قصة قصيرة

بائع الفخار

بقلم / محمود طبل


اختار لنفسه مكانا ومكانة ، حيث قبع بدكانه الطينى فى ملتقى شارعين متباعدين ، احداهما يؤدى الى سوق الخميس ذهابا كثيفا ، والأخر يمثل طريقا سهلا ميسرا للعودة.
أى دهاء امتلكه حيث يختتم المتجول والمتسكع والحالم جولته مرورا بدكانه ليشترى ما يلزمه من أوانى الفخار المتباينة فى اللون والحجم والشكل والغرض المرجو منها، حيث كان الشراء يمثل متعة وربما مازال.
وكأنى أهادى بيتى مزيدا من وسائل المتعة والرخاء .. هكذا فرض العرف السائد يومها شروط البيع والشراء ليعلن فى قرارة نفسه وبصوت مسموع ( عيب وفأل غير حسن أن أعود من السوق خاوى الوفاض )، يتمتم انه يوم السوق لايتكرر الترحال اليه الا صبيحة كل خميس .
يحمل الرائح والغاد منه مااشتهته نفسه مودعة ظمأ اسبوع كاملا ليستقل أخر بمزيد من الرى والاطعام .
كان لتجوالى فى السوق دلالة عشق ومهارة ونفس تواقة الى كل جديد ، اشتم الطازج فرحا ، وازيح وجهى عن الذابل ، أبخس ثمنه تارة ،وتارة مشفقا .
أما سيدات السوق ، فترى منهن العجب ..وكيف لا ؟! حيث يضعن ما صنعته أيديهن طوال أسبوعا أو أياما وربما شهور ،حيث تأخذك روعة الصنعة وتناسق الألوان بين المطرز والمزركش ، وبين الامع والخافت والصارخ ،مايلهب النفس والعين معا وربما كثيرا من الجيوب الخرقة ، فترى الشافق على نفسه والحالم بغد أفضل والشاغر فاه اعجابا واشفاقا .
أما صاحبى فعهدى به منذ كنت فى السابعة من عمرى ، أراه فى غدوى ورواحى.. يفترش فخاره ولايحرك فى نفسى ساكنا، افترقنا طويلا وتاهت بنا المسالب والمشارب حتى غدوت فى عقدى الخامس .
التقينا بداخل عيادة طبيب للعيون بشارع على بن أبى طالب وبميدان شهير من ميادين المحروسة الجديدة ، كنت على موعد مع لوحة زيتية لبائع الفخار صاحبى القديم ، تتوسط قاعة الاستقبال .
تجلس أسفل الصورة تماما سيدة فى عقدها الثالث ، يشغلها صبيها الذى يشبهها فى كل حركاتها وانفعالتها ، والى جوارها ابنتها التائهة بين وضع هاتفها المحمول على جانبها الأيمن من وجهها أم الأيسر فى حركات متواليات ، بينما أسترق النظرة تلو الأخرى ، أفتش عن ضالتى ، أعايش الزمن اللاهث ، أبحث عن تفاصيل دقيقة ، تعكر صفوى حركات الطفل النكد ، لكن صاحبى لم يكترث كثيرا بمن حوله كسابق عهده ، بل بدا حالما حانيا ، يلمس فخاره بكلتا راحتيه ، يقربه منى وأقترب منه ، أشتم رائحة الطين وأعود الى ذاتى ، الى سفر تكوينى .

تمت