ابن الوراق ودعوى تلفيق القرآن‏
إبراهيم عوض


يقابل مستعمل المشباك والمواقع التى تهاجم الإسلام اسم "ابن ‏الوراق" كثيرا، وهو اسم حركى قرأت أن صاحبه‎ ‎مؤلف علمانى ذو ‏أصل هندى من مواليد 1946م، درس فى جامعة‎ ‎أدنبرة‎ ‎فى بريطانيا‎ ‎على ‏يد المستشرق‎ ‎مونتجمرى واط المشهور، وله عدة كتب تحدث فيها ‏مشككا عن أصل القرآن وحياة النبى محمد وداعيا إلى نشر العلمانية ‏فى أوساط المسلمين، ومنها كتابٌ اسمه "لماذا لست مسلما؟" عنوان ‏أول فصل فيه هو "مصادر الإسلام"، وهو الفصل الذى يشكك فيه ابن ‏الوراق فى إلهية المصدر القرآنى ويزعم، فيما يزعم، أنه مستمد من ‏التشريعات الجاهلية واليهودية والنصرانية والزرادشتية. وسوف أنقل ‏من الفصل المذكور النصوص التى تتناول ذلك الموضوع نصا بعد نص، ‏مُتْبِعًا كلَّ نص منها برَدِّى عليه. وقد اعتمدت بالدرجة الأولى على ‏ترجمة كلام ابن الوراق، التى قام بها من سمى نفسه: "ابن المقفع"، وهى ‏متاحة على بعض المواقع المشباكية، وإن كنت قد أصلحت بعض ‏الأخطاء الإملائية واللغوية وقومت عوج الأسلوب.‏
يقول ابن الوراق: "ليس هنالك من شك أنه فى فقرات عديدة من ‏القرآن "يكسو الطلاء الإسلامى بصورة رقيقة فقط أرضيةً وثنيةً". ‏فعلى سبيل المثال فى سورة "الفلق": بسم الله الرحمن الرحيم * قُلْ أَعُوذُ ‏بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَق * وََمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ ‏النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَد * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ". ‏
هذا كلام ابن الوراق، ولكن أين الوثنية فى السورة؟ لقد أمر ‏القرآنُ النبىَّ محمدا عليه الصلاة والسلام فى هذا النص الكريم ‏بالاستعاذة بالله سبحانه وتعالى. فهل الاستعاذة بالله وثنية؟ فما ‏التوحيد إذن؟ أهو فى الاستعاذة بالبشر وعبادتهم وإشراكهم مع الله ‏سبحانه بل تقديمهم فى الاهتمام عليه جل وعلا كما يفعل ناس من ‏غير المسلمين؟ أم هل هو فى الاستعاذة بالأصنام أو بالكواكب مثلا؟ ‏واضح أن الكاتب يتحدث بلامبالاة متصورا أن هذا السخف التافه ‏يمكن أن يدخل عقول المسلمين.‏
فهذا عن المستعاذ به، وهو الله عز وجل، فماذا فى المستعاذ منه ‏فى الآيات الكريمات من وثنية؟ لقد أُمِر الرسول عليه السلام ‏بالاستعاذة من الشر الموجود فى الدنيا. فهل فى الاستعاذة من الشر ‏وثنية؟ هل يريد منا ابن الوراق أن نستعيذ بالله من الخير ونستكثر من ‏الشر؟ والله إن هذا لعجيب! كما أُمِر نبينا صلى الله عليه وسلم ‏بالاستعاذة من الغاسق عند وُقُوبِه، أى من الظلام عندما يلف الكونَ ‏ولا تعود الرؤية ممكنة. فماذا من الوثنية فى ذلك؟ بطبيعة الحال حين ‏ينام الإنسان فإنه يطفئ النور عادة. كما قد يحب المحزون أن يختلى ‏بنفسه فى الظلام حتى تهدأ أعصابه ويجمع شتات نفسه. لكن هذا ‏ليس هو المقصود لأنه لا شر فيه بل الخير كل الخير. إنما الاستعاذة هنا ‏من أخطار الظلام كأن يقع الإنسان فى بئر أو حفرة أو تنزلق قدمه ‏على قشرة موز مثلا لا يستطيع أن يراها فتكون الطامّة، وقد يموت ‏فيها، وما أكثر ما يحدث هذا. ومعروف أن حوادث السيارات تكثر ‏فى الظلام وتقلّ فى وضح النهار. كما قد يتربص بالواحد منا عدو له فى ‏الظلام ليضربه أو يقتله، فلا نستطيع أن نفعل إزاءه شيئا لأن الظلام ‏يستره عنها، فيأتى عدوانه علينا مباغتا لا يمكننا اتقاؤه. والملاحظ أن ‏اللصوص عادة ما يمارسون نشاطهم فى الظلام، فهم أيضا داخلون فى ‏المستعاذ منه. بل إننا نتكلف مالا فى الظلام لا نتكلفه بالنهار، إذ علينا ‏إضاءة المصابيح، والإضاءة لها كلفتها، بينما أنت تمارس حياتك فى ‏ضوء الشمس نهارا دون أن تدفع فى مقابل ذلك النور الربانى الباهر ‏مليما واحدا... وهكذا. فهل يصح أن يعترض الكاتب الجاهل على هذا؟
‏ أما النفاثات فى العقد فيفسرها محمد عبده بالنمامين ‏والنمامات، الذين يفسدون العلاقات الطيبة بين الناس. وقد شبههم ‏الله، كما يقول، بالسحرة المشعوذين الذين إذا أرادوا أن يحلوا عقدة ‏المحبة بين المرء وزوجه فيما يوهمون به العامة عقدوا عقدة ثم نفثوا ‏فيها وحَلُّوها ليكون ذلك حَلًّا للعقدة التى بين الزوجين. ثم يضيف ‏قائلا إن النميمة تشبه أن تكون لونا من ألوان السحر لأنها تحوّل ما ‏بين الصديقين من محبة إلى عداوة بوسيلة خفية كاذبة، وتضلل وجدان ‏الصَّدِيقَيْن كما يضلل الليلُ من يسير فى ظلمته. وعلى هذا فأين الوثنية ‏هنا؟
وحتى لو أخذنا الآية على الحقيقة وقلنا إنها تتحدث عن نساء ‏ينفثن فى العُقَد فعلا فهل فيها ما يدل على وثنية؟ ما أكثر ما يهددنا ‏مهدِّدٌ بأنه سوف يفعل فينا كذا وكذا ويخرب بيتنا بكذا وكذا أو أنه ‏سوف يدمرنا ويقضى علينا، فلا يزيد الواحد منا فى تلك الحالة عن ‏أن يقول على سبيل الاستهانة بما يسمع من تهديدات: "وأنا أستعيذ ‏بالله منك ومن تهديداتك يا فلان!" دون أن نكون مصدقين شيئا ‏من تلك التهديدات، لكنها وسيلة لإخراس المهدد وإفهامه أننا لا ‏نأكل من قعقعاته هذه ولا نبالى بها ولا نصدقها. أما أن يكون وراء ‏الآية فعلا اعتقاد بالنفث فى العقد فغير مقبول عندى بتاتا، فالنبى ‏عليه السلام قد حذر المسلمين مرارا وتكرارا من هذه الخرافات ‏حتى لقد جعل من يذهب إلى ساحر أو عراف يستعين به كافرا بما ‏أُنْزِل عليه. وفى كل الأحوال فالآية تأمر المؤمن بالاستعاذة بربه ‏والاحتماء به سبحانه. وهذا من أقوى ضروب التوحيد، إذ معناه أن الله ‏بيده كل شىء. والعبد لله يفسر الآية بأن المسلم لا ينبغى أن يشغل باله ‏بما يقال عن النفاثات فى العقد أو يعتقد فيه أصلا، بل يعتصم من كل ‏أذى بالله، الذى لا يضر المعتصمَ به شىء فى الأرض ولا فى السماء. ‏وبهذا يحسم المسألة ويئدها فى مهدها ويبيت خالى البال دون قلق أو ‏إزعاج.‏
وتبقى الاستعاذة بالله من الحاسد وحسده. وكم للحسد وصاحبه ‏من شرور وأضرار. ذلك أنه حين تدب عقارب الحسد فى نفس الحاسد ‏فإنها تظل تلدغه فلا يهدأ له بال ولا يستقر به قرار حتى يُفْرِغ سم ‏حسده فى المحسود. وما أكثر السبل لإفراغ ذلك السم: إما بنشر ‏الشائعات التى تشوه صورته وسيرته، وإما برسم الخطط لإيذائه ‏وإضراره كوضع السم مثلا فى طعامه، أو تنويمه بدواء منوم حتى يفوته ‏الامتحان إذا كان طالبا متفوقا، وإما بإحراق سيارته إذا كان قد اشترى ‏سيارة جديدة، وإما بالنَّمِّ بينه وبين رئيسه حتى يعاقبه ويخسف به ‏وظيفته، وإما بإبلاغ السلطات زورا وبهتانا بأنه من أعدائها الذين ‏يتربصون بها شرا فتعتقله وترمى به فى السجن. وكم دفع الحسد ضَرَّةً ‏لا تحمل ولا تنجب إلى قتل ابن ضرتها حسدا منها لها. وكم سرقت ‏الحاسدة ابن امرأة أخرى ذات أولاد حقدا منها عليها ورغبة فى أن ‏يكون لها هى أيضا ولد كما للأخريات... إلخ إن كان لذلك من آخر. ‏وكما يرى القارئ لا يوجد أى ظل للوثنية هنا على الإطلاق، وكلام ابن ‏الوراق تضليل فى تضليل. ‏
ويقول ابن الوراق بعد ذلك: "اقتُبِسَتْ مناسك الحج كلها دون ‏خجل من ممارسات سابقة على الإسلام: "قطعة من وثنية غير مفهومة ‏أُخِذَتْ وأُدْمِجَتْ فى الإسلام. فالحج أو الحج الأكبر إلى مكة يقام ‏فى ‏شهر ذى الحجة, أو الشهر الثانى عشر من السنة الإسلامية. وهو الركن ‏الخامس من الإسلام, وواجب دينى مفروض مؤسَّس على أوامر فى ‏القرآن. فعلى كل مسلم ذى صحة جيدة ومتمكن بصورة كافية أن ‏يؤدى فريضة الحج مرة فى حياته. وتشكل أول سبعة أيامٍ الحجَّ الأصغر ‏‏(العمرة)، التى من الممكن إقامتها فى أى وقت عدا الأيام الثامن ‏والتاسع والعشر من شهر ذى الحجة. فهذه الأيام مخصصة للحج ‏الأكبر , الذى يبدأ فى الثامن.‏
الأيام الخمسة الأولى: فى البداية عندما يصل الحاج إلى نقطة على ‏بعد عدة أميال خارج مكة يقوم بإعداد نفسه لكى يكون فى حالة ‏من الطهارة أو القداسة. وبعد أن يقوم بارتداء لباس الحج البسيط ‏ويؤدى الوضوء والصلاة يدخل الحاج إلى الأراضى المقدسة المجاورة ‏لمكة حيث من المتوقع أن يمتنع عن قتل الحيوانات وقلع النباتات ‏والقيام بأعمال عنف والاتصال الجنسى. كما يقوم بالوضوء والابتهال ‏عند المسجد الحرام بمكة. وبالمثل يقبّل الحجر الأسود الموجود داخل ‏الركن الشرقى من الكعبة، وهى بناء مكعَّب فى داخل الفناء المكشوف ‏بالمسجد الحرام.‏
بعد ذلك يلتفت الحاج إلى اليمين ويقوم بالطواف حول الكعبة ‏سبع مرّات: ثلاث مرات بخطى سريعة، وأربع مرات بخطى بطيئة. وفى ‏كل مرة يقوم بلمس الركن اليمانى حيث موضع حجرٍ مباركٍ آخر، ‏ويقبّل الحجر الأسود أيضا.‏
ثم يتجه الحاج إلى مقام إبراهيم, وهو المكان الذى يقال إن ‏إبراهيم صلى فيه إلى الكعبة. ويقوم بصلاتين أخريين ثم يعود إلى ‏الحجر الأسود ليقبله. وبالقرب من ذلك توجد بئر زمزم المقدسة حيث ‏شربت هاجر وشرب ابنها إسماعيل فى البَرِّيَّة حسب الروايات ‏الإسلامية. ثم ينتقل الحجيج إلى مكان محاط يسمى بـ"الحجر", وهو ‏المكان الذى يعتقد المسلمون أن هاجر وإسماعيل دفنا فيه, ويقال إن ‏محمدا نفسه قد نام هناك فى ليلة إسرائه الأعاجيبى من مكة إلى ‏القدس.‏
اليوم السادس إلى العاشر: يغادر الحاج المسجد الحرام من إحدى ‏بواباته الأربع والعشرين. وفى الخارج يقوم بتسلق التل قليل الانحدار ‏المعروف بـ"جبل الصفا", مرددا خلال ذلك آيات من القرآن. وهذه ‏المناسك السخيفة تذكر ببحث هاجر المفترض عن الماء فى البرية. ‏وهذا هو اليوم السادس من الحج. ويتم قضاء المساء فى مكة حيث ‏يقوم الحاج بالطواف حول الكعبة مرة أخرى. وفى اليوم السابع يقوم ‏الحاج بالاستماع إلى خطبة فى المسجد الكبير. أما فى اليوم الثامن ‏فينتقل إلى مِنًى حيث يقوم بالفروض الإسلامية المعتادة ويبيت هناك. ‏وفى اليوم التاسع، وبعد صلاة الفجر, ينتقل الحاج إلى جبل عرفة ‏حيث يقام منسك الوقوف بعرفة. وطبقا للروايات الإسلامية فقد ‏التقى آدم وحواء فى ذلك الموضع بعد هبوطهما من الجنة. وهناك يردد ‏الحاج الصلوات المعتادة ويستمع إلى خطبة أخرى موضوعها التوبة. ثم ‏يفيض إلى مزدلفة, وهى موضع بين منى وعرفة, حيث يؤدى صلاة ‏المغرب.‏
ونصل إلى اليوم العاشر, وهو يوم الأضحية, ويحتفل به فى أرجاء ‏العالم الإسلامى كعيد الأضحى. وفيه يؤدى المتعبدون صلواتهم مبكرا ‏فى الصباح فى مزدلفة ثم ينتقلون إلى مواضع الرجم الثلاثة فى منى ‏حيث يرمى الحاج سبع حصيات على كل موضع من مواضع الرجم. ‏ويسمَّى هذا الطقس: رمى الجمار. وفيه يرمى الحاج عن بعد لا يقل عن ‏خمسة عشر قدما قائلا: "بسم الله العظيم أفعل هذا، وبكره لإبليس ‏وخزيه". ثم ترمى بقية الجمرات فى نفس اليوم، ليعود الحاج ويقوم ‏بالتضحية بعنزة أو حَمَل. وبعد الوليمة يحتفل الحاج بطقس التحلل ‏عندما يقوم الكثير من الحجيج بحلق رؤوسهم أو ببساطة: يقومون ‏بقص بضع خُصُلات.‏
ويضفى المسلمون صبغة منطقية على هذه الخرافات العملية ‏بوصفها رمزا لمقاومة إبراهيم لإبليس, الذى حاول أن يمنع السلف ‏العظيم من أداء مهمته الإلهية فى التضحية بابنه الغالى إسماعيل. ‏فالتضحية بحمل أو عنزة هى ببساطة إحياء لذكرى فداء إسماعيل ‏بكبش.‏
ترى كيف أمكن لشخصٍ مقاومٍ للوثنية وموحدٍ لا يلين فى ‏موقفه مثل محمد أن يُدْخِل كل هذه الخرافات الوثنية إلى قلب ‏الإسلام؟ معظم المؤرخين يوافقون على أنه لو رفض اليهود والمسيحيون ‏موسى ويسوع وفضلوا اتِّباع محمد على أنه نبى يدعو إلى ديانة إبراهيم ‏فى مكة حين اعتبر القدس هى القبلة لكانت القدس هى القبلة بدلا ‏من مكة المدينة المقدّسة, ولكانت الصخرة القديمة وليست الكعبة ‏موضع التوقير الملىء بالخرافة".‏
هذا ما قاله ابن الوراق، والسؤال هنا أيضا: أين الوثنية فى هذا؟ ‏نعم أين الوثنية فى الاغتسال وطرح الملابس العادية واستبدال ملابس ‏بسيطة غير مخيطة بها أو فى تكرار الابتهال إلى الله أو فى الطواف ‏حول الكعبة أو فى السعى بين الصفا والمروة أو فى الوقوف بعرفة أو فى ‏المبيت بمزدلفة أو فى رمى الجمار أو فى قص الشعر أو فى الامتناع عن ‏قتل الحيوانات وخلع الأشجار فى الحرم وممارسة الجنس؟ كان يكون ‏كلام هذا الجاهل مفهوما لو أن المسلمين كانوا يعبدون الأوثان ‏ويبتهلون إليها ويقدمون القرابين لها ويتمسحون بها ويستعيذون من ‏الشرور المتوهمة أو الحقيقية ببركتها أو كانوا يطوفون بالكعبة عرايا أو ‏ينصبون حول الكعبة أصناما يدورون حولها أو يعتقدون أن فى الحجر ‏الأسود قوة سحرية أو يسجدون له أو يدعونه أو يصفرون أو يصفقون ‏فى صلاتهم عند البيت الحرام. لكنهم لم يكونوا يصنعون أى شىء ‏من هذا، بل يفعلون نقيضه تماما، إذ كل ما يقولون أو يعملون إنما هو ‏تعبير عن إيمانهم بالله، وبالله وحده. وما رميهم الجمار سوى فعل ‏رمزى يؤكدون به بقاءهم على العهد فى الالتزام بعمل الخير وتجنب ‏الشر وإصرارهم على مراغمة الشيطان وعدم تركهم أية ثغرة يمكن أن ‏ينفذ من خلالها إلى نفوسهم وضمائرهم. وأما الملبس البسيط الساذج ‏فإقرار بأن مفاتن الدنيا زائلة وأن البشر كلهم من أصل واحد، فها هم ‏أولاء جميعا يلبسون ملبسا واحدا لا تفاضل فيه بين حاج وآخر. ‏والكعبة، بحمد الله، تخلو تماما من أى شىء يمكن أن تكون له ‏صلة بالاعتقادات الوثنية، فلا تماثيل ولا صور، بل تجريد تام يعبر ‏عن كمال التوحيد وتأصله فى النفس المسلمة. كما أن الامتناع عن ‏قتل الحيوان وخلع الأشجار هو لون من ألوان الحفاظ على البيئة. وقد ‏لفتت الآيات والأحاديث النبوية التى تتناول هذا الموضوع وما يتعلق ‏به انتباه المستشرقة الهولندية فرانشيسكا دى شاتِلْ فانخرطت فى وصلة ‏مديح وثناء مستحَقَّة على النبى محمد مؤكدة بأنه صلى الله عليه وسلم ‏رائد الحفاظ على البيئة فى التاريخ الإنسانى. ‏
وإذا كان الضد يُظْهِر حسنَه الضدُّ فينبغى أن نورد هنا بعض ‏ممارسات المشركين قبل الإسلام حتى يتضح التقدم الراقى والرائع الذى ‏أنجزه الإسلام فى هذا الصدد. ففى "الروض الأُنُف" للسهيلى نقرأ: "ذكر ‏ما أنزل الله تعالى فى أمر الحُمْس، وهو قوله تعالى: "يا بنى آدمَ خُذُوا ‏زينَتكم عند كلِّ مَسْجِد وكلوا واشْربوا"... الآية. فقوله: "وكلوا واشربوا" ‏إشارة إلى ما كانت الحمس حَرَّمَتْه من طعام الحج إلا طعام أحمس. ‏و"خذوا زينتكم": يعنى اللباس، ولا تَتَعَرَّوْا. ولذلك افتتح بقوله: "يا ‏بنى آدم" بعد أن قص خبر آدم وزوجه، إذ يخصفان عليهما من ورق ‏الجنة. أى "إن كنتم تحتجون بأنه دين آبائكم فآدم أبوكم، ودينه ستر ‏العورة"، كما قال: "ملة أبيكم إبراهيم". أى إن كانت عبادة الأصنام ‏دين آبائكم فإبراهيم أبوكم، ولم يكن من المشركين. ومما نزل فى ‏ذلك: "وما كان صلاتُهم عند البيت إلا مُكَاءً وتَصْدِيةً". ففى التفسير ‏أنهم كانوا يطوفون عراة، ويصفقون بأيديهم ويصفرون. فالمكاء: ‏الصفير. والتصدية: التصفيق... ومما نزل من أمر الحمس: "وليس البِرُّ ‏بأنْ تَأتُوا البيوتَ من ظُهُورها". لأن الحمس لا يدخلون تحت سقف ‏ولا يحول بينهم وبين السماء عتبة باب ولا غيرها. فإن احتاج أحدهم ‏إلى حاجة فى داره تَسَنَّم البيت من ظهره، ولم يدخل من الباب، فقال ‏الله سبحانه: وأْتُوا البيوتَ من أبوابِها واتَّقوا اللّه لَعلكم تُفْلِحون". ‏
وفى "البداية والنهاية" لابن كثير: "ذكر ابن إسحاق ما كانت ‏قريش ابتدعوه فى تسميتهم: الحمس، وهو الشدة فى الدين والصلابة. ‏وذلك لأنهم عظموا الحَرَم تعظيمًا زائدًا بحيث التزموا بسببه ألا يخرجوا ‏منه ليلة عرفة. وكانوا يقولون: "نحن أبناء الحرم وقُطَّان بيت الله". ‏فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه ‏السلام حتى لا يخرجوا عن نظامِ ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة. ‏وكانوا لا يدّخرون من اللبن أَقِطًا ولا سمنًا، ولا يَسْلُون شحمًا وهم ‏حُرُم، ولا يدخلون بيتًا من شعر ولا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت ‏من أَدَم. وكانوا يمنعون الحجيج والعُمَّار، ما داموا محرمين، أن يأكلوا ‏إلا من طعام قريش ولا يطوفوا إلا فى ثياب قريش. فإن لم يجد أحد ‏منهم ثوب أحد من الحمس، وهم قريش وما ولدوا ومن دخل معهم من ‏كنانة وخزاعة، طاف عريانًا ولو كانت امرأة. ولهذا كانت المرأة إذا ‏اتفق طوافها لذلك وضعت يدها على فرجها وتقول: ‏
اليومَ يبدو بعضُه أو كُلُّهُ
‏ ‏ وبعد هذا اليوم لا أُحِلُّهُ
‏ ‏
فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسى فطاف فى ثياب نفسه، ‏فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك، وليس له ‏ولا لغيره أن يمسَّها. وكانت العرب تسمى تلك الثياب: اللُّقَي... فكانوا ‏كذلك حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ‏ردًّا عليهم فيما ابتدعوه. فقال تعالى: "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ‏النَّاسُ" أى: جمهور العرب من عرفات... وقد قدَّمنا أن رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توقيفًا من الله ‏له. وأنزل الله عليه ردًّا عليهم فيما كانوا حَرَّموا من اللباس والطعام ‏على الناس: "يَا بَنِى آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ‏وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ ‏لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ...". وقال زياد البكائى عن ابن إسحاق: ولا ‏أدرى أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده". ‏
وفى "البداية والنهاية" أيضا لابن كثير أن "رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، ‏ورأى إبراهيم مصورًا فى يده الأزلام يستقسم بها، فقال: "قاتلهم الله! ‏جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام! ما شأن إبراهيم والأزلام؟ "ما كان ‏إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من ‏المشركين". ثم أمر بتلك الصور كلها فطُمِسَت. وقال الإمام أحمد: ‏حدثنا سليمان: أنبا عبد الرحمن عن موسى بن عقبة عن أبى الزبير ‏عن جابر قال: كان فى الكعبة صُوَرٌ، فأمر رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم أن يمحوها، فبَلَّ عمر ثوبًا ومحاها به، فدخلها رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم وما فيها منها شىء. وقال البخارى: حدثنا صدقة بن ‏الفضل: ثنا ابن عيينة عن ابن أبى نجيح عن مجاهد عن أبى معمر عن ‏عبد الله، هو ابن مسعود، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلثمائة نُصُب، فجعل يطعنها ‏بعُودٍ فى يده ويقول: "جاء الحق وزَهَقَ الباطلُ. جاء الحق وما يُبْدِئُ ‏الباطلُ وما يُعِيد". وقد رواه مسلم من حديث ابن عيينة. وروى ‏البيهقى عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبى بكر عن على بن عبد ‏الله بن عباس عن أبيه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ‏الفتح مكة، وعلى الكعبة ثلثمائة صنم، فأخذ قضيبه فجعل يهوى به ‏إلى الصنم، وهو يهوى حتى مر عليها كلها. ثم يروى من طريق سويد ‏بن سعيد عن القاسم بن عبد الله عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلثمائة ‏وستين صنمًا فأشار إلى كل صنم بعصا، وقال: "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ ‏الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا". فكان لا يشير إلى صنم إلا ويسقط من ‏غير أن يمسّه بعصاه. ثم قال: وهذا الإسناد، وإن كان ضعيفًا، فالذى ‏قبله يؤكده. وقال حنبل بن إسحاق: أنبا أبو الربيع عن يعقوب القمى: ‏ثنا جعفر بن أبى المغيرة عن ابن أبزى، قال: لما افتتح رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم مكة جاءت عجوز شمطاء حبشية تخمش وجهها، ‏وتدعو بالويل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك نائلة، ‏أَيِسَتْ أن تعبد ببلدكم هذا أبدًا". وقال ابن هشام: حدثنى من أثق به ‏من أهل الرواية فى إسناد له عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله ‏بن عتبة عن ابن عباس أنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول الكعبة أصنام ‏مشدودة بالرصاص، فجعل النبى صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب فى ‏يده إلى الأصنام ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان ‏زَهُوقًا"، فما أشار إلى صنم فى وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا ‏وقع لوجهه، حتى ما بقى منها صنم إلا وقع. فقال تميم بن أسد ‏الخزاعى: ‏
وفى الأصنام معتبَرٌ وعِلْمٌ
‏ ‏ لمن يرجو الثواب أو العقابا ‏
‏ ‏
وفى صحيح مسلم: عن سنان بن فروخ عن سليمان عن ثابت ‏عن عبد الله بن رباح عن أبى هريرة فى حديث فتح مكة قال: وأقبل ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الحجر فاستلمه وطاف ‏بالبيت، وأتى إلى صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، وفى يد رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم قوس وهو آخذ بسِيَتِها. فلما أتى على الصنم ‏فجعل يطعن فى عينه ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل. إن الباطل كان ‏زهوقًا". فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فَعَلَا عليه حتى نظر إلى البيت ‏فرفع يديه وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو. وقال البخارى: ‏ثنا إسحاق بن منصور: ثنا عبد الصمد: ثنا أبى: ثنا أيوب عن عكرمة ‏عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن ‏يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأُخْرِجَتْ، فأخرج صورة إبراهيم ‏وإسماعيل عليهما السلام، وفى أيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم الله! ‏لقد علموا ما استقسما بها قَطّ". ثم دخل البيت فكبر فى نواحى البيت ‏وخرج ولم يصلِّ. تفرد به البخارى دون مسلم. وقال الإمام أحمد: ثنا ‏عبد الصمد: ثنا همام: ثنا عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم دخل الكعبة وفيها سِتُّ سَوَارٍ، فقام إلى كل سارية ودعا ولم ‏يصل فيه. ورواه مسلم عن شيبان بن فروخ عن همام بن يحيى العوذى ‏عن عطاء به. وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف: ثنا ابن ‏وهب: أخبرنى عمرو بن الحارث أن بكيرًا حدثه عن كريب عن ابن ‏عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت وجد فيه ‏صورة إبراهيم وصورة مريم، فقال: أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا ‏تدخل بيتًا فيه صورة. هذا إبراهيم مصوَّرًا، فما باله يستقسم؟". ‏
وفيه كذلك: "بَعْث خالد بن الوليد لهدم العزى: قال ابن جرير: ‏وكان هدمها لخمس بقين من رمضان عامئذ. قال ابن إسحاق: ثم بعث ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى، وكانت بيتًا ‏بنخلة يعظمه قريش وكنانة ومضر، وكان سَدَنَتُها وحُجَّابُها من بنى ‏شيبان من بنى سليم حلفاء بنى هاشم. فلما سمع حاجبها السلمى ‏بمسير خالد بن الوليد إليها علق سيفه عليها، ثم اشتد فى الجبل الذى ‏هى فيه وهو يقول: ‏
‏ أيا عُزّ، شُدِّى شدةً لا شَوَى لها ‏ ‏ على خالد أَلْقِى القناع ‏وشَمِّرى ‏
‏ ‏
‏ أيا عز، إن لم تقتلى المرء خالدًا ‏ ‏ فبُوئى بإثمٍ عاجلٍ أو تَنَصَّرى ‏
‏ ‏
قال: فلما انتهى خالد إليها هدمها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم. وقد روى الواقدى وغيره أنه لما قدمها خالد لخَمْسٍ بَقِينَ ‏من رمضان فهدمها ورجع، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏فقال: "ما رأيت؟" قال: لم أر شيئًا. فأمره بالرجوع. فلما رجع خرجت ‏إليه من ذلك البيت امرأة سوداء ناشرة شعرها تولول، فعلاها بالسيف ‏وجعل يقول: ‏
‏ يا عُزَّ، كُفْرانَك لا سبحانك ‏ ‏ إنى رأيت الله قد أهانك ‏
‏ ‏
ثم خرَّب ذلك البيت الذى كانت فيه، وأخذ ما كان فيه من ‏الأموال رضى الله عنه وأرضاه، ثم رجع فأخبر رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم فقال: "تلك العزى، ولا تُعْبَد أبدًا". وقال البيهقى: أنبا ‏محمد بن أبى بكر الفقيه: أنبا محمد بن أبى جعفر: أنبا أحمد بن على: ‏ثنا أبو كريب عن ابن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبى الطفيل قال: ‏لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى ‏نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها وكانت على ثلاث سَمُرَات، فقطع ‏السمرات، وهدم البيت الذى كان عليها، ثم أتى رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم فأخبره، فقال: "ارجع، فإنك لم تصنع شيئًا"، فرجع خالد. ‏فلما نظرت إليه السَّدَنة، وهم حجابها، أمعنوا هربًا فى الجبل وهم ‏يقولون: يا عزى، خَبِّليه! يا عزى، عَوَِّريه! وإلا فموتى برغم. قال: فأتاها ‏خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها ووجهها، ‏فعمَّمها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم ‏فأخبره فقال: تلك العزى". ‏
فكيف بالله يصح أن يُتَّهَم الإسلام بأنه استعار بعض تشريعاته ‏من الوثنية، وهذا موقفه منها ومن الأوثان والاعتقاد فيها وحرصه على ‏التخلص تماما منها فى أية صورة وعلى أى وضع وتدقيقه فى ذلك غاية ‏التدقيق؟ وهل استفز المشركين منه صلى الله عليه وسلم سوى ‏كراهيته لوثنيتهم ودعوته إياهم إلى التخلص منها؟ فكيف بعد هذا ‏كله يقول ابن الوراق وأشباهه المرضى القلوب ما يقولونه فى حقه عليه ‏السلام وفى حق الكتاب المجيد الذى أتى به؟
ويقول ابن الوراق بعد ذلك: "استقبل محمد، وهو محبط من عناد ‏اليهود, الذين يعرف أنه لا توجد سوى فرصة ضئيلة يقبلونه فيها كنبى ‏لهم جديد, استقبل أمرا يخبره بتحويل القبلة (سورة البقرة/ 144) من ‏القدس إلى الكعبة بمكة. وقد علم أن هنالك فرصة لا بأس بها فى ‏السيطرة مستقبلا على مكة بكل متعلقاتها التاريخية".‏
يريد ابن الوراق أن يقول إن تشريعات محمد خاضعة لمشاعره ‏ومواقفه وآماله وإحباطاته ومسراته وأحزانه، ومنها تحويل القبلة من ‏بيت المقدس إلى الكعبة. والمعروف أنه عليه السلام كان، وهو فى ‏مكة، يولى وجهه ناحية القدس منذ بدأت الصلاة فى الإسلام، إذ كان ‏صلى الله عليه وسلم يقف قبالة الكعبة وهو متجه ناحية الشمال ‏بحيث تكون قبلته الكعبة وبيت المقدس جميعا. ولكنْ منذ هاجر ‏إلى المدينة لم يستطع الجمع بين القبلتين فى ذات الوقت، فكان يتجه ‏إلى بيت المقدس حسبما تقول الروايات، وهو فى أثناء ذلك يتطلع إلى ‏أن يسمح الله له بالاتجاه فى صلاته إلى الكعبة المشرفة، وهو ما نزلت ‏به آيات سورة "البقرة" التى يستشهد بها الكاتب. ‏
أما أن النبى كان يعلق آمالا على اليهود فى اعتناق دينه فطبيعى أن ‏يحب كل صاحب دعوة أن يؤمن الناس جميعا على بكرة أبيهم ‏بدعوته. وليس الرسول ببِدْعٍ فى ذلك. لكن شواهد الحال كانت تدل ‏على أن مسارعة اليهود إلى قبول دعوته أمر مستبعد. فهم مثلا لم ‏يفدوا عليه فى مكة مع اليثربيين حين اتفقوا معه على هجرته إلى ‏بلادهم حيث بشروه بأنه سوف يُسْتَقْبَل هناك استقبالا كريما ويدخل ‏الناس دينه ويدافعون عنه وعن دعوته. كما أن آيات القرآن التى ‏نزلت طوال العهد المكى فى بنى إسرائيل لم تكن فى صالحهم، بل ‏فضحت نفاقهم وكفرهم وعنادهم وتصلب رقبتهم واستعدادهم فى أية ‏لحظة للانقلاب على ما يؤمنون به. وآيات سورة "الأعراف" و"يونس" ‏و"طه" مثلا أكبر دليل على ذلك. ولو كان عليه السلام هو مخترع ‏القرآن فلِمَ هاجمهم منذ ذلك الوقت المبكر الذى لم يكن قد رأى ‏منهم ما يزعجه بل لم يكن قد رآهم بعدُ أصلا؟ لقد كان المنتظر ‏حينئذ أن يتودد إليهم أو على أقل تقدير: أن يسكت فلا يعيبهم ولا ‏يكشف خباياهم ومخازيهم. ولقد كان أول تعليق له على ممارسات ‏اليهود الدينية بعد وصوله إلى المدينة ومشاهدته لهم وهو يصومون ‏عاشوراء أنه والمسلمين أولى منهم بصيام ذلك اليوم. أى أن موسى ‏أقرب إلى المسلمين منه إلى يهود. ‏
ويقول ابن الوراق أيضا: "فى العام السادس للهجرة حاول محمد ‏أن يدخل مكة مع أتباعه، لكنه فشل. لقد التقى المكّيون والمدنيون ‏فى الحديبية على حدود المنطقة المقدسة، وبعد الكثير من المفاوضات ‏وافق المسلمون على العودة إلى المدينة بعدما أُعْطُوا الإذن لممارسة ‏المنسك فى مكة فى العام المقبل. ثم أتى محمد مع الكثير من أتباعه إلى ‏مكة فى العام السابع للهجرة وقام بالطواف حول الكعبة مقبِّلا الحجر ‏الأسود كجزء من الطقوس.‏
ثم احْتُلَّتْ مكة من قِبَل محمد وأتباعه فى العام اللاحق, وهو ‏العام الثامن للهجرة. وفى البداية انضم المسلمون فى موسم الحج إلى ‏غير المؤمنين من العرب, ولكنْ بدون وجود النبى نفسه بينهم. ثم ‏بعد ذلك بقليل أعلن وحى من الله أن كل الاتفاقيات بين المسلمين ‏وغير المؤمنين يجب أن تنقض, وألا أحد غير المؤمنين الحقيقيين يسمح ‏له أن يصل إلى مكة أو أن ينضم إلى موسم الحج.‏
و أخيرا نقتبس من زويمر: فى السنة العاشرة للهجرة أدى محمد ‏مناسك الحج إلى مكة, بناء آبائه المقدس القديم, وأصبحت كل ‏تفصيلة غير قائمة على دليل من تفاصيل الفرض الذى أداه مسألة من ‏صلب الإسلام. وكما يقول ولهاوسن كانت النتيجة أنْ صارت لدينا ‏الآن محطات لمسيرة فى طريق الآلام بدون تاريخ الآلام نفسه. ‏فالممارسات الوثنية تفسَّر بواسطة اختراع أساطير إسلامية منسوبة إلى ‏شخصيات كتابية. وكل هذا خليط غير مفهوم من الروايات الخيالية".‏
والواقع أن هذا الكلام ينقض ما قيل من أن رسول الله استمد ‏عبادته وشريعته، ضمن ما استمدها، من الوثنية. فها هم أولاء ‏الوثنيون بعد كل تلك الأعوام التى تقرب من العشرين ما زالوا يرون ‏دينه معاديا لدينهم، ووحدانيته مناقضة لشركهم، وإلا فلم كل ذلك ‏التعنت معه والحرص على منعه من الوصول إلى البيت الحرام فى ‏الحديبية؟ بل لقد أكد اليهود لهم كاذبين، فى زورة من زورات قادتهم ‏إلى مكة بغية إضافة أحطاب جديدة إلى نيران حقدهم عليه أيام ‏احتدام الصراع الحربى بين المدينة وأم القرى، أن وثنيتهم خير من ‏التوحيد الذى جاءهم به. ترى لو كان محمد قد استعار دينه من الوثنية ‏أكان اليهود يقارنون دينه بتلك الوثنية ويفضلونها عليه؟ لماذا وهو ‏مأخوذ منها؟ بل أكان المشركون يرفضون دينه بكل هذا الإصرار ‏واللَّدَد؟
وعلى هذا الأساس ننقل كلام ابن الوراق وما أورده من كلام ‏نولدكه ومرجليوث وشبرنجر وغيرهم من المستشرقين، ننقله دليلا على ‏السخف والتهافت الذى يتعامل به هذا الصنف من المنتسبين إلى ‏العلماء يظنون أنهم بهذا يستطيعون أن يغطوا بجلبتهم على الحقائق ‏الساطعة، إذ حتى لو كان كل ما سنقرؤه من نولدكه صحيحا فيكفى أن ‏محمدا قد حول كل ذلك تحويلا جذريا وأفرغه من مضامينه الوثنية ‏تمام الإفراغ وجعله تعبيرا عن التوحيد فى أنقى صوره. وهذا لو كان ما ‏قاله المستشرق الألمانى صحيحا، وهو بكل يقين غير صحيح، إذ الحج ‏جزء من ديانة إبراهيم التوحيدية، لكن بمرور الأيام والسنين ‏والقرون ارتكس العرب فى حمأة الشرك والخرافات وعبادة الأوثان، ‏فأدخلوا على هذه الشعيرة تحريفات متعددة كما حدث فى بعض ‏الأديان الأخرى من تحريف وتشويه ونسيان واستبدال وما إلى ذلك، ‏إلى أن أتى محمد بدينه فأعاد الأمور إلى ما كانت عليه ونفى الخَبَث ‏الفاسد وأبقى الذهب الصالح، فعاد إلى الدين سطوعه، وإلى الحج بريقه ‏الأصلى القديم. وهذا ما كان. ‏
‏"قال نولدكه: "يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار الحقيقة القائلة بأن ‏محمدا أدخل إلى دينه عددا من الممارسات والاعتقادات الوثنية مع ‏تعديل بسيط أو بدون أى تعديل, وأن بقايا الوثنية المختلفة أيضا ‏والدخيلة على الإسلام السنّي, قد احتفظ بها العرب إلى عصرنا هذا. ‏ومن المسائل المعتاد ملاحظتها بناء إيمان جديد لا يحول بطريقة ‏كاملة المعتقدات الشعبية, وبقاء المفاهيم القديمة, متنكرةً بحملها ‏مسميات مختلفة نوعا ما, بـ أو بلا تشريع من السلطات الدينية" عادةً.‏
ومما يمكن إضافته أن محمدا ألصق بالحج الإسلامى بصورة ‏بارعة عدة طقوس كانت قبلا تتم بصورة مستقلة تماما فى مقامات ‏مقدسة وأماكن أخرى. كان المجتمع السابق على الإسلام فى الجزيرة ‏العربية منظما حول القبيلة, وكان لكل قبيلة معبودها الرئيسى الذى ‏كان يُعْبَد فى مقام ثابت حتى من قِبَل البدو المرتحلين. وكان المعبود ‏يستقر فى صخرة، ولم تكن هذه الصخرة بالضرورة منحوتة فى شكل ‏آدمى. وفى بعض الأحيان كانت الصخرة المقدسة تمثالا، بينما كانت فى ‏أحيان أخرى ببساطة جلمودا كبيرا أو تشبه شكل الإنسان. ومن ‏الواضح أن العرب الوثنيين تخيلوا أن كتلة الصخر التى تقوم مقام ‏الطوطم (صخرة أو شجرة أو جبل يعتقد أن الإله حل فيه) قد تخللتها ‏الطاقة الإلهية. وهكذا فهى مصدر للتأثير الإلهي.‏
أسماء التَّلَّيْن: الصفا والمروة يعنيان صخرة أى وثنا. وكان ‏الوثنيون يركضون بين التلّين لكى يلمسوا ويقبّلوا إسافا ونائلة. وقد ‏وضعت الأصنام هناك كوسيلة لاجتلاب الحظ والسعد.‏
الحجر الأسود المقدّس وهُبَل: لدينا الدليل على أن الحجر الأسود ‏كان يعبد فى مختلف أجزاء الجزيرة العربية. فعلى سبيل المثال يذكر ‏كليمنضوس الإسكندرانى عام 190 للميلاد أن "العرب يعبدون حجرا"، ‏مُلْمِحًا إلى الحجر الأسود لذى الشرى (ذو الشرى هو الإله القومى ‏للأنباط) فى البتراء. وكتب ماكسيموس تيريوس ‏Maximus Tyrius‏ ‏فى القرن الثانى قائلا: "سكان العربية يتوجهون بالعبادة إلى ما لا ‏أعرف أى اله هو, ويرمزون إليه بحجر مكعب". وهو يلمح بذلك إلى ‏الكعبة التى تحتوى على الحجر الأسود. وتشهد لقِدَم الحجر الأسود ‏الكبير أيضا معرفتنا أن الفرس القدامى يدعون أن ماهاباد وخلفاءه ‏تركوا الحجر الأسود فى الكعبة بالإضافة إلى آثار وصور أخرى, وأن ‏الحجر يرمز إلى زحل. وفى جوار مكة توجد حجارة مقدسة أخرى ‏كانت فى البداية طواطم, "لكنها اكتسبت شخصية محمدية (إسلامية) ‏سطحية بجعلها ذات علاقة بشخصية مقدّسة معينة". ‏
ومن المؤكد أن الحجر الأسود نفسه نيزك وأنه يدين بقدسيته بلا ‏شك إلى كونه قد سقط من "السماء". ومن سخرية القدر أن المسلمين ‏يقدسون قطعة من الحجر باعتبارها أعطيت لإسماعيل من قِبَل الملاك ‏جبريل ليبنى الكعبة عِلْمًا, كما يقول مارغوليوث ‏Margoliouth، بأن ‏‏"الحجر مشكوك فى أصالته, وذلك أن الحجر الأسود قد رُفِع من مكانه ‏على يد القرامطة فى القرن الرابع للهجرة, وأعيد من قِبَلهم بعد ذلك ‏بعدة سنين. ومن الممكن أن يشك المرء فى أن الحجر الذى أعادوه هو ‏نفس الحجر الذى رفعوه من مكانه".‏
وكان هُبَل يُعْبَد فى مكة، وهو صنم مصنوع من العقيق الأحمر ‏منتصب داخل الكعبة فوق البئر الجاف الذى يلقى فيه المرء تقدمات ‏نذرية. ومما يحتمل بشدة أنه كان لهبل شكل بشرى. ويفهم من موقع ‏انتصاب هبل قرب الحجر الأسود أن هنالك علاقة بين الاثنين. ‏ويقترح ولهاوسن أن هبل كان فى الأصل هو الحجر الأسود، الذى كان ‏أقدم من الصنم كما سبق القول. ويشير ولهاوسن أيضا إلى أن الله ‏يسمَّى فى القرآن: "رب الكعبة، ورب منطقة مكة". وقد قاوم النبى ‏فروض العبادة المقدمة فى الكعبة إلى اللات ومناة والعزى, وهى ‏الإلهات اللاتى أسماهن أهل مكة: "بنات الله". لكن محمدا امتنع عن ‏مهاجمة عبادة هبل. لهذا يستنتج ولهاوسن أن هبل لم يكن غير الله: ‏‏"إله" أهل مكة. وعندما هزم المكيون النبى قرب المدينة قيل إن قائدهم ‏صاح " اُعْلُ هُبَل".‏
كان الطواف بالمقامات طقسا شائعا جدا ويمارَس فى مناطق ‏عديدة. وكان الحاج خلال طوافه عادة ما يقبّل أو يحتضن الصنم. ‏ويعتقد السير ويليام موير أن الطواف سبعا حول الكعبة "ربما كان ‏يرمز لدوران الكواكب السيارة (الشمس, عطارد, الزهرة, القمر, ‏المريخ, المشترى, زحل)"، بينما يذهب زويمر بعيدا بقوله إن الطواف ‏سبعا حول الكعبة: ثلاث مرات هرولة وأربع مرات مشيا كانت ‏‏"تقليدا للكواكب الداخلية والخارجية".‏
ومن المؤكد أن العرب "فى فترة متأخرة نسبيا قد عبدوا الشمس ‏والأجرام السماوية الأخرى". وتظهر مجموعة الثريا النجمية, التى ‏يفترض أنها مُنْزِلة المطر, كمعبود. وكانت هنالك أيضا عبادة كوكب ‏الزهرة، التى تكرَّم كإلهة عظيمة تحت مسمّى "العُزّى".‏
ونعرف من العدد الكبير من الأسماء التى تتعلق بالآلهة أن ‏الشمس كانت ضمن المعبودات. وكانت الشمس تدخل فى ألقاب ‏العديد من القبائل وتكرَّم من خلال مقام وصنم. ويرى سنوك ‏هرجرونه وجود أثرٍ لعبادة الشمس فى منسك الوقوف بعرفة.‏
وتعرف أيضا الإلهة اللات أحيانا بـ"معبود شمسى". وكان الإله ذو ‏الريح على الأغلب إلها للشمس الشارقة. ومن الواجب أن يكون ‏المنسك الإسلامى فى الركض بين عرفة ومزدلفة وبين مزدلفة ومنى ‏تاما بعد غروب الشمس وقبل شروقها. وكان هذا تغييرا مقصودا أُدْخِل ‏من قِبَل محمد لكى يغطى هذا الارتباط بطقس عبادة الشمس الوثني, ‏الذى سنشاهد أهميته لاحقا. ومما يشهد لوجود عبادة قمرية أسماء ‏الأعلام كـ"هلال وقمر"... إلخ.‏
ويفترض هوتسما ‏Houtsma‏ أن الرجم الذى يتم فى منى كان فى ‏الأصل موجها إلى عفريت الشمس. ومما يؤكد إمكانية هذه الفكرة ‏الحقيقة القائلة بأن الحج كان فى الأصل مرتبطا بالاعتدال الخريفى. ‏فيُطْرَد عفريت الشمس وينتهى حكمه الظالم بحلول الصيف، ويتبعه ‏عبادة إله الرعد، الذى يجلب الخصب فى مزدلفة.‏
وكانت مزدلفة موضعا لعبادة النار. ويشير المؤرخون المسلمون إلى ‏هذا التل كتل النار المقدسة. وكان إله مزدلفة قُزَح, وهو إله الرعد. وكما ‏يقول وينسنك: "كانت النار توقد فى الجبل المقدس، وتسمى أيضا: ‏قزح. وكان هناك وقوف ذو شبه عظيم بذلك الذى يتم فى سيناء. وفى ‏كلتا الحالتين كان إله الرعد يظهر فى النار. ومن المحتمل أيضا أن ‏تكون العادة التقليدية فى إيجاد أكبر قدر من الضجيج والصياح ‏تعويذة لجلب التعاطف ومخاطبة الرعد".‏
ولفريزر ‏‎ Frazerفى كتابه: "الهراوة الذهبية" تفسير آخر لطقس ‏رمى الجمار: "كان الحافز لرمى الجمار أحيانا دفع شر روح شريرة, ‏والتخلص من شر معين أحيانا أخرى, وجلب الخير أحيانا ثالثة. وإذا ‏أمكننا أن نتتبع الرمى إلى أصوله فى ذهن الإنسان البدائى فقد نجد أن ‏كل هذه التقاليد ترجع بشكل أو بآخر إلى مبدإ نقل الشر... وهو ما قد ‏يفسر طقس رمى الجمار فى مكة... وربما كانت الفكرة الأصلية أن ‏الحاج يطهر نفسه بواسطة نقل نجاسته الروحية إلى الأحجار التى كانوا ‏يهيلون عليها الحجارة".‏
وطبقا لجوينبول ‏Juynboll‏ كان للحج فى الأساس طبيعة سحرية، ‏إذ كان هدفه فى الأزمنة المبكرة استجلاب سنة جديدة سعيدة بمطر ‏غزير وسطوع للشمس ووفرة فى الخيرات وكثرة فى الماشية والحبوب. ‏وكان الكثير من النذور يحرق فى عرفات ومزدلفة ربما لتحفيز الشمس ‏على السطوع فى السنة الجديدة. وكان الماء يصب على الأرض كتعويذة ‏ضد الجفاف. وربما كان رمى الجمار فى أماكن معينة فى منى، وهو أثر ‏لوثنية بدائية فى الأصل، رمزا للتخلص من ذنوب السنة السابقة. أى ‏كان نوعا من التعاويذ ضد العقاب الإلهى والحظ السيئ". وبصورة ‏مشابهة يمكن أن يكون للإفاضة من عرفة إلى مزدلفة ومن ‏مزدلفة إلى منى معنى سحرى. وربما كان الاحتفال بالعيد عند نهاية ‏المناسك كلها رمزا للغزارة فى الخيرات المتوقعة فى نهاية السنة. وكانت ‏فروض الامتناع المختلفة على الحاج فى الأساس وسيلة لنقل الحاج إلى ‏حالة من الطاقة السحرية.‏
الكعبة: كان الوثن على العموم يوضع فى حرم مقدس محدد ‏بالصخور. وكان هذا النطاق المقدس مجالا لطلب الالتجاء للأحياء ‏كلها. وعادة ما يجد المرء بئرا فى هذا النطاق المقدس. ونحن لا نعلم متى ‏بنيت الكعبة أولا. ولكن اختيار الموضع يدين إلى وجود بئر زمزم, ‏التى توفِّر الماء الثمين للقوافل المارة بمكة فى طريقها إلى اليمن أو إلى ‏الشام. وكان المؤمنون يُظْهِرون تكريمهم بتقدمات وأضحيات. وكان ‏فى داخل الكعبة بئر جافة توضع فيها التقدمات. وعادة ما يحلق الحاج ‏القادم لتكريم الوثن رأسه ضمن النطاق المقدس أو الحرم. ومن ‏الملاحظ أن كل هذه المناسك موجودة بشكل أو بآخر فى الإسلام.‏
وطبقا لما ذكره المؤلفون المسلمون كانت الكعبة فى البداية مبنية ‏فى السماء حيث يوجد نموذج لها إلى الآن, وذلك قبل خلق الكون ‏بألفى سنة. وقد شيد آدم الكعبة على الأرض، ولكنها دمّرت خلال ‏الطوفان. ثم عُلِّم إبراهيم كيف يعيد بناءها, وساعده إسماعيل فى ‏ذلك. وخلال بحثه عن حجر ليعلّم موضع الزاوية من البناء قابل ‏إسماعيل الملاك جبريل, الذى أعطاه الحجر الأسود, وكان آنذاك أكثر ‏بياضا من اللبن, ثم اسود لونه فيما بعد من حمله خطايا الذين ‏يلمسونه. وهذا, بالطبع, هو تطويع للأسطورة اليهودية عن وجود ‏أورشليم الأرضية وأورشليم السماوية.‏
وبالرغم من اقتناع موير وتورّى بأن المصدر الإبراهيمى للكعبة ‏كان معتقدا شائعا لفترة طويلة قبل عصر محمد فإن سنوك هرجرونه ‏ولويس سبرنجر متفقان على أن الربط بين إبراهيم والكعبة كان ‏اختراعا شخصيا لمحمد, وقد خدم ذلك كوسيلة لتحرير الإسلام من ‏اليهودية. ويتسم استنتاج سبرنجر بالقسوة إذ يقول: "بهذه الكذبة... ‏أعطى محمد للإسلام كل ما يحتاجه الإنسان وما يفرق بين الديانة ‏والفلسفة. لقد أعطاه قومية وطقوسا وذكريات تاريخية وأسرارا مع ‏ضمان لدخول الجنة, وفى نفس الوقت سالبا منه وعيه ووعى الآخرين".‏
ولا ريب فى أن القارئ قد رأى بنفسه كيف أن طائفة من ‏المستشرقين، حين يقاربون الإسلام ويدرسونه، يخلعون عقولهم ‏وينبذون المنطق ويتركون أحقادهم تتكلم مفترضين الافتراضات ‏المتهافتة مغلقين عن عمد وسبق إصرار عيونهم عن رؤية الحقيقة ‏ذاهبين مع خيالاتهم وأهوائهم إلى آخر الشوط بل إلى ما بعد آخر ‏الشوط كى يشوهوا دين محمد ويطمسوا نوره وبهاءه. ترى مثلا كيف ‏عرفوا أن الحج كان ممارسة وثنية لزيادة إنتاج المحاصيل الزراعية؟ هل ‏كانت مكة أرضا زراعية تنبت فيها المحاصيل؟ أين قرأوا ذلك الكلام ‏الشاذ؟ ما هذا السخف يا إلهى؟ ثم انظر إلى التشكيك فى أن يكون ‏الحجر الأسود الذى كان القرامطة قد أخذوه ثم أعادوه بعد نحو ‏عشرين سنة هو هو الحجر الأسود الحقيقى: ترى هل لهذا التشكيك ‏من معنى؟ إن المستشرق المشكك لا يرى للحجر الأسود أية قيمة، بل ‏إنه ليرى أن الأمر كله تلفيق باطل فى تلفيق باطل مثله، فأى فرق ‏يمكن أن يترتب على تغيير الحجر؟ أليس كله حجرا، والسلام؟ فلم ‏إذن يتظاهر بالانزعاج ويزعجنا معه فى غير طائل؟ ثم من أين له أن ‏الحجر قد تغير؟ ترى لو كان هذا قد حصل أكان المسلمون يغيب ‏عنهم ذلك الأمر؟ بل أكان القرامطة ليجرؤوا على الإقدام على هذه ‏الفعلة أصلا، وهم يعلمون أنها ستنكشف بكل يقين، إذ ليس ‏الحجر الأسود أى حجر بحيث لا يلتفت إلى ذلك أحد من المسلمين، ‏أو على الأقل: أهل مكة، وبخاصة أن القرامطة ردوا الحجر إلى موضعه ‏نزولا على رغبة الخليفة الفاطمى، الذى كانوا يحسبون له ألف حساب، ‏ولم يكن أمامهم غير تنفيذ أمره دون تباطؤ أو تفكير؟ ثم أكان هذا ‏الأمر ليمر بهذه البساطة لو كان الحجر قد تغير، فلا يفتح أحد ‏المسلمين فمه مشككا فيه أو لا يفتح أحد القرامطة فمه سخرية من ‏المسلمين وتهكما بهم؟ ولنفترض أن كل ما قاله المستشرق الشقى ‏صحيح مائة فى المائة فما أهمية هذا يا ترى ما دام الأمر أمر رمز على ‏طاعة المسلمين لربهم والتزامهم بما افترضه سبحانه عليهم وتنفيذهم ‏له على النحو الذى حدده، وهو ما سوف يتحقق بأى حجر؟
ولقد عبر عمر بن الخطاب بعبقريته رضى الله عنه عن هذا ‏المعنى، إذ حين جاء إلى الحجر وقبَّله قال: "إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ‏ولا تنفع. ولولا أنى رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقبِّلك ما ‏قبَّلتك". لقد تعمق بثاقب بصره وبصيرته أمر الحجر الأسود والحكمة ‏من وراء استلامه وتقبيله، وهو أن المقصود إظهار الطاعة والإخبات ‏لأوامر الله سبحانه وتعالى، وإلا فتحية العلم والهتاف باسم الوطن ‏وترديد الأناشيد القومية وما إلى ذلك هى ألوان من الوثنية بناء على ‏ذلك التفكير المتهافت السمج. والغريب أن عند الغربيين التماثيل ‏والأيقونات، أى الأصنام والصور، مما لا وجود لمثله فى الإسلام. ومع ‏هذا تراهم يثيرون تلك التفاهات شغبا منهم ومكايدة وتساخفا بينما ‏هم يعرفون جيدا أن ما يقولونه سخف فى سخف، ولكنها الحرب ‏الفكرية التى تهدف إلى تحطيم الروح المعنوية.‏
أما اتهام بعض المستشرقين للنبى محمد بالكذب فى موضوع ‏الصلة بين إبراهيم وبين الكعبة فهو وغادة وحقارة ووضاعة. إن محمدا ‏لا يكذب ولا يدلس، إذ هو إنسان كريم نبيل قبل أن يكون نبيا ‏رسولا. وإذا كان كتابهم يصف الأنبياء بالزنا ومضاجعة المحارم ‏والقتل والكذب والمعاونة على عبادة الأوثان والتزوج بالوثنيات ‏والسُّكْر البشع والانطراح العارى على الأرض جراءه وغير ذلك فهذا ‏شأنهم. أما نحن فلا نتصور ولا فى الأحلام أن يُقْدِم نبينا الشريف ‏العظيم على الكذب. ثم إن النبى ليس أول من قال ذلك، بل كانت ‏العرب تقوله قبله بأزمان كما يقول المستشرق ذاته قبل ذلك مباشرة. ‏كما سمع اليهود والنصارى هذا مرارا وتكرارا فى حياته، فلماذا لم ‏يعترضوا على هذا الكلام؟ هل أصابهم خرس فعجزوا عن فتح أفواههم؟ ‏وفى كتابهم المقدس أن العرب أبناء إسماعيل. وفى كتاباتهم القديمة ‏كثيرا ما يسمون العرب بـ"الإسماعيليين". وإسماعيل هو ابن إبراهيم. ‏وكثيرا ما شغب الشعوبيون على العرب فوصفوهم بأبناء الأَمَة، ‏يقصدون هاجر أُمّ إسماعيل، وتشامخوا عليهم بأنهم هم أبناء سارة ‏الحرة أُمّ إسحاق. فما المشكلة فى أن يذهب إبراهيم إلى الحجاز زائرا ‏حيث كان ابنه إسماعيل يعيش؟ وما المشكلة فى أن يبنى هناك بيتا ‏لعبادة الله؟ وكان زيد بن عمرو بن نفيل يقول:‏
عُذْتُ بِمَنْ عاذَ بِهِ إِبْراهِمُ
‏ ‏ مُسْتَقْبِلَ الكَعْبَةِ وَهْوَ قائِمُ
‏ ‏
يَقُولُ: أَنْفِى لَكَ عانٍ راغِمُ
‏ ‏ مَهْما تُجَشِّمْنى فَإِنّى جَاشِمُ
‏ ‏
والله إنى لآسَى على هؤلاء الكذابين الوقحين إذ يرمون محمدا ‏عليه الصلاة والسلام بالكذب، وهم أهل الكذب وأصله وذريته ‏رضعوا لِبَانَه حتى صار يجرى منهم مجرى الدم فى العروق. إن هذا ‏الكذاب يظن أن كل من يخاطبهم هم على شاكلته فى الكذب أو أغبياء ‏سوف يبتلعون ما يردده من سخف دون تفكير أو تدقيق. فمعنى ‏كلامه هو أن محمدا قد أسند بناء الكعبة (كذبا طبعا حسب زعم ‏المستشرق وتدليسه) إلى إبراهيم بعدما يئس من إيمان اليهود به. أى ‏أن ذلك قد تم فى المدينة. فماذا هو قائل فى الآيات التالية من سورة ‏‏"إبراهيم"، وهى مكية، أى نزلت قبل أن يصطبح النبى الكريم بوجوه ‏اليهود العكرة القبيحة فى المدينة؟ قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‏اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِى أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ ‏أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ ‏رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ ‏الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ ‏وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى ‏وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَىْء فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ (38) ‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ ‏الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ‏‏(40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)" ‏‏(إبراهيم). ‏
كما تطالعنا فى سورة "الحج" الآيات التالية، و"الحج" قد نزلت قبل ‏اتصال النبى عليه السلام باليهود فى يثرب، أو على الأقل: قبل ‏اصطدامه بهم: "وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِى شَيْئًا ‏وَطَهِّرْ بَيْتِى لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ ‏بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) ‏لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ ‏مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا ‏تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)". ‏
ثم متى كان الإسلام مرتبطا باليهودية حتى يفكر محمد فى ‏الانفصال عنها؟ إن القرآن منذ وقت مبكر من العهد المكى يرجم ‏اليهود بالحجارة الفاضحة المخزية التى تنقض على رؤوسهم فتَبْهَتهم ‏فلا يستطيعون رَدَّها ولا هم يُنْصَرون. فكيف يقول هذا الكذاب ما ‏قال؟ ثم إن الشقى لا يكتفى بهذا بل يَزُنّ النبى الأكرم بالكذب. ‏خيبة الله على كل كذابٍ أَشِرٍ! لقد كانت يهود، كما سبق القول، تسمع ‏هذا الذى يقوله القرآن والنبى عن رحلة إبراهيم إلى الحجاز وبنائه مع ‏ابنه البكر إسماعيل الكعبة، فلماذا يا ترى لم يفتحوا فمهم ولو بآهة ‏تعجب؟ ثم ما قول المستشرق اللئيم فى أن بعض كبار يهود فى المدينة ‏قد أسلموا ودخلوا فى دين محمد، الذى يتهمه مستشرقنا الخبيث ‏بالكذب؟ على أن الأمر لم يقف عند هذا المدى، إذ لجأ عبد الله بن ‏سلام إلى حيلة يفضح بها خبث يهود ويعرِّى سوآتهم النفسية ‏والأخلاقية، فاختبأ خلف باب هناك، وطلب من النبى أن يسألهم عنه ‏وعن رأيهم فيه، فما كان منهم إلا أن أخذوا يغرقونه بعبارات المدح ‏والثناء لينقلبوا على الفور بعدما برز من مخبئه وعالنهم بأنه صار ‏مسلما، فانقضوا يفيضون عليه من جَعْبَة شتائمهم وسبابهم كل ما لذ ‏وطاب لألسنتهم الزفرة ونفوسهم الخربة وضمائرهم النتنة، وذلك كله ‏دون أن يشعروا بذرة من الخجل. ‏
كذلك كيف يقيم المستشرق الأثيم الزنيم من اليهود مقياسا ‏يقيس به صدق محمد واستقامة ضميره، واليهود بوجه عام يضرب بهم ‏المثل فى تواريخ الأمم جميعا فى الكذب واللؤم والخبث واللف والدوران ‏وعدم المبالاة بالخلق الكريم؟ على أنْ ليس هذا كل شىء، إذ إن كتابهم ‏ذاته هو أول من يصب عليهم اللعنات صبًّا جزاء عنادهم وتصلب ‏رقابهم ووقاحتهم مع ربهم ورسلهم، وينهال عليهم بالشتائم ‏والتهديدات، ويتوعدهم بسوء المصير دائما أبدا. ولا يكفّ الله فيه ‏عن سبهم والتعبير عن غيظه منهم واحتقاره لهم وكراهيته إياهم ‏وشماتته فيهم. وإذا كان محمد قد أراد الانفصال عن اليهودية فلماذا يا ‏ترى ظل القرآن وظل هو نفسه يتحدثان عن أنبياء بنى إسرائيل ‏بكل إجلال كما كان يفعل من قبل؟ ‏
ثم ما دام محمد يسرق دينه من عند يهود وأمثالهم فلِمَ يا ترى ‏ربط نفسه وقومه بإبراهيم، وصورة إبراهيم، حسبما يرسمها العهد ‏القديم، لا تشرّف بحال؟ جاء فى الإصحاح العشرين من سفر ‏‏"التكوين": "1وَانْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ هُنَاكَ إِلَى أَرْضِ الْجَنُوبِ، وَسَكَنَ بَيْنَ ‏قَادِشَ وَشُورَ، وَتَغَرَّبَ فِى جَرَارَ. 2وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ سَارَةَ امْرَأَتِهِ: «هِى ‏أُخْتِي». فَأَرْسَلَ أَبِيمَالِكُ مَلِكُ جَرَارَ وَأَخَذَ سَارَةَ. 3فَجَاءَ اللهُ إِلَى أَبِيمَالِكَ ‏فِى حُلْمِ اللَّيْلِ وَقَالَ لَهُ: «هَا أَنْتَ مَيِّتٌ مِنْ أَجْلِ الْمَرْأَةِ الَّتِى أَخَذْتَهَا، ‏فَإِنَّهَا مُتَزَوِّجَةٌ بِبَعْل». 4وَلكِنْ لَمْ يَكُنْ أَبِيمَالِكُ قَدِ اقْتَرَبَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: ‏‏«يَا سَيِّدُ، أَأُمَّةً بَارَّةً تَقْتُلُ؟ 5أَلَمْ يَقُلْ هُوَ لِى: إِنَّهَا أُخْتِى، وَهِى أَيْضًا نَفْسُهَا ‏قَالَتْ: هُوَ أَخِى؟ بِسَلاَمَةِ قَلْبِى وَنَقَاوَةِ يَدَى فَعَلْتُ هذَا». 6فَقَالَ لَهُ اللهُ ‏فِى الْحُلْمِ: «أَنَا أَيْضًا عَلِمْتُ أَنَّكَ بِسَلاَمَةِ قَلْبِكَ فَعَلْتَ هذَا. وَأَنَا أَيْضًا ‏أَمْسَكْتُكَ عَنْ أَنْ تُخْطِئَ إِلَىَّ، لِذلِكَ لَمْ أَدَعْكَ تَمَسُّهَا. 7فَالآنَ رُدَّ امْرَأَةَ ‏الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ نَبِى، فَيُصَلِّى لأَجْلِكَ فَتَحْيَا. وَإِنْ كُنْتَ لَسْتَ تَرُدُّهَا، فَاعْلَمْ ‏أَنَّكَ مَوْتًا تَمُوتُ، أَنْتَ وَكُلُّ مَنْ لَكَ».‏
‏8فَبَكَّرَ أَبِيمَالِكُ فِى الْغَدِ وَدَعَا جَمِيعَ عَبِيدِهِ، وَتَكَلَّمَ بِكُلِّ هذَا ‏الْكَلاَمِ فِى مَسَامِعِهِمْ، فَخَافَ الرِّجَالُ جِدًّا. 9ثُمَّ دَعَا أَبِيمَالِكُ إِبْرَاهِيمَ ‏وَقَالَ لَهُ: «مَاذَا فَعَلْتَ بِنَا؟ وَبِمَاذَا أَخْطَأْتُ إِلَيْكَ حَتَّى جَلَبْتَ عَلَى وَعَلَى ‏مَمْلَكَتِى خَطِيَّةً عَظِيمَةً؟ أَعْمَالًا لاَ تُعْمَلُ عَمِلْتَ بِي». 10وَقَالَ أَبِيمَالِكُ ‏لإِبْرَاهِيمَ: «مَاذَا رَأَيْتَ حَتَّى عَمِلْتَ هذَا الشَّىء؟» 11فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «إِنِّى ‏قُلْتُ: لَيْسَ فِى هذَا الْمَوْضِعِ خَوْفُ اللهِ الْبَتَّةَ، فَيَقْتُلُونَنِى لأَجْلِ امْرَأَتِى. ‏‏12وَبِالْحَقِيقَةِ أَيْضًا هِى أُخْتِى ابْنَةُ أَبِى، غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتِ ابْنَةَ أُمِّى، فَصَارَتْ ‏لِى زَوْجَةً. 13وَحَدَثَ لَمَّا أَتَاهَنِى اللهُ مِنْ بَيْتِ أَبِى أَنِّى قُلْتُ لَهَا: هذَا ‏مَعْرُوفُكِ الَّذِى تَصْنَعِينَ إِلَى: فِى كُلِّ مَكَانٍ نَأْتِى إِلَيْهِ قُولِى عَنِّى: هُوَ أَخِي».‏
‏14فَأَخَذَ أَبِيمَالِكُ غَنَمًا وَبَقَرًا وَعَبِيدًا وَإِمَاءً وَأَعْطَاهَا لإِبْرَاهِيمَ، ‏وَرَدَّ إِلَيْهِ سَارَةَ امْرَأَتَهُ. 15وَقَالَ أَبِيمَالِكُ: «هُوَذَا أَرْضِى قُدَّامَكَ. اسْكُنْ ‏فِى مَا حَسُنَ فِى عَيْنَيْكَ». 16وَقَالَ لِسَارَةَ: «إِنِّى قَدْ أَعْطَيْتُ أَخَاكِ أَلْفًا مِنَ ‏الْفِضَّةِ. هَا هُوَ لَكِ غِطَاءُ عَيْنٍ مِنْ جِهَةِ كُلِّ مَا عِنْدَكِ وَعِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ، ‏فَأُنْصِفْتِ». 17فَصَلَّى إِبْرَاهِيمُ إِلَى اللهِ، فَشَفَى اللهُ أَبِيمَالِكَ وَامْرَأَتَهُ ‏وَجَوَارِيَهُ فَوَلَدْنَ. 18لأَنَّ الرَّبَّ كَانَ قَدْ أَغْلَقَ كُلَّ رَحِمٍ لِبَيْتِ أَبِيمَالِكَ ‏بِسَبَبِ سَارَةَ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ".‏
فهل يجد القارئ فى صورة إبراهيم التى رسمها له العهد القديم ما ‏يغرى أحدا بالانتساب إليه والافتخار بذلك الانتساب؟ لقد سلم ‏امرأته للملك دون أدنى مقاومة بل دون أن يفتح فمه بكلمة توضيح، ‏ودعنا من كلمة اعتراض. ثم إن القصة، على عادة العهد القديم فى ‏ترديد ما لا يقبله عقل ولا منطق، تقول إن الله، لدى دعاء إبراهيم ‏لأبيمالك، قد فتح رحم نسائه بعد أن كان قد أغلقها بسبب أخذه سارة ‏من زوجها. فتعالَوْا لنناقش هذا الأمر بالمنطق: لقد أخذ أبيمالك سارة ‏دون أن يعلم أنها زوجة إبراهيم. بل إن إبراهيم قد أخبره أنها أخته، ‏فكان هذا الكلام سببا فى زيادة تضليل الملك. ومن ثم فإبراهيم لا ‏الملك هو المسؤول. ثم إن الأمر لم يستغرق سوى ليلة واحدة أعادها ‏الملك بعدها إلى زوجها دون أن يمسها لا بخير ولا بشر. فلِمَ يعاقبه الله ‏إذن؟ والطريف فى الأمر أن الله يقول لأبيمالك إنه ليس له ذنب فى ‏الأمر. بل يزيد فيقول إنه منعه من الاقتراب من سارة منعًا. أى أنه لم ‏يخطئ لا بالنية ولا بالفعل. ومرة أخرى نتساءل: فلم يعاقبه إذن؟ كما ‏أن الله قد هدده بالموت، وليس بإغلاق أرحام نسائه. وفوق هذا فهو لم ‏يشعر بهذا العقاب الأخير، وبخاصة أنه لم يمر سوى ليلة واحدة مما لا ‏يمكنه أن يتنبه لتلك العقوبة لو كانت قد حدثت فعلا. من هنا كان ‏سخفا أن يجعل النص منها قضية القضايا. ثم إن الملك يسترضى ‏إبراهيم ببعض الماشية. فهل يصح أن يقبل نبى مثل هذا الاسترضاء ‏تعويضا عن امتلاخ زوجته منه؟ يا لها من نبوة! إننا، بطبيعة الحال، لا ‏نؤمن بما يقوله العهد القديم عن إبراهيم عليه السلام، بل نرى فيه ‏نبيا كريما من أنبياء الله العظام، لكننا نجارى هؤلاء المستشرقين ‏التعساء فى منطقهم وتفكيرهم. ‏
ويقول ابن الوراق كذلك: "اقتبَسَ, أو بالأحرى: احتفظ القرآن ‏بالعادات التالية من العرب الوثنيين: تعدد الزوجات, العبودية, الطلاق ‏سهل الوقوع، وقوانين اجتماعية عامة أخرى, الختان, وطقوس ‏التطهير. شارك كل من وينسنك ونولدكه وجولدتسيهر فى دراسة ‏العناصر الأرواحية فى الطقوس المتعلقة بالصلاة الإسلامية. ففى ‏التحضير للصلوات الخمس, خصوصا أثناء عملية الوضوء, نجد الهدف ‏هو تحرير المتعبِّد من وجود أو تأثير الأرواح الشريرة، ولا علاقة له ‏البتة بمجرد النقاء الجسدى. ومن الواضح من خلال معرفة عدد لا ‏يحصى من الروايات أن محمدا نفسه روّج لعدد لا يحصى من ‏الاعتقادات الخرافية فيما يتعلق بالتطهر من الشياطين, وهو الموضوع ‏الذى أخذه من وثنيته السائدة فى فترة شبابه. وطبقا لإحدى الروايات ‏قال محمد: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فتوضأ فليستنثر ثلاثا، فإن ‏الشيطان يبيت على خيشومه". وفى مناسبة أخرى، وعندما رأى محمد ‏أن رجلا قد ترك جزءا من قدمه لم يمسسها الماء، أمر الرجلَ أن يعود ‏فيتوضأ بشكل أفضل، ثم وعظه قائلا: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن ‏فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها مع الماء أو مع آخر ‏قطر الماء. فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه ‏مع الماء. فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو ‏مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب". وهذا القول يؤكد ما ‏يذهب إليه جولدتسيهر من أنه طبقا للتصور السامى فالماء يذهب ‏حاملا الشياطين. وكان النبى متعودا على "غسل" قدميه بينما هو مرتدٍ ‏لنعلين من خلال المسح بيديه على خارج النعلين بكل بساطة".‏
وردنا على ذلك هو أن للنظافة فى الإسلام مرتبة عالية حتى لقد ‏جعلها الرسول عليه السلام من الإيمان: "النظافة من الإيمان"، وقال ‏صلى الله عليه وسلم: "إن الله نظيف يحب النظافة". وما أكثر الكلام ‏عن الطهارة والتطهر فى آيات القرآن والأحاديث المحمدية مما يرينا ‏بكل قوة وجلاء أن الإسلام هو دين النظافة بامتياز. وهو يدعو إلى ‏تسويك الفم وتنظيف الأسنان وغسل الأيدى دائما، وبخاصة عند ‏الأكل وعند القيام من النوم حيث لا يعرف الإنسان ماذا فعل أثناء ‏نومه وحيث تتغير رائحة الفم عادة. بل إنه قد شرع التطهر بعد قضاء ‏الحاجة لإزالة الخبث، وفرض الوضوء عند الصلاة بقصد غسل ‏الأطراف التى تتعرض عادة للغبار والاتساخ حتى يكون المسلم دائما ‏نظيفا. لكن المستشرقين يَأْبَوْن بصلابة رؤوسهم وتنطعهم وعنادهم ‏إلا أن يبحثوا بتعنتٍ بشعٍ عن أى تفسير سخيف لهذه السمة ‏الإسلامية تنال منه وتحول حسنه وجماله قبحا ودمامة. يا لها من نفوس ‏مريضة! ترى هل قال القرآن أو الحديث شيئا مما يفترونه على ديننا ‏العظيم؟ ثم إن حرصه صلى الله عليه وسلم على أن يعم الماء فى الوضوء ‏كل أنحاء القدم إنما هو رغبة فى تعليم المسلم الوعى والاهتمام والدقة ‏فى كل ما يعمله حتى لو تعلق الأمر ببقعة صغيرة فى القدم. لكنْ بدلا ‏من أن يلتفت المستشرق المتنطع إلى هذا المغزى الجليل تراه يتساخف ‏ويتتافه ذاهبا إلى أبعد التفسيرات تفاهة وسخفا. ‏
على أن تنطع هؤلاء المستشرقين يبلغ أقصاه فى الكلام التالى: ‏‏"تقليديا من المطلوب على المسلم أن يغطّى رأسه, خصوصا مؤخرة ‏جمجمته. ويعتقد وينسنك ‏Wensinck‏ أن المطلوب من هذا هو منع ‏الأرواح الشريرة من دخول الجسم. وقد عُرِّف العديد من الحركات ‏التعبيرية والتحرّكات, وصوت المؤذن, ورفع اليدين... إلخ بأنها ‏ممارسات أرواحية فى الأصل. واستخدمت بصورة متكررة لطرد ‏الأرواح الشريرة". لكن بالله من أين أتى فنسنك هذا الأبله بأن ‏المسلم يجب عليه تغطية رأسه، وبالذات مؤخرة جمجمته؟ هذا رجل ‏يهلوس. والمسلمون، مثلهم مثل غيرهم، فيهم من يغطى رأسه، وفيهم ‏من يتركها دون غطاء. وفيمن يغطون رؤوسهم من يلبس غترة أو ‏طاقية أو قبعة أو عمامة أو كوفية أو طربوشا. وكل واحد حر فيما ‏يضعه فوق رأسه. وهى أمور لا علاقة لها بالأرواح ولا بالأشباح، بل ‏بالجو والاعتبارات الاجتماعية. ثم كيف يسمى المستشرق الجاهل ‏المسح على الخفين: غسلًا للقدم؟
ويقول ابن الوراق: "التشريع الإسلامى الخاص بالصلوات الخمس ‏كل اليوم له مصدر فارسى أيضا. لقد شرع محمد نفسه فى البداية ‏صلاتين فقط. ثم, كما يذكر القران، أضيفت ثالثة، فصار هناك صلاة ‏الفجر وصلاة العشاء والصلاة الوسطى, وهى تقابل الصلوات اليهودية: ‏الشاخاريث والمنكاه والأربيث. ولكن، عند اصطدامهم بالحماس ‏الدينى للزرادشتيين، تبنى المسلمون تقاليدهم غير راغبين أن يزايَد ‏عليهم فى الإخلاص, ومن ثم استمر المسلمون بالتعبد إلى الله خمس ‏مرات فى اليوم تقليدا للجابات الخمس ‏five gabs‏ (الصلوات ‏الخمس) للفرس". ‏
ونقول نحن: قد شرعت الصلاة فى مكة بعدد مراتها فى اليوم ‏والليلة وبمواعيدها وبأسلوب تأديتها قبل أن يرى الرسول اليهود فى ‏المدينة بزمن طويل. أما الزرادشتيون فلم يرهم قط طوال حياته حتى ‏يقال إنه، حينما رآهم متحمسين للصلاة خمس مرات، قال فى باله: ‏ولماذا لا نصلى نحن أيضا خمس مرات حتى لا يكون أحد أحسن من ‏أحد؟ هكذا يفسر التاعس البائس هذه الأمور الدينية العظيمة وكأننا ‏إزاء امرأتين تتغايران ولا تحب أى منهما أن يكون عند الأخرى ما ‏ليس عندها. إن أحدا من اليهود أو الزرادشتيين أنفسهم لم يقل شيئا ‏من هذا السخف السمج الذى يثرثر به المستشرق الغبى. كذلك فإن ‏هيئة الصلاة فى الإسلام، وكذلك الأقوال التى يرددها المسلم فيها، ‏تختلف كلية عنها فى أى دين آخر.‏
ثم يمضى ابن الوراق قائلا: "من الممكن أن يكون محمد قد ‏تأثر بالزرادشتية فى موقفه من السبت ومعارضته للفكرة غير المعقولة ‏فى أن الله احتاج أن يأخذ قسطا من الراحة بعد خلق العالم فى ستة ‏أيام. ويأخذ اللاهوتيون الزرادشتيون موقفا مشابها ضد السبت ‏اليهودى. وبالنسبة لمحمد والمسلمين فالجمعة ليست يوم سبت أو يوما ‏للراحة, ولكنها يوم للاجتماع لممارسة شعيرة أسبوعية". ‏
وأرجو أن يتنبه القارئ إلى قوله: "من الممكن أن يكون ‏محمد..." بما يفيد أنه غير متأكد من شىء وأنه قد وضع نصب عينيه ‏نسبة كل شىء فى الإسلام إلى مصدر خارجى عنادا وتنطعا وتساخفا، ‏وإلا فلماذا لم يسكت ما دام لا يوجد فى يده دليل على ما يتخيله ولا ‏أشار الزرادشتيون أصحاب الشأن إلى شىء منه؟ لكنه العناد والتنطع، ‏قاتلهما الله! ثم كيف عرف النبى بما عند الزرادشتيين فى هذا ‏الموضوع، وذلك إن كان الزرادشتيون فعلا يرفضون السبت؟ هل كان ‏عليه السلام يختلط بهم؟ فأين؟ ومتى؟ هل كان هناك زرادشتيون فى ‏مكة؟ أم هل كان محمد يسافر إليهم فى فارس كل فترة ليعود وقد حمل ‏فى جَعْبَته الجديد الذى يحدّث به ديانته؟ أم هل كان هناك من يجرى ‏بالوساطة بينه وبينهم آتيا له بتشريعاتهم عارضا إياها عليه حتى ينتقى ‏منها ما يعجبه ويردّ ما لا يقع من نفسه موقعا حسنا؟ فمن يا ترى؟ ‏ومتى؟ وأين؟ إن عقيدة الألوهية فى الإسلام ترفض فكرة السبت ‏واستراحة الله فيه رفضا باتا ولا تتلاءم معه ولا مع ما يترتب عليه. ‏وهذا كل ما هنالك. ‏
وبالمثل ترفض عقيدة الألوهية عندنا حكاية الإلهين اللذين ‏يتصارعان طول الوقت: أحدهما للخير، والثانى للشر مما يعتقد به ‏الزرادشتيون. أفلم يجد الرسول إذن سوى الزرادشتيين كى يأخذ منهم ‏إنكار استراحة الله يوم السبت؟ ولقد أتى سلمان الفارسى النبى فى ‏المدينة بعد تطواف شاسع فى الأرض بحثا عن الحق حتى لقيه وآمن به. ‏ولو كان الأمر كما يقول ابن الوراق لما أقدم سلمان على الإيمان برجل ‏يسرق أفكاره من دين قومه ثم يزعم أنها وحى يوحى إليه. وسلمان لم ‏يكن فارسيا عاديا من عُرْض الشارع بل كان أبوه من كبار رجال ‏الدين كما هو معلوم. كذلك دخلت الأغلبية الساحقة من أهل فارس ‏دين محمد، ولم يقل أحد من الفرس إنه أخذ كراهية السبت منهم. ‏وهذا إن كانوا يكرهون السبت ويرفضونه.‏
ثم بِمَ يجيب الكاتب إذا قلنا له إن عيسى نفسه عليه السلام قد ‏دخل فى نزاع شديد مع بعض طوائف اليهود بخصوص السبت حين ‏شاهدوه يمارس بعض الأعمال التى يَرَوْن أنه لا يجوز أبدا إتيانها فى ‏ذلك اليوم؟ فهل كان المسيح عليه السلام متأثرا فى هذا بالزرادشتيين؟ ‏كما ذكرت مادة "السبت" فى "دائرة المعارف الكتابية" أن "إغناطيوس ‏تلميذ الرسول يوحنا وأسقف أنطاكية كَتَبَ فى رسالته إلى الكنيسة فى ‏مغنيسيا فى أوائل القرن الثانى: "لا يخدعكم أحد بتعاليم أو بخرافات ‏عتيقة، لأننا إن كنا ما زلنا نعيش حسب الناموس اليهودى فإننا ‏بذلك نعترف بأننا لم نحصل على النعمة". ثم يردف بالقول بأن قراءه ‏‏"قد نشأوا تحت النظام العتيق، ولكن أصبح الآن رجاء جديد، فلم ‏يعودوا يحفظون السبت". ويشرح يوستنيوس الشهيد، من أوائل ‏المدافعين عن المسيحية فى منتصف القرن الثانى، فى حواره مع ‏تريفون: لماذا لا يحفظ المسيحيون ناموس موسى ولا يمارسون الختان ‏ولا يحفظون السبت؟ ويؤكد أن حفظ السبت الحقيقى فى العهد الجديد ‏هو حفظ سبت دائم من الابتعاد عن الخطية، وأن الأبرار القدماء: آدم ‏وهابيل وأخنوخ ونوح وأمثالهم أَرْضَوُا الله بدون أن يحفظوا السبت، ‏وأن الله فرض السبت على الإسرائيليين بسبب شرهم وصلابة ‏قلوبهم". فهل كان هؤلاء جميعا متأثرين بالزرادشتية؟ ومعروف أن ‏الأمر لدى النصارى قد انتهى باستبدال الأحد بالسبت حسبما نعرف ‏لأنه اليوم الذى قام فيه المسيح من الأموات كما يقولون. بل إن بنى ‏إسرائيل أنفسهم لم يكونوا كلهم يحترمون السبت احتراما حقيقيا، ‏وهو ما سجله القرآن عليهم وسجل ألاعيبهم المعروفة عنهم فى ‏الاحتيال على أوامر دينهم وإفراغها من مضمونها الحقيقى، شأن كل ‏منافق خبيث. وهناك من اليهود الآن من يُدْخِل بعض التعديلات على ‏مفهوم يوم السبت حتى يستجيب لمتطلباتهم العصرية... وهكذا.‏
ولإعطاء القارئ مثالا على تنطع الكاتب أقرأ معه ما قاله من أنه ‏‏"فيما يخص الأكل والشرب خلال صوم رمضان تخبرنا سورة البقرة/ ‏‏187: "وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ ‏الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ". فى مدراش براخوث (تفسير ‏يهودى) نتعلم أن صلاة "شماع" يجب أن تقام "فى الصباح عندما ‏يمكن المرء أن يميّز خيطا أزرق من خيط أبيض"، وأسأله: ما الصلة يا ‏ترى بين هذا وذاك؟ إن الكلام هنا عن الصيام فى الإسلام والصلاة فى ‏اليهودية. والصلاة غير الصيام. ومع هذا فإن الكاتب يربط بينهما على ‏غير أساس. ‏
وأخيرا يأتى النص التالى: "تخبرنا السورة 4/ 46 أنه يجب على ‏المؤمنين ألا يصلّوا إن كانوا سكارى أو جنبا أو لامسوا النساء. وكل ‏هذه الموانع نجدها فى بيراخوث 31/ 2 و111/ 4 (‏Berachoth‏) وأيروبين ‏‏64 (‏Erubin‏). ومن الممكن أن تقام الصلاة وقوفا, مشيا، أو حتى على ‏الدواب– بيروخوث 10. قارن السور: البقرة/ 239, آل عمران/ 191, ‏والنساء/ 101. ومن الممكن تقصير الصلوات فى الحالات الطارئة من ‏غير ارتكاب خطيئة– مدراش بيراخوث 4/ 4, قارن سورة النساء/ ‏‏102. كما أن شعائر الوضوء الموصوفة فى سورة المائدة/ 6 من الممكن ‏مقارنتها بالشعائر المطلوب القيام بها فى بيراخوث 46. وطبقا لسورة ‏النساء/ 43 والمائدة/ 6 فعند نقص الماء من الممكن التيمم بالتراب. ‏ويخبرنا التلمود أنه "من ينظف نفسه بالتراب فقد جاء بما فيه ‏الكفاية" (بيروخوث 46). ويجب ألا تكون الصلاة بصوت عال- ‏الإسراء: 110, ويشير بيروخوث 31/ 2 إلى نفس الشىء. كما يشرع ‏القرآن (سورة البقرة/ 228) فترة انتظار لمدة ثلاثة أشهر قبل ان ‏يمكن المرأة الزواج ثانية. ومشنا يبحاموث 4/ 10 (‏Mishna ‎Jabhamoth‏) أيضا يضع نفس التشريع. كذلك فدرجة القرابة التى ‏يمكن ضمنها أن يبقى الزواج شرعيا قد تبناها القرآن (سورة النساء: ‏‏23) كما يبدو من تلمود كيثوبوث 40/ 1 (‏Talmud Kethuboth‏). ‏كلتا الديانتين تصر على وجوب إرضاع المرأة ابنها لمدة عامين. قارن ‏سورة لقمان/ 14 وسورة البقرة/ 233 مع كيثوبوث 60/ 1".‏
إن الكاتب، فيما هو واضح، يفترض أن لدى الرسول مكتبة ‏ضخمة تتوافر فيها كل المصادر والمراجع الدينية بما فى ذلك التلمود ‏بمجلداته الكثيرة وضخامته الهائلة وتعقيداته المتعثكلة. إن ابن الوراق ‏يستعين بدهاقنة الاستشراق والتبشير الذين يتعاونون بدورهم فيما ‏بينهم من أجل الوصول إلى تلك الزوايا المظلمة من التلمود وغيره من ‏كتب اليهود، وهم فوق ذلك نصارى ويهود، فكيف يظن ظان أن ‏محمدا كان يستطيع الوصول إلى ما يريد من هذا التلمود وغيره من ‏كتب القوم، وقد كان أميا، ولا يعرف غير العربية، وليست هناك ‏كتب ولا مكتبات فى بيئته، ونحن فى عصرنا هذا المتقدم كل هذا ‏التقدم الهائل نلقى الأَمَرَّيْن فى البحث عما نريد من تلك الكتب رغم ‏توافر أدوات البحث ورغم توافر المشباك بكل تقنياته الحديثة؟ وأين ‏التلمود من رسول الله فى مكة والمدينة؟ وأين رسول الله من التلمود، ‏وهو مكتوب بالعبرية، التى لا يعرفها صلى الله عليه وسلم، فضلا عن ‏أن أصحاب الكتاب لا يمكن أن يتركوا غيرهم يطلع عليه؟ وأخيرا ‏وليس آخرا هل كان اليهود، وهم بحمد الله ذوو ألسنة طويلة وسفيهة ‏وكاذبة خاطئة، ليسكتوا عنه فلا يشنعوا عليه ويتهموه بالسرقة من ‏تلمودهم وتوراتهم لو افترضنا المستحيل وقلنا مع هذا الكذاب المسمى: ‏‏"ابن الوراق" إن الرسول اطلع على التلمود واستمد منه بعض تشريعاته، ‏وهم لم يكونوا يتورعون عن القول بأن وثنية المشركين أفضل من ‏التوحيد الذى جاء به صلى الله عليه وسلم؟ ‏
الصواب فى هذه الحالة، لو كانت هناك فعلا تشابهات بين التلمود ‏وبعض تشريعات العبادة فى الإسلام كما يدعى ابن الوراق، هو ما أقوله ‏ويقوله المسلمون دائما من أن الشريعة الإسلامية لا تختلف بوجه عام ‏عن الشرائع السماوية السابقة، إذ هى جميعا من عند الله. ومن ثم ففى ‏الأمور المتصلة بأوضاع البشر الفطرية نجد التشريعات هى هى أو ‏تغيرت تغيرا طفيفا، أما إذا كانت التشريعات تتعلق بأحوال يعتريها ‏التطور والتغير فإن تشريعات الإسلام فى هذه الحالة تختلف عما ‏سبقها فى تلك الأديان. كذلك تختلف تشريعاتنا عن تشريعات ‏السابقين فى حالة وقوع عبث فى نصوص كتبهم. وفى هذه الحالة ‏يكون القرآن هو الحاكم المهيمن على الكتب السماوية السابقة. ‏ونحن، حين نقول ذلك، لا نقوله الآن للخروج من مأزق كما قد يظن ‏بعض المتعجلين الجاهلين، بل هو مذكور فى القرآن من قديم كما ‏يتضح من النصوص التالية: ‏
‏"شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا ‏وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ ‏عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ ‏يُنِيبُ (13)" (الشورى) ، "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ ‏يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ ‏أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ" (المائدة/ 48)، "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى ‏إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَى عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ‏الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا ‏حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ ‏تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏‏(12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ‏عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ ‏إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) ‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا ‏كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ ‏كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ ‏اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ‏وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏‏(16)" (المائدة).‏
ولقد رجعت إلى مادة "‏ablution‏" فى "‏Jewish Encyclopaedia‏" ‏لمعرفة ماذا تقول الشريعة اليهودية فى هذا المضمار كى ندرك مدى ‏القرب أو البعد بين شرعنا وشرعهم، فوجدت أن المطلوب عند الصلاة ‏فى شريعة اليهود هو غسل الأيدى بماء طاهر لم تمازجه أية مادة ‏أخرى ولم يُسْتَعْمَل من قبل وأنه إذا عدم الماء يمكن الاستعاضة عنه ‏بمسح اليد فى أى شىء جاف ونظيف كقطعة قماش مثلا. وفى ‏التلمود من التعقيدات والتنطعات والتعسفات المفصلة الكثيرة فى ‏موضوع غسل الأيدى ما يمكن أن يصيب الإنسان بالدوار بل ‏بالإغماء. ويمكن القارئ أن يتحقق من الأمر بنفسه فى الفصل ‏الخاص بالأيدى من مجلد "طهاروت" (الطهارات). وواضح أن الوضع فى ‏اليهودية يختلف عنه عندنا فى الإسلام اختلافا حادا. وفى ضوء هذا ‏يمكن القارئ الكريم أن يعيد النظر فيما قاله ابن الوراق من أن ‏‏"شعائر الوضوء الموصوفة فى سورة المائدة/ 6 من الممكن مقارنتها ‏بالشعائر المتطلب القيام بها فى بيراخوث/ 46. ‏
أما قول كاتبنا إن الشريعة اليهودية والقرآن يتفقان فى أن الزوجة ‏لا يمكنها أن تتزوج عند انتهاء زواجها قبل مضى ثلاثة أشهر فهو ‏قول متسرع أهوج، إذ ليس فى القرآن قاعدة واحدة فى هذه الحالة، بل ‏هناك عِدَّة المطلقة وعدة الأرملة وعدة اليائس وعدة التى لم تحض: ‏فعدة المطلقة ثلاثة قروء، وعدة الأرملة أربعة أشهر وعشر، وعدة ‏اليائس ثلاثة أشهر فى حالة الشك، ومثلها التى لم تحض، أما الحامل ‏فعدتها أن تضع حملها: "وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا ‏يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا فِى أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى ‏عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)... ‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ‏وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنْفُسِهِنَّ ‏بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)" (البقرة)، "وَاللَّائِى يَئِسْنَ مِنَ ‏الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِى لَمْ ‏يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ ‏لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)" (الطلاق). كما أن الزوجة التى تتزوج بعد ‏طلاقها لا يمكنها، حسب الشريعة اليهودية، أن تعود إلى زوجها الأول ‏أبدا مدى الحياة ولا أن تتزوج الرجل الذى طُلِّقَتْ بسبب الشك فى ‏وجود علاقة بينها وبينه ولا الرسول الذى أحضر لها وثيقة الطلاق، ‏وهو ما يختلف فيه التشريعان اختلافا شديدا كما هو واضح. ‏
ونختم ببعض الفقرات التى تبين فى عجالة، وعلى سبيل التمثيل ‏ليس غير، مخالفة الإسلام لكثير من شرائع الجاهليين وأهل الكتاب ‏وغيرهم، ومن ثم فاتهام المتهِمين له بالاستمداد من مصادر خارجية هو ‏اتهام سخيف لا ينهض على أساس. لقد كان العرب فى الجاهلية مثلا ‏يقدمون القرابين إلى أوثانهم، وكانت هذه القرابين تشمل أبناءهم. وقد ‏حرموا بعض الحيوانات والزروع إلا على ناس مخصوصين، كما حرموا ‏ركوب حيوانات أخرى، ومنعوا ذكر اسم الله على نوع ثالث منها، ‏فجاء القرآن ونسف كل هذا: "وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ ‏نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا ‏يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏‏(136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ‏لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا ‏يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ ‏بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ‏افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ ‏الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ ‏شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا ‏أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ‏وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)" (الأنعام)، "مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ ‏وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ‏وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)" (المائدة)، "إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ ‏يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ ‏نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ ‏الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ ‏دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)" (النساء).‏
وفى مجال العبادة، وسوف نقتصر منها على الحج وحده كمثال ‏فقط، نجد الإسلام قد طهَّر الكعبة من الأوثان ومتعلقاتها، وحرَّم أن ‏يطوف أى مشرك أو عريان بالبيت: "إنما المشركون نَجَسٌ، فلا يَقْرَبُوا ‏المسجدَ الحرامَ بعد عامهم هذا" (التوبة/ 28)، وأوجب على المسلمين أن ‏يُفِيضُوا جميعا من مكان واحد حتى يقضى على العنجهية التى كانت ‏تسول لبعض القبائل التفرد بمكان مخصوص يفيضون منه وحدهم: "ثم ‏أَفِيضُوا من حيثُ أفاض الناسُ" (البقرة/ 199). كما أبطل التقليد ‏السخيف الذى كان يتبعه بعض أهل المدينة عند عودتهم من الحج، إذ ‏كانوا لا يدخلون بيتا ولا فسطاطا من بابه ولكن مِنْ نقب أو فرجة ‏من الخلف ظنا منهم أن هذا من البرّ: "وليس البِرُّ بأن تأتوا البيوت من ‏ظهورها، ولكن البِرَّ مَنِ اتقى، وأْتُوا البيوتَ من أبوابها" (البقرة/ 189). ‏كذلك وضع الإسلام نهاية النسىء، الذى كان عرب الجاهلية يلجأون ‏إليه إذا كانوا فى حرب وأتى عليهم شهر من الأشهر الحرم، إذ كانوا ‏يستمرون فى الحرب ويعوّضون هذا الشهر بشهر آخر من غير الأشهر ‏الحرم، مفسدين بذلك حكمة هذه الأشهر: "إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ‏الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا ‏عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا ‏يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)" (التوبة).‏
وكان النساء فى الجاهلية يُحْرَمْن فى العادة من الميراث، فجاء ‏الإسلام وجعل لهن فى الميراث نصيبا مفروضا، مثلهن مثل الرجال ‏سواء بسواء: "لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ ‏نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏‏(7)" (النساء)، ووزع الميراث على نحو لم تعرفه الجاهلية بل ولا ‏الأديان السابقة. وكان الرجل فى الجاهلية إذا مات عن امرأة وله عصبة ‏ألقى هذا ثوبه على المرأة قائلا: "أنا أحقّ بها"، ثم إذا شاء تزوجها ‏بصداقها الأول، وإن شاء زوجها غيره. كذلك كان الواحد منهم يتزوج ‏بامرأة أبيه إذا رغب. كما حرم صورا أخرى من الزواج غير القائم على ‏التراضى من الطرفين مما لا تقبله النفوس الكريمة، وهو ما فصّلته ‏السنة المطهرة. كذلك وضع الإسلام حدا لوأد البنات وجعله من أفظع ‏الشُّنَع كما هو معروف.‏
وقد كان القمار والخمر من مفاخر العرب، وما أكثر القصائد ‏التى يتمدح فيها أصحابها بإراقة الأموال عليها، فجاء الإسلام ‏وحرّمها تحريما قاطعا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ‏وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ ‏تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ‏فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ ‏مُنْتَهُونَ (91)" (المائدة)... إلخ.‏
فإذا انتقلنا إلى عبادات أهل الكتاب فسنرى الإسلام قد أتى بما ‏يخالفها: فهو مثلا قد ألغى القرابين التى كانت تقدَّم لله. كما وضع حدا ‏لوساطة الكاهن أو القسيس، وأصبح المسلم مرتبطا ارتباطا مباشرا ‏بربه، سواء فى عبادته أو فى التكفير عن سيئاته. وعلى هذا فليس فى ‏الإسلام شىء اسمه "ذبيحة إثم أو ذبيحة سلامة أو ذبيحة خطية" ‏مثلا. كذلك فالنجاسات فى الإسلام قد تخلصت تماما مما يصاحبها ‏ويترتب عليها فى اليهودية من عبء باهظ يخنق الأنفاس. ولعل المثال ‏التالى الوحيد، وهو من أخف التشريعات فى النجاسة، يعطى القارئ ‏لمحة عن مدى التضييق الذى فرضته اليهودية على أتباعها، ورفع ‏الإسلام السمح إِصْرَه عن المسلمين:‏
‏"19«وَإِذَا كَانَتِ امْرَأَةٌ لَهَا سَيْلٌ، وَكَانَ سَيْلُهَا دَمًا فِى لَحْمِهَا، فَسَبْعَةَ ‏أَيَّامٍ تَكُونُ فِى طَمْثِهَا. وَكُلُّ مَنْ مَسَّهَا يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 20وَكُلُّ مَا ‏تَضْطَجِعُ عَلَيْهِ فِى طَمْثِهَا يَكُونُ نَجِسًا، وَكُلُّ مَا تَجْلِسُ عَلَيْهِ يَكُونُ ‏نَجِسًا. 21وَكُلُّ مَنْ مَسَّ فِرَاشَهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ، وَيَكُونُ ‏نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 22وَكُلُّ مَنْ مَسَّ مَتَاعًا تَجْلِسُ عَلَيْهِ، يَغْسِلُ ثِيَابَهُ ‏وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ، وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 23وَإِنْ كَانَ عَلَى الْفِرَاشِ أَوْ ‏عَلَى الْمَتَاعِ الَّذِى هِى جَالِسَةٌ عَلَيْهِ عِنْدَمَا يَمَسُّهُ، يَكُونُ نَجِسًا إِلَى ‏الْمَسَاءِ. 24وَإِنِ اضْطَجَعَ مَعَهَا رَجُلٌ فَكَانَ طَمْثُهَا عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا ‏سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَكُلُّ فِرَاشٍ يَضْطَجِعُ عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا. 25«وَإِذَا كَانَتِ امْرَأَةٌ ‏يَسِيلُ سَيْلُ دَمِهَا أَيَّامًا كَثِيرَةً فِى غَيْرِ وَقْتِ طَمْثِهَا، أَوْ إِذَا سَالَ بَعْدَ ‏طَمْثِهَا، فَتَكُونُ كُلَّ أَيَّامِ سَيَلاَنِ نَجَاسَتِهَا كَمَا فِى أَيَّامِ طَمْثِهَا. إِنَّهَا نَجِسَةٌ. ‏‏26كُلُّ فِرَاشٍ تَضْطَجِعُ عَلَيْهِ كُلَّ أَيَّامِ سَيْلِهَا يَكُونُ لَهَا كَفِرَاشِ طَمْثِهَا. ‏وَكُلُّ الأَمْتِعَةِ الَّتِى تَجْلِسُ عَلَيْهَا تَكُونُ نَجِسَةً كَنَجَاسَةِ طَمْثِهَا. 27وَكُلُّ ‏مَنْ مَسَّهُنَّ يَكُونُ نَجِسًا، فَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ، وَيَكُونُ نَجِسًا ‏إِلَى الْمَسَاءِ. 28وَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ سَيْلِهَا تَحْسُبُ، لِنَفْسِهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ ‏تَطْهُرُ. 29وَفِى الْيَوْمِ الثَّامِنِ تَأْخُذُ لِنَفْسِهَا يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَى حَمَامٍ، وَتَأْتِى ‏بِهِمَا إِلَى الْكَاهِنِ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. 30فَيَعْمَلُ الْكَاهِنُ: الْوَاحِدَ ‏ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، وَالآخَرَ مُحْرَقَةً. وَيُكَفِّرُ عَنْهَا الْكَاهِنُ أَمَامَ الرَّبِّ مِنْ ‏سَيْلِ نَجَاسَتِهَا. 31فَتَعْزِلاَنِ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَنْ نَجَاسَتِهِمْ لِئَلاَّ يَمُوتُوا فِى ‏نَجَاسَتِهِمْ بِتَنْجِيسِهِمْ مَسْكَنِى الَّذِى فِى وَسَطِهِمْ" (لاويين/ 15). ‏
ومن يرد أن يقرأ حكم النجاسات الأخرى فليقرأ الإصحاحات ‏الثمانية من الحادى عشر إلى الثامن عشر من نفس السفر. أما فى ‏الإسلام فليس على المرأة فى تلك الحالة إلا أن تسد نزيف الدم بقطعة ‏قماش مثلا. وليس على من يمسها أو تمسه أو يتعامل معها أى حرج، ‏ولا شىء مما تلمسه يتنجس بأى حال. المهم ألا يتم اتصال بينها وبين ‏زوجها فى الحيض أو فى النفاس فقط. فأين هذه السماحة من ذلك ‏الإعنات؟ وفى القرآن المجيد إشارة إلى هذا العنت فى دعاء المؤمنين ‏لربهم: "ربَّنا ولا تَحْمِلْ علينا إِصْرًا كما حَمَلْتَه على الذين مِنْ قَبْلِنا" ‏‏(البقرة/ 286). أما الصلاة والصيام والزكاة فإن طريقة أدائها وأحكامها ‏مختلفة تماما فى الإسلام عنها فى اليهودية. وهذا كله ينطبق أيضا على ‏النصرانية. ‏
وأما الأطعمة فالذى حُرِّم فى الإسلام منها حسبما ورد فى القرآن ‏‏"الميْتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة ‏والمتردِّية والنطيحة وما أَكَلَ السَّبُعُ إلا ما ذكَّيْتم وما ذُبِح على النُّصُب" ‏مع السماح للمضطر أن يتناول من ذلك على قدر الضرورة لا يعدوها: ‏‏"فَمَنِ اضْطُرَّ فى مَخْمَصَةٍ غيرَ متجانِفٍ لإِثْمٍ فإن الله غفور رحيم" ‏‏(المائدة/ 3). وقد كان سبحانه حَرَّم على اليهود "كلَّ ذى ظُفُرٍ، ومن ‏البقر والغنم حرَّمنا عليهم شحومَهما إلا ما حملتْ ظهورُهما أو الحَوَايَا ‏أو ما اختلط بعظمٍ. ذلك جزيناهم ببَغْيِهم" (الأنعام/ 146)، "فَبِظُلْمٍ مِنَ ‏الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ‏كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ‏وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)" (النساء). ‏
وفى الإصحاح الرابع عشر فى سفر "التثنية" من العهد القديم ‏نقرأ: "1«أَنْتُمْ أَوْلاَدٌ لِلرَّبِّ إِلهِكُمْ. لاَ تَخْمِشُوا أَجْسَامَكُمْ، وَلاَ تَجْعَلُوا ‏قَرْعَةً بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ لأَجْلِ مَيْتٍ. 2لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، ‏وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَى تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ ‏عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ.‏
‏3«لاَ تَأْكُلْ رِجْسًا مَّا. 4هذِهِ هِى الْبَهَائِمُ الَّتِى تَأْكُلُونَهَا: الْبَقَرُ ‏وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ 5وَالإِيَّلُ وَالظَّبْى وَالْيَحْمُورُ وَالْوَعْلُ وَالرِّئْمُ وَالثَّيْتَلُ ‏وَالْمَهَاةُ. 6وَكُلُّ بَهِيمَةٍ مِنَ الْبَهَائِمِ تَشُقُّ ظِلْفًا وَتَقْسِمُهُ ظِلْفَيْنِ وَتَجْتَرُّ ‏فَإِيَّاهَا تَأْكُلُونَ. 7إِلاَّ هذِهِ فَلاَ تَأْكُلُوهَا، مِمَّا يَجْتَرُّ وَمِمَّا يَشُقُّ الظِّلْفَ ‏الْمُنْقَسِمَ: الْجَمَلُ وَالأَرْنَبُ وَالْوَبْرُ، لأَنَّهَا تَجْتَرُّ لكِنَّهَا لاَ تَشُقُّ ظِلْفًا، فَهِى ‏نَجِسَةٌ لَكُمْ. 8وَالْخِنْزِيرُ لأَنَّهُ يَشُقُّ الظِّلْفَ لكِنَّهُ لاَ يَجْتَرُّ فَهُوَ نَجِسٌ ‏لَكُمْ. فَمِنْ لَحْمِهَا لاَ تَأْكُلُوا وَجُثَثَهَا لاَ تَلْمِسُوا.‏
‏9«وَهذَا تَأْكُلُونَهُ مِنْ كُلِّ مَا فِى الْمِيَاهِ: كُلُّ مَا لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ ‏تَأْكُلُونَهُ. 10لكِنْ كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ لاَ تَأْكُلُوهُ. إِنَّهُ نَجِسٌ ‏لَكُمْ. ‏
‏11«كُلَّ طَيْرٍ طَاهِرٍ تَأْكُلُونَ. 12وَهذَا مَا لاَ تَأْكُلُونَ مِنْهُ: النَّسْرُ ‏وَالأَنُوقُ وَالْعُقَابُ 13وَالْحِدَأَةُ وَالْبَاشِقُ وَالشَّاهِينُ عَلَى أَجْنَاسِهِ، 14وَكُلُّ ‏غُرَابٍ عَلَى أَجْنَاسِهِ، 15وَالنَّعَامَةُ وَالظَّلِيمُ وَالسَّأَفُ وَالْبَازُ عَلَى أَجْنَاسِهِ، ‏‏16وَالْبُومُ وَالْكُرْكِى وَالْبَجَعُ 17وَالْقُوقُ وَالرَّخَمُ وَالْغَوَّاصُ 18وَاللَّقْلَقُ ‏وَالْبَبْغَاءُ عَلَى أَجْنَاسِهِ، وَالْهُدْهُدُ وَالْخُفَّاشُ. 19وَكُلُّ دَبِيبِ الطَّيْرِ نَجِسٌ ‏لَكُمْ. لاَ يُؤْكَلُ. 20كُلَّ طَيْرٍ طَاهِرٍ تَأْكُلُونَ. «لاَ تَأْكُلُوا جُثَّةً مَّا. تُعْطِيهَا ‏لِلْغَرِيبِ الَّذِى فِى أَبْوَابِكَ فَيَأْكُلُهَا أَوْ يَبِيعُهَا لأَجْنَبِى، لأَنَّكَ شَعْبٌ ‏مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَطْبُخْ جَدْيًا بِلَبَنِ أُمِّهِ".‏
وقد اعترض اليهود على الإسلام لإباحته بعض الأطعمة التى ‏حرموها على أنفسهم مدعين أنها محرمة فى شريعة إبراهيم جد ‏الفريقين جميعا، فرَدَّ القرآنُ عليهم قائلا: "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِى ‏إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ ‏فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ ‏الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا ‏مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)" (آل عِمْران).‏
وكان العرب فى الجاهلية يتقارضون بالربا. بل كان الدائن، إذا حل ‏الأجل ولم يستطع المَدِين أن يسدد دَيْنَه برِبَاه، يمدّ له فى الأجل ويزيد ‏فى الربا، فنزل القرآن ليضع خاتمة لهذا كله مهددا أشد التهديد من لا ‏يرعوى عن ذلك الغبن الفاحش: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ‏مَا بَقِى مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ ‏مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا ‏تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ ‏لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)" (البقرة)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا ‏الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)" (آل ‏عمران)، "وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ‏وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)" ‏‏(الروم). وفى هذه النقطة نجد الإسلام يخالف اليهودية أيضا. ذلك أن ‏اليهودية، وإن حرّمت الربا كذلك، فإن هذا التحريم لا يمتد ليشمل ‏إقراض الأجنبى بالربا، بل يقتصر على تقارض اليهود فيما بينهم، مما ‏يعكس نزعة التعصب الجنسى المقيت لديهم: يقول العهد القديم "لا ‏تقرضْ أخاك بربا. للأجنبى تقرض بربا، لكن لأخيك لا تقرض بربا" ‏‏(تثنية/ 23/ 19- 20). ذلك بأنهم، كما ذكر القرآن، كانوا يقولون: "ليس ‏علينا فى الأميين (غير اليهود) سبيل" (آل عمران/ 75).‏
كذلك كان اليهود فى المدينة يزعمون للمسلمين أن الرجل إذا ما ‏أتى زوجته من الخلف فى الاتصال الطبيعى جاء الولد أحول. فذكر ‏المسلمون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: ‏‏"نساؤكم حَرْثٌ لكم. فَاْتُوا حَرْثَكم أَنَّى شِئْتُم" (البقرة/ 223). أما ‏النصارى فيقول القرآن عنهم فى موضوع الرهبانية: "ورهبانيَّةً ‏ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاءَ رضوان الله، فما رَعَوْها حَقَّ ‏رعايتَها" (الحديد/ 27)، إذ إنها على هذا النحو تدابر الطبيعة الإنسانية ‏وتتجاهل متطلباتها، فيترتب عليها أشد الأضرار. ‏
ومن هذه الأمثلة القليلة التى اقتصرنا عليها من القرآن الكريم ‏وحده، وهناك الكثير جدا غيرها فى القرآن وفى السنة المحمدية ‏المطهرة، يتضح لكل ذى بصيرة أن للإسلام شخصيته المستقلة، وهى ‏شخصية سوية تتمشى مع العقل الإنسانى المحرر من أغلال الوثنيات ‏والخرافات، ومع الغرائز الإنسانية المعتدلة. ومن هنا يمكننا أن نفهم ‏قوله تعالى: "وأنزلنا إليك الكتابَ بالحق مُصَدِّقًا لما بين يديه من ‏الكتاب ومهيمنًا عليه" (المائدة/ 49). إنه يوافق التوراة والإنجيل فيما ‏لم تمسسه يد التحريف ولا يزال صالحا للبشرية. أما إذا كان ثمة ‏تحريف أو اقتضت الظروف الإنسانية تبديلا فى هذا التشريع أو ذاك ‏فإن القرآن يصدع حينئذ بالحق المبين. من هنا تتضح سفاهة الاتهام ‏الذى يحاول المستشرقون والمبشرون تشويه وجه القرآن والإسلام به ‏من أن تشريعات الإسلام مسروقة من اليهودية والنصرانية والوثنية ‏وغيرها. وهناك دليل قاهر لمن كان له عقل أو ألقى القلب وهو مخلص ‏أمين، ألا وهو أن محمدا لا يمكن أن يكذب أو يتوهم نزول وحى ‏عليه ليست له حقيقة خارجية. لقد فصصت هذا الأمر تفصيصا فى ‏كتابى: "مصدر القرآن"، ولم أجعل لشىء أى سلطان علىَّ لدى دراسة ‏هذه القضية، ومن ثم تناولت كل شىء فيها دون أى قدر من التحرج ‏أو التردد، فألفيتنى أمام شخصية باهرة سامقة شاهقة لا سبيل يصل ‏بينها وبين الكذب أو الضلال أو الأوهام. كما لفتنى بقوةٍ أن الروح ‏السارية فى القرآن الكريم هى روح إلهية مفارقة لنطاق البشر. وبنفس ‏العزم والنية درست القرآن والحديث دراسة أسلوبية مقارنة، فاتضح ‏لى اتضاحا لا يخالطه أدنى ريب أن الأسلوبين متمايزان فى ألفاظهما ‏وصيغهما وفى عباراتهما وتراكيبهما وأبنيتهما، فتحصَّل عندى أن ‏مصدر هذا غير مصدر ذاك. وهذا متاح لمن يريد فى كتابى الكبير: ‏‏"القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية". وكل ذلك قد عزز عندى إلهية ‏مصدر القرآن المجيد بلا أدنى جدال. أما متهِمو القرآن بأنه مأخوذ ‏من هذا المصدر أو ذاك فهم كالذى يتهم سيدة محصنة شريفة بأنها ‏حملت فى ابنها الذى يشبه أباه تمام الشبه فى كل شياته وملامحه لا من ‏أبيه بل من جارها، وكل حجته أن للطفل شعرا، وللجار شعرا، أو أن ‏للطفل منخرين، وللجار كذلك منخرين مثلا. وهو دليل مضحك، ‏فكل الناس لها شعر ومنخران، وليست العبرة بهذا بل بالملامح الدقيقة ‏والخاصة وما إلى ذلك، إلا أن المشكلة تكمن فى أن المتهِم، لسماجته ‏وسماكة جلد وجهه، لا يبدو عليه شىء من الحياء أو الخجل.