الطالع لوش النشيد

بقلم سمير الأمير
لا يمكننا القول بأن الموت غيب " طاهر البرنبالى" إذ الشعراء الحقيقيون لا يموتون، هم فقط يغادرون أجسادهم المنهكة الضعيفة والتى غالبا لا تقوى على تحمل قوة أرواحهم، يغادرون إلى رحابة لا حدود لها فتتجاوز أرواحهم حدود المكان والزمان المرتبطين بأشخاص يحملون بطاقات الرقم القومى إلى فضاءات تاريخ الوجدان القومى ذاته وتصعد نصوصهم مع أرواحهم لتجد مكانها كأوراق نضرة على شجرة كبيرة تمثل النص العام للحياة وللفن فى هذا الوطن،
وفى تقديرى أن من يخرجون على هذا التصور ليسوا شعراء وإنما هم متشاعرون لم تدركهم " حرفة الشعر" فأدركوا " كيمياءه" وجعجعوا وأثاروا الضجيج ليضببوا على المنشدين العظام الذين اصطفاهم الوطن ليكتبوا تاريخ الإنسان وأسفار مقاومة طمس الهوية ونهب الثروات وكبت الحريات، ويعلم الراسخون فى العشق أن ما يفعله هؤلاء الحمقى سيذهب جفاء، أو سيصبح هشيما تذروه الرياح وأنهم أبدا لن يفلحوا فى تغييب ما لا يغيب.

من هنا يمكننا القول أن للشعراء "الشعراء" خصائص عامة بارزة واضحة، تجعل من "طاهر البرنبالى" أحد أفراد قبيلة تبدأ من بديع خيرى وبيرم التونسى و يستأنس المصريون بنيرانها التى أشعلها فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وعبد الرحيم منصور ونجم وفؤاد قاعود وزين العابدين فؤاد وسمير عبد الباقى ومحمد سيف، وجمال بخيت ومحمود جمعة ومحمود الشازلى وآخرون، حتى يأتى جيل طاهر البرنبالى الذى شهد ظاهرة "التشاعر" ورغبة المتشاعرين فى تصدر المشاهد الزائفة التى لم تكن أبدا تغري من " شبعوا من الرغيف الفذ " وكانت أشعارهم رسائلهم للحياة ولبسطاء الناس فى ربوع المحروسة كعمر نجم وخالد عبد المنعم وآخرين "منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".

وربما يري البعض أننى كتبت كلاما احتفائيا أو منحازا فى السطور السابقة باعتبار أن طاهر وما ذكرتهم من شعراء ينتمون لنفس المواقف الجمالية والسياسية التى أنتمى إليها وهو اتهام يشرفنى قطعا، ويعجبنى هنا قول الأبنودى " لو كان حبك يا مصر خطية ونجاسة.. طين النجاسة يا نخاسة... بلغ باطى" ،
ولكى لا ننشغل كثيرا بالباحثين عن أسمائهم فى كل مناسبة سأوجز الخصائص والسمات التى جعلت من طاهر البرنبالى واحدا من قبيلة العشاق التى تحدثت عنها :-
1- تتميز نصوص طاهر البرنبالى رغم أنها تكتنز تاريخ العامية المصرية بأن علاقتها بالحياة أكبر من علاقتها بالنصوص التى كتبها شعراء أحبهم طاهر وانتمى لمشروعهم الفكري والجمالى " قولى لابويا إن الولد طاهر /من فوق سطوح الألم حمحم بكفه للحمام غله" ، ويقول طاهر أيضا فى قصيدته عن زوجته وهى القصيدة التى ولدت فى أتون الألم والمقاومة " طابت الآلام ف نفسى وف جروحى/ قمت شاعر/ م الهموم والمآسى والغيوم/ قمت انفض رقدتى وانثر مواجعى/امسكى الورقه وراجعى/ كل كلمة همستها ف ودنك حقيقة مش كلام/ مش ملاوعه/ أو هدف تافه وخدعه"
2- يعتمد البناء الشعرى عند " البرنبالى" على تخييل بديع يبتعد عن الذهنية رغم احتواء المضمون على مواقف سياسية وأيدلوجية وتأمل معى قوله " الطمى ليل والحزن نيل / سرب الحمام عطشان هديل/ ومافيش بديل/ يا تعيش نبى يا تموت ذليل"
3- طاهر الشاعر وطاهر الإنسان لا ينفصلان فسلوكه الشخصى لا يناقض شعره فمن يحترم إبداع طاهر لن تصدمه أية تناقضات مع هذا الإبداع إن تعرف إلى شخصه، فهو لا يعظ أبدا بجماليات لا يمارسها كإنسان.." غيبى عليا وطولى حبه/ نار اشتياقى فى الغياب بتزيد/ قلبى اللى بين شعرا وأطبه/ لازم يقابلك آخر المواعيد" ولعله لخص لنا كيف استطاع أن يكون طاهرا ومقاوما حين قال :-" قولى لابويا ابنك ما سابش للغبار حيله/ يرخى المدار ف الليل أو يتسند ع الحيط/ ابنك من الزمن البعيد/ طالع ربيع نعناع بيحب راس الغيط/ وبيستغيث بالبحر لما النزيف بيطيش / ويرج صحن البيت"
4- يمتلك طاهر البرنبالى روحا قوية كانت عصية على اختراقات الزيف والادعاء والكذب التى أصابت معظم الكتاب الذين هجروا الريف للعاصمة ففقدوا ملامح طيبتهم ليتمكنوا من العيش بشروط المدينة "العاصمة" القاسية فتأسدوا وتذأبوا ثم سقطوا فى الصراعات الصغيرة وفى النميمة، بينما ظل طاهر ونفر قليل ممن تصطفيهم مصر العظيمة سفراء للقرى وللفلاحين وللصيادين والعمال، تقابله فى الندوات الشعرية والفكرية والسياسية وربما فى الوقفات الاحتجاجية المناصرة للحرية لكنك لا تجده أبدا فى أندية اللهو التى يشكل أكل لحم من يغيب عنها جوهر تسليتها وأساس انعقادها. وهو يؤكد على قوة مقاومته للتردى حين يقول .. " ولا واحد يقدر يخطف منى ومنك طعم الدهشة/ أو تنهيدة حزن قديم/ ولا يقدر يسرق ملح الجرح الغامض/ أو بسمة وش انطبعت تحت جدار الشمس/ ولا يقدر ياخد بهجة صخر الليل الوردى الساكن بطن الإيد/ يابو العيون ملو القمر أوصاف/ طالعين لوش النشيد"
5- امتلك البرنبالى أيضا كرامة رفيعة وسموا وتساميا رغم ضيق الحال وسطوة المرض لدرجة أنه يكاد يكون مثالا يجسد التحدى ومقاومة الهزيمة وهو ما مكنه من حمل جسده المنهك لمدة عشر سنوات منذ بداية المرض وإرغام هذا الجسد المنهك على الوقوف والصمود والسفر لإلقاء الشعر فى ربوع المحروسة دون أن يجأر بشكوى، ويبدو أن طاهر كان يستند على صوته فقد كان يعشق تلاوة الشعر وكان بالتعبير العامى " قويل" - " وان كعبلتنا الظروف/ محناش عيال للخوف/إزاى يموت ؟/ هوه شهيد الوطن/ أنا مش باموت ما تلفونيش ف الكفن" ويقول طاهر البرنبالى أيضا فى هذا الصدد " ما تعيطوش لو مت متعكر/ أنا اللى كان ضحكى رايق/ تتباهى بيه الخلايق/ ما تعيطوش لو مت متعكر/ بكره اللسان اللى صان/ يجرى عليه السكر"
6- ولعلنا فى تأمل تجربة طاهر الحياتية والشعرية نلمح تشابها حد التطابق بين الخاص والعام وبين الشخصى والوطنى إلى درجة التماهى الكامل فلم يستطع أن يرى أزمة كبده إلا فى إطار أزمة " كبد الوطن" بمعناها الحرفى " أكباد المصريين" ومعناها الدلالى " كل أزمات الوطن وأوجاعه،
يقول "البرنبالى" وهو يتذكر خالد عبد المنعم " شوف ست سنين من عمرك فاتو ازاى من غير ما تحس !/ تيودور بلهارس ما كانش بيفهم ف الأشعار/ ولا طعم المر ف حلق المصريين/ الموضوع أكبر من طاهر واكبر من خالد/ أكبر من ابن امبارح وابن اليوم/ كبد الوطن مأزوم"

ترك لنا طاهر دواوين " طالعين لوش النشيد " الذى صدر سنة 1989 و طاهر وراء القضبان فكان مبشرا بحريته وحرية الوطن ، ثم ديوان " طفلة بتحبى تحت سقف الروح" فى العام 1994 و احتوت قصائده على رسائل هامة فى تحرير الوعى والتأكيد على فلسفة المقاومة، ثم ديوان "طارت مناديل السعادة" فى العام 1999 و " طريق مفتوح ف ليل أعمى سنة 2004، وبعد أن خضع لجراحة ناجحة فى الكبد فى العام 2007 أصدر " طلعة ربيع دار الفؤاد " وفيه احتفى بأطباء مصر العظام الذين أجروا له الجراحة وطببوه وبعد ذلك جاء ديوان " طرطشات الذات والبنات" ، كما كتب طاهر عديد الدواوين للأطفال فضلا عن كتابته للأغانى وتترات المسلسلات التى غناها محمد الحلو ومها البدرى وحنان ماضى وغيرهم وفى مجمل أعماله كان طاهر معبرا عن ذاته من خلال روحه التى لم تنفصل أبدا عن بلاده والتى تصلح درسا لأجيال قادمة ليتعلموا أن الذات لا تنفصل عن الموضوع وأنه لا صحة لفرد فى وطن عليل، ولا حرية لفرد فى وطن أسير وأن كرامة المواطن من كرامة الوطن، ولله ولمصر درك يا طاهر يا من علمتنا أن المشاعر أسمى من الشعر وأن الكرامة أهم من التكريم.