناحية جسر قصر النيل حيث يوجد أستوديو تسجيل الحلقة، للمشاركة فى الحلقة المذكورة التى ضمتنى أنا والدكتور عبد الله التطاوى بوصفنا معارضين لما قاله الأستاذ الشوباشى بحق اللغة العربية وسيبويه من كلام رأيناه ظلما مبينا، ود. عبد المنعم تليمة وأ. الشوباشى نفسه باعتبارهما الطرف المقابل. وقد سجلت كل ما دار بينى أنا ود. التطاوى وبين خصمينا فى تلك الحلقة مع التوسع الشديد فى مناقشة ما طُرِح فيها من قضايا وخلافات ووجهات نظر، وأصدرته فى كتيب أتصور أنه من أهم ما ألفتُ فى حياتى مع التصوير الفكاهى والكاريكاتورى فى بعض الأحيان مما أضفى على الموضوع الجاد قسطا غير قليل من الحيوية والابتسام.
    ولقد اكتشفت، أثناء رحلتى التأليفية، أن سمعة كثير جدا من الأسماء اللامعة لا تقوم على أساس صلب من المعرفة والمنهجية، وأن هذه الأسماء لا تتمتع فى كثير من الأحيان بالأسلوب السليم، وهو الحد الأدنى من متطلبات الكتابة. لقد سمعت مثلا، وأنا فى السعودية، تهليلا عاليا للدكتور عبد الله الغذامى، لكن لما شرعت فى القراءة له والكتابة عنه تبين لى أنه تهليل هش متهافت يستند إلى البكش والهلس والإشادة به على الفاضى، فكانت ثمرة ذلك دراستين وضحت فيهما ضحالة إحاطة الرجل بالموضوعات التى ينتناولها، ولجوءه إلى إطلاق المزاعم الزائفة والتدليسات الجريئة التى لا تعرف حمرة الخجل والتعامل الهازل مع أشد القضايا جدية والتناقضات التى تجل عن الحصر،وكثيرا ما تتتابع فى سطرين متتالين، والثقة المتورمة بالذات رغم هزال الذات ونحافتها وضآلتها. وهاتان الدراستان موجودتان فى كتابى: "أدباء سعوديون" و"ست دراسات نسوية إسلامية". ووالله ثم والله لقد كنت فى دهشة باهظة طوال الوقت الذى كنت أقرأ فيه الغذامى أو الوقت الذى كان علىَّ أن أرد فيه على هذا الهراء. وما وجدته فى كتابات الغذامى وجدته على نحو أو على آخر فى كتابات إسماعيل أدهم وخليل عبد الكريم وسيد القمنى وأحمد صبحى منصور ومحمد أركون وهشام جعيط وصادق جلال العظم والمدعو: "عباس عبد النور"، وغيرهم كثيرون. ويمكن القارئ أن يرجع إلى كتابى الضخم: "أفكار مارقة"، ففيه من ذلك الكثير.
    ولأن آخر من قرأت لهم من أولئك الكتاب هو صادق جلال العظم، الذى رغم كثرة ما قرأته عنه لم أكن قد اطلعت على أى شىء تقريبا من كتاباته إلا منذ ليلتين حين أخذتنى سلسلة من المصادفات إلى كتابه: "ذهنية التحريم"، فإنى أود التريث قليلا لدن البحث المنشور فيه عن رواية "آيات شيطانية"، إذ هو مثال على كل ما أخذته على أمثاله ممن سبق أن كتبت عنهم وأوردت أسماء بعضهم آنفا: فهو لا يحسن القراءة العلمية ولا يتنبه إلى سياق الأحداث أو لا يحاول أن يضعها فى الحسبان، ثم هو فوق ذلك يعاظل ويقلب الحقائق التى تخزق العيون محاولا أن يوهمنا أن السم الوحىّ عسلٌ شهىّ... إلخ. ولست ناويا أن أذكر كل شىء سخيف وجدته فى هذه الدراسة، وما أكثره، إذ كل ما فيها تقريبا سخيف ومتهاو، بل سأجتزئ بالقليل منها على ما يتحمله السياق فى الكتاب الذى بين يدى القارئ: فهو مثلا يدافع عن رواية رشدى زاعما أن رشدى لم يقصد بها شرا، وأخذ يقلب الحقائق واحدة وراء الأخرى ويلصق العيوب بمن امتشق قلمه للرد على كفريات رشدى حتى لقد توقعت أن يطالبنا صادق العظم بأن نصلى ونسلم على رشدى بوصفه النبى الأول فى الخطة الخمسية الإلهية الجديدة بعدما انقضت الخطة الخمسية الفائتة بأنبيائها الذين كان خاتمهم محمدا عليه الصلاة والسلام. والعجيب أنه، بعد هذا كله وبعد أن صدغ دماغنا بمحاولته الفاشلة تلميع صورة رشدى والزعم بأن روايته لا تسىء إلى الإسلام فى شىء، يستدير من الناحية الأخرى فيقول إنها حلقة فى سلسلة أعمال الأدب التى تتخذ من السَّخَر بالمقدس والتهكم عليه موضوعا لها. إذن ففيم دفاعه عنها على مدى عشرات الصفحات السابقة واتهامه لمنتقديها بأنهم لا يفهمون شيئا، بل بأنهم لم يقرأوا الرواية كما قرأها هو؟
    ومثالا على ما أقول أشير إلى أنه يدافع عن تسمية الرواية سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام بـ"ماهوند"، ولكن دون أن يشير إلى معنى هذه الكلمة، التى تعنى الشيطان أو الوحش أو الصنم أو النبى الكذاب أو الإله الزائف حسبما جاء فى "قاموس أكسفورد" التاريخى ومادة "Mahound" فى موسوعة "ويكبيديا"مثلا، ولها ارتباط بـ"الكلب: hound" كما يشير معجم "Dictionary.com":
    “Archaic. Muhammad. Origin: 1350–1400; Middle English Mahun, Mahum < Old French, short for Mahomet; -d by association with hound1”.
    إذ نراه يكتفى بالقول بأنه "اسم أوربى قروسطى قَدْحِىّ للنبى محمد"، ويتبنى سفسطة رشدى بأنه "كثيرا ما يحدث أن يطلق عدو قوى على عدوه الأضعف اسما قدحيا أو يصفه بصفة تحقيرية خسيسة، كما أنه كثيرا ما يحدث أن يتبنى الطرف الضعف فى غمرة الصراع مع الأقوى هذا الاسم أو هذا الوصف عامدا متعمدا على سبيل تأكيد الذات. أى بدلا من أن يحط الاسم أو الوصف التحقيرى من قدر المسمَّى به يعمل المسمَّى على رفع شأن الاسم (والوصف) وتحويله إلى ميزة عالية وخصلة حميدة، وإلى موقع قوة جديد". ثم يمضى فيقدم بعض الأمثلة على ذلك قائلا إنه "حين ينعت المستعمر الأوربى الأبيض الإنسان الإفريقى الأسود بالسواد يرد الإفريقى قائلا متمردا: نعم، أنا أسود، وفخور بالسواد لأن السواد جميل ورائع... إلخ. وحين يستخدم المحتل الإسرائيلى عبارة "عربى" كمرادف لكل ما هو منحط وخسيس ومشوه يرد العربى قائلا ثائرا: سَجِّلْ! أناعربى". بهذا المعنى وبهذه الروح تبنى النبى عامدا متعمدا، فى رواية رشدى، اسم ماهوند، الذى أطلقه عليه الأعداء، فتحول الوصف بذلك إلى شىء آخر تماما، أى إلى عكس ما كان مقصودا به من إهانة وتحقير من جانب الخصوم والأعداء".
    بل إنه فى الفصل الثانى من كتابه: "ما بعد ذهنية التحريم"، وهو الفصل المسمى: "سرير بروكروستوس"، ينفى نفيا باتا قاطعا أن يكون لكلمة "Mahound" أى ارتباط من بعيد أو قريب بـ"الكلب". ويلفت الانتباه أن نطق كلمة "hound" هو نفس نطق هذا الجزء من اسم "Mahound". وفى مقال بعنوان "رد على الشيطان" كتب العماد أول مصطفى طلاس، فى موقعه الإلكترونى، عن هذه النقطة قائلا عن تسمية النبى عليه السلام بـ"ماهوند" فى الرواية: "منذ اللحظة التي سمي بها النبي: "ماهوند" نضح الإناء بما فيه. كأن الخائن عرّى نفسه ليقول: نعم أنا عدوّ. وأنا أفتش في الأزقة التي حضنتني ذات يوم، ولدى المبشرين الذي علموني البذاءة بالقول وبالفعل، عن الكلمات التي أحتقر فيها نبيكم، وقرآنكم، وكلكم، وألصقها فيكم. إن كلمة "ماهوند" استعرتها من الإنكليزية، وهي كلمتان: "ما" و"هوند". وتعني الأولى خاصتي، كما تعني الثانية كلب الصيد".
    وفى "خيمة العدد" رقم 47 من مجلة "المعرفة" الإلكترونية الشهرية كتب على العميم تحت عنوان جانبى هو: "حتى لا نكون حيطة واطية" ما يلى مما له صلة قوية بما نحن فيه: "على الرغم من أن الغربيين يحبون أكل لحم الخنزير حباً جماً، إلا أن وصف أحد بالخنزير يظل عندهم شتيمة. وكذلك الكلب. ولم نسمع أن جماعات الرفق بالحيوان ومنها الكلب احتجوا على هذا الاشتقاق اللغوي الذي يراد به التحقير للنساء اللاتي يحترفن هذه المهنة الساقطة. ونجوى كرم ومحطة LBC المشفرة ارتجا عندما رد عليهما سعودي ردا فوريا، لله دَرُّه: إن لديه كلبة وكلبا، وسيسمي الكلبة بكذا ويسمي الكلب كذا، فقطع الإرسال. قال هذا الردَّ فور سماعه أن كلبها المدلل يحمل اسم "محمد". ونعلم وتعلم ماذا يعني هذا الاسم في وجدان أي مسلم. إنه اسم خير البشر أجمعين من لدن آدم عليه السلام. واختيارها هذا الاسم، وهي المسيحية الكاثوليكية، لايكون بريئا، فالمصطفى عليه الصلاة والسلام كان يُنعت في لغة القرون الوسطى المسيحية بلفظ تحريفي بذيء سافل وهو "ماهوند"، الذي يعني "الكلب". وقد حُرِّف هذا الاشتقاق من لفظة "Mahomet". وغير بعيد أن يخرج علينا شخص مريض "مريض بكره الإسلام والديانات السماوية كافة" مثل صادق جلال العظم، ويماحك بجدل عقيم، دفاعا عن نجوى كرم، أن لفظة "محمد" لا تحيل بالضرورة إلى اسم نبي الإسلام عليه الصلاة وأزكى التسليم، وأن لفظة "الكلب" في الثقافة واللغة العربية لا تحيل إلى معنى الخسة والنجاسة والنذالة، وإلى كل شيء مهين، مع أن أوفى الأوفياء لا يرضى أن يشبَّه وفاؤه بوفاء الكلب. أقول غير بعيد لأنه فعل مثل هذه "الفعلة" مع سلمان رشدي في روايته الآبقة: "آيات شيطانية"، إذ جعل يلف ويدور في أن لفظة "ماهوند"، وهي اللفظة القروسطية المسيحية التي استعملها رشدي في روايته، لا تعني "الكلب" مع أنها معلومة ابتدائية أشار ويشير إليها، على سبيل النقد، كثرة كاثرة من المستشرقين والدارسين الغربيين الذين تعرضوا لصورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى. لذا استحق أن يوصف بأنه مغالط مريض. أما نجوى كرم، وهي الفنانة التي حققت نجاحها الفني والتجاري من خلال مبيعات أشرطتها في الخليج والسعودية، فلا أقل من وقفة مقاطعة حازمة من بيع أشرطتها وظهورها على بعض المحطات الفضائية، التي أزعم أن لنا نفوذا اقتصاديا عليها، لكي تتأدب وتكون عبرة لغيرها. فديننا ووجداننا وكرامتنا ليس "حيطة واطية يستدنيها كل من هب ودب". وهذا النص منقول عن عدد 3/ 12/ 1419هـ من مجلة "الاقتصادية". وفى حلقة من برنامج "الاتجاه المعاكس" بتاريخ 2/ 7/ 2007م عن تكريم سلمان رشدى فى بريطانيا يقول محمد إبراهيم مبروك عنه: "عندما يقول عن سيدنا محمد: ماهوند، كلب صيد، عندما يقول عن عائشة وحفصة أنهم أمهات الزواني، عندما يتهم الرسول بالنفاق وأنّ هُوَّ نافق المشركين وساومهم على العقيدة الإسلامية ذاتها، ماذا يبقى بعد ذلك في صلب العقيدة الإسلامية؟ هو حَقَّرْ في العقيدة الإسلامية".
    وهذا نص ما كتبه رشدى فى الرواية عن هذا الموضوع:
    “Pronounced correctly, it means he-for-whom-thanks-should-be-given, but he won't answer to that here; nor, though he's well aware of what they call him, to his nickname in Jahilia down below -- _he-who-goes-up-and-down-old-Coney_. Here he is neither Mahomet nor MocHammered; has adopted, instead, the demon-tag the farangis hung around his neck. To turn insults into strengths, whigs, tories, Blacks all chose to wear with pride the names they were given in scorn; likewise, our mountain-climbing, prophetmotivated solitary is to be the medieval baby--frightener, the Devil's synonym: Mahound. That's him”.
    وواضح تمام الوضوح ما فى هذا الدفاع من هزل وهزال وسفسطة لا تجوز على عقل عاقل: فأولا هل أطلق أحد من أعداء الرسول المكيين الذين تدور حولهم الرواية اسم "ماهوند" أو معناه على الرسول؟ طبعا لا. ثم هل كانت الماهوندية عنصرا من عناصر ماهية الرسول وشخصيته مثلما أن العروبة عنصر فى ماهية الفلسطينى، والسواد عنصر فى شخصية الإفريقى مثلا؟ طبعا لا أيضا. فلم إذن يستجلبها رشدى لروايته دون أن يكون لها موطئ قدم فيها؟ إن أحدا لم يكن يسمى النبى أو يناديه بـ"ماهوند" حتى نقول إنه قد قبل هذه التسمية ثم قلبها من التحقير إلى المدح والافتخار. كذلك قال رشدى إن المحقَّر يعمل على تغيير مجرى الأمور بحيث يصير موضوع التحقير مبعث فخار له، فأين نجد النبى أو أحدا من أصحابه أو أتباعه يوما من الأيام قد عمل هذا؟ فمثلا كانت قبيلة "أنف الناقة" تستعرّ من ذلك اللقب حتى استطاع الحطيئة الشاعر أن يحول تلك المذمّة محمدة، فقال:
    قومٌ هُمُ الأنفُ، والأذناب غيرهمو ومن يُسَوِّى بأنف الناقة الذّنَبَا؟
    فاستدار الأمر عقبئذ بزاوية قدرها 360 درجة، ومن يومذاك وقبيلة "أنف الناقة" تتفاخر بلقبها بعد أن غبر عليها زمن كانت تَدَّارَؤُه وتقول إنهم من بنى قريع. يقول عبد القاهر الجرجانى فى"أسرار البلاغة فى علم البيان": "وقد عرفتَ ما كان من أمر القبيلة الذين كانوا يعيَّرون بـ"أَنْف الناقة" حتى قال الحطيئة:
    قومٌ هُمُ الأَنْفُ، والأذْنَابُ غَيْرُهُمو ومَن يُسَوّي بأَنْف النَّاقة الذَّنَبا؟
    فنَفَى العار، وصحّح الافتخار، وجعل ما كان نَقْصًا وشَيْنًا، فضلاً وزَيْنًا، وما كان لقبًا ونَبْزًا يسوءُ السمع، شَرَفًا وعزًّا يرفع الطَّرْف، وما ذاك إلا بحسن الانتزاع، ولُطْف القريحة الصَّنَاع، والذِّهن الناقد في دقائق الإحسان والإبداع، كما كساهم الجمالَ من حيث كانوا عُرُّوا منه، وأثبتهم في نِصَاب الفضل من حيث نُفُوا عنه. فَلرُبَّ أنفٍ سَلِيمٍ قد وَضَع الشِّعْرُ عليه حَدَّه فجَدَعَه، واسمٍ رفيعٍ قَلَب معناه حتى حطّ به صاحبَه ووَضَعه".
    وبالمثل كان وضع شخص ما على الصَّْليب بغية قتله أو تعذيبه مبعث عار وشنار للمصلوب وقومه إلى أن رثى أحد الشعراء شخصا مصلوبا بقوله:
    عُلُوٌّ فى الحياة وفى المماتِ بحقٍّ أنت إحدى المعجزاتِ
    فعندئذ تحولت الدفة، وملأ صَلْبُ ذلك الرجل قومَه شعورا بأن صاحبهم رجل عظيم عالى الهمة والقدر فى حياته وفى مماته. جاء فى "أسرار البلاغة فى علم البيان": "وقد عُلِم أنْ ليس في الدنيا مُثْلَةٌ أخزَى وأشنعُ، ونكالٌ أبلغ وأفظع، ومَنْظرٌ أحق بأن يملأ النفوس إنكارا، ويُزْعج القلوبَ استفظاعًا له واستنكارًا، ويُغْريَ الألسنةَ بالاستعاذة من سُوء القضاء، ودَرَكِ الشقاء، من أن يُصلَب المقتول ويشبَّح في الجِذع، ثم قَدْ تَرَى مَرثيةَ أبي الحسن الأنباري لابن بَقِيّة حين صُلِب وما صَنَع فيها من السِّحْر حتى قَلَبَ جُملةَ ما يُسْتَنْكَر من أحوال المصلوب إلى خِلافها، وتأَوّلَ فيها تأويلاتٍ أراك فيها وبها ما تقضي منْه العجَب:
    عُلوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ بحَقٍّ أَنت إحدى المعجزاتِ
    كأنّ الناسَ حَوْلَك حينَ قاموا وُفودُ نَدَاكَ أيّامَ الصِّلاتِ
    كأنك قائمٌ فيهم خطيبًا وكلُّهُمُو قيامٌ للصَّلاةِ
    مددتَ يَدَيْك نحوهُمُ احتفاءً كمَدِّهما إليهم بِالهِبَاتِ
    ولما ضاق بطنُ الأرض عن أنْ يَضُمَّ عُلاكَ من بعد المماتِ
    أصَاروا الجوَّ قبرَك واستَنَابُوا عن الأكفانِ ثوبَ السَّافياتِ
    ... إلخ".
    لقد كان المشركون من قوم الرسول عليه الصلاة والسلام يفترون عليه تارة أنه كاهن، وتارة أنه شاعر، وتارة أنه كاذب، وتارة أنه يفرق بين المرء وزوجه، ولم يقل أحد قط إنه "ماهوند"، أستغفر الله. بل الماهوند هو من يطلق عليه هذا اللفظ الحقير مثله، أو يسوغه محاولا الضحك على ذقون القراء. وبالمناسبة لم نسمعه عليه السلام يوجه شيئا من هذه الألفاظ بحيث تصبح مبعثا للحمد بدلا من الذم كأن يقول مثلا: نعم أنا شاعر أشعر ببؤس الفقراء واليتامى والمساكين وشقائهم وأبحث لهم عن حلول تصيّرهم بشرا سعداء. أو نعم، أنا كاهن أكهن لكم المستقبل وأعرفكم بما ينتظركم فى غيبه من عز ومجد وازدهار إذا اتبعتم ما جئتكم به لتفوزوا وتكون أيامكم القادمة خيرا عميما وبركة شاملة. بل رفضها القرآن تماما، ورد عليها وفندها وبين سخفها وكذّب من يدعيها على الرسول. أى أن السفسطة التى يسفسط بها رشدى والعظم ليس لها محل إلا فى الدماغ الخرب والذوق الفاسد والضمير المنحط. وحتى حين كان يقول البعض عنه: "مُذَمَّم" لم يحاول أن ينتحل هذا اللفظ ثم يحوله من معناه السىء إلى معنى جيد قط، بل قال إنه "محمد" لا "مذمم". فكَوْنُ رشدى يستعير اسم "ماهوند" من أوربا العصور الوسطى ليضعه على لسان القرشيين، الذين لم يفكروا يوما فى وصف محمد به، إنما يدل على قلة أدبه وبذاءة عقله ولسانه، وإن حاول أن يضحك على قرائه من المسلمين بالتوجيه المهترئ الذى وجهه به وانبرى العظم كاره الإسلام وراميه بأبشع التهم ومصوره بأنه خرافات وأساطير وأفكار متخلفة ينبغى استبدالها بالثقافة الحديثة الأوربية ليبرر له ما سفسط به. وصدق من قال: الطيور على أشكالها تقع.
    وانطلاقا مما قلناه عن تطاول بعض الكفار على رسول الله فى مكة ننتقل إلى ما قاله صادق جلال العظم عن ذلك اللقب المسىء إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مثال آخر على الهراء الذى يهرف به فى سفسطة سمجة: "على صعيد آخر توجد فى التراث روايات تشير، على ما يبدو، إلى أن محمدا لم يكن اسم النبى الأصلى أو الأول، بل ظهر الاسم فى سياق الإهانات التى كانت توجهها إليه قريش مسمية إياه: "مذمما". وهناك حديث رفعه البخارى إلى أبى هريرة عن النبى مباشرة يقول: "ياعباد الله، انظروا كيفَ يصرفُ اللَّهُ عنِّي شَتمَ قُرَيْشٍ ولعنَهُم. إنَّهم يشتمونَ مُذمَّمًا، ويلعنونَ مُذمَّمًا، وأنا محمَّدٌ". أى "سَجِّلْ! أنا محمد". وتذكر رواية أخرى أن عبد الله بن الزبير سمى محمدا ابن الحنفية: "مذمما" لرفض الأخير مبايعته سنة 66هـ".
    والآن بالله عليكم، أيها العقلاء، هل يمكن أن يخطر فى أى ذهن سليم أن هذا الرد من سيدنا رسول الله معناه أنه لم يكن يسمَّى قبله: محمدا، بل اخترع هذا الاسم فى التو واللحظة ردا على المشركين؟ المنطق يقول إنهم قد أرادوا الإساءة إليه بقلب اسمه من "مُحَمَّد" إلى "مُذَمَّم"، الذى هو على وزنه عروضًا، وعلى عكسه معنًى مثلما قلب المسلمون اسم "أبو الحكم" إلى "أبو جهل" مثلا. وأنت، يا عظم، تقول إن الضعفاء يتخذون المعايب التى يرميهم بهم الأقوياء أسماء لهم ويقلبونها إلى معنى المدح والافتخار. فما الذى جعلك هنا تقول إن الرسول قد نفر من تسمية المشركين له بـ"مذمم"؟ ألم يكن المفروض أن يقبل تلك التسمية المسيئة ويقلب معناها إلى شىء طيب؟ واضح أنك من الذين يحلونه عاما، ويحرمونه عاما، ولست من الكتاب النزهاء المستقيمى الضمير. ثم هل يمكن أن يكون للنبى اسم آخر قبل محمد هو اسمه الأصلى ولا يذكر ذلك أحد من أعدائه المشركين واليهود والمنافقين والنصارى ومسيلمة وأمثاله من المتنبئين الكاذبين وتابعيهم أو كتاب الرومان مثلا؟ لقد أوردت لنا الأحاديث عددا من أسماء الصحابة والصحابيات التى غيرها النبى لسبب أو لآخر، ولم يحاول أحد أن يكتم هذه الأخبار، فلم يعتِّمون يا ترى على حادثة تغيير النبى اسمه لو كان له اسم سابق؟ وما هو هذا الاسم يا ترى؟
    لقد جهد صادق العظم فى الدفاع عن رشدى ورد الاتهام الذى يرشقه به من كتبوا عن كتابه: "الآيات الشيطانية" من أنه إنما يردد مقولات المستشرقين ضد الإسلام ونبيه مثلما فعل فى هذه النقطة هشام جعيط، الذى زعم أن اسم النبى الحقيقى هو قُثَم، لكنه قام بتغييره فى المرحلة المدنية إلى محمد حتى يطابق ما فى الكتاب المقدس من نبوءات عن رسول اسمه محمد، ناسيا أن ذلك لو كان حدث لحولها أعداء النبى من أهل الكتاب فضيحة تقضى عليه وعلى دينه قضاء مبرما، وهو ما رددت عليه فى الفصلين الخاصين بهشام جعيط من كتابى: "أفكار مارقة". ومع ما أجهد صادق العظم به نفسه فى الدفاع عن سلمان رشدى فها هو هذا يردد آراء بعض المستشرقين الشديدى التعصب من أن اسم النبى الأصلى لم يكن محمدا.
    ويمضى العظم مستشهدا ببيت لعلى بن أبى طالب هو البيت الأخير من البيتين التاليين:
    لَقَد أَكرَمَ اللَهُ النَبِيَّ مُحَمَّدا فَأَكرَمُ خَلْقِ اللَهِ في الناسِ أَحْمَدُ
    وَشَقَّ لَهُ مِنْ إِسْمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذو العَرشِ مَحْمودٌ وَهَذا مُحَمَّدُ
    بوصفه دليلا على أن اسم النبى لم يكن محمدا فى الأصل، بل الله هو الذى سماه هذه التسمية. وأود أن أبين للقارئ أن صياغة البيتين، فى إحساسى، لا تنتمى إلى تلك الفترة الفحلة: فالمعنى ركيك، إذ هل يعقل أن يقول الشاعر فى أول البيت الأول إن الله قد أكرم نبيه محمدا، ثم يختم البيت بأن اسمه أحمد؟ كذلك هل يمكن أن يقع شاعر فى ذلك الوقت المبكر من تاريخ الشعر العربى فى قطع همزة "اسم"، فيقول: "إسمه"؟ ولنفترض أن البيتين صحيحا النسبة لعلى بن أبى طالب فهل من اللازم أن يقصد إلى القول بأن النبى كان يسمى فى البداية: "أحمد" ثم سماه الله بعد ذلك: "محمدا"؟ فأين يا ترى، فى القرآن أو فى الحديث، أن الله قد غير اسمه صلى الله عليه وسلم من "أحمد" إلى "محمد"؟ ولم لا نقول إن ابن أبى طالب إنما يقصد أن الله سبحانه قد شاء أن يسمَّى منذ البداية: "محمدا" لا أن يسميه هو بنفسه ذلك؟ إن كل شىء يصنعه البشر فهو فى نظر المؤمن فعل الله: "وما رَمَيْتَ إذ رميتَ، ولكن الله رمى"، "والله خلقكم وما تعملون"، "وخلق كل شىء فقدَّره تقديرا"... وهذا لو كان البيت (أو البيتان) لعلى، إلا أن هناك من ينسبهما إلى أبى طالب نفسه، وأبو طالب مات دون أن يعلن إيمانه برسالة ابن أخيه، فكيف ينظم مثل ذينك البيتين المؤمنين القوييى الإيمان؟ علاوة على أن اشتقاق اسم ما من اسم "محمود" ليس شرطا أن يكون "محمدا" بل يمكن أيضا أن يكون "أحمد"، الذى كان هو اسم النبى حسب البيت الأول من البيتين موضع المناقشة. ثم هل يمكن أن يقال، وبالذات فى ذلك العصر المبكر من تاريخ الإسلام، إن الله أراد أن يجل النبى؟ الإجلال إنما يكون لله من البشر لا منه لهم.
    كما استشهد صادق العظم بشطر بيت لحسان على أن اسم "محمد" إنما أطلقه الأنصار على النبى عليه الصلاة والسلام بما يعنى أنه ليس اسمه الأصلى بل اسما حدث بعد أن لم يكن، أطلقه عليه الأنصار عندما هاجر إليهم. وهذا الشطر هو: "وألبسناه اسمًا مَضَى ما لَهُ مِثْلُ". وهذه رواية "السيرة النبوية" لابن هشام. فهل قال أحد فى الدنيا إن الأنصار هم الذين سموا النبى محمدا بهذا الاسم؟ فمتى كان ذلك يا ترى؟ وأين؟ ومن ذا الذى سماه منهم بذلك؟ على أن رواية البيت التى فى الديوان شىء آخر حسبما يجده القراء فى الأبيات التالية التى نقلناها من ديوان الشاعر بطبعاته المتعددة: طبعة المحمدية عام 1281هـ، وطبعة السعادة 1331هـ، وطبعة هرشفيلد، وطبعة عبد الرحمن البرقوقى، وطبعة سيد حنفى، وطبعة وليد عرفات جميعا:
    كُنّا مُلُوكَ الناسِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ فَلَمّا أَتَى الإِسْلامُ كانَ لَنَا الفَضْلُ
    وَأَكرَمَنا اللَّهُ الَّذي لَيْسَ غَيْرَهُ إِلَهٌ بِأََيّامٍ مَضَتْ ما لَهَا شَكْلُ
    بِنَصْرِ الإِلَهِ وَالنَبِيِّ وَدِينِهِ وَأَكْرَمَنا بِاِسْمٍ مَضَى ما لَهُ مِثْلُ
    أولَئِكَ قَوْمي خَيْرُ قَوْمٍ بِأَسْرِهِم فَما عُدَّ مِن خَيْرٍ فَقَوْمِي لَهُ أَهْلُ
    ومعناه أن الله سبحانه وتعالى قد أكرم قوم الشاعر، ضمن ما أكرمهم به، بتسميتهم بهذا الاسم الكريم: اسم "الأنصار"، وهو ما يرشِّح له كلامُه فى الشطر الأول عن نصرة قومه للدين وللنبى عليه الصلاة والسلام. ولنفترض أن الرواية التى أوردها العظم هى الرواية الصحيحة فالمعنى هو أن الله قد ألبسَنا (أى ألبس الأنصار) اسما مضى ما له مثل. والفرق بين المعنيين هو أن العظم ينطق الفعل: "ألبسناه" بتسكين السين، بينما هو مفتوحها بما يعنى أن الله قد ألبسَنا اسما، لا أننا نحن الذين ألبسْنا النبى محمدا اسما، وهو ما لا يعرفه التاريخ. ثم يتصور صادق العظم رغم ذلك أنه عالم نحرير، وابن بجدتها! فانظر كيف لا يستطيع العظم قراءة مثل هذا النص الصغير قراءة صحيحة البتة، وكيف لا يستطيع أن يحقق ما يقرؤه ويعرف أين يجد النصوص المطلوبة. إنه يخبط خبط عشواء، ثم يريد منا أن نعده كاتبا ليس له من ضريع.
    كذلك فسُنَّة الإسلام تجرى على عكس السُّنَّة التى ذكرها الكاتب، إذ كان النبى عليه الصلاة والسلام، كلما لقى شخصا يتسمى باسم معيب، قام بتغيير الاسم إلى اسم جميل أو مقبول، كما هو الحال مثلا حين غير اسم "عاصية" (إحدى زوجات عمر بن الخطاب) إلى "جميلة"، و"عبد العزى" إلى "عبد الله": فمن رواية بسر بن عبيد الله: "كانت تحت عمر بن الخطاب امرأة تسمى: عاصية، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: جميلة. وكانت امرأة جميلة، وكان عمر يحبها، فكان إذا خرج إلى صلاة مشت معه من فراشها إلى الباب. فإذا أراد الخروج قَبَّلَتْْه، ثم مضى، ورجعتْ إلى فراشها". ومن رواية عبد الله بن الحارث: "توُفِّيَ صاحبٌ لنا غريبًا فَكُنَّا على قبرِهِ أَنا وابنُ عمرَ وعبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو. وَكانَ اسمي: العاصِ، واسمُ ابنِ عمر:َ العاصِ، واسمُ ابنِ عمرٍو: العاص، فقالَ لَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: انزلوا وأقبروهُ، وأنتُمْ عَبيدُ اللَّهِ. فنزلنا فقبَرْنا أخانا وصعِدنا منَ القبرِ وقد أُبْدِلَت أسماؤُنا". ومن رواية سعيد بن المسيَّب "أنَّ جَدَّه حَزْنًا قدِم على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال : ما اسمُك؟ قال: اسمي حَزْنٌ. قال: بل أنت سهلٌ. قال: ما أنا بمُغَيِّرٍ اسمًا سمَّانيه أبي. قال ابنُ المُسَيَّبِ: فما زالَتْ فينا الحُزُونَةُ بَعْدُ". وعن خيثمة بن عبد الرحمن "أنَّ أباه عبدَ الرَّحمنِ ذهب مع جدِّه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال له: ما اسمُ ابنِك؟ قال: عَزِيزٌ. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: لا تُسَمِّه: عَزِيزًا، ولكن سمِّه: عبدَ الرَّحمنِ. ثم قال: أحبُّ الأسماءِ إلى اللهِ عبدُ اللهِ وعبدُ الرَّحمنِ والحارثُ". وعن عبد الرحمن بن صفوان: "هاجر أبي صفوان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة فبايعه على الإسلام، فمد النبي صلى الله عليه وسلم إليه يده فمسح عليها، فقال له صفوان إني أحبك يا رسول الله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب. فكان صفوان بن قدامة حيث أتى دار الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة دعا قومه وبني أخيه ليخرجوا معه، فأبوا عليه، فخرج وتركهم، وخرج معه بابنيه عبد الرحمن وعبد الله، وكانت أسماؤهم في الجاهلية عبد العزى وعبد نهم، فغير أسماءهم النبي صلى الله عليه وسلم". ومن رواية عبد القيوم أبى عبيدة: "كنت مع أبي راشد الأزدي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي راشد: ما اسمك؟ قال: عبد العزى أبو معاوي. قال: لا ولكنك عبد الرحمن أبو راشد. قال: فمن هذا معك؟ قال: مولاي. قال: ما اسمه؟ قال: قيوم. قال: لا، ولكنه عبد القيوم أبو عبيدة". وعن عبد الرحمن بن سبرة: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ما اسمك؟ فقلت :عبد العزى. قال: بل أنت عبد الرحمن".
    وقد سمى الله تعالى نبيه: "محمدا"، فهل يسوغ لأحد أن يهجر هذا الاسم الجميل الذى سماه الله به إلى اسم "شيطان" أو "وحش" أو "صنم" أو "كلب"؟ الحق أن الصنم والوحش والشيطان والكلب إنما هو من يطلق عليه هذا الاسم. وهذا رسول الله يقول: "إنَّ لي أسماءً، وأنا محمَّدٌ، وأنا أحمدُ، وأنا الماحي الَّذي يمحو اللهُ بيَ الكُفرَ، وأنا الحاشرُ الَّذي يُحشَرُ النَّاسُ على قدَمي، وأنا العاقبُ الَّذي ليس بعدَهُ أحدٌ. وقد سمَّاهُ اللهُ: رءوفًا رحيمًا". فما المغزى من وراء هجران هذه الأسماء وإطلاق اسم "ماهوند" عليه صلى الله عليه وسلم، وبخاصة أننا نعلم ماذا يعنى "ماهوند"؟ ترى هل يصح ذوقا، ودعنا من العقيدة والدين، أن نسمى رسولنا الكريم اسما يعنى الشيطان والصنم؟ فلم لا نطلقه على من اختاره وعلى من دافع عن هذا الاختيار الشنيع؟ من الآن فصاعدا نستطيع أن نسمى كلا من سلمان رشدى وصادق العظم: "ما هوند"، أو بصريح العبارة: "شيطان" أو "كلب"... ولا أظن إلا أن كلا منهما سوف يرحب بذلك طبقا لفلسفته الغبراء! لقد كان الإسلام فتوحا متعددة فى عالم الحضارة والثقافة والذوق، وبالمثل كان فى عالم الأسماء فتحا لا يضاهَى، إذ رفض الأسماء القبيحة أو التى يشتم منها اعتقاد منحرف أو ذوق فاسد أو معنى كريه... وهكذا، ودعا إلى استبدالها بأخرى ليس فيها قبح ولا انحراف عقيدى ولا فساد ذوق. فلم يريد بعض المنتسبين إلى ذات الجنس الذى ننتسب إليه أن يرتدوا بنا على الأعقاب ظانين أنهم سوف ينجحون فى خداعنا وتنكيس أذواقنا والإساءة إلى نبينا الكريم بحجة أنهم إنما يريدون الأفضل؟ خسئوا وخسروا وخابوا!
    ثم هناك فى كتاب صادق العظم مسألة الغرانيق. ذلك أن سلمان رشدى قد وظف الرواية التى تقول إن النبى، حين كان يقرأ سورة "النجم" عقب نزولها من السماء، أدخل فيها الجملتين التاليتين عن اللات والعزى ومناة تألفا لقلوب المشركين، الذين لا يريدون أن يستمعوا إلى الدعوة الجديدة ولا يطيقون هجومها على أوثانهم. وقد انتقد المسلمون الغيورون على دينهم استعانة رشدى بتلك الرواية ورَأَوْا فيها رغبة من جانبه فى الإساة إلى الإسلام، فانبرى السيد صادق جلال العظم للدفاع عن رشدى وتسويغ ما صنعه من هذا الكيد الفاشل مطنطنا بأن هذه الرواية موجودة فى كتب التراث، ناقلا النص التالى عن تاريخ الطبرى ليدلل على أن رشدى لم يقصد شرا ولا أراد كيدا، بل كل ما فعل هو الاستشهاد بما كتبه الطبرى وأمثاله.
    ولنسمع أولا ماذا يقول: "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على صلاح قومه، محبا مقاربتهم بما وجد إليه السبيل، قد ذكر أنه تمنى السبيل إلى مقاربتهم، فكان من أمره في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تََوِّلَى قومه عنه، وشَقَّ عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه. وكان يسره، مع حبه لقومه وحرصه عليهم، أن يَلِين له بعض ما قد غَلُظ عليه من أمرهم حتى حدث بذلك نفسه وتمناه وأحبه، فأنزل الله عز وجل: "والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى". فلما انتهى إلى قوله: "أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى" ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به نفسه ويتمنى أن يأتي به قومه: "تلك الغرانيق العلا * وإن شفاعتهن لترتجى". فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطإ ولا وهم زلل. فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به، واتباعا لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد، إلا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخا كبيرا، فلم يستطع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها. ثم تفرق الناس من المسجد، وخرجت قريش، وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر. قد زعم فيما يتلو أنها الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن تُرْتَضَى. وبلغت السجدة مَنْ بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: أسلمت قريش، فنهض منهم رجال، وتخلف آخرون.
    وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ماذا صنعتَ؟ لقد تلوتَ على الناس ما لم آتِك به عن الله عز وجل، وقلتَ ما لم يُقَلْ لك! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك حزنا شديدا، وخاف من الله خوفا كثيرا، فأنزل الله عز وجل، وكان به رحيما، يعزيه ويخفض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يك قبله نبي ولا رسول تمنى كما تمنى ولا أحب كما أحب إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته. أي فإنما أنت كبعض الأنبياء والرسل. فأنزل الله عز وجل: "وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يُحْكِم اللهُ آياتِه والله عليمٌ حكيمٌ"، فأذهب الله عز وجل عن نبيه الحزن، وآمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم أنها الغرانيق العلا وأن شفاعتهن ترتضى. يقول الله عز وجل حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: "ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمةٌ ضِيَزى" أي عوجاء، "إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم... (إلى قولهنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي "لمن يشاء ويرضى". أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده؟ فلما جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله، فغيَّر ذلك وجاء بغيره.
    وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عله وسلم قد وقعا في فم كل مشرك، فازدادوا شرًّا إلى ما كانوا عليه، وشدةً على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم. وأقبل أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الذين خرجوا من أرض الحبشة لما بلغهم من إسلام أهل مكة حين سجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا دَنَوْا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوارٍ أو مستخفيًا...
    فلما أمسى أتاه جبرئيل عليه السلام فعرض عليه السورة. فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افتريتُ على الله، وقلتُ على الله ما لم يقل. فأوحى الله إليه: "وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره... (إلى قولهنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي"ثم لا تجد لك علينا نصيرا". فما زال مغموما مهموما حتى نزلت: "وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ... (إلى قولهنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي "والله عليمٌ حكيمٌ". قال: فسمع من كان بأرض الحبشة من المهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان...".
    وسلمان رشدى حين استعمل فى روايته حكاية الغرانيق، وصادق جلال العظم حين انبرى للدفاع عن رشدى، إنما يريدان إلى القول بأن محمدا، عليه الصلاة والسلام، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم لـه ولأتباعه، ومن ثم أقدم على تضمين سورة "النجم" تَيْنِك العبارتين عقب قوله تعالى: "أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى؟" على النحو التالى: "إنهنّ الغرانيق العُلا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى دعوته، بل لم يكن نبيا بالمرة، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه. بل إن العظم ليؤكد أن ولاء الرسول الأول كان لقومه لا لدينه. قالها بصريح العبارة مما لا يمكن تأويله، فهو ماركسى لا يؤمن بالإسلام ولا بأية غيبيات كالوحى وما أشبه زاعما أن هذا كله تخلف ورجعية. وأنا لا أناقشه فى هذا، فكل إنسن حر فيما يؤمن وفيما يكفر، لكنى أريد أن أنبه القراء إلى ضعف منطقه وتهافت حججه وعدم تبصره وعجزه عن التفكير المنهجى العلمى ومسارعته إلى ترديد كل ما يتصور أنه يضر الإسلام دون تمحيص أو تحقيق. ترى هل الطبرى معصوم؟ إن العظم، بالطريقة التى تناول بها هذا الموضوع، يومئ إلى أن محمدا فى تبليغه للوحى غير معصوم، أما الطبرى فى إيراد تك الحكاية فمعصوم ونصف. أقول هذا رغم معرفتى أن العظم لا يؤمن بوحى ولا بنبوة، لكنه التمادى مع الخصم إلى آخر شوطه. فهل ما قاله الطبرى فى هذه القضية هو مما اتفق عليه العلماء؟
    وكيف يكون معنى قوله تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يُحْكِم اللهُ آياتِه والله عليمٌ حكيمٌ" هو قراءته فى القرآن ما ليس من القرآن، بما يفيد أنه عليه الصلاة والسلام قرأ فعلا جملتى الغرانيق وأدخلهما فى القرآن، وأنه قد افترى على الله ما لم يُوحِهِ إليه طبقا لكلامه هو عن نفسه فيما مضى من الحكاية السابقة، والله ذاته يقول فى الآيات 73- 75 من سورة "الإسراء": "وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا" التى استشهدت بها رواية الطبرى على أنه قد دخل القرآن على لسان النبى ما ليس من الوحى، بما يفيد أنه قد افترى على الله وركن إلى الكفار، فى الوقت الذى يقول القرآن فيه إنه لو كان افترى على الله شيئا لأذاقه من العذاب ضعف الحياة وضعف الممات دون أن يجد من ينصره من الله، مع أن هذه الآيات نفسها تقول بأجلى بيان إن الله قد ثبته فلم يكد يركن إليهم، فضلا عن أنه سبحانه لم يعذب نبيه؟ ومرة أخرى كيف سكت كل أعداء النبى فلم يستغلوا هذه الآيات المتناقضة؟ بل كيف وقف المسلمون هم أيضا ساكتين فلم تعرض لبعضهم الشكوك والحيرة؟ ثم يظن العظم أنه كاتب لم يخلق الله مثله بين العباد!
    إن هذه الحكاية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين والملاحدة وأمثالهم أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبلة، مع أن أقل نظرة فى سورة "النجم" أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو! وقد أقدم بلاشير فى ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم على شىء بلغ الغاية فى الشذوذ والخيانة العلمية، ألا وهو إثبات هاتين الآيتين المدَّعَاتَيْن فى نص ترجمته لسورة "النجم" بزعمهما آيتين قرآنيتين كانتا موجودتين فيها يوما. ولنبدأ بالنظر فى أول السورة حيث نقرأ: "وما ينطق عن الهوى"، و"ما زاغ البصر وما طغى". فكيف فات الطبرى المؤمن بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام أن الحكاية الظريفة التى أوردها هى مما يتناقض تناقضا أبلق مع تينك الآيتين؟ أليستا تقولان إن محمدا لا يمكن أن ينطق عن الهوى، وإنه قد أدى ما رآه وسمعه دون زيادة أو نقصان بعيدا تماما عن الوهم؟ فهذا هو صادق العظم، بناء على تلك الرواية السخيفة، يقول إن ولاء الرسول الأول كان لقومه لا للإسلام، وأن ولاءه هذا، أو فلنقل: هواه، قد جعله ينطق بما ليس قرآنا. وأنا هنا لا يهمنى العظم فى قُلٍّ أو كُثْرٍ، فهو وما أداه إليه عقله من الإيمان بما يشاء، لا يستطيع أحد أن يتدخل فيما بينه وبين ضميره. لكن هذا لا يعنى أن نتركه يهرف بما لا يحسن دون أن ننكر عليه ونفضح عجزه ونمزق هراءه الذى يضحك به على الذقون محاولا أن يخيل للقراء أنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل الذى يهمنى هو الطبرى. فكيف فات الطبرى أنه بذلك يناقض نفسه ويخالف ما جاء به القرآن الكريم فى حق الرسول وتبليغه آيات الوحى السماوى؟ وهذا إن كان الطبرى يصدق تلك الحكاية على ما يريد العظم أن يوهمنا، وهو ما تقوم دونه أسداد وأسداد، إذ من المعروف أن الطبرى إنما يورد كل ما وصله من روايات يضعها بين يدى القارئ ويخلى بينه وبينها، ولا يعنى أبدا أنه يؤمن بما فيها بالضرورة.
    والحق أن من الممكن أن يكون المعنى هو أن الشيطان قد ألقى فى القرآن الذى قرأه الرسول على المشركين بعضا من ألفاظه الكفرية على لسان الحاضرين من أعداء الإسلام كما سوف يأتى بيانه، فسارع الرسول إلى تبيان الحق فلم يبال أى مسلم ممن كانوا حاضرين آنذاك بشىء مما ردده رقعاء المشركين من الثناء على اللات والعزى ومناة ردًّا على هجوم سورة "النجم" عليها، وكأنه لم يكن، وهذا معنى أن الله ينسخ ما يلقى الشيطان ثم يُحْكِم الله آياته. أو ربما كان معنى الـتمنى هو أن النبى كان يتمنى ألا يكون الوحى بهذا العنف فى مهاجمة الكفار حتى يمكن استلانة قلوبهم حسب ظنه، إلا أن الله سرعان ما ثبت قلب رسوله على الحق الناصع المستقيم ونفى عن قلبه هذا التطلع العارض الذى لا يترك أثرا لا فى النفس ولا فى التصرفات. إن من يقول لعمه، حين أتاه وفد قريش يلحون عليه أن يُسْكِت عنهم وعن أصنامهم ابن أخيه فينزل العم على إلحاحهم ويعرض على ابن الأخ شيئا من المهادنة، فيقول له: "والله يا عم لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر أو أهلك فيه ما تركته" لا يمكن البتة أن يركن إلى الكفار ويردد مثل هذا الكلام الكُفْرِىّ الذى يضرب دعوته فى الصميم ضربة من شأنها أن تُسْمَع آثارها فى جميع أرجاء الجزيرة العربية وخارج الجزيرة العربية لو كانت قد حصلت.
    هذا بالنسبة إلى الطبرى، أما بالنسبة إلى التفكير المجرد فسواء صدقنا بالوحى السماوى أو لا فإن تينك الجملتين لا تنتميان إلى أسلوب القرآن، أى ليست منه: فإن كان القرآن من عند محمد فإن الجملتين اللتين قالهما محمد ليستا من ذلك الأسلوب. وإن كان القرآن وحيا من الله فإنه قد قال لنا إن محمدا لا يمكن أن ينطق عن الهوى، ومن ثم لا يمكن أن ينطق بهما أبدا حتى لو انطبقت السماء على الأرض. أما كيف نستطيع أن نحكم على مدى تناغم الجملتين وبقية آيات القرآن فلسوف أبين ذلك للقارئ بالتفصيل بعد قليل. ولا أظن أحدا يمكن أن يطرح الاحتمال الثالث، وهو أن الله هو الذى أنزل هاتين العبارتين ثم عاد فحذفهما. ولو افترضنا أن أحدا قد فقد رشده وقال ذلك فالرد بسيط، وهو أن الأسلوبين مختلفان تمام الاختلاف، مما لا يمكن معه أن يكون الأمر صحيحا. أى أن الحكاية السخيفة الخاصة بجملتى الغرانيق هى حكاية خرافية من أولها إلى يائها.
    وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية. والحقيقة إن النظر فى سورة "النجم" ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة؟ هل يعقل أن تبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى: " ألكم الذَّكَر وله الأنثى؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى"؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره! كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه لـه ولدعوته. ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل! ليس ذلك فحسب، إذ ليس من المظنون بتاتا أن يقف المشركون صامتين خُرْسًا أمام هذه الخديعة التى خدعهم محمد إياها حين مدح آلهتهم ثم لم يشأ أن يتركهم يهنأون بهذا المدح سوى سويعات أو دقائق، فأين شعر الشعراء المشركين أو اليهود أو النصارى؟ وأين المنافقون واليهود اليثربيون فلم يحاولوا أن يحاربوا النبى وأتباعه بهذه الفضيحة؟ هل من المعقول أن ينزل سهم الله على الجميع المتربصين الحاقدين الذين لا يمكن أن يجدوا سلاحا أفعل من هذا السلاح لتفويقه إلى عنق الإسلام ليقتلوه، فإذا بهم يصمتون تماما ولا يفتحون لهم فما بكلمة؟
    وقد ذكر سلمان رشدى فى روايته المسيئة أن خالد بين الوليد، الذى تضطرب الرواية فتجعل إسلامه فى المرحلة المكية، قد بدأ يشك هو وبعض المسلمين فى أمر النبى عليه السلام، وإن كان قد ظهر لهم أن النبى كان أبعد منهم نظرا. كما تزعم الرواية أن سلمان كان يكتب الوحى للرسول، لكنه اكتشف عدم إخلاصه فى دعواه النبوة، إذ كان يضع القواعد والقوانين أولا ثم يأتى جبريل فيوافق عليها، ليكون هو أول من يكسرها. وكان تعليق سلمان على هذا قوله إن الذى يكون قريبا من الحاوى يسهل عليه اكتشاف أخاديعه. ويمضى سلمان فى الرواية فيسخر من الإسلام وتشريعاته قائلا إن هذه التشريعات لم تترك شيئا إلا قعَّدَتْه وقنَّنته بما فيها الفُسَاء وما ينبغى للمسلم أن يفعله إذا فسا، وكيف أن الإسلام يحرم أن تعلو المرأة الرجل أثناء الجماع، كما يحرم هرش مواضع بعينها من الجسم مهما تكن دواعى الهرش. ويزعم الكاتب أن سلمان قد سكت فى البداية على خداع محمد لأن الخطر الجاهلى كان محدقا بهم. كما تشير الرواية إلى أن من بين الأسباب القوية التى دفعت بسلمان بعيدا عن النبى والإسلام اتخاذ النبى عددا من الزوجات أكبر من العدد الذى حدده القرآن للمسلمين، استرضاه النبى بالصفقة التى ساومه عليها الجاهليون، وهى أن يذكر اللات والعزى ومناة بخير فى القرآن مقابل اعتراف أهل الجاهلية بالمسلمين وضمهم إياه إلى دار الندوة ليصبح عضوا فى مجلس المدينة.
    وكما افترى رشدى على سليمان الفارسى الأكاذيب افتراها أيضا على هند بنت عتبة زوجة أبى سفيان، الذى سماه رشدى: كريم أبو سمبل، والذى كان يتهم بعلا الشاعر الشاب الهجّاء بأنه "ينيـ..." زوجته هندا، التى تقول الرواية عنها إنها نامت مع كل كتّاب الجاهلية، أى مكة، وإن لم يعد ينام معها منذ وقت طويل. ويقول الكاتب إنه، بسبب شبابها الدائم، قد غفر الناس لها عهرها وثراءها الخرافى وسحقها لثورة الجياع عن طريق شرطتها، مستوحيا فى رسم شخصيتها صورة إميلدا ماركوس. بل إنه يجعلها ساحرة تحول الرجال الذين لا ينحنون أمام هودجها إلى ثعابين، وتمسكهم من ذيولهم وتطبخهم وتتعشى بهم. وفى مشهد آخر نرى النبى عليه الصلاة والسلام فى الفراش عاريا تغطيه ملاءات السرير فى بيت هند، وحين بدى استغرابه تقول له إنها قد التقطته بعدما سقط فى شوارع "الجاهلية" كما يسقط السكران فى بالوعة المجارى. وكان "قد قضى يوما شاقا فى الصعود إلى الغار والهبوط منه، وفى محاولة تسكين ثورة أتباعه على قبوله صفقة "الجاهليين" ومدحه أصنامهم فى القرآن. ونراها تحاول أن تطعمه قطع الشمام فى فمه، ولكنه يأخذها منها ويأكلها بنفسه. فتمد يدها فى جيب جلبابه وتداعبه فى صدره مبدية استهانتها بزوجها، وتصارحه بأنها تتخذ العشاق بعلم هذا الزوج. ونسمعها تقول له إن إلهه إذا كان قد رضى واعترف بآلهتها الثلاث: اللات والعزة ومناة فإنهن لا يرضَيْنَ أن يكنَّ بناته بل أندادا له.
    وعند فتح مكة تأتى هند إلى الرسول منتقبة، وترتمى عند قدميه ناطقة بالشهادتين، وتقبل أصابعهما إصبعا إصبعا، وعقلة عقلة، وتلعقها وتمصها فى شبق، والرسول يصيح بها: كَفَى! هذا خطأ، فالعبادة لا تصح إلا لله. ثم يعفو عنها الرسول وهوشارد، وإن كان قد أحس بالسخرية فى هذه القبلات. وبعد الفتح تجلس هند فى عِلِّيَّة بقصرها زمنا طويلا تتفرغ فيه لكتب السحر، ثم تخرج من عزلتها داعية زوجها إلى الاحتفال معها بالانتقام من ماهوند. ثم يسقط ماهوند مريضا، فيتساءل وهو فوق صدر عائشة، وبصره ناحية المصباح: من هناك؟ أهذا أنت يا عزرائيل؟ فتسمع عائشة صوتا نسائيا جميلا لكنه فظيع: لا يا رسول الله، لست بعزرائيل. ثم ينطفئ المصباح، فيقول ماهوند: وهل هذا المرض منك أيتها اللات؟ فترد: إنه انتقامى منك، وأنا سعيدة بذلك. فليعقروا لك جملا ويضعوه فوق قبرك... وهذا يعنى، كما هو واضح، انتصار الوثنية على الإسلام.
    نعم من الواضح أن رشدى يريد أن يبث فى رُوعنا أن الوثنية قد انتصرت فى النهاية على الإسلام: فها نحن أولاء نرى من يأكلون الخنزير، ومن يشربون الخمر، ومن يعبدون اللات والعزى، ومن يقصدون ماخور "الحجاب" لممارسة الدعارة حيث تسكن اثنتا عشر بغيا: عائشة وحفصة وزينب وسودة... إلى آخر أسماء زوجات النبى وصفاتهن، إذ فسر المؤلفُ المجرمُ مطابقةَ أسماء البغايا مع أسماء أمهات المؤمنين بوصفها رد فعل من سكان "الجاهلية" على أمر ماهوند لزوجاته بالتحجب والتخفى عن عيون الرجال. ويقضى عاهرات الحجاب وقتهن فى مداعبة بعل حتى تثور شهوته، ويتزوجن فى النهاية منه زواجا صوريا مشترطات عليه أن يمر كل ليلة على واحدة منهن، ثم يطالبنه بأن يتسمى هو أيضا بـ"محمد" ما دمن قد تسمَّيْن بأسماء زوجاته. وهناك عاهرة منهن اسمها زينب يقصدها الشواذ المبتلَوْن بالرغبة فى مضاجعة النسوة الميِّتات، تلك العملية التى كانت هذه البغى تزاولها مع قصادها بالتزام الصمت والسكون التامين أثناء الجماع، فكأنهم يجامعون امرأة ميتة. وهذه بعضٌ فقط من القاذورات التى يحتوى عليها صندوق زبالة لرواية، ليأتى صادق بن جلال بن العظم فيزعم أنها تخلو من الإساءة إلى الإسلام ويحمل على من ينتقدون مؤلفها الشاذ: الشاذ فى عقله وفى غير عقله. صدق من قال: من لم ير من ثقوب الغربال يكن أعمى!
    أما من الناحية الأسلوبية التى وعدت القارئ بها فإن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله، وهو مالم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى: "وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى". فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة "ر ج و" على صيغة "افتعل". أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو: "وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى"، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات، لم تقع فى أى منها على "الشفاعة"، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية: "تنفع، تغنى، يملك".
    كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه: "أ(فـ)ـرأيتم...؟"، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية: "قل: أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون؟" (يونس/ 50)، "قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما، قل: آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون؟" ( يونس/ 59)، "قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين" (الأحقاف/ 10)، "أفرأيتم الماء الذى تشربون؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا، فلولا تشكرون" (الواقعة/ 68 – 70). فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة "النجم" بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة "شفاعة" فى القرآن الكريم ( فى حال مجيئها مضافة) إلا إلى الضمير "هم" على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ".
    وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من "إنّ (وهى مؤكِّدة كما نعرف) + ضمير (اسمها) + اسم معرّف بالألف واللام (خبرها)"، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ"ذات عاقلة" فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم (وهى تبلغ العشرات) إلا مع زيادة التأكيد لاسم "إنّ" بضميرٍ مثله كما فى الأمثلة التالية: "ألا إنهم هم المفسدون/ ألا إنهم هم السفهاء/ إنه هو التواب الرحيم/ إنك أنت السميع العليم/ إنك أنت التواب الرحيم/ إنه هو السميع العليم/ إنه هو العليم الحكيم/ إنه هو الغفور الرحيم/ إنى أنا النذير المبين/ إنه هو السميع البصير/ إننى أنا الله/ إنك أنت الأعلى/ إنا لنحن الغالبون/ إنه هو العزيز الحكيم/ وإنا لنحن الصافّون/ وإنا لنحن المسبِّحون/ إنهم لهم المنصورون/ إنك أنت الوهاب/ إنه هو السميع البصير/ إنه هو العزيز الرحيم/ إنك أنت العزيز الكريم/ إنه هو الحكيم العليم/ إنه هو البَرّ الرحيم/ ألا إنهم هم الكاذبون/ فإن الله هو الغنى الحميد". أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم "إنّ" بضميرٍ مثله (وذلك فى قوله تعالى: "إنه الحق من ربك"/ هود/ 17) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة، إذ الكلام فيها عن القرآن. ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها "ذواتٍ عاقلةً" ما داموا يعتقدون أنها آلهة. وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم.
    مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن، وليس القرآن منهما، فى قليل أو كثير، سواء قلنا إن القرآن وحى سماوى من عند الله أو سايرنا الملاحدة الكافرين وقلنا إنه تأليف محمد بن عبد الله. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة "الغرانيق" قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام. وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية.
    ولقد قرأت فى كتاب "الأصنام" لابن الكلبى أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على فى كتابه القيم: "The Spirit of Islam" من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع ، إذ يرى أن النبى، عندما كان يقرأ سورة "النجم" وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ. وما قاله أمير علىّ وجيه غاية الوجاهة ومقنع تماما، فقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة (فُصِّلَتْ/ 26). إذن فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب. ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة كنت من شهودها، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان. وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة: " إن ما بينى وبينك عميق! "، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا: "فعلا! عميقٌ لا يُعْبَر". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه! ومن ذلك أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة، إذ كان،كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن "وراء كل عظيم امرأة"، يجيبهن مرة: "طبعا وراءه لا أمامه، فهو صاحب الصدارة والتفوق، أما هى فتابعة لـه"، ومرة: "فعلا وراءه، والزمان طويل"، ومرة: "وراءه مسوِّدة عيشته"... وهكذا.
    كذلك حاول د. العظم بكل سبيل ووسيلة أن يدافع عن سلمان رشدى ضد الغاضبين من تطاوله على الدين وعلى الرسول عليه الصلاة والسلام زاعما أنه لم يسئ إلى الإسلام فى شىء. وهذا، والحق يقال، بجاحة تتخطى الحدود، فرواية رشدى مفعمة بل تطفح بألوان الأذى والعدوان والكذب والتهكم بكل شىء فى دين الله: فمن هذا قوله إن النبىقد وجد فى خديجة الأم والأخت والحبيبة والعرّافة والصديقة، مع أن بيت الرسول كان أبعد ما يكون عن العِرَافة والكهانة، كما كان عليه الصلاة والسلام يكره الكهان والعرافين، ويعلن دائما أنه لا يعلم الغيب
    ومما دافع به صادق العظم عن رشدى وروايته ضد من هاجموهما من الكتاب المسلمين، الذين كنت واحدا منهم إذ وضعت كتابا عن الرواية فى مائتين وخمسين صفحة بغدما فليتها تفلية وأرهقتنى إرهاقا شديدا بسبب طبيعتها الغرائبية والأسطورية وتداخل الشخصيات والوقائع والعصور والنصوص والبلاد والأجناس فيها تداخلا مزعجا، إضافة إلى لغتها المعقدة التى حللتها كما لم يحللها أحد ممن كتب عنها من العرب حسب علمى وأشرت إلى هذا الجانب منها مبينا كيف أن رشدى يعلم من خبايا الإنجليزية ودقائقها وزواياها المظلمة وتعبيراتها البذيئة ويقدر على التعامل مع محسناتها البديعية كما لا يقدر غيره من الإنجليز الصميمين، فحسب د. صفاء خلوصى، فى مقاله الذى كتبه عن الكتاب فى مجلة "العرب" اللندنية" فى أوائل تسعينات القرن الماضى، أننى أقصد حلاوة أسلوب رشدى، بينما أنا أقصد شيئا آخر كما هو واضح من كلامى هنا، أقول: مما دافع به صادق العظم عن رشدى وروايته ضد من هاجموهما من الكتاب المسلمين تقريعهم على أنهم، حسبما قال متعالما، لم يلتفتوا إلى شىء هام جدا التفت عو بعبقريته الفريدة إليه، وهو أن رواية رشدى تنتمى إلى تيار فى الكتاب والأدب قديم يتمثل فى معارضة المقدس. ثم راح يتسعرض بعض أمثلة من تلك الكتابات فى تراثنا. ولست أعارضه فيما قال، لكنى لا أرى أنه قد جاء بالذئب من ذيله، فكلنا نعلم هذا، ويكفى أن نشير إلى الشعر القرشى واليهودى فى هجاء الإسلام ورسوله منذ اللحظات الأولى من تاريخ الدعوة المحمدية كما هو الحال فى أشعار عبد الله بن الزِّبَعْرَى وسفيان بن الحارث فى مكة، وكعب بن الأشرف فى المدينة مثلا، وما كان الكفار يلجأون إليه من صرف القلوب والأسماع عن الإنصات إلى الوحى الذى يتلوه النبى على الناس فور تلقيه إياه، إذ كانوا يحدثون من اللغو واللغط ما يصرف الناس عن التنبه إلى ما يقوله النبى عليه الصلاة والسلام، كما كان النضر بن الحارث يتتبع الرسول أينما ذهب بحيث إذا جلس إلى قوم يدعوه إلى الإسلام فتح هو كتابا من أقاصيص فارس وملوكها وقادتها وشرع يقرأ عليهم منه مما أشارت إليه آيات القرآن فى سورتى "فُصِّلَتْ" و"لقمان" على الترتيب، فضلا عما كان المتنبئون الكذابون فى أواخر حياة الرسول يزيفونه من الآيات التى يريدون إيهام أتباعهم أنها تتنزل عليهم من السماء كما يتنزل القرآن على محمد.
    إلا أننى لا أتفق معه مثلا فى التصديق بما ينسب للوليد بن يزيد من كفريات شعرية تتحدى الله وتستهزئ بالمصحف الشريف وتحكى كيف كان يفوِّق إليه السهام وقد علقه على الحائط طالبا منه أن يخبر الله يوم القيامة بأن الوليد هو الذى مزقه وأهانه... وما إلى هذا. ومن الممكن أن يكون الرجل خفيف الدين، بيد إنه لمن الصعب علىَّ القبول بأن هذه الأشعار من نظمه حتى لو ثبت أنه كان زائغ العقيدة فعلا، إذ من المستحيل أن ينظم الرجل مثل تلك الأشعار، ثم يتنصت التاريخ مرهفا أذنيه لعل إنسانا يعترض أو يرد عليه شعره هذا بشعر مثله أو برسالة أو بكتاب أو بخطبة أو تنتقض عليه جماعة محاربة تخرج على الدولة فلا يسمع التاريخ شيئا، وكأن المسلمين قد نَسُوا غيرتهم على إسلامهم تمام النسيان. فهل يعقل هذا عاقل أو بلا عقل؟ لا إخال. وهل كان الوليد مجنونا حتى يُقْدِم على نظم تلك الأشعار الكافرة دون تحسب للنكير عليه والتمرد على سلطانه؟ أتصور أن بعض أفراد البيت المروانى هم صانعو تلك الأشعار أو مكلفو بعض الشعراء بنظمها وناحلوها الرجل لتحطيم خصمهم الجالس فى دست الحكم توصلا إلى إزاحته والحلول محله، أو لعل بعض الشعراء الرقيقى الدين أو الملحدين الزنادقة هم الذين فعلوا هذا متخفين وراء ظهر خليفة أموى مثله اشتهر صدقا أو كذبا بضعف الوازع الدينى، أو من الممكن أن يكون أعداء الأمويين وراء هذه الأشعار زيادة فى تشويه صورتهم. وواضح أننى لا أنفى أن يكون فى العصور الإسلامية الأولى من يُقْدِم على نظم مثل تلك الأشعار، إلا أننى أستبعد أن يكون صاحبها هو الوليد بن يزيد، الذى لا أنفى بالضرورة أن يكون رقيق الدين، لكن هذه نقرة أخرى. وفى كتابه: "العصر الإسلامى" نجد د. شوقى ضيف، رغم حديثه عن شغف الوليد باللهو والقصف والصيد وتأكيده لبراعته فى شعر الخمر والمجون، لا يميل إلى التصديق بصدور تلك الكفريات عن ذلك الخليفة الأموى، مرجعا أخبارها وأشعارها إلى الصراع داخل البيت المروانى على كرسى الخلافة.
    وبالمثل لا أوافق صادق العظم على اعتبار رسالة "مفاخرة الجوارى والغلمان" من باب "معارضة المقدس"، إذ الجاحظ لم يعارض فى أى من صفحاتها ولا فقراتها المقدس، ولا كان فى ذهنه شىء من هذا حين انبرى للكتابة فى ذلك الموضوع. كيف، وهو يتربع فى صدر المدافعين عن القرآن والإسلام مثلما نرى فى "الرد على اليهود" و"الرد على النصارى" و"نظم القرآن" و"آى القرآن" و"الرد على من ألحد فى كتاب الله عز وجل" و"دلائل النبوة"؟ ثم إنه يقول فى مقدمة تلك الرسالة ما نصه: "ونعوذ بالله أن نقول ما يُوتِغ ويُرْدِي، وإليه نرغب في التأييد والعصمة، ونسأله السلامة في الدِّين والدنيا برحمته" تبرؤا مسبقا مما يمكن أن يدور فى خَلَد إنسان من أنه إنما راغ الكتابة فى ذلك الموضوع خروجا على مقتضيات الخلق الكريم والتدين السليم. بل إنه ليعد التحرج فى ذلك المجال ضيقا فى الأفق وسطحية فى التدين. ومعروف أن الجاحظ من الكتاب الذين يحبون تقليب الأمور والنظر دائما إلى الشىء ونقيضه مؤمنين أنه ما من أمر إلا وله جانبان متقابلان، وأنه من تمام العلم بالأمر أن تراه من وجهيه بل من وجوهه جميعا.
    فنزعته العقلية إذن لا معارضة المقدس هى التى دفعت به إلى معالجة ذلك الموضوع امتدادا لما صنعه مع موضوعات أخرى قابل فيها بين وجهتى النظر المتعارضتين نحوها. بل إنه، حين يكتب مدافعا عن الدين، يجتهد فى عرض حجج الخصوم عرضا قويا قبل أن يكر عليها فينسفها. وهذا هو السبب الذى حدا بابن قتيبة وغيره إلى الظن السئ بأبى عمرو عثمان رحمه الله وبكتبه، إذ اتهمه بأنه، حين يعرض حجج خصوم الإسلام، يتوسع ويفصل، فإذا ما صار إلى الرد عليهم اختصر وتجوَّز. وهو ما لا أوافقه بوجه عام عليه من خلال معرفتى بمنهج الجاحظ فى معالجة تلك الموضوعات. والجاحظ، فى كتابه الذى نحن بصدده، حين يعرض وجهتى النظر فى الموضوع المذكور، إنما يعرض ما يقوله المغرمون بالجوارى والمغرمون بالغلمان. ولا شك أنه كان هناك فى ذلك الوقت من يتبنى كلا من الرأيين، فجاء الجاحظ فأدى ما يقوله كل من الفريقين كما هو. فإذا كان هناك سخرية فهى سخرية الجاحظ من كلا الفريقين، اللذين يتجادلان فى أى الحرامين هو الأفضل من الحرام الآخر. أما إذا كان لا بد من القول بأن هناك سخرية من المقدس ومعارضة له فهى من جانب أصحاب الجوارى وأصحاب الغلمان لا من جانبه هو.
    ولأمثال هؤلاء أقوال مسفسطة "تضحك الثكلى" كما كان أجدادنا العرب يقولون. من ذلك ما يقوله الحشاشون لمن ينصحهم بالإقلاع عنه، إذ يجيبون قائلين فى تلاعب ظريف بالكلمات: والله إن كان حراما فنحن نحرقه، وإن كان حلالا فنحن نشربه. ومن ذلك أيضا أننى، فى نهار رمضان منذ عدة سنوات، رأيت بياعا شابا يدخن وهو يبيع لى بعض الخضراوات. ولما كنت أشترى منه بين الحين والحين رأيت أن أداعبه لتدخينه علنا أمام الناس فقلت له: أيصح وأنت رجل ملء هدومك أن تدخن فى رمضان، وأمام الناس فى الظهر؟ فما كان من الشيطان إلا أن رد ردا أفحمنى وشغلنى بظَرْفه عن الاستمرار فى الكلام، إذ قال: ماذا أفعل؟ إننى أسلى صيامى! ترى بم كان يمكن أن أرد على هذا الظرف الأصيل المخرس؟ لقد خرست فعلا، وانتهى الأمر، وانصرفت وأنا أقهقه، وما زلت حتى هذه اللحظة أضحك دون أن أتمالك نفسى فأتوقف حتى لقد فكر أهلى فى إرسالى إلى العباسية، ونحن منها جِدُّ قريبٍ! وأحيانا ما أقول لنفسى ضاحكا أيضا: ألا يمكن أن يغفر الله لهذا البياع لقاء خفة ظله؟ ألم يقل الرسول: تبسمك فى وجه أخيك صدقة؟ إن هذا الشقى لم يبتسم فى وجهى فقط، ولا جعلنى أنا نفسى أبتسم فقط، بل جعلنى أقهقه. أقهقه يا عالم! أتفهمون معنى "أقهقه" فى هذا الزمن الكئيب؟ أولو كان الرسول حيا وسمع من ذلك العفريت هذا الرد أما كان سيضحك كما كان يفعل بسبب مقالب الصحابى نعيمان؟
    قالت أم سلمة أم المؤمنين: "خرج أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ قبل وفاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعامٍ في تجارةٍ إلى بُصرَى، ومعه نُعَيمانُ بنُ عمرٍو الأنصاريُّ وسُلَيطُ بنُ حرملةَ، وهما ممَّن شهِدا بدرًا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.وكان سُلَيطُ بنُ حرملةَ على الزَّادِ، وكان نُعَيمانُ بنُ عمرٍو مَزَّاحًا، فقال لسُلَيطٍ: أطعِمْني. قال: لا أُطعِمُك حتَّى يأتيَ أبو بكرٍ. فقال نُعَيمانُ لسُلَيطٍ: لأَغِيظَنَّك. فمرُّوا بقومٍ، فقال نُعَيمانُ لهم: تشترون منِّي عبدًا لي؟ قالوا: نعم. قال: إنَّه عبدٌ له كلامٌ، وهو قائلٌ لكم: لستُ بعبدٍ، أنا ابنُ عمِّه. فإن كان إذا قال لكم هذا تركتموه فلا تشتروه ولا تُفْسِدوا عليَّ عبدي. قالوا: لا بل نشتريه، ولا ننظر في قولِه. فاشْتَرَوْه منه بعشرِ قلائصَ، ثمَّ جاؤوه ليأخذوه، فامتنع منهم، فوضعوا في عُنقِه عِمامةً، فقال لهم: إنَّه يتهزَّأُ، ولستُ بعبدِه. فقالوا: قد أَخْبَرَنا خبَرَك. ولم يسمعوا كلامَه، فجاء أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، فأخبروه خبرَه، فاتَّبعَ القومَ فأخبرهم أنَّه يمزَحُ، وردَّ عليهم القلائصَ، وأخذ سُلَيطًا منهم. فلمَّا قدِموا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبروه الخبرَ، فضحِك من ذلك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه عليهم السَّلامُ حولاً أو أكثرَ".
    وعلى نفس المنوال لا يصح أن نعد، من باب معارضة المقدس، اقتراح عمرو بن العاص على عثمان ألا يقتل عبيدَ الله بن عمر بن الخطاب فى قتله الهرمزان بناء على أن ذلك القتل إنما وقع قبل أن يتولى الخلافة. إن العظم يعتبر هذا الاقتراح استخفافا واستهتارا بالدين وتحديا للمقدس وتسخيرا له فى خدمة السياسة، ثم ينطلق فى فاصل سمج فى محاولة تلقين عثمان وابن العاص أصول التدين والإيمان الصحيح المستقيم. عجبا! والحق أننا قد نتفق مع مقترح ابن العاص أو نختلف معه، لكن لا يمكن أن نتفق مع صادق العظم أو فرج فودة، الذى نقل عنه الحكاية مبتورة لزوم توبلتها بالبهارات المثيرة للشهية، فيما يقولانه ضد الصحابيين الجليلين.
    ففى كتاب "الأوائل" لأبى هلال العسكرى نقرأ ما يلى عن اختلاف الصحابة، رضوان الله عليهم، فى بعض الأمور الفقهية: "وكان اختلافهم قبل ذلك في الفقه، ولم يكن اختلافاً يخطّئ فيه بعضهم بعضا. فلما نقموا أمر عبيد الله بن عمر... قال عبد الرحمن بن أبي بكر: مررت بالهرمزان وجفينة وأبو لؤلؤة وهم نَجِيٌّ، وذلك قبل أن يُطْعَن عمر. فلما بغتهم ثاروا وسقط من بينهم خنجر له رأسان. قال: وهو الخنجر الذي أصيب به عمر رضي الله عنه. فدعا عبيد الله الهرمزان وأدخله إلى مربد، وقال: انظر إلى فرس عندي. فقال: لا إله إلا الله. فقتله وواراه، وأرسل إلى جفينة، وكان نصرانيا، وأدخله المربد وضربه. فلما وجد مس السيف خر وصلب على الأرض صلبا وسجد. ثم خرج فقتل امرأة أبي لؤلؤة وبنتا له وابنا له صغيرا، فأُخِذ وحُبِس، وذلك في اليوم الثاني من موت عمر. فلما قام عثمان استشار في أمره، فقال عمرو بن العاص: دماء سُفِكَتْ في غير ولايتك، فاجعلها دية. فأخذ منه خمس ديات وخلى سبيله. وأنكر علي عليه السلام ذلك، ورأى قتله، فلما وَلِيَ خافه عبيد الله، فقدم الكوفة، وسأل الأشتر أن يأخذ له أمانا من علي، فأبى، وقال: إن رأيتُه لأقتلنه بالهرمزان فلحق بمعاوية. فقال معاوية: الحمد لله الذي جعلني أطالب بدم عثمان، وجعل علياً يطالب بدم الهرمزان".
    وفى "الكامل" لابن الأثير: "جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته، ودعا عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وكان قَتَل قاتل أبيه أبا لؤلؤة، وقتل جفينة رجلاً نصرانيًّا من أهل الحيرة...، وقتل الهرمزان، فلما ضربه بالسيف قال: لا إله إلا الله! فلما قتل هؤلاء أخذه سعد بن أبي وقاص وحبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند عثمان، وكان عبيد الله يقول: "والله لأقتلن رجالاً ممن شَرِكَ في دم أبي"، يعرِّض بالمهاجرين والأنصار. وإنما قتل هؤلاء النفر لأن عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة قُتِل عمر: رأيت عشية أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة، وجفينة وهم يتناجون، فلما رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، وهو الخنجر الذي ضرب به عمر، فقتلهم عبيد الله. فلما أحضره عثمان قال: أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق! فقال علي: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قُتِل عمر أمس، ويُقْتَل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليُّه، وقد جعلتها دية، وأحتملها في مالي".
    فكما نرى ليس هناك استخفافٌ ولا استهانةٌ بالدين ولا تحدٍّ له إلا فى العقول المريضة، إذ من الجلىّ أن عثمان، رضى الله عنه، كان مكروبا لما حدث، ولم يستطع أن يبصر طريقا ينفذ منه خلال هذه المعضلة الفقهية، فجمع الصحابة واستشارهم، فاختلفوا، وصار الأمر على شفا وقوع كارثة، إذ من الممكن لو قُتِل ابن عمر، الذى لم يكن قد قتل من قتلهم إلا لشبهات قوية ثارت فى نفسه، علاوة على أن مقتل أبيه، الذى كان ما فتئ طازجا، قد أطار جانبا كبيرا من عقله وحلمه. ولا ننس أن الدولة كانت فى مهب الريح آنذاك، وليس ينقصها أن تنقسم على نفسها فى تلك القضية وترتكس فى فتنة مستطيرة الشر والشرر إن لم يستطع عثمان أن يحسن التأتى لذلك الأمر. وبعد أن استشار الصحابة كما رأينا برز له داهية العرب ابن العاص بحلٍّ أراه وجيها غاية الوجاهة: فمن جهة أخذ السياق الذى ذكرته آنفا فى الاعتبار فلم يقتل ابن عمر من باب درء الحدود بالشبهات، ومن جهة لم يهدر حق أسر الهرمزان وبقية القتلى، إذ أعطاهم خمس ديات، ومن ماله الخاص. فأين الاستخفاف بالمقدس واستخدامه فى خدمة السياسة من جانب ابن العاص هنا؟ لكن ابن العظم يصر على أن يتحذلق ويتفلحس وهو قاعد إلى مكتبه وقد ارتدى ثوب المثالية المطلقة. ولم لا؟ أتراه خاسرا شيئا؟
    فليتفلحس ابن العظم كما يحلو له، فلن يضارَّ بشىء، بل سيكسب سمعة مدوية بأنه رجل مبادئ لا يعرف التردد ولا التلجلج ولا يفهم إلا المضى على سَنَنِه فى خط مستقيم لا يميل به يمنة ولا يسرة، وفى ذات الوقت سوف يكون قد شكك طوائف من الناس فى عثمان وعمرو رضى الله عنهما، وتلك عنده غاية الغايات. وبالمناسبة فإننى لا أوافق عليا رضى الله عنه حين لم يعتبر دفع الديات لأهل القتلى حكما صحيحا، وأصر بعد توليه الخلافة على أن يقتل ابن عمر رغم أن القضية كانت قد نُظِرَتْ قبلا وانتهى الأمر فيها إلى الحكم بدفع الدية. ثم أتراه كان مسترجعا من أسر المقتولين فى هذه الحالة ما كانوا قد أخذوه من ديات؟ إن هذا التشدد فى إمضاء الأمور هو مما أخذه بعض المؤرخين والكتاب على سيدنا على كرم الله وجهه، وكان سببا فى أن انتقضت عليه الأمور مع ورعه وتقواه. وأخيرا فقد يقول قائل: ولماذا لم يُبْدِ علىّ نفس الهمة فى موضوع اغتيال عثمان؟ من هنا كان لا بد من أن نأخذ فى الحسبان السياق والظروف التى وقع فيها الخطأ حتى لا نضل الحكم السليم، فكثيرا ما تكون هذه الظروف مخففة للحكم أو ملغية له. وهذا أمر معروف ومعمول به فى ميدان القضاء، وبخاصة حين تكون البلاد فى حالة اضطراب سياسى مربك ومرهق كالحالة التى كانت عليها دولة الإسلام فى ذلك الحين، وتكون للقضية المنظورة وشيجة عنيفة تشجها بذلك الاضطراب.
    وممن اتهمهم صادق جلال العظم بمعارضة المقدس ابن المقفع والمتنبى وأبو العلاء المعرى. قال مثلا عن أول هؤلاء الثلاثة: "لا بد من الإشارة إلى ابن المقفع لنمعن النظر قليلا بالاستهزاء النقدى المبطن والراقى جدا فى نعومته ورهافته بالمقدس الذى تنطوى عليه الرواية القائلة إنه ظل يستعمل زمزمة المجوس أثناء طعام العشاء ليلة اليوم السابق لإعلان إسلامه، فسأله على بن على: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فأجاب: كرهت أن أبيت على غير دين. ومعروف كذلك أنه عارض القرآن، ليس على سبيل المضاهاة التهكمية للشكل والأسلوب والسجع والفخامة والبلاغة فحسب، بل على سبيل نقد مادته وتعاليمه أيضا. واستيفاءً لهذا الغرض أسمى أحد كتبه بـ"ادرة اليتمية".
    وابن المقفع هو ذلك الكاتب الأموى العباسى المشهور، وهو من أهل القرن‏‎ ‎الثانى للهجرة، ومن أصل فارسى. وعند قيام الدولة العباسية ‏اتصل بعم الخليفة المنصور، عيسى بن على، وأصبح كاتبا لديه ذا ‏حظوة. وتحكى الروايات أنه قال لعيسى بن على ذات ليلة: ‏قد دخل الإسلام في قلبى، وأريد أن أُسْلِم على يدك. فقال له عيسى: ‏ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس. فإذا كان الغد فاحضر. ثم ‏حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على ‏عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فقال: ‏أكره أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده. وابن المقفَّع ‏عَلَمٌ من أعلام الكتاب يتسم إبداعه بقوة الأسلوب وروعة القص ‏والتحليل. ومن أشهر ما وصل إلينا من تراثه الفكرى والأدبى "كليلة ‏ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير، ورسالة الصحابة، والدُّرَّة ‏اليتيمة".
    وأول شىء ‏ننظر فيه هو تلك الحكاية التى فرغنا منها لتونا، والتى وردت فى ‏‏"وَفَيَات الأعيان" لابن خَلِّكان، فهى مثال على الأخبار التى لا تثبت ‏على التمحيص لما فيها من أشياء لا يقبلها المنطق، إذ ما دام الإسلام قد ‏دخل قلب الرجل فمعنى هذا أنه أمسى مسلما، فالإسلام إنما يُعْنَى أولا ‏وقبل كل شىء بالنية، ولا يقف عند الرسوم والأشكال كثيرا. وما دام ‏الرجل قد انتهى إلى أن ما كان عليه من دين أسلافه لم يعد يدخل العقل ‏أو القلب، فكيف يصر على أن يتبع رسومه وشعائره إلى الغد حينما ‏يحضر كبار رجال الدولة وأعيانها، وهو الذى لم يعد مقتنعا به؟ أوَيمكن ‏التصديق بأنّ من دخل الإسلام قلبه، وبالذات إذا كان كابن المقفع نفسه، أحد ‏كبار كتاب عصره، يقبل أن يظل متمسكا بديانته الوثنية القديمة ‏ومناسكها على هذا النحو المضحك لأن مولاه آثر أن يؤجل مراسم ‏إعلان إسلامه إلى أن يجتمع عنده كبار رجال الدولة من الغد؟ إن كل ما ‏عرضه عليه عيسى بن على هو تأجيل الإعلان الرسمى لا أكثر، ولم ‏يعرض عليه أن يؤجل دخوله فى الإسلام إلى الصباح، إذ كان ابن المقفع ‏قد صار مسلما وانتهى الأمر بمجرد أن اقتنع بدين النبى العربى كما أكد ‏ذلك لعم الخليفة.
    وإذا كان كاتبنا قد عز عليه أن يبيت على غير دين فلم يا ترى لم ‏يسمّ اسم الله على الطعام ويكون قد بات على الإسلام، وهو الدين الذى ‏نوى أن يعلنه على الملإ من غده؟ أقول: على الملإ لا بينه وبين ربه، لأن ‏الأمر بينه وبين ربه قد بات محسوما! إن الطبيعى أن يكون سيره فى ‏نفس الاتجاه الذى نوى أن يمضى فيه كما يقضى المنطق والعقل لا ‏بعكسه. أليس كذلك؟ ثم إذا كانت الزمزمة هى تراطن العلوج على ‏أكلـهم وهم صموت لا يستعملون لسانا ولا شفة، ولكنه صوت يديرونه في ‏خياشيمهم وحلوقهم فيفهم بعضهم عن بعض كما جاء فى "القاموس ‏المحيط"، فلماذا يا ترى زمزم ابن المقفع على الطعام فى تلك الليلة، وليس ‏ثَمَّ ناس على دينه القديم يتفاهم معهم بهذه الزمزمة؟ أتراه كان بعقله ‏خلل؟ لكنْ أمثل ابن المقفع يصاب فى عقله بخلل كهذا، وفى ظرف ‏كهذا، وأمام واحد من كبار رجال الدولة كهذا؟ من هنا فإنى أرفض ‏هذه الجانب من الرواية كما سأرفض أشياء أخرى عن ابن المقفع ‏ وزندقته لا تقنع الطفل الصغير رغم ترددها فى عدد من ‏الكتب. ولا ننس، إلى جانب هذا، أنه قد أعلن إسلامه اليوم التالى. فلو كان مستخفا بالمقدس (أى الإسلام) فلم أعلن إسلامه إذن؟ وإذا كان ثم معارضة للمقدس فلم ينبغى أن تكون المعارضة موجة إلى الإسلام، الذى اختاره بمحض إرادته وليس إلى دينه القديم، الذى لم يعد يقنع عقله أو يريح قلبه وضميره؟ أو لماذا لا يكون المقصود بالمعارضة والاستخفاف هو عيسى بن على، الذى أصر على أن ينتظر ابن المقفع بإعلان إسلامه إلى الغد واجتماع كبار رجال الدولة لشهوده غير دار أن الدخول فى الإسلام محله القلب لا مجتمع كبار القوم؟ أرجو أن يعنى صادق العظم نفسه بالجواب عن هذه السؤالات قبل أن يستظرف ويستخف دمه.
    أما اتهام ابن المقفع بمعارضة القرآن فى كتاب "الدرة اليتيمة" فلا بد أن نعرف أولا أن هذا الكتاب ليس سوى كتابه: "الأدب الكبير" حسب نشرة صبيح لها بمقدمة من الأمير شكيب أرسلان، فضلا عما كتبه ابن المقفع فى هذه الرسالة من أن "أصل ‏الأمرِ في الدينِ أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنبَ الكبائرَ، وتُؤَدِّيَ ‏الفريضةَ. فالزم ذلك لزوم من لا غنى له عنهُ طرفة عينٍ، ومن يعلم أنهُ إن ‏حُرِمَهُ هلك. ثم إن قدرتَ على أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين ‏والعبادة فهو أفضلُ وأكملُ".‏ ثم إن لدينا سؤالا منطقيا يننظر الجواب ويلح فى طلبه إلحاحا ‏عنيفا صارخا: فلنفترض أن ما قاله ابن طباطبا العلوى فى القرن الثالث الهجرى بعد موت ابن المقفع بقرن كامل فى كتابه" الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع عليه لعنة الله" من أن ابن المقفع قد وضع فعلا كتابا فى معارضة القرآن استشهد منه فى رده عليه بكثير من فقراته، فأين كان ذلك الكتاب طوال ذلك القرن؟ هل نزل من ‏السماء بغتة فى عصر القاسم بن إبراهيم بعدما كان قد رفعه الله إثر ‏فراغ ابن المقفع من وضعه فلم يطّلع عليه قبل ذلك أحد، إلى أن جاء ‏القاسم فكانت مشيئة الله أن يفرج عنه وينزله عليه كى يختصه بشرف ‏الانفراد بتخطئته قبل أن تزدحم على مورده الأقلام ولا يكون هناك ‏فرصة له للتميز فى هذا الميدان؟ ولقد وضعت دراسة تبلغ خمسا وستين صفحة درست فيها الاتهامات التى رُمِىَ بها ابن المقفع فى عقيدته بما فيها دعوى معارضته القرآن، وبينت بالمقارنات الأسلوبية والمضمونية أن ما استشهد به ابن طباطبا العلوى على زندقة ابن المقفع من نصوص قيل إنه يعارض بها القرآن لا ينطبق على ابن المقفع، الذى نعرفه. وقد يكون هناك ابن مقفع آخر مغمور هو المقصود بلعائن ابن طباطبا، وبخاصة أنه يشير إليه فى رده عليه بقوله: "خَلْفُ سوءٍ استخلفه إبليس ‏على ما خلّف مانى من الضلالات، يسمَّى: ابن المقفع، عليه لعنة الله ‏بكل مرأًى ومسمع... فوضع كتابا أعجمى البيان، حكم فيه لنفسه ‏بكل زورٍ وبهتان". فهل كان ابن المقفع مغمور الشأن إلى الحد الذى يشير إليه فيه ابن طباطبا بأنه "يسمى: ابن المقفع"، فضلا عن وصفه لأسلوبه بأنه أعجمى البيان؟ وبمكنة القارئ أن يطالع هذا كله وأضعافه فى بحثى المذكور آنفا والمنشور على المشباك بعنوان "هل كان زنديقا؟ هل كتب معارضة للقرآن الكريم؟ كلمة فى عقيدة ابن المقفع".
    وأَصْلُ هذا البحث هو ما أثاره طلابى فى كلية التربية بجامعة أم القرى- فرع الطائف ذات محاضرة فى أوائل تسعينات ‏القرن المنصرم من أن ابن المقفع زنديق لا يمت للإسلام بصلة. أى أن ‏تحوله إلى الإسلام لم يكن صادقا، بل ظل الرجل فى أعماقه كافرا. فهو ‏إذن كان يتظاهر بالإسلام، على حين ما بَرحَ، فيما بينه وبين نفسه، على ‏دين قومه القديم كما كان قبلا. ‏وهم، فى هذا، إنما يرددون ما جاء فى بعض كتب التراث التى ‏ترجمت للرجل. وكان جوابى عليهم أن الاتهام بالزندقة لا يعنى بالضرورة ‏أن المتَّهَم بها زنديق فعلا، إذ ثمة فرق كبير بين توجيه التهمة وبين ثبوتها ‏حقا على من رُمِىَ بها. وزدت فقلت لهم إن ما قرأته لابن المقفع وعنه ‏لا يجعلنى أصدق مثل تلك التهمة. فالرجل يبدو مسلما يبعث إسلامه ‏على الاطمئنان، ولم يُؤْثَر عنه شىء من شأنه أن يشككنا فى عقيدته. ‏
    كما دار بينى وبينهم فى ذات التوقيت نقاش آخر حول عقيدة الشاعر العباسى ‏بشار بن برد، الذى لم يكن رأيهم فيه أفضل من رأيهم فى ابن المقفع. وهو ‏ما حدانى إلى أن أعكف على شعر الرجل وعلى كل ما وقعتْ يدى ‏عليه من كتب ودراسات تتعلق به وبشعره وشخصيته واعتقاده، وكانت ‏ثمرة ذلك أنْ وضعت كتابا من أربعمائة صفحة عنه خصصت منه فصلا ‏طويلا يبلغ عشرات الصفحات لدراسة عقيدة الشاعر قلبت فيه الأمر ‏على كل وجوهه ولم أترك صغيرة ولا كبيرة إلا فحصتها فحصا دقيقا ‏مرهقا، فتبين لى أن الرجل كان مسلما، وإنْ أخذتُ عليه فى ذات ‏الوقت أنه لم يكن يلتزم فى حديثه فى بعض أمور الدين جانب الجِدّ ‏والوقار، وهذا كل ما هنالك. وقد أوردت أدلة وبراهين وشواهد كثيرة ‏وقوية جدا على صحة ما أقول. وانتهيت إلى الاطمئنان إلى عقيدة ‏الرجل. وأنا حين أقول هذا لا يخطر لى أبدا على بال أن أُنَصِّب نفسى ‏قَيِّمًا على دين الرجل ومصيره عند ربه، إذ مَنْ أنا أو غيرى حتى نفكر ‏مثل هذا التفكير؟ إنما هى متطلبات البحث الأدبى لا أكثر ولا أقل، ‏فهى مجرد اجتهادات علمية قد تصيب، وقد تخطئ. أما الحقيقة فهى ‏عند الله سبحانه وتعالى. وإذا كنا لا نعرف مصيرنا نحن فهل يمكننا ‏الادعاء بأنا نعرف مصير الآخرين؟ فأرجو من القراء دائما أن يكونوا ‏على ذكر من هذا الذى نقول، منعا لسوء الفهم.
    وكنت من قبل قد صنعت نفس الشىء مع المتنبى، الذى أصدرت عنه فى منتصف ثمانينات القرن الفائت ثلاثة كتب، فاتضح لى أن ‏الرجل مسلمٌ عادىٌّ مثلى ومثل ملايين المسلمين رغم ما لاحظته أحيانا ‏على شعره من الإغراق فى بعض المبالغات التى ينبغى ألا نحمّلها ما لا ‏تحتمل، بل علينا أن نفهمها فى إطار فنه الشعرى. ويجد القارئ هذا ‏الكلام فى كتابى: "المتنبى- دراسة جديدة لحياته وشخصيته". كذلك ‏ تناولت، وأنا فى السعودية، المسألة ذاتها فيما يخص الشهرستانى صاحب "الملل ‏والنحل"، إذ كان قد تعرَّض لمثل تلك التهمة، فتبين لى أن إسلام الرجل لا ‏غبار عليه وأنه ليس فى يد متهميه أى دليل على صحة ما يرمونه به فى ‏دينه. ولمن يريد الاطلاع على هذا الموضوع يمكنه أن يقرأه فى الفصل ‏الذى خصصته لذلك المفكر الكبير فى كتابى: "من ذخائر المكتبة ‏العربية". كما قيل شىء من هذا عن كتاب ‏‏"الفصول والغايات" لأبى العلاء المعرى، الذى اتُّهِم بأنه قد أراد به مضاهاة القرآن. لكنى وجدته فى ذلك الكتاب ‏ينافح عن القرآن ذاته منافحة صلبة، فمن ثم أنكرت بكل قوة أن يكون ‏المعرى قد أراد معارضة القرآن، وعددت ما اتُّهِم به فى هذا السبيل ‏كلاما فارغا لا يُؤْبَه به. و"كم فى الحبس من مظاليم" كما يشير المثل العامى ‏المصرى!‏
    وبالمثل تحدث صادق العظم عن التلاعب فى النص الأصلى للقرآن الكريم زاعما أنه أمر حقيقى وأنه حدث مرارا. ومن بين من اجترحوا هذا التلاعب فى رأيه، وبدم بارد وسوء مقصد، الحجاج بن يوسف الثقفى، الذى بدلا من توجيه الشكر له والثناء عليه لإدخاله مزيدا من الضبط على خط المصحف بما يساعد على تحرى الدقة فى قراءة النص الكريم نجد صادق العظم يتهمه أبشع الاتهامات فى هذا المجال معتمدا على نص لا يدخل العقل ينسب فيه ابن عساكر إلى والى بنى أمية زعمه نزول الوحى عليه مما لا يمكن أن يعقله أحد لديه شىء من الرشد، وكذلك على ما ورد فى رسالة عبد المسيح الكندى. ولن أقف عند كل ما قاله العظم، وإلا فلن أنتهى، وإنما سأتوقف فقط عند هذه النقطة الأخيرة. ترى هل يعقل أن يقدم رَجُلُ عَبْدِ الملكِ بن مَرْوان على مثل هذا التلاعب بالقرآن الكريم؟ فلماذا يا ترى؟ هل كان هناك نص فى القرآن على أحقية على وإدانة معاوية فحذفه؟ لقد مات كل من على ومعاوية منذ زمن غير قريب، وانتهى الصراع بينهما بنجاح معاوية واستتباب الأمر له ولورثته من بعده، ولم يكن هناك حينئذ سوى الخلاف بين عبد الملك وابن الزبير، وهذا موضوع لا يمكن الزعم أبدا بأن للقرآن صلة به أى صلة. فلم إذن يُقْدِم الحجاج أو غير الحجاج على العبث بالنص القرآنى فى ذلك العصر؟ وفوق هذا فمن الجلى الواضح أن صادق العظم لا يعرف شيئا عن مراجعه ومصادره، أو يعرف، لكنه يتباله ويتساذج علينا، وإلا فهل هناك شخص فى دماغه مسكة من عقل يتخذ من رسالة عبد المسيح، ورسالة عبد المسيح بالذات، مستنَدا للقول بأن القرآن قد لحقه العبث فى عهد عبد الملك بن مروان؟ الواقع أنه ليس أمامى سوى استنتاجين، وكلاهما أضرط من أخيه. ألا وهما أن العظم لا يعرف كيف يبحث بحثا علميا، أو أنه يقصد قصدا الإساءة إلى الإسلام، ومن ثم يلجأ عامدا متعمدا إلى مثل رسالة الكندى لأنها تساعده على إيقاع تلك الإساءة بمنتهى اليسر والسهولة. ولكن هيهات ثم هيهات!
    ورسالة الكندى هى إحدى رسالتين دينيتين جداليتين مترابطتين: الأولى من مسلم اسمه عبد الله بن إسماعيل الهاشمى إلى مسيحى يسمى عبد المسيح بن إسحاق يدعوه فيها إلى الإسلام، والثانية رد من هذا إلى ذاك يفند فيها الإسلام ويتطاول على الرسول الكريم ويبين له أن النصرانية أفضل من الدين الذى أتى به محمد، وأن المسيح إله نزل من عليائه وتجسد فى شكل بشر ليفدى العالم من خطيئته، على حين أن محمدا ما هو إلا رجل جلف ونبى كذاب. وهل يمكن أن يصدق عاقل أو حتى مجنون أن نصرانيا فى ذلك الزمن يخطر له فى بال أن يتطاول على النبى محمد فى دولة الإسلام ويتهمه أمام مسلم هاشمى قوى الدين بأنه رجل جلف ونبى كذاب، وأن عيسى إله تجسد ومات على الصليب، وأن الإسلام دين فاسد؟ ثم لقد كان الهاشمى والكندى صديقين يعيشان فى أيام الخليفة العباسى المأمون بن هارون الرشيد، الذى يمت إليه عبد الله بن إسماعيل بآصرة القربى، ويشتغل فى خدمته عبد المسيح بن إسحاق على ما يقول ناشرو الرسالتين. فمنذ متى كان الأصدقاء الحميمون على شاكلة الهاشمى والكندى يتحاورون فى الدين فى رسائل مكتوبة، وهم يتقابلون فى كل وقت، ويمكنهم النقاش شفاها؟
    كذلك كيف تسكت كل كتب التراث عن تينك الرسالتين ومؤلفيهما، بل كيف يسكت جميع علماء المسلمين فلا يردون على ما أثاره الكندى من أراجيف وشبهات، وهذا إن تركوه أصلا يعيش لحظة واحدة بعدما نال من رسولهم بكل هذه العدوانية والبذاءة والانحطاط؟ وهل يصدق أحد أن المأمون، حين يشير إلى النبى، يقول عنه: "صاحبنا" حسبما جاء فى رسالة عبد المسيح الموهوم؟ إن هذا لهو المستحيل بعينه! وفوق هذا فلا يوجد فى تاريخ الإسلام هاشمى ينطبق عليه ما ذكرته له الرسالة من اسم ونسب وصفات شخصية إلا بعد عصر المأمون، الذى قيل إن الرسالتين قد أُلِّفَتا فيه، بأكثر من قرن، أما عبد المسيح فلا يوجد له من أثر فى التاريخ بتاتا نستطيع أن نتعقبه ونعرف من خلاله من هو: ببساطة لأنه شخصية مصنوعة صناعة. كما لوحظ أن الهاشمى يقع فى أخطاء لا يقع فيها مسلم عنده أدنى إلمام بالدين، من مثل قوله إن الرسول كان يقول: "السلام عليكم ورحمة الله" لكل إنسان، مسلما كان أو غير مسلم. ذلك أن رسائله، عليه الصلاة والسلام، إلى غير المسلمين من ملوك وأمراء متاحةٌ لمن يريد، وليس فيها تلك الصيغة أبدا لأى واحد من غير أتباعه. كذلك ورد فى رسالة الهاشمى أحاديث منسوبة للنبى عليه الصلاة والسلام لا وجود لها أصلا حتى فى كتب الأحاديث الضعيفة، وتحتوى على ألفاظ لم ترد فى أى حديث كلفظى "الديانة" و"الفظاظة". وبالمثل يستحيل أن يقول أحد المسلمين فى تلك العصور: "ويقول الله مؤكدا"، بل إنى لأحسبها غريبة جدا حتى فى عصرنا هذا. وأيضا لا يعقل أن يسمِّىَ مسلمٌ آنذاك كتبَ العهد القديم والعهد الحديث بـ"الكتب العتيقة" و"الكتب الحديثة"، فهاتان تسميتان لم تعرفا إلا فى عصرنا الحديث، أو أن ينخرط الهاشمى فى نوبة من المديح والثناء على القساوسة واصفا إياهم بالخشوع والتقوى، أو يقول إن المسيح قد بعث الحواريين دعاة له إلى الأمم فى حين يؤكد الإسلام أنه إنما بُعِث إلى بنى إسرائيل فحسب، وهو ما يؤكده العهد الجديد حينما أورد على لسان المسيح عليه السلام قوله إنه لم يبعث إلا إلى خراف بنى إسرائيل الضالة. ومن سخافات الرسالة أيضا ما وضعه ملفقوها على لسان الهاشمى من أن النبى كان يُوَادّ النساطرة، وأنهم من جهتهم كانوا يحبونه ويعضدونه ويساعدونه على تأدية رسالته. وهو كلام أخطل لا يتصور صدوره أبدا من أى عالم مسلم... إلى آخر ما الرسالةُ مفعمةٌ به من الأخطاء والتناقضات والمستحيلات. ومع هذا كله نرى صادق العظم يعض بالنواجذ على ما جاء فيها مما يظن أنه ينال من الإسلام والمسلمين. وهذا كله وأضعافه متاح، لمن يريده، فى ردى على تلك الرسالة التافهة تفاهة من نشروها وتفاهة من يحسبون أنها يمكن أن تساعدهم على إيهام المسلمين بصحة تلفيقاتهم ضد دينهم. وعنوان هذا الرد هو: "رسالة تافهة يطنطن بها المبشّرون! هتك الستار عما فى رسالة الكندىّ الحِمَار من عار وعُوَار". وهو يشكل فصلا من كتابى: "حجج الإسلام وشبهات خصومه".
    أما ما حرص العظم على الإشارة إليه من الدعاوى المتهافتة لبعض علماء الشيعة من أن مصحف عثمان لا يتضمن كل النص القرآنى، بل حذفت منه أشياء، فهو أسخف من السخف ذاته، ولن يوصِّل العَظْمَ عَوْضُ إلى ما يريد من التشكيك فى عصمة القرآن من التحريف أو الضياع. وأحيله إلى رسالتى التى تناولت فيها سورتى "النورين" و"الولاية"، اللتين يزعم فريق من غلاة الشيعة أنهما كانتا ضمن سور القرآن لكنْ حذفهما خصوم علىٍّ كى يطمسوا ما ذكره القرآن من حقه هو وذريته إلى الأبد فى الولاية وحكم المسلمين. وعنوان الرسالة هو: "سورة النورين التى يزعم فريق من غلاة الشيعة أنها من القرآن الكريم"، وهى متاحة على المشباك بصورة بى دى إف. وفيها أبين بالإحصاءات والمقارنات الأسلوبية والمضمونية المفصلة التى لا يخر منها الماء أن تَيْنِكَ السورتين لا يمكن أبدا أن تكونا من القرآن المجيد. وأظن أن قدر صادق العظم العلمى الحقيقى قد اتضح الآن بعد هذه التطوافة القصيرة فى بحثه عن كتاب سلمان رشدى: "الآيات الشيطانية".
    وآخر موضوع أود تناوله من كتاب صادق العظم هو تأكيده أن محاولة معاقبة المتمردين على الدين، الذى يراه شيئا رجعيا متخلفا، هى محاولة مقضى عليها بالفشل، إذ إن قاطرة التقدم لا ترحم من يقف فى طريقها، بل تدهسه، ولن تستطيع المجتمعات الإسلامية الصمود أمام اختراق الحضارة الغربية لها مهما حاولت وفعلت، ولا بد لها إذن أن تتخذ العلم الحديث وما ترتبط به من التطبيقات التكنولوجية منهج حياة بدلا من التشكيلات المعرفية السابقة من دين وأسطورة وسحر وتنجيم وغيب وخرافة وخوارق وحكمة متوارثة وأمثال متداولة واعتقادات شائعة، وذلك بناء على ما قاله ماركس فى تحليلاته لتقدم البشرية. وهو يؤكد أن سلمان رشدى واعٍ تماما بكل هذا، ويؤمن بأن الحضارة التى تعيش على أمجاد ماضيها ولا تعرف كيف تعبر العالم الثالث أو كيف تتجاوز فضاءه الخارجى المسحور بحيث ترجع إلى التاريخ بكل ما يتطلبه منثقل وزن فمصيرها هو مزبلة التاريخ الشهيرة. وهو ما يوافق صادق العظم سلمان رشدى عليه تمام الموافقة. ثم يضيف قائلا إنه حين يمعن النظر فى موضوع سلمان رشدى يستنتج أن العالم الإسلامى بحاجة اليوم إلى حداثة العقل والعلم والتقدم والثورة بدلا من أصالة الدين والشرع والتراث والرجعة وكل ما لا يؤكّل عيشا حافيا من مثل هذا الكلام. والغريب أنه، رغم ذلك، يعود عقب هذا إلى القول بأن محمدا كان نبيا ورعا تقيا أرسله الله لتنفيذ خطته الكونية، وفى نفس الوقت كان رجل سياسة وتاجرا يحسب كل شىء بالمسطرة والقلم وزير نساء. كيف؟ لا أدرى. كما يقف أمام ما ورد فى القرآن من معجزات خوارق لا يعقلها المنطق قائلا ما معناه: أليس الأحجى أن أفهم مثل هذه الأشياء على أنها مجرد رموز بدلا من الاعتقاد فى صحتها شأن العميان والجهال؟ ويختم بحثه بالتساؤل التالى: "هل يعمل مثقفو العالم الإسلامى على تقدم مجتمعاتهم وتحرر شعوبهم حين يتجاهلون هذه المسائل كلها ويضعون سلاح النقد جانبا ليسايروا، دون قناعة حقيقية وجدية فى معظم الأحيان، ما هو سائدٌ من تعميمات دينية، ومُسَيْطِرٌ من أساطير تاريخية، ومُتَحَكِّمٌ من خرافات شعبوية، وشائعٌ من إيديولوجيات أصولية ارتدادية؟ هذا هو نوع الأسئلة والمشكلات والقضايا التى يريد أعداء رشدى وخصومه شرقا وغربا قمعها ومنع قيام أية مناقشة مفتوحة وعصرية حولها فى العالم الإسلامى، أو أية مراجعة عقلانية علمية جديدة لمعناها ودورها وأهميتها فى حياتنا الاجتماعية والثقافية والفكرية المعاصرة".
    ونبدأ بحكاية عجز المجتمعات الإسلامية (الحتمى المزعوم) عن إيقاف عملية اختراق الحضارة الغربية لها مهما اتخذت من إجراءات وتمادت فى عقوبة المتمردين على دينهاوتقاليدها وعقائدها وما إلى هذا، فنسأل: أية حضارة غربية تلك التى يتحدث عنها صادق العظم؟ لقد كان الرجل ماركسيا، أى على دين الكتلة الشرقية من العالم الغربى، وهو دين يختلف عن دين الكتلة الغربية من ذلك العالم، بل يتناقض معه فى جوانب كثيرة وجوهرية منه، فأى الدينين يقصد؟ وها هى ذى روسيا قد عادت ففتحت الكنائس وصارت تعتنق النصرانية بعدما كانت دولة إلحادية. كما أن المعسكر الليبرالى يناصر النصارى فى كل مكان فى العالم ضد المسلمين. وفى ذات الوقت فإن كثيرين من الغربيين، ومنهم كثيرون من علية القوم من وزراء ومستشرقين وأساتذة جامعيين وصحافيين وكتاب وفلاسفة وسياسيين ومغنين وفنانين ولاعبى كرة وملاكمين، يعتنقون الإسلام هاجرين ليبراليتهم إلى دين محمد، الذى يرى العظم أنه مهزوم من قِبَل ليبراليتهم لا محالة ولا مناص.
    لقد بلغ أمر الإسلام فى أوربا أن صار أتباعه فى عاصمة فرنسا مثلا، وما أدراك ما عاصمة فرنسا؟ يصلّون علنا فى الشوارع على الأرصفة بسبب كثرتهم وتحولهم من حالة الانخناس إلى الاقتحام. ولو كان الأمر كما تنبأ مسيلمتنا الكذاب لما سمعنا بأى شخص يعتنق الإسلام هناك ولاسَْتَخْفَى الذين يشذون عن ذلك بصلاتهم بعيدا عن العيون والآذان فى غرف مغلقة. كما شاهدنا كيف وقف موسيقار هولندى مسلم فى مواجهة ملكة هولندا، وحولها كبار السياسيين والمشاهير والمتنفذين، يدعوها علنا إلى الإسلام صارخا بأن عيسى ليس سوى عبد لله ورسوله. ولقد أخذت الدهشة بمجامع عقولهم فذهلوا لبعض الوقت، ثم لما عاد إليهم وعيهم وأفاقوا من الغاشية التى حطت عليهم قام رجال الأمن وأنزلوا الموسيقار من فوق خشبة المسرح حيث كان يقف. ولا أظن القراء نَسُوا أن أخت زوجة تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى السابق دخلت الإسلام. وقد صرحت بعد اعتناقها دين النبى العربى الكريم برأيها فى زوج أختها على نحو لا يمكن أن يسره أبدا، ولم تبال. ومن قبلها تحدث الأمير تشارلز فى بعض محاضراته وخطبه عن الإسلام بإعجاب وإجلال. ولتكن نيته بعد ذلك ما تكون، فالمهم أنه قال فى الإسلام كلاما عظيما لا يستطيع أن يقوله كثير من المسلمين، وعلى مسمع ومشهد من الدنيا كلها. وليست هذه الأمور وليدة اليوم، بل انبرى للدفاع عن الإسلام منذ وقت طويل كبار المثقفين الأوربيين، ومنهم شخصيات عالمية رفيعة بعضهم أسلم، وبعضهم لم يدخل الإسلام لكنه كتب فى دين النبى العربى الكريم كلاما راقيا. ونذكر فى هذا المجال على الطائر هادريان ريلاند من القرن الثامن عشر، ويوهان رايسكه من نفس القرن، وجوته، وفكتور هيجو، وبوشكين، وتوماس كارلايل، وجون دافنبورت، وتوماس آرنولد وغيرهم. بل إن أحد أخوال برتراندراسل ذاته فى القرن التاسع عشر كان مسلما، ومعروف مَنْ برتراند راسل، ومِنْ أية أسرة ينحدر، وإلى أية طبقة تنتمى أرومته... ويقول سيد عبد الماجد الغورى مؤلف كتاب "محمد حميد الله سفير الإسلام وأمين التراث الإسلامى فى الغرب" على لسان حميد الله، رحمه الله، إن متوسط منيهتدون كل يوم إلى الإسلام فى فرنسا على عهده يتراوح ما بين ثمانية أفراد إلى عشرة، منهم الرجال والنساء، ومنهم أصحاب المناصب الكبرى كسفراء البلدان ورجال الدين وأساتذة الجامعات. كذلك من المعروف لكل إنسان أن هناك ترجمات للقرآن الكريم إلى اللغات الأوربية المختلفة بعضها من صنع مسلمين أوربيين مثقفين ثقافة رفيعة ويحتلون مراتب عالية بين بنى أوطانهم.
    وفى خبر بموقع "المرصد الإسلامى" منشور بتاريخ السبت 18/ 5/ 2013م بعنوان "المسيحية في بريطانيا تواجه انهيارًا كارثيًّا، والإسلام في انتشار" نقرأ ما يلى: "تحدثت صحيفة بريطانية اليوم الجمعة عن "اضمحلال" الديانة المسيحية في البلاد أسرع ما كان يُعتقد، بينما تتزايد أعداد المسلمين باستمرار. وقالت "ديلي تلغراف" إن المسيحية في بريطانيا يمكن أن تواجه انهيارا كارثيا بحسب إحصاءات رسمية تشير إلى أنها تضمحل أسرع مما كان يعتقد بنسبة 50%، مشيرة إلى أن واحدا من كل عشرة أشخاص ممن هم تحت سن الـ25 يدين بالإسلام. وأضافت الصحيفة أن هناك تحليلا جديدا لإحصاء أجري عام 2011 يوضح أن عقدا من الهجرة الجماعية ساعد في إخفاء حجم تدني الانتساب إلى المسيحية بين السكان البريطانيين، بينما كانت هناك زيادة كبيرة في الإسلام، وخاصة بين الشباب. وأوضحت أن النتائج الأولية لإحصاء 2011، الذي نشر العام الماضي، يبين أن إجمالي عدد الناس في إنجلترا وويلز الذين يدينون بالمسيحية تدنى بواقع 4.1 ملايين، أي بنسبة 10%. وفي نفس الوقت زاد عدد المسلمين في إنجلترا وويلز بنسبة 75%. . وأشار الإحصاء إلى أن الشباب الأصغر سنا ابتعدوا عن الدين بالكلية حيث يصف 6.4 ملايين شخص أنفسهم بأنهم بلا دين، وهذا يعني لأول مرة أن أقلية من الناس سيصفون أنفسهم بأنهم مسيحيون خلال العقد القادم". فعلام يدل هذا يا عظم؟ على كل حال هذا هو التقرير فى أصله الإنجليزى، وعنوانه: "Christianity declining 50pc faster than thought – as one in 10 under-25s is a Muslim"، وهو منشور بتاريخ 16/ 5/ 3013م، وصاحبه هو جون برينجهام، محرر الشؤون الدينية بالصحيفة:
    “Christianity could be facing a catastrophic collapse in Britain according to official figures suggesting it is declining 50 per cent faster than previously thought. A new analysis of the 2011 census shows that a decade of mass immigration helped mask the scale of decline in Christian affiliation among the British-born population – while driving a dramatic increase in Islam, particularly among the young. It suggests that only a minority of people will describe themselves as Christians within the next decade, for first time. Meanwhile almost one in 10 under 25s in Britain is now a Muslim. The proportion of young people who describe themselves as even nominal Christians has dropped below half for the first time. Initial results from the 2011 census published last year showed that the total number of people in England and Wales who described themselves as Christian fell by 4.1 million – a decline of 10 per cent” .
    إن الغربيين، حين يشيمون من أنفسهم القدرة على إبادة الآخرين بل على أكلهم فى بطونهم أكلا، لا يتورعون أبدا عن ذلك. وليس هذا صنيع بشر متحضرين تحضرا حقيقيا يريدون نفع الآخرين بل صنيع مجرمين عريقين فى الإجرام، وإن تغطَّوْا بورقة توت حضارية زائفة سرعان ما تنكشف فى أول اختبار عن سوأة قبيحة منتنة. أما الكلام عن عجز الإسلام عن الوقوف فى وجه الثقافة الغربية فهذا كلام حواة موتورين لا عقلاء عالمين. كتب فهمى هويدى مؤخرا على مدونته تحت عنوان "أكلة لحوم البشر": "في الأسبوع الماضي تناقلت وكالات الأنباء العالمية تقريرا علميا أمريكيا ذكر أن المهاجرين الإنجليز الأُوَل الذين قَدِموا إلى أمريكا أوائل القرن السابع عشر "اضطروا" لأكل لحوم البشر بعدما تعرضوا لمجاعة أودت بحياة 80٪ منهم. وذكر التقرير أن الباحثين في معهد سميثونيان تيقنوا من ذلك حين عثروا في مستعمرة قديمة على بقايا عظام لفتاة في الرابعة عشر من عمرها. وحين قاموا بتحليلها باستخدام التقنية الحديثة وجدوا أن أولئك المهاجرين قاموا بتكسير جمجمة الفتاة للحصول على المخ، والتهام لحم الوجه والرقبة. وعقب انتهاء البحث بدأ عرض وجهها بعد إعادة تكوينه في متحف التاريخ الطبيعي بواشنطن، أما ما تبقى من هيكلها العظمي فقد تقرر عرضه في موقع اكتشافه ببلدة جيمس تاون في ولاية فرجينيا.
    أصل القصة التي تناقلتها وكالات الأنباء أن أول مجموعة من المهاجرين الإنجليز ضمت 104 أشخاص، وأنهم ذهبوا إلى أمريكا عام 1607 وأسسوا هناك بلدة جيمس تاون. إلا أن أعدادهم ظلت تتناقص بمضي الوقت، بحيث لم يبق منهم على قيد الحياة بعد الأشهر التسعة الأولى لهم في العالم الجديد سوى 38 شخصا. وحين جاء الشتاء الرهيب وهدد البقية الباقية منهم فإن ذلك اضطرهم إلى أكل لحم الفتاة، لكى يبقوا على قيد الحياة.
    تذكرت أنني طالعت القصة ذاتها في وقت سابق ولكن برواية أخرى فعدت إلى كتاب الباحث السوري المقيم في الولايات المتحدة منير العكش، الذي صدر قبل 4 سنوات (عام 2009) تحت عنوان "أمريكا والإبادات الثقافية". له كتاب آخر مهم سبق أن أصدره تحت عنوان "أمريكا والإبادات الجماعية". عندئذ وجدته خصص فصلا للموضوع في الكتاب الأول بعنوان "من يأكل لحم البشر؟"، ولاحظت أنه استهله بعبارتين تقول إحداهما إن "القضاة (الإنجليز) في القريب العاجل سيقررون أكل لحوم البشر ويجعلونه بديلا طبيعيا لدفن الموتى"، وهي منسوبة لوزير الداخلية البريطاني وليم هاركورت الذي شغل منصبه بين عامي 1880 و1885. العبارة الثانية تقول إن الاعتقاد السائد لدى الإنجليز أن أكل لحم الرجل الأسود يقوي الحياه ويطيل العمر. وقد قالها أجانانت أوبيسيكير أبرز علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين وأستاذ المادة بجامعة برينستون الأمريكية.
    روى الكاتب انه شهد الاحتفال بالذكرى المئوية الرابعة لتأسيس أول مستعمرة إنجليزية أقامها المهاجرون وأطلقوا عليها اسم جيمس تاون تخليدا لملكهم جيمس الأول. وكانت المنطقة التي استقروا فيها جزءا من إمبراطورية كبيرة للهنود الحمر حملت اسم فيدرالية بوهاتن، التي سكنها 30 شعبا أبادهم المهاجرون عن بكرة أبيهم ولم يبق منهم بعد أقل من قرن أكثر من 600 إنسان. وقد تحدثت مراجع عدة أثبتها الباحث عن أن المجاعة حين حلت بالمهاجرين فإنهم لجؤوا إلى أكل جثث الهنود الذين استضافوهم ورحبوا بهم في البداية، إذ كانوا يقتلونهم، كما كانوا يغيرون على قبورهم في الليل لينبشوها ويسرقوها ويأكلوا جثثها الطازجة. ثم إنهم راحوا يأكلون جثث موتاهم البيض، حتى إن واحدا منهم ذبح زوجته وأكل لحمها باستثناء الرأس. وقد أشارت بعض الدراسات التاريخية الأمريكية إلى مثل تلك الجرائم، فنشرت جامعة إنديانا كتابا لاثنين من المؤرخين تحت عنوان "قاتل هنود الكرو- ملحمة جونستون أكال الكبد". وذكر المؤلفان أن الرجل أمضى أكثر من عشرين سنة يقتل هنودا من شعب الكرو، ويسلخهم ويأكل أكبادهم. ووثقا أكثر من 300 حالة قتل ارتكبها صاحبنا ليرضي شغفه بأكل الأكباد.
    تحدث الكتاب أيضا عن أن البريطانيين كانوا مهووسين بأكل لحوم البشر في العصور الوسطى، إلا أنهم ألصقوا التهمة ذاتها بالشعوب التي وفدوا عليها واتهموها بالهمجية. وهو ما حدث لسكان أمريكا وأستراليا الأصليين بل إن التهمة وجهت أيضا إلى الأيرلنديين. الفكرة ذاتها وثقها كتاب آخر أصدرته جامعة شيكاغو في كتاب صدر باسم "أكل لحوم البشر والقانون العرفي" خلص إلى أن أكل لحوم البشر كان شائعا لدى الإنجليز في القرن السابع عشر. لكنه تطور وتعزز مع اتساع رقعة التجارة البريطانية ومع الزحف الاستعماري إلى كل قارات الأرض. أهم ما أثبته كتاب منير العكش في هذه المسألة ان أكل لحوم البشر كان عرفا مستقرا لدى البريطانيين في تلك المرحلة من التاريخ، وهو انطباع يخالف ما أعلنه العلماء الأمريكيون مؤخرا، الذين أكدوا أن ذلك كان سلوكا استثنائيا أملته الضرورات (التي تبيح المحظورات). وهو ما يعد نموذجا للتحيز المعرفي الذي يعلي من شأن الجنس الأبيض، وينسب الهمجية والوحشية إلى الشعوب الضعيفة الأخرى. وقد شاء ربك أن يكشف بعض المؤرخين الحقيقة قبل أن يلجأ علماء الأجناس إلى طمسها وتزييفها".
    وفى موقع "فوبيا" يعرض د. ثائر دورى كتاب منير العكش: "أمريكا والإبادة الثقافية" فيقول: "يُعَدّ هذا الكتاب محطة على طريق بدأه المؤلف لتشريح ثقافة وتاريخ الواسب الزنابير (البيض، الأنغلوساكسون، البروتستانت)، ولشرح فكرة أمريكا التي تعني استبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة، وتاريخ بتاريخ، فأنجز في سبيل ذلك عدة كتب "تلمود العم سام"، و"حق التضحية بالآخر"، و"فكرة أمريكا". بعد المقدمة يُصدّر الكاتب الفصل الأول من كتابه: "أمريكا والإبادات الثقافية " الصادر عن دار رياض الريس باستشهاد لتوماس مكولاي مهندس سياسة التعليم الإنكليزية للشعوب المستعمرة، إذ يقول عن الهند: "لا أظن أبدا أننا سنقهر هذا البلد: "الهند" ما لم تُكْسَر عظام عموده الفقري التي هي لغته وثقافته وتراثه الروحي"
    يُعد توماس مكولاي واضع دستور الإبادة الثقافية الأنغلوساكسوني، وهو النهج الذي اتبعه الأنغلوساكسون في كل البلدان والقارات التي استعمروها في سبيل خلق جيل من أولاد مكولاي وظيفتهم استعمار شعوبهم لصالح الأنغلوساكسون. إن الإبادة الثقافية تُكْمِل مهمة الإبادة الجسدية، وأحيانا تغني عنها، وقد تكون أكثر نجاعة كما يقول مارك توين باستشهاد آخر للمؤلف. يقول: "وقفت بجانب وزير الحرب وقلت له إن عليه أن يجمع كل الهنود في مكان مناسب ويذبحهم مرة وإلى الأبد. وقلت له إذا لم توافق على هذه الخطة فإن البديل الناجع هو الصابون والتعليم (soap and education). فالصابون والتعليم أنجع من المذبحة المباشرة، وأدوم وأعظم فتكا. إن الهنود قد يتعافَوْن بعد مجزرة أو شبه مجزرة، لكنك حين تعلّم الهندي وتغسله فإنك ستقضي عليه حتما، عاجلا أم آجلا. التعليم والصابون سينسفان كيانه ويدمران قواعد وجوده. وقلت له:سيدي، اقصف كل هندي من هنود السهوب بالصابون، والتعليم، ودعه يموت".
    بعد كل الإبادات الجسدية بالأسلحة النارية وبالأسلحة البيولوجية عبر نشر جراثيم الجدري، وبعد التجويع والمطاردة، جاء دور "المحرقة الأخيرة للوجود الهندي" عبر سياسة الإبادة الثقافية الممنهجة التي اتبعها الغزاة الزنابير ضد من تبقى من 400 أمة وشعب كانوا يشغلون فضاء أمريكا قبل مجيء المستوطنين الغزاة. فكان يتم انتزاع أطفال الهنود الحمر بالقوة من أمهاتهم وآبائهم وضمهم إلى مدارس داخلية أشبه بمعسكرات اعتقال وعمل حيث تُزْرَع في ذاكرة الهندي لغة الغزاة وثقافتهم، ويعلمونه كره واحتقار حضارته وعاداته وتقاليده. ويشرح المؤلف، الذي قضى سنوات يراجع الوثائق الحكومية الأمريكية الخاصة بهذا الموضوع، أن الأمر يتم منذ لحظة إدخال الطفل إلى المدرسة، فيتم قص شعره الطويل الذي يعد مفخرة عند الهنود، وله مكانة كبيرة في الثقافة الهندية، فلا يتم قصه إلا كعقاب على جريمة كبيرة، كما تحرق ثيابه الهندية، ويحشر الطفل في بنطلون ويجرد من اسمه الهندي، ويطلقون عليه اسما أنغلوساكسونيا، كما يحظرون عليه التحدث بلغته الأم. وأما الحياة داخل هذه السجون، التي أطلقوا عليها اسم مدارس، فهي أشبه بالجحيم إن لم تكن. فالراتب الغذائي لا يسد الرمق، والأطفال يعملون أعمالا شاقة كما في معسكرات الاعتقال، فينظفون ويمسحون ويفلحون ويزرعون. ويصل يوم عملهم إلى ست عشرة ساعة ليتناولوا بعدها أردأ أنواع الطعام، ثم ينامون بأسوأ الظروف، ويتعرضون للاغتصاب والانتهاك الجنسي بشكل منظم من قبل وحوش بشرية أسندوا إليها إدارة هذه السجون،. والنتيجة النهائية لكل ذلك أن أكثر من خمسين بالمئة من الأطفال في هذه المدارس قد ماتوا. وبكلمة أخرى قضت هذه المدارس على ربع الهنود الناجين من المذابح المباشرة على مدى خمسة أجيال متعاقبة. ومن بقي على قيد الحياة إما مدمر نفسيا يحاول الانتحار أو يرى الدنيا بعيني الزنابير.
    لقد دمروا حضارة الهنود وتاريخهم تدميرا تاما إلى حد أن أبناء الهنود الحمر اليوم يصدقون أن أجدادهم كانوا متوحشين يأكلون لحوم البشر قبل أن يدخلهم الزنابير البيض في الحضارة! أُوكِلَتْ إدارة هذه المدارس إلى حثالة المجتمع الأمريكي الأبيض من متخرجي السجون وأصحاب السوابق والساديين ومغتصبي الأطفال. لذلك لم تخلُ مدرسة من الاغتصاب الجنسي. فتقرير المجلس الأعلى لهنود كاريبو 1991 يذكر، استنادا إلى شهادة 187 تلميذا، أن 89 منهم تعرض للاغتصاب، ورفض 60 تلميذا الإجابة، بينما قال 38 تلميذا إنهم لم يتعرضوا. أما تقرير وزارة الصحة لعام 1993 فيقول إن نسبة اغتصاب الأطفال في هذه المدارس بين عامي 1950 1980 تبلغ 100%. واستباحة الجسد هذه التي رأينا تكرارا لها في العراق في فضائح سجن أبو غريب وغيره ليست عملا عشوائيا، ولا نزوة من سجانٍ ساديٍّ أو مختلٍّ كما يحاول إعلام الزنابير تصويره، بل تدخل ضمن سياق عملية منظمة لكسر الضحايا وإفقادهم الأمل في المقاومة، فلا يبقى أمام الشخص المُنْتَهَك إلا أن ينتحر أو أن يستسلم لشهوات الرجل الأبيض التي يلخصها لانسلوت أندروس بقوله: "الأرض قطعة من اللحم موضوع على المائدة. يقطع منه الإنسان ما يشتهي. وما إن يضع القطعة في صحنه حتى تصبح له. كذلك إذا اقتطعنا بلدا لا يوجد فيه سكان (بيض) فإنه يصبح لنا".
    يطلق الكاتب على الفصل السابع من كتابه اسم "أولاد مكولاي". ومكولاي هو مخطط سياسة كسر العمود الفقري للهند بواسطة التعليم: "علينا أن نربي طبقة تترجم ما نريد للملايين الذين نحكمهم، طبقة من أشخاص هنود الدم والبشرة، لكنهم إنكليزيو الأفكار والتوجه والأخلاق والعقل". إن خلق جيل من السماسرة عبر التعليم يرى العالم بعيون البيض: "وجوه بيضاء، أقنعة سوداء"، كما يعبر فرانز فانون، يُغني الغزاة عن الجيوش والأساطيل. وسياسة الاستعمار الداخلي هذه طبقها الأنغلوساكسون أينما حلوا، ونجد آثارها اليوم في كل مكان من العالم وصلته موجة "التحضير" الأنغلوساكسوني عبر خلق جيل نغل من المثقفين يَرَوْن العالم بعيون أنغلوساكسونية، فيشنعون على أهلهم دينهم وعاداتهم وتقاليدهم وطريقة حياتهم، ويحتقرون تاريخ أمتهم، ويَرَوْن ألا خلاص لأمتهم إلا بتحولها إلى خادمة في مطابخ سادتها، وأن تستسلم للمصير الذي قرره هؤلاء السادة. فإن فكرت بالتمرد والمقاومة نعتوها بأشد النعوت تحقيرا، وكانوا أقسى عليها من أعدائها، فحملوها مسؤولية ما يجري لها. وإن أتيح لأحدهم أن يمسك بندقية فلن يتردد بالتصويب على أمه وأهله. يقول مكولاي:
    "صياغة العقل الهندي تحتاج أولا إلى جهود حثيثة لإعادة كتابة التاريخ والثقافة الهندية المكتوبة بالعربية أو بالسنسكريتية، على أن يتم ذلك بأقلام هنود إنكليزيي الثقافة والذوق والأفكار والتوجه والأخلاق والعقل".
    وهذه السياسة استنسخها الأنغلوساكسون في كل مكان، ومن ذلك وطننا العربي. وعندما يصبح عدد نغول مكولاي كافيا تنتفي الحاجة للجيوش والأساطيل، لأن هؤلاء المشحونين بكراهية أهليهم وثقافتهم وتاريخهم يتكفلون بالمهمة، "فلا الاحتلال يسمى بـ"احتلال" ولا المقاومة تسمى بـ"مقاومة"، وتبرعوا بأقسى حملات التشنيع على ثقافتهم وأهليهم. فبفضل هؤلاء السماسرة صارت حضارة الهنود موضع شك وسفسطة، وصارت مساهماتها في الفلسفة والعلم والأدب والفن موضع جدل والتباس. وبفضلهم سُلِبَ الهنود كثيرا من إنسانيتهم، وسُلِقَتْ مقاومتهم للاحتلال بأشنع الأوصاف. وصار الغزاة منقذين ومخلصين، ولم يجيئوا إلى الهند إلا لانتشال أهلها من مستنقع الجهل والتحجر وتمدينهم".
    أهمية هذا الكتاب ليست لأنه يرصد مأساة إنسانية تعرض لها الهنود الحمر ومتمثلة بإبادة ثقافتهم وحضارتهم بعد إبادة أجسادهم، بل لأنه يكتسب أهمية راهنة. فعندما خرج الانكليز من جزيرتهم إلى أراضي الهنود الحمر توهموا أنهم عبرانيون وأن الهنود الحمر كنعانيون، فأنشأوا إسرائيل الكبيرة التي هي أمريكا. ومع بداية القرن العشرين حان الوقت للانتقال من المجاز إلى الحقيقة، وبَدَلَ إبادة الكنعانيين المتوهَّمين حان وقت إبادة الحقيقيين، فأقاموا اسرائيل الحقيقية الصغرى في فلسطين، وما زالت القصة تتوالى فصولا حتى اليوم. فالطرد والإبادة الجسدية والثقافية هو المصير المقرر لنا على أيدي العبرانيين المتوهَّمين والحقيقيين.
    كتاب على كل عربي مقاوم أو متردد أو حتى مساوم أن يتمعن في معانيه لأن مصير الجميع مقرر سلفا على أيدي العبرانيين. فحتى الذين خانوا قومهم من كنعانيي المجاز، الهنود الحمر، لم يكن مصيرهم أفضل من الذين قاوموا. فالجميع طُرِدوا وأبيدوا جسديا وثقافيا".
    وقد ورد تعريف "أبناء مكولى" فى ترجمة الوغد البريطانى بالنسخة الإنجليزية من "الويكيبيديا" على النحو التالى:
    "The term "Macaulay's Children" is sometimes used to refer to people born of Indian ancestry who adopt Western culture as a lifestyle, or display attitudes influenced by colonisers ("Macaulayism") – expressions used disparagingly, and with the implication of disloyalty to one's country and one's heritage".
    وفى ترجمة هذا الوغد البريطانى بالنسخة العربية من "ويكيبيديا" يرد، فى سياقه الكامل، كلامه عن الهند وتحطيم تراثها الثقافى واستعبادها من خلال أبنائها أنفسهم على النحو التالى: "يشتهر بخطابه الذى ألقاه في البرلمان الإنكليزي في الثاني من شباط 1835م، والذي جاء فيه: "لقد سافرتُ في الهند طولا وعرضا، ولم أر شخصا واحدا يتسول أو يسرق. لقد وجدت هذا البلد ثريا لدرجة كبيرة، ويتمتع أهله بقيم أخلاقية عالية ودرجة عالية من الرقي حتى إنني أرى أننا لن نهزم هذه الأمة إلا بكسر عمودها الفقري، وهو تراثها الروحي والثقافي. ولذا أقترح أن يأتي نظام تعليمي جديد ليحل محل النظام القديم لأنه لو بدأ الهنود يعتقدون أن كل ما هو أجنبي وإنكليزي جيد وأحسن مما هو محلي فإنهم سيفقدون احترامهم لأنفسهم وثقافتهم المحلية، وسيصبحون ما نريدهم أن يكونوا: أمة تم الهيمنة عليها تماما". والآن أظن القارئ الكريم يستطيع أن يبصر بوضوح أن صادق جلال العظم وأمثاله من بنى جلدتنا هم بعض أبناء مكولاى ليس إلا!
    ثم ألم تكن هناك حرب طاحنة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، وكلتاهما تنتمى إلى الحضارة الغربية، لا تقلّ إن لم تزد عن الحرب بين الغرب والإسلام؟ فكيف يا ترى ينبغى أن نفهم كلام السيد صادق العظم؟ إنه يتحدث عن ماركس ونبوءاته وكأنها الوحى السماوى رغم ما اتضح لكل ذى عينين من غير عميان الماركسية أنها نبوءات مغشوشة رآها صاحبها فى المنام وهو عريان السوأة فلا ينبغى أخذها مأخذ الجد. والعظم ومن على شاكلته من أيتام الماركسية أعظم برهان على صحة ما نقول، إذ أين الماركسية الآن؟ بل أين الاتحاد السوفييتى ذاته ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية واليمن الجنوبى وصومال سياد برى وأفغانستان برباك كارمل... إلخ؟ بل أين بورقيبه وعبد الناصر وبشار الأسد وغيرهم ممن صدّقوا، على نحو أو على آخر، ما يهرف به أخونا العظم من استحالة الوقوف فى وجه اختراق الحضارة الغربية لمجتمعاتنا ومحاولتها القضاء على ديننا المتخلف الرجعى؟
    ولقد قالها قبلا د. طه حسين، الذى ألح فى كتابه: "مستقبل الثقافة فى مصر" الصادر أواخر ثلاثينات القرن الماضى، على أن السبيل إلى إلى التحضر والعزة والسيادة "ليست فى الكلام يُرْسَل إرسالا ولا فى المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما هى واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عِوَجٌ ولا التواء، وهى واحدةٌ فَذَّةٌ ليس لها تعدد. وهى أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاءَ فى الحضارة خَيْرِها وشَرِّها، حُلْوِها ومُرِّها، وما يُحَبّ منها وما يُكْرَه، وما يُحْمَد منها وما يعاب". هكذا مرة واحدة، خبط لزق، وكأننا بصدد شروة طماطم! وقد علق على هذه الدعوة المريضة د. محمد محمد حسين رحمه الله فى كتابه: "الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر" فقال إن هذا الكلام الماسخ "شبيهٌ بقول آغا أوغلى أحمد، أحد غُلاَة الكماليين من الترك فى أحد كتبه: "إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الأوربيين، حتى الالتهابات التى فى رِئِيهم والنجاسات التى فى أمعائهم".
    وطبعا ليس لذلك من معنى إلا أنه ما دامت أوربا تُلْحِد فلا بد لنا نحن أيضا أن نُلْحِد ونكفر بالله وبملائكته ورسله واليوم الآخر، وما دامت أوربا تنظر إلى الرسول على أنه نبى غير حقيقى فلا بد لنا نحن أيضا على سبيل التبعية أن ننظر إليه صلى الله عليه وسلم بنفس العين، وما دامت أوربا تبيح الخنزير والخمر والميسر والزنا واللِّوَاط والسِّحَاق والربا فلا بد لنا أيضا أن نصنع صنيعها فنأكل الخنزير ونشرب الخمر ونلعب الميسر ونزنى ونَلُوط ونُسَاحِق ونُرَابِى... وهكذا. أليس هذا بعض ما تتضمنه حضارة أوربا من شرور وعيوب مما أوصانا طه حسين أن نأخذه مع حضارة أوربا صفقةً واحدةً دون انتقاءٍ أو تطهيرٍ؟ إن الرجل حريص أتم الحرص على أن "نرى الأشياء كما يراها (الأوربى)، ونقوِّم الأشياء كما يقوِّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها، ونطلب من الدنيا مثل ما يطلب، ونرفض منها مثل ما يرفض".
    وعلى هذا فإذا سمعناه يقول فى موضع آخر: "إذا دعَوْنا إلى الاتصال بالحياة الأوربية ومجاراة الأوربيين فى سيرتهم التى انتهت بهم إلى الرقىّ والتفوق فنحن لا ندعو إلى آثامهم وسيئاتهم، وإنما ندعو إلى خير ما عندهم وأنفع ما فى سيرتهم... ونحن، حين ندعو إلى الاتصال بأوربا والأخذ بأسباب الرقىّ التى أخذوا بها، لا ندعو إلى أن نكون صُوَرًا طبق الأصل للأوربيين كما يقال، فذلك شىء لا سبيل إليه ولا يدعو إليه عاقل. والأوربيون يتخذون المسيحية لهم دينا، فنحن لا ندعو إلى أن تصبح المسيحية لنا دينا، وإنما ندعو إلى أن تكون أسباب الحضارة الأوربية هى أسباب الحضارة المصرية لأننا لا نستطيع أن نعيش بغير ذلك، فضلا عن أن نَرْقَى ونَسُود"، إذا سمعناه يقول ذلك عرفنا أنه لا يقول ما فى قلبه، وإنما يحاول أن يخدعنا عن نفسه، فهذه طريقة طه حسين: يضرب الضربة، ثم يستدير إليك حين يرى أنك لم تمت بَعْدُ قائلا: "أنا آسفٌ أنْ آلمتُك عن غير قصد"! ثم يمضى مسددا لك اللكمات والضربات المُصْمِيَة التى يريد بها أن يقتلك! وبمناسبة ما قاله طه حسين عن أنه لا يريد للمسلمين أن يعتنقوا المسيحية فإنى لا أستطيع أن أطرد عن ذاكرتى ما خطر لى الآن مما قرأته عن تعميده فى كنيسة إحدى القرى بالجنوب الفرنسى قبيل زواجه من سوزان، أو عن اقتران حفيدته بشاب يابانى، أو ما سمعتُه أواسط ثمانينات القرن الماضى من أستاذةٍ للغة الفرنسية، لها بباريس صلة قوية، عن تنصّر ابنه رسميا فى فرنسا آنذاك، وإن كنت لا أريد أن أخوض فى هذا الأمر أكثر من هذا لأنى لا أملك بين يدىّ الآن وثائق مكتوبة.
    وهذا الكلام الذى يردده صادق العظم على سبيل المثال، ومن قبله طه حسين، هو السخف بعينه، وإلا فلماذا لم يتبع الأوربيون أيام تخلفهم وتقدم الحضارة الإسلامية هذه الحضارة قلبا وقالبا وتخلَّوْا عن دينهم وعاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم وسلوكهم وأخلاقهم؟ لقد أخذوا من حاضرتنا الغابرة أشياء، وتركوا أشياء، وها هم أولاء قد صاروا فى نظر العظم وأمثاله المثال الذى ينبغى أن يحتذى. وطه حسين والعظم وأشباههما إنما يرددون مقولات الغربيين ويتبنَّوْن نظرتهم فى أن أوربا هى مركز العالم، وليس هناك أى سبيل أمام أية دولة أو أمة إلا أن تفنى فى الأوربيين وتصير عبدة لهم، إذ هى النموذج والمثال الأعلى الذى لا يد من احتذائه لكل من يريد نجاحا وتقدما واستنارة وغنى. صحيح أنهم يتظاهرون بأنهم يريدون لك الخير والسعادة والتقدم مثلهم، ولكن حاول أن تصدقهم، فلن تجد منهم إلا الحرب العَوَان لك والعمل بكل طريق على إبقائك حيث أنت متخلفا مريضا فقيرا جاهلا معتمدا فى كل أمورك عليهم حتى يمكنهم ساعة الجد أن يركّعوك تحت أقدامهم بل أن يطحنوك بأضراسهم. وما طه حسين وصادق العظم ومن على شاكلتهما سوى القاطرة التى تشد بقية العربات إلى وادى التبعية والعبودية والضلال والهوان. ومع هذا فلسوف تسمع صرير الأقلام مزعجا يزعم أنهم هم القادة المعلمون الذين ينبغى أن يصيخ إليهم الجميع ويتبع خطاهم الجميع لا مناص من ذلك، وإلا عُدَّ من يخالفهما متخلفا رجعيا لا ينتمى إلى العصر، ومكانه متاحف التاريخ.
    لقد نسيت أوربا، ونسى وراء نسيانها قرودنا الذين يلعبون طبقا لأوامرها "عجين الفلاحة" و"نومة العازب" ولا يحسنون غير تلك الألاعيب البهلوانية الرخيصة التى يغرم بها المختلفون، أن أوربا لم تكن طوال عمرها متقدمة قوية متعلمة غنية صحيحة البدن والعقل، بل كانت تعانى التخلف والانغلاق والتكلس العقلى فى الوقت الذى كانت حضارتنا فيه عفية قوية ثرية عالمة صاحبة ذوق سليم بل مترف، وكان أسلافنا ينظرون إلى أهلها بوصفهم متوحشين أفداما منحطين. فلا يصح أبدا تصوير الأمر على أساس أنه إما أن نتبع أوربا فى كل شىء وإما الطوفان. لا يا أخى منك له، لا أوربا معصومة من الخطإ والخطل والانحراف والضلال، ولا الطوفان ينتظرنا إن لم نجث على ركبنا أمامها. فلنأخذ من أوربا علمها ومناهجها العلمية وشهوة المعرفة والتقدم واقتحام الطبيعة وحب المغامرة والثقة بالنفس والاعتماد على الذات والتعاون والتنظيم والتخطيط، لا بتفاصيلها، فقد تكون كامنة فى تلك التفاصيل ثعابين وعقارب وبلايا ورزايا، بل كقيم ومبادئ عامة، على أن يكون معلوما لدينا تماما أن كل ما أوردتُه الآن من مبادئ وقيم متوافرٌ فى ديننا على أحسن وجه، ويتفوق على نظيره الأوربى تفوقا كبيرا.
    وسأمثل لذلك بمثالين اثنين: فأما أحدهما فحق كل إنسان فى التعليم، ذلك المبدأ الذى توصلت إليه الحضارة الحديثة بعد طول عذاب، وبعد أن كانت الكنيسة فى العصور الوسطى مثلا تحرم على أتباعها قراءة الكتاب المقدس ذاته. فماذا يقول الإسلام فى هذا الموضوع؟ لقد جعل الإسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ولم يكتف بجعله حقا كما صنعت الحضارة الحديثة. والفرق بين الأمرين هائل لفتنى إليه فى مطلع الثمانينات فى لندن كتاب استعرته من مكتبة قريبة من المسكن الذى كنت أقطنه بشرق لندن اسمه: "Muhammad and Learning"، إذ قال مؤلفه إن الفريضة لا يمكن صاحبَها التنازلُ عنها، ولا بد له من أدائها، وإلا كان آثما ولم يصح إسلامه بالصورة المنشودة، أما الحق فلصاحبه أن يتنازل عنه ويهمله ولا يطلبه. وهو ما يحدث الآن فى البلاد العربية، وبالذات فى مصر حيث لا يهتم التلاميذ والطلاب بتحصيل العلم رغم ما تبذله الدولة من أموال طائلة وجهود مضنية فى هذا السبيل.
    وأما ثانى الأمرين فهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام ما معناه أن المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر. وهو ما لا وجود له فى أى دين أو مذهب أو منهج فى الدنيا كلها، بل كل ما يتمناه المخطئ فى أى مكان هو أن يخفَّف عنه العقاب، أما إن سُومِح فإنه يقبل يديه ظهرا لبطن، وبطنا لظهر، ولا يكاد يصدق بالنجاة. لكن الرسول أتى بالفذ المدهش، وهو أن المخطئ يحصل على أجر هو أيضا. ذلك أنه يكفى فى الإسلام أنه عزم وبذل كل ما لديه من جهد ولم يقصر، وهذه كلها قيم عظيمة لو فشل صاحبها مرة لسوف ينجح مرات ومرات. ومع هذا فصادق العظم يرمى الإسلام بأنه لا يشتمل إلا على الخرافات والأساطير والغيبيات (يقصد الخرافات التى لا أصل لها) والأمثال السائرة والحكم الوعظية، ودمتم!
    أما أن قاطرة التقدم، أى التقدم العلمى والاقتصادى والعسكرى والصحى، لا ترحم من يقف فى طريقها فذلك مما نملك ترف المشاحّة فيه، فالأمر أوضح من أن ينكره أحد. ولقد غَبَر على المسلمين قرون وهم متخلفون فى هذه الميادين تخلفا يبعث على الرثاء والغثيان، فكانت النتيجة ما نرى من ضعفهم الشائن وتساقط بلادهم فى يد الغربيين يصنعون بها وبهم ما يشاؤون من إذلال ما بعده إذلال، واحتلال يعمل على تدمير الحاضر والمآل، وانتهاك أعراض وانتهاب أموال، واعتداء على الإسلام مخز مهين، وهم لا يريدون استخلاص الدرس ولا استيعابه رغم بساطته، ألا وهو أنهم ينبغى أن يتعلموا ويستخدموا تلك النعمة التى وضعها الله فى رؤوسهم: نعمة العقل والتفكير والإبداع، وما يرتبط بها من دراسة كل صغيرة وكبيرة واكتشاف للمشكلات ووضع حلول لها وتخطيط لكل شىء ونظام صارم واقتحام جسور لمجالات الكون وطموح غلاب لاهب إلى السيادة والعزة والكرامة. ولا ريب أن منهم كثيرين يعرفون ماذا ينبغى عمله للخروج من هذه الدائرة الجهنمية، إلا أن الغالبية الساحقة تحرن كالبغال فلا تريد أن تنتقل عما هى مرتكسة فيه من تخلف ومذلة وفوضى وجهل قيد أنملة رغم أنها لا تحتاج إلى التخلى عن دينها فى شىء على عكس ما تظنه تلك الأغلبية الساحقة، التى يوهمها الأغبياء من المنتسبين إلى العلم الدينى، وكذلك من أمثال صادق العظم الرافضين للإسلام، أنه فى خطر، وإن كان لكل من الفريقين غاياته وأهدافه التى تتناقض وغايات الفريق الآخر وأهدافه تماما.
    فأما العظم فقد رأينا أنه لم ير شيئا فى الدين سوى المعجزات والخرافات والغيبيات والأساطير والأمثال والحكم، وكأن الدين ليس فيه دعوة إلى العلم لم يصل إليها الغرب حتى الآن، وليس فيه إلحاح على التثبت مما نسمع أو نقول قبل أن نسلم به أو نذيعه، وليس فيه تنظيم صارم حتى فى صفوف الصلاة، وليس فيه استحثاث على العمل وتفضيل له على العبادة التقليدية، وليس فيه أن النظافة من الإيمان، وليس فيه أن الدين يسر لا عسر، وليس فيه أن الله يغفر الذنوب جميعا، وليس فيه التضامن الاجتماعى على أحسن وضع، إذ يكفى أن يكون الضمير الداخلى الذى يخشى صاحبه ربه هو الفيصل فى ذلك لا القانون، وليس فيه إقرار بالشهوات وأهميتها وحتمية إشباعها والحملة على من يتجاهلها نفاقا وبهلوانية... إلخ، ودعونا من أن الإسلام ليس فيه خرافات ولا أساطير، بل فيه تشريعات قويمة وأخلاق كريمة وعقائد مستقيمة، وقصص هادف ومنطق للحق جانف، وقيم رائعة ومبادئ بارعة، ومثل عالية وغايات سامية.
    هل معنى ذلك أن الدين يخلو من الحديث عن المعجزات؟ كلا وحاشا. إذن فماذا؟ إذن فالدين يقر بأنه كانت هناك فعلا معجزات وقعت على أيدى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم. وعلى العكس من اتجاه تفكير صادق العظم أرى أن إقرار القرآن بمعجزات الأنباء والرسل السابقين هو من نقاط القوة والإقناع العجيبة فى دين محمد. كيف؟ إن محمدا صلى الله عليه وسلم، فى الوقت الذى يقر فيه بمعجزات النبيين والمرسلين الآخرين، يرد على كفار قومه، كلما تحدَّوْه وطلبوا منه معجزة، بأنه ليس إلا بشرا رسولا ليس فى مستطاعه القيام بخارقة دون أن يشاء الله ذلك، ثم هو لا يستجيب لهم أبدا رغم هذا معلنا، كما يأمره القرآن، أن عصر المعجزات قد ولى، وأن تأثيرها فيما سبق كان محدودا لا يكاد يذكر. فانظر كيف يقر محمد بمعجزات الرسل، لكنه ينفى أن يكون قادرا على الإتيان بمثلها. ولقد كان بمكنته منذ اللحظة الأولى أن يعلن أنه لا يوجد فى الدنيا: لا فى الماضى ولا فى الحاضر ولا فى المستقبل أية معجزات، مغلقا بذلك هذا الباب الذى يأتيه منه الريح كى يطمئن ويستريح. وعلى من يعترض عليه أن يثبت العكس، وهو ما لن يستطيعه أحد كائنة ما كانت عبقريته، إذ المعجزات قد مضت فى الزمان الأول وانتهى أمرها، ولا يمكن أحدا البرهنة عليها واقعيا. لكنه، صلى الله عليه وسلم، سلك سبيلا أخرى تماما جلبت عليه وجع الدماغ، فتحمل وجع الدماغ لأنه صادق لا يهمه ما يقاسيه فى سبيل هذا الصدق العبقرى المذهل.
    قد يقول السفهاء إنه كان يتقرب إلى أصحاب الأديان الأخرى بذكر معجزات أنبيائهم ومرسليهم حتى يؤمنوا به، ولو كان قد أنكر تلك المعجزات لانصرفوا عنه. قد يقول السفهاء، وما أكثرهم، ذلك، إلا أن الجواب على ما يقوله السفهاء سهل يسير، إذ لم يكن القرآن فى ذلك الوقت المبكر من عمر الدعوة قد نص بعد على عالمية رسالته بحيث يهمه أصحاب الأديان السابقة إلى هذا الحد، فضلا عن أن اليهود والنصارى من المكيين لم يكونوا عنصرا هاما هناك: سواء من ناحية العدد أو من ناحية أن غالبيتهم لم يكونوا عربا، بله أن يكونوا قرشيين، وهم الذين يهمونه فى ذلك الوقت. ثم فلنفترض أن اليهود والنصارى كانوا يهمونه رغم ذلك لأن اليهودية والنصرانية كانتا لاتزالان موجودتين ومؤثرتين فهل كان ذلك ينطبق مثلا على ديانة إبراهيم أو نوح من قبل إبراهيم؟ فلماذا ذكر معجزات إبراهيم ونوح إذن؟ وهذا لو كان يعمل لأتباع الأديان السابقة حسابا يمنعه من تجاهل ذكر المعجزات التى عملها أنبياؤهم. أما حين نعلم أنه لم يكن يعمل حسابا لأى شىء من ذلك فعندئذ لن يكون لما قد يقوله السفهاء أى معنى. كيف؟ لقد حمل على هؤلاء الأتباع حملة شعواء، ووجه ضربات مصمية بل صاعقة لجوهر عقيدتهم حين نفى أن يكون الله ربا لبنى إسرائيل وحدهم بحيث يكونون هم أبناء الله وأحباءه، ورماهم بقساوة القلوب وقتل الأنبياء والتعنت والتساخف معهم بمطالبتهم طوال الوقت بالآيات المعجزات دون تفكير فى مد يد التعاون معهم أبدا والمسارعة فى كل منعطف طريق إلى الكفر بهم، ونفى أن يكون عيسى إلها أو ابنا للإله أو أنه نزل إلى الأرض لفداء البشر من خطيئتهم، أو أنه قد صُلِب أو قُتِل، أو أنه سيحاسبهم بنفسه يوم القيامة بل سيحاسَب كما يحاسَب سائر البشر، ومنهم محمد ذاته. فماذا يمكن أن يقول السفهاء فى ذلك؟ وقد يقول السفهاء أيضا إن محمدا قد غير رأيه مع الأيام فى موضوع الخوارق حين أحرجه القرشيون فصار ينفى أن يكون فى طوق أحد من البشر الإتيان بشىء منها. والجواب على ما يقوله السفهاء هو أنه قد ظل يذكر، وبمنتهى الاحترام، خوارق السابقين من النبيين والمرسلين رغم تحزب مدعى الإيمان بهم ضده وموالستهم مع المشركين من قومه حتى بعدما هاجر إلى المدينة بسنوات.
    والحل؟ الحل ليس فى الكذب وتصوير الإسلام على أنه دين الغيبيات والخرافات الأساطير والخوارق والأمثال السائرة والحكم الوعظية فقط، ودمتم، وليس الحل فى النظر إلى المعجزات المذكورة فى القرآن على أنها مجرد رموز كما يدعو صادق العظم فى بعض ما كتب فى دراسته التى نتناولها الآن، مما يجرى فيه على مذهب القاديانيين، الذين يقولون مثلا إن وادى النمل الذى مر به سليمان وجنوده موضع تسكنه مجموعة من القبائل الكثيرة كالنمل، أو إن هدهد سليمان هو ضابط فى جيشه كان يرسله عليه السلام فى مهمات استطلاعية فيأيته بالخبر اليقين، أو إن صُنْع عيسى من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا معناه أنه قادر برسالته على هداية البشر، وهم بطبيعة الحال مخلوقون من الطين، فبكون بمستطاع الواحد منهم بعد أن تتم هدايته على يديه أن يطير فى سماوات الروحانية... إلخ، وهو ما فنَّدْتُه وبينتُ وجه العوار الفادح والقادح فيه فى كتابى: "من الطبرى إلى سيد قطب- دراسة فى مناهج التفسير ومذاهبه"، وبخاصة أن القرآن لا صرَّح ولا لمَّح بأنه إنما يرمز أو يضرب أمثالا، إذ كان واضحا تمام الوضوح أنه يتحدث عن وقائع تاريخية تتسم بخرقها لنواميس الطبيعة، بل الحل هو تصنيف عناصر الإسلام بحيث يكون لكل عنصر طريقة فى التعامل معه: فأما الغيبيات فتتمثل فى الإيمان بالله سبحانه واليوم الآخر، الذى من شأن الاعتقاد فيه تحفيز الناس على بذل أقصى ما عندهم من طاقة لعمل الخير وتثبيط اندفاعهم نحو الباطل والأذى والظلم والتجاوز. ويدخل تحت هذه المظلة الاعتقاد فى الأنبياء والرسل. وهذا العنصر جوهرى فى الدين لا يمكن أن يكون ثم دين بدونه. وليس فى هذا ما يضير أحدا، بل فيه المصلحة كل المصلحة متى وقف البشر عند ما يقوله القرآن والرسول فيه دون زيادة أو نقصان.
    وأما المعجزات فالحل فى أن نغلق بابها لأنها تنتمى إلى عصر مضى وانقضى، ولا سبيل لرجعتها. ولن يستفيد المؤمنون منها فى حياتهم الحالية شيئا لأن جميع السبل إليها قد انسدت، فلا مجال للوصول إليها. وبدورهم ليس للكافرين بالأديان من داع إلى التوقف إزاء تلك المعجزات ومحاولة بث الشبه بشأنها، لسبب بسيط هو أنهم لا يمكنهم التدليل على صحة موقفهم المنكر لها. ولا ينبغى أن ننسى أن موقف عدد من فلاسفة العصر الحديث من القوانين الكونية هى أنها ليست حتما فى ذاتها، بل كل ما يستطاع قوله بشأنها هو أن "أ" تقع عقب حدوث "ب" مثلا لا أن وقوع "ب" يستلزم حتما أن تحدث "أ" عقبها لا محالة. وقد سبقهم الإمام الغزالى إلى هذا منذ قرون، ورتب على ذلك الكلام القول بأن مشيئة الله هى التى اقتضت مثلا أن النار متى شبت فى شىء أن تحرقه، وأنه سبحانه لو أراد أن تشب النار ولا تحرق لكان ما أراد، بخلاف بعض فلاسفة ومفكرى عصرنا الذين أنكروا الله جملة. وأرى أنه ليس فى القول بوجود قوانين كونية مطردة والإيمان بوجود الله ووجوب اعتمادنا على أنفسنا فى تحقيق ما نصبو إليه أى تناقض: فالله هو الذى شاء أن يكون نظام الكون هو هذا النظام الذى أمامنا، ولو شاء تغييره لغيره، وهو ما تمثل فى المعجزات، الذى قال هو نفسه إن عصرها قد انصرم، ولا سبيل إلى عودتها. وهو سبحانه الذى فرض علينا العمل والاجتهاد إذا أردنا أن ننجز شيئا، ولا بد أن ننجز كل شىء يمكن إنجازه، وإلا حوسبنا وعوقبنا فى الدنيا خزيا وهوانا وتخلفا وأمراضا وجهلا وفوضى وقذارة وفقرا ومعاناة وتعرضا للاحتلال والنكال على أيدى الأمم الأخرى، وفى الآخرة نارا مستعرة تحرق وتصهر وتخزى وتهين وتؤلم ألما لايطاق.
    ولنعلم أن واجبنا الآن هو الإيمان بأن الكون مؤسس على نظام وقوانين مطردة إلى يوم الدين، ولا سبيل إلى التعامل معها والإفادة منها وتجنب مصاعبها ومتاعبها إلا بالعلم والتخطيط والنظام والاقتحام والخيال الخلاق والإبداع والإرادة الغلابة والطموح إلى ترويض الطبيعة من حولنا والاستمتاع بخيراتها التى خلقها الله لنا. ومن لا يفهم هذا فذنبه على جنبه. ولقد ذاقت جنوبنا كثيرا جدا من النتائج المترتبة على ذنوبنا، فلا نلومن إذن غير أنفسنا. أما إذا استمررنا على ما نحن فيه من غيبوبة فكرية وبلاهة حضارية وفوضى واعتساف للأمور وبغض لمواجهة الحقائق ورضا بالتعايش المحبور مع القمامة والنتانة والقبح والتشويه فى كل مكان ومع التمسك بالقشور والنفور من العلم ومشقاته وإيثار الخرافات على المنطق والعقل فلسوف نبقى فى مكاننا لن نبرحه، بل سوف نتراجع ونتقهقر أكثر وأكثر، وتدوسنا أقدام الأمم فنتحول إلى مماسح لأحذيتهم يحكّون فينا قاذوراتِ جِزَمِهم ثم يحتقروننا رغم ذلك ويشمئزون من منظرنا ويتجنبون ملامستنا أو مجرد الاقتراب منا خوفا من أن يعديهم الجرب الحضارى والإنسانى الذى نحمله فى أجسادنا وعقولنا وأذواقنا وضمائرنا. أعوذ بالله! فالإسلام مجموعة من القيم: القيم العقلية، والقيم العاطفية، والقيم الذوقية، والقيم الأخلاقية، والقيم الاعتقادية، والقيم العبادية. وعلينا أن نجتهد فى تحقيق هذه القيم وألانختزل الدين فى قيم العبادة والملابس والجنس فحسب. ويا ليتنا، فيما يخص العبادة، نهتم بكل ألوانها، بل الغالب أن ينصب اهتمامنا على الصلاة وحدها تقريبا، إذ لا كلام كثير عن حقوق الفقراء والمستضعفين والمساكين واليتامى المحتاجين فى أموالنا.
    وإنى لأستغرب تساخف صادق العظم وزعمه أن الإسلام مجموعة من الخرافات والأساطير وما إلى هذا بسبيل. ألم تأته الآيات والأحاديث التالية: "قل: هل يستوى الذين يعلمون والذين لايعلمون؟"، "ايتونى بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين"، "قل: إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا"، "إنما يتذكر أولو الألباب"، "إن فى ذلك لآيات لقوم يعلمون/ يتفكرون"، "وقل: رب، زدنى علما"، "إن الظن لايغنى من الحق شيئا"، "إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا"، "قل: لا أقول لكم: عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى مَلَكٌ"- "العلماء ورثة الأنبياء"، "من خرج فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع"، "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع"، "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، "اطلبوا العلم ولو فى الصين"، "فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب"، "مَن غَدا لعِلمٍ يتعلَّمُه فتَح اللهُ له به طريقًا إلى الجنةِ وفَرَشَتْ له الملائكةُ أكنافَها، وصلَّت عليه ملائكةُ السماءِ وحيتانُ البحرِ. وللعالِمِ منَ الفضلِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ. والعلماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ. إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرْهمًا. إنما ورَّثوا العِلْمَ، فمَنْ أخَذ بالعِلْمِ أخَذ بحظٍّ وافِرٍ. وموتُ العالمِ مُصيبَةٌ لا تُجْبَرُ، وثُلْمَةٌ لا تُسَدُّ، ونجمٌ طُمِسَ. وموتُ قبيلةٍ أَيْسَرُ مِن موتِ عالِمٍ"؟
    ومن الغريب المريب أن صادق العظم لا يهمه من سيرة الرسول إلا أنه تزوج فى شبابه من سيدة فى الأربعين، وفى كهولته من نساء فى مثل سن بناته، وهو ما يحتاج إلى متخصص فى علم النفس (المرضى طبعا)، ويدل على أنه زير نساء على حد قوله. عجبا! أهذا كل ما يشغلك فى شخصية الرسول وحياته أيها العظم؟ ألا تعلم أن العرب وغير العرب فى ذلك الوقت كانوا يعددون فى زواجهم؟ فما المشكلة إذن فى أن يعدد النبى كما يعدد غيره فى مجتمعه وخارج مجتمعه؟ لا تقل إن القرآن قد حدد التعدد بأربعٍ لا يَزِدْن، إذ ينبغى أن تعرف أن هذا التحديد لم يقع إلا بعد أن كان النبى قد تزوج مَنْ تزوجهن من نسائه. فإلى أين ياترى كن سيذهبن لو طلق الرسول مازاد على أربع؟ ثم ما دام الأمر قد وصل بنا إلى هذا اللون من النقاش فمعنى ذلك أن محمدا هو مؤلف هذا الدين؟ فإذا كان ذلك كذلك فلم يا ترى أصدر تشريعا بتحديد التعدد بأربع، وهو يعرف أن هذا التحديد يضره ولا يفيده بحال، بخلاف التعديد فإنه لا يضره بل يفيده فى كل الأحوال؟ كذلك لا بد أن نكون على ذكر من أن الرسول كان يكلَّف أحيانا بما لا يطالَب به غيره من المسلمين كالتشريع الذى حرم عليه استبدال زوجة بزوجة فى سورة "الأحزاب" منذ نزول الآية الخاصة بذلك إلى أن يموت، وكمواصلة الصيام يومين متتاليين فى حين يحرم ذلك على أى مسلم آخر، وكالصدقات، إذ يحرم عليه أخذها هو أو أحد من أقربائه البتة مهما كان احتياجهم إلى المال، دون سائر المسلمين... فعلينا أن ننظر فى ترك ما زاد على أربع من الزوجات فى عصمته فى ضوء هذه الخصوصية.
    أما بالنسبة إلى سن عائشة حين تزوجها فالخلاف قائم بين الكتاب والمفكرين والمؤرخين: فالمحدّثون بوجه عام يحددونه بالتاسعة تقريبا، على حين يسنّنها العقاد وقتذاك بنحو أربع عشرة سنة، بينما يوصلها د. شوقى ضيف إلى حوالى العشرين عاما. وهى لم تشتك لأحد من تلك الزيجة، بل كانت سعيدة بزوجها على الدوام وشديدة الغيرة عليه ومحط حسد الأخريات كما قالت أمها لها ذات مرة خلال أزمة الإفك. وهذه السعادة كانت شعور سائر زوجاته لا عائشة وحدها. بل إن عائشة قد ظلت بقية عمرها، أى على مدى عشرات السنين، أرملة لم تتزوج نزولا على حكم القرآن، فلم تفلت منها كلمة واحدة تشى بتأففها من ذلك الزواج أو ضيقها بهذا الزوج، بل عاشت وفية القلب والعقل والضمير لذكراه. فإذا كانت هناك من ضرورة للاستعانة بعلم النفس هنا فليكن علم نفس السعادة والهناء والتوفيق الزوجى، ولسوف ينتهى التحليل النفسى إلى أن سر هذا التوفيق هو شخصية الرسول أولا وأساسا. وأخيرا فقد يهمك بالمرة، أيها العظم، أن يدرس علماء النفس حالة مريم عليها السلام وخطبة يوسف النجار العجوز لها، ذلك الذى كان فى الثمانين من عمره آنذاك، وكانت هى فى الثانية عشرة.
    وقبل أن أغادر هذه النقطة أرى أن أورد هنا نص الرسالة التى وصلتنى بالبريد الإلكترونى عن ذات الموضوع مع شىء ضئيل من التصرف، وهى للأسف غُفْلٌ من اسم المؤلف. وسبب إيرادى لها هنا أن أبين للقارئ الكريم أن هناك على الأقل من يقدم الأدلة على أن عمر عائشة حين تزوجها النبى لم يكن بالصغير كلمة واحدة. كما أن بعض المستشرقين أنفسهم يشيرون إلى أن الفتيات فى البلاد الحارة كالجزيرة العربية يبلغن وينضجن فى سن مبكرة عكس نظيراتهن فى البلاد الباردة. ولماذا نذهب بعيدا، وكثير من الزيجات فى مصر كانت تتم فى تلك السن التى يستنكرها العظم ومن شايعه على موقفه العدوانى من الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وبالمثل يؤكد ر. ف. بودلى المستشرق البريطانى، فى الكتاب الذى تناول فيه سيرة النبى، أن المجتمعات تختلف فى تلك المسألة ولا تجرى فيها على سنة واحدة، بل لكل مجتمع ظروفه، قائلا إن مثل هذا الزواج كان ولا يزال عادة آسيوية، بل ما زالت هذه العادة فى شرق أوربا، وكانت طبيعية فى أسبانيا والبرتغال إلى سنين قليلة، وعادية حتى الآن فى بعض المناطق الجبلية البعيدة فى الولايات المتحدة. وهذا نص كلامه بالحرف تقريبا. بل إنه ليؤكدتأكيدا قويا نضوج شخصية عائشة عند انتقالها إلى بيت النبى واستعدادها التام للقيام بواجباتها الزوجية والمنزلية، وإن لم يكن رأيه فى بنت الصديق طيبا على الدوام، لكن هذا موضوع آخر.
    تقول الرسالة: "دائما ما يثار موضوع زواج عائشة أم المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسألة عمرها حسب ما ذكره البخاري من أنه عقد عليها وهي ابنة ست سنين وتزوجها وهي ابنة تسع سنين... ولكن انظروا إلى هذه المقاربة المنطقية التي تحسب من الشواهد التاريخية عمر السيدة عائشة حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمراجعة التواريخ التي في كتب السيرة: "الكامل، تاريخ دمشق، سير أعلام النبلاء، تاريخ الطبري، تاريخ بغداد، وفيات الأعيان..." فإن البعثة النبوية استمرت 13 عامًا في مكة و10 أعوام بالمدينة، وكان بدء البعثة بالتاريخ الميلادي عام 610م، وكانت الهجرة للمدينة عام 623م أي بعد 13 عامًا في مكة، وكانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عام 633م.
    والمفروض بهذا الخط التاريخي المتفق عليه أن الرسول صلى الله عليه
    وسلم تزوج عائشة قبل الهجرة للمدينة بثلاثة أعوام، أي في عام 620م، وهو ما يوافق العام العاشر من بدء الوحي، وكانت تبلغ من العمر 6 سنوات، ودخل بها في نهاية العام الأول للهجرة أي في نهاية عام 623م، وكانت تبلغ 9 سنوات، وهو ما يعني حسب التقويم الميلادي أنها ولدت عام 614م، أي في السنة الرابعة من بدء الوحي حسب رواية البخاري أيضا. هذا هو المتعارف عليه أو ما يعتقد أنه الصحيح . حسنا! ماذا لو تم حساب عمر السيدة عائشة بالنسبة لعمر أختها أسماء بنت أبي بكر؟ هل ستظل رواية البخاري صحيحة؟ سوف نرى. تقول كل المصادر التاريخية السابق ذكرها بلا اختلاف واحد بينها أن أسماء ولدت قبل الهجرة للمدينة ب 27 عامً، مما يعني أن عمرها مع بدء البعثة النبوية عام 610م كان 14 سنة وذلك بإنقاص 13 سنة من عمرها قبل الهجرة، وهي سنوات الدعوة النبوية في مكة، لأن 27- 13= 14 سنة، وكما ذكرت جميع المصادر بلا اختلاف أنها أكبر من عائشة بـ10 سنوات. إذن يتأكد بذلك أن سن عائشة كان 4 سنوات مع بدء البعثة النبوية في مكة. أي أنها ولدت قبل بدء الوحي بـ4 سنوات كاملات، وذلك عام 610م.
    ومؤدَّى ذلك بحسبة بسيطة أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما عقد عليها في مكة في العام العاشر من بدء البعثة النبوية كان عمرها 14 سنة لأن 4+ 10= 14 سنة، أو بعبارة أخرى أن عائشة ولدت عام 606م، وتزوجت النبي سنة 620 م، وهي في عمر 14 سنة، وأنه، كما ذُكِر، دخل بها بعد 3 سنوات وبضعة أشهر، أي في نهاية السنة الأولى من الهجرة وبداية الثانية عام 624م، فيصبح عمرها 18سنة كاملة، وهي السن الحقيقية التي تزوج فيها النبي الكريم عائشة.
    وهذه طريقة أخرى تقوم على حساب عمر عائشة بالنسبة لوفاة أختها أسماء: تؤكد المصادر التاريخية السابقة بلا خلاف بينها أن أسماء توفيت بعد حادثة شهيرة مؤرخة ومثبتة، وهي مقتل ابنها عبدالله بن الزبير علي يد الحجاج الطاغية الشهير، وذلك عام 73هـ، وكانت تبلغ من العمر 100سنة كاملة. فلو قمنا بعملية طرح لعمر أسماء من عام وفاتها 73هـ، وهي تبلغ من العمر 100سنة كاملة، فيكون 100- 73= 27 سنة، وهو عمرها وقت الهجرة النبوية، وذلك ما يتطابق كليا مع عمرها المذكور في المصادر التاريخية. فإذا طرحنا من عمرها 10 سنوات، وهي السنوات التي تكبر بها أختها عائشة، يصبح عمر عائشة 27- 10= 17 سنة، وهو عمر عائشة حين الهجرة. ولو دخل بها النبي في العام الأول يكون عمرها آنذاك 17+ 1= 18 سنة. وهو ما يؤكد الحساب الصحيح لعمر السيدة عائشة عند الزواج من النبي صلى الله عليه وسلم. ويعضد ذلك أيضًا أن الطبري يجزم بيقين في كتابه: "تاريخ الأمم" أن كل أولاد أبي بكر قد وُلِدوا في الجاهلية، وذلك ما يتفق مع الخط الزمني الصحيح ويكشف ضعف رواية البخاري، لأن عائشة بالفعل قد وُلِدَتْ في العام الرابع قبل بدء البعثة النبوية".
    ثم هل كان الرسول زير نساء؟ لقد عَدَّد زوجاته نعم، ولكن لم يثبت قط أنهن كن يشغلنه عن أداء واجب أو يدفعنه إلى اقتراف إثم. وأنا هنا لا أحاول أن أنفى عنه صلى الله عليه وسلم سعادته بالزواج واستمتاعه به بما فيه الناحية البيولوجية، فالجنس إحدى المتع الكبرى فى الحياة، ومن ينكر ذلك فهو منافق كبير. والعبرة أن يكون إشباعه فى حلال وألا يشغل صاحبه عن معالى الأمور وأداء الواجبات أو يوطّئ كرامته للنساء يصنعن به ما يردن دون أن يملك من أمر نفسه معهن شيئا. كما لم تكن زوجاته، عليه الصلاة والسلام، كلهن صغيرات السن على خلاف ما يزعم العظم. ثم لقد كانت حياته قشفة زاهدة، وليست هذه بحياة زير النساء. وكانت علاقته بنسائه تقوم على التفاهم والتعاطف، ولم تكن هناك مناكفات بتاتا، ودَعْك من التفكير فى أن تكون هناك فضائح. فلماذا يثير العظم هذه المسائل؟ لقد نجح الرسول فى زواجه بخديجة، أكبر زوجاته سنا، بنفس المقدار الذى وُفِّق به فى زواجه بعائشة، أصغرهن والوحيدة البكر بينهن، والتى كانت تشعر بالغيرة الشديدة تجاهها وتجاه مَنْ كن على صلة بها، مما يدل على أن شبابها وجمالها وبكارتها وبنوتها للصديق أقرب أصحابه إليه لم يغلبه على نفسه صلى الله عليه وسلم، إذ لم يطق أن يسمعها تقول مرة كلمة فى حق خديجة، التى كانت قد ماتت منذ أعوام وصارت مجرد ذكرى بعيدة، فكان رده شديدا لم تَنْسَه عائشة وأخذت تستميحه الرضا.
    فعنها رضى الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر ذكر خديجة، فقلت: ما أكثر ما تكثر من ذكر خديجة، وقد أخلف الله تعالى لك من عجوز حمراء الشدقين، وقد هلكتْ في دهر! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا ما رأيته غضب مثله قط، وقال: إن الله رزقها مني ما لم يرزق أحدا منكن. قلت: يا رسول الله، اعف عني. والله لا تسمعني أذكر خديجة بعد هذا اليوم بشيء تكرهه. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثناء عليها والاستغفار. قال: ورُزِقَتْ مني الولدَ إذ حُرِمْتُنَّه مني. فغدا عليَّ بها وراح شهرا". فهل هذا الرجل فى نبله وسموق طباعه وكرم أخلاقه، يا ابن العظم، زير نساء، ويحتاج إلى محلل نفسى؟ خيبة الله عليك! إن قلبى لينبض حنانا وشجنا وأنا أقرأ هذا الحديث البديع، وأحمد الله على أن لم يجعل سبيلى سبيل السافلين المنحطين! إن بعض الناس الممروضين فى عقولهم وقلوبهم، وبخاصة من الشيوعيين الأدناس الأنجاس، إذا استافوا عبير الورد الطيب الزاكى تأففوا وسدوا أنوفهم فى حين يعيشون كالصراصير فى خزائن الخراء فرحين منتشين بما يتنفسونه من روائح، وما يطعمونه من فضلات. فلعنة الله على كل سافلٍ زنيم!
    وبالنسبة لتعاملى مع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحظت، وأنا أراجع فى موقع "الدرر السنية" الحكم على ما أستشهد به من أحاديث، أن الحديث الواحد كثيرا ما يكون له أكثر من حكم صحة وضعفا وحسنا وغير ذلك، تبعا لاختلاف الرواة مع أن نص الحديث واحد بالحرف هنا وهناك وهنالك، أو يكون الاختلاف بين الروايتين مجرد حرف زائد أو كلمة استعمل مرادفها فى الراوية الأخرى... وهكذا. والسبب هو الاعتماد فى المقام الأول والأخير على السند لا المتن. وأنا، بوجه عام، أحترم هذا المقياس لأن وراءه جهدا هائلا رغم علمى بأن المحدثين قد يختلفون فى تعديل هذا الراوى أو ذاك أو تجريحه حسب ما يتاح لكل منهم من بيانات حوله أو حسب القواعد التى وضعها للجرح والتعديل أو حسب اخلاف العقليات والمفاهيم... إلخ. وهذا من شأنه أن يحفزنى على إعمال عقلى فى الربط أو المقارنة بين الأحاديث المختلفة المتصلة بذات الموضوع، وفى استلهام الروح العامة للإسلام، وفى إنصاتى إلى ما تقوله شخصية الرسول أو تومئ إليه، وفى استنطاق التاريخ، وفى أخذ الطبيعة البشرية وأوضاع المجتمع فى الاعتبار، وفى التنبه إلى مقتضيات السياق، وفى مراجعة الروايات المتعددة للحديث الواحد، وللأحاديث المختلفة للموضوع الواحد، وفى التعرف إلى ما يقوله التخصص العلمى المرتبط بالمسألة موضوع البحث... وهلم جرا. أما الآيات فأمرها يختلف إلى حد ما عن الأحاديث، إذ ليس فيها روايات مختلفة، كما لا يوجد اختلاف بين القراء حول صحتها أو عدمها مثلا. بيد أن سائر الاعتبارات التى ينبغى وضعها فى الحسبان هنا وهناك واحدة تقريبا.
    لنأخذ بعض الآيات والأحاديث نموذجا للكيفية التى أفهم نصوصها بها معملا عقلى ومستلهما الروح العامة للإسلام وآخذا السياق فى الاعتبار: فمثلا فى آيات الإفك التى يعرف القاصى والدانى أنها نزلت تبرئةً للسيدة عائشة رضى الله عنها وأرضاها مما بُهِتَتْ به فى قصة ضياع العِقْد الذى فقدته فى الصحراء مَرْجِعَها هى والنبى والمسلمين من غزوة بنى المصطلق، نرى القمى المفسر الشيعى المعروف يصرف القصة عن حقيقتها حتى لا يُضْطَرّ إلى الإقرار بأى فضل لبنت أبى بكر رضى الله عنها وعن أبيها رضى واسعا ملء السماوات والأرضين. وأى فضل أعظم من الفضل الذى ظلت أم المؤمنين تباهى به نظيراتها، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل تبرئتها من فوق سبع سماوات؟ ولا ننس أن لعلىٍّ صلة بالقصة، إذ لما استطلع النبى رأيه حين دارت الشائعات فى أرجاء المدينة كان رده حسبما تحكى لنا الروايات أن النساء كثير. صحيح أنه رضى الله عنه لم يلوث لسانه بقالة سوء فى سيدة كريمة لم يلحظ عليها أية ريبة، إلا أنه لم يراع مدى وقع الكلمة على نفسها، إذ كان كل همه إراحة الرسول من القلق الذى كان يعانيه، فظن أن الرسول إن نفض يده منها واقترن بغيرها فقد أراح نفسه. فبعض علماء الشيعة يحولون قصة الإفك من فضل يزين عرضها وكرامتها إلى منقصة تنال منها، إذ زعموا أن الآيات المذكورة إنما نزلت لإدانة عائشة بسبب اتهامها لمارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله فى سمعتها وسلوكها.
    ولْنقرأ ما كتبه القمى فى تفسير قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ والَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ". قال: "أما قوله: "إن الذين جاؤا بالإفك عصبةٌ منكم لا تحسبوه شرًّا لكم بل هو خير لكم" فإن العامة رَوَوْا أنها نزلت في عائشة وما رُمِيَتْ به في غزوة بني المصطلق من خزاعة. وأما الخاصة فإنهم رَوَوْا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة‌ والمنافقات. حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال قال: حدثنا عبد الله بن بكير عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر عليهما السلام يقول: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله حزن عليه حزنا شديدا، فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جُرَيْج. فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليًّا وأمره بقتله، فذهب علي عليه السلام إليه ومعه السيف. وكان جريج القبطي في حائط، وضرب عليّ عليه السلام باب البستان، فأقبل إليه جريج ليفتح له الباب. فلما رأى عليا عليه السلام عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا ولم يفتح الباب. فوثب علي عليه السلام على الحائط ونزل إلى البستان واتبعه وولى جريج مدبرا. فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة، وصعد علي عليه السلام في أثره. فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال ولا ما للنساء. فانصرف علي عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبت؟ قال: فقال: لا بل تتثبت. فقال: والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال ولا ما للنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الحمد لله الذى يصرف عنا السوء أهل البيت".
    وبادئ ذى بدء نلفت النظر إلى كلمتى "العامة" و"الخاصة" فى النص السابق: فالعامة هم أهل السنة، والخاصة هم المتشيعون. ومغزى إطلاقهما واضح لا يحتاج منى إلى أى شرح، فهما تتكلمان من تلقاء نفسيهما. كذلك نلفت النظر إلى وضع الكاتب لعائشة مع المنافقات فى خانة واحدة واتهامهن جميعا بنفس الجرم، ألا وهو قذف مارية فى عرضها. وثالثا لا أتصور أبدا النبى يخرج على مبدإ التثبت قبل إيقاع العقوبة بالمتهم، فلعله برىء، إذ تقول الرواية إنه عليه السلام ما إن سمع التهمة من ضَرّة فى ضَرّتها حتى بادر بإرسال علىّ لقتل جريج دون أن يكلف نفسه أن يسألها ولو عن مصدر الخبر. ورابعا كيف يأمر بقتل جريج ويترك شريكته فى الإثم ما دام قد صدّق أن الأمر وقع كما قالت عائشة فيما نُسِب لها زورا وبهتانا؟ ولقد كان النبى يتريث أشد التريث فى مسائل الزنا وعقوبته حتى إنه إذا أتاه شخص وأقرّ من تلقاء نفسه بمواقعة تلك الفاحشة كان يراجعه مرارا ويفتح له الباب بعد الباب لعله يرجع ويتوب ولا يعود لذلك أبدا. بل إنه كان يستحب الستر فى تلك الأمور ولا يرتاح لمن يأتيه شاهدا على أحد بالزنا قائلا له: لو سترتهما بثوبك لكان أفضل. فكيف يسارع هنا إذن إلى الأمر بتوقيع العقوبة على متهم دون أن يتثبت من التهمة المنسوبة له، بل دون أن يعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه؟ وقبل ذلك كله هل كانت عائشة لتجرؤ على أن تنال من عرض الرسول بهذه الخفة المتناهية؟
    ثم إن موقفه، صلى الله عليه وسلم، من اتهام عائشة فى عِرْضها قد اختلف عن ذلك اختلافا تاما، فلم يسارع بعقابها رغم أن الشائعات التى تلوك سيرتها كانت تتطاير فى أرجاء المدينة. كذلك كيف نسى ملفقو القصة أن عائشة وأباها متَّهمان عند رسول الله حسبما يفترون عليهما، لعن الله كل كذاب أشر؟ فكيف صدّق الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه البساطة امرأة يزعم الشيعة أنها منافقة بنت منافق؟ أعوذ بالله، وأستلعنه من يتقول على أم المؤمنين الأقاويل. كذلك كيف يرمى جريج نفسه من فوق النخلة دون أن تنكسر أضلاعه؟ بل كيف يفكر فى الرمى بنفسه من فوقها أصلا ويقدم على ذلك الخطر الفظيع؟ وأغرب من هذا أن تمر الرواية على حادثة السقوط من فوق النخلة دون أن تعلق بكلمة واحدة على ما حدث له من جرائه!
    وقبل ذلك كله كيف يريدنا هؤلاء أن نتجاهل قصة الإفك الحقيقية التى تورط فيها حسان ومِسْطَح بن أُثَاثة وحَمْنَة بنت جحش وابن أبى سلول وغيرهم وما يتصل بذلك من قصص معروفة فى كتب الحديث والسيرة والتاريخ؟ ليس أمامنا إلا أحد أمرين: إما أن عائشة لم تُتَّهَم أصلا، ومن فالسؤال هو: من يا ترى هو صاحب قصة الإفك الأخرى التى اتُّهِمَتْ فيها عائشة؟ ليس أمامنا فى هذه الحالة إلا أن نقول إنه فريق يبجّل عائشة ويريد أن يقول إن الله برأها من فوق سبع سماوات كى يكون ذلك شرفا لها. لكن هل يعقل أن يقدم من يبجّلون عائشة على رميها أولا فى عرضها حتى يتسنى لهم الزعم بأن السماء قد برأتها؟ ذلك أمر لا يدخل العقل. وإما أن عائشة قد اتُّهِمَتْ فعلا فى عرضها. فهل يعقل، والأمر هذا، أن يتجاهل القرآن المسألة وكأنها لم تقع فلا يتكلم عنها بوصفها موضوعا غير ذى شأن؟ ذلك أيضا أمر لا يمكن أن يتقبله العقل. كما أننا حين ننظر فى آيات سورة "النور" الخاصة بقضية الإفك نرى أن الكلام من أوله إلى آخره إنما يستخدم ضمير جماعة الذكور بما يدل على أن المتهِمين هم رجال أو خليط من رجال ونساء على الأقل، لا جماعة من النساء فقط هن عائشة والمنافقات كما تزعم الرواية الآثمة. وفوق ذلك فالقرآن يشير إلى زاعمٍ رجلٍ لا إلى زاعمةٍ امرأةٍ لتلك الفرية: "والذى تَوَلَّى كِبْرَه منهم له عذابٌ أليم". ثم لقد أرسى القرآن الحكم الشرعى فى تلك الظروف، وهو الإتيان بأربعة شهداء، فكيف تجاهل النبى هذا كله وبعث عليًّا فى الحال ومعه السيف كى يقتل جريج دون توفر أربعة شهود؟
    لهذا نجد رواية أخرى لتلك القصة عند القمى فى تفسير قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمي" (الحجرات/ 6)، إذ أضاف الكلام التالى: "فأتى به رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال له: ما شأنك يا جريج؟ فقال: يا رسول الله، إنّ القبط يَجُبّون حشمهم ومن يدخل إلى أهاليهم، والقبطيون لا يأنسون الاّ بالقبطيين. فبعثني أبوها لأدخل اليها وأخدمها وأُونِسها". وهو كلام يدابر العقل، إذ معناه أن الرسول لم يكن يعرف كل تلك المدة لم جاء جريج مع مارية من مصر، وأن جريج كان يخدم مارية طوال الوقت ويدخل عليها ويخرج ويقضى لها مطالبها دون علم الرسول. ومعناه قبل ذلك أن القرآن يتهم رسول الله بأنه قد أقدم بجهالة على معاقبة جريج وكاد أن يصبح نادما على ما فعل لولا لطف الله الذى أراد أن يكشف حقيقة أمره وبراءته بوقوعه الدِّرَامِىّ من فوق النخلة.
    ثم إن الرواية تذكر أن أباها هو الذى أرسل جريج فى رفقة ابنته، مع أننا نعرف أنها لم تكن فتاة حرة، بل جارية أرسلها المقوقس لا أبوها. فهذه ثغرة خطيرة فى الرواية تحطمها تحطيما. كما أن المقوقس لم يرسل مارية وحدها، بل أرسل سيرين أيضا، وهى التى أهداها الرسول لحسان بن ثابت، فلماذا لم نسمع أن سيرين كان يصاحبها رجل مجبوب كجريج يقوم على شؤونها؟ كذلك هناك صعود جريج النخلة، وهو ليس حَلاًّ لأنه لا يستطيع أن يبقى فوقها إلى الأبد، وإن كان صعود علىٍّ كرم الله وجهه النخلة وراءه أبعث على الاستغراب والتعجب، إذ ما الداعى له، وجريج لا يمكن أن يطول مكثه هناك، بل لا بد أن ينزل، وبسرعة. على الأقل حين يقرص بطنه الجوع، أو يحتاج إلى النوم أو قضاء الحاجة. كما أن صعوده النخلة يذكّرنا بما يفعله الشرير عادةً فى الأفلام، إذ يتسلق برجا أو سطح حجرة فوق أعلى المنزل أو صارية سفينة مثلا، مع أن أقل تفكير من جانبه كفيل بأن يباعد بينه وبين اللجوء إلى هذا الحل المضحك لأنه لا يمكنه البقاء هناك إلى آخر العمر. وعادة ما تكون نهايته فى ذلك الموضع المرتفع نهاية مأساوية كما يعرف مشاهدو الأفلام والمسلسلات.
    ومع هذا كله فإن إصرار القمى على تلويث صحيفة عائشة يدفعه إلى المضى فى غَيّه قائلا بأن الله إنما أراد أن يظهر براءة جريج على يد علىّ. أى أنه سبحانه قد دبّر اندفاع علىّ بالسيف يريد الإجهاز على جريج فى هوج ودون تبصر أو محاكمة بناء على تكليف رسول الله له بذلك لا لشىء إلا لكى يثبت براءة المصرى المسكين! وهو ما يعنى أن الأقدار قد جهزت عليًّا لتصحيح الخطإ الذى كاد أن يقع فيه النبى عليه السلام، أستغفر الله، وإن قال بعضهم إن الرسول كان يعرف براءة مارية منذ البداية وإنه إنما أمر عليًّا بقتله تظاهرا بذلك ليس إلا كى يوقظ ضمير عائشة حين ترى رجلا بريئا يوشك أن يُقْتَل ظلمًا وافتراءً. أى أنهم يريدوننا أن نصدق هذا التوجيه السخيف الذى يقول إن النبى قد أقدم على ترويع جريج المسكين على هذا النحو الشنيع الذى كان يمكن أن ينتهى نهاية مأساوية فتَزْهَق روح الرجل جَرّاء سقوطه من فوق النخلة لا لشىء سوى إيقاظ ضمير عائشة، وهو ما يذكرنا بالمثل الشعبى القائل: جاء يكحّلها فأعماها! وهكذا يتخبط بعض علماء الشيعة لمجرد الرغبة الأثيمة لتشويه أخلاق عائشة ورميها بالفسق طبقا لحكم الآية، أستغفر الله. كذلك فالآيات تتحدث عن شائعات تجوب أنحاء المدينة من لسان إلى لسان، على حين أن روايتنا هذه لا تتحدث إلا عن عائشة وحدها، وإن ذُكِرَتِ "المنافقات" على سبيل "بَرْو العتب" كما نقول فى مصر ليس إلا، وإلا فلماذا لم تظهر فى الصورة أولئك المنافقات اللائى لا أحسب القمى وأضرابه إلا يقصدون بهن بعض زوجات رسول الله الأخريات، وبالذات حفصة كراهيةً منهم للفاروق رضى الله عنه؟
    ثم ما موقع الآية التالية من الإعراب فى جملتنا هنا: "وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النور/ 22)؟ إنها، فيما نعرف جميعا، إنما نزلت لتحضّ أبا بكر على الاستمرار فى معاونة بعض أقربائه الفقراء الذين اشتركوا فى نشر الإشاعات ضد ابنته الكريمة الطاهرة العفيفة والذين أقسم فى حُمُوّ غضبه أن يتوقف عن الإنفاق عليهم. أما على رواية "الخاصّة" فكيف نفهمها؟ لقد أورد القمى فى تفسيره لها ما يلى: "في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: "ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى"، وهى قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله، "والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا"، يقول: يعفو بعضكم عن بعض ويصفح، فإذا فعلتم كانت رحمة من الله لكم. يقول الله: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم"؟".
    وهو تكلف بل تنطع، فإن القرآن لا ينزل بتحنين القلوب على قرابة رسول الله، وكأنهم جماعة من الشحاذين، مع أنهم لا تجوز عليهم ولا لهم الصدقات أصلا. كما أن أمر القرآن بالعفو والصفح عن آل رسول الله ليس له من معنى إلا أنهم مشاغبون مستفزون للآخرين وأن على المسلمين الإغضاء والتجاوز عن هذا الشغب والاستفزاز. ترى هل يصح مثل هذا التفسير؟ لكن المفسر الشيعى يمزق الآية كما نرى كى يسلم له ما يريد، وهيهات! وأخيرا وليس آخرا فإن الآية الأخيرة فى آيات الإفك تقول بصريح العبارة: "الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ"، وهو ما لم يلتفت المدلسون المفترون إلى أنه ثناء على عائشة وكل زوجات الرسول، إذ تنفى الآية الكريمة أن تكون أى من أمهات المؤمنين امرأة خبيثة، وتؤكد على العكس من ذلك أنهن طيبات طاهرات لأنهن زوجات الرسول الطيب الطاهر.
    وفى تفسير قوله عز شأنه للآية الثالثة والثلاثين من سورة "الأحزاب": "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـرًا" يقول القمى: "وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: إنما يريد الله ليُذْهِبَ عنكم الرِّجْسَ أهل البيت ويُطَهِّرَكم تطهيرًا". قال: نزلت هذه الآية في رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وذلك في بيت أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليًّا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ثم ألبسهم كساء‌ً خيبريًّا، ودخل معهم فيه ثم قال: "اللهم، هؤلاء أهل بيتي الذين وعدتني فيهم ما وعدتني. اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا". نزلت هذه الآية فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أبشري يا أم سلمة. إنك إلى خير. وقال أبو الجارود: قال زيد بن علي بن الحسين عليه السلام: إن جهالا من الناس يزعمون أنما أراد بهذه الآية أزواج النبي، وقد كذبوا وأثموا. لو عَنَى بها أزواجَ النبي لقال: "ليُذْهِب عنكن الرجس ويطهركن تطهيرا"، ولكان الكلام مؤنثا كما قال: "واذكرن ما يُتْلَى في بيوتكن، ولا تبرَّجْن، ولستنّ كأحد من النساء". وقال علي بن ابراهيم: ثم انقطعت مخاطبة نساء النبي، وخاطب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: إنما يريد الله ليُذْهِب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا".
    وتفسير الآية على هذا النحو هو استمرار لموقف الشيعة، فهم لا يريدون لأحد من بيت رسول الله أن يحظى بأى شرف أو خير إلا إذا كان من طرف فاطمة رضى الله عنها حتى إنهم ليُدْخِلون عليًّا ختن رسول الله وسبطيه فى مفهوم "أهل البيت" ويخرجون زوجاته صلى الله عليه وسلم مع أن "الأهل" بالنسبة إلى الرجل إنما يراد بهم أول ما يراد زوجه أو زوجاته كما هو الاستعمال القرآنى والنبوى. إننا نحب فاطمة وابنيها وزوجها حُبًّا جَمًّا، بيد أننا نؤمن فى ذات الوقت أن شرف الانتساب إلى أهل البيت هو من حق زوجات الرسول أيضا، وأن هذا لا يضر فاطمة وأسرتها الصغيرة ولا يزعجهم فى شىء، وبخاصة أن أهل الرجل، كما قلنا، إنما هن زوجاته فى المقام الأول. ثم إن سياق الآيات إنما هو سياق الحديث عن نسائه صلى الله عليه وسلم، ولا ذكر فيه على الإطلاق لعلى أو فاطمة أو ابنيهما. ولهذا نرى علماء الشيعة يقولون إن الكلام عن نساء النبى قد انقطع وابتدأ كلام آخر عن فاطمة وأسرتها، ثم عاد الكلام مرة أخرى إلى النساء فى قوله سبحانه عقب ذلك: "واذكرن ما يُتْلَى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة...". وهو تكلف لا معنى له أبدا وتمزيقٌ أَرْعَنُ لنسيج الآيات، وبخاصة أن الآية الكريمة لا يمكن أن تكون قد نزلت أولا دون عبارة "إنما يريد الله ليُذْهِب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا"، وإلا كان معنى هذا أن الآية نزلت وظلت غير مكتملة وعارية عن الفاصلة فترة من الوقت، وهو غريب.
    أما القول المنسوب إلى زيد بن على رضوان الله عليه بأنه لو كان المقصود زوجات النبى لقالت الآية: إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت..." فليس بشىء، ولا أظنه قاله، فقد أوضحنا أن "الأهل" ليسوا زوجات الرجل فقط، بل لهن فقط المقام الأول. وإذا كان علىٌّ ذاته حين سئل عن سلمان، حسبما يُرْوَى عنه، قد قال: "هو منا أهل البيت"، وفى رواية أخرى: "إنه رجل منا أهل البيت"، وفى رواية ثالثة: "ذاك أميرٌ منا أهل البيت"، مدخلا بذلك هذا الفارسى، الذى لم يكن بينه وبين الرسول أو أى أحد من أسرة الرسول صلة، ضمن "أهل البيت"، أيضيق نطاق "أهل البيت" عن أن يستوعب عائشة وحفصة وسائر زوجات النبى، وأغلبتيهن الساحقة من العرب؟ وأخيرا إلى القارئ هذا الدليل الحاسم الذى لا يمكن أى متنطع المماراة فيه، ألا وهو قوله تعالى على لسان الملائكة خِطَابًا لسارة زوجة الخليل إبراهيم عليه السلام حين تعجبت من بشارتهم لها بأنها ستحمل وتلد رغم كبر سنها: "قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (هود/ 73). فها هم أولاء الملائكة يتحدثون إلى سارة زوجة إبراهيم على أنها "أهل البيت" الإبراهيمى، أو على الأقل: فرد من أفراده. فما القول فى هذا؟ لا أظن أن هناك عاقلا ولا حتى مجنونا يمكن أن يجادل فى أن معنى الآية الكريمة هو ما قلناه!
    ولقد سبق أن حذّر القرآن نساء النبى فى الآيتين السابقتين ألا يخضعن بالقول حتى لا يطمع الذين فى قلوبهم مرض وأن يلزمن بيوتهن ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأن يُقِمْن الصلاة ويُؤْتِين الزكاة ويُطِعْن الله ورسوله تمام الطاعة. ومن قبل قال لهن سبحانه وتعالى إنه من يأت منهن بفاحشة مبينة يضاعَفْ لها العذاب ضعفين، ومن يَقْنُت منهن لله ورسوله يؤتها الله أجرها مرتين. وعلى هذا لا يمكن أن يُفْهَم قوله سبحانه عقب ذلك: "إنما يريد الله ليُذْهِب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" إلا بمعنى أن هذا الحساب المخصوص لَكُنّ عنده سبحانه وتلك الأوامر والنواهى منه إليكن إنما يراد بها إذهاب الرجس عنكن وتطهيركن تطهيرا مع سائر بيت الرسول. هذا هو وجه الكلام لغةً وعقلاً وذوقًا، أما سوى ذلك فلا.
    ولو كان القرآن قد استعمل فى هذه الآية عبارة "يا نساء النبى" بدلا من "أَهْلَ البيت" لكان قد أنّثَ الكلام فقال: "إنما يريد الله ليُذْهِب عنكن الرِّجْس يا نساء النبى ويطهّركن تطهيرا"، لكنه إنما عنى "أهل البيت" كلهم بما فيهم النبى عليه السلام لا "نساءه" فقط، وهو ما لم يفطن له من اعترض بهذا الاعتراض. أما تعقيب الطوسى على قول عكرمة إنها "في أزواج النبي خاصة" بأن "هذا غلط، لأنه لو كانت الآية فيهن خاصة لكنَّى عنهن بكناية المؤنث كما فعل في جميع ما تقدم من الآيات نحو قوله: “وقَرْنَ في بيوتكن ولا تَبَرَّجْنَ، وأطعن الله، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة”، فذكر جميع ذلك بكناية المؤنث، فكان يجب أن يقول: "إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت ويطهركن"، فلما كنَّى بكناية المذكر دل على أن النساء لا مدخل لهن فيها"، أقول: أما تعقيب الطوسى هذا فهو حجة عليه لا له، لأن استعمال ضمير جماعة المذكرين فى الآية القرآنية كان ينبغى أن يُخْرِج فاطمة هى أيضا من "أهل البيت" طبقا لكلامه، مع أن السيدة الزهراء عند الشيعة هى المحور فى كل هذا. وبالمناسبة فإخراج زوجاته صلى الله عليه وسلم من "أهل البيت" هو موقف عام عند جميع المفسرين الشيعة الذين رجعت إليهم فى هذه الدراسة، ولست أظن إلا أنه هو موقف المفسرين الشيعة كلهم بلا استثناء.
    ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام من رواية أبى هريرة رضوان الله عليه: "غُفِرَ لامرأَةٍ مُومِسَةٍ مرَّتْ بِكَلْبٍ على رأسِ رَكِيٍّ يلْهَثُ كاد يقتُلُهُ العطَشُ، فنزَعَتْ خُفَّها فأوثَقَتْهُ بخمارِها، فنزعَتْ لَهُ الماءَ، فغُفِرَ لها بذلِكَ". ذلك أن ثم سؤالا يثور فى الذهن للتو واللحظة، وهو: هل يعقل أن يغفر الله للمومس عهرها وفحشها وارتكاسها فى الخنا مع ما لا يحصى من الرجال لمجرد أنها سقت كلبا عطشان؟ إذن فدخول الجنة سهل إلى هذا الحد. وذلك من شأنه أن يجرّئ الناس على مقارفة الذنوب تحت وهم أن أى عمل صالح مهما كان ضئيلا سوف يمحو كل الخطايا والسيئات. إلا أننى سرعان ما أتنبه إلى أن الحديث لم يقل إن الله قد غفر لها كل ذنوبها، بل اكتفى بالقول بأنه سبحانه وتعالى قد غفر لها، أما مقدار الذنوب التى غفرها لها فلم يحددها الحديث. وقد تكون المرأة تابت قبل ذلك وأنابت، ولكن بقى عليها من الذنوب شىء قليل جاء سقيها الكلب فمحاه، أو قد يكون ربها قد سامحها على كل ذنوبها بهذا العمل القليل نظرا إلى وضعها البائس، إذ كانت من بيت ضال آثم لم يربها أبوها ولا أمها على العفة والطهارة، بل على العهارة والنكارة، وكان رجال المجتمع الذى تنتمى إليه يُكْرِهونها على البغاء بينما هى فى أعماقها تشمئز من ذلك، ولكن لا تستطيع أن تضعه موضع التنفيذ، أو قد يكون قلبها، رغم انغماسها فى أعمال الدعارة، مفعما بالخوف من الله والارتعاب من حسابه، وكانت حادثة الكلب العطشان فرصة انفجر فيها ذلك الخوف، أو ربما نظر الله إلى نيتها فرأى اهتمامها منضيا على سقى الكلب دون مبالاة بأن يتحدث الناس عنها وعن عملها، أو ربما كان اهتمامها بكلب أعجم لا فائدة ترجى أو تتوقع منه لها مما رجّح ما اجترحته من حسنة... إلخ. ثم لا ينبغى، قبل ذلك كله، أن ننسى فضل الله وبره بعباده ورحمته إياهم ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة صعف إلى ما شاء الله دون حساب، وأنه سبحانه قد بشرنا بأنه يغفر الذنوب جميعا. وبالمثل لا يصح أن نسقط من حساباتنا أن الإسلام يحب أن يبقى أمر مصير الشخص فى الآخرة مترجحا بين الشك واليقين بحيث يستفز قدرات الإنسان على العمل الصالح فيبذل أقصى ما يستطيع بخلاف ما لو اطمأن تماما أو يئس يأسا لامثنوية فيه: فالاطمئنان الكامل يغرى صاحبه بالتراخى والكسل، واليأس المطلق يركس صاحبه فى الآثام ما دام مصيره قد تقرر وتيقن أنه رائح فى داهية!
    وفى الروايتين التاليتين لنفس الحديث نجد فى ثانيتهما ما لا نجده فى الأولى، مما يلقى الضوء على ما كان غامضا يبعث على الحيرة: فعن عبد الله بن مسعود: "حدَّثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الصادقُ المصدوقُ : إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا، ثم يكونُ عَلَقَةً مِثلَ ذلك، ثم يكونُ مُضغَةً مِثلَ ذلك، ثم يَبعَثُ اللهُ إليه ملَكًا بأربعِ كلماتٍ، فيكتُبُ عملَه وأجلَه ورِزقَه وشقِيٌّ أم سعيدٌ، ثم يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ. فإنَّ الرجلَ ليَعمَلُ بعملِ أهلِ النارِ حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ فيَسبِقُ عليه الكتابُ فيَعمَلُ بعملِ أهلِ الجنةِ، فيَدخُلُ الجنةَ. وإنَّ الرجلَ ليَعمَلُ بعملِ أهلِ الجنةِ حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ فيَسبِقُ عليه الكتابُ فيَعمَلُ بعملِ أهلِ النارِ، فيَدخُلُ النارَ". فما معنى "يسبق عليه الكتاب"؟ أليس هذا قولا بالجبر يمكن اتخاذه تكأة لاتهام الإسلام بأن أمر الحساب الأخروى فيه لا يقوم على أساس من العدل؟ لكن تَعَاَلْوا نقرإ الحديث التالى عن سهل بن سعد الساعدى أن" الرجلَ لَيَعْمَلُ عملَ أهلِ الجنةِ فيما يبدو للناسِ، وهو مِن أهلِ النارِ. وإنَّ الرجلَ لَيَعْمَلُ عملَ أهلِ النارِ فيما يبدو للناسِ، وهو مِن أهلِ الجنةِ". فعبارة "فيما يبدوللناس" تزيل الغبش، وتوضح الغامض، وتريح الضمير.
    ثم يأتى الحديث الثالث التالى، وهو من رواية سهل الساعدى أيضا ليحيل كل شىء نهارا ساطعا مشرقا. يحدثنا الصحابى الجليل "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الْتَقَى هو والمشركونَ فاقتتلوا، فلمَّا مال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى عسكرِهِ، ومالَ الآخرونَ إلى عسكرهم، وفي أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ لا يَدَعُ لهم شاذةً ولا فاذةً إلا اتَّبعها يضربها بسيفِهِ. فقالوا: ما أجزأَ مِنَّا اليومَ أَحَدٌ كما أجزأَ فلانٌ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أمَا إنَّهُ من أهلِ النارِ. فقال رجلٌ من القومِ: أنا صاحبُهُ. قال: فخرج معَهُ: كلما وقف وقف معَهُ، وإذا أسرعَ أسرعَ معَهُ. قال: فجُرِحَ الرجلُ جُرْحَا شديدًا، فاستعجلَ الموتَ، فوضع نصْلَ سيفِهِ بالأرضِ، وذبابُهُ بين ثدييْهِ، ثم تحاملَ على سيفِهِ فقتلَ نفسَهُ، فخرج الرجلُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: أشهدُ أنكَ رسولُ اللهِ. قال: وما ذاك؟ قال: الرجلُ الذي ذكرتَ آنفًا أنَّهُ من أهلِ النارِ، فأعظمَ الناسُ ذلك، فقلت: أنا لكم بهِ، فخرجتُ في طلبِهِ، ثم جُرِحَ جُرْحًا شديدًا، فاستعجلَ الموتَ، فوضع نَصْلَ سيفِهِ في الأرضِ، وذبابُهُ بين ثدييْهِ، ثم تحامَلَ عليهِ فقتلَ نفسَهُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عندَ ذلك: إنَّ الرجلَ ليعملُ عملَ أهلِ الجنةِ فيما يبدو للناسِ، وهو من أهلِ النارِ. وإنَّ الرجلَ ليعملُ عملَ أهلِ النارِ فيما يبدو للناسِ، وهو من أهلِ الجنة".
    وهناك حديثٌ جِدُّ عجيبٍ من أحاديث سيدنا رسول الله، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ"، وأنا أحبه وأحب أن ألفت الأصدقاء والأهل إلى العمل بما يدعو إليه، ألا وهو إخراج الصدقات. وسواء بعد ذلك أكان المعنى هو أن إخراج الصدقات للمحتاجين والمساكين والمسحوقين والمفقورين يداويهم مما هم فيه من مرض الحاجة والبؤس والتعاسة أم أن المقصود هو مداواة مريض الـمُعْطِى بإخراج الصدقات لمحتاجيها رغم أننا، فى هذه الحالة الثانية، لا نستطيع من الناحية العملية أن نعرف كيف تداوى الصدقة مرضانا ولا إلى أى مدى. كذلك من الممكن أن تكون مداواة الصدقة للمريض راجعة إلى أن مخرج الصدقة ترتفع معنوياته من خلال الإيمان بأنها تداوى الأمراض فعلا كما حدثنا صلى الله عليه وسلم، فتكون النتيجة أن يصير أقدرَ على مواجهة المرض. ومعروف أن ارتفاع الأمل فى الشفاء عند المريض هو أحد العوامل التى تساعد على هذا الشفاء وسرعة حصوله. وقد يكون المراد أن النفس تحتاج إلى أن نتعهدها بالعلاج حتى تبرأ مما تشعر به من الشح الطبيعى المغروز فى أعماقها، فيكون هذا مداواة لها من هذا المرض. ولنفترض أن المقصود هو مجرد الحث على التصدق على المحتاجين بانتهاز سانحة المرض وشعورالمريض وأهله بالضعف والهشاشة فى مواجهته مما يساعدهم على تمثل مشاعر الضعف والهشاشة عند الفقراء والبائسين فى مواجهة متاعب الحياة ومصاعبها، أفلا نسارع إلى الانتصاح بما نصحنا به رسول الله واضعين فى اعتبارنا أنه كان من الممكن جدا أن نكون نحن لا هُمْ المساكينَ المحاويجَ؟ وهل نرضى فى هذه الحالة أن يتخلى الآخرون عنا ولا يتذكرونا أو يمدوا أيديهم بالخير لنا؟ وهكذا نرى أنه على أية ناحية قلبنا الحديث الشريف فلسوف نجده عجيبا غاية العجب. ثم يقول ابن العظم إن الإسلام مجرد أساطير وخرافات وحكم وعظية وأمثال سائرة!
    وللحديث رواية أخرى أطول من هذه يجرى فيها على النحوالتالى: "داووا مرضاكم بالصَّدقةِ، وحصِّنوا أموالَكم بالزَّكاةِ، وأعدُّوا للبلاءِ الدُّعاءَ"، وخلاصة حكم المحدث كما جاء فى موسوعة "الحديث الشريف" بموقع "الدرر السنية" أنه، وإن كان في سَنَده مَنْ رُمِيَ بالكذب فقد عمل به جماعة من علمائنا وغيرهم. وهو حسن، ومعناه صحيح. وأنا قد أفهم الزيادة التى فى هذه الرواية على أنها تشير إلى ما يحدث فى كل الدول حين تتسع الفوارق بين الطبقات على نحو هائل، إذ عادة ما ينتهى الأمر، طال الزمن أو قصر، إلى اشتعال الأحقاد وانفجار الثورات، التى تطيح بعروش أصحاب الأموال وتصادر أموالهم لحساب الفقراء أو لحساب الدولة. وكان بمقدورهم، لو عقلوا وتصرفوا تصرفا إنسانيا وأخرجوا حقوق البائسين فيها، أن يتجنبوا هذا المصير الشنيع. وقد يصح أن نضيق من نظرتنا فلا نتحدث عن الثورات الجامحة الجائحة، بل عن انتشار اللصوصية والقتل بسبب انتشار الفقر واتساعه وشناعته فى مجتمع من المجتمعات، وكان بالمستطاع النجاة من هذا كله أو تقليصه إلى أقل حد ممكن لو أنصت الأغنياء إلى صوت الإنسانية والحكمة فلم يَنْسَوْا نصيب المستضعفين فيما أقامهم الله عليه من مال. ومن الممكن طبعا أن نفهم الحديث على نحو أو أنحاء أخرى كما فعلنا مع الأحاديث السابقة.
    وفيما يخص استجابة الدعوة التى يدعو بها العبد ربه والتى وردت الإشارة إليها فى نهاية الحديث الماضى لاحظت أننا كثيرا ما ندعو الله فلا يستجاب لنا، وهو ما يستغربه الناس، وقد يظنونه مناقضا لقوله تعالى مثلا: "وقال ربكم: ادعونى، أستجبْ لكم". وكان هذا الأمر مبعث تساؤل بينى وبين نفسى، فوجدت الحل فى الحديث التالى وأشباهه فعن أبى سعيدٍ الـخُدْرِىّ قال: "ما من مسلم يدعو ليس بإثم ولا بقطيعة رحم إلا أعطاه إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها. قال: إذن نُكْثِر. قال: الله أكثر". فاستجابة الدعاء حاصلة حاصلة، إلا أنها لا تأخذ شكلا واحدا على سبيل الحتم والضرورة، بل هناك أشكال شتى ذكر الحديث منها ثلاثة. كما أن الدعاء المتجاب له شروط أورد الرسول بعضها هنا حين اشترط ألايكون فى إثم أو قطيعة رحم. وفى الحديث التالى ذكر لبعض آخر منها. فمن حديث أبى هريرة: "أيها الناسُ، إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّبًا، وإنَّ اللهَ أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" (المؤمنون/ 51)، وقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" (البقرة/ 172). ثم ذكر الرجلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ يمدُّ يدَيه إلى السماءِ: "يا ربِّ، يا ربِّ"، ومطعمُه حرامٌ، ومشربُه حرامٌ، وملبَسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام. فأَنَّى يُستجابُ لذلك؟".
    ولا يصح أن ننسى أن استجابة الدعاء على النحو الذى يريده صاحبه قد تكون ضارة به وبمصالحه، إذ لا يستطيع، بسبب لهفته ورعونته وضيق صدره، أن يرى سوى ما تحت قدميه غير مدرك أن ما يريد من الله تحقيقه له قد يكون فيه الهلاك الوَحِىّ أو الضرر المزعج على أقل تقدير. ولا شك أن الدعاء لون من ألوان التوكل على الله، ومعلوم أن التوكل على الله عندنا فى ديننا يستلزم أن يقوم الإنسان بواجبه على قدر طاقته لا يألو أى جهد كى يكون توجهه إلى ربه بالطلب حريًّا أن ينال القبول. فعن أنس بن مالك: "قال رجلٌ: يا رسولَ الله،ِ أعقِلُها وأتوكَّلُ أو أُطلقُها وأتوكَّلُ؟ قال: اعقِلْها وتوكَّلْ"، إذ لا يصح أن أترك ناقتى دون عقال يربطها حتى لا تنطلق فى الصحراء وتشرد بعيدا بينما أنا أصلى أو أقضى حاجتى أو أبيع وأشترى، ثم أتساءل: لماذا لم تبق فى موضعها حتى أنتهى من مباشرة أمرى؟ وقال صلى الله عليه وسلم: "لو توكلتم على اللهِ حقَّ توكُّلِه لَرَزَقكم كما تُرْزَقُ الطيرُ: تَغْدُو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا". وهذا كلام حكيم، فالطيور لا تبقى راقدة فى أعشاشها باسطة يديها نحو السماء تبتهل إلى ربها أن يسوق رزقها إليها حيث هى دون جهد أو تعب منها كما يتصور بغباءٍ قاتمٍ كثيرٌ من المتدينين غافلين عن أن ديننا لا يمكن أبدا أن يقبل هذا السلوك أو المنطق، بل تنطلق الطيور كل صباح تاركة عشها الدافئء الآمن وصغارها الذين لا يستقلون بأنفسهم بل يحتاجون إلى رعايتها، بحثا عن دودة تلتطقها أو حبة قمح تحملها فى منقارها أو قشة حطب تحتاجها لتبنى بها عشا لها... وهكذا. والدعاء فى كل الأحوال جدير بأن يبث فى قلب الداعى الطمأنينة والشعور بأن له ربا ينظر إليه ويعطف عليه ويرحمه ويمد يده ليخرجه من ظلمات الحيرة والقلق إلى نور الراحة واليقين والمودة، بدلا من الشعور البارد بالوحدة المظلمة التى تكظ النفس باليأس والقنوط، وتجعل الحياة باهظة العبء لا تطاق ولا تحتمل.

    التعديل الأخير تم بواسطة إبراهيم عوض ; 24/11/2016 الساعة 06:45 PM

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •