آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: "موسم الهجرة إلى الشمال": رؤية مختلفة

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي "موسم الهجرة إلى الشمال": رؤية مختلفة


    "موسم الهجرة إلى الشمال": رؤية مختلفة
    إبراهيم عوض





    الطيب صالح (1929- 2009م) أديب سوداني وُلِد فى إقليم مروي شمالى السودان، وتوفى فى أحد مستشفيات العاصمة البريطانية. وفى شبابه انتقل إلى الخرطوم فالقاهرة، فلندن حيث عمل لسنوات طويلة فى القسم العربى من الإذاعة البريطانية, وترقى بها حتى وصل إلى منصب مدير قسم الدراما. وبعد استقالته من البى بى سى عاد إلى السودان وعمل فترة فى الإذاعة السودانية سافر بعدها إلى قطر حيث عمل فى وزارة إعلامها وكيلًا ومشرفًا على أجهزتها، ليشتغل بعد ذلك مديرا إقليميا بمنظمة اليونسكو فى باريس, كما عمل ممثلا لهذه المنظمة فى الخليج العربي.
    وكتب الطيب صالح عددا من الروايات تُرْجِمَتْ إلى كثير من اللغات: "موسم الهجرة إلى الشمال" و"عرس الزين" و"مريود" و"ضو البيت" و"دومة ود حامد" و"منسى". وحصلت روايته: "موسم الهجرة إلى الشمال"، التى نشرت لأول مرة فى أواخر ستينات القرن المنصرم فى بيروت، على عدد من الجوائز. وفى عام 2001م تم الاعتراف به من قِبَل الأكاديمية العربية فى دمشق على أنه صاحب "الرواية العربية الأفضل فى القرن العشرين". وفى مجال الصحافة ظل يكتب خلال عشرة أعوام عمودًا أسبوعيًّا فى صحيفة "المجلة" العربية اللندنية. وهناك جائزة باسمه فى مجال كتابة الرواية والقصة القصيرة والنقد.
    وتدور رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" حول مصطفى سعيد، الذى وُلِد بالخرطوم عام 1888م، وتُوُفِّىَ أبوه قبل ولادته. وشبَّ لا يؤثر فيه شيء، إذ لم يكن يبكيه ضرب ولا يفرحه إطراء ولا يؤلمه ما يؤلم الآخرين. ودخل المدرسة راغبًا فى وقت كان الناس يرَوْن فى المدارس شرا عظيما جلبه معه الاستعمار، فكانوا يخفون أولادهم حتى لا يُؤْخَذوا عَنْوَةً إلى التعليم. وكان شديد الذكاء ذا قدرة عجيبة على الاستيعاب والفهم، وتفوَّق فى اللغة الإنجليزية تفوقا عظيما جعل ناظر مدرسته يساعده فى الذهاب إلى القاهرة لمتابعة دراسته الثانوية، فودع أمه بلا دموع ولا ضوضاء، وكان هذا آخر عهده بها إلى الأبد.
    وحين وصل إلى القاهرة عاش فى كنف أسرة روبنسون البريطانية، التى كان عميدها مستر روبنسون مستشرقا يهتم بحضارتنا، واعتنق الإسلام، ودُفِن بالقاهرة عند موته. وكان يهتم بمصطفى اهتماما كبيرا، كما كانت مسز روبنسون بمثابة الأم الروحية له، واستمرت تهتم به حتى عندما تخلى عنه الجميع لدى الحكم عليه بالسجن فى لندن بعد ذلك بأعوام. وتميزت حياته بالقاهرة بخلوها من المرح، إذ كان لا يستطيع نسيان عقله أبدا، وكأنه آلة صماء.
    وبعد القاهرة سافر إلى لندن، التى تفوق فى جامعتها وتمتع بشهرة واسعة إذ وصل إلى أرقى الدرجات العلمية، وأصبح دكتورا لامعا فى الاقتصاد، ومؤلفا مرموقا فى الأدب وما فتئ فى الرابعة والعشرين من عمره. ولم تقتصر شهرته على الميدان المعرفى بل تعدته إلى ميدان الغرام، إذ كان زِيرَ نساءٍ حتى لقد أتى عليه حين من الزمان كان يعاشر أربع نساء فى آن واحدٍ: آن همند، التى كانت ابنة ضابط فى سلاح المهندسين، والتحقت بجامعة أكسفورد لدراسة اللغات الشرقية، وكانت مترددة بين اعتناق البوذية والإسلام، ثم تعرفت إلى مصطفى سعيد، الذى حرك فيها الحنين إلى الشرق. لكنها فى النهاية انتحرت بالغاز تاركة ورقة صغيرة باسمه تقول فيها: "مستر سعيد، لعنة الله عليك".
    والثانية شيلا جرينود، وكانت بسيطة حلوة المبسم والحديث، تعمل فى مطعم بالنهار، وتواصل الدراسة ليلا فى البوليتيكنيك. وكانت ذكية تؤمن بأن المستقبل للطبقة العاملة وأنه سيجيء يوم تنعدم فيه الفروق بين الناس، ويصيرون جميعا إخوة. وقد أحبته رغم معرفتها أن مجتمعها لن يغفر لها حبها لرجل أسود، إذ رأت فى سواده السحر والغموض والأعمال الفاضحة. وانتهى بها المطاف أيضا إلى الانتحار.
    والثالثة زوجة جراح ناجح وأمّ لثلاثة أبناء هى إيزابيلا سيمور، التى كانت تذهب للكنيسة صباح كل أحد بانتظام، وتساهم فى جمعيات البر، لكنها تشتاق إلى إفريقيا، فوجدت ضالتها فى مصطفى سعيد، الذى لفق لها الأكاذيب و صور لها بلاده كأنها غابة تسرح فيها الوحوش، زاعما أن شوارع عاصمة بلاده تعج بالأفيال والأسود وتزحف فيها التماسيح عند القيلولة. وقد أحست أنه قد منحها السعادة الأبدية، فأحبته مضحيةً بأسرتها والتزاماتها. لكن هذه السعادة لم تدم، إذ انتحرت هى كذلك تاركة رسالة تقول فيها: "إذا كان فى السماء إله، فأنا متأكدة أنه سينظر بعين العطف إلى طيش امرأة مسكينة لم تستطع أن تمنع السعادة من دخول قلبها ولو كان فى ذلك إخلال بالعرف وجرح لكبرياء زوجٍ. ليسامحنى الله ويمنحك من السعادة مثلما منحتني".
    ورابعة عشيقاته هى جين مورس، التى لبث يطاردها ثلاث سنوات أذاقته خلالها شتى صنوف الإهانة والاحتقار، وضحى بكل شيءٍ من أجل نيلها حتى قالت أخيرا له: "أنت ثور همجى لا يكلّ من الطراد. إننى تعبت من مطاردتك لى ومن جريى أمامك. تزوجني"، فتزوجها ظانًّا أنه بذلك ينهى مأساته معها، لكن الأمور زادت تعقيدا بعد الزواج، إذ بقيت تعامله باحتقار الأوربية الصميمة للرجل الأفريقى الأسود، فكأن زواجهما كان من طرفها هى فقط، إذ كانت تقرر الاستغناء عنه وإهماله متى شاءت وكأنه غير موجود فى حياتها. وقد دفعته تصرفاتها تلك إلى قتلها، فحوكم وأُلْقِىَ به فى السجن سبع سنوات خرج بعدها ليتشرد فى أصقاع الأرض من باريس إلى كوبنهاجن إلى دلهى إلى بانكوك، ليعود فى النهاية إلى السودان حيث استقر فى قرية الرواى واشترى أرضا زراعية، وتزوج حسنة بنت محمود، وأنجب منها ولدين، واندفع فى حياة الناس يشاركهم أعمالهم وأفراحهم وأتراحهم، وإن أخفى عنهم ماضيه.
    وبمناسبة الكلام عن جين مورس قرأت لمحمد شعير فى "منتديات سودانيزاونلاين"، وتحت عنوان "ماذا قالوا عن الطيب صالح؟"، الكلام التالى: "رأى بعضهم أنّ ثمة ملامح بين شخصية مصطفى سعيد والطيّب نفسه، لكنّه كان حريصا طول الوقت على أن ينفي العلاقة. صحيح، كما يؤكد، "يمكن بعض الشخصيات أن يكون لها جذور في الواقع. وأنا، كما أقول دائما، أترك الواقع يتحول إلى حلم. أنسى حتى لو كان هناك شيء حقيقي قد حدث، أنسى مصدره فيتحوّل في الخيال إلى حلم ويخرج هكذا". وعندما نسأله: هل عشقت يوما إنكليزية؟ يجيب: "عشقتُ. لكنّها كانت اسكتلندية، تزوّجتها ولم أقتلها". لكن منذ سنوات فى إحدى ندوات الجامعة الأردنية كشف الطيب سرّه الدفين: جين موريس شخصية حقيقية، لكنها ليست هي نفسها في الرواية. تعرفت عليها في الشهر الأول من وصولي إلى لندن عام 1953 في المتحف الوطني. جذابة حقا. كان في المتحف آنذاك معرض عن الفن الانطباعي. تحدثنا وسألتني من أين أنا. وكنت في ذلك الحين فتى يافعا، لا بد من أن تعترفوا بذلك. خرجنا من المعرض وذهبنا إلى مقهى وأمضينا بعض الوقت في الحديث عن أمور عامة، وبعد ذلك لم أرها قط. واسم الفتاة جين موريس، وقد أحببت ذلك الاسم. ومن ذلك اللقاء علق اسمها في ذاكرتي وأدخلته الرواية: الاسم وبعض الأمور الأخرى التي يعلم بها الله".
    و يعود سارد الرواية من رحلته إلى لندن بعد سبع سنوات قضاها فى الدراسة هناك، ويتعرف على مصطفى سعيد، الذى يحكى له وقائع حياته الغريبة فى بريطانيا، والذى يموت غرقا فى أحد فيضانات النيل. و هنا يبتدئ دور الراوي، الذى يعد فى نظر بعض من كتبوا عن الرواية استمرارا لمصطفى سعيد، إذ جعله وصيا على أمواله وأولاده وامرأته من دون معارفه السابقين، كما أبدت أرملة مصطفى سعيد رغبتها فى أن تقترن به بدلا من ود الريس إن كان لا بد أن تتزوج بعد موت قرينها، وحين أرغمها أهلها على الزواج من ود الريس قتلته وانتحرت.
    وأول شىء نقف لديه هو عنوان الرواية: "موسم الهجرة إلى الشمال"، الذى يشير إلى بلاد الغرب وهجرة المسلمين إليها فيما أتصور. وهو ما وجدت د. جابر عصفور يقوله فى مقال له عن "موسم الهجرة إلى الشمال" قرأته على موقع "الطيب صالح"، إذ قال إن "الراوي مواطن سوداني مسالم ذهب إلى إنجلترا, في موسم الرحلة من الجنوب (المتخلف?) إلى الشمال (المتقدم?)، طلبًا للعلم, وقضى سبع سنوات عاد منها إلى موطنه، القرية النائمة في حضن النيل, فشعر بأنه يعود إلى الرحم الذي خرج منه". لكنى لا أعرف السبب فى جعل المؤلف للهجرة موسما وكأنها شىء جديد طارئ لم يكن، ثُمَّ كان، رغم أنه موجود ومتصل منذ بداية النهضة العربية الحديثة. ويبرز اسم رفاعة فى هذا السبيل، كما نعرف، بروزا كبيرا، فهو أشهر من سافر إلى هناك ودرس واستفاد وعاد ونشر ما كان قد كتبه عن إقامته فى فرنسا، التى لم يترك شيئا مما وقع له خلالها إلا ذكره وفصل القول فيه مقارنا دائما بين أوضاع الفرنسيين وأوضاعنا نحن المسلمين. فإذن لم يكن سفر مصطفى سعيد ولا الرواى شيئا قشيبا بل السفر إلى الغرب، كما قلنا، أمر قديم سبقهما بأكثر من قرن. ثم كيف يقال إنه موسم رغم أن الرواية لم ترصد سفر أحد من السودان إلى الغرب سوى اثنين ليس غير؟ كذلك فقد أفاد رفاعة قومه أيما إفادة: سواء بما كتب عن تجربته فى بلاد الفرنجة أو بما ترجمه من علومهم وكتبهم أثناء ذلك وبعد رجوعه، بخلاف بطلينا، اللذين لم نر منهما إنجازا يوحد الله فى خدمة بلادهما على أى نحو من الأنحاء. ثم إن الأمر فى الرواية قد انتهى بعودتهما إلى الديار ولم يقف عند هجرتهما إلى أوربا لأنهما لم يبقيا هناك مهاجرين.
    فلعله كان الأنسب أن يقال: "موسم العودة من الشمال"، وبخاصة أن الرواية لم تتحدث عن أى شىء يتصل بإقامة الراوى فى بريطانيا، أما حديثها عن بطل الرواية مصطفى سعيد هناك فقد دار فى المقام الأول حول علاقاته الجنسية ببعض النسوة البريطانيات، تلك العلاقات السخيفة التى لم يستفد منها أحد: لا هو ولا قومه ولا العشيقات أنفسهن، اللاتى انتهت حياتهن جميعا بالقتل: ثلاث منهن بَخَعْنَ أنفسهن، والرابعة قتلها هو. ويا ليته قد انتحر هو أيضا وأراحنى من هذا التحليل النقدى، فصرفت جهدى إلى شىءٍ آخَرَ مُجْدٍ! إذن لكنت أسعد الناس، فأنا لا أحب الهلاسين!
    أما إن كان المقصود بموسم الهجرة إلى الشمال هو ما رآه الراوى أثناء سباحته فى آخر الرواية، تلك السباحة التى لا أجد لها مبررا البتة بل مجرد رغبة شاذة طَقَّتْ فى دماغه بغتة كما سوف أوضح فى آخر الفصل، أما إن كان المقصود بهذا العنوان هو ما شاهده الراوى أثناء سباحته المذكورة من أسراب القطا وهى طائرة فوقه فى السماء، وكأن الظروف الخطيرة التى كان يعوم فيها مشرفا على الهلاك وسط النهر وتياره الشديد تسمح له بالتطلع إلى أسراب القطا والانشغال بها إلى هذا الحد والتساؤل: أهذه رحلة يا ترى أم هجرة؟ أقول: أما إن كان المقصود بالعنوان هو ما شاهده من أسراب القطا آنذاك فكيف يتسق العنوان الذى حسم المسألة بأنها هجرة لا رحلة مع قوله إنه كان لا يدرى أكان ما شاهده فى ذلك الوقت من القطا رحلة أم هجرة؟ ثم إن مسألة القطا لم تستغرق بضع كلمات، وجاءت على نحو عارض تماما بحيث لا تشغل الذهن أبدا إلا لمن ركز فى الرواية بكل تفصيلاتها تركيزا مرهقا، فكيف تصلح تلك الإشارة رغم عارضيتها وإيجازها البالغ وتناقضها الحاد مع العنوان كما وضحت آنفا أن تكون هى محور ذلك العنوان؟
    وبعد العنوان ندخل فى اللغة والأسلوب. وأنا من الذين يهتمون أشد الاهتمام بالصحة اللغوية والمتانة الأسلوبية. ولكن ليس معنى هذا أننى أنظر إلى نفسى على أنى مقياس الصواب والخطإ، بل على أننى لاحظت شيئا فذكرته ونبهت إليه لا أكثر ولا أقل. وقد أكون مخطئا، لكن المهم هو أننى أسرد الحيثيات التى على أساسها قلت بخطإ هذا الاستعمال أو ذاك حتى يكون أمام القارئ الفرصة للنظر فيما أقول ومراجعته والتحقق من صوابه أو الحكم بخطئه.
    وكثيرا ما صححت أخطائى بناء على ملاحظة من هذا الزميل أو ذاك. بل إن بعض طلابى قد يبدون ملاحظاتهم على ما أكتب، وقد يخطئوننى عن حق أو عن غير حق، كما حدث حين قال أحدهم ذات محاضرة إننى أخطأت حين جمعت "نِيّة" على "نوايا"، إذ المفروض، كما قال لى ساعتئذ، أن أجمعها على "نيات". وهو ما توقفت أمامه قليلا حيث بدا لى لأول وهلة أنه مصيب وأنى مخطئ، إلا أن حلاوة الروح عندى أبت أن أستسلم، فرددت قائلا: ولم لا تكون "نوايا" جمعا لـ"نَوِيَّة" على أساس أن "فعيلة" هنا بمعنى "مفعول"، بمعنى "الحاجَة المَنْوِيَّة"؟ ثم بعدها بأعوام تنبهت إلى أن هناك جموع تكسير غير قليلة لا تجرى على قاعدة، فقام فى ذهنى أن يكون هذا توجيها آخر إلى جانب التوجيه الآنف الذكر. وفى محاضرة أخرى واجهنى تلميذ آخر هو الآن زميل لى بأنى أقول: "من بابٍ أوْلَى"، وهذا خطأ صوابه أن أقول: "من بابِ الأَوْلى". فرددت بأن لكل من الاستعمالين وجها من الصواب: فالمعنى حسب استعمالى هو أن الأمر الذى أتحدث عنه هو "من بابٍ أولى من الباب المذكور"، وحسب الاستعمال الذى ذكره هو أنه "من بابِ ما هو أولى". لكنه أصر على رأيه، فسكتُّ. ثم بعد ذلك وجدت فريقا من الكتاب القدماء يستعملون هذا، وفريقا يستعملون ذلك. وأغلب الظن أن كلا من تلميذىَّ قد قرأ ما قاله فى كتاب من كتب التصويب اللغوى، فأداه كما هو. ولا ريب أنهما يستحقان الشكر. ولكن كان استحقاقهما للشكر يزداد لو فتحا عقليهما وأنصتا لما أقول وناقلانى الرأى بدلا من التخشب والإصرار على ما قرآه حتى لو ثبت بعد ذلك أنهما هما المُحِقّان، وأنا المُبْطِل.
    أما أسلوب الطيب صالح فهو بوجه عام أسلوب قوى متين، لكنه لا يخلو من الأخطاء اللغوية رغم هذا، وإن لم تكن فادحة كما هو الحال فى أساليب كثير من كتاب هذه الأيام. وأتصور أنه أقوى الأساليب بين الروائيين الثمانية الذين اخترت لكل منهم رواية هنا. ولسوف أَضْرِب صَفْحًا عن الهمزات المثبتة على ألفات الوصل مفترضا أنها أغلاط مطبعية لا صرفية، وإن كان يغلب على ظنى أنها أخطاء منه. أما الهنات التى تظهر فى أسلوب الرجل هنا وهناك فمنها مثلا قوله: "لَمْ يبدو" بإثبات الواو (ص10)، والواجب حذفها على الجزم: "لم يَبْدُ"، وقوله يصف حاجبين: "حاجباه يَقُومان أَهِلَّةً فوق عينيه" (ص11)، والمفترض "يقومان هلالين"، ومثلها: "كنا أنا وهو زملاء دراسة" (58) عوضا عن "زَمِيلَىْ دراسة"، وقوله: "بالتعرف عليه من قبل" (ص11) بدلا من "التعرف إليه" لأن الشخص الذى يقصده لم يكن قد تاه أو غاب عنه أو نسيه حتى يتعرف عليه، بل المراد أن يعرّف نفسه له ويصنع الطرف الآخر نفس الشىء، فيعرف كلاهما الآخر، وقوله: "كان المدعي العمومي سير آرثر هغنز عقل مريع"، وصحتها: "عقلا مريعا" (ص35)، وقوله: "المراءات الكثيرة" (ص47) يقصد "المرايا"، أما لو أراد جمعها بالألف والتاء فـ"المِرْأَيَات"، وقوله: "وعلى الشاطئين غابات كثيفة من النخل وسواقي دائرة" (ص66)، والصواب حذف الياء والتعويض عنها بتنوين لأنها مرفوعة، وقوله: "دَعْكِ من بنات البلد يا بنت مجذوب" (ص84)، وصوابه كما لا يخفى هو "دَعِيكِ"، ومثلها قول أحدهم لامرأة: "أَعْطِها" (ص95)، والواجب أن نقول: "أَعْطِيها"، وقوله: "النسوان الغير مطهَّرات" (ص84) بدل "غير المطهَّرات"، ومثلها: "المنافسة الغير كاملة" (ص137)، وقوله: "يرشِى" (ص92) بدل "يَرْشُو".
    وبمناسبة "الغير كاملة" و"الغير مطهرات" أذكر أن مدرس اللغة العربية بالأحمدية الثانوية بطنطا المرحوم سيد السقا قد صحح لى هذا التركيب بعينه، فكنت أستعجب ولا أفهم السبب فى تصحيحه إياه ولا أقتنع. ولا أظننى سألته عن الأمر مكتفيا بالإنكار فى قلبى، إلى أن تنبهت بعد ذلك إلى أن المضاف لا يقبل دخول "أل" عليه، وبخاصة إذا كانت إضافته إلى ما ليس فيه "أل"، إلا فى مثل قولنا: "الضارب الرجل، الضارب رأس الرجل، الضارب غلامه، الضاربه"، أى حين يكون المضاف صفة مشتقة عاملة فى المضاف إليه. وبكل يقين كنت أعرف تلك القاعدة، وأستطيع أن أستحضرها حين أُسْأَل عنها. لكن عند التطبيق تهرب منا ولا نتذكرها. ومن هنا ترانى أنبه طلابى إلى أنه لا يكفى أن نحفظ القاعدة ونرددها كما هى بل المقصود من تعلم النحو أن نطبق قواعده أولا بأول، وهذا يقتضى وعيا ويقظة وحرصا وغيرة على اللغة وصحتها وعلى سمعتنا التعبيرية. وذلك كله يأتى بالتعود والاهتمام وفتح العين والذهن بحيث تصير القواعد وكأنها تجرى منا مجرى الدم فى العروق بدلا من الشيطان.
    وهناك مثال آخر يختلف شيئا عن الأمثلة السابقة، التى تتعلق بالإعراب أو ببنية الكلمة، وهو يتعلق بالمعجم واختيار لفظة بعينها دون سواها. فالراوى يقول عن تفكيره المستمر فى أهله إبّان الغربة فى بلاد الإنجليز ثم عما حدث حين التقاهم بعد العودة إليهم: "تعودت أذناى أصواتهم، وأَلِفَتْ عيناى أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم فى الغيبة. قام بينى وبينهم شىء مثل الضباب لأول وهلة رأيتُهم" (ص5)، إذ كيف تعوَّدهم فى الغيبة ثم يقوم بينه وبينهم ضباب عند اللقاء؟ ثم ما معنى "تعودت أذناى أصواتهم، وألفت عيناى أشكالهم"؟ معنى ذلك أنه لم يكن تعوَّد عليهم قبلا. فكيف؟ المفروض أن يقال بدلا من ذلك: "لم تغب عنى صورهم ولا أصواتهم خلال الغياب جراء تفكيرى المستمر فيهم وانشغالى الدائم بهم" مثلا.
    وما دمنا فى سياق الحديث عن المعجم اللفظى فالملاحظ أن كاتبنا غير حريص على استعمال الألفاظ السودانية الصرفة على عكس زيد مطيع دماج، الذى اهتم بنثر طائفة من الكلمات والعبارات اليمنية هنا وها هنا فى الموضع الملائم، مما أضفى طعما يمنيا جميلا على رواية "الرهينة" رغم أن أسلوب الطيب صالح بوجه عام أمتن من أسلوب دماج. إلا أن الطيب صالح، حين يجرى حوارا بين بعض العوام، لا يهجر الفصحى كما يفعل كثير من القصاصين اليوم بل يظل ملتزما بها مع اصطناع تركيبات وألفاظ قريبة من كلامهم وطريقة تفكيرهم مع تطعيمها بلفظة عامية على قلة كما فى الشواهد التالية: "أعرابي غَشَّ عمك وأخذ منه حمارته البيضاء التي تعرفها، وفوقها خمسة جنيهات أيضا". "عليَّ الطلاق هذه أجمل حمارة في البلد كلها. هذه جواد وليست حمارة. إذا شئت وجدت من يعطيني فيها ثلاثين جنيها". "شفخانة لهم حَوْلٌ لا يستطيعون بناءها. حكومة كلام فارغ". "كل الذي يفلحون فيه يجيئون إلينا مرة كل عامين أو ثلاثة بجماهيرهم ولواريهم ولافتاتهم: يعيش فلان، ويسقط علان. كنا مرتاحين أيام الإنكليز من هذه الدوشة".
    وكما يرى القارئ ليس فى الأمر تعنت ولا اصطياد للغلط، ومن الصعب توجيه أى من هذه الأخطاء بحيث يكون لها باب من الصحة. ولست أقصد التعالم، فالأمر أهون من هذا، وأى طالب واع سوف يضع يده بسهولة تامة على تلك الملاحظات. كل ما هنالك أننى غيور على لغتنا، وأريد لكُتَّابنا، ومنهم أنا، أن يتنزهوا بقدر الممكن عن الوقوع فى الأغلاط اللغوية مثلما نحب للناس أن يراعوا شروط الأناقة واللياقة والخلق المستقيم فى تصرفاتهم وسلوكهم. فهذا مثل هذا، والعارف يعرِّف الجاهل والناسى والساهى. وكلنا يعترينا الجهل والسهو والنسيان، فنحن بشر محدودو المُنَّة. والقرآن يأمرنا بالتعاون على البر والتقوى. وهذا من البر بلغتنا والحرص على اتقاء تشويهها. وكما قال الرسول الكريم: كل بنى آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون.
    أما بالنسبة لتصوير الشخصيات فى الرواية فالملاحظ أن رسم الطيب صالح لأشخاصها غير متقن، وبه ثغرات كثيرة. تعالوا لننظر فى شخصية مصطفى سعيد أولا: لقد ذكر الراوى أنه، حين عاد من بريطانيا، قد زاره مصطفى ضمن من زاروه رغم أنه لم تكن بينهما أية صلة ولا تقابلا بل ولا كان مصطفى من أهل القرية بل طارئا عليها أتاها من المجهول، وكان حريصا على ألا يعرف أحد مِنْ أو عَنْ ماضيه شيئا. فكيف ذلك، وبخاصة أنه مكث طوال الزيارة لا ينبس ببنت شفة، وهو أمر معقول ما دام لم تكن بين الاثنين أية علاقة؟ ألا إن هذا تطفل وتصرف غير مفهوم يتنافى مع رغبته العارمة فى الابتعاد عن الناس والعيش فى عزلة. ثم إن الراوى يصف مصطفى فى أول لقاء بينهما بعد الزيارة إنه كان، كعادته، يسمع أكثر مما يتكلم (ص15). ترى كيف عرف بعادته تلك؟ إنه لم يلقه سوى مرتين: الأولى فى زحام الزوار الكثيرين لدى رجوعه من الخارج، ومن الطبيعى ألا يفتح مصطفى فمه لأنه لم تكن له بالراوى صلة كما قلنا، وبخاصة أن الآخرين، بحمد الله، قائمون بالواجب فيما يخص الكلام وزيادة، فلا داعى من ثم لأن ننتظر من مصطفى كلاما. وهذه هى المقابلة الثانية، التى يقول الراوى إنه تركه يتكلم أثناءها حتى يعرف شخصيته. فأَنَّى عرف إذن أن عادته السماع لا الكلام؟ إن هذه عبارة لا يقولها سوى رجل خَبَرَ مصطفى خبرةً واسعة عرف من خلالها أنه يؤثر الصمت على الحديث، وهذا لاينطبق بتاتا على حالتنا.
    ليس ذلك وحسب بل إن الرواية تصف مصطفى بأنه لم يكن يعرف الضحك، وكان عقلا خالصا لا يهتم بغير الدراسة والاستذكار والتفوق العلمى، ثم نفاجأ به فى بريطانيا بغتة يخترع الأكاذيب الضاحكة يخدع بها الفتيات والنساء البريطانيات، ويوقع فى غرامه عدة نساء فى وقت واحد دون أية مشاكل أو متاعب. فهو يقول لإحداهن مثلا إن بيته فى السودان يقع على النيل مباشرة بحيث يمكنه أن يمد يده وهو نائم فى السرير فيداعب ماء النهر، وإن التماسيح تزحف فى الشوارع ساعة الظهرية، وذلك كى يثير فى الفتاة الحنين إلى بلاده، ومن ثم يزداد تعلقها به. ثم إنه يجعل من غرفته معبدا هنديا بالروائح الشرقية الثقيلة التى تدير الدماغ كى يوقع عشيقاته فى غرامه أكثر وأكثر عن طريق الإيحاء لهن بأنهن الآن فى الشرق الساحر الغامض. ترى كيف استطاع تغيير شخصيته على هذا النحو العجيب دون أن يحدث له ما ينسخ شخصيته القديمة ويضع مكانها تلك الشخصية الظريفة الخفيفة الظل المخطِّطة المخادعة التى تميتنا من الضحك على تصرفاتها وأقاويلها؟ وكيف صار هذا الذى كان يتعثر فى صداره قبلا ولدًا بُرْمَجِيًّا قد قَطَّع السمكةَ وذيلَها؟ كيف تطور يا ترى بهذا الشكل على حين غرة منا بل على حين غفلة من الدهر ذاته؟ هذا لا يكون.
    ومن ناحية أخرى فإن القارئ لا يقنعه أبدا ما حكاه مصطفى سعيد من أن إحدى عشيقاته قد وقعت فى حبالة أكاذيبه حين كان يقول لها إن بيته فى السودان قائم على النيل مباشرة حتى إنه كان يمد يده فى النهر وهو نائم فى السرير، وإن التماسيح تزحف فى شوارع مدينته فى القيلولة. ذلك أن الفتاة خريجة جامعة أكسفورد ودرست الإسلام والأدب العربى، فهى فتاة ناضجة تمام النضج، وتعرف العرب وأوضاعهم، وبلدها يحتل السودان ومصر جميعا، والمستشرقون البريطانيون قد كتبوا عن كل شىء فى السودان، فكيف يا ترى صدقت مثل تلك الأكاذيب الساذجة التى لا تنطلى ولا على المجانين أنفسهم؟ نعم كيف يمكن أن يمد الإنسان يده وهو فى السرير فيعبث بها فى مياه النيل حتى لو كان يسكن سفينة تمخر الماء؟ وكيف فاتها أن تسأله عن عدد الناس الذين تأكلهم التماسيح الزاحفة فى الشوارع عندهم، وعن الظروف التى ساعدته على أن ينجو من فكوكها ولا يكون من بين ضحاياها؟ يا ابن الحلال، إذا كان المتحدث مجنونا فليكن المستمع عاقلا. وإذا كانت المستمعة البريطانية مجنونة هى أيضا فليكن الراوى عاقلا ويبدى استغرابه من لجوء مصطفى سعيد لهذا الكلام المضحك ومن تصديق البنت الشعنونة له رغم سطوع بطلانه وسخفه. أما إذا كان الراوى قد أصابه العته كذلك أو غلبه الحياء أو جامل بلديَّه أو غَشَّتْ على عقله فرحته كسودانى بغزو ابن بلده لقلب الفتاة التى تنتمى إلى محتلى وطنه ومذلى أهله ولغير قلبها فلم يتنبه إلى ما فى الموضوع من هلس فلنكن نحن القراء الذين أبرأنا الله من كل ذلك من العقل بحيث لا يفوتنا أن نطرح هذا السؤال، ونقول له: العب غيرها.
    إننى أشعر أنى الآن أمام أبو لمعة الأصلى وهو يقص حكاياته على الخواجة بيجو، الذى يشد شعره ويكاد يفقد عقله قائلا: آه يا النفوخ بتاع الأنا! وقد سارع رجاء النقاش بطبع الرواية فى سلسلة "روايات الهلال" المصرية فى أواخر ستينات القرن البائد رغم أننا نحن الذين صررنا الفيل فى المنديل لا الذين تسرح التماسيح فى شوارعهم فحسب! وبالمناسبة فقد تصادف منذ ليلتين أن شاهدت على اليوتيوب مشهدا من مشاهد أبو لمعة والخواجة بيجو، فعامت فشتى من الضحك. منك لله يا مصطفى يا سعيد! بل منك لله يا طيب يا صالح! ما كنت أعرف أن أهل السودان يستطيعون منافسىة المصريين فى الهنكرة بهذا الشكل! وما كنت أعرف أن البريطانيين عندهم شراقوة طيبون مثلنا! ثم كيف يكون عند الرجل أربع عشيقات فى ذات الوقت وفى نفس المدينة ولا تعرف أى منهن بذلك ولا تغار من منافِساتها الأخريات؟ أيَكُنَّ الحور العين اللاتى قد نزع الله من قلوبهن الغِلَّ، ونحن لا نعلم؟ أم إن هذا هو التعايش السلمى الذى ظل يطمح إليه البشر فلم يستطيعوه وقَدَرَ عليه مصطفى بن سعيد؟
    كذلك كيف يكون مصطفى سعيد أستاذا جامعيا فى لندن واقتصاديا عالميا ويرتكب جريمته التى قتل فيها زوجته الإنجليزية والتى لا بد أن يكون العالم قد سمع بها وعرفها وعرفه جيدا، ثم يعود بعد السجن إلى بلده دون أن يشعر به أحد أو يتعرف عليه أحد، ثم يتزوج امرأة سودانية فلا تشعر أنها أمام رجل متميز عمن حوله بل تأخذه على أنه رجل ريفى عادى؟ لو كانت جدارا أو كرسيا لأنبأها قلبها أن زوجها ليس رجلا عاديا. بل كيف لم يتذكر أمه بعد أن غادرها إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة ثانوية هناك إلى أن عاد إلى بلده كرة أخرى (اللهم إلا مرة واحدة يتيمة حين كان منكسا رأسه بعدما تحدته جين مورس زوجته فى الفراش أن يقتلها لدى تهديده لها بسبب تأبيها عليه)، فلم يرسل لها خطابا ولم ترسل له، ولم يأكله قلبه عليها ولم يأكلها قلبها، بل إنه حين بلغه خبر موتها لم يشعر بأى حزن ولم يفكر فى العودة إلى السودان لتلقى العزاء فيها بل لم ينشغل بها أصلا، بل لم يفكر فى زيارة قبرها لدن عودته بعد كل هاتيك الأعوام الطوال، بل لم يفكر أثناء إقامته فى بلاد الإنجليز فى أى من أقاربه، بل لم يفكر فى بلده كله سواء القرية أو الوطن، بل لم يفكر فى البحث عن بيته وميراثه اللذين لا بد أن تكون أمه قد خلفتهما له؟ كما لم يفكر فى البحث عن أحد من أقاربه، الذين لابد أنه كان بحاجة إليهم فى ظروفه المأساوية التى نعرفها كى يأتنس بهم ويستدفئ. أومعقول هذا؟ ليس هذا فقط، بل إن الرواية قد ضربت عن أمه بعد ذلك صفحا فلم تشر إليها بحرف واحد. ومرة أخرى أمعقول هذا؟ لقد اتسعت الرواية للعديد من الأشخاص الذين لم يقدموا أو يؤخروا فى أحداثها أو شخصياتها، بل كانوا عبئا باهظا على بنيتها، فكيف لم تتسع لكلمة عن أمه ترينا على الأقل كيف كانت تعيش أثناء غياب ابنها عنها؟ إننا هنا إزاء تماثيل شمعية باردة وليس شخصيات من لحم ودم وغرائز ومشاعر ومخاوف ومطامح ورضا وقلق وفرح وابتهاج وطمع وقناعة...
    بل كيف استطاع بكل تلك البساطة والسلاسة أن يتعايش مع امرأة أمية بعد الفتيات والنسوة البريطانيات المثقفات الحاصلات على أعلى الشهادات ممن كان غارقا فى عسلهن طول إقامته هناك؟ ولنفترض أنه استطاع ذلك بطريقة أو بأخرى فكيف سكتت الرواية فلم توضح لنا كيف تم ذلك؟ وما المشاعر التى كان يحس بها نحو زوجته السودانية ووقع المقارنة على نفسه بينها وبين النساء البريطانيات اللاتى عرفهن هناك؟ إن مثل هذا الأمر ليس بالتفاهة التى يوحى بها صمت الرواية عنه، بل هو أمر فى منتهى الأهمية والحيوية والخطورة. وعلى مثله ينبغى أن تدور القصص والروايات. بل لقد كان ينبغى أن يكون ميدانا للتصادم بين الشمال والجنوب. لكن المؤلف لم يهتم بشىء من ذلك، فضيع على نفسه وعلينا فرصة ثمينة.
    ثم ما السبب يا ترى الذى دفع مصطفى سعيد إلى فعل ما فعله بالبنات والنسوة البريطانيات؟ إن الرجل لم يظهر أية مشاعر وطنية طوال الرواية حتى يقال إنه كان ينتقم فيهن مما فعله البريطان ببلاده. بل إنه، حين عاد إلى بلاده، لم يقدم لها شيئا تنتفع به من دراسته فى بريطانيا وخبرته العالمية هناك. وحتى عندما كان هناك لم يحدث أن فكر فى وطنه أو أى شخص فى وطنه بما فى ذلك أمه وأقاربه كما قلنا. وفوق ذلك فقد ظل يشرب الخمر بعد عودته، ولم يُبْدِ أية إشارة يفهم منها أنه حريص حقا على هويته القومية أو الدينية أو الاجتماعية بأى حال. لقد ذهب إلى بريطانيا وعاد فلم ينتفع منه وطنه بشىء على الإطلاق. لقد كانت حياته عقيما تمام العقم. بل إن الراوى قد أكد أنه لو كان مصطفى سعيد قد عاد عودة طبيعية للسودان وتولى منصبا سياسيا أو إداريا لكان كأى مسؤول سودانى آخر فسادا وانحرافا واختلاسا. صحيح أن أحد المسؤولين فى مؤتمر بالخرطوم خاص بسبل توحيد الأساليب التعليمية فى القارة كلها قد ذكر أن مصطفى سعيد كان رئيسا لجمعية الكفاح لتحرير أفريقيا بلندن، وأشار إلى تأكيده بأنه سوف يحرر بلاده بعضوه الذكرى. لكن أين الشواهد على أن مصطفى سعيد كانت عنده تلك المشاعر نحو وطنه وسائر أوطان أفريقيا؟
    وهذا وصف الراوى لما دار فى ذلك المؤتمر خلال حديثه مع قريبه محجوب: "قال: "هل من جديد فى الخرطوم؟". قلت له: "كنا مشغولين فى مؤتمر". بدا الاهتمام على وجهه، فإنه يحب أخبار الخرطوم، خاصة أخبار الفضائح والرشاوى وفساد الحكام. قال باهتمام بالغ واضح، وقد حز فى نفسى أنه نَسِىَ ما نحن فيه: "بماذا يتآمرون هذه المرة؟". قلت له بإعياء، وقد فضلت اختصار الطريق: "وزارة المعارف نظَّمت مؤتمرًا دعت له مندوبين عن عشرين قطرًا أفريقيًا لمناقشة سبل توحيد أساليب التعليم فى القارة كلها. كنت أنا عضوًا فى سكرتارية المؤتمر". قال محجوب: "فليبنوا المدارس أولا ثم يناقشوا توحيد التعليم. كيف يفكر هؤلاء الناس؟ يضيعون الوقت فى المؤتمرات والكلام الفارغ، ونحن هنا أولادنا يسافرون كذا ميلًا للمدرسة. ألسنا بشرًا؟ ألسنا ندفع الضرائب؟ أليس لنا حق فى هذا البلد؟ كل شيء فى الخرطوم. ميزانية الدولة كلها تصرف فى الخرطوم. مستشفى واحد فى مروى نسافر له ثلاثة أيام. النساء يمتن أثناء الوضع. لا توجد داية واحدة متعلمة فى هذا البلد. وأنت ماذا تصنع فى الخرطوم؟ ما الفائدة أن يكون لنا ابن فى الحكومة ولا يفعل شيئًا؟".
    كانت حمارتى قد فاتته، فجذبتُ لجامها حتى يلحق بي، وآثرتُ الصمت. لو كان الوقت غير هذا الوقت لصرختُ فى وجهه، فأنا وهو هكذا منذ طفولتنا: يصرخ أحدنا على الآخر حين يغضب، ثم نرضى وننسى. ولكننى جائع ومتعب، وقلبى مثقل بهم عظيم. لو كان الزمان أحسن مما هو عليه الآن لأضحكته وأغضبته بقصص ذلك المؤتمر. لن يصدق أن سادة أفريقيا الجدد مُلْس الوجوه، أفواههم كأفواه الذئاب، تلمع فى أيديهم ختم من الحجارة الثمينة، وتفوح نواصيهم برائحة العطر، فى أزياء بيضاء وزرقاء وسوداء وخضراء من الموهير الفاخر والحرير الغالى تنزلق على أكتافهم كجلود القطط السيامية، والأحذية تعكس أضواء الشمعدانات، تَصِرّ صريرًا على الرخام. لن يصدق محجوب أنهم تدارسوا تسعة أيام فى مصير التعليم فى أفريقيا فى قاعة الاستقلال، التى بنيت لهذا الغرض، وكلفت أكثر من مليون جنيه. صرحٌ من الحجر والأسمنت والرخام والزجاج، مستديرة كاملة الاستدارة، وُضِع تصميمها فى لندن، ردهاتها من رخام أبيض جُلِب من إيطاليا، وزجاج النوافذ ملون: قطع صغيرة مصفوفة بمهارة فى شبكة من خشب التيك، أرضية القاعة مفروشة بسجاجيد عجمية فاخرة، والسقف على شكل قبة مطلية بماء الذهب، تتدلى من جوانبها شمعدانات كل واحد منها بحجم الجمل العظيم. المنصة حيث تعاقب وزراء التعليم فى أفريقيا طوال تسعة أيام من رخام أحمر كالذى فى قبر نابليون فى الأنفاليد، وسطحها أملس لماع من خشب الأبنوس. على الحيطان لوحات زيتية، وقبالة المدخل خريطة واسعة لأفريقيا من المرمر الملون، كل قطر بلون. كيف أقول لمحجوب إن الوزير الذى قال فى خطابه الضافى الذى قوبل بعاصفة من التصفيق: "يجب ألا يحدث تناقض بين ما يتعلمه التلميذ فى المدرسة وبين واقع الشعب. كل من يتعلم اليوم يريد أن يجلس على مكتب وثير تحت مروحة، ويسكن فى بيت محاط بحديقة مكيف الهواء يروح ويجيء فى سيارة أمريكية بعرض الشارع. إننا إذا لم نجتثّ هذا الداء من جذوره تكونت عندنا طبقة برجوازية لا تمت إلى واقع حياتنا بصلة، وهى أشد خطرًا على مستقبل أفريقيا من الاستعمار نفسه"، كيف أقول لمحجوب إن هذا الرجل بعينه يهرب أشهر الصيف من أفريقيا إلى فيلته على بحيرة لوكارنو، وإن زوجته تشترى حاجيّاتها من هَرُودْز فى لندن، تجيئها فى طائرة خاصة، وإن أعضاء وفده أنفسهم يجاهرون بأنه فاسد مرتش ضيَّع الضِّيَاع وأقام تجارة وعمارة، وكون ثروة فادحة من قطرات العرق التى تنضح على جباه المستضعَفين أنصاف العراة فى الغابات؟ هؤلاء قوم لا همَّ لهم إلا بطونهم وفروجهم. لا يوجد عدل فى الدنيا ولا اعتدال. وقد قال مصطفى سعيد: "إنما أنا لا أطلب المجد، فمثلى لا يطلب المجد". لو أنه عاد عودة طبيعية لانضم إلى قطيع الذئاب هذا. كلهم يشبهونه: وجوه وسيمة، ووجوه وسمتها النعمة. وقد قال أحد الوزراء أولئك فى حفلة اختتام المؤتمر إنه كان أستاذه. أول ما قدمونى له هتف: "إنك تذكرنى بصديق عزيز كنت على صلة وثيقة به فى لندن: الدكتور مصطفى سعيد. كان أستاذى عام 1928. كان هو رئيسًا لقسم الكفاح لتحرير أفريقيا، وكنت أنا عضوًا فى اللجنة. يا له من رجل! إنه من أعظم الأفريقيين الذين عرفتهم. كانت له صلات واسعة. يا إلهي! ذلك الرجل كانت النساء تتساقط عليه كالذئاب. كان يقول: سأحرر أفريقيا بــ ... ـي". وضحك حتى بانت مؤخرة حلقه. وأردت أن أسأله، لكنه اختفى فى زحمة الرؤساء والوزراء".
    وهنا أحب أن أقف قليلا، إذ إن عددا من الروايات العربية التى تتحدث عن الصراع بين الشرق الإسلامى والغرب تتخذ من نجاح البطل العربى فى الإيقاع بالنسوة الغربيات فى غرامه وسريره رمزا على هذا الكفاح، وكأن الأمم تستقل وتنهض بالعضو الذكورى. يا لها من فكرة سخيفة. فها نحن أولاء قد رُزِقْنا بأبطال ناجحين فى ذلك الميدان حسبما توضح تلك الروايات، لكن أوطاننا لا تزال متخلفة وتابعة للدول الغربية رغم كل شىء، ولا تستطيع أن تخرج على سيطرتها فى الواقع. فماذا إذن؟ يا ليت الأمم تتحرر وتتقدم بتلك الطريقة، إذن لما بكت عين، ولكان الطريق إلى تحقيق آمالنا مفروشة بالورود والظرف والبهجة والفرفشة والانشكاح والليالى الملاح لا بالعرق والدموع والدماء والقلق والسجن والقتل والسهر والضنى. لقد كان مصطفى سعيد يقول للغربيين بلسان الحال: "إنني جئتكم غازيا"، يظن بذلك أنه ينتقم لما كان قد حدث، عقب ولادته بأيام عندما جيء بمحمود ود أحمد وهو يرسف فى الأغلال بعد أن هزمه كتشنر مستخدما الرشاشات مقابل السيوف والبنادق القديمة فأسقط أكثر من عشرين ألفا من المسلحين في موقعة تبر، إذ قال له كتشنر بصلافة وكذب وتزوير للحقيقة: "لماذا جئت بلدي تخرّب وتنهب؟".
    إن تقدم الأمم يحتاج إلى فحولة علمية واقتصادية وسياسية وأخلاقية لا إلى فحولة جنسية. ثم كيف يظن العربى أنه، بغزو الغرب جنسيا، وهذا إن صح أنه فعلا يتمتع بالفحولة المفقودة عند الرجل الغربى والتى تبحث عنها عنده المرأة الغربية، سوف ينتصر عليه ويذله ويهينه ويحقق ذاته على حسابه؟ إن هذا لهو الوهم بعينه. إن الغربى لا يرى فى معاشرة الأجانب لفتياته ونسائه ما يشين أو يهين. إنه يؤمن أن الجسد ملك لصاحبته من حقها أن تفعل به ما تشاء ما دامت قد بلغت السن القانونية، وليس له المعانى التى تَعْلَق به فى ثقافتنا وديننا، ولا يجد فى الأمر أية إهانة أو عار. إن العربى ليشعر بالفخار لأنه نال امرأة غربية، لكن قومها لا يهتمون لذلك كثيرا، بل المهم عندهم هو تقدم بلادهم وغناها وسيادتها على بقية دول العالم وتمتُّعه من ثم بدنياه وعيشه إياها بالطول والعرض والارتفاع فى الوقت الذى تنغمس فيه بلادنا فى أوحال التخلف العلمى والضعف الاقتصادى والمهانة السياسية. فكأن شعارهم: خذوا نساءنا، وأعطونا ثرواتكم وأوطانكم. اركبوا نساءنا، ونحن نركبكم. بل إنهم ليتخذون من نسائهم أحيانا حبائل للإيقاع برجالنا فى مستنقع الخيانة والفضيحة ليبتزوهم فى الوقت المناسب بهذا ويركّعوهم ويسجّدوهم ويحصلوا منهم على كل ما يريدون لقاء ثمن بخس أو بغير مقابل على الإطلاق. ولقد أعلنت تسيبى ليفنى وزيرة الخارجية الإسرائيلية منذ سنوات قريبة أنها استفتت الحاخام الأكبر فى الكيان الصهيونى، فأفتاها أنها تُثَاب على نومها مع الساسة العرب ما دامت تخدم بذلك إسرائيل. وأعلنت هذا بكل فخار لم تُخْفِ منه شيئا ولم تُمَوِّه منه شيئا ولم تجد فيه من العار والغضاضة شيئا. وكيف يصح أن نظن بالغرب غيرة على الشرف، وقد خرج كل من ولى عهد بريطانيا وزوجته الأميرة ديانا على الناس فى بريطانيا وفى العالم أجمع فى أواخر القرن الماضى يتحدث بكل صراحة ووضوح عن خيانته للآخر بالتفصيل الممل، ولم يجد أحد من الشعب البريطانى ولا من أى شعب أوربى آخر فى هذا ما يحرج صدره أو يستفز مشاعره؟ ولا ننس أننا بما نباهى به من ممارسة الفاحشة مع النساء الأوربيات إنما نتابعهم فى قيمهم، ومن ثم ننسلخ من هويتنا الدينية والوطنية ونلحق بهم من حيث نريد الانفصام عنهم والانخلاع من مبادئهم وأخلاقهم. وقد قلت، فيما مضى، إنه لا الراوى ولا مصطفى سعيد كان متمسكا بهويته الدينية أو القومية، فكلاهما يشرب الخمر ولا يمر ذكر الإسلام بفمه بوصفه هوية له. ولا ريب أن لهاث مصطفى سعيد خلف جين مورس سنوات متحملا كل ما جشمته إياه من ضروب المهانة، ومتجرعا غُصَص الصبر البهيظ، ودافعا الثمن تلو الثمن دون تذمر، ورضاه بأن تكون هى السيدة بينما هو مجرد تابع لا يملك حق ممارسة وضعه كزوج له كلمته وإرادته، لذو مغزى عميق.
    يقول مصطفى سعيد عن هذا الموضوع: "حملني القطار إلى محطة فكتوريا، وإلى عالم جين مورس. كل شيء حدث قبل لقائي إياها كان إرهاصًا. وكل شيء فعلتُه بعد أن قتلتها كان اعتذارًا لا لقتلها، بل لأكذوبة حياتي. كنت في الخامسة والعشرين حين لَقِيتُها، وفي حفل في تشلسي. الباب، وممر طويل يؤدي إلى القاعة. فتحت الباب وتريثت، وبدت لعيني تحت ضوء المصباح الباهت كأنها سراب لمع في صحراء. كنت مخمورا: كأسي بقي ثلثها، وحولي فتاتان أتفحش معهما، وتضحكان. وجاءت تسعى نحونا بخطوات واسعة، تضع ثقل جسمها على قدمها اليمنى، فيميل كفلها إلى اليسار. وكانت تنظر إليَّ وهي قادمة. وقفتْ قبالتي ونظرتْ إلي بصَلَفٍ وبرودٍ وشيءٍ آخر. وفتحتُ فمي لأتكلم، لكنها ذهبت. وقلت لصاحبتي: من هذه الأنثى؟
    كانت لندن خارجة من الحرب ومن وطأة العهد الفكتوري. عرفتُ حانات تشلسي، وأندية هامبستد، ومنتديات بلومزبري. أقرأ الشعر، وأتحدث في الدين والفلسفة، وأنقد الرسم، وأقول كلاما عن روحانيات الشرق. أفعل كل شيء حتى أُدْخِل المرأة في فراشي، ثم أسير إلى صيد آخر. لم يكن في نفسي قطرة من المرح كما قالت مسز روبنسن. جلبت النساء إلى فراشي من بين فتيات "جيش الخلاص"، وجمعيات الكويكرز، ومجتمعات الفابيانيين. حين يجتمع حزب الأحرار أو العمال أو المحافظين أو الشيوعيين أسرج بعيري وأذهب. وفي المرة الثانية قالت لي جين مورس: "أنت بشع. لم أر في حياتي وجهًا بشعًا كوجهك". وفتحتُ فمي لأتكلم، لكنها ذهبت. وحلفتُ في تلك اللحظة، وأنا سكران، أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام. وصحوتُ، وآن همند إلى جواري في الفراش. أي شيء جذب آن همند إليَّ؟ أبوها ضابط في سلاح المهندسين، وأمها من العوائل الثرية في لفربول. كانت صيدًا سهلًا. لقيتها وهي دون العشرين، تدرس اللغات الشرقية في أكسفورد. كانت حية، وجهها ذكي مرح، وعيناها تبرقان بحب الاستطلاع. رأتني فرأت شفقًا داكنًا كفجر كاذب. كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية، وشموس قاسية، وآفاق أرجوانية. كنت في عينها رمزًا لكل هذا الحنين. وأنا جنوب يحنّ إلى الشمال والصقيع. آن همند قضت طفولتها في مدرسة راهبات. عمتها زوجة نائب في البرلمان. حَوَّلْتُها في فراشي إلى عاهرة. غرفة نومي مقبرة تطل على حديقة، ستائرها وردية منتقاة بعناية، وسجاد سندسي دافئ، والسرير رحب، مخداته من ريش النعام. وأضواء كهربائية صغيرة: حمراء، وزرقاء، وبنفسجية، موضوعة في زوايا معينة. وعلى الجدران مرايا كبيرة، حتى إذا ضاجعت امرأة بدا كأنني أضاجع حريمًا كاملًا في آن واحد. تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة، وعقاقير كيماوية، ودهون، ومساحيق، وحبوب. غرفة نومي كانت مثل غرفة عمليات في مستشفى. ثمة بركة ساكنة في أعماق كل امرأة. كنت أعرف كيف أحركها. وذات يوم وجدوها ميتة انتحارًا بالغاز ووجدوا ورقة صغيرة باسمي. ليس فيها سوى هذه العبارة: مستر سعيد، لعنة الله عليك".
    كان عقلي كأنه مدية حادة. وحملني القطار إلى محطة فكتوريا، وإلى عالم جين مورس. في قاعة المحكمة الكبرى في لندن جلست أسابيع أستمع إلى المحامين يتحدثون عني كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمني أمره. كان المدعي العمومي سير آرثر هجنز عقل مريع. أعرفه تمام المعرفة: علمني القانون في أكسفورد، ورأيته من قبل، في هذه المحكمة نفسها وفي هذه القاعة، يعتصر المتهمين في قفص الاتهام اعتصارًا. نادرًا ما كان يفلت متهم من يده. ورأيت متهمين يبكون ويغمى عليهم، بعد أن يفرغ من استجوابهم. لكنه هذه المرة كان يصارع جثة.
    -هل تسببت في انتحار آن همند؟
    - لا أدري.
    - وشيلا غرينود؟
    - لا أدري.
    - وإيزابيلا سيمور؟
    - لا أدري.
    - هل قتلت جين مورس؟
    - نعم.
    - قتلتها عمدًا؟
    - نعم.
    كان صوته كأنما يصلني من عالم آخر. ومضى الرجل يرسم بحذق صورة مريعة لرجل ذئب تسبب في انتحار فتاتين، وحطم امرأة متزوجة، وقتل زوجته، رجل أناني، انصبت حياته كلها على طلب اللذة. ومرة خطر لي في غيبوبتي، وأنا جالس هناك أستمع إلى أستاذي برفسور ماكسول فستر كين يحاول أن يخلصني من المشنقة، أن أقف وأصرخ في المحكمة: "هذا المصطفى سعيد لا وجود له. إنه وهم، أكذوبة. وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة". لكنني كنت هامدًا مثل كومة رماد. ومضى برفسور ماكسول فستر كين يرسم صورة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل في لحظة غيرة وجنون. روى لهم كيف أنني عينت محاضرًا للإقتصاد في جامعة لندن، وأنا في الرابعة والعشرين. قال لهم إن آن همند وشيلا جرينود كانتا فتاتين تبحثان عن الموت بكل سبيل، وإنهما كانتا ستنتحران سواء قابلتا مصطفى سعيد أو لم تقابلاه. "مصطفى سعيد يا حضرات المحلَّفين إنسان نبيل استوعب عقله حضارة الغرب، لكنها حطمت قلبه. هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد، ولكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ ألف عام". وخطر لي أن أقف وأقول لهم: "هذا زور وتلفيق. قتلتهما أنا. أنا صحراء الظمإ. أنا لست عطيلًا. أنا أكذوبة. لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة؟". لكن برفسور فستر كين حوَّل المحاكمة إلى صراع بين عالمين كنت أنا إحدى ضحاياه. وحملني القطار إلى محطة فكتوريا، وإلى عالم جين مورس.
    لبثت أطاردها ثلاثة أعوام. كل يوم يزداد وتر القوس توترًا: قِرَبي مملوءة هواء، وقوافلي ظمأى، والسراب يلمع أمامي في متاهة الشوق، وقد تحدد مرمى السهم، ولا مفر من وقوع المأساة. وذات يوم قالت لي: "أنت ثور همجي لا يكلّ من الطراد. إنني تعبت من مطاردتك لي، ومن جريي أمامك. تزوجْني". وتزوجتها. غرفة نومي صارت ساحة حرب. فراشي كان قطعة من الجحيم. أمسكها، فكأنني أمسك سحابًا، كأنني أضاجع شهابًا، كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي. وتفتأ تلك الابتسامة المريرة على فمها. أقضي الليل ساهرًا أخوض المعركة بالقوس والسيف والرمح والنُّشَّاب، وفي الصباح أرى الابتسامة ما فتئت على حالها، فأعلم أنني خسرت الحرب مرة أخرى. كأنني شهريار رقيق تشتريه في السوق بدينار صادف شهرزاد متسولة في أنقاض مدينة قتلها الطاعون. كنت أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنهار، وبالليل أواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب. رأيت الجنود يعودون يملؤهم الذعر من حرب الخنادق والقمل والوباء. رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في معاهدة فرساي، ورأيت لويد جورج يضع أسس دولة الرفاهية العامة، وانقلبت المدينة إلى امرأة عجيبة لها رموز ونداءات غامضة. ضربتُ إليها أكباد الإبل، وكاد يقتلني في طِلَابِها الشوق. غرفة نومي ينبوع حزن، جرثوم مرض فتاك. العدوى أصابتهن منذ ألف عام، لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل وقتل. وكان المغنون يرددون أهازيج الحب الحقيقي والمرح في مسارح لستر سكوير، فلم يخفق لها قلبي. من كان يظن أن شيلا جرينود تقدم على الإنتحار؟ خادمة في مطعم في سوهو. بسيطة حلوة المبسم، حلوة الحديث. أهلها قرويون من ضواحي هل. أغريتها بالهدايا والكلام المعسول والنظرة التي ترى الشيء فلا تخطئه. جذبها عالمي الجديد عليها. دوختْها رائحة الصندل المحروق والنَّدّ، ووقفتْ وقتًا تضحك لخيالها في المرآة، وتعبث بعِقْد العاج الذي وضعتُه كأنشوطة حول جيدها الجميل. دخلت غرفة نومي بتولًا بكرًا، وخرجت منها تحمل جرثوم المرض في دمها. ماتت دون أن تنبس ببنت شفة. ذخيرتي من الأمثال لا تنفد. ألبس لكل حالة لبوسها. شَنِّى يعرف متى يلاقي طَبَقَة".
    "كنت أجدها في كل حفل أذهب إليه. كأنها تتعمد أن تكون حيث أكون لتهينني. أردت أن أراقصها، فقالت لي: لا أرقص معك ولو كنت الرجل الوحيد في العالم. صفعتها على خدها، فركلتني بساقها وعضتني في ذراعي بأسنان كأنها أسنان لبؤة. لم تكن تعمل عملًا ولا أعلم كيف كانت تعيش. أهلها من ليدز. لم أقابلهم حتى بعد زواجي بها. كان أبوها تاجرًا لا أدري في أي بضاعة. وكان لها، حسب قولها، خمسة إخوة، وكانت هي البنت الوحيدة. كانت تكذب حتى في أبسط الأشياء. تعود إلى البيت بقصص غريبة عن أشياء حدثت لها وأناس قابلتْهم لا يمكن أن يصدقها العقل. ولا أستبعد أنها كانت عديمة الأهل، كأنها شهرزاد متسولة. ولكنها كانت مفرطة في الذكاء ومفرطة في الظَّرْف حين تشاء. يحيط بها حيث تكون لفيف من المعجبين يرفّون حولها كالذباب. وكنت أحس إحساسًا داخليًّا أنها، رغم تظاهرها بكراهيتي، كانت مهتمة بأمري. حين يجمعني وإياها مجلس تراقبني بطرف عينها، وتحصي جميع حركاتي وسكناتي. وإذا رأت مني اهتمامًا بفتاة ما سارعت إلى إساءتها والقسوة عليها. كانت ماجنة بالقول والفعل، لا تتورع عن فعل أي شيء: تسرق، تكذب، وتغش. ولكنني، رغم إرادتي، أحببتها ولم أعد أستطيع أن أسيطر على مجرى الأحداث. كانت، حين أتجنبها، تغريني. وحين أطاردها تهرب مني. كبحتُ مرة جماح نفسي وتجنبتها أسبوعين. أخذت أبتعد عن الأماكن التي ترتادها، وإذا دُعِيتُ إلى حفل أتأكد أنها لن تكون موجودة فيه. ولكنها وجدت طريقها إلى بيتي فجاءتني آخر ليلة سبت، وآن همند معي. شتمتْ آن همند شتائم مقذعة، فانتهرتُها وضربتُها، فلم ترتدع. خرجت آن همند باكية، وظلت واقفة أمامي كشيطان رجيم في عينيها تحد ونداء أثار أشواقًا بعيدة في قلبي. لم أكلمها ولم تكلمني، ولكنها خلعت ثيابها ووقفت أمامي عارية. نيران الجحيم كلها تأججت في صدري. كان لا بد من إطفاء النار في جبل الثلج المعترض طريقي. تقدمت نحوها مرتعش الأوصال، فأشارت إلى زهرية ثمينة من الموجودة على الرف. قالت: تعطيني هذه وتأخذني. لو طلبتْ مني حياتي في تلك اللحظة ثمنًا لقايضتها إياها. أشرت برأسي موافقًا. أخذتِ الزهرية وهشمتْها على الأرض وأخذت تدوس الشظايا بقدميها حتى حولتها إلى فتات. أشارت إلى مخطوط عربي نادر على المنضدة. قالت: تعطيني هذا أيضًا. حلقي جافّ. أنا ظمآن يكاد يقتلني الظمأ. لا بد من جرعة ماء مثلجة. أشرت برأسي موافقًا. أخذت المخطوط القديم النادر ومزقته وملأت فمها بقطع الورق ومضغتها وبصقتها. كأنها مضغت كبدي، ولكنني لا أبالي. أشارت إلى مصلاة من حرير أصفهان أهدتني إياها مسز روبنسن عند رحيلي من القاهرة. أثمن شيء عندي، وأعز هدية على قلبي. قالت: تعطيني هذه أيضًا ثم تأخذني. ترددتُ برهة، ولكنني نظرت إليها منتصبة متحفزة أمامي، عيناها تلمعان ببريق الخطر، وشفتاها مثل فاكهة محرمة لا بد من أكلها. وهززت رأسي موافقًا، فأخذت المصلاة ورمتها في نار المدفأة ووقفتْ تنظر متلذذة إلى النار تلتهمها، فانعكست ألسنة النار على وجهها. هذه المرأة هي طلبتني وسألاحقها حتى الجحيم. مشيت إليها ووضعت ذراعي حول خصرها وملت عليها لأقبلها. وفجأة أحسست بركلة عنيفة بركبتها بين فخذيَّ. ولما أفقت من غيبوبتي وجدتها قد اختفت".
    ومرة أخرى يقول عنها: "لبثت أطاردها ثلاثة أعوام: قوافلي ظمأى، والسراب يلمع أمامي في متاهة الشوق. وذات يوم قالت لي: "أنت ثور متوحش لا يَفْتُرُ من الطراد. إنني تعبت من مطاردتك لي ومن جريي أمامك. تزوجني". تزوجتها في مكتب التسجيل في فولام. لم يحضر العقد غير صديقة لها وصديق لي. حين قالت أمام المسجل: أنا جين ونفرد مورس أقبل هذا الرجل مصطفى سعيد عثمان زوجي الشرعي في السراء والضراء، في الفقر والغنى، في الصحة والمرض، فجأة أجهشتْ بالبكاء وأخذت تبكي بحرقة. دهشت أنا لهذه العاطفة منها، وكفَّ المسجل عن إجراء المراسيم وقال لها بعطف: هوِّني عليك. أنا أقدر شعورك. ما هي إلا لحظات وينتهي كل شيء. وظلت بعد ذلك تنهنه بالبكاء، ولما انتهى العقد أجهشت بالبكاء مرة أخرى. وجاء المسجل وربت على كتفها ثم صافحني قائلًا: زوجتك تبكي من شدة السعادة. إنني رأيت نساء كثيرات يبكين في زواجهن، ولكنني لم أر بكاء بهذه الحرقة. يبدو أنها تحبك حبًّا عظيمًا. اعتن بها. أنا متأكد: ستكونان سعيدين. وظلت تبكي إلى أن خرجنا من مكتب التسجيل. وفجأة انقلب بكاؤها إلى ضحك. قالت وهي تقهقه بالضحك: يا لها من مهزلة!
    وقضينا بقية اليوم في سُكْر. لا حفل ولا مدعوين. أنا وهي والخمر. ولما ضمنا الفراش ليلًا أردتُها، فأدارت لي ظهرها وقالت: ليس الآن. أنا متعبة. وظلت شهرين لا تدعني أقربها. كل ليلة تقول: أنا متعبة. أو تقول: أنا مريضة. لم أعد أحتمل أكثر مما احتملت. وقفت فوقها ذات ليلة، والسكين في يدي. قلت لها: سأقتلك. نظرتْ إلى السكين نظرة بدت لي كأن فيها لهفة وقالت: ها هو صدري مكشوف أمامك. اغرس السكين في صدري. نظرت إلى جسمها العاري في متناول يدي ولا أناله. جلست على حافة السرير ونكستُ رأسي بذلة. وضعتْ يدها على خدي وقالت بلهجة لم تخل من رقة: أنت يا حلوي لست من طينة الرجال الذين يَقْتُلون. أحسست بالذلة والوحدة والضياع. وفجأة تذكرتُ أمي. رأيت وجهها واضحًا في مخيلتي وسمعتها تقول لي: إنها حياتك، وأنت حر فيها. وتذكرت نبأ وفاة أمي حين وصلني قبل تسعة أشهر. وجدوني سكران في أحضان امرأة. لا أذكر الآن أية امرأة كانت. ولكنني تذكرت بوضوح أنني لم أشعر بأي حزن كأن الأمر لا يعنيني في كثير ولا قليل. تذكرت هذا وبكيت من أعماق قلبي. بكيت حتى ظننت أنني لن أكف عن البكاء أبدًا. وأحسست بجين تطوقني بذراعيها وتقول كلامًا لم أميزه، ولكن صوتها وقع على أذني وقعًا منفرًا اقشعر له بدني. دفعتها عني بعنف وصرخت فيها: أنا أكرهك. أقسم أنني سأقتلك يومًا ما. وفي غمرة حزني لم يغب عني التعبير في عينيها. تألقت عيناها ونظرتْ إلي نظرة غريبة. هل هي دهشة؟ هل هي خوف؟ هل هي رغبة؟ ثم قالت بصوت فيه مناغاة مصطنعة: "أنا أيضًا أكرهك حتى الموت". ولكن لم تكن لي حيلة.
    كنت صيادًا فأصبحت فريسة. وكنت أتعذب، وبطريقة لم أفهمها كنت أستعذب عذابي. بعد ذلك الحادث بأحد عشر يومًا تمامًا، أذكرها لأنني تجرعت غصصها كما يتجرع الصائم غصص شهر صوم قائظ، كنا في حديقة رتشمند قبيل الغروب. لم تكن الحديقة خالية تمامًا من الناس. كنا نسمع الأصوات ونرى أشخاصا يتحركون في ضوء الشفق. لم نتحدث إلا قليلًا ولم نتبادل عبارات حب ولا غزل. دون سبب وضعت ذراعيها حول عنقي وقبلتْني قبلة طويلة. أحسستُ بصدرها يضغط على صدري. وضعتُ ذراعي حول خصرها وجذبتُها إليَّ، فتأوهتْ آهات مزقتْ نياط قلبي وأنستْني كل شيء. لم أعد أذكر شيئًا. لم أعد أرى أو أعي إلا هذه المصيبة الفادحة التي رماني بها القدر. هذه المرأة هي قدري، وفيها هلاكي، ولكن الدنيا كلها لا تساوي عندي حبة خردل في سبيلها. أنا الغازي الذي جاء من الجنوب، وهذا هو ميدان المعركة الجليدي الذي لن أعود منه ناجيًا. أنا الملاح القرصان، وجين مورس هي ساحل الهلاك، ولكنني لا أبالي. أخذتها هنالك في العراء، لا يهمني إن كان ذلك على مرأى ومسمع من الناس. هذه اللحظة من النشوة تساوي عندى العمر كله.
    وقد كانت لحظات النشوة نادرة بالفعل، وبقية الوقت نقضيه في حرب ضروس لا هوادة فيها ولا رحمة. كانت الحرب تنتهي بهزيمتي دائمًا. أصفعها، وتنشب أظافرها في وجهي ويتفجر في كيانها بركان من العنف، فتكسر كل ما تناله يدها من أوانٍ وتمزِّق الكتب والأوراق. كان هذا أخطر سلاح عندها. كل معركة تنتهي بتمزيق كتاب مهم أو حرق بحث أضعت فيه أسابيع كاملة. وأحيانًا يستبد بي الغضب حتى أبلغ حافة الجنون والقتل، فأشدد قبضتي على عنقها، فتسكن فجأة وتنظر إليَّ تلك النظرة المبهمة الخليط من الدهشة والخوف والرغبة. لو أنني ضغطت قيد أنملة أكثر مما ضغطت لوضعت حدا للحرب. وكانت الحرب تنتقل معنا إلى الخارج. ونحن في حانة صرختْ فجأة: ابن العاهرة يغازلني. وَثَبْتُ على الرجل وأخذت بخناقه وأخذ بخناقي، واجتمع علينا الناس. وفجأة سمعتها تقهقه بالضحك وراء ظهري. وقال لي أحد الرجال الذين جاءوا يفصلون بيننا: يؤسفني أن أقول لك: "هذه المرأة إذا كانت زوجتك فإنك متزوج من مومس. هذا الرجل لم يكلمها بكلمة. يبدو أن هذه المرأة تحب منظر العنف". وتحوَّل غضبي إليها، فذهبت إليها وهي ما تزال تقهقه فصفعتها، فأنشبت أظافرها في وجهي. ولم أستطع جرجرتها إلى البيت إلا بعد مجهود وألم عظيمين.
    وكان يحلو لها أن تغازل كل من هب ودب حين نخرج معًا. كانت تغازل جرسونات المطاعم وسوّاقي الباصات وعابري السبيل، وكان بعضهم يتشجع ويستجيب ويرد بعضهم بعبارات بذيئة، فأتشاجر مع الناس، وأضربها وتضربني في عُرْض الطريق. وما أكثر ما سألتُ نفسي: ما الذي يربطني بها؟ لماذا لا أتركها وأنجو بنفسي؟ ولكنني كنت أعلم ألا حيلة لي وألا مفر من وقوع المأساة. وكنت أعلم أنها تخونني. كان البيت كله يفوح بريح الخيانة. وجدت مرة منديل رجل. لم يكن منديلي. سألتها فقالت: إنه منديلك. قلت لها: هذا المنديل ليس منديلي. قالت: هبه ليس منديلك. ماذا أنت فاعل؟ ومرة وجدت علبة سجائر، ومرة وجدت قلم حبر. قلت لها: أنت تخونينني. قالت: افرض أنني أخونك. صرخت فيها: أقسم إنني سأقتلك. ابتسمت ساخرة وقالت: أنت فقط تقول هذا. ما الذي يمنعك من قتلي؟ ماذا تنتظر؟ لعلك تنتظر حتى تجد رجلًا فوقي... وحتى حينئذ لا أظنك تفعل شيئًا. ستجلس على السرير تبكي.
    ذات مساء داكن في شهر فبراير. درجة الحرارة عشر درجات تحت الصفر. المساء مثل الصباح، مثل الليل داكن مكفهر، لم تشرق الشمس طيلة اثنين وعشرين يومًا. المدينة كلها حقل جليد. الجليد في الشوارع، في الحدائق، عند مداخل البيوت. الماء تجمد في أنابيبه، والنَّفَس يخرج بخارًا من الأفواه. الأشجار عالية تنوء أغصانها تحت وطأة الثلج. وأنا دمي يغلي، وفي رأسي حمى. في ليلة مثل هذه تحدث الأعمال الجسيمة. هذه ليلة الحساب. مشيت من المحطة إلى الدار أحمل المعطف على ساعدي. جسمي ساخن، والعرق يتصبب من جبهتي. كان الجليد يقرقع تحت حذائي وأنا أطلب البرد. أين البرد؟ وجدتها عارية مستلقية على السرير، فخذاها بيضاوان مفتوحتان، ابتسامتها مفعمة، وعلى وجهها شيء مثل الحزن، في حالة تأهب عظيم للأخذ والعطاء. حن قلبي إليها أول ما رأيتها، وأحسست بالدفء الشيطاني تحت الحجاب الحاجز. حين أحسه أعلم أنني مسيطر على زمام الموقف. أين كان هذا الدفء كل هذه الأعوام؟ قلت لها بصوت واثق كدت أنساه من طول ما فقدته: هل كان معك أحد؟ أجابتني بصوت أثر فيه وقع صوتي: لم يكن معي أحد. هذه الليلة لك أنت وحدك. أنا أنتظرك منذ وقت طويل. أحسست أنها تَصْدُقني لأول مرة. هذه الليلة ليلة الصدق والمأساة. أخرجت السكين من غمده. جلست على حافَة السرير وقتًا أنظر إليها. كنت أرى وقع نظراتها حيًّا ملموسًا على وجهها. نظرتُ في عينيها، فنظرتْ في عيني، وتماسكتْ نظراتنا واشتبكت، فكأننا فلكان في السماء اشتبكنا في ساعة نحس. وطفت نظراتي عليها، فحولت وجهها عني، ولكن الأثر ظهر في وسطها، فزحزحته يمنة ويسرة ورفعته قليلًا عن السرير ثم استقرت به ورمت ذراعيها في تراخ. وعادت تنظر إليّ. نظرت إلى صدرها، فنظرت هي أيضًا إلي حيث وقع بصري على صدرها كأنها أصبحت مسلوبة الإرادة تتحرك حسب مشيئتي. نظرت إلى بطنها فتابعتني، وبدأ ألم خفيف على وجهها. كنت أبطئ فتبطئ، وأعجل فتعجل. أطلت النظر إلى فخذيها البيضاوين المفتوحين، أدلكهما بعيني وينزلق بصري على السطح الناعم الأملس إلى أن يستقر هناك في مستودع الأسرار حيث يولد الخير والشر. ورأيت وجهها تعلوه حمرة، وجفنيها ينكسران كأنها أصبحت غير قادرة على السيطرة عليهما. رفعت الخنجر ببطء، فتابعت حده بعينيها. واتسعت حدقتا العينين فجأة، وأضاء وجهها بنور خاطف كأنه لمع برق. لبثت تنظر إلى الخنجر بخليط من الدهشة والخوف والشبق. ثم أمسكتِ الخنجر وقبلتْه بلهفة. وفجأة أغمضت عينيها وتمطت في السرير رافعة وسطها قليلًا فاتحة فخذيها أكثر. وتأوهتْ وقالت: أرجوك يا حلوي هيا. أنا مستعدة الآن. لم أستجب لندائها، فتأوهت آهة أكثر ألمًا. وانتظرتْ. بكتْ. خرج صوتها خافتًا لا يكاد يسمع: أرجوك يا حبيبي.
    ها هي ذي سفني تبحر نحو شواطئ الهلاك. ملت عليها وقبلتها. وضعت حد الخنجر بين نهديها، وشبكتْ هي رجليها حول ظهري. ضغطت ببطء. ببطء. فتحت عينيها. أي نشوة في هذه العيون؟ وبدت لي أجمل من كل شيء في الوجود. قالت بألم: يا حبيبي. ظننت أنك لن تفعل هذا أبدًا. كدت أيأس منك. وضغطت الخنجر بصدري حتى غاب كله في صدرها بين النهدين. وأحسست بدمها الحار يتفجر من صدرها. وأخذت أدعك صدرها بصدري وهي تصرخ متوسلة: تعال معي. تعال. لا تدعني أذهب وحدي. وقالت لي: "أحبك"، فصدقتها. وقلت لها: "أحبك"، وكنت صادقًا، ونحن شعلة من اللهب: حواف الفراش ألسنة من نيران الجحيم، ورائحة الدخان أشمه بأنفي وهي تقول لي: "أحبك يا حبيبي"، وأنا أقول لها: "أحبك يا حبيبتي". والكون بماضيه وحاضره ومستقبله اجتمع في نقطة واحدة ليس قبلها ولا بعدها شيء".
    وهناك أيضا انتحار بعض عشيقات مصطفى سعيد. وهذه نقطة لم تفصل الرواية فيها القول، إذ لم نعرف السبب فى هذا الانتحار. إن الرواية لم تقل مثلا إنهن كن متولهات متدلهات فى حبه بجنون وتهور، فهجرهن هجرا أبديا لا يرجى معه وصال، وحطم قلوبهن، فشعرن بالشقاء والإحباط واليأس غير المحتمل، ومن ثم أقدمن على الانتحار تخلصا من آلام هذا الجحيم. لقد كانت العلاقة بينه وبينهن أقرب إلى الشهوة الجنسية منها إلى الحب العاطفى. ولم نعهد فى مثل ذلك اللون من الصلة أن يُقْدِم أحد طرفيها على الانتحار. أم تراهن انتحرن بسبب شراسته الجنسية؟ لكن منذ متى تدفع الشراسة الجنسية عند العشيق إلى انتحار عشيقاته؟ فهذه ثغرة أخرى فى الرواية. ومن هنا أجدنى لا أفهم دعوة آن همند عليه بأن يلعنه الله. والطريف الظريف أنها، حين تدعو عليه، لا تنسى واجبات اللياقة فتناديه بـ"مستر سعيد". بنت أصول بحق وحقيق!
    وثم ثغرة أخرى فى بناء الشخصيات تتمثل فى تلقى جين مورس طعنات زوجها مصطفى سعيد فى صدرها بأريحية عظيمة وكأنه يربت على كتفها ويعلن عن حبه لها أو كأنه يطعمها عسلا وسكرا. أتراها قد جُنَّتْ؟ وحتى لو جُنَّتْ! إن الألم الناشئ من طعن صدرها بالسكين كفيل بإعادة العقل إلى أعظم مجنون ودَفْعه إلى أن يصرخ ويفر من الطاعن بكل ما آتاه الله من قوة. إن غريزة الدفاع عن النفس ليست بهذا الهوان الذى يصورها لنا المؤلف فى هذا المشهد. كما أننى لا أفهم تكرير مصطفى سعيد فى المحكمة بينه وبين نفسه أنه أكذوبة، وأنه يستحق الإعدام، ورغبته أن يعالن المحكمة بذلك. ترى ما معنى أنه أكذوبة؟ ولماذا يشعر أنه يستأهل الإعدام؟ ولماذا لم يقل للمسؤولين هناك ما فى قلبه؟ يقول مصطفى سعيد للراوى عن المدعى العام: "كان صوته كأنما يصلني من عالم آخر. ومضى الرجل يرسم بحذق صورة مريعة لرجل ذئب تسبب في انتحار فتاتين، وحطم امرأة متزوجة، وقتل زوجته، رجل أناني انصبت حياته كلها على طلب اللذة. ومرة خطر لي في غيبوبتي، وأنا جالس هناك أستمع إلى أستاذي برفسور ماكسول فستر كين يحاول أن يخلصني من المشنقة، أن أقف وأصرخ في المحكمة: "هذا المصطفى سعيد لا وجود له. إنه وهم، أكذوبة، وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة". لكنني كنت هامدا مثل كومة رماد". ويا ليتهم شنقوه وأراحونا منه، إذن لما كتب الطيب صالح عنه تلك الرواية التى تعنتنا بأسئلة لا نجد لها جوابا. والغريب أنه قد كرر وصف نفسه بالأكذوبة فى لقائه بالراوى فى أول الرواية حين صارحه بحقيقة أمره بناء على ما رآه من فضوله لمعرفة تلك الحقيقة، وزاد على ذلك تأكيده له بأنه ليس عطيلا. ترى من قال إنه عطيل حتى يسارع فينفى عن نفسه أنه ليس عطيلا؟ لقد كان هذا أول لقاء حقيقى بينهما، وإن كان قد سبق لهما الالتقاء عقب عودة الراوى من الغربة البريطانية، لكنهما لم يتحادثا، إذ كان كلاهما لا يعرف الآخر، بل كانت زيارة مجاملة لا أجد لها تبريرا. فما معنى أن ينفى مصطفى سعيد العطيلية عن نفسه أمام واحد لا يعرفه ولم يقل له إنك عطيل ولا دار فى ذهنه هذا، لأنه ببساطة لم يكن يعرف عنه فى ذلك الوقت شيئا؟ وهذا من الثرثرة التى لا تستفيد منها الرواية بل تنضرّ جَرَّاءها. وقد سبق أن نفى مصطفى سعيد فى المحكمة الإنجليزية أنه عطيل. فماذا يقول القارئ حين يعرف أن مصطفى سعيد نفسه، وليس أحدا آخر غيره، هو الذى سمى نفسه: عطيلا؟ كان ذلك حين قابل، فى هايد بارك كورنر، إيزابلا سيمور، التى سألته عمن يكون، فأجابها: "أنا مثل عطيل: عربي أفريقي"! وهذا من التناقضات الكثيرة التى تعج بها الرواية.
    وأيا ما يكن الأمر فإنى أستغرب أن ينحو كثير ممن ألفوا رواية عن التقاء الشرق والغرب هذا المنحى مهملين أن هناك جوانب أخرى فى تلك العلاقة كان يجب أن تأخذ موضع الصدارة فى اهتمام الروائيين. إن ما نحتاجه فى صراعنا مع الغرب ليس هو نساءهم بل أن يكون لدينا مثل علمهم ونظامهم وجِدّهم وإتقانهم وإبداعهم وتخطيطهم ونظافتهم واقتصادهم القوى وسياستهم الشورية وصناعاتهم التى تمدهم بما يحتاجونه من طعام وكساء ودواء... إلخ. ولعلى مبارك رواية تذهب هذا المذهب، فلا نجد فيها كلاما عن الغرام ولا الجنس ولا الحب، بل ينصب الاهتمام فيها على عناصر التقدم الحضارى المباشرة من اقتصاد وعلوم ونظام وما إلى ذلك، هى رواية "علم الدين". وإنى لأعرف أنها رواية تعليمية، وأن الفن الروائى فيها ساذج، لكن لم لا نضع فى أذهاننا روايات تذهب هذا المذهب، وفى ذات الوقت تكون عالية المستوى الفنى؟ هذا هو السؤال. ومن الممكن أن يكون فى الرواية حكاية عاطفية إذا ما اقتضى الأمر ذلك، إذ الحياة لا تستغنى عن العواطف والشهوات. والمهم ألا يكون هذا هو كل شىء وألا يُفْرَض فرضا منذ البداية وألا يضع البطل فى ذهنه أن فوزه بجسد المرأة الغربية هو كل المنى وغاية المراد.
    وقد قسم على مبارك روايته إلى "مسامرات" تدور بين شيخ مصرى ذاهب الى أوروبا وخواجة إنجليزى يرافقه فى سفره. وهذه المسامرات تتناول شؤون الكون والمخلوقات والأخلاق والعادات والشعوب والفوارق بين الشرق والغرب وما إلى ذلك، وتتخللها فصول تصوّر مشاهدات علم الدين فى الأماكن المختلفة التى زارها مما استقاه المؤلف من الكتب المختلفة. غير أن فى الكتاب فصولًا تعبق بنَفَسٍ روائى كما هو الحال مثلًا فى "حكاية يعقوب" أو "البركة فى الحركة" أو "نزهة فى باريس"... إلخ.
    لكن هذا الجانب ليس هو كل شىء فى كتاب على مبارك، فمن الواضح أنه يتوخّى من وراء ذلك المقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية إفادةً لأبناء أمته من خلال انتقاده لعيوبهم من ناحية، ودعوته إياهم إلى تبنى الجديد المفيد من ناحية أخرى. ويبدو هذا فى حديثه عن المسرح والغناء والآداب والفنون والمستشفيات والاختراعات الحديثة والمعاملات المصرفية والتبغ والبن وتعدد الزوجات وذم الدنيا ومدحها... وهلم جرا.
    والملاحظ أن على مبارك لا يقف مبهورًا أمام إنجازات الحضارة الغربية، بل ينظر إلى كل إنجاز نظرة متفحصة مقررا موقفه منه بعد تأنٍّ وتقليبٍ للأمر على وجوهه المختلفة. وهو يصور غايته من ذلك بقوله: "إننى التزمت، فى كل ما تقلدت من الأعمال وجميع ما تقلبت فيه من الأحوال، أن أخدم وطنى بكل ما نالته يدى وبلغه إمكاني، مما أراه يعود عليه بالفائدة والنفع: قلّ أو جلّ".
    كذلك صدرت قبل سنوات من الآن للأديب المصرى عبد الحميد ضَحَا رواية تتناول موضوع التقاء الشرق بالغرب بعنوان "عصفوران بين الشرق والغرب"، وهو عنوان يذكرنا برواية توفيق الحكيم البديعة: "عصفور من الشرق"، التى رصدت وَقْعَ أثر الحضارة الأوربية الحديثة على محسن الشاب المسلم، بينما وجه عبد الحميد ضَحَا، كما يقول د. سعد أبو الرضا، اهتمامَه إلى نشر الدعوة الإسلامية مُوظِّفًا بناءه الروائي لتحقيق هذا الهدف، معتمدا فى ذلك على تشكيلِ الشخصيات المتحوِّلة: شخصية يوسف الشاب المصرى الذي هاجر من مصر إلى فرنسا بحثًا عن الحرية والانطلاق، والحلال أيضا، وشخصية مارتينا الفرنسية، التي اعتنقت الإسلام وأصبح اسمها عائشة. لقد التقى يوسف بمارتينا في الشركة التي يعمل بها، فحكت له تشوُّقَها للإسلام ورفْضها لما تراه من فساد وانحلال، وافتقادها للسبيل التي تحقق لها ما تريد، فوجهها يوسف، الذى لم يكن يملك من الوسائل ما يروي ظمأها لمعرفة الإسلام ومبادئه، إلى المركز الإسلامي في باريس حيث وجدتْ ما يروي ظمأها في هذا المجال، ويزيدها حبًّا في الإسلام ومبادئه، ويهيِّئُها لتصبح داعية إلى دينها الجديد.
    ويتطور الموقف بوصول كاميليا المسيحية المصرية إلى فرنسا ضيفةً على أخيها بطرس، الذي يعمل في الشركة نفسها، وتلتقي بمارتينا. وكانت كاميليا قد دُفِعَت دفعا إلى مغادرة مصر، إذ كان لديها شيء من الميل إلى الإسلام، فآنست في مارتينا صديقة تبثها ما فى قلبها، وانتقلت إلى الإقامة معها... إلخ، وإن أخذ د. أبو الرضا على الكاتب عدم استطاعته إقامة توازن قوى بين تحمسه لدينه وبين مقتضيات الفن الروائى.
    وللسعيد نجم كذلك عدة روايات تدور حول الموضوع ذاته آخرها رواية صدرت منذ شهور عنوانها "ربما يأتى القمر" كتب عنها د. جلال أمين كلمة بعنوان "إضافة جميلة لرصيد هائل من الإبداع الروائى العربى" هذا نصها: "ليس غريبا أن تكون لمشكلة اللقاء بين الشرق والغرب, بين القديم والجديد, أو بين الأصالة والمعاصرة, هذه الأهمية فى روايات الأدباء المصريين والعرب منذ أكثر من قرن. فالموضوع درامى من الدرجة الأولى, وجوانبه متعددة: النفسية والإجتماعية والحضارية, وتتعدد بشأنه المواقف, كل منها لديه حجج قوية تعضده. وهناك أيضا حجج قوية تدحضه أو تشكك فيه, بل وتبدو المشكلة أحيانا وكأنْ لاحل لها. تشبه التراجيديا اليونانية فى أنها حتمية من ناحية, ومستعصية على الحل من ناحية أخرى, مما يجعلها تعود المرة بعد المرة إلى ذهن أديبٍ أو مفكرٍ الواحد بعد الآخر دون أن يستطيع أى منهم أن يدعى أنه قد عثر على الحل. المشكلة حاضرة، ولو على نحو عارض، فى رواية محمد المويلحى: "حديت عيسى بن هشام" (صدرت فى مصر سنة 1900), ثم عادت للظهور بشكل أكثر وضوحا فى رواية توفيق الحكيم: "عصفور من الشرق" (سنة 1938), ثم فى "قنديل أم هاشم" (فى 1944), و"الحى اللاتينى" لسهيل إدريس (1955), ثم فى "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح (فى 1965). فى هذه الأعمال كلها تبدو المشكلة وكأنها عصية على الحل, ربما لأن المشكلة هى فعلا كذلك, بمعنى أنه إذا كان الحل الذى يستقر عليه بطل الرواية أو مؤلفها هو حل لا يرضى القارئ, فسيظل الثمن دائما عاليا, والتضحية كبيرة أيا كانت النهاية.
    من بين هذه الروايات التى ذكرتها كنت دائما أشعر بشغف خاص بقصة يحيى حقى, والطيب صالح. الروايتان يفصل بينهما عقدان كاملان, وليس من الصعب أن يتبين القارئ أثر مرور هذا الزمن مع ما بين الروايتين من فوارق, سواء من حيث الشكل أو المضمون. كانت نهاية رواية "قنديل أم هاشم" أكثر حسما, والرأى الذى ارتاح إليه المؤلف أكثر وضوحا, وإن كان قد عبر عن كلا الموقفين بنجاح باهر، وإلا لما حققت هذه الرواية هذا القدر من النجاح, بينما انتهت رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" بما يشبه علامة الاستفهام, وتركت حرية أكبر للقارئ لاختيار الحل الأفضل. ومع هذا، أو ربما بسبب هذا، تركت الرواية أثرا لايقل عن أثر رواية يحيى حقى فى نفس القارئ. وفى حالتى أنا تركت أثرا أعمق.
    كان هذا من دواعى سرورى الشديد لدى قراءتى لهذه الرواية البديعة التى فى يد القارئ الآن: "ربما يأتى القمر"، فها هو السعيد أحمد نجم يعيد فتح الموضوع من جديد, وببراعة لافتة للنظر, تاركا فى نفس القارئ تلك الدرجة المطلوبة من الحيرة بسبب نجاحه فى عرض الموقفين بقوة ووضوح يدعوان إلى الإعجاب. القصة، مثل كثير من الأدب الرفيع، يمكن أن تُقْرَأ على أكثر من مستوى: فهى، فى أبسط مستوى، قصة رجل وامرأة كلاهما آتيان من بلد عربى, ولكن المرأة كانت قد خضعت لتأثير الحياة فى الغرب لفترة طويلة عندما جاء هذا القروى البسيط إلى الغرب لأول مرة.كما أن تاريخ المرأة قبل أن تغادر بلدها إلى الغرب كان يقوّى بشدة من ميلها إلى أن تتشرب عادات الغرب وتقاليده بينما كان تاريخ ذلك القروى البسيط يعضد تمسكه بعادات أهله وتقاليدهم فى مواجهة هذا العالم الجديد والغريب.
    القصة، على هذا النحو، قصة صراع بين طرفين. وإن كانا قد وقعا فى الحب فإن كلا منهما يتمسك بتفضيلاته الخاصة. وهى، حتى على هذا المستوى البسيط، قصة شيقة وممتعة بسبب قدرة المؤلف على الغوص فى مشاعر وأفكار كل منهما, والتعبير عنها بفصاحة وصدق. وتقلُّب أحداث هذه القصة بين الوئام والخصام مقنعٌ تماما للقارئ, مما يجعله يُسْلِم قيادَه عن طيب خاطر حتى يصل إلى نهاية هذه العلاقة. ولكن فى الرواية أشياء أخرى مهمة أهمها، فى رأيى، ذلك الصراع الرهيب بين حضارتين أو ثقافتين أو موقفين نفسيين نتجا عن افتراق تاريخى قديم. من أكثر دواعى الإعجاب فى هذه الرواية قدرة المؤلف على استدرار عطف القارئ مع كلا الموقفين المتضادين, تقريبا بنفس الدرجة. الصراع إذن ليس بين صواب وخطأ, بل بين موقفين مُكْتَمِلَىِ الصحة ومتدفقين بالحياة. ومن ثم فليس هناك فى الحقيقة انتصار لأحدهما على الآخر, بل مجرد افتراق. وهو افتراق حتمى ومأساوى, ولكنه مقنع تماما. فى الرواية شخصيات ثانوية إلى جانب البطل والبطلة, مثل صبحى وعماد، اللذين يمثلان بدورهما موقفين متضادين من نفس القضية, ولكن نهايتهما مأساوية بدورها. ولكن وجودهما على هذا النحو الذى يظهران به فى الرواية يغنى الرواية ويدعمها ويزيدها تشويقا.
    المؤلف، فوق هذا كله، حَكَّاءٌ ممتازٌ يعرف كيف يروى قصته دون أى احتمال لشعور القارئ بالملل. وهو، من البداية، يستدرجك بذكر النهاية المحزنة من قبل أن يذكر أى حادث من أحداثها فلا يترك لك أى فرصة للانصراف قبل أن تعرف ماذا حدث بالضبط. وهكذا تظل كل خطوة فى الرواية تثير تساؤلك عما يمكن أن يحدث بعدها إلى أن تنتهى الرواية من حيث بدأت, بل وقد يغريك هذا بالبدء فى قراءتها من جديد. إننى أعتبر نفسى سعيد الحظ لأنى قرأت هذه الرواية وهى لا تزال مخطوطة, وقبل أن تظفر بالنشر فى كتاب. وثقتى كبيرة بأن تظفر الرواية بنفس ما ظفرتْ به منى من إعجاب، وأن تدفع القارئ كما دفعتنى إلى إعادة التفكير فى هذه القضية التى تبدو مستعصية على الحل".
    هذا، وتعانى رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" من وجود عدد من الزوائد لو أنها حُذِفَتْ لكانت أكثر تماسكا وإحكاما وأبعد عن الترهل. ولنبدأ بالراوى، وأرى أنه لم يكن لنا به حاجة، فلا دور له يُذْكَر فى الرواية. إن عبد السلام النابلسى مثلا فى أفلام عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش يتفاعل مع البطل، وله دور عضوى فى حياته والمشاهد التى يظهر فيها، فضلا عن إضفائه قدرا كبيرا من الفكاهة والحيوية تنعش الفلم، أما هنا فما دور الراوى الذى نشعر أنه لو حذف لاختل بناء الرواية ولنقصها شىء هام؟ ولأمر ما رأى المؤلف ألا يسميه، بل حسنا فعل، فهو كأنه غير موجود، ومن ثم ليس له اسم. إنه ليس مستر إكس، بل السيد صفر. لقد ذهب إلى بريطانيا للحصول على الدكتورية ثم عاد. فما الذى استفاده السودان منه؟ لا شىء. لقد أسندت إليه وظيفة روتينية لا تتناسب والإمكانات التى يفترض أنه يحوزها، ولم يظهر له فيها بصمة أى بصمة. بل لم يتكلم هو عنها إلا عرضا حين كان يحدث قريبه محجوب عن المؤتمر التعليمى المظهرى الذى لم تكن له أية قيمة ولا ترتب عليه أية ثمرة، فكل المسؤولين الذين اشتركوا فيه كانوا يكذبون فى خطبهم وأحاديثهم أثناءه. وكل المشاهد التى ظهر فيها كان يمكن الاستغناء عنها بخبر صغير يرد على لسان أى من شخصيات الرواية الأخرى، إن كان لتلك المشاهد قيمة فى العمل، ولا إخال.
    قد يقال إنه هو الذى قدم لنا مصطفى سعيد. نعم هو الذى قدم مصطفى سعيد، لكنى أرى أنه لم يكن هناك داع لظهور مصطفى سعيد عن طريق الراوى، بل كان ينبغى أن يظهر الرجل لنا مباشرة بدلا من هذا التصنع الذى اقتضى المؤلفَ دَفْعَه إياه لزيارة الراوى لدن عودته رغم أنه لا يعرفه بل رغم أنه ليس من القرية وكان حديث عهد بالإقامة فيها، فضلا عن أنهم لم يكونوا يعرفون عنه شيئا ولا حتى البلدة التى قدم إلى القرية منها. ثم لماذا هذا الاهتمام من قِبَله بمصطفى سعيد؟ لقد بدت الرواية آنذاك وكأنها قصة بوليسية، إلا أن الروح البوليسية سرعان ما خمدت، فقد باح مصطفى سعيد للراوى بكل شىء. وانتهى بذلك دور الراوى إبان حياة الرجل، إلى أن وقع الفيضان، واختفى مصطفى سعيد أثناءه, فلم يهتم أحد بذلك الاختفاء: لا الناس ولا الشرطة، وكأنه كلب ومات، حتى إن الراوى نفسه قد صرح بأنه لا يعلم هل مات غرقا أو انتحر أو كأنه كان أكذوبة ولم يكن له وجود حقيقى.
    وقد يقال إنه قام بدور الوصى على ولدى مصطفى سعيد وزوجته: فأما زوجته فلم تكن بحاجة إلى وصاية، فهى امرأة ناضجة تستطيع أن تدبر أمورها جيدا. وأما الولدان فلم نره قام تجاههما بشىء سوى الإشراف على ختانهما. ولا أظن الختان شيئا خطيرا تنهدّ له السماوات السبع وتتغير مصائر أبطال الرواية بسببه. ولقد كانت الزوجة كفيلة بالقيام بهذا الأمر كما تفعل أمهاتنا فى الريف. وهو، على كل حال، كان يقيم بالخرطوم بعيدا عن القرية التى يعيش فيها الطفلان وأمهما بمسافة طويلة، وكانت أمورهما وأمور أمهما تمضى دون مشاكل تستدعى وجوده أو وجود أى رجل. صحيح أنه بدا فى مشهد من المشاهد وكأنه يشتهيها أو يحبها، إلا أن الأمر ظل حبيس قلبه، فلم يُفْضِ به إلى أى إنسان ولا حاول التودد إليها أو إطلاعها على تلك المشاعر التى يظهر أنها كانت بنت لحظتها، وسرعان ما تبخرت. إذن فلم يكن للراوى، كما نرى، أى دور فى حياة أسرة مصطفى سعيد بعد اختفائه من مسرح القرية، سواء كان غرقا أو انتحارا.
    وصحيح أيضا أن الراوى قد ظهر كذلك فى بعض المشاهد كمشهد القطار الذى استغرق فصلا كاملا، وكمشهد السفر الذى استغرق هو أيضا مشهدا كاملا. لكنى سوف أبين بالدليل أن هذين الفصلين مثلا ليس لهما أى لزوم فى الرواية، وكان يمكن الاستعاضة عنهما ببعض الأخبار التى ينبئنا بها أى شخص آخر فى الرواية والتى كان من المستطاع اختصارها فى كلمتين عارضتين، علاوة على أن كثيرا مما ورد فى هذين الفصلين وأشباههما لا قيمة له فنية، إذ ليس له أثر فى تطور الأحداث ولا فى مصائر الشخصيات.
    ولقد قرأت لبعض المحللين أن الراوى هو فى الحقيقة امتداد لمصطفى سعيد بعد اختفائه. ومنهم محمد هيبى، الذى يقول فى دراسة له بعنوان "الأنا والآخر في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح" منشورة بموقع "ديوان العرب" بتاريخ 16/ 10/ 2010م: "الشخصية الثانية التي تمثل الأنا أمام مصطفى سعيد والغرب من جهة، والمجتمع العربي من جهة أخرى، هي شخصية الراوي، أو هو المستوى الثاني للسرد ودلالاته، والذي عن قصد تركه الطيب صالح مغيّب الاسم أو مجهوله، فإنّ فيه من مقومات التماهي مع شخصية مصطفى سعيد الشيء الكثير بحيث يمكّننا ذلك من النظر إليه على أنه امتداد لمصطفى سعيد: "إنني ابتدئ من حيث انتهى مصطفى سعيد"، والذي أوكل إليه متابعة مشروعه بغية إتمامه. ويظهر لنا ذلك جليا في إطلاع مصطفى سعيد للراوي على سرّه وجعله وصيًّا على بيته وزوجته وولديه من بعده: "إنني أترك زوجتي وولدي وكل مالي من متاع الدنيا في ذمتك، وأنا أعلم أنك ستكون أمينا على كل شيء". ويؤكد ذلك ما تراه سميرة سليمان، إذ تقول: كان هناك رابط خفي يربط بين الراوي وبطل الرواية مصطفى سعيد يجعل كل منهما يفهم الآخر ويعرفه جيدا. قد يكون ذلك بسبب تجربة السفر لكل منهما إلى نفس المكان، وقد يكون خوف الراوي أن يصبح نسخة من مصطفى سعيد ويلاقي نفس مصيره. وفي ذلك يتساءل الراوي: "هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد؟ قال إنه أكذوبة؟ فهل أنا أيضاً أكذوبة؟". يترك مصطفى سعيد رسالة للراوي يوصيه بزوجته وولده وكل ماله، فهو يثق بأمانته. ونعرف من الخطاب أيضا أن مصطفى سعيد ترك للراوي مفتاح غرفة خاصة به فيقول: "أعلم أنك تعاني من رغبة استطلاع مفرطة بشأني، الأمر الذي لا أجد له مبررا. فحياتي مهما كان من أمرها ليس فيها عظة أو عبرة لأحد". هذا الأمر يؤكد استمرارية دور مصطفى سعيد في الوطن من خلال شخصية الراوي ومتابعته للوصية التي حمّله مصطفى سعيد وِزْرها. أي أنّ الراوي سيقود الصدام الذي بدأه مصطفى سعيد ولكن في الداخل، داخل المجتمع السوداني/ العربي.
    وإذا كنا مقتنعين بقضية التماهي بين شخصيتي مصطفى سعيد والراوي فإنّ توتر مصطفى سعيد الذي جعله يشكك بمصداقيته، فكونه جعل من نفسه أكذوبة إنما قصد الطيب صالح بذلك أن يبرز الجانب الآخر لشخصية مصطفى سعيد المثقف السوداني أو العربي الذي يعود لوطنه يقتله الشوق لأرضه وناسه ليكمل مشروعا ينقذ به الوطن الغارق في أحضان الماضي المتخلف، إذ نرى في شخصية الراوي أنها الوجه الحقيقي لمصطفى سعيد، الذي لم يستطع أن يموت أو يختفي قبل أن يظهره. هذا يظهر بوضوح في شكل العودة والنهاية لكل من الشخصيتين. عودة مصطفى سعيد ونهايته اللتان يكتنفهما الغموض، وعودة الراوي الواضحة بعد غيبة دامت سبعة أعوام إعتمل فيها حنين متواصل لأرض وناس فرح وفرحوا بعودته إليهم: "المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل. سبعة أعوام وأنا أحنّ إليهم, أحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أنْ وجدتُني حقيقة قائما بينهم. فرحوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجا يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس". وليس عبثا أنْ قضى الراوي سبع سنوات في الغرب كانت موازية لسبع سنوات سُجِن فيها مصطفى سعيد. سبع سنوات سِجْن، وسبع سنوات تعليم، بقدر ما فيها من التماهي فهي فترة استعداد وتأهيل لحمل المسؤولية لدى الراوي، وفترة تفكير عميق وتأمل في أن يظهر جيل يستطيع مصطفى سعيد أن يعتمد عليه في حمل المسؤولية والاستمرار بها قدما.
    سنرى هذا التماهي أيضا بين شخصية الراوي وشخصية مصطفى سعيد من خلال الحديث عن حسنة بنت محمود زوجة مصطفى سعيد، التي ما كانت لتأمن جانبه (الراوي) وتُدْخِله بيتها لولا أن رأت فيه امتدادا لزوجها. وكأنّ مصطفى سعيد ما عاد إلى الوطن إلا لينقل إلى أهله المتمثلين بالراوي وحسنة، لينقل إليهم بذرة التمرد ومتابعة الطريق الذي سلكه في غزوه للغرب ثم عاد ليرفد وطنه ومجتمعه بثمار ذلك الغزو. ورغم أنّ مصطفى سعيد لم يجد الكثيرين للقيام بالمهمة إلا أنّ الراوي وحسنة كانا كافيين لتحمل تبعات المضيّ بها، على أقل تقدير لكي لا تنطفئ الشعلة التي أوقدها".
    وهو كلام عجيب يبرع فيه بعض الناس ممن تطق فى أدمغتهم بعض الأفكار الغريبة بل الشاذة المنقطعة الصلة بالعمل الذى يحللونه فيعملون بكل قواهم على فلسفتها واستخلاص القطط الفاطسة منها ليبرهنوا على عمق نظرتهم واستطاعتهم الوصول فى العمل الأدبى إلى ما لا يستطيع غيرهم الوصول إليه، وبخاصة أن ميدان النقد فى العقود الأخيرة يعج بكثير من المفاهيم والدعاوى السخيفة التى تفسد الذوق والعقل والأدب نفسه. والآن تعالَوْا إلى هذه الدعوى لنرى إلى أى مدى يمكن أن تكون صحيحة. لقد بدأ الأمر بأن أثار مصطفى سعيد وساوس الراوى فشعر بأن وراءه شيئا غير مريح، وظل ينكش وراءه بمنكاش حتى عرف حياته الماضية فى بريطانيا وبعد عودته من بريطانيا، وإن لم يترتب على تلك المعرفة أى شىء على الإطلاق، إذ سرعان ما جاء الفيضان واختفى معه مصطفى سعيد، فأراحنا منه ومن أخباره السخيفة. وقد رأينا آنفا أن الراوى لم يكن له أى دور يذكر فى حياة أسرة مصطفى سعيد. وقد ساق البعض ما أشار إليه الراوى من ميله إلى أرملة مصطفى سعيد بوصفه دليلا على أنه يريد أن يحل محله منها. وتعقيبى هو: لكنه لم يتخذ أية خطوة فى هذا الاتجاه. بل إنه، حين أعلن ود الريس رغبته بل إصراره على الاقتران بها رغم أنفها لم يعمل شيئا له قيمة يمكنه إيقاف هذا الزواج، بل ترك الأمر ومضى إلى الخرطوم حيث عمله حتى أتاه الخبر بأنها قتلت ود الريس وانتحرت مثلما هددت قبلا، فلم يأخذ تهديدها مأخذ الجد. كما أنه كان ذا مشاعر عدائية نحو مصطفى سعيد رغم كل شىء حتى لقد ظن أن مصطفى سعيد، حين ترك له مفتاح غرفته السرية التى تحتوى على أوراقه وكتبه ورسومه، إنما يريد منه أن يكتب سيرته، فأعلن أنه لن يحقق له غايته تلك ولن يفعل ما يحس أنه يريده منه. وقبل ذلك رأيناه، لدى اختفاء مصطفى سعيد إبان الفيضان، يكتفى بتقليب الأمر فى ذهنه تقليبا باردا، ولم يحاول إبلاغ السلطات بذلك الاختفاء لتتخذ إجراءاتها، وكأنه لا توجد هناك دولة ولا يحزنون. وهو ما تكرر حين قام الناس فى القرية بدفن حسنة بنت محمود وود الريس دون إعلام السلطات، وكأنهما كلبان آخران ماتا فلم يبك عليهما أحد ولا اهتم بأمرهما أحد. وهو ما لا يدخل العقل بحال لفرط سذاجته وما يوحيه من أن المؤلف يستهين استهانة بالغة بعقول قرائه.
    ثم أىّ دور أداه الراوى بعد اختفاء مصطفى سعيد يجعلنا نقول بأنه امتداد له؟ لقد كان مصطفى سعيد أستاذا جامعيا فى لندن فى مجال الاقتصاد، أما الراوى فلا. وكان مصطفى سعيد دونجوانا كبيرا مقطِّع السمكة وذيلها، أما الرواى فرجل غلبان مثلنا لا له فى الثور ولا فى الطحين فى هذا المجال، بل يكمل عشاءه نوما، وإن كان يشرب المنكر مثله. لكن هذا لا يكفى أبدا للقول بأنه امتداد له. كذلك كان مصطفى سعيد مؤلفا له كتب مشهورة، أما الراوى فليس له من ذلك قليل ولا كثير. وبالمثل اتضح فجأة، وإن كنت لا أدرى لماذا أخر الراوى تعريفنا بذلك إلى آخر الرواية، أن مصطفى سعيد كان رساما، أما الراوى فلا. وأخيرا وليس آخرا كان مصطفى سعيد يعيش حياة القرويين فى تلك البلدة نكرة لا يعرف أحد عن أصله أو فصله شيئا، أما الراوى فيعيش فى الخرطوم، وأهل البلدة يعرفونه لأنه واحد منهم. إذن فأَنَّى يمكننا القول بأنه امتداد لمصطفى سعيد؟ واضح أن كل شىء يقوم حائلا بينه وبين القيام بهذا الدور. أما إن أصر بعض القوم على القول بأنه رغم ذلك كله امتداد له، على طريقة "عنزة ولو طارت"، فمن الواضح أنه امتداد له فى التفاهة وعدم نهوضه بأى دور ذى قيمة لنفسه أو لأسرته أو لبلاده كما سوف أشرح فى الفقرة التالية.
    لقد رحل مصطفى سعيد إلى الغرب ليزداد علما وثقافة، ونجح فى هذا الميدان وتفوق وصار أستاذا جامعيا ومؤلفا اقتصاديا مشهورا. لكننا نباغَت به وقد تهافت على النساء أيما تهافت، فصار يتتبعهن فى المنتديات والتجمعات ويتحرش بهن ويتعرض لهن، وأصبح وكأنه شخص آخر غير الشاب المتفوق الذى لا يعرف شيئا غير العقل والكتب والدراسة والنجاح ولا يحتاز أية مشاعر، فرأيناه يعاشر عددا من النساء فى وقت واحد. وله فى هذا السياق تعبير ذو مغزى، إذ يكرر أنه قد أسرج بعيره وانطلق وراء هذه المرة أو تلك يريد أن يوقعها فى حبالته. وإسراج البعير معناه أنه لا يزال بدويا يركب الإبل ويرتحل عليها لا على السيارات أو الحافلات أو الدراجات. كما أن عدد اللاتى كان يعشقهن ويفسق بهن فى ذات الوقت كان أربعا، وهو عدد من يحق نظريا للمسلم أن يتخذهن زوجات له فى وقت واحد. فهل لهذا مغزاه أيضا ويكون المقصود السخرية من طرف خفى من شريعة الإسلام؟ لا أدرى. لقد استحال مصطفى سعيد إذن من طالب علم إلى شمام للنساء، فهو ما إن يرى امرأة غربية حتى يشرع فى تشممها كالكلب إلى أن يسقطها فى شباكه. ثم هو بعد ذلك لا يبالى بأى شىء: لا بعلم ولا بوطن ولا بأقارب ولا بأم حتى إنه، حين بلغه موت أمه، لم يهتم ولم يحزن، فضلا عن أن يفكر فى الطيران إلى السودان لتلقى العزاء فيها أو حتى لزيارة قبرها. ورغم غرابة تحول شاب لوذعى مثله بغتة من السعى وراء العلم إلى الشمشمة وراء النسوان وعدم منطقية هذا التحول الفجائى الذى لم تسبقه أية إشارات ترهص بحدوثه فالمهم أنه لم ينفع أحدا بهذا العلم الذى حازه وتفوق به على الآخرين. فلا هو كتب شيئا ينفع بلاده، ولا فكر فى العودة إلى السودان ليشارك فى بنائه ونهضته، ولا خطر له التبرع ببعض المال للمساكين من قومه. لقد صار وحشا لا يتمتع بأية مشاعر إنسانية. بل إنه لم يبال بمن كن ينتحرن بسببه رغم أننا لا نعرف أى سبب محدد لهذا الانتحار، فكأنهن كلبات ماتت، وانتهى أمرها.
    أما زوجته فقد ابتدأ أمره معها بأن رآها، فهب يطاردها ويتعرض لها محاولا أن يفرض نفسه عليها، وهى من جانبها تنفر منه وتعمل على إفهامه أنها لا تحبه ولا تطيقه. وبدلا من الانصراف عنها، على الأقل لأن كل شىء، كما يقولون، يصح أن يتم بالإكراه إلا الحب، اشتد تعلقه بها وجريه وراءها وتدلهه فى هواها وتحمله كل إهانة فى سبيل الفوز بها رغم ما كان يبدو له من انحطاطها وشذوذ تصرفاتها ومشاعرها وأفكارها. ورغم أنه قد توعدها فى بداية معرفته بها بأنه سوف ينتقم منها لوصفها منظره بأنه بشع ورغم أنه قد قتلها فى نهاية المطاف فعلا بما قد يفيد أنه نفذ تهديده لها فالواقع أنه لم يقتلها نظير هذا التحقير، إذ كان يتقبل بعد زواجه بها ألوانا من الإهانة والحط من شأنه أشد من هذا. إنما قَتَلها لأنها قد مرغت شرفه وكرامته فى الوحل المنتن وخانته على يقين منه بأنها تخونه، وكثيرا ما تجرع ذلك دون أن يرف فيه عصب كرامة، وصار ممسحة لحذائها الذى تغوص به فى الفضلات، فضلا عن أنها كانت تتأبى عليه عامدة متعمدة كلما كانت له رغبة فيها. وقد اقتاده قتله إياها إلى السجن سبع سنين.
    ثم عاد، بعد خروجه من السجن وسياحته زمنا فى أصقاع الأرض، إلى السودان، فلم ينتفع به السودان وقتئذ مثلما لم ينتفع به وهو فى بريطانيا، إذ عاش بعد عودته كما يعيش أى رجل ريفى، فتزوج امرأة أمية، ولم يحاول أن يؤلف كتابا يفيد به أمته أو يتولى عملا يقدم من خلاله أى خير لأهل وطنه ولا حاول الانخراط فى السياسة بغية أن يصلح شيئا من الفساد والتخلف الذى كانت ترزح فيه بلاده وقومه. بل لم يحاول فى مذكراته التى خلفها وراءه واطلع عليها الراوى أن يقدم رؤية لإخراج بلاده من مستنقع التخلف الذى يحاصرها من كل جانب أو حتى يحلل مشاعره النفسية تجاه زوجته السودانية الأمية ويرينا كيف ينظر إليها وماذا تمثل له مقارنة بالنسوة البريطانيات اللاتى كان يعرفهن فى الغرب. أى أن علمه وخبرته وتجاربه وسنوات عمره ومؤلفاته قد تشتتت كلها فى الهواء هباء منثورا، وصار أمره جميعه ضياعا فى ضياع!
    ومن الزوائد التى تعانى منها الرواية الفصل الرابع والخامس والسابع. فهذه الفصول تتناول أشياء كان يمكن اختصار ما له منها علاقة بتيار الرواية فى أسطر قليلة، ثم حَذْف الباقى الذى من الواضح انه اجتُلِب اجتلابا غراما بالكلام لمجرد الكلام ظنا من الكاتب أن الرواية تتسع لكل ما يدور بخلده. وهذا هو نص الفصل الرابع. وسوف نلاحظ مثلا أنه يتجه بالحديث إلى من يخاطبهم بـ"يا سادتى". فمن سادته هؤلاء؟ لا نعرف، لأنه لم يكن يوجه حديثه منذ أول الرواية حتى الآن إلى أحد بل يتكلم فقط لنفسه. وهذه نقطة أخرى تؤخذ عليه. ثم هو يقول إن مصطفى سعيد أصبح هوسا يلازمه فى حله وترحاله. وليس هذا كلام رجل كتب مصطفى سعيد يوصيه بزوجته وأولاده، إذ من الطبيعى أن يلازم مثل هذا الرجل تفكيره، ولا غرابة فى ذلك. لكننا نراه يعود عقب هذا مباشرة فيقول إنه كانت تمر عليه شهور لا يخطر له مصطفى سعيد على بال. وهذا أيضا من أغرب الغرائب فى ضوء وصايته إياه بأسرته. أما كلامه عن السير فى دروب الحياة وما إلى ذلك فهو كلام إنشائى لا موضع له فى الرواية، إذ إنه كلام عادى ليس فيه ما يستلزم ذكره، فهو معلوم من الحياة، حياة كل إنسان، بالضرورة. وليست الرواية مخلاة يلقى فيها الشحات كل ما يجود عليه الناس به دون فرز وتمييز. كما أن وصف الراوى للنهر والقرى التى يمر بها فى سفره إلى الخرطوم أو عودته منها لا داعى له. إنه لا يؤدى وظيفة فى الرواية بل مجرد ثرثرة، وبخاصة أن الراوى لا يتحدث عن قريته هو بل عن القرى التى يمر بها، ثم لا يتخذ من هذا الوصف تكأة لإضافة شىء إلى مجرى وقائع الرواية أو استخلاص مغزًى يطورها. ثم لدينا حكاية الحمارة التى خُدِع فيها عمه عبد الكريم. ترى ما لزومها؟ لا شىء سوى أنها ترضى نزعة عند المؤلف إذ يستحضر من خلالها ذكرياته فى قريته، بيد أنها لا وظيفة لها فى الرواية رغم ذلك. إنها مجرد ثرثرة. قد تكون حلوة فى ذاتها، لكنها ليست عنصرا عضويا فى العمل الروائى الذى فى أيدينا. ثم كلامه عن الحزب الوطنى الديمقراطى الاشتراكى وما فيه من فساد، وكلامه مرة أخرى عن الوصية المكتوبة التى تركها له مصطفى سعيد وفوجئ هو بها وكأنه لم يكن هناك وقت فى حياة الرجل ليفاتحه شفاها برغبته فى إيصائه بأسرته رغم ما كان بينهما من لقاءات وحوارات. فكيف اتسع الوقت لكل ذلك، وضاق عن أهم شىء يشغل بال الرجل؟... إلى آخر ما هنالك من موضوعات فى هذا الفصل كان يمكن أن تختصر اختصارا أو تحذف حذفا، فتصبح الرواية أكثر تماسكا وأقل ثرثرة وهلهلة، ويتجه تيارها اتجاها واحدا بدل التعرجات والمنحنيات الكثيرة التى تعوق تدفقه وتُشَتِّته هنا وها هنا دون جدوى تساوى هذا كله.
    يقول الرواى: "لكن أرجو ألا يتبادر إلى أذهانكم، يا سادتي، أن مصطفى سعيد أصبح هوسًا يلازمني في حلي وترحالي. كانت أحيانًا تمر أشهر دون أن يخطر على بالي إنه مات على أي حال، غرقًا، أو إنتحارًا، الله وحده يعلم. آلاف الناس يموتون كل يوم. ولو وقفنا نتمعن لماذا مات كل منهم، وكيف مات، ماذا يحدث لنا نحن الأحياء؟ الدنيا تسير باختيارنا أو رغم أنوفنا. وأنا، كملايين البشر، أسير، أتحرك بحكم العادة في الغالب في قافلة طويلة تصعد وتنزل، تحط وترحل. والحياة في هذه القافلة ليست كلها شرا. أنتم، ولا شك، تدركون ذلك. قد يكون السير شاقا بالنهار. البوادي تترامى أمامنا كبحور ليس لها ساحل. نتصبب عرقا، وتجف حلوقنا من الظمإ، ونبلغ الحد الذي نظن أنْ ليس بعده متقدَّم. ثم تغيب الشمس، ويبرد الهواء، وتتألق ملايين النجوم في السماء. نطعم ونشرب حينئذ، ويغني مغني الركب. بعضنا يصلي جماعة وراء الشيخ، وبعضنا يتحلق حلقات يرقصون ويغنون ويصفقون. وفوقنا سماء دافئة رخيمة. وأحيانًا نسري بالليل ما طاب لنا السُّرَى، وحين يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود نقول: "عند انبلاج الصبح يحمد القوم السُّرَى". وإذا كان السراب أحيانًا يخدعنا، وإذا كانت رسومنا المحمومة بفعل الحر والعطش تغرر أحيانًا بأفكار لا أساس لها من الصحة، فلا جرم. أشباح الليل تتبخر مع الفجر، وحمى النهار تبرد مع نسيم الليل. هل ثمة وسيلة أخرى غير هذه؟
    هكذا كنت أقضي شهرين كل سنة في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل. النهر، بعد أن كان يجري من الجنوب إلى الشمال، ينحني فجأة في زاوية تكاد تكون مستقيمة، ويجري من الغرب إلى الشرق. المجرى هنا متسع وعميق، ووسط الماء جزر صغيرة مخضرة تحوم عليها طيور بيضاء. وعلى الشاطئين غابات كثيفة من النخل، وسواقي دائرة، ومكنة ماء من حين لآخر. الرجال صدورهم عارية، يلبسون سراويل طويلة، يقطعون أو يزرعون حين تمر بهم الباخرة كقلعة عائمة وسط النيل. يرفعون قاماتهم ويلتفتون إليها برهة ثم يعودون إلى ما كانوا فيه. إنها تمر على هذا المكان وقت الضحى مرة في الأسبوع، وما تزال في ظلال النخل المنعكسة على الماء بقية تنكسر حين يهزها الموج الذي تحدثه محركات الباخرة.
    وتنطلق صفارة مبحوحة سيسمعها أهلى ولا شك في دُورهم وهم يشربون قهوة الضحى. من بعيد تبدو المحطة. رصيف أبيض عليه طابور من شجر الجميز. وتلمح علي الشاطئين حركة واضحة. بعض الناس على الحمير، وبعضهم على أقدام. وقوارب ومراكب شراعية تتحرك من الشاطئ المقابل للمحطة. تدور الباخرة حول نفسها لكيلا تكون المحركات في مجرى التيار، ويكون في استقبالها جمهور متوسط من الرجال والنساء. ذلك أبي، وأولئك أعمامي وأولاد أعمامي، وقد ربطوا حميرهم في شجر الجميز. لا يفصل ضباب بيني وبينهم هذه المرة، فأنا قادم من الخرطوم، فقط بعد غيبة لم تدم أكثر من سبعة أشهر. إنني أراهم بعين واقعية. جلابيبهم نظيفة، ولكنها غير مكوية، وعمائمهم أكثر بياضًا من جلابيبهم. شواربهم تتفاوت طولًا وقصرًا، سوادًا وبياضًا. بعضهم له لحى، والذين ليست لهم لحى أهملوا حلاقتها. بين حميرهم حمارة سوداء لم أرها من قبل. ينظرون إلى الباخرة دون إكتراث إذ تلقي مراسيها ويزدحم الناس عند مدخلها. إنهم ينتظرونني في الخارج لا يهرولون لملاقاتي، ويصافحونني ويصافحون زوجتي على عجل، ولكنهم يمطرون الطفلة قُبَلًا، يتناوبون حملها على أيديهم ريثما تحملنا الحمير إلى الحي. هذا حالي منذ كنت تلميذًا في المدرسة، لم أنقطع إلا في غيبتي الطويلة تلك التى سبق أن حدثتكم عنها. وفي الطريق إلى الحي أسألهم عن الحمارة السوداء، فيقول أبي: "أعرابيٌّ غش عمك وأخذ منه حمارته البيضاء التي تعرفها، وفوقها خمسة جنيهات أيضًا". ولا أدري أي أعمامي غشه الإعرابي حتى أسمع صوت عمي عبد الكريم يقول: "عليَّ الطلاق هذه أجمل حمارة في البلد كلها. هذه جواد وليست حمارة. إذا شئتُ وجدتُ من يعطيني فيها ثلاثين جنيهًا". ويضحك عمي عبدالرحمن ويقول: "إذا كانت جوادًا فهي جواد عاقر. لا خير في حمارة لا تلد". وأسألهم عن محصول التمر هذا العام وأنا أعلم إجابتهم سلفًا: "لا خير فيه". يقولون ذلك بصوت واحد، وكل سنة الإجابة نفسها. وأنا أدرك أن الأمر خلاف ما يزعمون.
    ونمر ببناء من الطوب الأحمر على ضفة النيل في منتصف تمامه، وأسألهم عنه، فيقول عمي عبد المنان: "شفخانة لهم حولٌ لا يستطيعون بناءها. حكومة كلام فارغ". وأقول له إنني كنت هنا منذ سبعة أشهر فقط، ولم يكونوا قد بدأوا بناءها بعد. لكن هذا لا يَثْنِي عمي عبد المنان، فيقول: "كل الذي يُفْلِحون فيه يجيئون إلينا مرة كل عامين أو ثلاثة بجماهيرهم ولواريهم ولافتاتهم. يعيش فلان، ويسقط علان. كنا مرتاحين أيام الإنكليز من هذه الدوشة". وبالفعل يمر بنا جمع من الناس في لوري قديم وهم يهتفون: "عاش الحزب الوطني الديمقراطي الإشتراكي". هل هؤلاء الناس يطلق عليهم: "الفلاحون" في الكتب؟ لو قلت لجدي أن الثورات تصنع بإسمه، والحكومات تقوم وتقعد من أجله، لضحك. الفكرة تبدو شاذة فعلًا، كما أن حياة مصطفى سعيد وموته في مكان مثل هذا يبدو شيئًا صعبًا تصديقه. مصطفى سعيد كان يحضر الصلوات في المسجد بانتظام. لماذا كان يبالغ في تمثيل ذلك الدور المضحك؟ هل جاء إلى هذه القرية النائية يطلب راحة البال؟ لعل الإجابة في تلك الغرفة المستطيلة ذات النوافذ الخضراء. ماذا أتوقع؟ هل أتوقع أن أجده جالسًا على كرسي وحده في الظلام؟ أم أتوقع أن أجده معلقًا من رقبته بحبل يتدلى من السقف؟ والرسالة التي تركها في ظرف مختوم بالشمع الأحمر، متى كتبها؟
    "إنني أترك زوجتي وولدي وكل مالي من متاع الدنيا في ذمتك، وأنا أعلم أنك ستكون أمينًا على كل شيء. زوجتي تعلم بكل مالي، وهي حرة التصرف. إني واثق بحكمتها. ولكنني أطلب منك أن تؤدي هذه الخدمة لرجل لم يسعد بالتعرف إليك كما ينبغي: أن تشمل أهل بيتي برعايتك وأن تكون عونًا ومشيرًا ونصيحًا لولديَّ، وأن تجنبهما ما استطعت مشقة السفر. جنبهما مشقة السفر، وساعدهما أن ينشآ نشأة عادية ويعملا عملًا مفيدًا. وأنا أترك لك مفتاح غرفتي الخاصة، ولعلك تجد فيها ما تبحث عنه. أنا أعلم أنك تعاني من رغبة استطلاع مفرطة بشأني، الأمر الذي لا أجد له مبررًا. فحياتي، مهما كان من أمرها، ليس فيها عظة أو عبرة لأحد. ولولا إدراكي أن معرفة أهل القرية بماضيَّ كان سيعوقني عن مواصلة الحياة التي اخترتها لنفسي بينهم لما كان ثمة مبرر للكتمان. وأنت في حل من العهد الذي قطعته على نفسك تلك الليلة. فتحدث ما شئت. وإذا لم تستطع أن تقاوم رغبة الاستطلاع في نفسك فستجد في تلك الغرفة، التي لم يدخلها غيري من قبل، قصاصات ورق وشذورًا متفرقة ومحاولات لكتابة مذكرات وغير ذلك. أرجو على أي حال أن تساعدك على تزجية الساعات التي لا تجد وسيلة أفضل لقضائها. وأنا أترك لك تقدير الوقت المناسب لتعطي ولديَّ مفتاح الغرفة وتساعدهما على إدراك حقيقة أمري. إنه يهمني أن يعلما أي نوع من الناس كان أبوهما، إذا كان ذلك ممكنًا أصلًا، وليس هدفي أن يحسنا بي الظن. حسن الظن هو آخر ما أرمي إليه. ولكن لعل ذلك يساعدهما على معرفة حقيقتهما، ولكن في وقت لا تكون المعرفة فيه خطرًا. إذا نشآ مشبعين بهواء هذا البلد وروائحه وألوانه وتاريخه ووجوه أهله وذكريات فيضاناته وحصاداته وزراعاته فإن حياتي ستحتل مكانها الصحيح كشيء له معنى إلى جانب معان كثيرة أخرى أعمق مدلولًا. لا أدري كيف يفكران فيَّ حينئذ. قد يحسان نحوي بالرثاء، وقد يحولانني بخيالهما إلى بطل. هذا ليس مهمًّا. المهم أن حياتي لن تجيء من وراء المجهول كروح شريرة تلحق بهما الضرر. وكم كنت أتمنى أن أظل معهما، أراقبهما يكبران أمام عيني ويكونان على الأقل مبررًا لوجودي. إنني لا أدري أي العملين أكثر أنانية: بقائي أم ذهابي. ومهما يكن فإنه لا حيلة لي، ولعلك تدرك قصدي إذا عدت بذاكرتك إلى ما قلته لك تلك الليلة. لا جدوى من خداع النفس. ذلك النداء البعيد لا يزال يتردد في أذني. وقد ظننت أن حياتي وزواجي هنا سيسكتانه. ولكن لعلي خلقت هكذا، أو أن مصيري هكذا مهما يكن معنى ذلك: لا أدري. إنني أعرف بعقلي ما يجب فعله، الأمر الذي جربته في هذه القرية مع هؤلاء القوم السعداء. ولكن أشياء مهمة في روحي وفي دمي تدفعني إلى مناطق بعيدة تتراءى لي ولا يمكن تجاهلها. واحسرتي إذا نشأ ولداي، أحدهما أو كلاهما، وفيهما جرثومة هذه العدوى، عدوى الرحيل. إنني أحمِّلك الأمانة لأنني لمحت فيك صورة عن جدك. لا أدري متى أذهب يا صديقي، ولكنني أحس أن ساعة الرحيل قد أزفت، فوداعًا".
    إذا كان مصطفى سعيد قد اختار النهاية، فإنه يكون قد قام بأعظم عمل ميلودرامي في رواية حياته. وإذا كان الإحتمال الآخر هو الصحيح فإن الطبيعة تكون قد منت عليه بالنهاية التي كان يريدها لنفسه. تصور عز الصيف في شهر يوليو العتيد. النهر اللامبالي فاض كما لم يفض منذ ثلاثين عامًا. الظلام يصهر عناصر الطبيعة جميعًا في عنصر واحد محايد أقدم من النهر ذاته وأقل منه اكتراثًا. هكذا يجب أن تكون نهاية هذه البطل. إنما هل هي فعلًا النهاية التي كان يبحث عنها؟ لعله كان يريدها في الشمال، الشمال الأقصى، في ليلة جليدية عاصفة، تحت سماء لا نجوم لها، بين قوم لا يعنيهم أمره. نهاية الغزاة الفاتحين. ولكنهم، كما قالوا، تآمروا ضده: المحلَّفون والشهود والمحامون والقضاة ليحرموه منها. هكذا قال: رأى المحلفون أمامهم رجلًا لا يريد أن يدافع عن نفسه. رجلًا فقد الرغبة في الحياة. إنني ترددت في تلك الليلة حين شهقت جين في أذني: "تعال معي، تعال". كانت حياتي قد اكتملت ليلتها، ولم يكن ثمة مبرر للبقاء. ولكنني ترددت، وخفت في اللحظة الحاسمة. وكنت أرجو أن تمنحني المحكمة ما عجزت أنا عن تحقيقه. وكأنما أدركوا قصدي فصمموا ألا يعطوني آخر أمنية لي عندهم. حتى الكولونيل همند، الذي كنت أتوسم فيه الخير، ذكر زيارتي لهم في ليفربول، وأنني تركت في نفسه أثرًا حسنًا. قال إنه يعتبر نفسه إنسانًا متحررًا ليس عنده تحيز ضد أحد. ولكنه رجل واقعي، وقد كان يرى أن زواجًا مثل ذلك لن ينجح. وقال أيضًا أن ابنته وقعت تحت تأثير الفلسفات الشرقية في أكسفورد، وكانت مترددة بين اعتناق البوذية أو الإسلام. وهو لا يستطيع أن يجزم إذا كان انتحارها بسبب أزمة روحية انتابتها، أو لأنها اكتشفت خداع مستر مصطفى سعيد لها. كانت آن ابنته الوحيدة، وقد عرفتُها وهي دون العشرين، فخدعتها وغررت بها وقلت لها: نتزوج زواجًا يكون جسرًا بين الشمال والجنوب، وحولت جذوة التطلع في عينيها الخضراوين إلى رماد. ومع ذلك يقف أبوها وسط المحكمة ويقول بصوت هادئ إنه لا يستطيع أن يجزم. هذا هو العدل وأصول اللعبة، كقوانين الحرب والحياد في الحرب. هذه هي القوة التي تلبس قناع الرحمة، المهم أنهم حكموا عليه بالسجن سبع سنوات فقط، ورفضوا أن يتخذوا القرار الذي كان عليه هو أن يتخذه بمحض إرادته. ويخرج من السجن، ويتشرد في أصقاع الأرض من باريس إلى كوبنهاجن إلى دلهي إلى بانكوك، وهو يحاول التسويف. وتكون النهاية بعد ذلك في قرية مغمورة الذكر على النيل، ولا يستطيع المرء أن يجزم هل كانت اعتباطًا أو أنه أسدل الستار بمحض إرادته. إنما أنا لم أجيء إلى هنا لأفكر في مصطفى سعيد، فها هي ذي بيوت القرية المتلاصقة من الطين والطوب الأحمر الأخضر تشرئب بأعناقها أمامنا، وحميرنا تحث السير لأنها شمت بخياشيمها رائحة البرسيم والعلف والماء. هذه البيوت على حافة الصحراء كأن قومًا في عهد قديم أرادوا أن يستقروا ثم نفضوا أيديهم ورحلوا على عجل. هنا تبدأ أشياء. وتنتهي أشياء. ومنطقة صغيرة من هواء بارد رطب يأتي من ناحية النهر وسط هجير الصحراء كأنه نصف حقيقة وسط عالم مليء بالأكاذيب. أصوات الناس والطيور والحيوانات تتناهى ضعيفة إلى الأذن كأنها وساوس، وطقطقة مكنة الماء المنتظم تقوي الإحساس بالمستحيل. والنهر، النهر الذي لولاه لم تكن بداية ولا نهاية، يجري نحو الشمال لا يلوي على شيء. قد يعترضه جبل فيتجه شرقًا، وقد تصادفه وهدة من الأرض فيتجه غربًا، ولكنه إن عاجلًا أو آجلًا يستقر في مسيره الحتمي ناحية البحر في الشمال".
    أما الفصل الخامس فكله كلام جنسى وقفشات بذيئة مفتعلة تشارك فيها امرأة قارحة، لسانها زَفِر، لا تستحى من أحد ولا عن شىء ولا يستحى منها الرجال الجالسون معها، ومنهم جد الراوى المتدين، الذى لا يجد مع هذا أى حرج فيما تقوله بنت مجذوب، تلك التى لا تورى ولا تكتفى بالإيماء بل تفحش وتصف أوضاعا وأعضاء للرجل والمرأة وتفصّل القول فى أشياء شديدة الخصوصية كانت تقع بينها وبين أزواجها فى الفراش على نحوٍ عارٍ وكأننا فى ماخور، ثم هى فوق ذلك مدمنة سجائر، وصوتها خشن رجالى. وبالمناسبة فالرواية تعج بالكلام فى هذا الموضوع بطريقة مَرَضِيّة يبدو معها المؤلف وكأنه محروم جنسا، فهو يهتبل كل سانحة لفتح هذا الصنبور عمالا على بطال، بل بطالا أكثر من عمال. لا جدال فى أن الجنس غريزة من الغرائز، ولا يمكن أن تمضى الحياة وتستمر وتتجدد من دونه، فضلا عن أنه مبعث للرضا واللذة والسرور، ونحن حين نأخذ على المؤلف ذلك لا نقصد إلى تقذُّر هذه الغريزة وتوابعها بل نجرى على سنة الصيانة والتستر التى جرت عليها الحضارات البشرية طوال التاريخ إلا فى الشاذ النادر حين يحدث خلل. فقد مرد الناس على أن يحتفظوا بممارساتهم فى هذا الميدان بعيدا عن العيون والألسن. أما طرحها هكذا على الملإ بذلك الأسلوب العارى المفحش البذىء فمما لا يرضاه القوم الكرام، فضلا عن أن تشارك المرأةُ فيه الرجالَ "عينى عينك" دون أى حياء أو خجل، بل فى خشونة وسلاطة لسان، وكأنها تؤدى عملا تؤجَر عليه من الله الأجر العظيم. ولأمر ما يضم الأوربيون الجنس مع البذاءات والحديث عن الفضلات البشرية وأمثال ذلك تحت لافتة واحدة هى الـ"scatology"، أى الخُرْئِيّة.
    وهذه عينة صغيرة مما يحتويه جراب المؤلف فى هذا الفصل: "مسح جدي بطرف ثوبه الدمع الذي سال على وجهه من شدة الضحك، وبعد أن أمهلوني ريثما أستقر في مجلسي معهم قال جدي: "والله حكايتك حكاية يا ود الريس". وكان هذا إيذانا لود الريس بأن يستمر في القصة التي قطعها دخولي عليهم. "وبعد، يا حاج أحمد، أركبت البنت أمامي على الحمار وهي تفلفص وتتلوى وبالقوة. جردتها من جميع ثيابها حتى أصبحت عارية كما ولدتها أمها. كانت فرخة عديلة من جواري بحري بلغت توها. النهد، يا حاج أحمد، كأنه طبنجة. والكفل، إذا طوقته بذراعيك، لا تصل حده. وكانت مدهنة ومدلكة، جلدها يلمع في ضوء القمر، وعطرها يدوخ العقل. ونزلتُ بها إلى منطقة رملية وسط الذرة. ولما قمت عليها سمعت حركة في الذرة وصوتا يقول: "من هناك؟". يا حاج أحمد، جنون الشباب ليس مثله جنون. فكرت بسرعة. وعملت أنني عفريت. وأخذت أصرخ بأصوات شيطانية وأنثر الرمل وأبرطع، فذعر الرجل وهرب. إنما النكتة أن عمي عيسى كان قد تقفى أثري منذ خطفتُ الجارية من بيت العرس حتى وصلنا على بقعة الرمل. ولما رأي أنني عملت عفريت وقف يتفرج. وثاني يوم في الصباح الباكر ذهب إلى والدي رحمة الله عليه وقص عليه القصة كلها، وقال له: "ابنك هذا شيطان رجيم. وإذا لم نجد له زوجة في هذا النهار أفسد البلد وسبب لنا فضائح لا أول لها ولا آخر". وفعلا عقدوا لي في نفس اليوم على بنت عمي رجب. الله يرحمها، ماتت في أول ولادة ".
    وقالت له بنت مجذوب وهي تضحك بصوتها الرجالي المبحوح من كثرة التدخين: "ومن يومها وأنت تركب وتنزل كأنك فحل الحمير". فقال لها ود الريس: "هل أحد يعرف حلاوة هذا الشيء أكثر منك يا بنت مجذوب؟ إنكِ دفنتِ ثمانية أزواج، والآن وأنتِ عجوز كركبة لو وجدتِه لما قلت: لا". وقال جدي: "سمعنا أن غنج بنت مجذوب شيء لا يتصوره العقل". وأشعلت بنت مجذوب سيجارة وقالت: "عليَّ الطلاق، يا حاج أحمد، كنت حين يرقد زوجي بين فخدي أصرخ صراخا تجفل منه البهائم المربوطة في مراحها في الساقية". وكان بكري قبل ذلك يضحك ولا يقول شيئا، فقال: "حدثينا يا بنت مجذوب: أي أزواجك كان أحسن؟". فقالت بنت مجذوب على الفور: "ود البشير ". فقال بكري: "ود البشير الكحيان التعبان؟ كانت العنزة تأكل عَشَاءه". ونفضت بنت مجذوب رماد السيجارة على الأرض بحركة مسرحية بأصابعها وقالت: "عليَّ الطلاق كان عنده شيء مثل الوتد حين يدخله في أحشائي لا أجد أرضا تسعني. كان يرفع رجلي بعد صلاة العشاء، وأظل مشبوحة حتى يؤذّن أذان الفجر. وكان حين تأتيه الحالة يشخر كالثور حين يذبح. وكان دائما حين يقوم من فوقي يقول: ها لله الله يا بنت مجذوب". فقال لها جدي: "لا عجب أنك قتلتِه في عز الشباب". فضحكت بنت مجذوب وقالت: قتله أجله. هذا الشيء لا يقتل أحدا". والفصل كله تقريبا على هذا النحو. ويا ليت فيه شيئا يتعلق بمجرى الرواية إذن لأمكن أن يتعلل المتعللون بأن سياق العمل يقتضى هذا وأن المؤلف لم يورده رغبة فى إثارة الشهوات. لكن الفصل كله مبتوت الصلة بما قبله وما بعده من فصول.
    وهناك كذلك الفصل السابع الذى خصصه المؤلف كله لسفريّة من سفريات الراوى للخرطوم برا فى سيارة أجرة جماعية، ولا صلة له بشىء فى الرواية، بل مجرد وصف للطريق والحر القاتل، والسائق وأسلوبه فى القيادة، والمسافرين وما يعانونه فى الجو الملتهب أو يفعلونه عند التوقف فى الطريق ليلا من صلاة وأكل وشرب خمر ورقص وما إلى ذلك دون أن يكون له أى انعكاس على أحداث الرواية أو أشخاصها. من الواضح أنها تمثل للراوى (أو بالأحرى: للمؤلف) ذكريات جميلة، بيد أن هذا ليس مبررا لأن يحشرها فى الرواية حشرا من غير أن يكون هناك ما يستلزم ذلك. إنها مملة كعنصر من عناصر العمل الروائى رغم ما يمكن أن تكون قد أدته للراوى (أو إن شئت: للمؤلف) من فائدة نفسية. وهذا يذكرنا بالقصيدة الجاهلية، التى كان كثير من نماذجها يحتوى على عدة أغراض منها وصف الشاعر رحلته إلى الممدوح، إذ يصور الطريق وما يشاهده فيه وناقته وما تتميز به على نظيراتها من النوق والمتاعب المرهقة التى يلقاها فى الطريق. وإذا كان الشاعر القديم معذورا فى هذا، إذ لم تكن وحدة القصيدة بالمعنى الذى نفهمه ونقصده الآن مما يخطر على باله، فما عذر الطيب صالح فى روايته المفككة، ومن بينها وصف الطريق من قريته إلى الخرطوم، مما لا يتصل بشىء فى باقى الرواية؟ ثم إن الشاعر القديم كثيرا ما كان يربط بين الوقوف على الأطلال، وهو القسم السابق على الرحلة من جهة ولو عن طريق شكلى لفظى كقول امرئ القيس مثلا:
    فعَدِّ عَنْ ذا، وَسَلِّ الهمَّ عنك بجَسْرَةٍ ذَمُولٍ إذا صام النهارُ وهَجَّرا
    أى دعك من همومك على فراق حبيبتك الذى تذكرك به أطلال خيام قومها واركب ناقتك الطويلة السلسة السير وانطلق فى عُرْض الصحراء نشدانا للتسلية من تلك الهموم. كما كان يربط بين رحلته تلك وبين ممدوحه من جهة أخرى من خلال الإشارة إلى أنه سوف يلقى عنده الراحة من العناء والفقر كقول الشاعر الأموى أبى النَّجْم العِجْلِىّ:
    يا ناقُ، سِيرِى عَنَقًا فَسِيحا إلى سليمانَ فنستريحا
    أما الطيب صالح فلم يحاول الربط بين فصله المذكور وما قبله أو بعده من فصول ولو برباط شكلى.
    ومع ذلك كله فقد اختيرت هذه الرواية لتكون أفضل رواية عربية، أى أفضل من روايات على الجارم والعقاد والمازنى وتوفيق الحكيم وعبد الحميد جودة السحار وعلى أحمد باكثير ومحمد عبد الحليم عبد الله ويحيى حقى ونجيب محفوظ ونجيب الكيلانى... إلخ. أَوَتستطيع تلك الرواية أن تصمد مثلا لـ"سارة" العقاد أو "من النافذة" للمازنى أو "عصفور من الشرق" للحكيم أو "جسر الشيطان" للسحار أو "قنديل أم هاشم" لحقى أو "عمالقة الشمال" للكيلانى أو "الثائر الأحمر" لباكثير أو "شمس الخريف" لعبد الحليم عبد الله أو "رحلة ابن فطومة" لمحفوظ، وهى ليست من أحسن رواياته، ودعنا من "أولاد حارتنا" أو "الثلاثية"؟ ألا إن ذلك لغريب مضحك! ولقد قرأت منذ سنوات غير بعيدة رواية "صالون فى برلين" للسعيد نجم، وهى واحدة من عدة روايات له تعالج الموضوع الذى تعالجه "موسم الهجرة إلى الشمال"، وأراها أفضل منها. ولكن قاتل الله آلات الدعاية التى كثيرا ما ترفع أقواما قد لا يستحقون، وتصرف الضوء عمن هم بكل يقين خليقون بالانتباه والاهتمام.
    هذا، وأود الآن التوقف أمام بعض القضايا الهامة التى تعرضت لها الرواية: فمنها تأكيد مستر ريتشارد الإنجليزى، وهو أحد من قابلهم الراوى فى القطار وظهر أنه يعرف مصطفى سعيد، أن ما يتطلع إليه السودانيون، وأحسبه يقصد معهم العرب عموما، من التصنيع والتأميم والوحدة العربية ليس إلا خرافات وأوهاما: "ها أنتم الآن تؤمنون بخرافات من نوع جديد: خرافة التصنيع، خرافة التأميم، الوحدة العربية، خرافة الوحدة الأفريقية. إنكم كالأطفال تؤمنون أن في جوف الأرض كنزًا ستحصلون عليه بمعجزة، وستحلون جميع مشاكلكم، وتقيمون فردوسًا. أوهام. أحلام يقظة! عن طريق الحقائق والأرقام والإحصائيات يمكن أن تقبلوا واقعكم وتتعايشوا معه وتحاولوا التغيير في حدود طاقاتكم. وقد كان بوسع رجل مثل مصطفى سعيد أن يلعب دورًا لا بأس به في هذا السبيل لو أنه لم يتحول إلى مهرج بين يدي حفنة من الإنكليز المعتوهين... وسمعت منصور يقول لرتشارد: لقد نقلتم إلينا مرض اقتصادكم الرأسمالي. ماذا أعطيتمونا غير حفنة من الشركات الاستعمارية نزفت دماءنا وما تزال؟ وقال له رتشارد: كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا. كنت تشكون من الاستعمار، ولما خرجنا خلقتم أسطورة "الاستعمار المستتر". يبدو أن وجودنا، بشكل واضح أو مستتر، ضروري لكم كالماء والهواء".
    ولكن هل تطلُّعُنا نحن العرب، بما فينا السودانيون، إلى تلك الغايات المذكورة هو مجرد تمسك بالخرافات؟ لقد سبق أن كانت هناك وحدة عربية بل وحدة إسلامية على مدار قرون. فإذا جئنا اليوم وأردنا استعادة تلك الوحدة فهل يكون هذا تمسكا بالخرافات؟ ترى لِمَ نعجز عن هذا إذا ما كان أجدادنا استطاعوه؟ ولنفترض أنه لم تكن هناك فى يوم من الأيام وحدة عربية أو إسلامية فما وجه الخرافة فى أن نتطلع إلى تحقيقها نحن؟ هل هى أمر مستحيل؟ لكن ما وجه استحالته؟ هل يناقض قانونا من قوانين الكون؟ هل نحن نبغى أن نطير فى الهواء أو أن نعيش تحت الماء أو أن نسافر بأجسادنا إلى الماضى كما ننتقل من مكان إلى مكان؟ هذه هى الأمور المستحيلة التى يطلَق على من يحاول عملها أنه متمسك بالخرافات. ترى لم استطاع الأوربيون تحقيق الاتحاد الأوربى والسوق الأوربية المشتركة ولا نستطيع نحن مثل ذلك؟ كما استطاع الغربيون إفناء شعوب كاملة من فوق الأرض كالهنود الحمر مثلا وسكان أستراليا الأصليين، فكأنها لم تكن، واستطاعوا تفريغ جزء من فلسطين من أهله الذين عاشوا فيه آلاف السنين ومعاونة اليهود فى النزوح من أركان المعمورة والاحتشاد فى الأرض المقدسة وإنشاء دولة لهم هناك من العدم. والإنجليز أنفسهم، الذين يعتزى إليهم مستر ريتشارد، كانت لهم إمبراطورية من البلاد التى احتلوها فى أرجاء العالم المختلفة. فهل الوحدة العربية أصعب من هذا الذى حققه الغربيون ظلما وإجراما وعتوا وجبروتا؟ على الأقل: نحن لن نقتل أحدا، ولن نبيد أحدا، ولن نعتدى على أرض أحد، بل كل ما نبغيه هو أن نوجد رباطا يجمعنا نحن العرب فى كيان واحد. فما وجه الإنكار على ذلك؟ صحيح أننا لا نحسن السياسة ولا وضع الخطط ولا إتيان البيوت من أبوابها، وأن الغربيين يتفوقون علينا حاليًّا بالدهاء والعلم والتخطيط والنظام والجِدّ. لكن من قال إننا سوف نبقى هكذا دهر الداهرين؟ إن الأمم كلها تتغير، ولا توجد أمة ظلت على حالها طوال الحقب. ولقد كان الغربيون متخلفين لعدة قرون مضت، وكانت أمم الإسلام أكثر منهم تحضرا ونظافة وعلما وفكرا ودهاء، وأغنى وأحسن مستوى معيشة، ثم جرت مياه كثيرة فى النهر فتغيرت الأحوال: أحوالنا وأحوالهم. وعلينا أن نعقد العزم مهما فشلنا فيما مضى، بل مهما فشلنا فيما هو آت. لا ينبغى أن نيأس أبدا. ثم إن العرب أنفسهم قد فتحوا يوما العالم، ودخلت الأمم المختلفة على أيديهم الإسلام واصطنعت العربية لغة لآدابها وعلومها وفكرها. فهل نحن أقل من جدودنا عقلا أو همة أو إيمانا وتمسكا بالأمل؟
    وصحيح أيضا أن الدول الاستعمارية لا ولن تتركنا فى حالنا. بيد أننا لا ينبغى أن ننام فى الخط بحجة أنهم يتآمرون علينا. فالتاريخ كله تآمر من الدول بعضها على بعض، وكل دولة تدس طوال الوقت للأخرى وتعمل على تعويقها حتى تفوز دونها باللقمة الطرية وتتركها تخبط رأسها فى الحائط. ومن لا يستطع التعايش فى هذا الجو ويسن أسنانه ويستعد للصراع استعدادا جيدا فلا يلومنّ سوى نفسه، إذ هو فاشل وغبى ومتخلف لا يحب أن يبذل جهده، ويظن أن آماله سوف تتحقق، وهو نائم، بمعجزة من السماء. وهذا ما قاله بحقٍّ مستر ريتشارد.
    فنحن لا نبذل جهودنا لبلوغ أمانينا، بل نؤثر النوم فى العسل بل بالأحرى: فى المجارى، ونحسب أن الأحوال ستنعدل من تلقاء نفسها، مع أن هذا هو الخَطَل والهَبَل والسفه والعته والبله بعينه، وإن كان مستر ريتشارد لا يقصد تنبيهنا بقدر ما يقصد تيئيسنا والتهكم بنا والتندر على حالنا كى يزيدنا تخبطا واضطرابا. وهذا لون من التآمر والدس الذى تمارسه الدول بعضها مع بعض. فدول الغرب تعرف أن الحياة صراع وخداع، وهو حين يقول هذا إنما يطبق هذا الصراع والخداع. لكن العاقل هو من استخلص الحكمة حتى من فم عدوه، وحَوَّل الجراثيم أمصالا وأَلْقِحَة. وقديما قال عمر رضى الله عنه إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. وكنت كتبت ذات مرة فى صفحتى الفيسبوكية أن الظن بفاعلية الدعاء دون عمل وعرق ودموع هو استمساك بالحبال الذائبة، فردت قارئة بأن من يدعو الله لا يقال إنه متعلق بالحبال الذائبة. وبطبيعة الحال أنا لا أقصد بتاتا شيئا مما فهمته القارئة، إذ القصد من كلامى أن الدعاء وحده لا يؤدى إلى شىء. وكان الكلام بمناسبة دعاء كثير منا على أمريكا وإسرائيل والدول الاستعمارية دون اتخاذنا أية خطوة تقرّبنا من غايتنا سوى الكلام والدعاء. وكان ولا يزال دليلى هو أننا ندعو منذ قرون، وهم يكسبون طوال الوقت بينما نحن نخسر على الدوام مع أنهم لا يدعون. ذلك أنهم يعملون. وهم بهذا، رغم جهلهم به، إنما يجرون على سنة نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال: اعقلها وتوكل. ولم يقل: ادع الله ثم اتركها وانصرف. وعقل الدابة هو العمل. أى عليك أن تأخذ بالأسباب. والأسباب فى حالة الناقة هى ربطها بالعقال، أى الحبل الذى يعقلها ويمنعها الحركة والانطلاق، وإلا شردت منا بعيدا ولم نجدها. ومثله قوله عليه السلام: "لو توكلتم على الله حقَّ توكُّلِه لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِمَاصًا، وتروح بِطَانًا". فإذا كان على الطير أن تغدو، أى تنهض من أعشاشها وتنطلق فى الفضاء بحثا عن طعامها من الحب والديدان، حتى تتخلص من جوعها وتملأ بطونها ويحصل لها الشِّبَع، فكيف نظن أن التوكل يعنى أن نبقى فى بيوتنا انتظارا لسقوط الطعام والشراب فى أفواهنا، والملابس فوق أبشارنا، ولا نخرج بحثا عن رزقنا ورزق أولادنا ونسائنا، ثم نقول إننا متوكلون؟ وعن رسول الله أن التوكل إنما يكون بعد الكَيْس، أى بعد الاجتهاد واتخاذ الأسباب، أما قبل ذلك فهو تواكل. وكان صلى الله عليه وسلم قد "قضى بين رجلين، فقال المقضيُّ عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يلوم على العجز. ولكن عليك بالكَيْس. فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل". يعنى أن الإنسان عليه أن يستفرغ وسعه وجهده أولا قبل أن يحسبن، وإلا فلا فائدة فى الحسبنة.
    ذلك أن ديننا ليس دين كلام بل دين عمل واجتهاد وإنجاز. ولو كان المسلمون الأوائل مثلنا سقوط همة وعجزا وتهافتا وكسلا لما خرجوا من جزيرتهم ولأكلتهم الأمم من حولهم أكلا. وفى حديث آخر لرسول الله عليه الصلاة والسلام: "غَطُّوا الإناءَ، وأَوْكُوا السِّقَاءَ، وأَغْلِقوا البابَ، وأَطْفِئوا السِّراج، فإن الشيطان لا يَحُلُّ سِقَاءً ولا يَفْتَحْ بابًا ولا يَكْشِفْ إناءً". فانظر كيف يأمرنا باتخاذ كل التدابير اللازمة لتجنب الأذى والضرر، ولم يقل: دعوا الأمور كما هى، وتوكلوا على الله ولا تخافوا. إن الحياة قائمة على التدافع، وعلينا أن نحوز كل أسباب القوة، والله هو القوى، وله سبحانه المثل الأعلى، وعلينا أن نتقوى بكل طاقتنا وجهدنا لا نألو فى ذلك شيئا: "وأعِدّوا لهم ما استطعتم من قوة". وهذا مع الأعداء، أما مع أهل الخير والسلم فالتعاون على البر والتقوى. وفى القرآن يتكرر الربط على نحو ملحوظ بين الإيمان والعمل الصالح بما يفيد أنه لا إيمان بدون عمل صالح. وفى الحديث: "ليس الإيمان بالتمنى، ولكنْ ما وَقَرَ فى القلب، وصدَّقه العمل". والعمل الصالح ليس هو الصلاة والصيام فحسب، بل هو كل عمل مفيد للشخص أو لأسرته أو لأمته أو للإنسانية جميعا. فالعمل الصالح فى ديننا هو أى نشاط حضارى مثلما أن العلم ليس هو ما يسمى بـ"العلم الشرعى" من فقه وتفسير وحديث وكلام فقط، بل هو صنوف العلوم كلها بما فيها العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية، إذ الحياة لا تستغنى ببعض هذه العلوم عن الأخرى، بل تحتاجها جميعا، ولا يمكن أن يكون هناك تقدم بدونها، وبخاصة علوم الدنيا من طب وطبيعة وكيمياء وأحياء وجيولوجيا وصيدلة وجغرافيا وتاريخ. ولأمر ما أكد القرآن الكريم أن الله قد خلق الإنسان فى كَبَدٍ، أى عناء ومشقة. فهذه هى طبيعة الحياة، ومن لم يع هذا ويُرَاعِهِ فى تصرفاته وتفكيره وتخطيطه ضاع وافترسته الذئاب، وما من باكٍ عليه.
    وأنا مع مُحَاوِر مستر ريتشارد فى أن الغرب الاستعمارى قد وضع العراقيل فى طريقنا وتفنن فى تصدير المشاكل إلينا. لكنى لست معه إن ظن أن توضيح الأمر على هذا النحو للغربيين من شأنه أن يوقظ ضمائرهم فيعاملونا بالحسنى والعدل والرحمة. وقد يبدو كلام ريتشارد الخاص بأن الغربيين قد رحلوا عن بلادنا وأننا رغم هذا ما زلنا مغروزين فى مشاكلنا ومآسينا مراوغا لا يلامس الحقيقة. لا، إنه يلامسها بل يصيب كبدها، وما كلامه هذا إلا مُضِىٌّ مع سياسة التضليل التى ينتهجونها معنا واستمرارٌ للحرب النفسية التى يشنونها علينا. ذلك أنه يعرف عز المعرفة أن تآمرهم علينا لم ولن ينقطع وسيظل مستمرا إلى يوم الدين.
    لكن ردى هذا على مستر ريتشارد لا يعنى ولا ينبغى أن يعنى أننا بُرَءَاء. لا بل نحن مجرمون فى حق أنفسنا وحق أولادنا وحق تاريخنا وحق ديننا، برضانا بما نحن فيه وعدم تحركنا للخروج من هذا المستنقع الكريه واستمرائنا للتخلف والمذلة التى تحيط بنا من كل جانب. إن الغربيين لن يحرك ضمائرهم حديثنا الممجوج عن ظلمهم لنا وإجحافهم بحقوقنا، إذ هم يؤمنون بأن القوة هى الحق، وأن الحياة قائمة على أن البقاء للأقوى، وأن من حقهم دون سائر الأمم التمتع بطيبات الحياة، وأن الآخرين لا يستحقون أن يُعَامَلوا معاملة الآدميين، وأقصى ما يمكن أن يفكروا فيه بالنسبة لهم هو أن يرموا لهم الفضلات العفنة. فهم جنس أبيض، والباقون عبيد لا قيمة ولا حقوق لهم. وإذن فخروجنا من هذا المستنقع المنتن هو واجبنا نحن لا يصح أن ننتظر أحدا سوانا يقوم به ولا ينبغى أن نتوقع مَخْرَجًا آخَرَ غيره.
    لقد شخَّص مالك بن نبى حالتنا النفسية المتردية فى الطور الحالى من تاريخنا بأنها حالة "القابلية للاستعمار"، بمعنى أننا نحب أن يستعمرنا الآخرون، أو على الأقل: مهيأون لذلك. ومن هنا كان من الصعب علينا الانعتاق من تلك الحالة المتردية المزرية. وأنا أفضل الغوص أبعد من هذا التشخيص فأقول إن القابلية للاستعمار هى بدورها عرض لمرض نفسى أعمق، ألا وهو المذلة والانكسار وانعدام الثقة بالنفس حتى لقد صرنا نتصور أنه لا يمكننا النهوض من رقدة البلادة التى نحن فيها والتخلص من العجز الذى يُشِلّ منا الإرادة. وهذا الشعور بالمذلة هو ثمرة لتاريخ طويل من الهزيمة والسقوط المتتابع أمام الغربيين وغيرهم بدءا على الأقل من الحروب الصليبية وهجوم المغول على بلاد الإسلام ووصولهم إلى بغداد وتجاوزهم إياها إلى قريب من حدود مصر، ومرورا بسقوط الأندلس ووقوع بلادنا فريسة للاستعمار الغربى ثم ضياع فلسطين منا نحن الذين نملكها منذ آلاف السنين.
    وقد تسببت فى هذا الضعف الذى أدى فى النهاية إلى الانهيار عوامل متعددة منها الانقسام السياسى والمذهبى وما نتج عنه من حروب داخلية، ومنها الترف الإجرامى الذى كان يعيش فيه الحكام ومن يلوذ بهم فى الأعصر التى سبقت التردى، ومنها الركون إلى البلادة وإهمال الاستعداد العسكرى لأعدائنا، ومنها سقوط كثير من المسلمين فى براثن الصوفية الكذابين الضالين المضللين وانصرافهم عن العمل من أجل السيادة فى الحياة والتفوق فى أمور الدنيا، ومنها الاستبداد السياسى. ولا ينبغى أن ننسى تراخى الزمن وتتالى القرون ودوره فى خلخلة الإرادة وإشاعة الكسل والتبلد الناتجين عن الطمأنينة الزائدة اعتمادا على الماضى المجيد.
    وكانت أوربا طول الوقت تتطور علميا وسياسيا وتجوز كثيرا من المخاضات، بينما نحن نغط فى غيبوبة لا ندرى معها ما يجرى على الشط الآخر للبحر المتوسط حتى لقد قامت ثوراتها ونحن لا نعرف أن ثم ثورات تقع، وقبلها مكتشفات علمية وجغرافية تتم وتفتح الأبواب والطرق أمام الغربيين إلى المجد والعزة والغنى والسيادة، ظانين أنهم لا يزالون أضعف منا ومتخلفون عنا كما كانت حالهم قديما. وقد ظهر هذا فى موقف المماليك من الغزو الفرنسى لمصر، إذ ظنوا أن هزيمة الفرنسيس لن تأخذ فى أيدهم غلوة، فكان ما كان. ثم تتالت الهجمات الاستعمارية على بلاد العرب، التى سقطت تباعا فى أيدى الغربيين. ومن يومها والعرب والمسلمون قد انكسروا نفسيا، ولم يعودوا أولئك العرب والمسلمين القدماء الممتلئين اعتزازا بالنفس وإيمانا بحتمية انتصارهم على أعدائهم. ثم ازداد هذا الشعور بالاحتكاك بأوضاع الأوربيين فى بلادهم إذ وجدوا الفارق المدنى والثقافى بينهم وبين الأوربيين كبيرا، فبات الكثيرون منا لا يتصورون إمكان لحاقنا بأعدائنا. ونظرة فى كتاب رفاعة: "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" والمقارنة بينه وبين صورة مصر فى عهد الجبرتى أيام الحملة الفرنسية تقرب إليك ما أقول. ويزداد الأمر سوءا والإحباط تراكما حين يرى المسلمون أن كثيرا من حكامهم يعملون ضد شعوبهم وأمتهم عن وعى أو عن جهل. بل إن بعضهم ليتعاون مع أولئك الأعداء ويجتهد بكل قواه من أجل التمكين لهم. بعد هذا كله من السهل أن نرى كيف كان الدور الذى قام به مصطفى سعيد فى بريطانيا أسوأ دور لأسوإ شخص عربى مسلم فى مواجهة الغرب، إذ رغم كل المواهب التى حباه الله بها والإمكانات التى أتيحت له لم يخطر له قط إفادة نفسه أو أمته أو حتى أهله الأقربين لدرجة أنه لم يفكر طوال وجوده فى بريطانيا فى أمه، وحين بلغه نبأ موتها لم يبال بالأمر فلم يشعر بأى حزن وانصرف عن التفكير فيها فى الحال، وبدد حياته فى علاقات نسائية شهوانية عقيمة دمرته وأعادته إلى بلاده محطما مستنزفا لا يستطيع أيضا نفعها بشىء. بل إن فى الرواية من يقول إنه كان عميلا للاستعمار البريطانى. وعلى كلٍّ كان هناك من البريطانيين من تَبَنَّوْه وقرَّبوه إليهم وأعطَوْه الفرص الهائلة. ثم ننظر فنرى، رغم هذا كله، أنه لم يفكر قط فى نفع أمته.
    أما قول محمد هيبى فى دراسته: "الأنا والآخر في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح": "في المرحلة الثانية، مرحلة العودة إلى الوطن، جاء الصدام الثاني، الصدام مع الشرق ومع المجتمع الذي ينتمي إليه مصطفى سعيد. وهنا يمثل مصطفى سعيد المثقفَ الشرقيَّ العربيَّ المسلمَ الذي يبدأ مشروعا تقدميا: فكرا وثقافة، فيصطدم داخل مجتمعه بالقوالب الثابتة، اجتماعية كانت أو دينية، والتي تعارض المشروع وتعمل على هدمه" فكنت أحب أن يكمله ويتكرم علينا بذكر ذلك المشروع التقدمى الفكرى والثقافى الذى أراد أن يقوم به بطلنا الهمام مصطفى سعيد، لكن المجتمع المتيبس داخل القوالب الثابتة قد وقف فى طريقه حائلا بينه وبين تنفيذ هذا المشروع الذى كان كفيلا أن يقلب الدنيا رأسا على عقب ويأخذ بيد السودان والسودانيين إلى آفاق التقدم الرحبة ويضعهم على نفس مستوى الغربيين أولاد الذين. لكن الباحث للأسف لم يتكرم علينا بذلك، فبقى كلامه مجرد كلام لا قيمة له ولا معنى، ببساطة لأنه لا وجود له إلا فى ذهنه. إنه كلام نظرى لا وجود له فى الواقع الحقيقى. وكثير من الباحثين للأسف المر لا ينطلقون فى كلامهم من الواقع بل من الخيال والفكر النظرى المسبق تطبيقا لكلام قرأوه عند الغربيين فخروا عليه ساجدين دون تمحيص، وظنوا أن كل ما عليهم هو تطبيق ذلك الكلام كما هو. وكفى الله الباحثين العرب شر نقاش ما فى ذلك الكلام من أفكار وآراء.
    ومن هنا فإن ما أضافه محمد هيبى بعد ذلك عن مصطفى سعيد قائلا: "عليه فإن مصطفى سعيد يمثل الشرق بشكل عام، والعالم العربي بشكل خاص، في صراعه مع الغرب الإمبريالي الذي استعمر الشرق، ونظر إليه نظرة دونية، وامتهن كرامته فحرمه حريته وسيادته على أرضه، ونهب خيراته وتمتع بها بدون أن يعطي له فرصة التمتع ولو بالنزر اليسير من هذه الخيرات. مصطفى سعيد الذي رأى ألا بدّ من هجوم على العالم الإمبريالي في عقر داره، هجوم ثقافي حضاري سلاحه الثقافة والجنس والتضليل (السياسة)، هجوم يحسم الصراع أو يجيّره لمصلحة مصطفى سعيد وما يمثله، مصلحة شعبه ووطنه، لكي تتسنى له فرصة العودة إلى وطنه ليخوض المعركة الأخرى الضرورية مع القوالب الرجعية المتسلطة في مجتمعه، والتي بدون حسمها لن يستطيع هذا المجتمع النهوض من جديد ومتابعة حياته بحرية وكرامة. وما الأوضاع السائدة في العالم العربي اليوم إلا دليل على أن الطيب صالح يعي تمام الوعي أنّ مشوار مصطفى سعيد، وبعده حسنة والراوي، لم يكتمل بعد، وأنّ صرخات الراوي بطلب النجدة ما زالت مدوية لا بد أن تصل إلى من سيتابع الطريق" إن ما أضافه محمد هيبى عن مصطفى سعيد هو كلام فى الهواء لا يقدم ولا يؤخر. إنه ليس أكثر من شعارات مدوية طنانة فارغة من المضمون الحقيقى. وبالله عليك، أيها القارئ، كيف ينقلب الحال فيطلب الراوى النجدة ممن قال محمد هيبى نفسه إنه قد أتى لنجدتهم؟ صدق المثل القائل: جئتك يا عبد المعين لتعيننى فوجدتك يا عبد المعين بحاجة إلى من يعينك. ومعنى هذا أن ما قاله هيبى هو، كما قلت أكثر من مرة، كلام فارغ!
    وهناك أيضا قضية إكراه حسنة بنت محمود على الزواج من ود الريس. لقد رفضت حسنة هذه الفكرة مُذْ سمعت بها، لكن ود الريس أصر على أن تكون من نصيبه مؤكدا أن النساء لا ينبغى أن يكون لهن رأى فى هذه المسألة، إذ هى أمر يقرره الرجال وحدهم، وأنه سوف يفاتح أباها فى ذلك الموضوع ويتفق معه على الاقتران بها. وقد كان ثمرة هذا الإكراه أنها قتلت ود الريس وقتلت نفسها قتلة شنيعة. ولمثل ذلك الموقف من ود الريس ووالد حسنة تُتَّهم المجتمعات العربية والإسلامية بأنها مجتمعات تظلم المرأة وتمكن الرجل من قهرها وإجبارها على فعل ما لا تحب، وهو ما يسمى بـ"الأبوية"، أو إذا شئنا الرطانة بالمصطلحات الأجنبية: "البطرياركية". والحق أن هذا ظلم مبين للمرأة وإجحاف بها وعدوان جلف عليها وعلى ما أتى به سيدنا محمد من تكريم للنساء ورحمة بهن وإعلاء من شأنهن ورفع للغبن عنهن وإعطائهن ذات الحقوق التى تُعْطَى الرجال وعدم التمييز بينهن وبينهم فيما عدا قوامة البيت، التى يسندها الإسلام للرجل.
    والغريب المريب أن يعزو بعض الدارسين إكراه المجتمع لحسنة بنت محمود على الزواج من ود الريس على خلاف رغبتها وإرادتها إلى الفكر الدينى المتحجر مع أن هذا غير صحيح، إذ الدين يقف فى صف حسنة تماما على ما سوف نبين بعد قليل. ونتحدى من يقول خلاف ذلك. وعلى الباحثين أن يَتَحَرَّوُا الحقيقة إن كانوا جاهلين أو يَصْدُقوا القارئ فيما يقولون ويكفوا عن الكذب والادعاء الباطل على الإسلام. ففى مقاله المذكور آنفا يقول محمد هيبى، الذى يأخذ كثيرا مما فى مقال محمد رشد: "علاقة الأنا والآخر في موسم الهجرة إلى الشمال" المنشور فى موقع "ديوان العرب" فى ٣١/ 1/ ٢٠٠٩م: "حسنة بنت محمود هي، في رأينا، الوجه المشرق في الصراع داخل المجتمع السوداني الأفريقي العربي أو الشرقي. وليس عبثا اختيار الطيب صالح للاسم: "حسنة". هي الوجه المشرق الذي رفض الظلم والظلام برفضه للقوالب الاجتماعية والدينية الثابتة. حاولتْ تغييرها فدفعت الثمن غاليا، ولكن عن إيمان ورغبة بدفع الثمن لكسر تلك القوالب، مفضلة ذلك على الرضوخ لها. يتمثل ذلك بوضوح في محاولة حسنة الخروج عن المألوف في انتقاء الزوج، ورفضها الزواج من ود الريس وما يمثله من قوالب رجعية جاهزة وثابتة، والذي مثل باغتصابه لحسنة اغتصاب هذه القوالب الرجعية للواقع العربي. ولما فشلت حسنة في محاولتها، كإشارة إلى قوة تلك القوالب الجاهزة وتغلغلها في المجتمع السوداني/ العربي/ الشرقي، آثرت النهاية المأساوية بقتل ود الريس وانتحارها، وما في ذلك من إشارة إلى قوة الرفض والحاجة إليها وإلى التضحية من أجل بلوغ الهدف: التغيير من أجل الانعتاق والحرية.
    ومن نفس المنطلق يتساءل محمد رشد: ولماذا تفضل حسنة بنت محمود أرملة مصطفى سعيد الراوي على جميع من تقدموا لخطبتها، وحين أرغمها أهلها على الزواج من ود الريس قتلته وانتحرت لو لم تكن قد رأت في الراوي استمرارا لزوجها الذي لقحها بأفكاره ومدنيته، فلما مات أرادت أن تستمر في نفس الطريق الذي بدأته معه، ولم يكن ود الريس ليمثل لها المعين والمساعد؟ ويبدو واضحا هنا أنها رأت في الراوي المعين والمساعد، ولكن الفكر الاجتماعي والديني المتحجر والمسيطر في المجتمع لم يمكنهما من المواصلة، فماتت حسنة بنت محمود، وصرخ الراوي صرخته المدوية والمعبرة: "النجدة. النجدة" كتعبير عن طلب الحياة، والتي ما زال صداها يتردد في أجواء العالم العربي كله ليوقظ الضمائر ويشحذ الهمم بألا بدّ من تضافر القوى الخيرة النيرة لتستمرّ الحياة الحرة الكريمة".
    والحق أن ما قيل عن الفكر الدينى الرجعى المتحجر هو كذب فى كذب. لو قيل إن المسؤول عن ذلك هو التقاليد الاجتماعية المتخلفة لقلنا: نعم ونعام عين. وهو ما قاله د. جابر عصفور فى مقاله الآنف الذكر، إذ ذكر أن ود الريس قد "فرض عليها نفسه بحكم التقاليد والمال"، ولم يحاول أن يحمِّل الدين وزر التقاليد المتخلفة. أما مساس الدين والتحرش به تحت زعم إدانة الفكر الدينى المتحجر فهو سخف يحتاج إلى من يصكه فى وجهه، وبخاصة أن الذين استنكروا موقف حسنة من ود الريس وقهروها على الاقتران به ضد رغبتها لم يتحججوا بالدين ولم يشيروا إليه فى كلامهم على أى نحو بل كان كلامهم منصبا على التقاليد الاجتماعية. فلماذا حَشْر الدين هنا؟ وهذا إن كانت التقاليد فعلا تُكْرِه امرأة مثل حسنة بنت محمود على الزواج برجل لا تريده، فقد نفت ذلك زوجة د. عبد الله الطيب البريطانية فى مقال لها عن رواية الطيب صالح يجده القارئ بنصه كاملا فى نهاية هذا الفصل، إذ قالت بالحرف إن "قصة حسنة وزواجها الثاني منافٍ للواقع حيث إن التقاليد القروية تمنح الأرامل الحرية في اختيار الزوج على عكس العذراوات". وعلى أية حال فموقف الإسلام من إجبار النساء على ا لزواج ممن لا يردن الاقتران به معروف تماما: لقد ألح الرسول الكريم على أن أمر الزواج لا يصح ولا يحل أن يتم بمعزل عن علم الفتاة أو المرأة أو على عكس رغبتها. ومشهورة تلك القصة التى تحكى رفض إحدى الفتيات المسلمات على عهد النبى عليه السلام خِطْبة ابن عمها لها لأن والدها وافق على الأمر دون استشارتها. وحين علم النبى بذلك أعلن فى حسم أن النصف الحلو هو صاحبُ المصلحة فى هذا الأمر، ومن ثم فهو الوحيد الذى يملك الحق فى القبول أو الرفض، وأنه لا يحل إكراهه على شىء. وعندما اطمأنت الفتاة المذكورة إلى أن الإسلام يقف فى صفها ويرفض إتمام الزواج من دون رغبتها صرحت بموافقتها على الزيجة بعد أن نجحت فى تعريف أبيها بأن الأمر أمرها هى وأن الزواج لا يمكن أن يقع من غير أخذ رأيها والحصول على موافقتها. وبهذا حسمت المسألة لصالح المرأة. فكيف نأتى نحن المسلمين بعد ذلك ونقوض ما بناه النبى عليه السلام ونجبر نساءنا على الاقتران بمن لا يحببن. وعجيب أمر ود الريس، الذى يصر رغم أنف حسنة على تزوجها بالقوة والإكراه. ترى أين غابت الرجولة والكرامة والحساسية الإنسانية واحترام شريعة الإسلام حتى ليريد أن يحصل على ما يريده منها بقوة الأظافر والأسنان وكأنه وحش كاسر مسعور؟ لقد قيل قديما: كل شىء يصح نيله بالقوة إلا الحب، فإنه لا يصلح إلا بالرضا.
    إلا أننى مع هذا لا أستطيع أن أفهم الأسلوب العنيف البشع الذى عبرت به حسنة بنت محمود عن كراهيتها للزواج من ود الريس منذ البداية. ذلك أنها امرأة أمية، ولم يصدر عنها من الكلام والمواقف ما يدل على أنها كانت مُوَلَّهة بمصطفى سعيد إلى الحد الذى لا يمكن أن تطيق أى زوج آخر بعده، ولم يعرض لنا المؤلف من ماضيها ما يسوغ منها ذلك الموقف المتصلب العنيف. بل لقد سألها الراوى عن رأيها فى زوجها قبل اقترانها بود الريس، فلم تقل ما يفهم منه أنها كانت تحبه ذلك الحب الذى لا يقبل أن يحل أى رجل بعده فى قلبها أو حياتها، وبخاصة أنها لم تكن تمثل له شيئا خاصا لدرجة أنه قد أخفى عنها كتبه ورسومه وأسراره فى غرفة لم تدخلها يوما، ولم يعطها مفتاحها، ولم تفكر هى قط فى سؤاله عما تحتويه، بل لم تكن تعرف شيئا عن ماضيه ولا أنه أستاذ جامعى سابق فى جامعة بريطانية. وهذا إن كان لها أن تفهم دلالة أى شىء من ذلك. إننى لا أنكر عليها حقها فى رفض هذا الظلم الجلف اللاإنسانى الذى وقع عليها بتزويجها كرها من ود الريس، لكن شخصيتها التى قدمها لنا المؤلف فى عمله الروائى لا تجعلنا نتوقع منها ذلك العنف الشنيع. وهذا كل ما هنالك. صحيح أنها هددت بأن تقتل ود الريس وتقتل نفسها لو أُجْبِرَتْ على تزوجه، لكنْ كَمْ من الرجال والنساء، وبخاصة فى مجتمعاتنا، يقولون ما لا يفعلون، ويهددون بما لا ينفذون! وأيا ما يكن الحال فمن اللافت للنظر ارتباط الجنس بالعنف والدماء فى الرواية سواء فى علاقات مصطفى سعيد بالنسوة البريطانيات أو فى زواج ود الريس بأرملة مصطفى سعيد.
    وثالثة القضايا التى أريد تناولها هى القضية التى يمثلها الفصل الأخير من الرواية. وهذا أولا نصه كاملا، وهو يحكى ما فعله الراوى عقب دخوله غرفة مصطفى سعيد التى لم يَلِجْها أحد غيره من قَبْلُ واطّلاعه على كثير من أوراق الرجل وأسراره الحميمية ومعرفته تفاصيل ما كان مصطفى قد حكاه له عن حياته فى بريطانيا وعلاقاته بالنساء هناك بما فيهن زوجته التى قتلها ودخل السجن بسببها: "دخلتُ الماء عاريًا تمامًا كما ولدتني أمي. أحسستُ برجفة أول ما لامست الماء البارد، ثم تحولت الرجفة إلى يقظة. النهر ليس ممتلئًا كأيام الفيضان ولا صغير المجرى كأيام التحاريق. لقد أطفأتُ الشموع وأغلقت باب الغرفة وأغلقت باب الحوش دون أن أفعل شيئًا. حريق آخر لا يقدم ولا يؤخر. تركتُه يتحدث وخرجتُ لم أَدَعْه يكمل القصة. فكرت أن أذهب وأقف على قبرها. فكرت أن أرمي المفتاح حيث لا يجده أحد. ثم عدلت. أعمال لا معنى لها، ومع ذلك لا بد من القيام بعمل ما.
    وقادتني قدماي إلى الشاطئ، وقد لاحت تباشير الفجر في الشرق. سأنفِّس عن غيظي بالسباحة. كانت الأشياء على الشاطئين نصف واضحة، تبين وتختفي، بين النور والظلام. كان يدوي بصوته القديم المألوف، متحركًا كأنه ساكن. لا صوت غير دوي النهر وطقطقة مكنات الماء غير بعيد. وأخذت أسبح نحو الشاطئ الشمالي. وظللت أسبح وأسبح حتى استقرت حركات جسمي مع قوى الماء إلى تناسق مريح. لم أعد أفكر وأنا أتحرك إلى الأمام على سطح الماء. وقع ضربات ذراعي في الماء، وحركة ساقي، وصوت زفيري بالنفس، ودوي النهر، وصوت المكنة تطقطق على الشاطئ. لا أصوات غير ذلك. ومضيت أسبح وأسبح، وقد استقر عزمي على بلوغ الشاطئ الشمالي. هذا هو الهدف. كان الشاطئ أمامي يعلو ويهبط، والأصوات تنقطع كلية ثم تضج. وقليلًا قليلًا لم أعد أسمع سوى دويّ النهر. ثم أصبحت كأنني في بهو واسع تتجاوب أصداؤه. والشاطئ يعلو ويهبط، ودوي النهر يغور ويطفو. كنت أرى أمامي نصف دائرة. ثم أصبحت بين العَمَي والبصر. كنت أعي ولا أعي. هل أنا نائم أم يقظان؟ هل أنا حي أم ميت؟ ومع ذلك كنت ما أزال متمسكًا بخيط رفيع واهن: الإحساس بأن الهدف أمامي لا تحتي، وأنني يجب أن أتحرك إلى الأمام لا إلى الأسفل. لكن الخيط وَهَنَ حتى كاد ينقطع، ووصلت إلى نقطة أحسست فيها أن قوى النهر في القاع تشدني إليها. سَرَى الخَدَرُ في ساقي وفي ذراعي، اتسع البهو وتسارع تجاوب الأصداء الآن.
    وفجأة، وبقوة لا أدري من أين جاءتني، رفعت قامتي في الماء. سمعت دوي النهر وطقطقة مكنة الماء. تلفتُّ يَمْنَةً ويَسْرَةً، فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشَّمال والجنوب. لن أستطيع المضيّ، ولن أستطيع العودة. انقلبتُ على ظهري وظللتُ ساكنًا أحرك ذراعي وساقي بصعوبة بالقدر الذي يبقيني طافيًا على السطح. كنت أحس بقوى النهر الهدامة تشدني إلى أسفل، وبالتيار يدفعني إلى الشاطئ الجنوبي في زاوية منحنية. لن أستطيع أن أحفظ توازني مدة طويلة. إن عاجلًا أو آجلًا ستشدني قوى النهر إلى القاع. وفي حالة بين الحياة والموت رأيت أسرابًا من القطا متجهة شمالًا. هل نحن في موسم الشتاء أو الصيف؟ هل هي رحلة أم هجرة؟ وأحسست أنني استسلم لقوى النهر الهدامة. أحسست بساقيَّ تجران بقية جسمي إلى أسفل. في لحظة لا أدري هل طالت أم قصرت تحول دوي النهر إلى ضوضاء مجلجلة، وفي اللحظة عينها لمع ضوء حاد كأنه لمع برق. ثم ساد السكون والظلام فترة لا أعلم طولها، بعدها لمحتُ السماء تبعد وتقرب، والشاطئ يعلو ويهبط. وأحسست فجأة برغبة جارفة إلى سيجارة. لم تكن مجرد رغبة. كانت جوعًا. كانت ظمأ. وقد كانت تلك لحظة اليقظة من الكابوس.
    استقرت السماء واستقر الشاطئ، وسمعت طقطقة مكنة الماء، وأحسست ببرودة الماء في جسمي. كان ذهني قد صفا حينئذ، وتحددت علاقتي بالنهر: إنني طاف فوق الماء، ولكنني لست جزءًا منه. فكرت أنني إذا متُّ في تلك اللحظة فإنني أكون قد متُّ كما وُلِدْتُ، دون إرادتي. طول حياتي لم أختر ولم أقرر. إنني أقرر الآن. إنني أختار الحياة. سأحيا لأن ثمة أناس قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن ولأن عليَّ واجبات يجب أن أؤديها. لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى. وإذا كنت لا أستطيع أن أغفر فسأحاول أن أنسى. سأحيا بالقوة والمكر. وحركت قدمي وذراعي بصعوبة وعنف حتى صارت قامتي كلها فوق الماء. وبكل ما بقيت لي من طاقة صرخت، وكأنني ممثل هزلي يصيح في مسرح: النجدة. النجدة".
    وأول شىء يفد على الذهن هو هل مات الراوى فى النهر أو استطاع النجاة؟ فإن كان قد مات فمن يا ترى نقل لنا كل ما حكاه لنا فى هذه الرواية؟ هذه ثغرة خطيرة فى الرواية تنسفها كلها من أساسها. وإن كان قد بقى على قيد الحياة فلماذا لم يخبرنا بما حدث له بعد صياحه بالنجدة؟ ذلك أنه لا يصح أن يلعب معنا لعبة الاستغماءة، وإلا فما معنى ذلك الصمت عن باقى قصته؟ ثم هو يقول إنه، حينما كان فى النهر، لم يكن يعرف أكان الفصل فصل الشتاء أم فصل الصيف. بالله عليكم أيها القراء أهذا كلام يدخل العقل؟ أَوَفَقَدَ الرجل عقله فجأة فلم يعد يعرف أى فصل كان فيه آنذاك؟ ألا يشعر بمقدار حرارة الجو أو برودته على جسمه على الأقل؟ بل أكان يفكر أصلا فى خلع ملابسه والنزول إلى الماء لو كان الجو شتاء؟ ثم هل كانت ظروفه، وهو بين الحياة والموت بل إلى الموت أقرب، لتسمح له بأن يلتفت إلى أسراب القطا؟ وما دام قد التفت إلى أسراب القطا رغم ذلك ألا يعرف الموسم الذى تظهر فيه تلك الأسراب فى ذلك الوقت من الليل؟ والطريف أنه، وهو يصارع الموت المحدق به وسط النهر وتياره الشديد، قد تاقت نفسه إلى سيجارة. فهل هذا وقت للتفكير فى سيجارة؟ أنحن فى ... أم فى شَمِّ وَرْد؟ نعم ما معنى هذه الرغبة الشاذة السخيفة فى وسط النهر، وكأنه لا يصارع النهر بل جالس على الشاطئ مسترخيا، وقد امتد الزمن كله أمامه يصنع فيه وبه ما يشاء؟ وإذا كان قد صاح وهو فى وسط النهر طالبا النجدة فإنه لم يقل لنا هل هب أحد لنجدته أو لا. كذلك سمعناه يقول إن هدفه كان الوصول إلى الشاطئ الشمالى. معنى هذا أنه سوف يصل إلى هناك عاريا كما ولدته أمه تحت أنظار الناس كل الناس. فكيف؟
    قد يقال إن الشاطئ الشمالى للنهر رمز على الحضارة الغربية. فليكن، لكنْ منذ متى كان الراوى مشغولا بتلك القضية؟ لقد كان سلبيا طوال الرواية تجاه ما هو أقل شأنا من ذلك، فلم نر له موقفا واحدا من أى شىء، فكيف تغيرت شخصيته على هذا النحو الحاد فجأة فى النهر وهو قاب شبرين من الهلاك؟ وهل تستلزم الحضارة الغربية انخلاع المسلم من كل ماضيه وهُوِيَّته كما خلع هو ملابسه وصار عاريا بلبوصا؟ أليس فى الإسلام، مهما كان رأى بعض الناس فيه، شىء يستحق ألا نخلعه مع بقية المخلوعات؟ ألا يدعو الإسلام إلى العلم وتشغيل العقل والتحقق من كل شىء قبل الإيمان به أو تصديقه؟ ألا يدعو الإسلام إلى النظافة واعتماد الطب والصيدلة فى معالجة الأدواء بدلا من خرافات المخرِّفين؟ ألا يدعو الإسلام إلى العدل الاجتماعى والتقريب بين الطبقات؟ ألا يدعو الإسلام إلى العمل والكد والعرق ونبذ الكسل والتبلد؟ ألا يدعو الإسلام إلى النظام طريقة حياة؟ ألا يدعو الإسلام إلى احترام قوانين الكون محذرا من الطغيان فى الميزان؟ ألا يدعو الإسلام إلى احترام شريعة المجتمع؟ ألا يدعو الإسلام إلى الكرامة والعزة واللياقة ومراعاة الذوق الكريم الجميل؟ ألم يدع الإسلام ...؟ ألم يدع الإسلام ...؟ ألم يدع الإسلام ...؟ ترى ماذا أقول؟ وماذا لا أقول؟ ثم كيف يستقيم هذا التفسير وقد رأينا الراوى فى بداية الرواية يعبر عن فرحته الشديدة بعودته إلى بلاده واستئناف العيش فى قريته بين أقاربه تحيط به عناصر البيئة التى تربى ونشأ فيها بما يدل على أنه لم يكن يجد نفسه فى بريطانيا بل فى بلاده، وقريته على وجه الخصوص؟ الحق أن نهاية الرواية، كيفما وجهناها، لا تستقيم مثلما لم تستقم أشياء أخرى فى أول العمل وفى صلبه. أنا أرى أن هذه الرواية مفعمة بالثغرات القاتلة وأنها أخذت أكثر من حقها بمراحل. وهذا لو صلح أن يكون الشط الشمالى للنهر رمزا على الحضارة الغربية. لكنه بالتأكيد لا يصلح لأن الساحل الشمالى للنهر كالساحل الجنوبى تخلفا وفسادا كحذوك النعل بالنعل!
    لو كان الكلام عن ساحِلَىِ البحر المتوسط لكان الرمز مفهوما ومقبولا وفى محله تماما. وهو ما صنعه مثلا السعيد نجم فى روايته: "إيطاليا أو الغرق"، التى يصف فيها المحاولات المضنية لمهاجرى دول العالم المتخلفة الفقيرة للوصول بأى سبيل من جنوب المتوسط إلى أوربا عن طريق إيطاليا حتى لو كان فى ذلك حتفهم غرقا فى البحر. وهى رواية بارعة استطاع المؤلف فيها التغلب على مشكلة إسناد السرد إلى شخصية من شخصياتها انتهى الأمر بها إلى الغرق مع الغارقين مما أخذتُه على الطيب صالح فى أحد احتمالَىْ نهاية سارِدِه. فماذا فعل؟ لقد كنت واضعا يدى على قلبى فى نهاية الرواية حين شعرت أن سارد الأحداث سوف يغرق مع من غرقوا، لكن المؤلف غير أسلوب السرد فى الجزء الأخير منها إذ حوله إلى كابوس رآه أحد أصدقاء الغريق فى نومه، فاستيقظ فزعا ورواه بنفسه.
    ثم كيف ينقلب الحال فيطلب الراوى النجدة من هؤلاء الذين يفترض أنه قد أتى لنجدتهم؟ واضح أن الرمز فاشل. أما د. جابر عصفور فيرى أن دخول الراوى الماء عاريًا كما ولدته أمه "يؤكد فكرة العودة إلى الرحم". وهو تفسير حلمنتيشى، إذ لِمَ أراد الراوى العودة إلى الرحم يا ترى؟ وهل النهر بكل ما يمثله من خطورة وهلاك كما رأينا يمكن أن يوازى رحم الأم بما فيه من أمان وراحة تامة للجنين؟ وهل يوجد من يؤمن بوجود الرغبة فى العودة إلى الرحم بين البشر سوى بعض الملتاثين من عُبَّاد الفكر الغربى المرددين لكل مقولة من مقولاته كالببغاوات؟ بالله كيف يمكن أن تخطر هذه الرغبة فى عقل أحد من الأسوياء أو حتى من نزيلى الخانكة الملتاثى النفوس والأذهان؟ أوَكلما طلع أحد الغربيين بشىءٍ فَسْلٍ سخيفٍ خَرَّ عليه نقاد آخر زمن لدينا وجعلوا من ترديده هِجِّيراهم وأخذوا يرتلونه ترتيلا؟ ومن ذلك ما قالته مود بودكين فى كتابها: "Archetypal Patterns in Poetry: Psychological Studies of Imagination " (1934م) عن رغبة البشر فى العودة إلى الرحم، إذ ما إن بلغهم هذا الهراء حتى أخذوا يتهافتون برقاعة على لَوْك هذا المصطلح والزَّجّ به فى كل ما يكتبون، وكأن كلا منهم قد شهد بأم عينيه الناس وهم يعودون إلى أرحام أمهاتهم وتحققوا من صدق ما قالته بودكين هانم، وبهذا صدق المثل القائل: "رِزْق الهُبْل على المجانين". لقد حاولت مرارا وتكرارا أن أتصور كيفية عودة أى بغل بشرى إلى رحم أمه، فأعيانى الأمر ولم أفلح بتاتا. ألا خيبة الله على كل ضحل الفكر يظن نفسه عملاقا بترديد تفاهات الفكر الغربى! ولنفترض أننا تغاضينا عن هذا كله فكيف بالله يتسق القول برغبة الراوى فى العودة إلى رحم أمه مع الزعم برغبته فى إصلاح مجتمعه؟ إن العودة إلى الرحم معناها الرغبة فى الهروب من أعباء الحياة ومسؤولياتها، وهذه نزعة عدمية، بينما الإصلاح يستلزم أن يكون المصلح جريئا مقداما، وشتان هذا وذاك!
    وفى نهاية المطاف نختم بمقال كتبته جريزلدا الطيب زوجة د. عبد الله الطيب الأستاذ الجامعى السودانى المعروف، وهو فى تحليل شخصية مصطفى سعيد والعناصر المكونة لها. وعنوان المقال "من هو مصطفى سعيد بطل "موسم الهجرة إلى الشمال"؟ شاهدة على زمن الرواية وأبطاله تستجمع خيوط القصة". وهو منشور فى جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية فى عدد الأربعاء 11/ 4/ 2007م: "(كاتبة هذا المقال جريزلدا الطيب هي فنانة بريطانية وباحثة في الأدب الأفريقي بلغت اليوم ثمانيناتها. كانت قد تزوجت من عبد الله الطيب، الكاتب السوداني الراحل المعروف، وعايشت الحقبة التي تستوحي منها رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" أحداثها وأبطالها في السودان كما في لندن. وهذه الباحثة تكتب اليوم مفككةً الرواية، باحثةً عن أصول أبطالها في واقع الطيب صالح لا كدارسة أكاديمية فحسب، بل كشاهدٍ حيٍّ على فترة لم يبق منها الكثير من الشهود. إنها قراءة مختلفة ومثيرة لرواية لا تزال تشغل النقاد).
    جيل اليوم يعرف الطيب صالح من خلال كتاباته الروائية والمقالات. ومعلوماتهم عن حياته تعتمد على مقولات وفرضيات معظمها غير صحيح تحيط بفلك هذا الكاتب المشهور وروايته ذائعة الصيت: "موسم الهجرة إلى الشمال".
    وهذه المقالة تغطي فجوة زمنية مهمة تقع بين جيل قراء ومعجبي الطيب صالح الجدد وجيلنا نحن. فأنا أنتمي إلى جيل قديم انطفأ عنه البريق، ولكنه عرف الطيب صالح شخصيا في شبابه، وكذلك عرفت الأشخاص والأحداث التي شكلت، على الأرجح، خلفية لـ«موسم الهجرة الى الشمال» لأنها كانت رابضة في وعي المؤلف. والدراسة هذه هي عملية تحليل لمعرفة مفاتيح رواية "موسم الهجرة الى الشمال" (clef roman à) بدلا من الفكرة السائدة عنها في المحيط الأدبي كسيرة ذاتية للكاتب كما في دراسة سابقة للناقد رجاء النقاش الذي تعرّف على الطيب صالح في الخليج عندما كان الأخير يعمل هناك، وفي غيرها من الدراسات النقدية لنقاد تَبَنَّوْا نفس التحليل رغم أن معظمهم لم يتعرّف على طبيعة الحياة في السودان أو في بريطانيا!
    ونَدَّعِي من طرفنا أن مصطفى سعيد بطل رواية "موسم الهجرة الى الشمال" ليس هو الطيب صالح ولا يستعير جانبا مهما من سيرته. فمن يكون هذا البطل الروائي إذن؟ هذا سؤال مثير ليس علينا أن نُجْفِل من إجابته. ولكن دعونا أولًا نؤسس تحقيقنا على أن مصطفى سعيد ليس ولا يمكن أن يكون سيرة ذاتية للكاتب. الطيب صالح ذهب إلى المملكة المتحدة عام 1952 لينضم الى فريق القسم العربي بالـ"بي بي سي" حيث ظل يعمل هناك على مدى 15 عاما قام فيها بأعمال متميزة، وبدأ وظيفته كمؤلف. ولكن الحقيقة أنه لم يدرس أبدا في أي جامعة في المملكة المتحدة، بينما مصطفى سعيد بطل الرواية يفترض أنه ذهب الى المملكة المتحدة في منتصف العشرينات، وحقق نتائج أكاديمية رفيعة ونجاحا باهرا. وفي الحقيقة أنه لا يوجد سوداني ذهب الى المملكة المتحدة في العشرينات، وهي واحدة من الأحداث المدهشة في الكتاب. ولكن في الثلاثينات ذهب الى المملكة المتحدة كل من الدرديري إسماعيل ويعقوب عثمان لدراسة القانون.
    ما نود تحقيقه الآن هو أن مصطفى سعيد بطل متخيَّل على عدة مستويات في ذهن المؤلف. مصطفى سعيد قد صُنِع من مزج عدة شخصيات التقاهم بالتأكيد الطيب صالح أو سمع بهم عندما ذهب لأول مرة إلى لندن عام 1952. ولكن قبل أن نمعن أو ننطلق في هذه الفرضية علينا أن ننظر الى شخصية البطل ونقسمها الى ثلاثة محاور:
    مصطفى سعيد الأكاديمي السوداني الذي يعيش في لندن.
    مصطفى سعيد دون جوان لندن.
    مصطفى سعيد وعودته الى موطنه الأول.
    يرجح أن مصطفى سعيد الأكاديمي هو شخصية "متكوّنة" من ثلاثة أعضاء في دفعة السودانيين النخبة الذين اخْتِيرُوا بعناية، وأُرْسِلوا بواسطة الحكومة السودانية عام 1945 لجامعات المملكة المتحدة، وكلهم يمثلون شخصيات بطولية في الوعي الوطني الباكر للسودانيين: أحدهم هو د. سعد الدين فوزي، وهو أول سوداني يتخصص في الاقتصاد بجامعة أكسفورد حيث تزوج فتاة هولندية محترمة ومخلصة، وليست شبيهة بالفتيات في الرواية، وحصل على درجة الدكتوراه في العام 1953، وعاد الى السودان حيث شغل منصبا أكاديميا رفيعا إلى أن تُوُفِّيَ بالسرطان عام 1959. ولكن قبل ذلك التاريخ في الخمسينات حصل عبد الله الطيب على درجة الدكتوراه من جامعة لندن في اللغة العربية وعُيِّن بعدها محاضرا في كلية الدراسات الأفريقية والشرقية بالجامعة نفسها، وقبلها بعامين تزوج من فتاة إنجليزية، ومرة أخرى ليست شبيهة بصور فتيات الرواية.
    إذن هنا مَزَج الطيب صالح الشخصيات الثلاثة: سعد الدين وحصوله على شهادة بالاقتصاد من أكسفورد، والدكتور عبد الله الطيب وتعيينه محاضرا في جامعة لندن. أما الشخص الأكاديمي السوداني الثالث الذي اقتبس الطيب صالح جزءا من شخصيته لتمثل الصفة الثالثة عند مصطفى سعيد، وهي "الدون جوان" إلى حد ما، فهو الدكتور أحمد الطيب. هذا الرجل كان جذابا وشخصية معقدة ومفكرا رومانسيا. وكما حال الأكاديميين من جيله شغله الصراع النفسي بين حياته الحاضرة وإرثه القديم. كما كان مجروح العواطف ومهشما بالطموح السياسي ومنافسات الوظيفة لجيله. وكطالب يافع فإن أحمد الطيب كان معجبا جدا بـ د. هـ. لورنس وفكرة "الحب الحر". ومن المحتمل أنه عند ذهابه الى إنجلترا كان يضع في ذهنه ونصب عينيه إمكانية إقامة علاقات رومانسية مع الفتيات الإنجليزيات. ولكن أول رحلة له للمملكة المتحدة كانت عام 1945- 46، وهي فترة قصيرة، ولكن زيارته الثانية عام 1951- 1954 أنجز فيها درجة الدكتوراه في الأدب العربي وتزوج من سيدة بريطانية. وقد فشل هذا الزواج، والتقي أحمد بزوجة سودانية لطيفة والتي لحد ما تشابه حسنة. ولكن أحمد الطيب لم يستقر في زواجه كما هو متوقع، وانتهت حياته في السودان فجأة وبطريقة غامضة ومأساوية. وهو بكل تأكيد معروف تماما إلى الطيب صالح، وكان يعيش في لندن عندما ذهب إليها الكاتب لأول مرة.
    وعامل آخر يجب أن يُذْكَر في الربط بين الدكتور أحمد الطيب ومصطفى سعيد هو أن أحمد الطيب كانت له علاقة وثيقة جدا بصحافي لامع شاب، وهو بشير محمد سعيد، جاء من منطقة أو حياة قروية تشابه إلى حد بعيد بيئة الراوي في "موسم الهجرة الى الشمال".
    وإذا عدنا لشخصية الدون جوان عند مصطفى سعيد فإن الطيب صالح لم تكن لديه مبررات عظيمة أو مقنعة لإلقاء نفسه على أجساد النساء الإنجليزيات كانتقام من الإمبريالية لوطنه. أولا، ولنقل بأمانة، إن الإمبريالية المذكورة في الرواية ليست بهذا السوء. فإذا كان البريطانيون قد احتلوا السودان، وإذا ما كانت لديهم مغامرات في أجزاء من هذا البلد، فذلك لأن التركيب الاجتماعي في تلك المناطق يسمح بإقامة مثل هذه العلاقات بل وحتى يشجعها. ولكن الاستعماريين البريطانيين لم يؤذوا النساء في شمال السودان الإسلامي. لذا فإنه ليس هناك تبرير منطقي لهذا الانتقام. وترينا الرواية أن الفتيات الإنجليزيات كن ينظرن إلى الطلاب الأفارقة كظاهرة مثيرة جديدة تسبح في أفق حياتهن الجنسية والاجتماعية. وفي رأيي أن الكاتب النيجيري شينوا أكليشي تعامل مع هذا الوضع في روايته: "No longer at ease" وبطلِها أوبي بطريقة أكثر واقعية وقابلية للتصديق من رواية مصطفى سعيد، الذي تعامل مع الوضع العام كله وكأنه حقيقة اجتماعية في ذلك الزمان. ولذا علينا هنا توضيح الأمر. ففكرة أن إعجاب النساء البيض بالرجال الأفارقة تتبع لأسطورة الرجل الأفريقي القوي جنسيا، هذه الفكرة موجودة لدى العرب أنفسهم، ومؤكدة في بداية رواية "ألف ليلة وليلة". فشهرزاد مهددة بالموت من زوجها الملك شهريار، الذي خانته زوجته الأولى مع عبد زنجي.
    كما هناك توضيح آخر يجب أن يوضع في الاعتبار: أن ذلك الجيل من الفتيات والنساء البريطانيات اللواتي تعرّفن على الطلاب الأفارقة في بلادهن في تلك الفترة هن بنات لأمهات حاربن طويلا لأجل المساواة مع الرجل وتخلصن مما يسمى بـ"عقدة أو أسطورة الرجل القوي". ولكن بلا وعي منهن فإن هؤلاء الفتيات كن يبحثن عن الذكر "الجنتلمان" أو "الحمش" باللهجة المصرية، وهو الرجل الذي يوافق أدبياتهن وما قرأنه في روايات "جين آير" و"مرتفعات ويذرنج" ونموذج الرجل الغريب الأسود، وهذا ما جعلهن يتوقعن أن يجدنها عند الرجال الأفارقة الذين يبدون واثقين من أنفسهم وقوتهم وشجاعتهم وحمايتهم للمرأة وقناعتهم الثابتة بأنها المخلوق الضعيف الذي يحتاج الى الحماية! وهذا ما فشل الطيب صالح في تصويره. كما أن الفتيات البريطانيات اللواتي أقمن علاقات مع الطلاب الأفارقة كن يعملن على مساعدة هؤلاء الطلاب في بحوثهم الجامعية وكتابتها باللغة الإنجليزية الرصينة. لذا فليس الشكل الخارجي الجذاب لمصطفى سعيد هو الذي قاد الفتيات الإنجليزيات لأن يقعن في غرامه من أول وهلة!
    ولحسن الحظ أنه لم تكن هناك قضية جنائية لرجل سوداني قتل فيها سيدة بريطانية أو عشيقة، ولكن كانت هناك قصة مأساوية حدثت في الخمسينات تناقلتها الصحف بتغطية واسعة. كانت القصة بين فتاة بريطانية تدعى: ناوومي بيدوك وفتاها السوداني عبد الرحمن آدم. كان الاثنان يدرسان بجامعة كمبريدج، ونشأت بينهما علاقة عاطفية. وقام والد الفتى بزيارة مفاجئة إلى إنجلترا وعارض هذه العلاقة والزواج المخطط له بين الشابين، مما أعقبه انتحار الفتى بالغاز، ومن ثم انتحار الفتاة ناوومي بعده بأيام، وبنفس الوسيلة. وكان والدها العطوف المتسامح بروفسور دان بيدو قد ألقى كلمة حزينة في التحقيق تعاطف فيها مع قصة حب ابنته وأنه كان يتمنى لها زواجا سعيدا. وهو خطاب يشبه في عاطفيته الذي ألقاه والد الفتاة التي قتلها مصطفى سعيد في روايته للمحكمة.
    بل حتى مشهد المحاكمة نفسه نستطيع ان نجد له من مقابل. فقد حدثت في العام 1947 قضية مشهورة جدا حيث قام حارس مطعم سوداني يدعى: محمد عباس أُلْقِيَ عليه القبض لإطلاقه النار على رجل جامايكي، وقد حُكِم عليه بالقتل الخطإ. وهذه القضية أثارت حساسية لدى المجتمع السوداني بلندن حيث إن كل السودانيين كانوا معتادين الذهاب الى ذلك المطعم في إيست إند ليتناولوا فيه الأطباق السودانية المحببة. وهذه الحادثة كان قد سجلها عبد الله الطيب في صحيفة "الأيام" التي تصدر في الخرطوم عام 1954.
    وفي الحقيقة كانت براعة من الطيب صالح أن يقوم بخلط كل تلك الشخصيات والأحداث وإخراج عمل فني رائع منها. أما أكثر الجوانب المثيرة والمحيطة بمصطفى سعيد فهي عودته لبلده كمواطن غير سعيد. وظاهرة عدم الرضا وعدم التوافق مع المجتمع الأصل كان قد تناولها عدد من الكتاب الأفارقة. وهي مشاعر يمكن الإحساس بها في الروايات: "No Longer at Ease وThe Beautiful one is not yet born وMorning yet in Creation وNot yet Uhuru". والقرية في الرواية شبيهة بقرية الطيب صالح، التي قمت بزيارتها بالمنطقة الشمالية. وهنا نجد السيرة الذاتية بالتأكيد قد دخلت في نسيج الرواية. وتلاقي الأجيال هو حقيقي في القرى، إلا أن التعليقات التي قالتها المرأة العجوز في مجتمع محافظ كمجتمعات القرى يجعل المرء يتساءل: من أين أتى الطيب صالح بهذه المرأة؟ وقصة حسنة وزواجها الثاني مناف للواقع حيث إن التقاليد القروية تمنح الأرامل الحرية في اختيار الزوج على عكس العذراوات.
    وفي القرى حيث إن أي شخص له الحرية في التدخل في حياة الشخص الآخر وشؤونه وحيث الناس دائما في حالة اجتماع مع بعضهم البعض. ويمكننا تخيل مدى الفضول في قرية نائية تجاه كل جديد وافد. فمن الطبيعي أن شخصا مثقفا عائدا من أوروبا يريد أن تكون له مملكته الخاصة. وهذه الغرفة الخاصة بمصطفى سعيد شبيهة بغرفة كانت في حي العرب بأم درمان، وصاحبها هو المرحوم محمد صالح الشنقيطي. وهو شخصية سودانية لامعة، ومن النخب المثقفة. وهو أيضا أول قاض وبرلماني ضليع تلقى تعليمه ببيروت. وقد جاء ذكره وذكر غرفته في رواية "Black Vanguard" للكاتب السوري إدوارد عطية التي صدرت في الأربعينات، والذي كان يعمل في مخابرات الجيش البريطاني في السودان. وبالطبع كانت هناك الزيارات العديدة الى منزل محمد صالح الشنقيطي بعد تناول الشاي، وبعدها بالتأكيد يذهبون الى الغرفة المهيأة بالأثاث في "الديوان" (الاسم القديم للصالون) المحاط بالزهور. وهي غرفة تبدو عادية من الخارج يهتم بها الشنقيطي: يغلقها ويفتحها بنفسه، والكتب بها مرصوصة من الأرض إلى السقف، ومفروشة بالسجاجيد الفارسية الثمينة والتحف الرومانية. وهذه المكتبة الخاصة تشابه بصورة دقيقة غرفة مصطفى سعيد حيث يسمح للراوي بإلقاء نظرة على الغرفة. وتم إهداء محتويات المكتبة الى جامعة الخرطوم في الذكرى السنوية لرحيله.
    وبذا نكون قد حققنا تركيبة الشخصية المعقدة لمصطفى سعيد في هذه الرواية الشهيرة: "موسم الهجرة الى الشمال" ليس استنادا فقط إلى وثائق قرأناها، وإنما إلى حقبة كاملة سنحت الفرصة أن أكون شاهدة على أحداثها".
















    التعديل الأخير تم بواسطة إبراهيم عوض ; 27/01/2017 الساعة 03:47 PM

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •