التشكيك فى مصدر القرآن الإلهى
بقلم إبراهيم عوض

أساس التشريع فى الإسلام هو القرآن. ثم انضاف إلى هذا المصدر أحاديث النبى عليه الصلاة والسلام، التى لم يكن لها أن تحتل هذه المكانة دون وجود القرآن أَوَّلًا، إذ لولا أن محمدا نزل عليه القرآن لما وَصَلَتْنا عنه أحاديث يشرح فيها الكتابَ الكريمَ ويطبقه على وقائع الحياة ويضيف إلى تشريعاته تشريعات أخرى انطلاقا منه وتوخيا لغاياته، ولا كان هناك إجماع أو استحسان أو مصالح مرسلة. هذا ما نؤمن به نحن المسلمين، أما أعداء الإسلام، فيشككون فى مصدر القرآن زاعمين أنه ليس من عند الله، بل من تأليف محمد، لفقه من هنا ومن هناك وألصق هذه التلفيقات بعضها ببعض وجعل منها كتابا ادعى أنه من عند الله أوحاه الله إليه وأمره بإذاعته فى العالمين. وقد تولى كبر ذلك الادعاء الباطل جمهور المستشرقين والمبشرين وتابعهم عليه بعض ممن ينتسبون إلينا ويُعَدُّون منا ويحملون مثلنا أسماء إسلامية. فمثلا نجد خليل عبد الكريم فى كتابه: "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية" يعمل بكل قواه على إيهام القارئ بأن الإسلام لم يأت فى ميدان الشريعة بشىء من عنده بل استعار شرائعه من هنا وها هنا. ثم إنه لا يكتفى بهذا بل يدعى أيضا أنه بهذا الذى يقوله قد أتى بالجديد الذى لم يسبقه إليه سابق وأنه ابن بجدتها فى كشف سرقة الإسلام نظامه التشريعى من مصادر خارجية. وهو زعم كاذب، إذ قد سبق المستشرقون والمبشرون إلى ترديد هذه الأقاويل الرخيصة المتهافتة كما قلت آنفا، وكل دوره منحصر فى تكرير ما قالوه. ذلك أن ثقافته لا تؤهله إلى الوصول إلى تلك المصادر المزعومة، ودوره هو وأمثاله منحصر فى الترويج لمثل تلك المفتريات الاستشراقية التبشيرية دون أن يضيفوا إليها شيئا. وهناك كتاب له عن النبى محمد عنوانه "فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين" يزعم فيه زعما وقحا أنه ليس سوى صنيعة نصرانية أعدتها خديجة بنت خويلد وورقة بن نوفل. وقد بينت فى كتابى: "لكن محمدا لا بواكى له" أن ما جاء فى ذلك الكتاب لا يخرج عما كتبه المسمى: أبا موسى الحريرى فى كتابه: "قس ونبى" حذوك النعل بالنعل لم يأت فيه بشىء من عنده لأنه لا شىء عنده يمكن أن يأتى به. ودوره هو دور الكبش الخشبى الذى تُكْسَر به أبواب القلاع. وقد اختير من بين المنتسبين للإسلام حتى تكون الضربة مُوجِعة ومُوهِمة للأغرار السطحيين أن الإسلام دين هش ضعيف، فها هم أولاء أبناؤه يكتشفون هذا الضعف ويفضحون تلك الهشاشة.
لقد سبقه إلى دعواه فى "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية" كثير من المستشرقين والمبشرين، كلٌّ وقف أمام هذا التشريع أو ذاك من تشريعات الإسلام، أو هذه العبادة أو تلك من عباداته، وحاول بالتدليس والكذب والبطلان الإيهام بأنها ترجع إلى مصادر خارجية. ومن يطالع "دائرة المعارف الإسلامية" الاستشراقية مثلا يجد أن كَتَبَتَها لم يكادوا يغادرون شيئا فى الإسلام إلا وأرجعوه إلى أحد تلك المصادر أو بعضها. أما الكتب المفردة فيمكن الإشارة على الطائر إلى ما كتبه جولدتسيهر وهنرى كوبان عن تأثير الزرادشتية على الإسلام، وما كتبه أبراهام جايجر وكاتش وتورى عن تأثير اليهودية، وما كتبه ريتشارد بل عن تأثير النصرانية، وما كتبه فلهاوزن ونولدكه وهرجرونه وروبرتسون سميث عن تأثير دين الصابئة والوثنية الجاهلية، بالإضافة إلى مؤلفات تسديل وكلير وابن الوراق وأمثالهم فى هذا الصدد.
والواقع أن هذا الذى يبدئون القول فيه ويعيدون سخف ما بعده سخف، إذ معناه أن الرسول كانت عنده مكتبة دينية ضخمة تتناول الأديان المختلفة كلها يخلو إليها وينظر فيها ويوازن ويختار، ثم فى النهاية يركب من كل ذلك دينه الجديد، أو كان لديه مستشارون دينيون فى كل تخصص يرفده كل منهم بما يجده نافعا مفيدا للدين الذى ينوى إظهاره للعالم كى يدشنه العالم نبيا جديدا. لكن النبى لم يكن يقرأ أو يكتب، ومن ثم فموضوع المكتبة الدينية خارج الحساب. ولنفترض أنه كانت هناك رغم ذلك مكتبة، فأين كان يضع النبى مثل تلك المكتبة، التى لم يرها أحد ولا سمع بها أحد؟ ومن أين جلب مجلداتها؟ بل هل كانت هناك كتب فى الجزيرة العربية فى تلك الأيام أصلا، بله أن توجد مكتبات؟ وحتى لو غضضنا الطرف عن ذلك أيضا فمتى كان يخلو النبى فى تلك المكتبة بنفسه وكتبه يقرأ ويصطفى ما يراه لازما لمشروعه القادم؟ لقد كانت حياته كتابا مفتوحا، وبخاصة أن مكة كانت بلدا صغيرا يعرف فيه كل إنسان كل إنسان آخر بحيث لا يمكن أن يفوت هذا الأمر عيون المكيين؟ لكن الافتراض الآخر لا يقل عن افتراض المكتبة سخافة ولا استحالة، إذ من أولئك الناس الذين كانوا يعملون له مستشارين ومعاونين؟ وأين كانوا يعيشون؟ وكيف لم يرهم أو يسمع بهم أحد؟ بل كيف لم يتقدم أحد، أى أحد، فى حياة محمد أو بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ليقول إنه أحد مستشاريه أو معلميه؟ يا لتلك التفسيرات من تفسيرات منحطة قميئة!
ولقد أخرجت منذ ثلاث سنوات تقريبا كتابا بعنوان "على هامش الحضارة العربية لجوزيف هِلْ" رددت فيه على الادعاء المبطَّن لهذا المستشرق الجرمانى بأن محمدا أخذ شعيرة الصلاة عن اليهود أو النصارى. قال: "من المحتمل أن تكون اليهودية أو النصرانية قد أوحت (إلى النبى) شكل العبادة المعروفة فيها. وأيا ما تكن الحقيقة فى هذا فقد اكتسبت الصلاة بين المسلمين قوة وأهمية خاصة". قال هِلْ ذلك رغم أنه لم تكن هناك كنيسة أو معبد يهودى فى مكة حيث كان ينزل على محمد الوحى لمدة ثلاثة عشر عاما وحيث كان المسلمون الأوائل بعد ذلك يؤدون صلاتهم، كى يأتى فَسْلٌ من فسول الاستشراق فيقول إنهم قد رَأَوُا اليهود والنصارى أثناء صلاتهم فتأثروا بهم واسْتَوْحَوْا عبادتهم منهم. ومن ناحية أخرى فإن صلاة الإسلام تختلف تماما عن صلاة اليهود والنصارى فى كل شىء، سواء فى الأقوال أو الأفعال أو الحركات، وقبل ذلك فى مفهوم الإله الذى تقدَّم له الصلوات. كما أن تخطيط المسجد يختلف عن كنيس اليهود وكنائس النصارى. ومن المعروف أن الصلاة الإسلامية لا تعرف الغناء ولا الموسيقى بتاتا على عكس ما هو موجود لدى اليهود والنصارى.
وقد قرأت فى صحيفة "المصرى اليوم"، بتاريخ 10/ 6/ 2009م، تقريرا صحفيا بقلم محمد عبود عنوانه: "إسرائيل من الداخل: اليهود العرب يؤدون الصلاة على أنغام أم كلثوم وعبد الوهاب والشيخ زكريا أحمد" جاء فيه ما يلى: "حبوشة واحد من عشرات المنشدين اليهود الذين مزجوا أدعيتهم وترانيمهم الدينية بموسيقى عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد وأسمهان والسنباطى، فاكتسبوا شهرة هائلة فى أوساط اليهود العراقيين والمصريين واليمنيين والمغاربة بسبب البهجة التى يضفونها على الصلوات التى تقام فى المعابد مساء كل سبت. عشرات الرجال والنساء من اليهود العرب يجلسون فى المعبد وكأن على رؤوسهم الطير. تتمايل أجسادهم طربا بينما تصدح فى قاعة الصلاة ألحان الشيخ زكريا أحمد. يتهادى مقام الهزام شيئا فشيئا، ويصير اللحن شجيا، وتكاد تسمع كوكب الشرق تشدو بكلمات بيرم التونسى: "الورْدِ جميلْ. جميلِ الورْد"، لكن صوت أم كلثوم غائب عن المشهد. ويظهر على المنبر الحاخام موشيه حبوشة يطلق بصوته: "يا عين يا ليل" طويلة وملهمة، ثم يترنم بالعبرية: "إلهك إله واحد. وحد إلهك. إلهك إله واحد. وحد إلهك"، وتتهادى فى الأفق صلاة يهودية تفيض بالتسابيح والاستغفار والتضرع لرب العالمين. لا تستطيع أن تقطع برد فعل "الست" أم كلثوم لو كانت على قيد الحياة الآن: هل كانت ستغضب وتعتبر ما يحدث تشويها لتراثها الغنائى أم كانت ستعتبر نفسها "قوة ناعمة"، وتقف شامخة لتغنى: "وقف الخلق ينظرون...كيف أخترق الثقافة اليهودية وحدى"؟
حبوشة واحد من عشرات المنشدين اليهود الذين مزجوا أدعيتهم وترانيمهم الدينية بموسيقى عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد وأسمهان والسنباطى، فاكتسبوا شهرة هائلة فى أوساط اليهود العراقيين والمصريين واليمنيين والمغاربة بسبب البهجة التى يضفونها على الصلوات التى تقام فى المعابد مساء كل سبت. ونتيجةَ نجاحِهم الكبير تسابقت شركات الإنتاج الفنى إلى طبع صلواتهم فى أسطوانات مدمجة تحقق مبيعات ضخمة، وأرباحا هائلة. "نظرةْ عينيكْ تسحرْنى. والشوقْ إليكْ حيرنى. عطف وحنانْ من الزمانْ. ولَّا عشانْ جميلْ جَمَال". كلمات غناها فريد الأطرش فى "لحن الخلود" تحولت بقدرة قادر إلى "الخير فى عينيك، والتقوى على شفتيك. إلهى يحفظك من أخطائك، ويحميك من أعدائك"، وحل صوت بالعبرية محل صوت فريد، وبقى اللحن على حاله".
ثم إن اليوم الذى تتم فيه الصلاة الجماعية الأسبوعية فى الإسلام هو يوم الجمعة، بينما اليوم الأسبوعى فى اليهودية هو السبت، وفى النصرانية الأحد. وفوق ذلك فالمسلم لا يَحْرُم عليه العمل فى ذلك اليوم، بل كل ما هو مطلوب منه التوقف عنه للذهاب إلى الصلاة فقط لا طوال اليوم كما هو الحال فى سبت اليهود، الذى يجب أن يستريح فيه بنو إسرائيل من كل عمل هم ونزلاؤهم وعبيدهم وحيواناتهم، فلا زرع ولا نسج ولا خبز ولا صيد ولا ذبح ولا سلخ ولا بيع ولا إشعال نار أو إطفاءها مثلا، ومن خالف ذلك فلا بد أن يُقْتَل. وعلى بنى إسرائيل أن يقدموا قربانا لله فى ذلك اليوم على نحو مخصوص ويجتمعوا فى المعبد يرتلون الأناشيد والمزامير، ويقرأوا بعض نصوص العهد القديم. كما أن المسلم لا يعتقد،كما يعتقد اليهودى، أن الله قد تعب من خلق الكون فاستراح يوم السبت، وعليه هو أيضا أن يستريح فى ذلك اليوم كما استراح الله. فالله فى الإسلام لا يصيبه لغوب حتى يستريح.
وإن قول النبى : "أضلَّ اللَّهُ عنِ الجمعةِ من كانَ قبلنا: كان لليهودِ يومُ السَّبتِ، والأحدُ للنَّصارى، فَهُمْ لنا تبعٌ إلى يومِ القيامةِ. نحنُ الآخِرون من أَهْلِ الدُّنيا، والأوَّلونَ المقضيُّ لَهم قبل الخلائق" لَيَعْكِسُ المسألة عكسا تاما، إذ يبين بجلاء ما بعده جلاء أن الإسلام لا يدين فى شأن ذلك اليوم وعبادته بأى شىء لأهل الكتاب. ولو كان الأمر بخلاف ذلك ما سكت اليهود ولا النصارى ولردوا على الرسول بأنه إنما أخذ الصلاة من دينهم.
كذلك فالإسلام، منذ وقت مبكر، قد أدان ما اعترى كلتا الديانتين من تطور حَادَ بها عما كانت عليه لَدُنْ نزولِها من عند الله، فكيف يستوحى صلاة هؤلاء أو هؤلاء رغم ذلك؟ كما أن الصلاة فى الكنيسة تتم أمام التماثيل والصور، وفى الإسلام لا تماثيل ولا صور فى أماكن العبادة، بَلْهَ أن كثيرا من المسلمين يرون التماثيل حراما بإطلاق: فى مواضع العبادة أو فى سواها. بل إن الصلاة عند اليهود والنصارى قد خضعت لتطورات شتى، ولم تثبت على وضع واحد بخلاف صلاتنا، فهى هى نفس الصلاة التى كان يصليها النبى وصحابته على وجه التطابق لم يُخْرَم منها شىء. ثم إن صلاتنا يلزمها وضوء، أما الصلاة لدى أهل الكتاب فليس لها وضوء كوضوئنا. وفوق هذا وذاك لم نسمع أحدا من اليهود أو النصارى يعاير النبى بأنه قد اسْتَقَى صلاته من الطريقة التى يعبدون هم الله بها. بالعكس كان اليهود مثلا يسخرون من المسلمين فى المدينة كلما نادَوْا إلى الصلاة، إذ تذكر الآية الثامنة والخمسون من سورة "المائدة" أنهم كانوا يتخذونها آنئذ هُزُوًا ولَعِبًا.
وإذا كان الرسول قد تحرج من أخذ الناقوس أو البوق عن اليهود والنصارى كأداة للأذان، والأذان مجرد تنبيه للمسلمين كى يهبُّوا فيستعدوا للصلاة ويروحوا إلى المسجد، فهل تراه يقبل أن يستوحى الصلاة ذاتها منهم؟ كيف ذلك؟ وبأى منطق؟ ففى "التمهيد" لابن عبد البر: "اهتمَّ النبيُّ للصلاةِ: كيفَ يجمع الناس لها، فقيلَ له: انصبْ رايةً عندَ حضورِ الصلاةِ، فإذا رَأَوْهَا آذنَ بعضهم بعضا. فلم يعجبه ذلك. قال: فذُكِرَ له القُنْعُ (يعني الشَّبُّورُ. وقال زياد: "شَبُّورُ اليهودُ")، فلم يعجبه ذلك. قال: هو من أمرِ اليهودِ. فذُكِرَ له الناقوسُ، فقال: هو من أمرِ النّصارى. فانصرفَ عبد الله بن زيدٍ، وهو مهتمٌّ بِهَمّ النبيِّ ، فأُرِيَ الأَذَانَ في مَنامِهِ. قال: فغَدَا على رسولِ اللهِ فأخبره فقال: يا رسولَ اللهِ، إني ليس بنائمٍ ولا يقظانَ إذ أتاني آتٍ فأراني الأذانَ. قال: وكان عمرُ بن الخطابِ قد رَآهُ قبلَ ذلك فكتمه عشرين يوما ثم أخبرَ النبيَّ ، فقال: ما منعكَ أن تخبرنا؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيدٍ، فاستحييتُ. فقال رسولُ اللهَ : يا بلالُ، قم فانظرْ ما يأمرك به عبد الله بن زيدٍ فافعله. قال: فأذَّنَ بلالٌ".
ولو كان للرسول أن يستوحى شيئا من أمور الصلاة عن هؤلاء أو هؤلاء لكان من باب الأولى قد أخذ عنهم سبتهم أو أحدهم، وهو مجرد يوم تؤدى فيه العبادة الأسبوعية، وليس هو العبادة نفسها. فإذا كان قد حرص على تميز المسلمين بيوم صلاتهم الجماعية، فهل تراه يفكر مجرد تفكير فى استيحاء الصلاة كلها منهم؟ وقد بلغ من حرصه على التميز فى موضوع الصلاة أن سمى معبد المسلمين: "مسجدا" لا كنيسة ولا كنيسا. ثم أين الأخبار التى تقول بأن موضوع استيحاء الصلاة، مجرد استيحائها فقط، من اليهود قد وُضِع على بساط البحث؟ أم إن الأمر لا يعدو عند المستشرق أن يكون مجرد خاطر ينبت فى ذهنه بغتة من حيث لا ندرى له مَصْدَرًا ولا مَأْتًى؟
ولكى يدرك القارئ ما فى كلام هذا المستشرق من زيف وتنطع أنقل له النص التالى عن الصلاة فى الديانة اليهودية من موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" للدكتور عبد الوهاب المسيرى تحت عنوان "الصلوات اليهودية". ومنه يتضح ألا صلة بين صلاتنا وصلاة اليهود بأى حال: "الصلوات العبرية: "تفيلاه" بالعبرية، وكانت تعني في أصلها "الإرهاق" أو "تعذيب الذات وإظهار الخضوع". والصلاة أهم الشعائر التي تُقَام في المعبد اليهودي. ويذكر سفر "التكوين" جملة صلوات متفرقة وعبادات، كما يذكر الضحايا والقرابين التي يجب أن يقدمها اليهودي للإله. ولم تكن الصلوات في بادئ الأمر محدَّدة ولا إجبارية، بل كانت تُتْلَى ارتجالاً حسب الأحوال والاحتياجات الشخصية والعامة. وثمة إشارة إلى بعض المظاهر المقدَّسة مثل وضع بعض الأحجار على هيئة مذبح قبل التضرع للإله. ومع التهجير إلى بابل بطلت الضحايا والقرابين، وظهرت العبادات بالصلوات. وقد بدأ علماء المجمع الأكبر في وضع قوانينها وفي تقنينها ابتداءً من القرن الخامس قبل الميلاد. ولم تكتمل هذه العملية إلا بعد هدم الهيكل وانتهاء العبادة القربانية المركزية التي كانت تأخذ شكل تقديم الحيوانات والنباتات، وحلت محلها الصلاة التي كان يُطْلَق عليها "قربان الشفتين" أو "عبادة القلب". واستغرقت هذه العملية، كما تقدَّم، وقتًا طويلًا. وعلى أية حال فإنها لم تستقر تمامًا، إذ كان يضاف إلى الصلوات قصائد البيُّوط التي يؤلفها الشعراء الدينيون. ثم أُدْخِلَت تعديلات جذرية على الصلوات ابتداءً من أواخر القرن الثامن عشر.
ولا يزال مضمون الصلوات خاضعًا للتغيير حسب التغيرات السياسية والأحداث التاريخية: ففي صلاة الصبح كان اليهودي يشكر الإله على أنه لم يخلقه أمميًا، أي من غير اليهود (الأغيار). والجزء الختامي من الصلاة نفسها والذي يُتْلَى أيضًا في صلوات رأس السنة اليهودية ويوم الغفران يبدأ بالدعاء التالي: "نحمد إله العالمين... أنه لم يجعلنا مثل أمم الأرض... فهم يسجدون للباطل والعدم ويصلون لإله لا ينفعهم". وقد حُذِف الجزء الأخير من الصلوات في غرب أوربا، وظل يُتَدَاوَل شفويًّا في شرق أوربا وإسرائيل. وبدأ يُعَاد طبعه مرة أخرى في كتب الصلوات في إسرائيل. كما يمكن أن تُضَاف أدعية وابتهالات مرتبطة بأحداث تاريخية وقومية مختلفة ودعاء للحكومة. وقد كانت الصلاة تُقَام بالعبرية أساسًا. ولكنْ مع حركة إصلاح اليهودية أصبحت الصلاة تُؤَدَّى بلغة الوطن الأم، وإن كـان الأرثوذكس قد احتفظوا بالعبرية. ويُطَعِّم المحافظون صلواتِهم بعبارات عبرية.
وتُعَدُّ الصلاة واجبة على اليهودي الذَّكَر لأنها بديل للقربان الذي كان يُقدَّم للإله أيام الهيكل، وعلى اليهودي أن يداوم على الصلاة إلى أن يُعَاد بناء الهيكل، وعليه أن يبتهـل إلى الإله لتحقيق ذلك. أما عدد الصلوات الواجبة عليه فهي ثلاث صلوات كل يوم: 1- صلاة الصبح (شحَاريت)، وهي من الفجر حتى نحو ثلث النهار. 2- صلاة نصف النهار، وهي صلاة القربان (منْحه)، من نقطة الزوال إلى قبيل الغروب. 3- صلاة المساء (مَعَاريف)، من بعد غروب الشمس إلى طلوع القمر. وكانت الصلاتان الأخيرتان تُخْتَزَلان إلى صلاة واحدة (منحه- معاريف). ويجب على اليهودي أن يغسل يديه قبل الصلاة، ثم يلبس شال الصلاة (طاليت) وتمائم الصلاة (تفيلين) في صلاة الصباح، وعليه أيضًا أن يغطي رأسه بقبعة اليرمُلكا. والصلوات اليهودية قد تكون معقدة بعض الشيء، ولذا سنكتفي بالإشارة إلى القواعد العامة والعناصر المتكررة: 1- يسبق الصلاة تلاوة الأدعية والابتهالات، ثم قراءة أسفار موسى الخمسة في أيام السبت والأعياد، وتعقبها كذلك الابتهالات والأدعية. وهذه الأدعية والابتهالات لا تتطلب وجود النِّصَاب (منيان) اللازم لإقامة الصلاة لأنها ليست جزءًا أساسيًّا من الصلاة. أما الصلاة نفسها فتتكون من: أ- الشمَّاع، أي شهادة التوحيد اليهودية. ب- الثمانية عشر دعاء (شمونة عسْريه) أو العميداه. وهي تسعة عشر دعاء كانت في الأصل ثمانية عشر، ومن هنا كانت التسمية. ج- دعاء القاديش. هذا، وتُضَاف صلاة تُسَمَّى: "موساف" (الإضافي) يوم السبت وأيام الأعياد. أما في عيد يوم الغفران فتبدأ الصلاة بتلاوة دعاء كل النذور في صلاة العشاء، وتُضاف صلاة تُسمَّى: "نعيلاه" (الختام).
والصلاة نوعان: فردية ارتجالية تُتْلَى حسب الظروف والاحتياجات الشـخصية، ولا علاقـة لها بالطقوس والمواعيد والمواسم. وأخرى مشتركة، وهذه صلوات تُؤَدَّى باشتراك عشرة أشخاص على الأقل يُطْلَق على عددهم مُصطلَح "منيان"، أي النِّصاب، في مواعيد معلومة وأمكنة مخصوصة حسب الشعائر والقوانين المقررة. ويردد الصلوات كل المشتركين فيها إلا أجزاء قليلة يرددها القائد أو الإمام أو المرتل (حزَّان) بمفرده. ويتجه اليهودي في صلاته جهة القدس، وأصبح هذا إجراءً معتادًا عند يهود الشرق كافة. أما في القدس نفسها، فيولي المصلي وجهه شطر الهيكل. وتوجد كتب عديدة للصلوات اليهودية لا تختلف كثيرًا في أساس الصلاة والابتهالات، ولكن الخلافات تنحصر في الأغاني والملحقات الأخرى. وقد تغيَّرت حركات اليهود أثناء الصلاة عبر العصور: ففي الماضي كان اليهود يسجدون ويركعون في صلواتهم (ولا يزال الأرثوذكس يفعلون ذلك في الأعياد)، ولكن الأغلبية العظمى تصلي الآن جلوسًا على الكراسي كما هو الحال في الكنائس المسيحية إلا في أجزاء معيَّنة من الصلاة مثل تلاوة الثمانية عشر دعاء (شمونه عسريه)، فإنها تُقْرَأ وقوفًا في صمت. ولا يخلع اليهود نعالهم أثناء الصلاة (باستثناء الفلاشاه والسامريين). ويُلاحَظ أن عدد المصلِّيات في الوقت الحاضر يزيد على عدد المصلين في كثير من المعابد اليهودية (الإصلاحية أو المحافظة) مع أن العقيدة اليهودية لا تكلف النساء بالذهاب إلى المعبد، وليس بإمكـانهن تـلاوة الأدعية إلا في أجزاء من أدعية معينة مقصورة عليهن. ولا شك في أن المحيط المسيحي قد ترك أثرًا في اليهودية في هذا الشأن.
وقد اكتسبت الصلاة أهمية غير عادية في التراث القبَّالي الحلولي، فالقبَّاليون يؤمنون بأن ما يقوم به اليهودي في العالم السفلي يؤثر في العالم العلوي. والصلوات من أهم الأفعال التي يقوم بها اليهودي في هذا المضمار، فالصلاة مثل التعويذة السحرية التي يستطيع من يتلوها أن يتحكم في العالم العلوي. ولما كان اليهود العنصر الأساسي في عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقون)، وهي العملية التي تتم بمقتضاها استعادة الشرارات الإلهية التي تبعثرت وولادة الإله من جديد، فهي تُسْرِِع بالتقريب بين العريس/ الملك، والعروس/ الملكة (الشخيناه) وتوحِّد بينهما، كما تسهم في عقد الزواج المقدَّس بينهما. ولذا فإن اليهودي قبل أن يؤدي صلاته يقول: "من أجل توحيد الواحد المقدَّس... مع أنثاه (الشخيناه)"... وحينما يتلو اليهودي دعاءً قبل الصلاة فإنه يقول فيه إنه سيقوم بالصلاة حتى يتحقق الزواج المقدَّس (هازيفوج هاقادوش). ولكل فرقة يهودية منهاج أو عرف خاص بها. ولذا يمكننا الحديث عن المنهاج الإشكنازي، والمنهاج السفاردي".
أما الصلاة عند النصارى فيوضحها النص التالى، وهو منقول من أحد المواقع النصرانية. ومنه يتبين أن صلاتنا مختلفة تمام الاختلاف عن صلاة النصارى أيضا، ولا تربطها بها أوهى صلة. يقول النص: "يمكن تعريف الصلاة في الإيمان المسيحي بأنها "لقاء مع الله". فيها يقدم المصلّي لله الشكر والحمد، ويسأله غفران خطاياه، ويرفع أمامه طلباته وتضرعاته. وتندرج الصلاة في سياق عبادة الله الواحد. تدخل الصلاة في صلب حياة المؤمن المسيحي، إذ تُعْتَبَر الغذاء الروحي الذي ينمّي الإيمان ويقويه ويثبته. ومن دون الصلاة يضعف المؤمن ويفتر إيمانه ويصبح فريسة سهلة لعدو الإنسان، أي الشيطان. إنه امتياز عظيم أن نكون في محضر الله نكلّمه ونشعر بروحه يقودنا ويرشدنا ويصغي إلى صلواتنا إصغاء الأب الحنون. الصلاة في المسيحية قد تكون فردية أو جماعية: الصلاة الفردية أن يكون المؤمن وحده في مكان معيّن (في بيته، سيارته، عمله، مدرسته أو جامعته، في الطائرة أو البحر أو في أي مكان آخر) يصلّي لله بخشوع وتقوى ووقار ومهابة. والصلاة الجماعية، وهي غالبا ما تكون ضمن لقاء مجموعة من المؤمنين المسيحيين في اجتماع يُدْعَى: اجتماع الصلاة. لا يوجد شروط محدّدة للصلاة كغسل اليدين مثلاً أو عدد ركعات معينة أو ترداد الكلمات نفسها كلّ مرة. الله لا ينظر إلى خارج الإنسان بل إلى داخله، أي فكره وقلبه (دون إهمال شكله الخارجي). الله يريدنا أنقياء من الداخل كي يُسَرّ بصلواتنا وتكون مقبولة عنده ويرضى بها ويستجيبها بحسب مشيئته. نقرأ في رسالة يعقوب 4: 8.
تحديد وقت الصلاة لا علاقة له بتعليم كتابي أو عقيدة إيمانية. إنما له طابع تنظيمي شكلي فقط. لذا يمكن لكل كنيسة أن تحدِّد موعدا أو وقتا معينا يلتقي فيه المؤمنون للصلاة في الكنيسة، كما يمكن لأي مؤمن أو مجموعة مؤمنين أن يصلّوا في أي وقت يحددونه. نحن نؤمن أنّ الله غير مقيّد بوقت ولا بمكان. وهو يصغي لمؤمنيه في أي وقت يطلبونه ويسألونه، مصلّين له بحمد وشكر وإكرام رافعين إليه تضرعاتهم وطلباتهم بإيمان وبنقاء الفكر والضمير. والإنجيل المقدس يحثّنا على الصلاة قائلاً في إنجيل لوقا 18: 1، وفي كولوسي 4: 2: يصلي المؤمنون بكل الاتجاهات، والله يسمعهم ويقبل صلواتهم إن كانت نابعة وصادرة من قلوب طاهرة وعقول نقيّة".
والآن أحب أن أنقل فقرات مما كتبته "دائرة المعارف الكتابية" فى مادتها عن "الصلاة" فى العهد القديم حتى يتبين للقارئ مدى الادعاء فى كلام جوزيف هِلْ:
"أولاً: الأوضاع في أثناء الصلاة ومكانها: 1- ليس هناك وضع معين للمثول في محضر الله، فكثيرًا ما صلى القديسون وهم وقوف (انظر مثلاً: 1 صم 1: 26، 1 مل 8: 22، نح 9: 4… إلخ). وكانت الصلاة الكبرى في المجمع اليهودي تسمى: "صلاة الوقوف". كما صلى البعض وهم راكعون (1 مل 8: 54، 2 أخ 6: 13، عز 9: 5 ، مز 95: 6 مت 26: 39، مرقس 14: 35، لو 22: 41، أع 7: 60، 9: 40، 20: 36). وقد صلى دانيال وهو جاثٍ على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم (دانيال 6: 10)، أو صلى البعض وهم وقوف مع بسط الأيادى (1 مل 8: 22، إش 1: 15)، أو رفعها (مز 63: 4، 1 تى 2: 8). ويقول نحميا: "فلما سمعتُ هذا الكلام جلستُ وبكيتُ ونُحْتُ أيامًا وصمتُ وصليتُ" (نح 1: 4). ويقول الرسول بولس: "بسبب هذا أحني ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح" (أف 3: 14)... ولم يكن الهم الأول لكتبة أسفار العهد القديم هو ذكر الأوضاع في أثناء الصلاة أو مكانها بل الصلاة نفسها والحاجة التي دفعت إليها...
ثانيا: الصلاة في العهد القديم: يقول كوهلر" (Kohler) إنه يوجد في العهد القديم نحو خمس وثمانين صلاة، علاوة على نحو ستين مزمورا كاملا وأربعة عشر جزءا من مزمور يمكن أن تعتبر صلوات: 1- في عصر الآباء:كانت الصلاة هي الدعاء باسم الرب (تك 4: 26، 12: 8، 21: 33)، وكانت تتميز بالتوجه مباشرة إلى الله والألفة معه (تك 15: 2- 6، 18: 22- 32، 24: 12- 14 و26- 28). وكثيرًا ما كانت الصلاة ترتبط بتقديم ذبيحة (تك 13: 4، 26: 25، 28: 20- 22). والصلاة مع تقديم ذبيحة تبين اتحاد إرادة الإنسان بإرادة الله، وكذلك تسليم النفس تمامًا لله وخضوعها له. ويبدو هذا جليًّا في صلاة يعقوب حيث أردف صلاته بأنْ نَذَرَ أن يكون الرب له إلهًا وأن يعشِّر كل ما يعطيه الله له (تك 8: 20- 22).
2- فيما قبل السبي: 1) كان من أهم مميزات الصلوات في هذه الفترة التوسل إلى الله والابتهال من أجل الآخرين. إلا أن هذا حدث أيضًا في عصر الآباء (انظر تك 18: 22- 33). فكثيرًا ما صلى موسى متوسلا من أجل الشعب، بل ذهب في توسله إلى حد قوله: "والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبتَ" (خر 32: 11- 13 و31- 35، 33: 12- 16، 34: 9، عد 11: 11- 15، 14: 13- 19، 21: 7 ، تث 9: 18- 21، 10: 10). وكذلك صلى هرون (عد 6: 22- 27)، وصلى صموئيل، الذي قال للشعب: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكفّ عن الصلاة من أجلكم" (1 صم 7: 5 - 13، 12: 19 و23) وصلى سليمان (1 مل 8: 22- 53) وحزقيا (2 ملى 19: 14- 19). 2) مما يستلفت النظر أنه في كل أسفار التوراة الخمسة لا يوجد أمر بالصلاة إلا في سفر "التثنية" (26: 1- 15). وهو هنا في صيغة للعبادة أكثر منها للصلاة، ففي الأعداد 5- 11 نجد الشكر، وفي العددين 13 و14 الإقرار بالطاعة فيما مضى، ونجد التوسل والابتهال إلى الله في العدد الخامس عشر. 3) يبدو أن الصلاة كانت أمرًا محتمًا في خدمة الأنبياء. فاستقبال إعلانات الله كان يستلزم الاتصال بالرب في الصلاة (إش 6: 5- 7، 37: 1- 4، إرميا 11: 32، 12: 1- 6، 42: 1- 4). وجاءت الرؤيا لدانيال بينما كان يصلي ويعترف (دانيال 9: 20 و21). وترك الباب النبي حبقوق ينتظر مصليا بعض الوقت (حب 2: 1- 3). ونعرف من سفر "إرميا" أنه، وإن كانت الصلاة أمرًا جوهريًّا في اختبار النبي وخدمته، إلا أن الباعث عليها قد يكون خبرة عاصفة (18: 19- 23، 20: 7- 18)، وفي نفس الوقت شركة طيبة مع الله (1: 4- 10، 10: 23- 25، 12: 1- 4، 14: 7- 9 و19- 22، 15: 15- 18، 16: 19 ، 17: 12- 14). 4) نجد في سفر "المزامير" مزيجًا من أسلوبين: المثالي والتلقائي في الصلاة. فمع الصيغة الرسمية للصلاة في القدس (كما في 24: 7- 10، 100، 150) توجد صلوات شخصية كطلب المغفرة (51) والشركة (63) والحماية (57) والشفاء (6) والتبرئة (109)، وصلوات تفيض بالحمد (103). كما تمتزج الذبيحة والصلاة في المزمورين (54: 6، 66: 13- 15).
3- في فترة السبي: كان أهم ما حدث في تلك الفترة هو ظهور دور "المجمع" بعد أن تم تدمير الهيكل على يد البابليين، ولم يعد في الإمكان تقديم ذبائح في أرض بابل، وأصبح المجمع هو مركز المجتمع اليهودي. ومن بين الالتزامات الدينية من ختان وصوم وحفظ السبت كانت للصلاة أهميتها، إذ كان لكل مجتمع صغير في السبي مجمع يؤمه الشعب حيث تتم قراءة الكتاب المقدس وتفسير الجزء المقروء ثم الصلاة. وبعد العودة من السبي إلي أورشليم لم يحلّ الهيكل الجديد محل المجمع كما لم يحلّ الكاهن محل الكاتب ولا الذبيحة محل الكلمة الحية، وهكذا لم تحلّ الطقوس محل الصلاة. فسواء في الهيكل أو في المجمع، وسواء في الطقوس الكهنوتية أو تفسير الكتبة، كان العابد التقي يطلب وجه الرب (مز 100: 2، 63: 1- 5) وينال بركته في نور وجهه الذي يشرق به عليه (مز 80: 3 و7 و19).
4- فيما بعد السبى: ظلت العبادة فيما بعد السبي في نفس هذا الإطار، لكن مع مزيد من الحرية الفردية، وهو ما نجده في سِفْرَيْ "عزرا" و"نحميا" اللذين، رغم إصرارهما على تطبيق الشريعة والفرائض والذبائح، ومن ثم على المظاهر الاجتماعية للعبادة، فإنهما شددا أكثر على الجانب الروحي في العبادة (عز 7: 27، 8: 22 و23، نح 2: 4،4: 4 و4 و9). كما كانت صلواتهما عميقة المغزى (عز 9: 6 - 15، نح 1: 5- 11، 9: 5- 38. انظر أيضًا دانيال 9: 4- 19). ويمكننا أن نلاحظ هنا أيضًا أنه لم يكن ثمة وضع معين يجب اتخاذه في أثناء الصلاة كما ذكرنا من قبل. كما لم تكن هناك ساعات معينة للصلاة، فكانت الصلاة تُرْفَع في أي وقت (مز 55: 17، دانيال 6: 10). وهكذا نجد في فترة ما بعد السبي المزج بين ترتيبات الطقوس في الهيكل وبساطة العبادة في المجمع وتلقائية العبادة الشخصية. وواضح من كل هذا أن الصلاة كان من المستحيل وضعها في نظام خاص أو قالب محدد.
ونجد في العهد القديم نماذج للصلاة، ولكن لا نجد تعليمات ملزمة تحكم محتوياتها أو كيفية أدائها. فالصلاة الروتينية أو المصبوبة في قوالب محددة لم تظهر إلي قرب نهاية الفترة ما بين العهدين كما نرى ذلك جليًّا في الأناجيل. وسواء في ذبائح الهيكل في أورشليم أو في الحمد والصلاة وتفسير الكلمة في خدمات المجمع في الشتات، أو في الختان وحفظ السبت وتقديم العشور والأصوام والصدقات، كان العابدون، سواء في الهيكل أو في المجمع، يَسْعَوْن إلى الفوز بالقبول عند الله...".
ومن "قاموس الكتاب المقدس" (مادة "صلى يصلي صلاة") ننقل النص التالى عن الصلاة فى النصرانية: "تُوَجَّه الصلاة لله كثالوث قدوس. كما تُوَجَّه أصلا للآب باسم الابن، وبواسطة الروح القدس. كما ترسل لكل من الأقانيم الثلاثة لمساواة الابن والروح في الجوهر والأزلية مع الآب. والصلاة لكل من الآب والابن والروح القدس متضمَّنة في البركة الرسولية: "نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس، فلتكن معكم جميعًا" (2 كو 13: 14). وكانت الصلاة ترفع للمسيح الناهض من القبر، وكان المسيحيون يدعون باسمه (1 كو 1: 2)، وصلى إستفانوس إليه مباشرة، وبولس يضرع إليه ويشكر، والمخلصون يرفعون له المجد والسجود (اع 7: 59 و60 و2 كو 12: 8 و9 و1 تس 3: 11 و1 تي 1: 12 ورؤ 1: 5 و6). أما الروح القدس فيعلمنا كيف نصلي (رو 8: 26)...
وتستعمل بعض الكنائس المسيحية كتبًا للصلاة تجمع فيها الطلبات والابتهالات والاعترافات التي نطق بها القديسون في كثير من أجيال الكنيسة. وهي تعبّر عن اختبارات روحية، وتستعمل كنماذج للمؤمنين فيما يجب أن تحتوي عليه الصلاة... وهي تعين على جمع أفكار العابدين ووضعها بصورة متناسقة متوافقة. وأما الصلوات الارتجالية ففَضْلها أنها توضّح أفكار الفرد الذي يصلي بنوع خاص وتحفظ حريته وتتنوع حسب الظروف... ولا تنحصر الصلاة في موضع ولا في زمن بل يجوز أن يصلَّى في أي موضع كان (1 تس 5: 17). على أنه يليق حفظ أوقات معينة للصلاة: فكان اليهود والرسل يصلون عند الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة من النهار، وعند بداية الليل ونهايته، وعند مناولة الطعام (مز 55: 17 ودا 6: 10 ولو 18: 1 واع 3: 1 و10: 3 و9 و30). وألف المسيحيون الأولون الصلاة والشكر عند تناول الغَدَاء (1 تي 4: 3 و4). وقد أخذت بعض الكنائس عن اليهود تلاوة مزامير وصلوات معينة في هذه الساعات".
ورغم ما ادعاه المستشرق الجرمانى من ادعاء سخيف فى موضوع الصلاة الإسلامية نراه يلقى الضوء بقوة على دَوْر هذه العبادة فى تخليص العرب من تمردهم وكراهيتهم الخضوع لرئاسة الغرباء وطَبْعهم بطابع النظام والطاعة والوحدة والتضامن والمساواة والتواضع والتخلص من العصبية القبلية، وهى المعانى والقيم التى يتشربها المسلم حين يقف أمام ربه فى الصلاة، وعن يمينه وشماله وقدامه وخلفه إخوانه من المسلمين المصلين. ولا شك أن هذه من النظرات العميقة التى ينبغى أن نذكرها للمؤلف رغم اختلافنا معه. وكثير من المسلمين لا يخطر على بالهم هذا الجانب من جوانب عبقرية الصلاة، بل يؤدونها والسلام، ثم هم بعد ذلك لا يهتمون خارج الصلاة لا بنظام ولا بطاعة ولا بتعاون، بل فى بعض الأحيان لا يراعون ذلك أثناء تأديتهم إياها.
كذلك يبدى هِلْ إعجابه الشديد بمنظر المسلمين أثناء الصلاة، قائلا إنه ما من أحد يشاهد المسلمين وقد انتظموا صفوفا فى الصلاة يؤدون شعائرها فى تناغم مدهش وهيبة ونظام إلا ويلاحظ على الفور القيمة التربوية لتلك الصلاة النظامية. وبالمناسبة فإن كثيرا من المستشرقين الذين شاهدوا صلاة المسلمين الجماعية قد أَبْدَوْا نفس الرأى وعلقوا بنفس الكلام وعبروا عن نفس الانبهار بما رَأَوْا وسمعوا. وإنى لأنتهز هذه الفرصة وأسأله: أَوَيمكن أن تكون هذه الصلاة التى أدهشتك مأخوذة من صلاة اليهود أو النصارى؟ فلماذا لا تشعر بذات الانبهار أمام تلك الصلاة الأخرى؟
وفى مادة "جمعة" من "دائرة المعارف الإسلامية" يزعم محررها أن صلاة الرسول الجمعة بأتباعه فى المدينة كان تقليدا للطريقة اليهودية، لكن دون أن يوضح لنا ما تلك الطريقة اليهودية ولا متى رأى النبى اليهود يصلون ولا ما هى وجوه الشبه بين صلاة الجمعة وصلاة اليهود الجماعية، بل دون أن يقف أمام الحقيقة التاريخية التى تقول إن صلاة الجمعة قد صليت فى المدينة قبل هجرة النبى إليها، وكان يؤم المسلمين فيها قبل قدومه الصحابى الجليل سعد بن زرارة.
وبالمثل يزعم كاتب مادة "رمضان" فى نفس الموسوعة أن الصوم الذى حل محل عاشوراء كان عبارة عن عشرة أيام فقط لا شهر كامل، وأن تلك الأيام العشرة المدعاة توازى أيام التوبة عند اليهود التى تسبق يوم الكفارة. وهو خبط كخبط العشواء لا دليل عليه. وفى مادة "جمرة" يقول المستشرق بوهل إن رمى الجمار مأخوذ من الوثنية الجاهلية، رغم أنه يمثل جزءا من شعيرة الحج كما وصلتنا عن إبراهيم . وهذا الرمى هو عنصر من عناصر الحج التى بقيت سليمة لم تمس، فأبقاها الإسلام كما هى بعد أن نفى العناصر الوثنية التى طرأت على تلك الشعيرة الكريمة، ومنها إزالة صنمى إساف ونائلة، اللذين كانا يقومان على الصفا والمروة عند الكعبة، ومَنْع النساء من الطواف بالبيت الحرام عرايا كما كان يحدث فى الجاهلية، وإخلاص التلبية لله بعدما كان الجاهليون يقولون فيها: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك. تملكه وما مَلَك"، وإيجاب الإفاضة من مكان واحد هو عرفات على عكس ما كان يفعله بعض العرب فى الجاهلية من الإفاضة من موضع غير الذى يفيض منه سائر الناس. وعلى أية حال فرمى الحصيات هو عمل من أعمال الحج يأتيه المسلم تقربا إلى الله سبحانه تعبيرا عن كراهيته للشيطان ولعنه ومحاربته. فأين الوثنية هنا؟ إن هذه الشعيرة، على العكس، تبرز التوحيد إبرازا، إذ يعلن المسلم بكل قواه أنه عبد لله يطيعه وحده ويعصى الشيطان وينفر منه ومن وساوسه ويعلن خصومته له وحربه عليه دون هوادة.
وفى مادة "القَسَم" نقرأ أن الإسلام أخذ كفارة اليمين من اليهودية أو النصرانية رغم أن كفارة الحنث فى القسم فى حد ذاتها ليست مقصورة على اليهودية، كما أن شكل الكفارة مختلف فى الإسلام عنه فى تلك الديانة: ففى الآية 89 من سورة "المائدة": "لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". أما فى اليهودية فنقرأ فى الإصحاح الخامس من سفر "اللاويين" فى العهد القديم أنه "إِذَا حَلَفَ أَحَدٌ مُفْتَرِطًا بِشَفَتَيْهِ لِلإِسَاءَةِ أَوْ لِلإِحْسَانِ مِنْ جَمِيعِ مَا يَفْتَرِطُ بِهِ الإِنْسَانُ فِي الْيَمِينِ، وَأُخْفِيَ عَنْهُ، ثُمَّ عُلِمَ، فَهُوَ مُذْنِبٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذلِكَ. 5فَإِنْ كَانَ يُذْنِبُ فِي شَيْءٍ مِنْ هذِهِ يُقِرُّ بِمَا قَدْ أَخْطَأَ بِهِ. 6وَيَأْتِي إِلَى الرَّبِّ بِذَبِيحَةٍ لإِثْمِهِ عَنْ خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ بِهَا: أُنْثَى مِنَ الأَغْنَامِ نَعْجَةً أَوْ عَنْزًا مِنَ الْمَعْزِ، ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، فَيُكَفِّرُ عَنْهُ الْكَاهِنُ مِنْ خَطِيَّتِهِ. 7وَإِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ كِفَايَةً لِشَاةٍ فَيَأْتِي بِذَبِيحَةٍ لإِثْمِهِ الَّذِي أَخْطَأَ بِهِ: يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ إِلَى الرَّبِّ، أَحَدُهُمَا ذَبِيحَةُ خَطِيَّةٍ وَالآخَرُ مُحْرَقَةٌ. 8يَأْتِي بِهِمَا إِلَى الْكَاهِنِ، فَيُقَرِّبُ الَّذِي لِلْخَطِيَّةِ أَوَّلاً. يَحُزُّ رَأْسَهُ مِنْ قَفَاهُ وَلاَ يَفْصِلُهُ. 9وَيَنْضحُ مِنْ دَمِ ذَبِيحَةِ الْخَطِيَّةِ عَلَى حَائِطِ الْمَذْبَحِ، وَالْبَاقِي مِنَ الدَّمِ يُعْصَرُ إِلَى أَسْفَلِ الْمَذْبَحِ. إِنَّهُ ذَبِيحَةُ خَطِيَّةٍ. 10وَأَمَّا الثَّانِي فَيَعْمَلُهُ مُحْرَقَةً كَالْعَادَةِ، فَيُكَفِّرُ عَنْهُ الْكَاهِنُ مِنْ خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ، فَيُصْفَحُ عَنْهُ. 11وَإِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ فَيَأْتِي بِقُرْبَانِهِ عَمَّا أَخْطَأَ بِهِ عُشْرَ الإِيفَةِ مِنْ دَقِيق، قُرْبَانَ خَطِيَّةٍ. لاَ يَضَعُ عَلَيْهِ زَيْتًا، وَلاَ يَجْعَلُ عَلَيْهِ لُبَانًا لأَنَّهُ قُرْبَانُ خَطِيَّةٍ. 12يَأْتِي بِهِ إِلَى الْكَاهِنِ فَيَقْبِضُ الْكَاهِنُ مِنْهُ مِلْءَ قَبْضَتِهِ تَذْكَارَهُ، وَيُوقِدُهُ عَلَى الْمَذْبَحِ عَلَى وَقَائِدِ الرَّبِّ. إِنَّهُ قُرْبَانُ خَطِيَّةٍ. 13فَيُكَفِّرُ عَنْهُ الْكَاهِنُ مِنْ خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ بِهَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْ ذلِكَ، فَيُصْفَحُ عَنْهُ. وَيَكُونُ لِلْكَاهِنِ كَالتَّقْدِمَةِ".
وواضح أنه لا يوجد أى وجه شبه بتاتا. فالحَلِف عند اليهود فى حد ذاته خطيئة يجب التكفير عنها بينما هو فى الإسلام جائز، أما الكفارة فعلى الحنث فيه ليس إلا. ثم إن الكفارة يقوم بها المسلم بنفسه بخلافها فى اليهودية حيث لا بد من كاهن يكفر عن الآثم خطيته. كذلك فى الوقت الذى تتم الاستفادة فيه من كفارة المسلم إذ ينال خيرُها الفقيرَ والمسكينَ، أو الحانثَ نفسَه بصوم ثلاثة أيام تتهذب بها أخلاقه، نجدها فى اليهودية تضيع هدرا لا يستفيد منها أحد، اللهم إلا ما يذهب منها للكاهن، الذى ليست له فى الحقيقة شغلة ولا مشغلة كما هو واضح لأن الحانث يستطيع تقديم الكفارة بنفسه. ثم إن تلطيخ جدران المعبد بالدم يذكرنا بالممارسات الهمجية عند الوثنيين. ومن ثم لقد كان الأحرى بكاتب المادة أن يخرس فلا ينبس ببنت شفة، لكنهم للأسف يقبلون على التدليس والكذب عن علم وقصد بقلوب ميتة وضمائر خربة ملوثة.
وفى مادة "الميتة" يحاول شاخت عبثا الزعم بأن تحريم الميتة فى الإسلام إنما يرجع إلى الجاهلية إذ كان العرب قبل الإسلام يحرمونها ولا يأكلونها، مع أن هذا غير صحيح، إذ كانوا يحاجون الرسول عند نزول النهى القرآنى عن أكلها بأنهم لا يَرَوْن أىّ فرق بين أن يكون الحيوان قد ذبحه بشر أو أن يكون قد ذبحه الله بموته ميتة طبيعية. وإن تعدد الآيات القرآنية فى تحريم لحم الميتة ليدل على أن القرآن كان يحارب عادة متأصلة فيهم. كما أن جعفر بن أبى طالب، حين وقف أمام نجاشى الحبشة يرد على دعاوى عمرو بن العاص وزميله ضد المسلمين هناك، قد أعلن أنهم كانوا يأكلون الميتة، ثم لما جاءهم الإسلام حرمها عليهم. وفى سبب نزول الآية الثالثة من سورة "المائدة" يقول أحد الصحابة: "كنا مع رسول الله وأنا أُوقِد تحت قِدْرٍ فيها لحمُ مَيْتَةٍ، فأُنْزِل تحريم الميتة، فأَكْفَأْتُ القِدْر".
ومن هنا فحين يقول خليل عبد الكريم، فى كتابه المذكور، إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أخذ عن الجاهليين تعظيمهم لإبراهيم وإسماعيل والبيت الحرام، والحجَّ والعمرةَ والاختتانَ والغُسْلَ من الجنابة والصومَ وتقديسَ شهر رمضان والاجتماعَ يوم الجمعة، والنفورَ من عبادة الأصنام وتقديم القرابين لها، وتحريمَ الربا والزنا وشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير ووأد البنات، والإيمانَ بالله الواحد وبالبعث، وتعديدَ الزوجات والتعشيرَ والعاقلة والقسامة والسلب والتخميس والشورى، ثم يزعم أنه ابن بجدتها وأنه أتى بما لم يأت به أحد من قبله، نعرف للتو أن دعواه العريضة هذه زائفة وغير قائمة على أساس.
فأما تعظيم الكعبة وجَعْل الحج والعمرة من شعائر الإسلام فليس مأخوذا من الجاهليين بل هو من دين إبراهيم ، الذى أمره سبحانه ببناء بيته المعظم والتأذين فى الناس بالحج كى يأتيه الناس من كل فج عميق. وقد ذكر القرآن المجيد ذلك وتلاه النبى على مسامع العرب لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا بل عشرات المرات، ومع هذا لم يعترض عليه أى من العرب قط. ثم إن الحج فى الإسلام يختلف كثيرا عن حج الجاهليين حسبما بينا قبلا. وأما بالنسبة إلى الجمعة فكل ما يمكن أن يقال فى هذا الصدد هو أن قريشا كانت تجتمع فى ذلك اليوم فى دار الندوة، فيخطب فيها كعب بن لُؤَىّ. وأين هذا من صلاة الجمعة على نحو مخصوص، فى وقت من ذلك اليوم مخصوص، وفى مساجد الدنيا جميعها لا فى دار معينة من مكة دون سواها، وللناس كلهم لا لكبار قريش فقط، وبخطبة دينية لا بخطبة عن أوضاع قريش؟
وأما تحريم الأصنام وقرابينها فهو دين الأنبياء جميعا. كذلك ليس هناك دين سماوى يحلل الربا أو الخمر أو الميسر أو الزنا. ثم إن الحنفاء، الذين يعزو خليل عبد الكريم إليهم تحريم هذه الفواحش، كانوا يؤكدون أنهم على دين إبراهيم، ولم يزعموا يوما أنهم أَتَوْا بأى شىء من هذا من عند أنفسهم. وقل مثل ذلك فى الختان. كذلك فالصوم موجود فى كل الأديان تقريبا، علاوة على أنه فى الإسلام مختلف تماما عنه فى اليهودية والنصرانية والمجوسية اختلافا عظيما. على أن ثم سؤالا خطيرا يحوك فى القلب ردا على هذا الزعم الكاذب: ترى لو لم يكن الرسول قد أتى بشىء جديد فى هذه الشرائع فلِمَ وقف منه العرب كلهم على بكرة أبيهم لسنوات طوال موقف الرفض والعداوة والكراهية، وآذَوْه هو وأتباعه وبيتوا النية على قتله، بل قتلوا بعضا من صحابته، وظلوا يحاربونه هو والمؤمنين به حربا لا هوادة فيها إلى أن فاؤوا لرشدهم بعد أعوام طوال فتراجعوا عن سخف موقفهم العدائى هذا؟
وأما تعديد الزوجات فقد كان معروفا عند كل الأمم تقريبا فى الشرق والغرب، علاوة على أن بعض المجتمعات كانت تعدد بالمئات، بل ما زالت هناك حتى الآن مجتمعات غير إسلامية تمارس التعديد. ومن ناحية أخرى فقد قصر الإسلام التعديد على أربع، ولم يطلقه إطلاقا كما كان الحال قبلا. بل لقد فضل التوحيد مع هذا لدى العجز عن توفير العدل بين الضرائر كما هو معروف. ثم إن الإسلام، عندما أحل التعديد، قد راعى أن هذا التشريع أكثر موافقة للطبيعة البشرية، وإلا فالأمم الأوربية مثلا، وهى لا تأخذ بالتعدد، ينتشر فيها الزنا والإباحية الجنسية والخيانة على أوسع نطاق كما يعرف القاصى والدانى. كما أن الإسلام لم يقر الجاهليين على عبادتهم للأصنام والأوثان وتقديم القرابين لها واعتقادهم فى العرافين والكهان والسحرة واستعانتهم بهم أو أكلهم الميتة أو لعبهم الميسر أو استحلالهم الربا أو وأدهم لأطفالهم أو عدوانهم بعضهم على بعض دون حق أو تطفيفهم الكيل والميزان أو غرامهم بالخمر أو تعدد أزواج المرأة الواحدة، أو زواج الاستبضاعِ أو الشغارِ أو المقتِ أو البدَلِ.
وبالمثل يزعم خليل عبد الكريم أن الإسلام إنما أخذ الرق عن العرب. والحق أن الرق كان معمولا به فى العالم كله بل ظل موجودا إلى العصر الحديث حتى فى أوربا وأمريكا، وعلى نحو لا يعرف الرحمة البتة. ومع هذا فقد أدخل الإسلام تطورات على هذا النظام تكفل تجفيف منابعه مع الأيام تماما، إذ انتهز كل سانحة لإعتاق الرقيق، فجعله كفارة لعدد من الأخطاء التى يسهل وقوع الإنسان فيها كالحنث فى اليمين وإيذاء السيد لعبده والإفطار العمد فى رمضان والقتل الخطإ ورغبة الرجل فى مراجعة زوجته التى ظاهَرَ منها... إلخ، فضلا عن تشريعه للمكاتبة، التى بمقتضاها يحق للعبد والأَمَة أن يحررا نفسيهما بما يستطيعان تدبيره من مال. بل إن الإسلام قد أوجب معاملة الرقيق معاملة حسنة بحيث يطعمهم سيدهم ويكسوهم مما يطعم هو ويلبس، وإذا كلفهم بشىء ثقيل فليعاونهم، وحَبَّبَ إلى مالك الرقيق إعتاقهم تقربا إلى الله. وقبل هذا كله لا بد من معرفة أن الإسلام لم يقنِّن الرق. وكل ما جاء فيه عن هذا الموضوع هو كلامه عن مصير أسرى الحرب فى الآية الرابعة من سورة "محمد"، وهذا نصها: "فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا...". وليس فى الآية، كما نرى، أى كلام عن استرقاق الأسرى، الذين كانوا آنذاك هم المصدر الوحيد للرق فى الإسلام، فقد ألغى دين محمد استرقاق المخطوفين ومرتكبى جرائم القتل والسرقة والزنا والمَدِينِين الذين يعجزون عن الوفاء بديونهم والأولاد الذى يرى آباؤهم، لسبب أو آخر، بيعهم والأشخاص الذين تدفعهم الحاجة إلى بيع أنفسهم. وفوق هذا فقد قرر الإسلام للأرقاء حقوقا عظيمة لم يكونوا يحلمون بها على الإطلاق.
وعلى نفس الشاكلة يُرْجِع خليل عبد الكريم التخميس، أى أخذ الدولة الإسلامية خمس الغنائم التى يحصل عليها الجيش من الحرب مع الأعداء وضمه إلى خزينتها للإنفاق منه على مواطنيها ومصالحهم، إلى ما كان معروفا فى الجاهلية من أخذ شيخ القبيلة أو قائدها فى الغارة ربع الغنيمة. والمسألة هنا ليس فيها سوى أمرين اثنين لا غير: فإما أن تأخذ الدولة نصيبا من الغنائم تنفقه فى مطالبها التى لا تنتهى، وإما ألا تأخذ. والدول كلها تأخذ غنائم الحروب جميعا لا خمسها فحسب. فهل ورثت ذلك عن عرب الجاهلية هى أيضا؟ إن الربع الذى كان يأخذه شيخ القبيلة أو أمير الغزوة كان يذهب إليه وحده، أما الخمس فيذهب إلى خزينة الدولة. فعلام التصايح إذن؟
والأمر كذلك فى شأن الشورى، التى يصرخ خليل عبد الكريم بأنها مأخوذة من الجاهليين. وماذا فى ذلك لو كان صحيحا؟ أكان يريد أن ينصر الإسلام الاستبداد والعسف والطغيان على الشورى والحرية؟ ثم إن الإسلام قد وضع الخطوط العامة للشورى، وترك للمسلمين الساحة بعد هذا كى يصولوا ويجولوا بغية استحداث النظام الذى يساعدهم على تطبيق ذلك المبدإ السياسى العظيم مسترشدين بتجارب الأمم الأخرى. فالمهم هو الحفاظ على الشورى والعمل بها والفرار من الاستبداد والغشم. ويكفى أن الله قد أمر رسوله، وهو مَنْ هو، أن يتخذ الشورى مبدأ دائما له. فهل هناك برهان أقوى من ذلك البرهان على إعلاء الإسلام من شأن الشورى؟ ولقد كانت حياته كلها تجرى على المشاورة واستطلاع آراء الآخرين سواء فى الحرب أو فى السلم. ولهذا ما فشل قط، بل كانت حياته كلها نجاحا فى نجاح.
لقد كان محمد نبيا رسولا، وكانت السماء توجهه وتنصره وتبصِّره بالحق والخير والفلاح وترعاه وتوحى إليه. ومن بين ما أوحته إليه أحكام الشريعة. وقد وافق بعض تلك الأحكام ما أتى به الأنبياء السابقون. وهو أمر طبيعى لا جَرَم فيه، فالنبوات من عند الله، ومن ثم فالمتوقع أن تكون هناك نقاط اتفاق فى الأمور التى لا تتغير فيها أحوال البشر وأوضاعهم. أما إذا تغيرت الأوضاع فإن تلك الأحكام تتغير معها. ولا مانع أبدا أن يكون هناك اتفاق بين بعض تلك الأحكام وبين ما عند العرب. وليس هذا بالمستغرب، فالبشر ليسوا شياطين لا يمكنهم التوصل إلى حق أو خير أبدا.
وأغلب الظن أن نقاط الاتفاق بين الأحكام التشريعية الإسلامية وبين ما كان موجودا هنا أو هناك لدى العرب مرجعها أن الأحكام التى يسير عليها العرب فى الجاهلية هى من بقايا أديان سابقة نسى العرب أصلها وظننا نحن أنها من صنع العرب أنفسهم. ولقد كان لدى العرب أنبياء كهود وصالح وشعيب. أو يمكن أن يكون جاء بها نبى غير عربى ثم وصلت إلى العرب، فأخذوا بها. ولقد كانت السماء ترعى خُطَا البشرية طوال الوقت منذ فجر التاريخ الأول حين لم يكن هناك سوى آدم وحواء وذريتهما، إذ كانت ترفده بين الحين والحين بالنبيين والمرسلين، وتلهمه الصواب والخير فيكتشف ويبدع ويخترع ويَبْلُغ كثيرا من الحقائق والمنافع والخيرات. ألم يقل الله سبحانه: "هل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ شيئًا مذكورًا؟"؟ والجواب: لا لم يحدث أن أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه شيئا مذكورا، بل كان الله ينظر إليه دائما بعين الرحمة والتوجيه ويأخذ بيده ويدله على الطريق. وإذا توافق ما جاء الإسلام به وما عند هؤلاء القوم أو أولئك فليس بضائره شيئا، فالمهم هو الحق والخير، وما عدا هذا لا يهم فى قليل أو كثير.