الهجوم على السنة النبوية
إبراهيم عوض
السُّنَّة هى المصدر الثانى بعد القرآن للدين كله لا للتشريع فقط. نعم ليست السنة المصدر الثانى للتشريع فحسب بل للعقيدة والأخلاق والسلوك والذوق أيضا. ذلك أن الرسول لم يكن يتناول فى أحاديثه أمور التشريع وحدها بل كان يدعو معها إلى الأخلاق الكريمة والتصرفات القويمة والذوق الراقى والعقيدة السليمة وما إلى هذا. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنِّى أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معه". فمِثْلُ الكتاب هو السنة الشريفة. وهذا أمر طبيعى، فليس من المعقول أن يكون الرسول مجرد حامل للوحى لا يصنع شيئا آخر غير تبليغه دون مبالاة بعجز الناس عن فهم القرآن، أو حيرتهم أمام النص لا يدرون كيف يطبقونه أو كيف يُنَزِّلون الواقعة التى أمامهم على المبادئ العامة التى يتضمنها مثلا. فمن الطبيعى أن يتكلم الرسول فى هذه الحالات وأشباهها. ولا بد أن يكون كلام الرسول فى الدين صحيحا ما دام القرآن لم ينزل بتصحيحه، وإلا فمن يكون كلامه صحيحا يا ترى؟
أما إذا نزل القرآن يخالف ما قاله الرسول أو عمله فهذا أمر استثنائى، وأما سائر كلامه فى الدين فصحيح. وبالمناسبة فإن الأمور التى عاتبه القرآن فيها إنما تدل على حبه صلى الله عليه وسلم لدعوته وحرصه على خدمتها بكل ما يستطيع وميله للتيسير على العباد واجتهاده فى راحتهم، لكن الوحى قد ينزل رغم ذلك أحيانا مبينا له أن خلاف ما صنع هو الأولى، إذ فوق كل ذى علم عليم هو الله سبحانه، الذى يعرف مصلحة العباد أفضل من أى إنسان حتى لو كان ذلك الإنسان نبيا رسولا.
الرسول إذن ليس مجرد مبلغ للقرآن عن ربه، بل يتكلم ويحكم ويُفْتىِ ويشرع ويوجه الأخلاق والسلوك ويرقّى الذوق ويصحح العقيدة ويهدى الضمير. وعلى هذا فإن أحاديثه جزء أساسى من الدين. وقد حذر عليه السلام المسلمين إنكار السنة بحجة أن فى كتاب الله الكفاية: "ألا هل عسى رجلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عنى وهو مُتَّكِئٌ على أريكَتِهِ، فيقولُ: "بينَنَا وبينَكم كتابُ اللهِ: فما وجدْنا فيه حلالًا استحلَلْنَاه، وما وجدْنا فيه حرامًا حَرَّمناه". وإِنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كما حرمَ الله"، "لا أُلْفِيَنَّ أحدَكُم مُتَّكِئًا على أريكَتهِ يأتيهِ الأمرُ من أمرى ممَّا أمرتُ بهِ أو نّهَيْتُ عنهُ، فيقول: "بيننا وبينكُم هذا القرآنُ. فما وجدنا فيه من حلالٍ أحللناهُ، وما وجدنا فيهِ من حرامٍ حَرَّمْناهُ". ألا وإنِّى أُوتِيتُ الكتابَ ومثلَهُ معه".
والواقع أنه بدون الحديث يمكن أن يقع كثير من الناس فى أخطاء شنيعة، فيشربوا الخمر مثلا اعتمادا على الآية التالية: "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُنَاحٌ فيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمَنوا وعملوا الصالحات ثم اتَّقَوْا وآمَنوا ثم اتَّقَوْا وأحسَنوا". فالآية فى ظاهرها تقول إن المهم الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وليس هناك أى بأس بعد ذلك فى أن يأكل الإنسان ويشرب ما يشاء. إلا أن هناك فئة تنتسب إلى الإسلام ظهرت فى العصر الحديث تنكر الأحاديث ولا ترى سوى القرآن، وترفض ما أُثِر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير، ولا تجد له قيمة. بل إن بعضهم ينفى أن يكون الرسول قد نطق بشىء آخر سوى القرآن، وكأنه جهاز تسجيل وليس إنسانا ذا عقل وقلب وضمير وشعور بالمسؤولية وقدرة على الشرح والتوضيح والتطبيق والحكم والتوجيه. وهذه الفئة تسمى: القرآنيين.
ولتلك الطائفة بذرة قديمة، فقد ذكر ابن تيمية فى "رسالة الفرقان بين الحق والباطل" عن الخوارج أن "أصل مذهبهم تعظيم القرآن وطلب اتِّباعه، لكنْ خرجوا عن السنة والجماعة، فهم لا يَرَوْن اتِّباع السنة التى يظنون أنها تخالف القرآن كالرجم ونصاب السرقة وغير ذلك". وبالمثل نراهم لا يوافقون على المسح على الخفين لأنه ليس مذكورا فى كتاب الله. كذلك فإن النجدات أضافت إلى ذلك إسقاط حد الخمر لعدم وروده فى القرآن. وكان بعض المعتزلة على الأقل لا يَرَوْن فى الحديث المتواتر حجية، لجواز دخول الكذب عليه. كما كان النظّام يَعُدّ أبا هريرة أكذب الناس. وفى كتاب "الأم" يورد الشافعى حوارا بينه وبين أحد منكرى السنة فى عصره أواخر القرن الثانى الهجرى.
ومن الذين يقولون بذلك فى العصر الحديث طائفة من أهل الهند ظهرت فى أواخر القرن التاسع عشر منها مولوى عبد الله جكرالوى ومولوى أحمد الدين أمرتسرى ومولانا أسلم جراجبورى وغلام أحمد برويز على ما وضح د. خادم بخش فى كتابه القيم: "القرآنيون وشبهاتهم حول السنة". وقد انتشرت تلك الدعوة حتى وجدنا من أولئك القرآنيين عددا من المصريين يتزعمهم د. أحمد صبحى منصور المدرس السابق بجامعة الأزهر، والمقيم حاليا فى أمريكا. فهو، فى كتابه: "القرآن وكفى مصدرا للتشريع" المملوء بالأخطاء الإملائية والنحوية والصرفية، يهاجم بشراسةٍ بالغةٍ الأحاديثَ وجامعى الحديث. ومما قاله فى هذا الصدد أن كل واحد من أصحاب كُتُب الحديث النبوى الشريف قد انتخل أحاديث كتابه من عشرات آلاف الأحاديث مما يدل، كما يقول، على أن الغش كان قد استشرى فى ذلك الباب. والواقع أن هذا دليل ضده لا له، إذ لو كان المحدِّثون قد اخترعوا الأحاديث التى تضمها كتبهم حسبما يقول فلِمَ أتعبوا أنفسهم فى الغربلة والنخل؟ نعم لماذا لم يأخذوا كل حديث قابلهم وضمَّنوه كتبَهم ما دام الأمر تدليسا فى تدليس؟ إن هذا فى الواقع برهان على أن علماء الحديث، رضوان الله عليهم، كانوا يطبقون منهجا علميا محكما ولا يقبلون الأشياء على علاتها، وإلا فلو كانوا قد اخترعوا الأحاديث النبوية للإساءة إلى الإسلام كما يدعى فلم يا ترى كانوا يتعبون أنفسهم ويعيدون النظر فيما اخترعوه وزيّفوه لينتقوا منه أشياء ويحذفوا منه أشياء؟
أما قوله إن الإسلام لم ينتظر البخارى ومسلم وبقية علماء الحديث حتى يؤلفوا كتبهم تلك، بل كان المسلمون يمارسون دينهم قبل هؤلاء بقرون فالرد عليه من أسهل الأشياء. فقد كان المسلمون يستعينون طوال تلك القرون بالأحاديث النبوية أيضا، وكل ما فعله علماء الحديث أنهم أرادوا غربلة الأحاديث المنسوبة للنبى وتبويبها بحيث يجد القضاة والمفتون وأصحاب المذاهب الفقهية مجموعات الأحاديث بين أيديهم منظمةً جاهزةً لا تحوجهم كل مرة إلى تقويمها والتثبت من صحتها. وليس معنى هذا أن الأحاديث التى جمعها أهل الحديث هى فوق النقد، فما هم فى نهاية المطاف إلا بشر يصيبون ويخطئون، شأنهم شأن أى عالم آخر فى أى ميدان من ميادين العلم. لكنهم قد بذلوا مع ذلك جهودا عبقرية فى الفحص والتقويم والتصنيف!
كذلك يزعم أحمد صبحى منصور أن الأحاديث النبوية تناقض القرآن وتحاربه. وهذا كلام خاطئ، إذ متى كانت أحاديث الرسول مناقضة للقرآن؟ إن ذلك لو حدث فمعناه أن تلك الروايات ليست من كلام النبى عليه الصلاة والسلام، وهذا قليلٌ جِدُّ قليلٍ فى كتب الحديث المعتمدة كما يعرفه كل من له خبرة فى هذا المجال، اللهم إلا إذا ثبت أن التناقض المزعوم ليس تناقضا بل هو تخصيص لحكم عام مثلا، أو استثناء لحالة من الحالات التى لها ظروف مختلفة، أو حكم وقتى انتهى العمل به وبقى الحديث الذى يتناوله لم يندثر... وما إلى ذلك.
ومما استند إليه منصور أيضا فى محاربة السنة النبوية زعمه بأن وظيفة النبى محمد فى القرآن تنحصر فى التبليغ، والتبليغ وحده ليس غير. أى أنه عليه السلام لم يكن أكثر من جهاز تسجيل. والرسول عليه السلام لا يحق له، بمقتضى مزاعم منصور، أن يفتح فمه برأى أو اجتهاد أو تفسير أو فتوى أو تنزيل للحكم القرآنى على هذه الحالة أو تلك من الحالات الفردية... ترى ألم يحدث قط أن سأل أحد الصحابة النبى عليه السلام عن معنى آية قرآنية استعصى فهمها عليه، أو جاءه أحد المسلمين يستفتيه فى حالة خاصة لا يعرف كيف يطبق عليها الحكم القرآنى العام، أو تحركت نفسه الشريفة لوعظ أصحابه بكلام من عنده يستوحى فيه القرآن؟ كذلك كان الرسول الكريم حاكما وقائدا عسكريا وقاضيا، إلى جانب كونه نبيا مبلغا للوحى. وهو ما يعنى أنه عليه السلام قد ترك لنا تراثا من الأحاديث غاليا ينبغى أن نتمسك به حتى نفهم الإسلام فهما سليما. ولا يكتفى أحمد صبحى منصور بذلك بل يشتط فيدعى أن النبى عليه السلام خطب الجمعة أكثر من خمسائة مرة، ومع ذلك لم تحفظ له خطبة جمعة واحدة، إذ كان يخطب الجمعة بالقرآن.
إن القرآن بوجه عام إنما يمثل دستور المسلمين، فإذا قلنا إننا محتاجون إلى صوغ قوانين تنظم حياتنا، أيمكن أن يقول لنا قائل إن محاولة صياغة هذه القوانين تتناقض مع وجود القرآن؟ إن القرآن يكتفى فى كثير من الأحيان بالنص على الخطوط التشريعية العريضة والمبادئ الأخلاقية العامة، ثم يأتى الحديث النبوى فيقدم لنا الفتاوى والأحكام التفصيلية التى تستوحى تلك المبادئ العامة وتحولها إلى تطبيقات عملية يومية. والحق أن القرآن والسنة النبوية يشبهان كتابا ذا هوامشَ وحواشٍ: القرآن فيه يمثل المتن، والحديث يقوم بدور الشرح، ولا تعارض البتة بين الاثنين. وكلام الرسول وأفعاله هى جزء من الوحى، إلا إذا اجتهد الرسول عليه السلام من عند نفسه ولم توافقه السماء على ما اجتهد، فعندئذ ينزل القرآن منبها إياه بوجوب العدول عن هذا أو باستحسانه على الأقل: "عَبَسَ وتولَّى * أنْ جاءه الأعمى * وما يدريك؟ لعله يَزَّكَّى * أو يَذَّكَّرُ فتنفعَه الذكرى * أما مَنِ استغنى * فأنت له تَصَدَّى * وما عليك أَلَّا يَزَّكَّى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تَلَهَّى * كلا، إنها تذكِرة"، "يا أيها النبى، لِمَ تحرِّم ما أَحَلَّ اللهُ لك تبتغى مرضاةَ أزواجك، والله غفور رحيم؟"، "وإذا قيل لهم: تَعَالَوْا يستغفرْ لكم رسولُ الله لَوَّوْا رؤوسَهم ورأيتَهم يَصُدّون وهم مستكبرون * سواءٌ عليهم أَسْتغْفَرْتَ لهم أم لم تستغفرْ لهم. لن يغفر الله لهم، والله لا يَهْدِى القومَ الفاسقين".
وهناك رُؤًى رآها صلى الله عليه وسلم فى المنام وحدّث بها مَنْ حوله، وحوارات دارت بينه وبين المؤمنين أو مجادلات قامت بينه وبين الكافرين. وهناك أيضا حُكْم النبى وقضاؤه بين المتخاصمين، وهذا طبعا غير القرآن. وهناك تصرفات تصرفها النبى ووافقه القرآن فيها أو عاتبه عليها. وهناك رأى ارتآه النبى من عند نفسه... إلخ. وهذا كله برهان على أن ما يصور به أحمد صبحى منصور رسولَ الله عليه الصلاة والسلام من أنه لم يكن أكثر من آلة تسجيل ليس فيها إلا أشرطة للقرآن الكريم هو ضلال فى ضلال!
فإذا أضفنا إلى ما مرّ أن فى القرآن أحكاما كثيرة أتت مجملة عامة، وتحتاج عند التطبيق إلى النظر فيها لاستخراج الحكم فى هذه الواقعة الخاصة أو تلك لتنزيلها عليها، تبيّن لنا على نحو يقينى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد مبلغ لنصوص القرآن ليس إلا. مثال ذلك آية السرقة فى سورة "المائدة"، التى لا بد أن تثير عند قراءتها الأسئلة التالية: ما قيمة المبلغ الذى تُقْطَع عنده يد السارق؟ وهل تُقْطَع فى كل الأحوال أم هل هناك ظروف وشروط معينة لا بد من توفرها حتى يتم القطع؟ وكيف ينفَّذ هذا القطع؟ بل ما معنى القطع؟ كذلك عندنا الزكاة، ولكن كيف يخرج المسلم زكاته؟ وما نِصَابُها؟ وما نسبتها إلى ماله؟ وهل الزَّكَوَات كلها شىء واحد أم هل تختلف حسب نوع المال المزكَّى عنه؟ وهل لا بد من إخراجها عَيْنًا أم هل من الجائز أن نخرجها نَقْدًا؟ وهكذا يرى القارئ أن هناك، إلى جانب القرآن الكريم، مندوحةً واسعةً للمساهمات النبوية من خلال القول والسلوك والتطبيق والحُكْم... إلخ.
أما بالنسبة لما قاله أحمد صبحى منصور عن الصلاة وأنها إنما وردت لنا من أيام إبراهيم عليه السلام ولم تَرِدْ عن طريق السنة النبوية فيا ترى كيف وصلت إلى العرب على أيام النبى؟ أترى العرب فى الجاهلية كانوا يصلون على النحو الذى كان يصلى عليه إبراهيم طوال كل هاتيك القرون منذ عصر أبى الأنبياء حتى عصر محمد؟ أم هل وصلتنا فى كتاب من كتب إبراهيم؟ فأين يا ترى ذلك الكتاب؟ وهل كانت صلاة إبراهيم تتضمن مثلا "الفاتحة" وآيات القرآن، التى لم تكن قد نزلت بعد، أم ماذا؟ ثم كيف يسكت القرآن فلا يذكر أن صلاة النبى محمد وأتباعه ليست شيئا آخر غير صلاة إبراهيم عليه السلام وسائر الأنبياء؟ الواقع أنه ليس أمامه إلا الإقرار بأنها إنما وصلت إلينا من خلال سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحدها. وبالمناسبة فأحمد صبحى منصور يصلى صلاة تختلف تماما عن صلاتنا فى مواعيدها وركعاتها وأقوالها وطريقة تأديتها. فكيف، وهو يقول إن مسألة كهذه لا يمكن أن يقع فيها الاختلاف؟ ثم ماذا كان يمكن أن تكون النتيجة لو لم تكن هناك أحاديث تضبط تلك المسألة؟ لا ريب أن الاختلاف سيكون فى تلك الحالة أشد وأزعج. وعلى ذلك فَقِسْ كل أمور الدين والحياة بالنسبة للمسلمين، إذ العلماء والفقهاء والمفتون مختلفون الآن رغم وجود الأحاديث، التى تضبط فهمنا للقرآن، وإن كان اختلافهم محدودا، فماذا يحدث إن لم تكن هناك أحاديث؟ يقينا لسوف تزداد شقة ذلك الخلاف ازديادا فاحشا يثمر فتنة لا تبقى ولا تذر، ويتفتت المسلمون ويصيرون شَذَرَ مَذَر!
وأما بالنسبة لخُطَبه صلى الله عليه وسلم فى الجمعة وغيرها فقد كانت كل خطبة من تلك الخطب تتكون من كلامه هو، وإن لم يمنع هذا من الاستشهاد أحيانا ببعض الآيات الكريمة. ومن بين تلك الخطب خطبته مثلا يوم أُحُد. وهذا نصها: "أيها الناس، أوصيكم بما أوصانى الله فى كتابه من العمل بطاعته والتناهى عن محارمه. ثم إنكم بمنزلِ أجرٍ وذخرٍ لمن ذكر الذى عليه ثم وَطَّن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديدٌ كَرْبُه، قليلٌ من يصبر عليه، إلا من عزم له على رشده. إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله. وعليكم بالذى أمركم به، فإنى حريص على رشدكم. إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف، وهو مما لا يحبه الله، ولا يعطى عليه النصر. أيها الناس، إنه قُذِف فى قلبى أن من كان على حرامٍ فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر له ذنبه. ومن صلى على محمد صلى الله عليه وملائكته عشرا، ومن أحسن وَقَع أجرُه على الله فى عاجل دنياه أو فى آجل آخرته. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا. ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غنى حميد. ما أعلم مِنْ عَمَلٍ يقرّبكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه. وإنه قد نفث الروحُ الأمينُ فى رُوعِى أنه لن تموت نفس حتى تستوفى أقصى رزقها لا ينقص منه شىء، وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله ربكم وأَجْمِلوا فى طلب الرزق، ولا يحملنَّكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يُقْدَر على ما عنده إلا بطاعته. قد بُيِّن لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شُبَهًا من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا مَنْ عَصَمَ. فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعى إلى جنب الحِمَى أوشك أن يقع فيه. وليس مَلِكٌ إلا وله حِمًى. ألا وإن حِمَى الله محارمه. والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد: إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده. والسلام عليكم".
وهو أيضا يهاجم من يعدون سنة البخارى وغيره مصدرا من مصادر التشريع فى الاسلام متسائلا: هل يعقل أن تظل مصادر التشريع فى الإسلام ناقصة الى أن يأتى البخارى وغيره بعد موت النبى بقرون ليكملوها؟ وماذا نفعل بقوله تعالى: "اليوم أكملتُ لكم دينَكم، وأتممتُ عليكم نعمتى، ورَضِيتُ لكم الاسلام دينا"؟ فعنده أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للتشريع، إلا أن المسلمين أضافوا له مصادر أخرى توسعت بها الفجوة بينهم وبين الاسلام. ومن بين تلك المصادر الأحاديث والسنن، وكلهم مختلفون فيها جزئيا وكليا. وعنده أن تلك الأحاديث ليست جزءا من الإسلام. وأولئك الذين يعدونها من الإسلام إنما يتهمون النبى عليه السلام بأنه لم يبلغ الدين كاملا وبأنه فرَّط فى تبليغ هذا الجزء.
هذا ما قاله أحمد صبحى منصور. والواقع أنه يتلاعب هنا بالكلمات، فنحن لا نؤمن بسنة البخارى ولا غير البخارى بل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التى جمعها ودونها هؤلاء الأفذاذ. وكانت تلك السنة موجودة منذ أيام النبى، ودوَّن بعض الصحابة أشياء منها، وكان المسلمون يحفظونها، ويلجأون إليها فى تشريعاتهم حين لا يجدون فى القرآن مبتغاهم وجودا مباشرا مثلما كانوا ولا يزالون يستخدمون عقولهم واستنتاجاتهم وقياساتهم عندما لا يجدون فى القرآن والحديث مبتغاهم وجودا مباشرا. وكل ما صنعه أصحاب كتب الحديث هو أنهم نقلوا أحاديث النبى من الصدور والأفواه والصحف إلى كتب ألفوها هم وبَوَّبُوها حتى تكون تحت يد من يريد فلا يضيع وقته فى البحث عنها ولا فى التحقق منها بدءا من نقطة الصفر. ترى هل يصح أن نقول إن الناس لم تكن تتنفس إلى أن صنف العلماء والأطباء كتبا فى الجهاز التنفسى والشهيق والزفير وشرحوا عملية التنفس؟ فكذلك الحال فى كتب الحديث.
أما قوله إن المسلمين يعدون ما كتبه البخارى وغيره هو السنة النبوية، ويدّعون أنها وحى من السماء رغم أن ذلك الوحى قد امتنع عن كتابته الرسول والخلفاء الراشدون وغير الراشدين إلى أن جاء بعض الناس كالبخارى وغيره فتطوعوا بدافع شخصى لتدوين تلك السنة، بما يعنى أن الإسلام ظل ناقصا إلى أن تقدم البخارى وغيره لإكماله فى عصور الفتن والاستبداد والانحلال، أما قوله هذا فهو قول متهافت لا يصمد أمام النظر العقلى. فأى دافع شخصى بعث البخارى أو غيره على تأليف "صحيحه" أو "مسنده" يا ترى؟ هل كان يريد ملكا أو مالا أو جاها؟ فكيف؟ إننا لا نقول إن كل ما جمعه البخارى أو غير البخارى فى كتابه صحيح مائة فى المائة، بل نقول إنهم قد بذلوا فى تلك السبيل جهودا عبقرية نبيلة نرجو أن يجازيهم الله عليها خير الجزاء. وهم لم يأتوا بتلك النصوص من عندياتهم بل جمعوا ما كان متداولا على الألسن أو محفوظا فى القلوب أو مثبتا فى الصحف ويعمل به المسلمون فى تصريف شؤونهم التشريعية والأخلاقية والسلوكية والعقيدية. إنهم، كما قلنا ونقول، لم ينشئوها من العدم، بل كانت موجودة، وكل ما صنعوه هو أنهم جمعوها وتحققوا من صحتها وبَوَّبُوها حتى يكون استعمالها سهلا ميسورا لمن يريد.
وهنا نراه يلجأ إلى اتهام البخارى بأنه أساء بأحاديثه تلك إلى مقام النبى الكريم، موردا حديثا يقرؤه بطريقته المريبة، زاعما أن البخارى يصور فيه الرسول عليه الصلاة والسلام بصورة من يريد اغتصاب امرأة من النساء، مع أن الحديث إنما يتكلم عن سيدة كان النبى قد خطبها وعقد عليها لكنه لم يكن قد دخل بها. وتصادف أن وصلت الزوجة المذكورة إلى النبى وهو فى بعض الطريق مع صحابته، وأُنْزِلَتْ فى بستان، فترك النبى أصحابه ليرى زوجته الجديدة، فما كان منها حين رأته يمد يده إليها إلا أن استعاذت بالله ظنا منها أن ذلك سيجعلها أحظى عنده حسبما أفهمها بعض زوجاته. فكان أن أجابها الرسول عليه الصلاة والسلام قائلا: عُذْتِ بمعاذ. أى أنت الآن فى حماية الله ما دمت قد استعذت به. ثم سرَّحها إلى أهلها تسريحا جميلا وأكرمها وأعطاها بعض المال تطييبا لخاطرها رغم انخداعها بما سمعت وتنفيذها له بالحرف مما لا يجعلها أهلا لأن تكون زوجة النبى. إن الحديث الذى استشهد به أحمد صبحى منصور على صحة اتهامه للبخارى هو حديث موجز لا يعطى الصورة كاملة كما شرحتها هنا، بيد أن الرجوع إلى روايات الحديث الأخرى من شأنه أن يجلِّى الصورة تجلية تامة ويوضح ما أراد منصور التعمية عليه ليصدّق القراء المتعجلون اتهامه المجحف للبخارى رضى الله عنه.
ومن الحجج التى يلجأ إليها أحمد صبحى منصور فى محاربته للحديث النبوى الشريف تفسيره العامى لقوله تعالى شأنه: "ما فرَّطنا فى الكتاب من شىء"، ولقوله سبحانه: "ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شىء"، متصورا أنه يمكنه الاستدلال به على وجوب استغناء المسلم بالقرآن عن كل شىء آخر. والحق أنه لو كان صادقا فى هذا الذى يقول لكان أولى به أن يمزق كتبه ومقالاته أيضا. أليس القرآن قد ذكر كل شىء، وبيّن كل شىء، ولم يفرط فى أى شىء؟ وهذا يذكِّرنى بالسؤال الذى كنا نسمعه فى صبانا من بعض العامة حولنا: "إذا كان القرآن فيه تبيان كل شىء فكيف لم يذكر عدد الأرغفة التى تنتجها أفران مصر على سبيل المثال؟". إننا لا نشاحّ فى أن القرآن قد بيّن كل شىء ولم يفرِّط فى ذكر أى شىء، ولكن بمعنى غير هذا المعنى العامى الساذج. إن القرآن كثيرا ما يكتفى برسم الخطوط العامة ثم يتركنا نستخلص منها ما نعالج به مشاكلنا التى تتجدد مع الأيام.
وقد كان الرسول هو أول من قام بتطبيق مبادئ القرآن واستخراج الأحكام التفصيلية من مبادئه وتشريعاته العامة وتطبيقها على الوقائع التى تستجد كل يوم، فكيف يُطْلَب منا أن نهمل ما تركه لنا الرسول الكريم على اعتبار أنه يتناقض مع إيماننا بالقرآن؟ أما قوله إن "النبى يوم القيامة سيعلن براءته من أولئك الذين تركوا كتاب الله وهجروه جريا وراء مصادر أخرى ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان: "وقال الرسول: يا ربِّ، إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبى عدوًّا من المجرمين، وكفى بربك هاديا ونصيرا" فهو تكرير للاتهامات الظالمة التى لا يَكِلّ ولا يَمَلّ من توجيهها لعلماء الحديث خاصة، والمسلمين عامة، إذ لا يوجد مسلم يستعيض بكتب الحديث عن كتاب الله، بل كل ما هناك أنها تساعدنا على فهم القرآن وتطبيقه على أحسن وجه ممكن بدلا من الانفلات فى أجواز الفضاء دون ضابط ولا رابط كما يفعل هو نفسه ومن على شاكلته. ثم هل يمكن أن يعلن النبىُّ براءتَه ممن يشهد له صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، ويقف مع من يكفِّر الذى يقول: "أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله"؟ وإذا كانت الشهادة لمحمد بالنبوة والرسالة كفرا وشركا وإثما، فما هى الشهادة يا ترى التى تُرْضِى اللهَ ورسولَه؟
وهو يؤكد، ونحن أيضا نؤكد معه، أن النبى صلى الله عليه وسلم هو المثال الأعلى فى الخلق والسلوك والعقل والفصاحة والدعوة والتخطيط والقيادة العسكرية والزعامة السياسية. لكننا نتساءل: ترى كيف تواتى المسلمَ الحقَّ نفسُه على إهمال ذلك التراث النبوى العظيم والبدء كل مرة من جديد دون محاولة الاستفادة من هذا التراث الذى يقول فيه منصور قصائد وَلْهَى ليستدير فيفاجئنا بأن علينا نبذه تماما، وإلا كنا مشركين كافرين؟ ثم إذا كان الوحى قد عاتبه عليه السلام فيما لم يوافقه عليه، وفى ذات الوقت لم يعترض على شىء مما وصلنا من أحاديثه وتصرفاته الشريفة الأخرى، أفلا يحق لنا أن نفهم أن هذه الأحاديث والتصرفات تحظى من القرآن بالرضا والقبول؟ ألا يرى القارئ أن منصور يتخبط تخبطا عنيفا ولا يستطيع أن يهتدى إلى الخروج من المأزق الذى أوقع نفسه فيه سبيلا؟
كذلك نراه يقول إن ما وصلنا من روايات الأحاديث النبوية فيه الصواب والخطأ. وتعليقنا عليه هو أن علماء الحديث، كما هو معروف، لم يقبلوا كل ما وصلهم من كلام أو فعل منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أنهم قد بذلوا جهودا جبارة فى تمحيص سنته الكريمة، وإن كنا لا نستطيع الزعم بأن هذه الجهود العبقرية لا يخرّ منها الماء: فهناك أحاديث منسوبة للنبى ردها بعض العلماء، وهناك أحاديث أخرى لا يطمئن إليها القلب، بل منها ما لا يقتنع به العقل، لكن ذلك قليل بوجه عام. أما منصور فقد غالى فى الرفض مغالاة رهيبة ودعا إلى اطّراح الأحاديث النبوية جملة وتفصيلا.
والغريب أنه فى الوقت الذى يهاجم المحدّثين والأحاديث التى يروونها هجوما شديدا لا يُبْقِى ولا يَذَر نراه يعتمد عليهم ويصدّق رواياتهم تمام التصديق كلما ظن أنه يستطيع توظيفها فى الهجوم عليهم. ومن ذلك قوله: "ويؤكد أن النبى نَهَى عن كتابة غير القرآن أن الخلفاء الراشدين بعده ساروا على طريقه فنَهَوْا عن كتابة الأحاديث وعن روايتها: فأبو بكر الصدّيق جمع الناس بعد وفاة النبى فقال: "إنكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا. فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحِلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه"، وهذا ما يرويه الذهبى فى تذكرة الحفاظ. ويروى ابن عبد البر والبيهقى أن عُمَر الفاروق قال: "إنى كنت أريد أن أكتب السنن، وإنى ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبدا. ورواية البيهقى: "لا أَلْبِس كتاب الله بشىء أبدا". وروى ابن عساكر قال: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق، فقال: ما هذه الأحاديث التى أفشيتم عن رسول الله فى الآفاق؟ أقيموا عندى. لا والله لا تفارقونى ما عشت. فما فارقوه حتى مات".
ومنه كذلك قوله: "وعلماء الحديث يتفقون على صحة حديث "من كذب علىَّ فليتبوأ مقعده من النار"، وبعضهم يضيف إليه كلمة "متعمدا": "من كذب علىّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النار". وهم يجعلون هذا الحديث من المتواتر، وعدد الحديث المتواتر لا يصل إلى بضعة أحاديث عند أكثر المتفائلين. والمهم أنهم، بإقرارهم بصحة هذا الحديث، يثبتون أن الكذب على النبى بدأ فى حياة النبى نفسه، وإلا ما قال النبى هذا الحديث يحذّر من الكذب عليه".
ومنه أيضا قوله: "وأكثرَ أبو هريرة من الحديث بعد وفاة عمر، إذ أصبح لا يخشى أحدا. وكان أبو هريرة يقول: إنى أحدثكم بأحاديث لو حدّثتُ بها زمن عمر لضربنى بالدِّرّة (وفى رواية: "لَشَجَّ رأسى"). ويروى الزهرى أن أبا هريرة كان يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: "قال رسول الله" حتى قُبِض عمر. ثم يقول أبو هريرة: أفكنتُ محدِّثَكم بهذه الأحاديث، وعُمَرُ حَى؟ أما والله إذن لأيقنت أن المِخْفَقَة (العصا) ستباشر ظهرى، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن، فإن القرآن كلام الله". والآن ما دام ينكر الأحاديث فلماذا يستعين بها لتعضيد رأيه، وهى مزيفة فى نظره ليس لها حقيقة؟
كما أنه، فى تفسيره للقرآن، لا يستطيع أن يقول شيئا ذا بال دون الاستعانة بالحديث. ولنأخذ مثلا ما قاله فى أخلاق النبى عليه السلام إذ وصفه المولى سبحانه بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم"، فقد أضاف أنه صلى الله عليه وسلم "كان خلقه القرآن". وهذا الكلام لم يرد فى القرآن، بل هو من كلام عائشة رضى الله عنها، وقد أوردته لنا الأحاديث النبوية. ومن ذلك أيضا ما كتبه بشأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة، إذ يقول: "والنبى كان عليه أن ينفذ سُنّة الله، أى شرع الله وأوامره، حتى لو كان فيها حرج. وقد نزلت آية "ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له. سُنّةَ الله فى الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قدرا مقدورا" فى موضوع زيد بن حارثة وزواجه وطلاقه من زوجته...". والسؤال هو: كيف عرف منصور أن الكلام فى الآية عن زينب، وأن زيدا هو زيد بن حارثة، وليس زيدا آخر؟ ذلك أن الآية لم تذكر إلا اسم "زيد" وحده دون اسم أبيه، وكذلك دون اسم زوجته التى أصبحت طليقته. الواقع أنْ ليس هناك من مصدر لهذا إلا الأحاديث، فكيف أصبحت الأحاديث هنا شيئا موثوقا به بعد أن قال فيها ما قال؟
قد يقول إن القرآن يحدد زيدا بأنه من "أدعيائكم"، لكنْ مرة أخرى: من أين نعرف أن زيدا كان دَعِىّ النبى عليه السلام (أى ابنه بالتَّبَنِّى) إلا من الأحاديث النبوية؟ قد يقول: لكن هذا تاريخ، ونحن نُعْمِل عقولنا فى روايات التاريخ فنقبل ما تطمئن إليه ونرد ما سواه. وهذا هو ما أريد أن أُفْهِمه إياه من الصبح: أن نُعْمِل عقولنا فى الأحاديث، لكن بشرط أن نحترم منطق العقل ومنهج العلم وأن نقلّب الأمر على كل وجوهه وأن نتريث قبل إصدار الأحكام وأن ننظر جيدا فيما يقوله الآخرون، وبخاصةٍ من يخالفوننا فى الرأى، وهو ما لم يدخر فيه المحدّثون وسعا، وإن لم يمنع هذا من وجوب إضافة المزيد من الجهود فى هذا السبيل. أما نبذ الأحاديث جملة وتفصيلا عن جهل واندفاع فهو عمل أخرق.
وهذا مثال آخر على أن منصور نفسه، رغم كل الطنطنات والتطاولات على المحدّثين والأحاديث، لا يستطيع أن يتقدم فِتْرًا فى تفسير القرآن دون الاستعانة بها وبهم، مع أنه يؤكد أننا، فى فهمنا للقرآن، لسنا بحاجة على الإطلاق إلى الاستعانة بالحديث أو بغيره، فقد كتب فى تفسير الآيات 105- 113 من سورة "النساء" ما يلى: "وباعتبار النبى بشرا فقد استطاع بعض المنافقين أن يخدعه. حدث ذلك حين سرق أحدهم درعا، وشاع بين الناس أمره، وأحس أهل اللص بالعار مما ارتكبه ابنهم فتآمروا بالليل على أن يضعوا الدرع المسروق فى بيت شخص يهودى برىء. وفى الصباح جاءوا للنبى يبرئون ساحة ابنهم المظلوم. وانخدع النبى وصدّقهم ودافع عن ابنهم، وبذلك أصبح اللص بريئا، وأصبح البرىء لصا. وهى قصة تتكرر فى كل زمان ومكان مُوجَزها أن ينجو المجرم صاحب النفوذ وأن يدخل البرىء السجن ظلما. والقرآن الكريم ذكر القصة وحوّلها من حادثة تاريخية محددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية إنسانية عامة تتكرر فى كل عصر. وفى البداية عاتب الله تعالى النبى ووجّه نظره إلى أن يحكم بالكتاب وحذّره من أن يكون مدافعا عن الخائنين: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما". أى أنزل الكتاب الحق ليحكم بين الناس بما أراه الله فى ذلك الكتاب، فالاحتكام للكتاب. ولأنه نسى فقد جاء الأمر بالاستغفار: "واستغفر الله، إن الله كان غفورا رحيما"، ثم جاءه النهى عن الدفاع عن أولئك الخونة الذين تآمروا لتبرئة المجرم واتهام البرىء: "ولا تجادلْ عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيما * يَسْتَخْفُون من الناس ولا يَسْتَخْفُون من الله وهو معهم، إذ يبيّتون ما لا يَرْضَى من القول. وكان الله بما يعملون محيطا".
والسؤال هو: من أين له بأن الآيات نزلت فى أحد اللصوص، وأن هذا اللص قد سرق درعا، وأن أهله لما أحسوا أن أمره سينفضح ذهبوا فوضعوا الدرع فى بيت يهودى... إلخ؟ ترى هل هناك من مصدر آخر اعتمد عليه أحمد صبحى منصور هنا عدا الحديث؟ أما قوله إننا، فى فهمنا للقرآن الكريم، لا نحتاج إلى أى شىء آخر خارج نصوصه، وإن "كتاب الله هو الكتاب المبين بذاته، وآياته موصوفة بالبينات، أى التى لا تحتاج فى تبيينها إلا لمجرد القراءة والتلاوة والتفكر والتدبر فيها. والذى جعل الكتاب مبينا وجعل آياته بينات هو رب العزة القائل: "بعدما بيَّنّاه للناس فى الكتاب"، والقائل عن كتابه: "ولقد يَسَّرْنا القرآن للذِّكْر، فهل من مُدَّكِر؟"، "فإنما يسَّرناه بلسانك لتبشِّر به المتقين وتُنْذِر به قومًا لُدًّا، "فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون"، أما قوله هذا فجهل فاحش، فمعروف أن أى نص يحتاج إلى وسائل تعين على فهمه، كالمعرفة باللغة التى ينتمى إليها، والمعرفة بالمعجم الخاص به، والمعرفة بالظروف التى كُتِب أو سُجِّل أو أُوحِىَ فيها، والمعرفة بالمصدر الذى جاء منه... إلخ. والقول بغير هذا هو كلام لا يستحق أن نصغى آذاننا له. ولقد رأينا كيف أن منصور نفسه لم يستطع أن يفهم الآيات القرآنية إلا بالاستعانة بأسباب النزول، وهى جزء من الأحاديث النبوية.
وهو يرى أن أحاديث رسول الله وتصرفاته إنما هى انعكاس لثقافات عصره وبيئته يمكن ألا تتفق مع القرآن ولا ينبغى أن نُولِيَها أى اعتبار، وهو ما كنت سمعته من مستشرق أمريكى أتى إلى كلية الآداب بجامعة عين شمس فى ثمانينات القرن المنصرم، ودار بينى وبينه حوار على الماشى قبل الندوة التى حاضر فيها الطلابَ فى أحد المدرجات. وهذا نص ما قاله منصور: "ونحن، وإن كنا نعتبر القرآن هو المصدر الوحيد لسنة النبى وشريعة الرحمن ودين الله الأعلى، فإننا نضع تلك الروايات الحديثية موضعها الصحيح، وهى أنها تاريخ بشرى للنبى وللمسلمين وصدًى لثقافتهم وأفكارهم سواء اتفقت أم لم تتفق مع القرآن". معنى ذلك ببساطة أن كلامه هو التفسير الصحيح للقرآن، ولا يمكن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته، أما فهم الرسول للقرآن فمن الممكن ألا يتفق مع كتاب الله لأنه لا يزيد عن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته! ومن هنا نراه يقول إنه لا ينبغى أن نتأسى بالرسول إلا فى كتاب الله، وكأن الرسول يمكن أن يتصرف أو يقول شيئا يخالف فيه كتاب الله! وهذا نص كلامه: "إن الاقتداء والتأسى يعنى الاتِّباع، ولا يكون الاقتداء والتأسى على إطلاقه إلا بكتاب الله. والله تعالى كما أمرنا بالتأسى برسول الله محمد فى موقف معين فإنه أمر النبى نفسه بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين فقال: "أولئك الذين هدى اللهُ فبِهُداهُم اقْتَدِهْ"، فلم يقل تعالى: "فبِهِم اقْتَدِهْ"، وإنما قال: فبِهُدَاهم اقْتَدِهْ".
أما الصلاة والزكاة والصيام، وهذه الشعائر مجرد أمثلة، فإن أحدا لا يستطيع أن يؤديها دون الاستعانة بالسنة النبوية المشرفة. لنأخذ مثلا نسبة الزكاة فى الإسلام، فهى لم ترد فى القرآن بل فى الأحاديث الشريفة. كما زعم أن الصلاة على النحو الذى نؤديها به الآن فى الإسلام قد انحدرت إلينا من ديانة إبراهيم. يريد أن يقول إنه ليس للسُّنّة المحمدية فضل فى هذا. لكن لو كان الأمر كما يقول لكان معناه أن الجاهليين كانوا يصلّون بصلاتنا ويقرأون فيها بقرآننا ويصلّون على نبينا قبل أن ينزل القرآن من السماء ويُبْعَث محمد عليه السلام بدين جديد. فهل هذا مما يعقله العاقلون؟ هل كان إبراهيم عليه السلام مثلا يقرأ الفاتحة وآيات القرآن مثلما نفعل الآن... إلخ؟ بل هل كان العرب الجاهليون يعرفون الصلاة أصلا بهذا المعنى؟ لقد كانت الصلاة فى حياة العرب آنذاك تعنى الدعاء مطلقا، أما الأفعال والأقوال على تلك الهيئة المخصوصة التى نطلق عليها فى دين محمد: "الصلاة" فلم يكونوا يعرفونها، وإلا لجاءت فى الشِّعْر الجاهلى بهذا المعنى.
ثم إن هناك آيات قرآنية لا يمكن فهمها، أو لا يمكن فهمها فهما سليما أو دقيقا، إلا إذا عُرِفَ سبب نزولها مما ذكرته الأحاديث، وإن لم ندّع لهذه الروايات العصمة دائما. ونضرب على ما نقول الأمثلة التالية، وقد اعتمدتُ فيها على كتاب "أسباب النزول" للواحدى النيسابورى: ففى الآية 104 من سورة "البقرة" نقرأ قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا، لا تقولوا: راعِنَا، وقولوا: انْظُرْنا..."، فكيف يا ترى يمكن أن نفهم ما فيها من الأمر والنهى دون أن نعرف ما جاء فى سبب نزولها مما هو مرتبط بسيرة النبى عليه السلام وأحاديثه؟ "قال ابن عباس فى رواية عطاء: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها (أى يستعملون فى تخاطبهم كلمة "راعنا")، فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبى صلى الله عليه وسلم أعجبهم ذلك، وكان "رَاعِنَا" فى كلام اليهود سبًّا قبيحًا، فقالوا: إنا كنا نسبّ محمدًا سرًّا. فالآن أَعْلِنوا السبّ لمحمد لأنه من كلامهم. فكانوا يأتون نبى الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد، رَاعِنَا. ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن عبادة، وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله! والذى نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربن عنقه. فقالوا: ألستم تقولونها له؟ فأنـزل الله تعالى: يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا لا تَقولوا: رَاعِنَا... الآية". ولزيادة الأمر إيضاحا أذكر أنى قرأت منذ فترة أن الكلمة فى العبرية مأخوذة من "الرعونة". ومن هنا نهى الله سبحانه المسلمين عن استعمالها فى خطابهم لسيد الأنبياء والمرسلين حتى لا يعطوا الأوغاد فرصة للسخرية منه ومنهم بخباثتهم وقلة أدبهم المعروفة عنهم.
كذلك كيف يمكن فهم قوله تعالى فى الآية 187 من ذات السورة: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" دون أن نطلع على الرواية الخاصة بسبب نزولها حتى لا نصنع كما كان بعض الصحابة يصنعون فى البداية؟ وهذا نصها: "أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد قال: أخبرنا جدى قال: أخبرنا أبو عمرو الحيرى قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا ابن أبى مريم قال: أخبرنا أبو غسان قال: حدثنى أبو حازم عن سهل بن سعد قال: نـزلت هذه الآية: "وَكلوا وَاشْرَبوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكم الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَد"ِ ولم ينزل "مِنَ الْفَجْرِ". وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم فى رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد ذلك "مِنَ الْفَجْرِ"، فعلموا أنه أنما يعنى بذلك الليل والنهار. رواه البخارى عن ابن أبى مريم، ورواه مسلم عن محمد بن سهل عن أبى مريم".
وبالمثل كيف يمكن فهم قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا، لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كَرْهًا..." (النساء/ 19) دون أن نعرف أن الميراث هنا ليس أن نرث ما تركه هؤلاء النسوة من مال، بل أن يرثهن الرجل أنفسهن كأنهن متاع حسبما وضّحت الرواية التالية؟ "قال المفسرون: كان أهل المدينة فى الجاهلية وفى أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره. فإن شاء أن يتزوّجها بغير صداق إلا الصداق الذى أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئًا، وإن شاء عَضَلها وضارّها لتفتدى منه بما ورثت من الميت أو تموت هى فيرثها. فتوفى أبو قيس بن الأسلت الأنصارى وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن له من غيرها يقال له: حصن (وقال مقاتل: اسمه قيس بن أبى قيس)، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها: يضارّها لتفتدى منه بمالها. فأتت كبيشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا قيس توفى، وورث ابنه نكاحى. وقد أضرّ بى وطوَّل على، فلا هو ينفق على ولا يدخل بى ولا هو يخلِّى سبيلى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعدى فى بيتك حتى يأتى فيك أمر الله. قال: فانصرفتْ وسمعت بذلك النساء فى المدينة، فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: ما نحن إلا كهيئة كبيشة، غير أنه لم ينكحنا الأبناء، ونَكَحَنا بنو العم. فأنزل الله تعالى هذه الآية".
وإلى القارئ هذا المثال كذلك من رواية "جونتانامو" للدكتور يوسف زيدان، إذ يفسر قوله تعالى: "وإن خفتم ألا تُقْسِطوا فى اليتامى فانْكِحوا ما طاب لكم من النساء مَثْنَى وثُلَاثَ ورُبَاع..." على أساس أن المقصود هو أمر الله لكافل اليتيمات بالزواج من واحدة منهن إلى أربع، متجاهلا سبب نزول الآية، الذى يبين أن معناها هو العكس تماما مما يقول: فعن "عروة بن الزبير أنه سأل عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم عن قول الله تبارك وتعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فى الْيَتَامَى فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ...". قالت: يا ابن أختى، هذه اليتيمة تكون فـى حجر وليها تشاركه فـى ماله، فـيعجبه مالها وجمالها، فـيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقْسِط فـى صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنُهُوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سُنَّتِهنّ فـى الصداق، وأُمِرُوا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن"، بمعنى "اتركوهنّ، فقد أحللت لكم أربعا من غيرهن". ولو كان المعنى كما زعم د. زيدان لقال سبحانه: "فانكحوا ما طاب لكم منهن (أى من اليتيمات) مثنى وثلاث ورباع". ذلك أن الله أراد أن يبعد الكفلاء عن اليتيمات اللاتى كانوا يكفلونهن ويطمعون فى أموالهن، ومن ثم يريدون الزواج منهن حتى تكون تلك الأموال تحت تصرفهم وحتى لا يدفعوا فيهن مهرا كبيرا، لا أنه يريد منهم أن يتزوجوهن. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما يدعو إليه بعض النقاد الحداثيين من الدخول إلى النص مباشرة دون أن نلقى بالا لأى شىء خارجه من حياة صاحبه أو ظروفه أو السياق الذى كتب فيه ما كتب، وبالنسبة للقرآن ألا نرجع إلى أسباب النزول ولغة العرب وأسلوب الكتاب العزيز وتفسيرات المفسرين... إلخ بحيث يستطيع الكاتب أن يقول ما يريد تمريره من أفكار خطيرة دون معقِّب. كذلك فمقتضى كلام زيدان أنه، لو كان فى كفالة الرجل أربع يتيمات أخوات، وهذا طبعا ممكن جدا، فمن حقه التزوج بهن جميعا. وهذا يناقض ما يقول به الإسلام، الذى يحرم الجمع بين أختين اثنتين، فما بالنا بأربع؟
ثم ما الذى فى الأحاديث التى قالها النبى صلى الله عليه وسلم فعلا مما يمكن أن يكون مناقضا للقرآن أو يؤدى بمن يصدّقه ويعمل على احتذائه إلى البوار؟ ترى ماذا فى الحديث الذى ينص على أن العلماء هم ورثة الأنبياء، أو الحديث الذى يؤكد أن فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب، أو الحديث الذى يقول إن مداد العلماء يُوزَن بدماء الشهداء، أو ذلك الذى ينبئنا بأن إماطة الأذى عن الطريق أو أن تبسُّم الواحد منا فى وجه أخيه صدقة، أو ذلك الذى يستحثنا على التفكير المستقل القائم على أساس المنطق والعقل والإحاطة بالموضوع من كل أطرافه والتعمق فيه، ويبشّرنا بما لا وجود له فى أى نظام تربوى أو فلسفى أو سياسى من أن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ فى اجتهاده، أو الذى ينبهنا فيه عليه السلام إلى أن الصدقة فى السر تطفئ غضب الرب، أو أن اليد الخشنة من أثر العمل والكدّ هى يد يحبها الله ورسوله، أو أن العين التى بكتْ من خشية الله أو باتت تحرس فى سبيل الله لا تَمَسّها النار أبدا، أو أن من رُزِق من البنات ولو بواحدة فأحسن تربيتها وزوّجها دخل الجنة، أو أن الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه، أو أن السِّقْط يأخذ بيد أبويه فى موقف الحساب ويراغم ربه حتى يُدْخِلهما الجنة، أو أن أحق الناس بصحبة الابن هى أمه ثم أمه ثم أمه ثم أبوه، أو أن معاشرة الرجل لزوجته حسنة من الحسنات يُؤْجَر عليها من الله وليست مجرد شهوة تُشْبَع، أو أن إتباع السيئة الحسنة يمحوها فلا يحاسَب الإنسان عليها، أو أنه سبحانه قد رفع عنا السهو والنسيان وما استُكْرِهْنا عليه، أو أن الله قد خلق لكل داءٍ دواء، أو قول الرسول الكريم لرجل أخذه الخوف منه: هَوِّنْ عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة، أو قوله: لا تُطْرُونى كما أَطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم، أو قوله: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أو تسبِّحون وتحمِّدون وتكبِّرون دُبُرَ كل صلاة ثلاثا وثلاثين، أو من آذى ذِمّيًّا فأنا خصيمه يوم القيامة، أو إن من الذنوب ذنوبا لا يكفِّرها إلا العمل، أو ادرأوا الحدود بالشبهات، أو إنما الصبر عند الصدمة الأولى، أو اسْتَوْصُوا بالنساء خيرا، أو خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى، أو ليس الإيمان بالتمنى، ولكنْ ما وَقَر فى القلب وصدّقه العمل، أو إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، أو إن الشيطان لَيَجْرِى من ابن آدم مجرى الدم فى العروق، أو إن الحياء من الإيمان، أو إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون الثالث، أو إذا لم تستح فاصنع ما شئت، أو إذا بُلِيتم فاستتروا، أو إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، أو إن ذا الوجهين يُكْتَب عند الله كذابا، أو اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعْمِل عليكم عبدٌ حبشىٌّ كأن رأسه زبيبة، أو إن النظافة من الإيمان، أو إن الله جميل يحب الجمال، أو مالكم تدخلون علىَّ قُلْحًا؟ استاكوا، أو إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، أو نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، أو ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شَرًّا من بطنه، أو رَضِينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ نبيًّا ورسولا، أو اللهم أسلمتُ وجهى إليك، وفوَّضْتُ أمرى إليك، وألجأتُ ظهرى إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا مَلْجَأَ ولا مَنْجَى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذى أنزلتَ، ونبيّك الذى أرسلتَ، أو لا رهبانية فى الإسلام، أو أَنْفِقْ ولا تخش من ذى العرش إقلالا، أو تَعِسَ عبدُ الدينار! تَعِسَ عبدُ الدرهم! أو ما نقص مالٌ من صدقة، أو إن طَلَب العلمِ فريضةٌ على كل مسلم ومسلمة، أو اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، أو إنَّ من خَرَجَ فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع، أو إنَّ مَنْ فرّج عن مسلمٍ كُرْبة من كُرَب الدنيا فرّج الله عنه كُرْبة من كُرَب يوم القيامة، أو سبعةٌ يُظِلّهم الله فى ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشابٌّ نشأ فى عبادة الله، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إنى أخاف الله...، أو إن الله لَيُمْلِى للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِته، أو من لا يشكر الناس لا يشكر الله، أو دخلت امرأةٌ النار فى هِرّة حَبَسَتْها: لا هى أطعمتْها ولا هى تركتْها تأكل من خَشَاش الأرض، أو اتّقُوا النار ولو بشِقّ تمرة، أو إن المنبتّ لا أرضًا قطع ولا ظَهْرًا أبقَى، أو من بات كالًّا مِنْ عمل يده بات مغفورًا له، أو إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يُتْقِنه، أو إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فَسِيلَةٌ فلْيَغْرِسْها، أو أَلْقِ السلام على من تعرف ومن لا تعرف، أو لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، أو اطلبوا الرزق بعزة الأنفس، أو إن الغِنَى غِنَى النفس، أو لا ينبغى للمؤمن أن يُذِلّ نفسه، أو ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب، أو قوله عليه السلام لشاب خطب فتاة: انظر إليها، فإنه أَحْرَى أن يُؤْدَم بينكما، أو قوله: لا تُنْكَح البِكْر حتى تُسْتَاْذَن ولا الأيِّم حتى تُسْتَأْمَر، أو ادرأوا الحدود بالشبهات، أو يسِّروا ولا تعسِّروا، أو من أَمّ فى الصلاة فلْيخفِّف، فإن منكم الضعيف وذا الحاجة، أو أَحِبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك، أو إخوانكم خَوَلكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فلْيُطْعِمْه مما يَطْعَم، وليُلْبِسْه مما يلبس، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم، أو اتقوا الله فى الضعيفين: النساء وما ملكت أيمانكم، أو رفقًا أَنْجَشَةُ بالقوارير، أو... أو... أو... إلخ مما لا يكاد ينتهى من التوجيهات والتشريعات والأدعية النبوية العبقرية التى أكرمنا الله بها والتى ذكرتُ ما ذكرتُه منها من محفوظ الذاكرة منذ الصبا، وبالمعنى فى بعض الأحيان، وأرجو ألا أكون قد أخطأتُ فى شىء منه؟
وبالمثل يتصور أحمد صبحى منصور أن ثم تناقضا بين أمر القرآن لزوجات الرسول بالقرار فى بيوتهن واصطحاب الرسول لهن فى غزواته. وهو يوضح ذلك بقوله إنه فى غزوة الأحزاب مثلا فى العام الخامس من الهجرة نزلت سورة "الأحزاب"، وفيها الأمر لنساء النبى بأن يمكثن فى البيت ولا يخرجن منه: "وقَرْنَ فى بيوتكن، ولا تَبَرَّجْنَ تبرُّج الجاهلية الأولى، وأَقِمْن الصلاة وآتِين الزكاة، وأَطِعْن الله ورسوله. إنما يريد الله لِيُذْهِب عنكم الرِّجْسَ أهلَ البيت ويطهِّركم تطهيرا"، متسائلا: "كيف يأمرهن الله بالبقاء فى البيت، ويأتى النبى فيصطحبهن فى غزوة بنى المصطلق فيما بعد؟ لقد كان ترك النساء فى المدينة بعيدا عن الغزوات عادة إسلامية حرص عليها النبى والمسلمون بحيث لم يكن يتخلف عن الغزو إلا النساء والأطفال والشيوخ غير القادرين. وحين تخلف المنافقون عن الخروج مع النبى فى احدى معاركه الدفاعية نزل القرآن يعيّرهم ويسخر منهم بأنهم رَضُوا بأن يتخلفوا مع النساء والصبيان: "رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالف". فهل من المعقول أن يصطحب النبى زوجاته معه عرضة لخطر الحرب بينما تبقى بقية النساء آمنات فى المدينة؟".
وردا على ذلك نقول: ليس معنى أمر القرآن نساء النبى بالاستقرار فى بيوتهن أنه ينبغى عليهن ألا يخرجن البتة منها، وإلا كان معناه أنه لا يجوز لهن الذهاب للمساجد أو لزيارة أهليهن أو للمشاركة فى أى واجب اجتماعى كالعزاء والأفراح وما إلى ذلك. ولقد كان الرسول عليه السلام كريما سمحا مع زوجاته كما هو مع الناس أجمعين، فلا يُعْقَل أن يتعامل معهن بمنطق العامة الذى يقول إن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا إلى القبر! إن كل ما هنالك أن القرآن يريد لزوجات المصطفى أن يبتعدن بقدر الإمكان عن زحام الحياة حتى يَظْلَلْن فى مكانهن الرفيع ولا يخوض الناس فى أحاديثهن وأخبارهن كما يفعلون مع كثير من النساء فى قيلهم وقالهم، لا ألّا يخرجن من بيوتهن بتاتا! ومن ثَمَّ فإذا صحبهن الرسول فى غزواته صحبهن على نفس الوضع الذى يصونهن عن العيون والألسنة.
ولقد كان النساء يشاركن فى الغزوات، فيسقين الجند ويضمدن المجروحين وما إلى ذلك. فعن أنس بن مالك: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يغزو بأمِّ سُلَيْمٍ ونسوةٍ معها من الأنصارِ يَسْقِين الماءَ ويُداوين الجرحَى"، وعن ابن عباس: "كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يغزو بالنِّساءِ فيُداوينَ الجَرْحى، ولم يَكُن يضربُ لَهُنَّ بسَهْمٍ، ولَكِن يُحْذَيْنَ مِنَ الغَنِيمةِ"، وعن الربيّع بنت معوذ بن عفراء: "كُنَّا نغزو مع النبى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فنَسْقِى القومَ ونَخْدُمهم ونَرُدُّ الجرحى والقتلى إلى المدينةِ"، وعن أم عطية نسيبة الأنصارية: "غزوتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سبعَ غزواتٍ أخلفهم فى رِحَالِهم، فأصنع لهم الطعامَ وأُداوى الجَرْحى وأقوم على المَرْضى"، وعن أم زياد الأشجعية: "خرجتُ مع رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فى غزوة خيبر سادس ست نسوة، فبلغ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبعث إلينا، فجئنا فرأينا فيه الغضب، فقال: مع من خرجتن؟ وبإذن من خرجتن؟ فقلنا: يا رسول اللهِ، خرجنا نغزل الشعر ونعين به فى سبيل الله، ومعنا دواء الجرحى، ونناول السهام ونسقى السويق. فقال: قُمْنَ. حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال. قال: قلت لها: يا جدة، وما كان ذلك؟ قالت: تمرا". ومعنى هذا أن أحمد صبحى منصور يحشر أنفه فيما لا يحسن، ويخترع من عنده الأحاديث اختراعا، ثم يستدير بكل جرأة فيتهم البخارى ومسلما وغيرهما من جامعى الأحاديث بدائه هذا العياء.
كذلك يرى أحمد صبحى منصور أن هناك تناقضا بين الأحاديث التى تحضّ على التبكير فى الذهاب للمسجد يوم الجمعة وتلك التى تنصح المسلم بألا يهرول عندئذ حتى لو كان متأخرا بعض الشىء. وهو تناقض غير موجود إلا فى مخيلته. قال: "وتأتى أحاديث كثيرة تحض على سرعة التبكير بالذهاب لصلاة الجمعة، وتملأ هذه الأحاديث صفحات من البخارى، ثم يتبعها حديث ينقضها جميعا يقول: "إذا أُقِيمَت الصلاة فلا تأتوها تسعَوْن، وأْتُوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا" (البخارى/ الجزء الثانى/ ص3، 4، 8، 9)". والحق أن المعنى فى هذه الأحاديث واضح تمام الوضوح، وهو أفضلية التبكير. لكن ما العمل لو حدث أنْ تأخَّر المصلى لسبب أو لآخر فى الذهاب إلى صلاة الجمعة؟ أيجرى فى الشارع فيظن الناس به الظنون أم يسير فى احترام واطمئنان على النحو الذى يليق بالشعيرة الكريمة؟
وإذا كان منصور يزعم أن ثم تناقضا بين الأحاديث التى تدور حول ذات الموضوع فإنه فى الفقرة التالية يدعى وجود تناقض بين بعض الأحاديث وبعض آيات القرآن المجيد. يقول: "عموما فكل الأحاديث التى رواها البخارى وغيره، وفيها ينسبون للنبى أقاويل عن علامات الساعة وأحداثها والشفاعة وأحوال القيامة، كلها أحاديث تناقض القرآن صراحة. فالقرآن يؤكد فى أكثر من موضع بأن النبى لا يعلم الغيب، ولا يعلم شيئا عن الساعة وموعدها وتفصيلاتها. وقد عرضنا لذلك فيما سبق، وأتينا بالآيات الكثيرة فى هذا الموضوع، ويكفينا منها قوله تعالى للنبى: "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل، وما أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم. إنْ أتَّبِعُ إلا ما يُوحَى إلىَّ". وإذا كان النبى لا يعلم ماذا سيحدث له أو لغيره فكيف ننتظر منه أن يتحدث عن أحوال القيامة وشفاعته أو عدم شفاعته؟ ثم ألا يكفينا قوله تعالى فى عدم علم النبى بالغيب: "قل: لا أقول لكم: عندى خزائن الله، ولا أعلم الغيب"، "قل: لا أملك لنفسى نفعا ولا ضَرًّا إلا ما شاء الله، ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مَسَّنِىَ السوء. إنْ أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون"..."؟
والواقع أنى لا أدرى وجه التناقض بين الحديث والقرآن فى الموضوعات المذكورة: فليس فى الأحاديث أن النبى يعلم الغيب أبدا، وإن كان لله سبحانه متى أراد، ولا رادَّ لإرادته تعالى، أن يكشف ستر الغيب لرسوله لحكمة يعلمها جل شأنه. وقد يكون ذلك فى القرآن كالإخبار بأن الروم ستنتصر على الفرس فى بضع سنين بعد أن لاقت الهزيمة المرة على أيديهم لتوّها، وكالتنبؤ بأن الجمع سيُهْزَمون ويُوَلُّون الدُّبُر، وهو ما تحقق فى بدر، وكإطلاعه نبيَّه فى غزوة الحديبية على أنه سيدخل مكة هو والمسلمون لأداء العمرة، مما تحقق العام الذى تلا ذلك... فهذه آيات قرآنية لا يستطيع كويتبنا أن يكذّبها البتة. أما فى الأحاديث فهناك نبوءةُ غزوةِ الأحزاب الخاصّةُ بفتح فارس والروم، وهناك النبوءة الخاصة بفتح القسطنطينة، وهناك النبوءة الخاصة بتداعى الأمم على المسلمين كما تتداعى الأَكَلَة إلى قصعتها، لا من قلة بل من ذلة... وكل هذا قد تحقق كما أنبأ به النبى العظيم. مرة أخرى نحن لا نقول إنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم الغيب، بل نقول إن الله قد يطلعه على بعض أمور ذلك الغيب لحكمة من الحكم، وهو ما ضربنا له الأمثلة لتوِّنا من كتاب الله وسنة رسول الله. وفى القرآن الكريم نقرأ الآيات التالية: "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك"، "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك. ما كنتَ تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا"، "عالِمُ الغيب فلا يُظْهِر على غيبه أحدا * إلا مَنِ ارتضى من رسول"، وهى من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى أى تعليق. وإذن فليس من تناقض بين الأمرين كما يعمل أحمد صبحى منصور على إيهام القراء ليُفْقِدهم الثقة فى أحاديث النبى الكريم! ثم إن الرسول لم يحدد للساعة موعدا، بل ساق علامات عامة، وهذه العلامات قد تستغرق قرونا فلا يعرف الناس وقتئذ متى تقوم الساعة، ولكن يمكن العقلاءَ منهم أن يعتبروا ويصلحوا من فسادهم قبل فوات الأوان، فلعلهم ينجون.
ولا تقتصر أهمية الحديث على ما ذكرنا، إذ كثيرا ما تعالج الأحاديثُ النبويةُ أمورًا لم يتطرق إليها القرآنُ كالسواك وتمشيط الشعر وغُسْل الجمعة وخطبتها وإماطة الأذى عن الطريق وشفاعته صلى الله عليه وسلم هو بالذات لا الشفاعة بوجه عام واكتساب المسلم أجرا لمعاشرته زوجته والسبعة الذين يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله وشروط استجابة الدعاء، وأفراد الأعداء الذين ينبغى تركهم فى حالهم دون التعرض لهم بحال أثناء الحرب، والطرق التى يجب تجنبها فى البيع والشراء... وما إلى ذلك، وهو غزير. وإلى جانب هذا هناك أمور كثيرة تناولها القرآن تناولا مجردا ثم تابعت الأحاديث وصفها وتصويرها بقلم الواقعية كما هو الحال فى كلام القرآن عن العلماء: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"، "قل: هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟"، "وقل: رب، زدنى علما"، وكلام الأحاديث فى هذا الصدد كقول الرسول: "العلماء ورثة الأنبياء"، "فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب"، "مَنْ خَرَج فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع"، "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع" وإشارته إلى أن الحيتان فى البحر تستغفر لطالب العلم... إلخ.
ثم كيف نعرف شخصية النبى العقلية والنفسية والخلقية تفصيلا لو لم تكن هناك أحاديث؟ الواقع أننا لو أهملنا الأحاديث كما يريد منا أحمد صبحى منصور لم نجد فى القرآن مادة كافية تساعدنا على أن نبصر صورة النبى عليه السلام خلال حياته اليومية: فى البيت وفى السفر ومع أصحابه وفى الحرب وفى الصلاة وفى الصيام وعند تناول الطعام وفى تعامله مع الأطفال والنساء وفى نومه وفى استيقاظه وبالنسبة للأطعمة التى يحبها وتلك التى لا يقبل عليها وفى تعليقه على الأحداث وفى توجيهه لهذا الصحابى أو ذاك وفى كلامه عن إخوانه الأنبياء السابقين وفى تفرقته بين شريعته وشرائعهم وفى ردود أفعاله تجاه الوقائع التى تحدث حوله... مما لا نجد له أثرا فى القرآن، الذى يكتفى بالخطوط العامة دون إيراد تفاصيل، علاوة على أن هناك أشياء لم يقترب منها القرآن قط. ثم ألم يعلن منصور أن الرسول هو المثل الأعلى؟ أليس من الطبيعى إذن أن يحرص أتباع أى مثل أعلى على معرفته ومعرفة كل ما يتعلق به؟ فكيف يستطيعون ذلك إذا ألغينا الأحاديث؟ بل إن وصف ملامح الرسول مثلا وطريقته فى الكلام والمشى والنوم وأداء العبادات ليس لها وجود فى كتاب الله، لكنها متاحة فى الحديث.
إن رجال الحديث إنما صنعوا ما صنعوه من جمعهم لكلام رسول الله وأوصافه ورواية أفعاله بدافع الحب له صلى الله عليه وسلم والإعجاب به والحرص على معرفة الكيفية التى نفهم بها الدين ونطبقه، بخلاف من يكرهه صلى الله عليه وسلم ويكره دينه ويتظاهر بأنه إنما يريد تنقية التوحيد مما شابَهُ من خَبَث الأحاديث النبوية، أستغفر الله. الواقع أن مثل هذا المنطق هو منطق الشياطين. ترى هل هناك من يكره أن يعرف رسولَه عن قرب ويعرف ماذا قال وماذا فعل؟ إن المحب ليحرص على أن يستعيد كل كلمة قالها محبوبه وكل تصرف أتاه وكل موقف اتخذه. وما من أمة فى الأرض إلا وتتفانى فى تخليد ذكرى عظمائها. وعلى هذا النهج تسير كل الأمم منذ كانت هناك أمم. فما بالنا إذا كان هذا العظيم هو نبيها؟ وبالله إذا لم نحرص على أحاديث رسول الله فعلى أحاديث مَنْ نحرص؟
نخرج من هذا بأننا لو هدمنا السنة النبوية هدمنا شطرا كبيرا من الإسلام. إنها ليست شيئا إضافيا أو كماليا، بل هى جزء أصيل من الدين. وفى أقل القليل هى الصورة التطبيقية للإسلام فى العصر الأول يهتدى بها المسلمون على مدى الدهر ويَرَوْن كيف واجه الرسول مشاكل عصره ومجتمعه، فنتصرف كما تصرف، ونفكر كما فكر، وننحو كما نحا... وهكذا. ومَنْ أَوْلَى مِنْ محمد بأن نتخذ منه قدوتنا وأسوتنا، وهو الرسول الذى تلقى الوحى وأُمِر بتبليغ الدين، وكانت السماء ترعاه وتراعيه وتصوبه وتباركه، فضلا عن أنها قد أمدته بمواهب عظيمة لا تتاح للبشر العاديين ولا حتى لكثير من النبيين والمرسلين؟
ونحن لو نظرنا مثلا فى سيرة النبى عليه الصلاة والسلام لنرى موقفه العملى من العلم فلسوف نقف ذاهلين أمام ما صنعه، وهو الأُمِّى، عقب الانتصار فى غزوة بدر حين وقع فى يد المسلمين عشرات الأسرى من كفار قريش، إذ عرض عليهم أن يطلق سراح كل من يقوم منهم بتعليم عشرة من صبيان المسلمين فى المدينة القراءة والكتابة. وقد كان هذا الصنيع نقطة الانطلاق إلى نشر التعليم بين المسلمين، إذ كان عدد القارئين والكاتبين فى المجتمع الجاهلى جِدَّ ضئيلٍ كما هو معروف. وجدير بنا أن نتوقف نحن بدورنا إزاء هذا العمل العبقرى من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ذلك العمل الذى كان وراء انتشار حركة التعليم بين أفراد الأمة الناشئة، إلى جانب إلحاحه صلى الله عليه وسلم على أن طلب العلم فريضة على كل مسلمة ومسلمة، وهو ما يتميز به عن سائر الأنبياء.
ووجه العبرة فى هذا أن العرب، رغم انتشار الأمية بينهم فى الجاهلية انتشارا واسعا، سرعان ما تخلصوا منها وقَضَوْا عليها وأَضْحَوُا الأمة الأولى للعلم والثقافة والفكر فى العالم أوانذاك رغم ضعف الإمكانات. إنه، عليه الصلاة والسلام، لم يؤلف اللجان ولم يخصص الميزانيات ولم يستكثر من بناء المدارس والجامعات لهذا الغرض، إذ كان ذلك صعب التنفيذ فى تلك الظروف بل مستحيله، فاكتفى من ثم بالمتاح بين يديه، وهو أقل من القليل. ومع ذلك فإن هذا القليل الذى يكاد يقرب من حد العدم قد أتى بتلك الثمار المدهشة، وهى ثمار لا يمكن المقارنة بينها وبين ما تحقق من نتائج فى ذلك الميدان بطول البلاد العربية وعرضها منذ عصر النهضة الحديثة التى بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمان مع توفر الإمكانات الهائلة التى لم يكن الصحابة يحلمون بواحد على المليون منها. لقد كانوا يتلقَّوْن تعليمهم مثلا فى المسجد، والمساجد لا تكلف الدولة شيئا يذكر. ولم يستقدم عليه الصلاة والسلام لصبيان المدينة خبراء تربويين ولا مدرسين من الخارج بالعملة الصعبة، بل اعتمد على الأسرى الذين لو كان قد استبقاهم عنده دون عمل لكلفوه أموالا طائلة، لكنه بثاقب نظره وإلهامه العظيم افترع هذا الحل العبقرى الذى أتى بأعظم النتائج دون أن يدفع فيه شيئا على الإطلاق.
وللبروفسير ن. ستيفن (Prof. N. Stephen) كتاب بعنوان "Muhammad and Learning" تحدث فيه مشدوها عن أحاديث الرسول الكريم ودوره فى مجال التعليم، مستغربا أن يتنبه رجل مثله يعتزى إلى أمةٍ باديةٍ أُمِّيّةٍ تعيش فى القرن السابع الميلادى إلى هذا الجانب من جوانب الحياة وأن يكون له تلك الآراء التقدمية والمواقف المذهلة التى تعكسها آيات القرآن والأحاديث الشريفة، وبخاصة أن الأديان الأخرى كانت تضع التعلم تحت الرقابة وتجعله حكرا على الكهنة والطبقة الحاكمة ليس إلا، إن لم تعاقب على إفشاء العلم بين العامّة، فضلا عن إحراق الكتب، الذى يؤكد أنه سيظل إلى الأبد وصمة عار فى جبين من اجترحوه، وفى جبين الكنيسة أيضا لارتضائها ومباركتها هذا العمل المخزى، على عكس محمد، الذى دعا البشر جميعا على اختلاف طبقاتهم ومهنهم وظروفهم إلى السعى حثيثا فى طلب العلم رجالا ونساء من المهد إلى اللحد، بل أوجبه عليهم غير مكتفٍ بجعله حقا من حقوقهم يمكنهم أن يأخذوه أو يهملوه، وجَعَله بابا إلى الجنة، وساواه فى الفضل بالاستشهاد فى سبيل الله، بل فضّل العلماء على العبّاد المنعزلين عن تيار الحياة وميادين الجهاد بمثل ما يَفْضُل به البدرُ سائرَ الكواكب. ومع هذا يجدّ أحمد صبحى منصور فى محاولة هدم الأحاديث النبوية التى يقف أمامها البروفسير ستيفن مشدوها مما فيها من عبقرية سبقت الأزمان بمسافات شاسعة.
وفى مجال آخر من مجالات العبقرية النبوية التى ما كنا لنعرفها، فضلا عن أن نقدرها حق قدرها، لولا أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم التى سجلت مظاهر تلك العبقرية والتى يريد أحمد صبحى منصور ومن على شاكلته أن يدمروها بحجة الحفاظ على الإسلام من الزيف والبهتان والتشويه والضلال، كتبت فرنشيسكا دو شاتل، وهى صحفية وأنثروبولوجية هولندية، بحثا بديعا أبدت فيه انبهارها بموقف النبى الكريم من الطبيعة حتى لقد عدته رائد الحفاظ على البيئة وجعلته سابقا لعصره بل سابقا للعصور الحديثة بأشواط. قالت فى الفقرتين الأوليين من ذلك البحث: "جاء فى الحديث النبوى: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة". الواقع أن القول بأن محمدا رائد من رواد الحفاظ على البيئة سوف يقع فى آذان الكثيرين فى البداية موقعا غريبا، إذ لا شك أن مصطلح "الحفاظ على البيئة" وما يرتبط به من مفاهيم مثل "البيئة" و"الوعى البيئى" و"ترشيد الاستهلاك" هى ألفاظ من اختراع العصر الحديث، أىْ مصطلحات صيغت لتواجه الاهتمامات المتزايدة بالوضع الراهن لعالم الطبيعة من حولنا. ومع ذلك فإن قراءة الأحاديث النبوية عن قرب، أى تلك الروايات المتعلقة بالأحداث الهامة فى حياة محمد، لَتُرِينا أنه كان واحدا من أشد المنادين بحماية البيئة. بل يمكننا القول إنه كان فى نصرته للبيئة سابقا لعصره، أى رائدا فى مجال المحافظة على البيئة والتطور الرشيد والإدارة الحكيمة للموارد الطبيعية، وواحدا من الذين يَسْعَوْن لإقامة توازن متناسق بين الإنسان والطبيعة. وبالاستناد إلى ما أوردته لنا الأحاديث من أعماله وأقواله يمكننا القول بأن محمدا كان يتمتع باحترام عميق لعالم النباتات والأزهار وأنه كان على صلة حميمة بعناصر الطبيعة الأربعة: التراب والماء والنار والهواء".
وهناك أستاذ جامعى أمريكى، هو البروفسير جيفرى لانج، اعتنق الإسلام أواخر القرن الماضى وأصدر عدة كتب منها كتاب "Struggle to Surrender"، الذى خصص جزءا كبيرا من فصله الثالث للكلام عن الحديث النبوى. وأشار لانج إلى أن الحديث النبوى كان هدفا للنقد الاستشراقى، وأعلن عن رغبته فى أن يكون هناك ردٌّ فعّالٌ على هذا النقد من جانب المسلمين الموجودين فى الغرب المعادى للإسلام معاداة راديكالية حسب وصفه. كما أشاد بعلم الحديث وبرجاله وتقواهم ومنهجيتهم الصارمة الدقيقة، وأثنى على كتبهم ثناء كبيرا، وبخاصة كتب الصحاح الستة المعروفة، إذ قاموا بغربلة الآلاف المؤلفة من أحاديث الرسول تمييزا لصحيحها عن سقيمها، وهو ما اقتضاهم مجهودا ضخما يحمد لهم. وبلغ من دقتهم، حسبما يقول، أنهم كثيرا ما يقبلون حديثا معينا ثم يرفضون حديثا آخر له نفس المتن دون أدنى خلاف، بسبب أن رواة هذا معدَّلون، ورواة ذاك مجرَّحون، مما يدل على مدى صرامة الطريقة التى اتبعوها فى توثيق كلام النبى عليه الصلاة والسلام. ثم ينقل كلام شبرنجر عن علم توثيق الرواة وتضعيفهم بأنه مفخرة للفكر الإسلامى. لكنه يشكو فى نفس الوقت من وجود أحاديث منسوبة للنبى عليه الصلاة والسلام لا تتفق وما يتطلع إليه المرء عند نبى من أنبياء الله أو تسوّغ أشياء لا يقبلها العقل والمنطق.
وأنا أتفق معه إلى حد بعيد، إذ أقول دائما إن علماء الحديث قد بذلوا جهودا عبقرية فى جمع الأحاديث وتمحيصها وتبويبها، فحفظوا للمسلمين ذخيرة لا تقدر بثمن، ولا يمكن أن يثيبهم عليها سوى رب العباد سبحانه. إلا أن هذا لا يعنى أن كل ما أوردوه من حديث هو صحيح حتما. لقد استفرغوا وسعهم ولم يَأْلُوا، والباقى علينا. وكما اجتهدوا هم نجتهد نحن. وقد نصيب نحن بدورنا، وقد نخطئ. والله قد تكفل لنا، كرما منه وتفضلا، بأن يجزينا فى الحالين الجزاء الحسن. فمِمَّ الخوف؟ وفيم التحرج؟ وأرى أنه إذا بدا لمسلم أن حديثا من الأحاديث لا يقنع عقله فلا ضرر على إيمانه ما دام يبحث عن الحق ويقدم المسوغات لما يقول.
إن المسلمين عموما يؤمنون بأن البخارى هو أصح كتاب بعد الله، لكنْ يُلاحَظ فى ذات الوقت أنهم لا يفرقون بين هذا الحكم على صحيح البخارى وبين كونه كتابا معصوما. إن الكتاب المعصوم هو كتاب الله، وما دام البخارى يأتى بعده فهو ليس بمعصوم، لأن العصمة ليست درجات، بل درجة واحدة. وعلى هذا فإما أن يكون الكتاب معصوما أو لا يكون، وما دام كتابٌ ما يأتى بعد كتاب آخر معصوم فمعناه أنه أقل منه، ومن ثم ليس معصوما مثله. إنه أوثق من غيره من الكتب، نعم. لكنه ليس معصوما. على أن هذا لا يعنى أبدا أن كل من هب ودب يمكنه، تحت هذه الحجة، أن يشرع فى الهجوم على كتب الصحيح بحجة أنها غير معصومة. بل عليه أن يكون على مستوى الأمر ويبحث ويحقق ويدقق ويقدم مبررات عدم اقتناعه بهذا الحديث أو ذاك، واضعا فى ذهنه قبل كل شىء أنه مجرد مجتهد، وأن ما يقوله قابل للصواب والخطإ، وأن علماء الحديث قد بذلوا جهودا جبارة لا يمكن شطبها بجرة قلم من جانب أى فَسْل لا قيمة له فى دنيا العلم والعلماء.
إن علماءنا الكرام قد خدموا السنة النبوية خدمة جُلَّى، وبذلوا جهودا عظيمة فى التحقق من عدالة الرواة وضبطهم. ولكن هذا لا يمنع أبدا أن نبدأ خدمة السنة من حيث انْتَهَوْا، فننظر فى مضمون الأحاديث ونتحقق من صحتها ودقتها مراعين ألا تناقض القرآن فى شىء أو تتعارض والروح العامة للإسلام ومبادؤه وقيمه العليا وعقائده المتفق عليها أو تخالف الحقائق العلمية المقطوع بها أو تدابر التاريخ القطعى وأحداثه وأرقامه أو تعاكس الطبيعة البشرية التى نعرفها على مدى الأحقاب أو أوضاع المجتمعات أو نفسية الجماهير أو سنن الله فى الكون أو المنطق العقلى العام... إلخ. كما ينبغى أن نغلِّب الجوهريات على الشكليات، والمتون على الهوامش، والواجبات على النوافل، والأهم على المهم... وهلم جرا. وعندنا أيضا التحقق الأسلوبى. فلا شك أن من تمرس بأحاديث النبى وخطبه وحواراته يتشكل لديه انطباع عن أسلوبه اللغوى. فلو وجد المحقق أن فى الحديث الذى ينظر فيه لفظا أو تعبيرا أو تصويرا أو تركيبا لم يكن يستعمله النبى: إما لأنه لم يكن من استخدامات عصره ومجتمعه أو لم يكن من استعمالاته هو الشخصية كان هذا سببا معضدا لعدم اطمئنان ضميره لذلك الحديث.
وليس فى الأمر ما يدعو إلى الحرج من جانب المتحقق ولا إلى الغضب من جانب العلماء الآخرين، فقد كان الصحابة ينتقد بعضهم بعضا ويرد بعضهم رواية بعض أو يطالبه بالدليل على صحة حديث أو بالإتيان بشاهد آخر. فمثلا تقول عائشة فى حديث لها: "من زَعَم أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ رأَى ربَّهُ فقد أعظَم الفِرْيَةَ على اللهِ تعالى، ولكنَّهُ رأى جِبريلَ مرَّتينِ فى صورتِه وخَلْقه سادًّا ما بين الأُفُقِ". ومعنى هذا أنه كان هناك من يقول ذلك، فانتقدته عائشة أيما انتقاد، ولم يمنعها من هذا الانتقاد الشديد بل التكذيب العنيف أى اعتبار. ويقول أبو سعيد الخدرى: "كنتُ جالسًا بالمدينةِ فى مجلسِ الأنصارِ، فأتانا أبو موسى فزِعًا أو مذعورًا. قلنا: ما شأنُك؟ قال: إنَّ عمرَ أرسل إلى أن آتيَه، فأتيتُ بابَه فسَلَّمْتُ ثلاثًا، فلم يَرُدَّ على، فرجعتُ، فقال: ما منعك أن تأتيَنا؟ فقلتُ: إنى أتيتُ فسلَّمْتُ على بابِك ثلاثًا، فلم يَرُدُّوا على، فرجعتُ. وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إذا استأذن أحدُكم ثلاثًا فلم يُؤْذَنْ له فلْيَرْجِعْ. فقال عمرُ: أقِمْ عليه البيِّنَةَ، وإلا أوجعتُكَ. فقال أُبَى بنُ كعبٍ: لا يقوم معه إلا أصغرُ القومِ. قال أبو سعيدٍ: قلتُ: أنا أصغرُ القومِ. قال: فاذهبْ به". و"جاءت جدة إلى أبى بكر فقالت: إن لى حقًّا فى مال ابن ابن مات. قال: ما علمت لك فى كتاب لله حقًّا ولا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا. وسأل، فشهد المغيرة بن شعبة أن رسول لله أعطاها السدس. قال: ومن سمع ذلك معك؟ فشهد محمد بن مَسْلَمةَ، فأعطاها أبو بكر السدس".
ومن هذا البابِ أيضا الحديثُ التالى عن عبادة بن الصامت: "كنتُ بالشَّامِ فى حلقةٍ فيها مسلمُ بنُ يسارٍ، فجاء أبو الأشعثِ الصَّنْعانى، فأرسل له القومُ فقالوا: أبو الأشعثِ، أبو الأشعثِ! فقلتُ: يا أبا الأشعثِ، حدِّثْ أخاك حديثَ عبادةَ بنِ الصَّامتِ. فقال: كنَّا مع معاويةَ فى غَزاةٍ فغنِمنا غنائمَ كثيرةً، فكان فيها آنيةٌ من فِضَّةٍ، فأمر معاويةُ رجلًا ببيعِها من النَّاسِ فى أُعْطِيّاتِهم، فبلغ ذلك عبادةَ، فقام فقال: إنِّى سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينهَى عن بيعِ الذَّهبِ بالذَّهبِ، والوَرِقِ بالوَرِقِ، والبُرِّ بالبُرِّ، والشَّعيرِ بالشَّعيرِ، والتَّمرِ بالتَّمرِ، والملحِ بالملحِ إلَّا سواءً بسواءٍ، مثلًا بمثلٍ، عينًا بعينٍ. فمن زاد أو استزاد فقد أَرْبَى. فرَدَّ النَّاسُ ما كانوا أخذوا، فذهب رجلٌ إلى معاويةَ وأخبره الخبرَ، فقام خطيبًا فقال: ما بالُ أقوامٍ يُحدِّثون عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحاديثَ قد صَحِبْناهُ ورأيناه فما سمِعناها منه؟ فقام عبادةُ بنُ الصَّامتِ فأعاد الحديثَ وقال: واللهِ لنُحَدِّثنَّ بما سمِعنا من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن زعم معاوية (أو قال: وإن كرِه معاويةُ). واللهِ ما أُبالى أنِّى لا أصحبُه فى حياتى ليلةً سوداءَ".
كذلك "ذُكِر عند عائشةَ قولُ ابنُ عمرَ: الميتُ يُعذَّبُ ببكاءِ أهلِه عليهِ. فقالت: رحم اللهُ أبا عبدِ الرحمنِ. سمع شيئًا فلم يحفظْه. إنما مرت على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ جنازةُ يهودى، وهم يبكون عليهِ، فقال: "أنتم تبكون، وإنَّهُ لَيُعذَّب". وهناك حديث آخر فى ذات الموضوع عن عبد الله بن أبى مليكة هذا نصه: "توفيت ابنة لعثمان رضى الله عنه بمكة، وجئنا لنشهدها، قال: وحضرها ابن عمر وابن عباس، وإنى لجالس بينهما (أو قال: جلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي)، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى النساء عن البكاء؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت لَيُعَذَّب ببكاء أهله عليه. فقال ابن عباس: قد كان عمر رضى الله عنه يقول بعض ذلك، ثم حدَّث قال: صدرتُ مع عمر من مكة حتى كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل سَمُرَة، فقال: اذهب وانظر إلى هؤلاء الركب. قال: فنظرت، فإذا هو صهيب، فأخبرته. قال: ادعه لى، فرجعت إلى صهيب. فقلت: ارتحل، فالحق أمير المؤمنين. فلما أصيب عمر دخل صهيب رضى الله عنهما يبكى يقول: وا أخاه! وا صاحباه! فقال عمر رضى الله عنه: يا صهيب، أتبكى علىَّ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت ليعذَّب ببعض بكاء أهله عليه؟ قال ابن عباس: فلما مات عمر رضى الله عنه ذكرتُ ذلك لعائشة رضى الله عنها، فقالت: رحم الله عمر. والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه. قال: وقالت عائشة: حَسْبُكم القرآن: "ولا تزر وازرة وزر أخرى". قال: وقال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكى. قال ابن أبى مليكة: فوالله ما قال ابن عمر شيئا".
وكان بعض الصحابة يضيق بكثرة رواية أبى هريرة لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدافع عن نفسه بأنه كان ملازما لرسول الله عليه السلام فى حين كانوا هم مشغولين بأمور حياتهم عن الالتصاق بالنبى التصاقه به. ومن ذلك الحديث التالى: "قيل لعائشةَ: إنَّ أبا هريرةَ يقول: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: الشُّؤْمُ فى ثلاثٍ: فى الدَّارِ والمرأةِ والفرسِ. فقالت عائشةُ: لم يحفظْ أبو هريرةَ لأنه دخل ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: قاتَل اللهُ اليهودَ! يقولون إنَّ "الشؤمَ فى الدَّارِ والمرأةِ والفَرَسِ"، فسمع آخِرَ الحديثِ، ولم يسمع أَوَّلَه". و"قالَتْ عائشةُ لأبى هريرةَ: إنَّكَ لتُحدِّثُ عنِ النبى صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ حديثًا ما سمعتُه منه. قال: شَغَلَكِ عنه، يا أُمَّه، المرآةُ والمُكْحُلةُ، وما كان يَشْغَلُنى عنه شىء". وعن أبى هريرة: "مَن تبِع جنازةً فصلَّى عليها فله قيراطٌ، فإن شهِد دفَنها فله قيراطانِ، والقيراطُ أعظمُ مِن أُحُدٍ. فقال له ابنُ عُمرَ: يا أبا هريرة، انظُرْ ما تحدّثُ به عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقام إليه أبو هريرةَ فأخَذ بيدِه حتى انطَلَق به إلى عائشةَ، فقال لها أبو هريرة: أَنْشُدُك باللهِ هل سمعتِ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: مَن تبِع جنازةً فصلَّى عليها فله قيراطٌ، فإن شهِد دَفْنَها فله قيراطانِ، القيراطُ أعظمُ مِن أُحُدٍ؟ فقالتْ: اللهم نعَم. فقال أبو هريرةَ: إنه لم يكُنْ يشغَلُنى عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غرسٌ. إنما كنتُ ألزمُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكلمةٍ يُعَلِّمُنيها أو لقمةٍ يُطْعِمُنيها".
ومعروفٌ الخلاف الحاد الذى نشب بين عمر وأحد الصحابة حول الطريقة التى يقرأ بها كل منهما القرآن، وإسراعهما إلى الرسول ليتأكدا أيهما المصيب. ولو كان هناك مثل ذلك التحرج الذى نظنه لقد كان كلاهما حريًّا أن يصدّق الآخر ولا يرفعا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أن الأقضية التى كانت ترفع إلى رسول الله دليل آخر على أنهم لم يكونوا يَرَوْن فى اختلافهم أى حرج، وإلا ما كان أحدٌ قاضَى أحدا، فإنّ خصمه صحابى لا يصح القدح فيه أو الاختلاف معه. ثم عندنا حديث الإفك، ألم يخض فيه بعض الصحابة؟ وفوق هذا ألم يزن هذا ويسرق هذا من معاصرى النبى ممن شاهدوه وتحدث إليهم وتحدثوا إليه؟
المفضلات