هل الأنثى هى الأصل؟ مع نوال السعداوى كرة أخرى
بقلم إبراهيم عوض


"الأنثى هى الأصل" كتاب من كتب د. نوال السعداوى تحاول أن تثبت فيه أن الأنثى هى أصل البشرية وأن الرجل أقل منها فى كل شىء، وأن المجتمعات الإنسانية كانت فى أصل أمرها أموية تدير المرأة شؤونها وتتحكم فى الرجل فلا يخرج عن طوعها، وينتسب الأولاد إليها ويحبونها ويكرهون أباهم، ثم تحولت الدفة فتولى الرجل أمر الأسرة. ومن يومها وهو يظلم المرأة ظلما شنيعا لا معنى له ولا رحمة فيه. وغاية المؤلفة من الكتاب أن تُعِيد الأمورَ سيرتها الأولى التى كانت عليها، فترجع السيادة على الأسرة للمرأة، ويُنْسَب الأولاد والبنات إليها من جديد كما كان الحال قديما حسب مزاعمها. وأول شىء يلحظه قارئ كتاب نوال السعداوى أن كثيرا من الكلام الذى يتضمنه لا يعقله العاقلون ولا يفهمونه ولا يتصورون أن يخطر على بال أحد أو يمر على لسانه. فهى مثلا تقول (ص147) إن الحقائق العلمية تتغير من عصر إلى عصر، ولكن الإنسان يميز الحقائق الصحيحة من الحقائق المزيفة. ترى هل هناك حقيقة مزيفة؟ إذن فهى ليست حقيقة. وهذا يدل على أن أفكارها غير منضبطة، وعبارتها فضفاضة رغم تشدقها بالعلم والمنهج العلمى. ومع هذا نراها تقول (ص183) إن عبقرية العباقرة من العلماء تكمن فى القدرة المستمرة على نقض القديم وتقبل الأفكار الجديدة إذا كانت أكثر اقترابا من الحقيقة. أية حقيقة؟ هل بقيت هناك حقيقة فى أيدينا نقيس عليها مدى اقتراب الجديد منها أو ابتعاده عنها بعدما قالت إننا لا نعرف الحقيقة، وإن الحقائق متغيرة غير ثابتة؟
وفى الصفحة السابعة والأربعين نراها تؤكد أنه قد مر وقت كان فيه العالم مكونا من الحقائق الثابتة المقدسة، والآن لم يعد كذلك. وهذا أيضا كلام غير مفهوم وغير منضبط. إن تكوين العالم ثابت، أما فهمنا له فهو المتغير، ولكن فهمنا له ليس هو الحقيقة، بل محطة فى طريقنا للوصول إلى الحقيقة. إلا أنها، فيما يبدو، لا تستطيع تصور هذا ولا التعبير عنه. كما تقول (ص148) إن أى بحث لا يضع فى حسابه البحث عن الحقيقة هو بحث غير علمى، مع أنها قالت آنفا إن الحقيقة متغيرة وغير ثابتة. فأية حقيقة يمكن أن يتوصل إليها أى بحث علمى إذا لم تكن هناك مثل هذه الحقيقة؟
ومع ذلك كله نجدها (ص150) تؤكد بقلب جامد أنه لا فرق بين العلم والفن فى كتابة بحث عن المرأة، بحجة أن كليهما يهدف إلى كشف الحقيقة. فأية حقيقة، والحقائق عندها غير ثابتة بل متغيرة على الدوام؟ وأطرف منه أن تقول (ص150) إن العلم لا يقول الحقيقة بل ينصاع إلى السلطة وغاياتها، ومن ثم فهى لا تثق فيه. وكانت قد قالت قبل ذلك بقليل (ص147) إنه لا سبيل أمامها إلا العلم. فأى تناقض هذا؟ وفى موضع آخر (ص152) نسمعها تقول إن العلم قد أثبت أن أية قيود على الإنسان تعرقل تطوره الطبيعى وتؤخر نموه الفكرى. والسؤال هو: أى علم؟ ألم تقل إن حقائق العلم غير ثابتة؟ ثم هل هناك مجتمع بلا قيود؟ أين هو؟ لو أن أحدا أراد قتل آخر والشرب من دمه، فهل يفعل هذا دون مبالاة بالقيود بناء على ما تقول د. نوال السعداوى؟
أما ما تقوله (ص149- 150) من أن الدين الحق لا يفرق بين إنسان وإنسان، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين فقير وغنى، ولا بين أسود وأبيض، ولا يمكن أن يقول للناس: اكذبوا أو نافقوا أو اكرهوا الآخرين، وأنه يهدف إلى إسعاد البشر وأن يتمتعوا بالصحة السليمة، فهو كلام صحيح ليس فيه ما يمكن أن نأخذه عليه. إلا أن الدين الحق لا يرضى، مع ذلك، ما تريده هى من ممارسة الإنسان لما نهاه عنه ذلك الدين بحجة أن الدين الحق يكره النفاق. بل الدين الحق يأمره بالكف عما نهاه عنه بغض النظر عن مشاعره حتى لو كان يميل إلى ما نهاه عنه. كذلك فقولها (ص150) إن الدين الحق يتفق والحقيقة هو كلام يتناقض مع ما كررتْه من قبل، إذ أنكرتْ مرارا وجود أية حقيقة كما بينّا. ثم نفاجأ بأن الدين عندها هو ما يتوصل إليه الإنسان من فهم للسعادة والصحة الجسدية والنفسية. والمعروف عندنا أن الدين من عند الله لا من عند الإنسان. ومن الممكن أن يخطئ الإنسان، فهل يعد هذا الخطأ دينا؟ ثم أى إنسان وأى مجتمع ذلك الذى يصبح مفهومه للسعادة هو الدين؟ إنها تتكلم ببساطة شديدة السذاجة وتظن أنها تكتب علما!
وتتلخص الفكرة التى يدور حولها الكتاب، حسبما وضحنا آنفا، فى أن "الأنثى هى الأصل" كما جاء فى العنوان، وينبغى من ثم نسبة الأولاد إليها ، وجعل القوامة على الأسرة لها، مع التأكيد بأن المجتمعات البدائية قد عرفت للمرأة أنها أصل الحياة، وجعلتها أقدر وأعلى قيمة من الرجل. وهذا تفكير غشيم، إذ لا أصل هنا ولا فصل، بل الرجل والمرأة كلاهما ذو دور محورى، وبدون أى منهما لا يمكن أن تستمر الحياة. وإذا كان من الرجال من يقول إن آدم هو الأصل، وإن حواء قد خُلِقَتْ من أحد أضلاعه، فالصواب أنهما جميعا خُلِقا من نفس واحدة كما ذكر القرآن أكثر من مرة، بما يدل على أنهما من هذه الناحية متساويان.
أما إن مضت د. نوال السعداوى فى غُلَوَائها فإن العلم يرد عليها بأن المرأة لا يمكنها أن تحمل بدون رجل، مما يدل على أن الأمر مشترك وأن أحدا منهما لا يمكنه الاستقلال به. بل إن الرجل هو الذى يقوم بدور المخصّب لا المرأة، فضلا عن أنه يمكن أن يخصِّب ما لا يحصى من النساء، أما هى فمتى حملت لا ينفع معها تخصيب آخر إلى أن تلد وتمر على الولادة فترة معينة. كما أنه لا يعرف سن الياس، بخلاف المرأة، التى لا تحمل بعد سن معينة، علاوة على أن لها فى كل شهر أوقاتا معلومة تحمل فيها ولا تحمل فى غيرها، أما هو فلا. كذلك فى الحمل لا توجد سوى بويضة واحدة من طرفها فى مقابل ملايين المخصِّبات منه، كل واحد فيها يسعى ليقوم بدور التخصيب، أما هى فدور بويضتها سلبى، إذ تنتظر الحيوان الأقوى كى يقوم بعملية التخصيب. ثم بعد أن يتم التخصيب تتعطل هى عن الحمل والإنجاب إلى أن تضع طفلها، أما الرجل فيظل حرا نشيطا قادرا على التخصيب لما لا نهاية من الناحية النظرية على الأقل حتى لو أُخِذ منه بعض المخصبات فخُصِّبَتْ بها امرأة جديدة. وفضلا عن هذا فإنها لا تستطيع أن تحمل إلا فى غير فترات الطمث، على عكس الرجل، الذى يمكنه التخصيب فى أى وقت. ومعنى هذا بنفس منطقها أنه الأساس، وليست هى. أما إذا قيل إن الولد يكون مؤكد النسبة إلى أمه دون أبيه، فالرد أن هذا معناه اتهام المرأة بالخيانة، وليست الخيانة بالعمل الكريم الذى ينبغى أن تكافَأ عليه المرأة بنسبة الولد إليها، بالضبط مثلما لا يكافَأ الرجل الزانى المعتدِى على عِرْض رجل آخر بنسبة الولد إليه، بل ينسب إلى الرجل الآخر رب الأسرة. وفوق ذلك فمن الممكن أن تسرق المرأة ولد امرأة أخرى وتنسبه إلى نفسها ظلما وزورا، سواء باستبداله بابنها أو أخذه دون مقابل. ومن هنا نتبين أنه لا شىء متيقن فى مسألة نسبة الولد.
وتؤكد المؤلفة (ص154) أن النظام الأسرى الحالى القائم على تولى الأب قوامة الأسرة هو نظام مستحدث لم يكن موجودا قبل ظهور الأديان، وأن السيطرة على البيت كانت فى يد الأم، وكان الأطفال ينسبون إليها، كل هذا دون أن تقدم دليلا على ما تقول وكأنه حقيقة مقررة يعرفها الناس جميعا وفُرِغ من إثباتها، وليس هناك من يشك فيها أو يقول بما يخالفها. وليس هذا بالأسلوب العلمى الذى لا تفتأ تتحدث دائما عنه، وإلا لما عجز إنسان أن يقول ما يحلو له ما دامت المسألة لا تزيد عن إلقاء ما يعن بخاطره أو ما يريد أن يوهم الناس به ثم يمضى دون أن يُعَنِّىَ نفسَه بإثبات صحة ما يتفوه به. والواقع أن قائل ذلك هو باخوفن العالم الأنثروبولوجى المعروف، الذى أصدر كتابا ذكر فيه هذا الكلام، إلا أن نوال السعداوى تجاهلت شيئا كبيرا مما قاله الرجل فى هذه النقطة، وهو أن ذلك النظام المفترض انتشاره قديما سببه تعدد الأزواج بما ينتج عنه من الجهل بالأب الحقيقى للأطفال، فنسبهم المجتمع إلى أمهم لأنها معروفة، وأن المجتمعات البشرية قد هجرت هذا النظام حين هجرت تعدد الأزواج وصار أبو الأطفال معروفا لأنه ليس هناك للمرأة إلا زوج واحد . ولنلاحظ أن كلام باخوفن، مع ذلك، إنما هو مجرد فرض نظرى قابل للصواب والخطإ.
وتضيف د. السعداوى قائلة إن الإنسان فى ذلك الوقت كان يتصرف بطريقة تلقائية حسب مشاعره ورغباته وتفكيره دون عوائق من دين أو فلسفة. ترى هل هذا ممكن؟ الحق الذى لا يمكن أن ينازع فيه أحد، اللهم إلا نوال السعداوى، التى لا يضبط فكرها ولا كلامها منطق، هو أننى مثلا لو أردت تحقيق رغبة ما وأراد غيرى تحقيق نفس هذه الرغبة فلسوف يكون هناك صدام بين الرغبتين، ومن ثم سوف تكون هناك قيود تنعدم معها التلقائية التى تتحدث عنها د. السعداوى على هذا النحو الرومانسى الذى لا يصمد لحقائق الواقع الصلبة. لكن الكاتبة، كما قلت، لا تفكر فيما تقول، بل يشجيها هذا الكلام الطنان غير العلمى وغير الواقعى. كذلك هناك مشاعر الغيرة والحسد والحقد والتطلع إلى ما فى أيدى الآخرين. فكيف تكون هناك تلقائية فى هذه الظروف؟ وسواء كانت قصة ابنى آدم حقيقية كما أُومِن، أو رمزية كما قد يظن غيرى، فمغزاها بالنسبة إلى هذا السياق واضح تمام الوضوح.
وهى تعزو هذا الذى تقوله إلى أن البشر كانوا فى ذلك الوقت البعيد يعيشون عيشة بدائية ليس فيها علوم ولا فلسفات. ومعنى هذا أن العلم والفلسفة هما المسؤولان عن الانحراف الذى حدث فى رأيها وترتب عليه أن يتولى الرجل رئاسة الأسرة بدلا من المرأة. ولا شك أن هذه حجة عليها، إذ هى تربط قوامة المرأة على الأسرة بالتخلف العلمى والعقلى، على حين تربط بين التقدم العلمى والعقلى وبين قيام الرجل بهذا الدور. وهى لم تقصد هذا بطبيعة الحال، بل هذا مؤدى ما تقول، وهو ما يدل على تهافت آرائها وعدم إحكامها ما تفكر فيه أو تكتبه. إنما هو كلام يَعِنّ لها فتسجله على الورق بعُجَره وبُجَره دون مراجعة أو تثبت. ومن هنا تكثر مقاتلها الفكرية، ويسهل على كل من يتناول كتاباتها أن يضع يده بسهولة شديدة على نقاط الضعف فيها، وما أكثر نقاط الضعف فيما تفكر فيه وتكتبه!
ومما قالته فى هذا السياق أيضا أن المجتمع الإنسانى فى تلك العصور البدائية القديمة قد أدرك أن الأثنى هى "بالطبيعة أصل الحياة بسبب قدرتها على الولادة الجديدة، فاعتبرها أكثر قدرة من الذكر، وبالتالى أعلى قيمة. ومن هنا سادت الفكرة فى تلك العهود أن الآلهة أنثى، وأنها آلهة الإخصاب والولادة والخضرة والوفرة والخير وكل شىء مفيد"، وأن "هذه العهود قد استمرت آلاف السنوات... لكن معظم علماء التاريخ والأنثروبولوجيا فى العالم يجمعون على أنه فى المجتمعات الإنسانية البدائية كانت للأنثى قيمة إنسانية واجتماعية وفلسفية أكثر من الذكر...".
ولا شك أن القارئ قد لاحظ تخبط نوال السعداوى حين قالت إن المرأة كانت لها قيمة فلسفية أكبر من قيمة الرجل، إذ سبق أن ذكرت هى نفسها أن تلك المجتمعات البدائية لم تكن تعرف علما ولا فلسفة. فكيف يا ترى كانت هناك رغم ذلك فلسفة استطاعت أن تزن قيمة المرأة وتضعها فى مكانة أعلى من الرجل؟ كما أكدت أيضا أن التاريخ لا يعرف كم من آلاف الأعوام قد مرت قبل أن يحدث الانقلاب ويحل الرجل محل المرأة فى صدارة الأسرة لأن التاريخ لم يكن قد عُرِف بعدُ حسب كلامها. لكن إذا لم يكن التاريخ قد عُرِف بعد، ومن ثم لم يصلنا شىء مدون عن تلك المرحلة التى تتحدث عنها، فكيف يا ترى عَرَف المؤرخون والأنثروبولوجيون أن المرأة كانت هى قيّمة الأسرة لا الرجل؟ أتراهم شموا على ظهر أيديهم؟ قد يكون، ولكن هل هذا هو المنهج العلمى الذى تصدعنا نوال السعداوى بالثرثرة عنه؟
ثم إن النسويات والنسويين دائما ما يعللون تأخر المرأة عن الرجل بأن الرجل قد قمعها بقوته العضلية. ورغم أننا لا نسلم لهم بهذه الحجة، لأن كثيرا من الناس رجالا ونساء يسودون جماعاتهم التى ينتمون إليها رغم وجود من هم أقوى منهم عضليا، فلا جدال مع ذلك فى أن التفوق العضلى ميزة ينفرد بها الرجل ويتفوق بها على المرأة. فلو افترضنا أن النوعين متساويان فى سائر صفاتهما تمام التساوى كان معنى ذلك أن فى الرجل شيئا يزيد به على المرأة ويعطيه من ثم حق الصدارة. ثم هناك سؤال غاية فى الأهمية هو: متى يا ترى تم اختطاف الرجل سيادة المرأة على الأسرة؟ ولأى سبب؟ هل كانت المرأة قبل ذلك أقوى من الرجل عضليا، ومن ثم استطاعت أن تقهره آنذاك، إلى أن جاء وقت ضعفت فيه عضليا وقوى هو فانتزع منها الزعامة؟ فهل كانت المرأة كذلك فعلا فى يوم من الأيام؟ فما الدليل؟ وكيف تم هذا؟ ومتى؟
إنها تنقل عن أحد العلماء أن المرأة البدائية كانت أقوى من الرجل جسدا (ص178). لكن هذا رجم بالغيب ليس عليه دليل، وهذا العالم نفسه يقول إننا لا نملك شيئا عن تلك المرحلة، فكيف عرف إذن ما يزعمه عن التفوق الأنثوى على الرجل آنذاك جسديا؟ ولنفترض أن هذا صحيح، لقد كانت المرأة قوية ولهذا تسلطت على الرجل، وبما أن الامر قد تغير إلى النقيض فليكن الرجل هو السيد إذن طبقا لهذه القاعدة التى تحاول إرساءها. أما بالنسبة للقبائل الإفريقية الأمومية فى العصر الحديث التى ذكرتها فى هذا السياق فهى قبائل بدائية. فإذا كانت تريد هذا الوضع، إن كان هذا الوضع صحيحا، فلتعد القهقرى إلى تلك المراحل البدائية من تاريخ البشر، وتبدأ الدورة من قديم.
ثم كيف يا ترى تغلب الرجل على المرأة، وقد كانت أقوى منه؟ هل عبث أحد بالتركيب البيولوجى للرجل والمرأة؟ لكن هل كان العلم فى تلك المراحل البدائية السحيقة من تاريخ البشرية متقدما إلى هذا الحد؟ بل هل كان هناك علم أصلا فى ذلك الزمان؟ ولنفترض أنه كان هناك علم متقدم يستطيع أن يتلاعب فى بيولوجيا النوعين، فكيف استطاع الرجال أن يفعلوا ما فعلوا بحيث يتخلصون من ضعفهم ويصيرون هم الأقوياء بدلا من النسوة؟
فى موضع آخر من الكتاب (ص238- 239) توهمنا السعداوى أنها بسبيلها إلى ذكر الوسائل التى أخضع بها الرجل المرأة له وجردها من حقوقها ووضعها الطبيعى. إلا أننا، فى نهاية المطاف، لا نجد شيئا غير قولها إن هذا القمع قد استلزم وسائل متعددة من التعذيب الشديد حتى القتل لكل من وسوس لها الشيطان وخرجت من النظم الأبوية وقوانين الأسرة. وهو، كما يرى القارئ، كلام مضحك لأنه يقتضينا التخلى عن العقل والمنطق، إذ كيف يعاقب الرجال النساء على خروجهن من النظام الأبوى فى الوقت الذى كان النظام السائد هو النظام الأمومى، ولم يكن النظام الأبوى قد ظهر إلى الوجود بعد؟ كما أنه من غير المعقول أن يقمع الرجل المرأة رغم قوتها وضعفه. وبها يتبين عجز السعداوى أن توضح لنا كيف استطاع الرجل إخضاع المرأة، التى كانت لها السيادة عليه، وكانت أقوى منه، فضلا عن أن الأولاد كانوا يحبونها هى ولا يطيقونه حسب مزاعمها التى سنوردها بعد قليل.
كما نراها (ص181) تترك حقائق الواقع الذى لا يمارى فيه إلا ممارٍ عريقٌ فى السفسطة وتذهب فتستشهد ببعض علماء النفس على أن الرجل يفتقر إلى مواهب الأبوة ومشاعرها، وأنه عضو متطفل على الأسرة، اللهم إلا بعض القوة العضلية التى اكتسبها، بما يعنى أن تلك القوة العضلية لم تكن موجودة من قبل حين كانت المرأة هى الأقوى عضليا. ترى كيف ولماذا ومتى وأين تم هذا التحول العضلى لصالح الرجل؟ إن مثل تلك الأمور لا ينبغى أن تُتَناوَل بهذه الطريقة العامية التى تكتفى بسوق المزاعم والادعاءات دون أن تشفعها بالدليل، وكأن العلم يقوم على الأمانى والأوهام التى تعشش فى رؤوس بعض الناس، وليس منهجا صارما يخضع له البحث خضوعا مطلقا. أليس عجيبا أن يكون هذا هو أسلوب د. نوال السعداوى، التى تكثر من الحديث عن العلم والمنهج العلمى؟
كذلك كيف عرفت د. السعداوى (ص181- 182) أن الرجل لم يكن يشعر بأبوته لأبنائه إلا بعد أن يكبروا ويصيروا نافعين اقتصاديا وأنه كان يقتلهم أو يستعبد الذكور منهم ويعاشر البنات جنسيا، وأن أطفاله كانوا يكرهونه ويُقْبِلون على أمهم ويبتعدون عنه، وأن المرأة كانت تعطى بلا حدود ودون انتظار لمقابل؟ نعم كيف عرفت السعداوى ذلك، وهى لم تكن تعيش فى تلك الفترة، وليس بين أيدينا وثائق بهذا الذى تزعم أنه قد حصل؟ الحق أنه ليس فى يد الكاتبة إلا الهلاوس التى لا تغنى عن الحق شيئا. والغريب أنها بعدما قالت إن الأب كان يعتدى على الأولاد والبنات لم تذكر إلا ظلمه للمرأة، أما الذكور فلم تذكر عن ظلمه لهم شيئا. وهذا بافتراض أن الأمر كما قالت، وهو ما لا دليل عليه بتة. هذا ما قالته هنا، لكنها فى موضع آخر من الكتاب (ص267) تقول شيئا آخر مؤداه أن الرجل إذا ما تُرِك لفطرته أحب بناته، إلا أن المجتمع وأوضاعه هى التى تجعله يكرههن رغم أنها قالت قبلا إن الرجل لم يكن يحب حتى أولاده الذكور، وإنه قد أخذ وقتاطويلا حتى شعر بالأبوة، وإن الأولاد والبنات لم يكونوا يحبونه، بل يحبون أمهاتهم فقط.
وتقول نوال السعداوى (ص178- 179) إن بعض الرجال يحنون إلى القيام بدور الأم، وهو حنين ناتج عن حسد الرجل للمرأة لتمتعها دونه بالأمومة والحمل والولادة كما تقول. والواقع أنه لا دليل على هذا الذى تقول، ورغم ذلك فإنها تتخذ من هذا الحنين المزعوم تكأة لإيهامنا بأن الرجل كان قديما أضعف من المرأة. والرجال، بحمد الله، أكثر من الهم على القلب فى كل مكان، ومن الممكن سؤالهم عن حقيقة هذه الدعوى، وأنا متيقن أنهم سوف ينكرونها جميعا. وأنا، بوصفى رجلا، أستطيع أن أقسم بالله إننى لا أريد أن أكون شيئا آخر غير ما خلقنى الله عليه، لا احتقارا للمرأة، بل لأن كل إنسان راضٍ بالنوع الذى خلقه الله عليه، اللهم إلا ندرة من الرجال والنساء تضغط عليهم ظروفهم وتجعلهم يبغضون وضعهم ويريدون تغييره. إلا أن هؤلاء ليسوا ذوى ظروف طبيعية بحيث يمكن اتخاذهم دليلا على ما تقوله السعداوى، التى تقصد أن الحنين إلى التحول إلى امرأة هو رغبة عند كل الرجال. والطريف أنها نسيت أن تقول لنا: كيف يا ترى تستمر الحياة إذا ما تحول الرجال جميعا فصاروا نساء؟ والواقع أن هذا السؤال وحده كفيل بهدم دعواها المضحكة تلك!
وأخيرا ففى الوقت الذى رأيناها تقول إن "معظم علماء التاريخ والأنثروبولوجيا فى العالم يجمعون على أنه فى المجتمعات الإنسانية البدائية كانت للأنثى قيمة إنسانية واجتماعية وفلسفية أكثر من الذكر" نجدها لا تذكر لنا أسماء أحد من هؤلاء "الـمُعْظَم". لماذا؟ لأن الأمر عندها لا يعدو أن يكون كلاما فى كلام. ولنفترض أن معظم العلماء من مؤرخين وأنثروبولوجيين قد قالوا ذلك فالواقع أنهم لا يعتمدون، فيما يقولون، على دليل. إن هو إلا التخمين فحسب، وفى ميدان العلم لا ينفع التخمين شيئا، اللهم إلا إذا كان افتراضا ينطلق منه العالم إلى التثبت والتحقق. أما إن وقف عنده لا يعدوه فليس من العلم فى شىء.
وفى "موسوعة الماركسية" المشباكية، وتحت عنوان "النظام الأمومى" نقرأ تعريف هذا النظم على النحو التالى: "مرحلة تاريخية في تطور المجتمع المشاعي البدائي حيث كانت الأم تمثل الدور المسيطر في الاقتصاد الاجتماعي. وقد وُجِد النظام الأمومي بين جميع الشعوب بلا استثناء. فخلال المراحل الدنيا من التطور الاجتماعي عندما كان الزواج الجماعي هو القاعدة لم يكن معروفا من هو أبو الأطفال، فكانت الأم وحدها معروفة. ولهذا لم يكن من الممكن أن يُنْسَب النسل إلا إلى جانب الأم، وكان الاعتراف فقط بالصلة الأنثوية. وكان الاقتصاد القبلي كله في أيدي النساء. فلم يكن الصيد، وهو حرفة الرجال، يوفر وسيلة للعيش يعول عليها. وفي البداية كانت النساء عموما هن اللاتي يقمن بالعمل الزراعي المنتج، وكانت رعاية الأطفال والبيت وتوفير الزاد والعمل في الحقل والطهي... إلخ من وظائف النساء. ومع ظهور تربية الماشية بدأ دور المرأة في الهبوط، وأصبح الرجل القوة المنتجة الرئيسية في المجتمع، ومالك وسائل الانتاج والماشية، وبعد ذلك مالك العبيد، ومن ثم أصبح رأس الجماعة".
ولنفترض أن ما تقوله المادة صحيح، وهو مجرد تخمينات، وإن حاول محررها أن يبدو كلامه علميا مقطوعا به، وهو فى الحقيقة ليس كذلك، فهل تريد الكاتبة أن نعود إلى الوراء ونعتنق هذا النظام الذى يقوم على المشاعية الجنسية بحيث لا يعرف الأبناء لهم أبا، فيضطر المجتمع إلى نستبهم لأمهاتهم؟ وهذا لو كان من المتيقن دائما معرفة أم الرضيع، إذ سبق أن بينت أن هذا أمر غير مقطوع به دائما. وهذا أيضا لو كان الرجوع الآن إلى ذلك العصر بأوضاعه البدائية ممكنا بعد كل هذا التقدم الحضارى وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية... إلخ، وهو ما لا يمكن أن يكون. ولنلاحظ أن المحرر يتحدث عن أوضاع تلك المرحلة وكأنه كان يعايشها ويعرف من ثم كل شىء فيها. وهذا بطبيعة الحال غير صحيح، إذ لم يعش أى من الأنثروبولوجيين إلا فى عصرنا، وليس هذا الذى يكتبونه وينشرونه سوى تخمينات، أو فى أحسن الأحوال: فروض لم تخضع للتمحيص لأنها ليست تجربة علمية تخضع لسيطرة المجرِّب ويستعين على التحقق من صحتها بالآلات العلمية الدقيقة، بل هى أمور تاريخية ذهبت فى الزمان الأول، ولا يمكن استرجاعها ووضعها تحت الملاحظة والتأمل. ثم هل هذا النظام البدائى هو النظام المثالى الذى تتطلع إليه البشرية وترغب فى استعادته، أو على الأقل: أفضل من أنظمتنا الحالية؟
كما أن ما تقوله المادة غير مجمع عليه حتى بصفته تخمينا وفرضا، بل هو أمر مختلف حوله. ويمكن القارئ الرجوع مثلا إلى مادة "Patriarchy" فى النسخة الإنجليزية من موسوعة "الإنكارتا" (ط2006م)، ولسوف يجد اختلاف الآراء فى ذلك، وأن الرأى الغالب يؤكد أن نظام المجتمع والأسرة الذى كان ولا يزال معروفا هو النظام الأبوى. ثم هأنذا أنقل للقارئ مادة "Matriarchy" فى ط2010م من "الموسوعة البريطانية" كاملة. وفيها أن النظام الأمومى نظام اجتماعى افتراضى، وأنه خَطَرَ لطائفة من علماء القرن التاسع عشر تأثرا بما قاله داروين عن التطور البيولوجى للإنسان، إذ أرادوا أن يقولوا إن هناك تطورا ثقافيا أيضا. وقد صار الاتجاه الآن هو القول بأن الأمومية بالمعنى التطورى لم توجد قط فى يوم من الأيام، وإن كان بعض العلماء لا يزالون يستخدمون هذا المصطلح لأغراض تعليمية أو تحليلية أو وصفية:
" Hypothetical social system in which the mother or a female elder has absolute authority over the family group; by extension, one or more women (as in a council) exert a similar level of authority over the community as a whole.
Under the influence of Charles Darwin's theories of biological evolution, many 19th-century scholars sought to formulate a theory of cultural evolution. The theory known as unilineal cultural evolution, now discredited, suggested that human social organization “evolved” through a series of stages: animalistic sexual promiscuity was followed by matriarchy, which was in turn followed by patriarchy. The American anthropologist Lewis Henry Morgan, the Swiss anthropologist J.J. Bachofen, and the German philosopher Friedrich Engels were particularly important in developing this theory.
The consensus among modern anthropologists and sociologists is that while many cultures bestow power preferentially on one sex or the other, matriarchal societies in this original, evolutionary sense have never existed. However, some scholars continue to use the terms matriarchy and patriarchy in the general sense for descriptive, analytical, and pedagogical purposes".
ونقرأ فى نفس المادة فى النسخة الإنجليزية من موسوعة "ويكبيديا" ذات الكلام:
"In 19th century Western scholarship, the hypothesis of matriarchy representing an early stage of human development—now mostly lost in prehistory, with the exception of some so-called primitive societies—enjoyed popularity. The hypothesis survived into the 20th century and was notably advanced in the context of feminism and especially second wave feminism, but this hypothesis of matriarchy as having been an early stage of human development is mostly discredited today, most experts saying that it never existed".
وفى مادة "Bachofen (Johann Jakob) " من "الموسوعة اليونيفرسالية" نقرأ عن باخُوفِن وما كتبه عن تطور المجتمعات الإنسانية من نظام المشاعية الجنسية إلى النظام الأمومى إلى النظام الأبوى ما يلى: "L'ethnologie contemporaine peut, à juste titre, lui reprocher sa périodisation de l'histoire (promiscuité primitive/droit maternel/filiation patrilinéaire), d'avoir faussement rapporté l'évolution des structures de la parenté à une ligne unique, d'avoir confondu, enfin, matriarcat et .filiation maternelle"
ويقول د. شاكر مصطفى سليم عن الـ"Matriarchy" ما نصه: "نظام سلطة الأم: نظام يُظَنّ أنه وُجِد فى المراحل الغابرة من حضارة الإنسان كانت النساء فى ظله يمارسن السيطرة على المجتمع أو الجماعة الاجتماعية لأن الخلط الجنسى والزواج الجماعى، النظامين اللذين كانا سائدين، جعلا علاقة الفرد المعروفة بأمه، وليس بأبيه، فترتب على هذا أن يكون النسب أميا وليس أبويا، فأصبحت الأم الشخص الأهم فى العائلة. وقد قال بهذا الرأى باخوفن وماكلينان وموركن، وخالفهم آخرون..." .
والعجيب، وموضوع كتابها هو المرأة، أن تقول نوال السعداوى (ص146) إن المرأة لا يفهمها الرجل على الإطلاق: لا الزوج ولا الأب ولا الأخ ولا الخطيب ولا الحبيب ولا الرئيس ولا المرؤوس ولا الأستاذ ولا حتى الطبيب النفسى الذى يعالجها... أى أن المرأة مشكلة فى حد ذاتها غير قابلة للفهم . فإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن تكون المرأة موضوعا للدراسة؟ هل يمكن أن ندرس شيئا غير قابل للفهم؟ أم تراها تريد أن تقصر دراسة المرأة على النساء فقط؟ لكنها لا تقول ذلك. إذن ماذا تريد نوال السعداوى؟ لا أظن أحدا بمستطاعه الإجابة على هذا السؤال، وبخاصة إذا عرفنا أنها لا تقول شيئا معقولا فى كتاباتها. إنها تدعى الادعاءات التى لا يسندها أى برهان، ولا يمكن التحقق منها. كما أنها تتناقض من سطر إلى سطر ولا تبالى، وكأنها لم تفعل شيئا غير أَنْ أخذت نَفَسًا. هل هذا معقول؟ بل إنها لتستشهد، كما رأينا، بالمؤرخين والأنثروبولوجيين لإثبات فكرتها الغريبة بغض النظر عما فى كلامها من حق أو باطل، وهؤلاء المؤرخون والأنثروبولوجيون جميعهم، أو أغلبيتهم الساحقة على الأقل، من جنس الرجال، الذين تقول إنهم لا يستطيعون فهم المرأة مهما كانت درجة قرابتهم أو اقترابهم منها.
ومنذ وقت مبكر فى الكتاب تعلن د. نوال السعداوى عن غايتها من الدعوة إلى تحرير المرأة من الظلم الواقع عليها حسبما تقول، مؤكدة (ص152) أن حرية المرأة التى تهدف إليها هى حرية المساواة الكاملة مع الرجل، وليست الحرية الجنسية فقط. ومعنى هذا أن الحرية الجنسية هى جانب من جوانب هذه الحرية التى تهدف إليها من كتابها. فهل هناك من الرجال فى عالمنا العربى والإسلامى من يقولون بأنهم يريدون لأبناء جنسهم حرية جنسية؟ بطبيعة الحال هناك كثير من الرجال المنحرفين الذين لا يلتزمون العفة فى سلوكهم الجنسى، ومع ذلك فحين يريدون أن يتزوجوا نراهم يبحثون عن فتاة عفيفة لم تفعل ما فعلوه هم قبل الزواج. لكنى لا أتكلم هنا عن السلوك والتصرفات، بل أتكلم عن المبادئ التى يدعو إليها الرجال. وفى حدود علمى لا يدعو رجالنا بدعوة الحرية الجنسية كى تقول الكاتبة إنها تريد للمرأة نفس الحرية الجنسية. وهذا إذا لم يكن سلوك المرأة هو نفس سلوك الرجل فى هذا المجال، وإلا فمع من يمارس الرجال انحرافاتهم؟ أليس مع النساء؟ إذن فالرجل والمرأة فى دنيا الواقع متساويان. وما دام الرجال لا يقولون بالحرية الجنسية لأنفسهم، فلماذا تطالب السعداوى بهذه الحرية لبنات جنسها؟ بل من أنابها عنهن تتحدث بلسانهن؟
ليس هذا فحسب، بل نراها (ص267) تهاجم الزواج فى كل أنحاء العالم لأنه، ضمن أشياء أخرى، يمنع المرأة من ممارسة الجنس خارج الزواج، فيستعبد المرأة ويملّكها للرجل. ثم إنها فوق ذلك تزعم (ص205) أن من بين مظاهر استقلال المرأة وقوة شخصيتها أنها بدأت تدخن وتشرب وتسهر خارج البيت بعدما اشتغلت كالرجل خارج هذا البيت. تقول هذا وكأن الشرب والتدخين والسهر خارج البيت ميزات ينبغى أن تتساوى فيها المرأة مع الرجل، مع أن هذه الأشياء تضر بالصحة. وإذا كان كثير من الرجال يفعلها فهذا ليس دليلا على أنها شىء طيب ينبغى أن تحرص المرأة على تقليده فيه. ومعروف أن الغالبية من الرجال لا يشربون ولا يدخنون، وكثير جدا منهم لا يحبون السهر خارج البيت. ومن ناحية أخرى يمكن أن يتخذ بعض الرجال من ذلك دليلا على أن المرأة لا تحسن التفكير المستقل، بل تتابع الرجل فى كل شىء حتى فيما هو ضار، متصورة أنه شىء لا بد منه لإثبات استقلال شخصيتها. وهذه مفارقة عجيبة كما نرى. ذلك أنه من المضحك أن يحاول شخص إثبات استقلال شخصيته من خلال تقليد غيره الذى يعلن أنه مستقل عنه. كيف ذلك؟ علم هذا عندكاتبتنا، التى تتناقض من سطر إلى سطر، وليس فى كلامها فكرة واحدة محكمة منضبطة.
وكانت نوال السعداوى، فى سبيل إيهام القراء بفكرتها النيئة، قد زعمت (ص153) أنه ليس هناك أى دليل علمى على أن المرأة أقل من الرجل عقليا ولا فسيولوجيا، وأن القول بغير ذلك هو من تأثير السلطة الأبوية التى تملك الزوجةَ والأولادَ كما تملك قطعة أرض. ولكن من أين يا ترى أتت بهذا الكلام العجيب؟ ترى هل يملك الأب أفراد الأسرة؟ فما مظاهر هذه الملكية؟ وما نتائجها؟ ثم هل تفوُّق الرجل على المرأة عضليا أمر تمكن السفسطة فيه؟ هل تستطيع المرأة أن تحمل من الأثقال ما يحمله الرجل؟ هل تستطيع أن تسوق الحافلة والقطار والطائرة والغواصة والرافعة ووابور الزلط بنفس الكفاءة التى يسوقها بها الرجل؟ ترى هل يمكنها أن تحارب كما يحارب هو، وتخوض المعارك الطاحنة كما يخوض هو، وتطلق المدافع والصواريخ وتلقى بالقنابل كما يفعل هو؟ ترى هل يمكنها تكسير حجارة الجبال كما يكسّر هو؟ وهل يمكنها أن تشتغل بإنقاذ الغرقى والمدفونين تحت الأنقاض كما يشتغل هو؟ ثم هل لها من الإنتاج الفكرى والأدبى مثل ما له هو؟ بل هل اشتهرت بالطباخة وتصميم الأزياء كما اشتهر هو؟ وهل تؤدى كل العمليات الجراحية كما يؤدى هو؟ فلماذا إذن المناطحة والمعاندة، وكأننا فى حربٍ عَوَانٍ بين الرجال والنساء، ولسنا فى مجال تعاون وتناصح واحترام متبادل؟
ومن تخبطاتها التى لا تنتهى قولها (ص158) إن المرأة كان لها فى العصور الأولى نفس الحقوق التى للرجل، ذاكرة من بينها انتساب الطفل إليها. كيف ذلك؟ هذا ما لا أدريه، لأنها قالت قبل ذلك إنه كان ينتسب إلى أمه. فما معنى ارتدادها عن ذلك الكلام والقول بأنه كان ينتسب إلى الاثنين معا؟ والعجيب أنها تقول فى نفس الموضع إن المرأة كانت لها المكانة الأولى طبيعيا. كيف ذلك مرة أخرى إذا كانت متساوية كما تقول مع الرجل؟ واضح أنها تتخبط. ثم إنها (ص159) تتهم الأديان السماوية بأنها هى السبب فى تأخير مرتبة المرأة من الأولى إلى الأخيرة. ونراها تخطئ هنا خطأ فاحشا بالزعم بأن اليهودية هى أول ديانة سماوية، إذ المعروف أن هناك ديانات سماوية سابقة على اليهودية، بل منذ الإنسان الأول حسب القرآن. إلا أننا نفاجأ بها بعد قليل (ص159) تزعم أن القيم التى كانت سائدة لدن نزول الرسالة على موسى كانت تقوم على ملكية الأرض والعبيد والأطفال والنساء. أى أن وضع المرأة قبل الأديان كان سيئا جدا، وليست الأديان هى التى تسببت فى سوء وضعها على عكس ما تزعم. ثم أين هذا يا ترى فى الكتاب المقدس، وبأيدينا ذلك الكتاب، وهو يؤرخ لمسيرة اليهود كلها، وليس فيه بتاتا شىء من ذلك التخبط الذى تتخبطه، وإلا فعلى أى مصدر آخر اعتمدت فى كتابة هذا الكلام؟
والعجيب أيضا أنها تقول كذلك، وبنفس الجرأة والتهور (ص180)، إن الأسرة نشأت بعد ظهور الملكية الخاصة التى صاحبت سيادة الرجل. ومعنى هذا أنه لم تكن هناك أسرة قبل سيادة الرجل، وبوجه أحرى: لم تكن هناك أسرة أمومية على عكس ما تقوله بطول الكتاب وعرضه، إذ ما معنى الطنطنة بالنظام الأمومى؟ معناه أنه كانت هناك أسرة، ولكن برياسة امرأة. أما هنا فالسعداوى، تبعا للعالم وورد، تقول إن الأسرة لم تظهر إلا فى الوقت الذى كانت السيادة فيه للرجل. ومعلوم أن النظام الأسرى الذى يتمتع فيه الرجل بالسيادة لا يزال هو القائم حتى الآن. أى أنه لم تكن هناك أسرة أمومية. فانظر كيف تنسف نوال السعداوى كل ما تريد أن تثبته فى هذا الكتاب. ذلك أنها، كما قلت وأقول وسأقول، لا تتمتع بفكر منضبط محكم، بل كلما عنت لها خاطرة اندفعت إليها وسجلتها وأخذت تنافح عنها كأنها أتت بالذئب من ذيله، ثم سرعان ما تخطر لها خاطرة أخرى فتندفع تنافح عنها... وهكذا دواليك. والعجيب أنها لا تأتى بشىء من عندها، بل تعتمد على النقل من هنا ومن ها هنا دون أن يكون بين ما تنقله تناغم وانسجام، إذ هى تفتقر إلى العقل النقدى الصاحى، بل تدخل موضوعها وفى ذهنها فكرة مسبقة تريد تسويقها، ثم لا تبالى بأى شىء آخر. وقد نقلتِ الفكرة السابقة عن العالم وورد كما سلفت الإشارة.
وهى تقول أيضا (ص159) إن آدم قد ألف قصة الخلق سالبا لنفسه عملية الولادة من حواء، إذ جعلها تولَد منه لا العكس، وعن طريق ضلعه لا عن طريق رحمه لأنه ليس له رحم. ولكن كيف كانت السعداوى تريده يولد من رحمها، ولم يكن هناك رجل قبل آدم يعاشرها حتى تلد آدم؟ وهل كانت حواء موجودة حتى يسلبها آدم الولادة؟ إن الكلام كله مضطرب أشد الاضطراب، ولا يستطيع العقل متابعته بسهولة لأنه يحتاج إلى عقل بهلوان. ثم أنسيتْ نوال السعداوى أن دور آدم فى مجىء حواء إلى الوجود، حسب الحكاية التى تعتمد عليها هنا، هو دور سلبى، إذ أوقع الله عليه السُّبَات، ثم خلقها من ضلعه؟ كذلك فهو لم يخلق نفسه. ثم إنها، بعدما قالت إن المرأة مولودة حسب العهد القديم من آدم، تنقلب فتزعم (ص160) أنها، حسب الديانة اليهودية، مخلوقة من سلالة الحيوانات والشياطين، أما الرجل فعقله جزء من الذات الإلهية. إلا أنها لم تورد، لشديد الأسف، أى مرجع، بل ألقت بكلامها المضحك ومضت خفيفة الضمير كأنها لم تقترف شيئا. وهذه هى المنهجية العلمية التى صدعتنا بها. أو لعلها حقائق العلم التى لا تعرف الثبات كما تقول، بل تنزل على نزوة الباحث وتتشكل حسبما يريد له هواه.
ثم تتحدث (ص160) عن المرأة باعتبار آخر هو أنها، كما تقول، قد وقفت فى وجه السلطة الكنسية، فاستحقت العقاب الظالم. تقصد النساء اللاتى اتهمتهن الكنيسة بممارسة السحر وعذبتهن وأحرقتهن، ناسية أن الرجال قد وقفوا أيضا ضد الكنيسة وحاربوا الخرافات التى كانت تلقنها أتباعها الجهلاء فى العصور الوسطى ولا تسمح لأحد بالخروج عليها أو مجرد مساءلتها، ودفعوا بسبب هذا الموقف ثمنا فادحا، ولكن لغاية أسمى، وهى اكتشاف القوانين العلمية والمناداة باحترامها بدلا من السحر، الذى كانت تمارسه النساء فى ذلك الوقت. كذلك تصور كاتبتنا الساحرات بوصفهن نساء شديدات الذكاء يتمردن على خرافات الكنيسة أو يتوصلن إلى أدوية غير معروفة للكنيسة لشفاء الأمراض (ص160- 162). فهل كانت الساحرات فعلا كذلك؟ الواقع أنهن لم يكنَّ يتميزن على الكنيسة فى شىء، إذ كلا الطرفين كان يدعم الخرافة، ولكن بطريقته. ثم تستمر المؤلفة فتقول إن بعض العلماء قالوا إن "الساحرة الشريرة" هى رائدة الطب الحديث، إلا أن العلماء، ومعظمهم من الرجال، قد أسدلوا على الحقيقة ستارا كيلا يعرف الناس أنها طبيبة. لكن أليس الذين قالوا إنها رائدة الطب الحديث رجالا أيضا؟ أليس يرى القارئ أن السعداوى تريد اتهام الرجال وتشويه صورتهم، والسلام؟ وهذا إن كانت السواحر فعلا طبيبات، ولو شعبيات، يصفن الأدوية التى من شأنها التخفيف عن المرضى. وهو ما لم تقدم لنا الكاتبة شيئا يقنعنا به سوى المزاعم التى لا تقدم ولا تؤخر. والمزاعم فى دنيا العلم لا تساوى شَرْوَى نَقِير، وإلا فأجهل الجهلاء يستطيعها بكل سهولة، ولا تكلفه شيئا البَتَّة.
والواقع أن من وقف ضد الكنيسة فى تلك العصور هم الرجال العلماء الذين خرجوا على ما تردده الكنيسة من خرافات متخلفة عن العالم واستعملوا عقولهم وآلاتهم العلمية لاكتشاف حقائق الكون، فأحرقتهم الكنيسة وعذبتهم عذابا بشعا لا يتحمله بشر. بيد أن نوال السعداوى تعتِّم تماما على تلك الحقائق التى يعرفها كل من درس تاريخ أوربا حتى لا تعترف للرجال بأى فضل. ولعل مما يرفه عن القارئ معرفته أن نوال السعداوى عادت فى موضع آخر من الكتاب (ص272) فقالت عن الساحرات فى العصور الوسطى إنهن كن زوجات مخالفات لأزواجهن فاتُّهِمْن بالسحر وقُتِلن! وكانت قد قالت، كما ذكرنا قبل قليل، إنهن كن طبيبات رائدات، وإن هذا هو سبب ضيق رجال الكنيسة لا الأزواج بهن. أليس هذا ما يسمونه: سمك لبن تمر هندى؟
ومن ذلك الوادى قولها إنه من بين الدلائل على ظلم المرأة أنهم يطلقون "الهستريا" على الاضطراب العقلى، وهو مصطلح مأخوذ من "الرحم" لأنهم فى اليونان كانوا يعتقدون أن الهستريا سببها اضطرابات فى الرحم (ص162- 163). لكن هذا خطأ علمى سببه ما لوحظ من أن الإصابة بالهستريا تكثر بين النساء، وظن الأطباء فى البداية أنه راجع إلى اضطراب فى وظائف الرحم ، ولم يكونوا يقصدون الإساءة إلى النساء من حيث هن نساء، وإلا لقال الملوك إنهم هم أيضا مظلومون لتسمية آلام المفاصل الناشئة عن كثرة أكل اللحوم بـ"داء الملوك"، وهو النِّقْرِس (Gout). ولا أحد من العقلاء يمكن أن يطوف برأسه هذا الخاطر، فضلا عن أن يجعله محل شكوى. ثم ما ذنبنا نحن فى إطلاق مصطلح "الهستريا" على ذلك النوع من المرض؟ إن هذا مصطلح أوربى، أما مصطلحنا نحن فهو "الهَرَع" أو "الهُرَاع"، ومعناه الفزع، ولا صلة له بالرحم أو المرأة من قريب أو بعيد، بل هو مصطلح محايد. ولو كان صياغة هذا المصلطح انعكاسا لكراهية الرجال للمرأة لوجدنا كل اللغات تترجمه ترجمة حرفية. كما كان بإمكان النساء فى أوربا حيث صيغ المصطلح الذى تراه السعداوى مسيئا للنساء أن يجدن مصطلحا آخر لا يحمل فى طياته أية إساءة لهن، وبالذات فى العصر الحديث، الذى يمكن المرأة فيه أن تفعل ما تريد وتعترض على ما تشاء. ولكنهن لم يفعلن، فعلام يدل ذلك؟
وكأن هذا غير كاف عند د. السعداوى، إذ نراها (ص258) تُرْجِع انتشار الهستريا بين النساء إلى الظلم الواقع عليهن، وكأن الهستريا مرض نسائى لا يصاب به الرجال! بل يصل الهوس الفكرى أن تُصَوِّر المجتمع على أنه مكون من طبقتين: طبقة الذكور، وهم السادة الظالمون، وطبقة الإناث، وهن الإماء المسحوقات. ومن المضحك أنها (ص172)، حين تعيب طريقة علاج بعض الأمراض النفسية عن طريق الصدمات الكهربية، تتحدث عن الموضوع بما يوهم القراء بأن النساء وحدهن هن اللاتى يعالَجن بهذه الصدمات، رغبة منها فى اتهام الرجال بظلم المرأة وتعذيبها دون طائل، وكأن الرجال المرضى لا يعالجون هم أيضا بهذه الطريقة. لكن قاتل الله التحيز، وبخاصة إذا صدر ممن يشقشقون بالمنهجية العلمية والرغبة فى الوصول إلى الحقيقة.
ومما تقوله السعداوى أيضا لإيهام القراء بأفكارها التى تفتقر إلى أى دليلٍ قولها (ص186 وما بعدها) إن الرجل البدائى قد وجد أن المرأة تظل مثارة جنسيا طوال الشهر مما لم يكن على استعداد لمواجهته فشغلها بالأولاد والحمل وما إلى ذلك كيلا تزعجه بمطالبها الشهوية، وكأنه كان من الممكن ألا تحمل المرأة فى تلك العصور حيث لم تكن البشرية قد تقدمت علميا وطبيا بحيث تستطيع تصنيع حبوب منع الحمل وما أشبهها، أو كأن المرأة لا تتوق بفطرتها إلى الحمل والولادة. والغريب أنها تقول أيضا إن كثرة الحمل يزيد شهوة المرأة. فأى تناقض هذا؟ وأغرب من ذلك أن تقول إن الأبناء من أولاد وبنات كانوا يؤثرون أمهم على أبيهم ولا يهتمون به، وهو ما كان يزعجه ويغيظه. فهل كان يعمل إذن على أن يظل غضبان مغتاظا بدفع المرأة إلى مزيد من الحمل والولادة اللذين ينتج عنهما مزيد من الأولاد والبنات يكرهونه ويفضلون أمهم عليه؟ ثم تعود فتقول إن الولادة الأولى كثيرا ما تؤدى إلى برود جنسى لدى المرأة، وهو ما يتناقض مع ما قالته من أن الحمل بطبيعته يزيد من شهوة المرأة. ثم هل الرجل مسؤول عن ذلك، وكان يقصده حين عمل طبقا لكلامها على شغل المرأة بالحمل والولادة؟ أم ماذا تريد السعداوى بالضبط أن تقول؟
ثم تنقل الكاتبة عن بعض الكتاب (ص193) أن شهوانية المرأة الشديدة لم تخلق لتتكيف مع الأوضاع الحضارية التى تفرض على المرأة الاكتفاء بزوج واحد، هذا الاكتفاء الذى فرضه الرجل على المرأة وأعفى منه نفسه. ولكن السعداوى قد نسيت، فيما يبدو، أن توضح لنا لم استسلمت المرأة للرجل رغم أنها، كما أكدت مرارا، كانت أقوى منه، وكانت كل الظروف فى صالحها بما فيها الأولاد الذكور حسبما تزعم، مما يعنى أن الرجل الصغير (الذى هو الولد) كان يقف ضد نفسه ومع المرأة. يبدو لى أن ما قالته الكاتبة عن ضرورة تعدد الأزواج للمرأة هو الهدف من كل كلامها الكثير المسبب للصداع عن الأورجازم عند المرأة (ص195)، فضلا عن رغبتها فى إثبات أن الرجل ليس هو المحتاج إلى أكثر من زوجة، بل المرأة. ومن الواضح أنها (ص194) مع إطلاق الحرية الجنسية للمرأة وضد تكوين أسرة لأنها ترى أن تكوين الأسرة هو من متطلبات الرجل، أما المرأة فكانت مشتعلة الرغبة لا تريد الاكتفاء برجل واحد تلتصق به وتكوّن معه أسرة، بل تريد إشباع شهوتها فقط. وهى تثنى على ما كان بعض الجاهليين يزاولونه من زواج الاستبضاع وزواج المشاركة، وهو الزواج القائم على تعدد الأزواج، بوصفه لونا من ألوان التحرر الجنسى ينبغى أن يشاد به (ص273) رغم أن الاستبضاع هو دليل على حِطَّة الرجل الذى يأمر زوجته بممارسته، ورغم أن تعدد الأزواج ما هو إلا دعارة صريحة لم يكن يمارسها إلا الأوباش من العرب ممن لا كرامة لهم ولا شرف. كما غفلت، بسبب جهلها، عن أن الاستبضاع ليس زواجا بل لونا من الدياثة. وعلى أية حال كيف عرف العلماء الذين تستشهد بهم نوال السعداوى أن نظام المجتمع كان أنثويا، وأن المرأة كانت مشتعلة الشهوة طول الوقت، وأن ذلك لم ينته إلا بقمع الرجل لها؟ أجل، كيف عرفوا ذلك، وليس هناك أى معلومات عن تلك العصور؟ الغريب أنها تعود (ص195)، بعدما قالت إن الدراسات التى قام بها العلماء هى التى أثبتت هذا، فتقول إن ما ذكرتْه يمكن أن يكون صحيحا أو غير صحيح.
ورغم كل ما صدعتنا به نوال السعداوى عن شبق المرأة وعدم اكتفائها برجل واحد لولا أن الرجل قد أجبرها على ذلك إجبارا، نراها (ص284- 285) تتكلم عن ظاهرة البِغَاء على أنها نتاج السلطة الأبوية، ناسية أنها قالت إن المرأة فى المجتمع الأمومى كانت شَبِقَة لا تكتفى برجل واحد. ترى ما الفرق بين البِغَاء وبين هذا الشَّبَق؟ أليست المحصلة هى أن امرأة واحدة تعاشر رجالا متعددين؟ ثم لماذا تعيب السعداوى البِغَاء إذا كانت لا ترى فى تعدد الأزواج أية معابة أو غرابة؟ وهى تظن (ص286) أن البغاء لا تمارسه سوى النساء غير المتزوجات، ومن ثم فلو تزوجت كل النساء لما كان هناك بغاء فى رأيها. وكعادتها تمسح كل هذا فى النظام الأبوى . هل هناك هزل أكثر من ذلك؟ إن كثيرات جدا من البغايا متزوجات أو لهن عشاقهن، ولا يمنعهن وجود الرجل فى حياتهن من ممارسة البغاء. وحتى لو لم يكن هناك بغاء أليست هناك الخيانة الزوجية من جانب المرأة، والخيانة لون من البغاء، وإن كان مقيدا؟ كذلك تقول إن البغاء كان ثمرة إكراه الرجال للنساء على ممارسته. لكنها، كعادتها فى ارتكاب التناقضات الفِجَّة، تسارع فتذكر (ص288) أن الإمبراطور قسطنطين هو الذى ألغى البغاء المقدس. فلماذا ألغاه هذا الأحمق إذا كان وجوده يكفل المتعة له ولسائر بنى جنسه من الرجال؟ ومن يا ترى ألغى البغاء فى كل مكان كان فيه بغاء؟ أليسوا هم الرجال، الذين تعمل نوال السعداوى فى كل ما تكتب على تشويههم وتلويثهم، والذين تتهمهم بأنهم هم الذين يُكْرِهون النساء على مزاولته؟
ومن آرائها التى لا تقنع أحدا قولها (ص292) إن الأب يعترف بابنه من زوجته، لكنه لا يعترف بابنه من عشيقته بسبب أن الميراث فى ظل النظام الأبوى لا ينبغى أن ينتقل إلى أحد من خارج مؤسسة الزواج. والواقع أننى لا أستطيع أن أقتنع بهذا الذى تقوله نوال السعداوى، إذ ما الذى يضير ذلك النظام إذا ورث الولد غير الشرعى من أبيه؟ ثم إن هذا الولد يرث من أبيه الفراشى، أى الزوج الذى خانته زوجته وأتت بولد ليس من صلبه ونسبته إليه . الحق أن ما يمنع الأب من الاعتراف بابنه غير الشرعى هو نفسه ما يدفع المرأة إلى إنكار أمومتها له: الفضيحة! بل إن هناك نساء يرفضن الحمل والإنجاب لأنه يفسد جمالهن. أليست هذه أنانية أيضا؟ أم إن الأنانى هو الرجل وحده، الذى تقول السعداوى إنه لا يعترف بأبنائه غير الشرعيين؟
ومضيا فى سياسة العناد والتمرد غير العلمى أو الواقعى تحاول د. نوال السعداوى (ص196- 197) إيهام القارئ بأن إحساس الفرد بذكورته أو أنوثته إنما يتوقف على معاملة الأسرة له، متجاهلة أن هناك إحساسا فطريا هو الذى يجعل الفرد يتنبه إلى أى جنس ينتمى، وإلا فكيف عرف آدم وحواء أنهما ذكر وأنثى على التوالى، ولم تكن هناك أسرة وُلِد أى منهما فيها؟ بل كيف يعرف الحيوان أنه ذكر أو أنثى؟ هل ثقافة المجتمع هى التى تعرِّفه ذلك؟ فهل للحيوان ثقافة؟ طبعا لا. وكيف عرفت هيلين كيلر الصماء العمياء البكماء مثلا، قبل أن تتصل بالناس بعدما علمتها القراءة والكتابة سيدةٌ عطفت عليها، أنها أنثى؟ أم ترى السعداوى ستناكف وتقول إنها قبل ذلك لم يكن فى مستطاعها أن تعرف أنها أنثى؟ وكعادتها نراها تعود فتقول بوجود هذا الإحساس الفطرى، بل بأن الذكورة والأنوثة موجودتان فى التكوين البيولوجى للفرد منذ المرحلة الجنينية. ثم تعود مرة أخرى فتقول إن أهم عامل فى ذللك الإحساس هو عامل الأسرة ومعاملتها للفرد، لتنتهى إلى أنه هو العامل الوحيد أو الحاسم على الأقل. وبهذا يتبين للقارئ كيف تتضارب أقوال نوال السعداوى ولا تستقر على حال واحد أبدا.
ومن السخائف التى تزعمها السعداوى (ص216) أن الرجل يكره المرأة كراهية دفينة، مع أنها تؤكد أن الرجل مشغول بها طول الوقت، ودائم التغزل فيها والترامى على قدميها. ثم تمضى فتورد رأى فرويد فى أن السبب فى هذا قد يكون خوفه من أن تخصيه. والحق أن هذا هو السخف والشذوذ بعينه، إذ متى خاف الرجل من أن تخصيه المرأة؟ لو كان الأمر كذلك لما اقترب منها ليعاشرها كيلا يوفر لها فرصة مجانية تقوم فيها بإخصائه. ولكن كيف يكون ثم كراهية للمرأة من الرجل، وهو الذى يلهث وراءها طوال الوقت كى يحظى بحبها ورضاها، وينظم فيها الأشعار والأنثار، ويتودد إليها بالهدايا، ويدفع لها المهر فى كثير من الشرائع، وينفق عليها حين تصبح زوجة له، ويغار عليها من نظرة أى رجل آخر إليها، وقد يخوض المعارك والحروب الضارية من أجل الفوز بنظرة من عينيها أو دفاعا عن كرامتها وعرضها، أو إثباتا لرجولته وشجاعته أمامها؟ إن الرجال بطبيعتهم يحبون النساء ولايكرهونهن، ومثلهم فى ذلك النساء، فهن يحببن الرجال ولا يكرهنهم، اللهم إلا لسبب خاص ينفّرهن أو ينفّرهم من شخص بذاته يتسم بصفات يبغضها النافر. أما على وجه العموم ففى فطرة كل من النوعين حب النوع الآخر والهفوّ إليه والعمل على جذب اهتمامه والحصول على تقديره. هذا هو الكلام الصحيح لا الذى تهرف به نوال السعداوى. وأنا على يقين من أنها تعى تماما أنها لا تقول الحقيقة، بل تعاند وتمشى عكس اتجاه واقع الحياة عن سبق إصرار وترصد.
وبالنسبة لما قالته (ص267- 268) عن كراهية الرجال للمرأة فالواقع أنهم لا يكرهونها ولا يكرهون إعطاءها حقها من الاحترام، بل كل ما هنالك أنهم يكرهون المناطحةَ من بعض النساء وجنوحَهن إلى التمرد والعصيان فى كل صغيرة وكبيرة. ومعروف أن معظم الرجال يشاورون نساءهم، إن لم يكن عن مبدإ فعلى الأقل نزولا على الطبيعة البشرية التى تحب أن تحس بأنها ليست وحيدة فى مواجهة الظروف الصعبة والمربكة، وترغب فى الاستئناس بما عند الآخرين القريبين من رأى. إلا أن بعض النساء يردن المناكفة، وهذا مما لا يساعد سفينة الزواج على الإبحار الهادئ. وإلا فكيف عاشت المرأة مع الرجل منذ الخليقة؟ أوكانت حياتها كلها تعاسة وشقاء وكربا أسود إلى أن جاءت نوال السعداوى فاكتشفت هذا وعملت على تغييره؟ لا نكران أنه كان هناك، وسوف يظل دوما هناك، مشاكل بين الطرفين سواء عملت المرأة خارج البيت أو بداخله. أما أن نقول إنه لا بد أن تخرج المرأة وتعمل خارج البيت، وإلا فلا سعادة، فهو تضييق للواسع وتحجير للمرن. ثم أين السعادة التى كانت غائبة عن حياة المرأة وعن البيت ثم رفرفت عليها بخروج المرأة إلى الحياة العامة؟ أوَتخلو المجتمعات الغربية من المشاكل بين الرجل وزوجته؟ ألم يتفش الطلاق فى تلك المجتمعات؟ ألم تكثر الأمراض النفسية؟ ألم يظهر الاغتصاب وينتشر بعدما كان محدودا جدا لا نكاد نسمع به؟ ألا يضرب كثير من الرجال الغربيين زوجاتهم؟ ترى لماذا فشل مثلا برتراند رسل عدة مرات فى الزواج وعرف العلاقات الغرامية حتى مع المتزوجات رغم كل التقدمية فى فكره وفكر زوجاته وعشيقاته فى مجال الجنس؟ ولماذا كان هربرت جورج ويلز يخون زوجته مع سكرتيرته كلما خلا عليهما البيت؟ ولماذا خان كل من الأمير تشارلز والأميرة ديانا الآخر، واعترفا بذلك فى التلفاز على الملإ فى جميع أرجاء العالم دون أدنى إحساس بالخجل ولا مراعاة لوضعهما السياسى والاجتماعى ولا مبالاة بمشاعر أطفالهما؟ ولماذا هذه الفضائح الجنسية فى كل مكان بالمجتمعات الغربية؟ ولماذا هذا التفكك الأسرى الواسع النطاق؟ ولماذا كل هذا القلق؟ ولماذا ارتفاع نسبة الانتحار؟
لقد قال القرآن: "وللرجال عليهن درجة"، وإن لم يعن هذا أن كلا من الجنسين ينتمى إلى عالم مختلف عن عالم الآخر، بل هما كلاهما من نفس واحدة، وإن أُعْطِيَت القِوَامة للرجل. أما السعادة الكاملة المطلقة فهى كالعنقاء لا وجود لها فى عالمنا، ولا يمكن أن يبلغها الإنسان فى يوم من الأيام على هذه الأرض طبقا لما تحدّثنا به التجارب الإنسانية على مدى الدهور والحقب، على عكس ما تريد السعداوى أن توهمنا به من أن الزواج حتى الآن كله شقاء وتعاسة (إذ يقوم على السادوماشوسية كما تقول ص270) لأن المرأة لم تتساو بالرجل وتستقل عنه، ومتى ما تم هذا انقلبت الحياة الزوجية للتو جنة وارفة الظلال طبقا لأوهامها ومزاعمها. ومن طريف الأمر تأكيدها (ص298- 299) أن النساء المثقفات الواعيات هن اللاتى يفشلن فى الزواج. بل إنها لترى أن نضج المرأة يجعلها لا تحتاج إلى الزواج أصلا. الله أكبر! فما معنى تأكيدها إذن بأنهن سليمات نفسيا وأنهن المثل الأعلى للمرأة إذا لم يكنَّ قادرات على النجاح فى الزواج؟ أم إن الوعى والاكتمال لا بد أن يؤديا إلى الفشل؟ إن بعض النسوة يسقطن ما هن فيه من فشلٍ زواجىٍّ على ما يدعون إليه من مفاهيم وآراء مضطربة منحرفة، وكأنهن يحقدن على الناجحات فى زواجهن ويردن أن يعكرن عليهن صفو حياتهن ويُعْدِينهن بفشلهن.
وينبغى فى رأى د. السعداوى (ص297) أن تعتز المرأة بكل تجربة مرت بها مهما كان شأنها لأنها جزء من كيانها. أى أنها لا ترى أن هناك شيئا اسمه الخطأ ينبغى الخجل منه، ومن ثم لا معنى لكلامها هنا، إذ إن الظلم الذى يقع من الرجل تجاه المرأة إنما هو تجربة مر بها وأصبحت جزءا من كيانه لا ينبغى أن يشعر بالخجل منه بل بالاعتزاز به. وكعادتها فى التناقض المضحك تنقل عن إريك فروم (ص312) أن الإنسان الذى يشعر بالتأثم ويصاب بالعُصَاب أفضل ألف مرة ممن لا يحس بأى ذنب جَرَّاءَ ارتكابه الأخطاء.
ومن مظاهر العناد لدى السعداوى تفسيرها (239- 240، 246، 250) غيرة المرأة على الرجل بخوفها أن تأخذ زوجها امرأة أخرى فلا تجد لنفسها مأوى تحتمى به ولا رجلا ينفق عليها، إذ كانت محرومة من العمل الذى يكفل لها الاستقلال. فهل معنى هذا أنها الآن لم تعد تغار على زوجها ولا تخاف أن تأخذه امرأة أخرى؟ بل ألا تخاف أن تأخذ حبيبها لا زوجها امرأة أخرى؟ وإذا كان الأمر كما تزعم فلم يشعر الرجل بالغيرة والخوف من فقدان زوجته أو حبيبته، وهو الذى ينفق ويؤوى لا هى؟ ألا إن هذا لتفكير مخلخل. وأنا لا أحيلها إلا إلى حالة تلك الطبيبة المشهورة المثيرة للجدل حين اكتشفت منذ وقت غير بعيد أن زوجها متعلق بامرأة أخرى أصغر منها وأنضر وأجمل. فلم ركبتها يا ترى عفاريت الغيرة، وانقلبت حياتها رأسا على عقب، وأزعجت المثقفين برسائلها حول الكاتب المشهور الذى شارف التسعين ووقع فى غرام مُعِدّةٍ تلفازية فى الخمسين من عمرها، رغم أن الطبيبة الثائرة مستقلة عنه ماديا، إذ لها مهنة وأعمال تدر عليها من المال ما لا يكسبه هو، وما لا تحتاج معه أن ينفق عليها أو يوفر لها مأوى تتقى به الحر والبرد ويكفل لها الكرامة ويحميها فضول الآخرين، إن لم تكن هى صاحبة اليد العليا فيما يخص مصاريف البيت طبقا لما يتبادله القراء من أخبارهما على المشباك؟ ولم يا ترى تغار النساء فى أوربا وأمريكا على رجالهن: أزواجا وخُطَّابا وأحباء، وكلهن تقريبا يشتغلن، ولهن مهن يكسبن منها ما يكفل لهن العيش دون حاجة مالية للرجال؟
وهى تتلاعب بالكلمات فتقول (ص259) إن الرجل، طبقا للنظام الذكورى الظالم، يمكن أن يكون مهندسا مثلا أو طبيبا فوق كونه أبا وزوجا، أما المرأة فلا يسمح لها إلا أن تكون أما وزوجة فقط. وهذا خطأ، فالمرأة التى تعمل فى البيت تقوم بأشياء غير الأمومة (أى غير الحمل والولادة)، إذ تربى أولادها وتوجههم وتشرف على سلوك الخدم إن كانت ممن يستعنَّ بالخدم، وتعمل أشياء كثيرة داخل البيت غير الحمل والولادة، أى غير الأمومة والزوجية. فانظر إلى تلاعبها بالكلمات. وعلى كل حال ما الفرق بين عمل المرأة فى البيت وعملها خارج البيت؟ أليس كله عملا؟ خذ مثلا طهيها طعام الأسرة. ترى لماذا يكون طهيها الأكل فى مطعم أو شركة أغذية شيئا عظيما، وقيامها بذلك العمل لأفراد أسرتها شيئا شائنا لا يليق بها ولا بمواهبها؟ ولماذا تكون تربيتها أطفال الآخرين فى الحضانة والمدرسة أمرا رائعا، وقيامها بذلك لأطفالها هى أمرا معيبا؟ وقس على ذلك.
وعلى هذا فإنى لا أفهم هجومها (ص260- 261) على النساء اللاتى يعملن عند الحاجة حتى إذا تزوجن من رجل غنى تركن العمل ورجعن إلى البيت، ولا حَمْلَتها على الظروف التى ينشأ فيها هؤلاء النساء والقيم التى يُرَبَّيْنَ عليها، والتى تتلخص فى أن الزواج هو أهم شىء فى حياة المرأة. ترى هل العمل فى البيت شىء شائن؟ وهل من الحكمة أن تفرض السعداوى نمطا واحدا من المعيشة على كل نساء العالم رغم اختلاف الثقافات والاقتناعات والقيم والضرورات والغايات؟ وهل بقاء المرأة فى البيت معززة مكرمة دون صراعات مجتمعية وعملية وإدارية يمنع المرأة من القراءة والتفكير والإبداع الأدبى والفنى؟ لقد كانت المرأة العربية منذ الجاهلية تبدع الشعر وهى لا تطاحن فى معظم الأحيان الرجل خارج البيت، وظلت كذلك حتى العصر الحديث كما هو الحال مع عائشة التيمورية ومى زيادة وملك حفنى ناصف مثلا، بل ولا يزال هذا مستمرا إلى الآن. هل كانت زوجة د. محمد مندور السيدة ملك عبد العزيز مثلا تعمل خارج البيت؟ ومثلها زوجتى، التى حصلت على الماجستير وسجلت للحصول على الدكتوراه وهى فى البيت. وهناك طالبات يدرسن فى الجامعة، ويحصلن على أكثر من شهادة، وهن لا يعملن خارج البيت. ثم من يقوم بتربية الأطفال إذا ما تركت النساء البيوت واشتغلن خارج البيت؟ أيعقل أن تترك المرأة أولادها لامرأة أخرى تربيهم، ثم تذهب هى فتربى أولاد الآخرين مثلا فى حضانة أو مدرسة؟ فما الفرق بين هذا العمل وذاك ولو من الناحية الشكلية؟ ثم هى تقول إن المرأة إذا اشتغلت فى البيت فإنه عمل بلا مقابل. ترى هل هذا صحيح؟ ألا تأخذ مرتب الرجل كله أو جزءا كبيرا منه تتصرف فيه بحريتها؟ ألا تُقْضَى لها كل حاجاتها مَثَلُها مَثَلُ الرجل؟ فماذا تريد السعداوى إذن؟ أوَلاَ بد أن تترك المرأة بيتها وتدخل حلبة الصراع اليومى خارج البيت هى أيضا وتعود منهوكة محطمة فلا يبقى فى البيت أحد يحظى بشىء من السكينة يمكن أن يعادل بها توتر الآخرين الذين يعملون فى الخارج؟
إن نوال السعداوى ترى (ص261) أن تحقيق المرأة لذاتها بالخروج إلى العمل خارج البيت هو قيمة فى حد ذاته أفضل من الزواج والإنجاب والأمومة. والعجيب أنها (ص262) تشكو من أن المرأة العاملة خارج البيت تعمل عملين: داخل البيت وخارجه أيضا. إذن فهى داخل البيت تعمل، ولا تضيع إمكاناتها ومواهبها كما تقول السعداوى. ثم إن المرأة، حين تعمل داخل البيت، لا تخدم الرجل كما تقول الكاتبة (ص263)، بل تخدم الأسرة كلها مثلما أن الرجل حين يعمل خارج البيت إنما يخدم الأسرة كلها أيضا، وإلا فأين تذهب نقوده ومرتباته؟ أليس لها وللأولاد؟ فمن الواضح إذن أن منطق السعداوى، حين تقول إن المرأة بعملها فى البيت إنما تخدم الرجل، وإن الرجل لا يريد لها إلا أن تظل تغسل له جواربه وكوافيل الأطفال (ص264)، هو منطق متهافت ومشوش. طيب، وإذا خرجت المرأة إلى العمل ولم تشأ أن تفعل ذلك فمن سيقوم بهذا العمل؟ أليست امرأة أخرى بأجرة؟ فما الفرق فى هذه الحالة؟ ولماذا كان هذا العمل مقبولا لتلك المرأة الأخرى ومُنْكَرا وشائنا للزوجة؟ ثم أليست الأخرى زوجة هى أيضا؟ فلماذا كان ذلك العمل كريما إذا ما قامت به لأسرة أخرى، وشائنا إذا قامت به لزوجها وأولادها؟ أليس ذلك اضطرابا فى الفكر والمنطق؟