الذوق فى الإسلام
إبراهيم عوض


تقوم الحضارة، ضمن ما تقوم، على النظافة والنظام والتناسق ‏والحرص على الجمال ومراعاة الرسوم التى يتعاهدها الناس فى المناسبات ‏والمواقف المختلفة، لما فى ذلك من فوائد صحية ونفسية واجتماعية ولما ‏فيها من التيسير على الناس واختصار الوقت والجهد والوصول السريع ‏للتفاهم بين أفراد المجتمع وجماعاته، فضلا عما فيها من رُقِىٍّ يليق ‏بالمتحضرين حتى ولو لم يكن لها صلة بالصحة والراحة النفسية واختصار ‏الوقت والجهد. والإسلام دين الجمال والنظافة والنظام والجمال بامتياز، ‏وهو يراعى هذا فى كل شىء حتى فى العبادات. كما أنه يربطه بالعقيدة ‏والربوبية، إذ يجعل الله المثل الأعلى فى النظافة والجمال والطيب والسلوك، ‏علاوة على أنه يضع للاستمساك بكل قيمة من هذه القيم وتطبيقها أجرا ‏كبيرا، مما يستحث المسلم على التعلق بهذه القيم والحرص عليها والتمسك ‏بها كى ينال رضوان الله، ومن ثم يجد نفسه وهو يمارس الحضارة دون أن ‏يشعر، إذ إن ربط هذه القيم بالله سبحانه على هذا النحو وذاك من شأنه ‏أن يصيّر الحضارة دما يجرى فى عروق المسلم تلقائيا دون أن يُعَنِّىَ نفسه ‏بالتفكير فى أمرها. وهل يُعَنِّى الإنسانُ نَفْسَه فى تتبع تنفُّسه مثلا، أم إنه ‏يتنفس على نحو طبيعى لا يتنبه معه إلى ما يفعل؟
ويقول مالك بن نبى فى هذا الصدد إنه لا يمكن لصورة قبيحة أن ‏توحى بالخيال الجميل، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح. والمجتمع ‏الذي ينطوي على صورة قبيحة لا بد أن يظهر أثر هذه الصورة في أفكاره ‏وأعماله ومساعيه. والأفكار، بصفتها روح الأعمال التي تعبّر عنها أو ‏تسير بوحيها، إنما تتولد من الصورة الـمُحَسَّة الموجودة في الإطار ‏الاجتماعي والتي تنعكس في نفوس من يعيش فيه. وهنا تصبح صورا ‏معنوية يصدر عنها تفكيره. فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ‏ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال يوحي للإنسان بأفكاره ويطبعها ‏بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة القبيحة. فبالذوق الجميل ‏الذي ينطبع فيه فكر الفرد يجد الإنسان في نفسه نزوعًا إلى الإحسان في ‏العمل وتوخيًا للكريم من العادات. نعم إن الإطار الحضاري بكل محتوياته، ‏كما يؤكد بن نبى، متصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هو الإطار الذي ‏تتكون فيه أية حضارة، ومن ثم ينبغي أن نلاحظه في أنفسنا كما ينبغي أن ‏نتمثله في شوارعنا وبيوتنا ومقاهينا (انظر مالك بن نبى/ شروط النهضة/ ‏‏91، 94). ‏
وهذه طائفة من النصوص القرآنية التى تتعلق بهذا الموضوع الحيوى ‏أسوقها حسب ترتيبها فى المصحف. وبعضها يتعلق بالنظافة والطهارة، ‏وبعضها بالذوق واللياقة، وبعضها بالنظام والسلوك المستقيم، وبعضها ‏بمظاهر الطبيعة من حولنا أو بمناظر الجمال والسعادة فى الجنة:‏
‏"وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)" (سورة ‏البقرة).‏
‏"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ‏وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ ‏يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)" (سورة البقرة).‏
‏"وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا... (83)" (سورة آل عمران).‏
‏"وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى ‏كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)" (سورة النساء).‏
‏"وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ‏وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى ‏لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ ‏تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ ‏عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ‏وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)" (سورة ‏النساء).‏
‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ‏إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا ‏فَاطَّهَّرُوا... (6)" (سورة المائدة).‏
‏"يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا ‏تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ‏وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)" (سورة الأعراف).‏
‏"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ‏وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ ‏عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)" (سورة التوبة).‏
‏"لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ ‏يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)" (سورة التوبة).‏
‏"وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)" (سورة ‏الحِجْر).‏
‏"فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)" (سورة الحِجْر).‏
‏"وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا ‏جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا ‏بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ ‏وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ‏وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ‏لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ ‏وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) ‏وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ‏ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ‏ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ‏وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا ‏وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)" (سورة ‏النحل).‏
‏"أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ ‏وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)" (سورة النحل).‏
‏"وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ ‏وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ‏يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً ‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)" (سورة النحل).‏
‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ‏وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ‏فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ ‏أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)" (سورة النور).‏
‏"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ ‏فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا ‏شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي ‏اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏‏(35)" (سورة النور).‏
‏"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى ‏الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ ‏مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ (43)" ‏‏(سورة النور).‏
‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا ‏الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ ‏الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ ‏جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ ‏الآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ‏كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏‏(59)" (سورة النور).‏
‏"فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً ‏طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ‏آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى ‏يَسْتَأْذِنُوهُ... (62)" (سورة النور).‏
‏"وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ‏الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63)" (سورة الفرقان).‏
‏"أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ ‏حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ ‏يَعْدِلُونَ (60)" (سورة النمل).‏
‏"وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ ‏كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ ‏الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)" (سورة لقمان).‏
‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ ‏تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا ‏جَمِيلاً (49)" (سورة الأحزاب).‏
‏"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا ‏أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) ‏وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ ‏عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)" (سورة فاطر).‏
‏"جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ‏وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)" (سورة فاطر).‏
‏"وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ ‏تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى ‏عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ ‏سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)" (سورة يس).‏
‏"وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ... (12)" (سورة فُصِّلَتْ). ‏
‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا ‏لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ ‏الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ‏لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ‏أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ‏وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)" (سورة الحجرات).‏
‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ‏وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا ‏تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ ‏الظَّالِمُونَ (11)" (سورة الحجرات). ‏
‏"أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ ‏فُرُوجٍ (6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ ‏بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ‏مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ ‏نَضِيدٌ (10)" (سورة ق).‏
‏"إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ ‏رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) ‏مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)" (سورة الطور).‏
‏"وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ‏ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ‏‏(50) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) ‏فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ‏وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ‏الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏‏(57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ ‏جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ ‏دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) ‏فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آَلاءِ ‏رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا ‏تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) ‏حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ ‏يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ ‏عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) ‏تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (78)" (سورة الرحمن).‏
‏"وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ‏‏(28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) ‏وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)" ‏‏(سورة الواقعة).‏
‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا ‏يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ ‏أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)" (سورة المجادلة).‏
‏"فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً (5)" (سورة المعارج).‏
‏"وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ‏لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا ‏تَذْلِيلاً (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) ‏قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا ‏زَنْجَبِيلاً (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ ‏مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا ‏وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ ‏فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ ‏سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)" (سورة الإنسان).‏
‏"فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ ‏شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) ‏وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ ‏وَلأَنْعَامِكُمْ (32)" (سورة عَبَس).‏
‏"فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ‏‏(17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ‏ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)" (سورة التكوير).‏
‏"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) ‏لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) ‏وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)" ‏‏(سورة الغاشية).‏
وبعد القرآن نقدم إلى القارئ هذه الباقة من نصوص الحديث النبوى ‏الشريف التى توصى المسلم مباشرة أو على نحو غير مباشر بالنظافة ‏والطهارة والتطيب والأناقة والحرص على الجمال والنظام وعزة النفس ‏والترتيب ومراعاة أصول اللياقة ورقة النفس وتهذيب السلوك والالتفات إلى ‏مظاهر الحسن فى الكون من حوله والتخلص من الأوضاع المزرية أو ‏القبيحة أو المشوهة: ‏
‏"إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب ‏الكرم، جواد يحب الجود. فنظفوا أفنيتكم، ولا تَشَبَّهوا باليهود".‏
‏"(قال رسول الله صلى الله عليه وسلمنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي لا يدخل الجنة من كان في ‏قلبه مثقال ذرة من كِبْر. قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ‏ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال. الكِبْر بَطَر الحق وغَمْط ‏الناس".‏
‏"من جر ثوبه خُيَلاءَ لم ينظر الله إليه يوم القيامة".‏
‏"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خَرْدَل من كِبْر".‏
‏"إن الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق، ويكره ‏سفسافها".‏
‏"إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ‏ويبغض البؤس والتباؤس".‏
‏"كانوا (أى بعض الناس) يدخلون على رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم ولم يستاكوا، فقال: تدخلون عليَّ قُلْحًا؟ استاكوا، فلولا أن أشقّ ‏على أمتي لفرضت السواك عند كل صلاة كما فرضت عليهم الوضوء".‏
‏"استاكوا وتنظفوا وأَوْتِروا، فإن الله وَتْرٌ يحب الوَتْر".‏
‏"سَوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة".‏
‏"أَتِمُّوا الصفَّ المقَدَّم ثم الذي يليه، فما كان من نقصٍ فلْيَكُنْ في ‏الصفّ المؤَخَّر". ‏
‏"مَنْ سَدَّ فُرْجَةً في الصفّ غُفِر له".‏
‏"لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة عبدٍ لا يقيم صُلْبَه فيما بين ركوعها ‏وسجودها". ‏
‏"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ‏ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أنِ ‏اخْرُج فأَصْلِحْ رأسك ولحيتك، ففعل ثم رجع، فقال رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم: أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه ‏شيطان؟".‏
‏"اتقوا‎ ‎الملاعن‎ ‎الثلاثة: البِراز في الموارد وقارعة الطريق‎ ‎والظل".‏‎ ‎
‏"ثلاث من السعادة: المرأة الصالحة، والمنزل الواسع، والمركب الهني".‏
‏"اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة ‏القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، ‏وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال. اللهم ‏اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبَرَد، ونَقِّ قلبي من الخطايا كما نقيت ‏الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين ‏المشرق والمغرب".‏
‏"لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا ‏يُفْضِي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تُفْضِي المرأة إلى المرأة في الثوب ‏الواحد".‏
‏"الإيمان بضع وسبعون: أفضلها قول "لا إله إلا الله"، وأدناها إماطة ‏الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان".‏
‏"(عن أنسنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي حَدَّث نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم بحديث، فما ‏فرحنا بشيء منذ عرفنا الإسلام أشد من فرحنا به. قال: إن المؤمن ‏ليُؤْجَر في إماطة الأذى عن الطريق، وفي هداية السبيل، وفي تعبيره عن ‏الأرتم، وفي منحة اللبن".‏
‏" البذاء من الجفاء، والجفاء في النار. والحياء من الإيمان، والإيمان ‏في الجنة".‏
‏"من اطَّلَعَ في بيت رجل بغير إذنه فحذفه بحصاة ففقأت عينه فلا ‏شيء عليه".‏
‏"عن عطاء بن يسار أن رجلا سال النبى صلى الله عليه وسلم: ‏أستأذن على أمي؟ قال: نعم".‏
‏"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. ومن كان يؤمن بالله ‏واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت. إن الله يحب الحيي الحليم العفيف، ‏ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف. إن الحياء من الإيمان، والإيمان ‏في الجنة، والفحش من البذاء، والبذاء في النار".‏
‏"إن الله كتب الإحسان على كل شيء: فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، ‏وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح. ولْيُحِدَّ أحدكم شفرته، ولْيُرِحْ ذبيحته". ‏
‏"جاء قوم بصاحبهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي ‏الله، إن صاحبنا هذا قد أفسده الحياء. فقال نبي الله صلى الله عليه ‏وسلم: إن الحياء من شرائع الإسلام، وإن البذاء من لؤم المرء".‏
‏"(عن لقيط بن صرةنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي قلت: يا رسول الله، إن لي امرأة في لسانها ‏شيء (يعني البذاء). قال: طلقها. قلت: إن لي منها ولدا، ولها صحبة. ‏قال: فمُرْها (أي عِظْها)، فإن يك فيها خير فستقبل، ولا تضربنّ ظعينتك ‏ضربك أَمَتك".‏
‏"إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا بال أحدكم فلا يمسح ‏ذكره بيمينه، وإذا تمسح أحدكم فلا يتمسح بيمينه".‏
‏"(عن أبى هريرة‎:‎‏) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة ‏في قبلة المسجد، فأقبل على الناس فقال: "ما بال أحدكم يقوم مستقبل ‏ربه فيتنخّع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يُسْتَقْبل فيُتَنَخَّع في وجهه؟ فإذا ‏تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره، تحت قدمه".‏
‏"انطلقت أنا وعمرو بن العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ‏فخرج ومعه درقة، ثم استتر بها، ثم بال".‏
‏"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ‏ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟".‏
‏"مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل في سفر في ظل شجرة ‏وهو يُرَشّ عليه الماء، فقال: ما بال صاحبكم؟ قالوا: صائم يا رسول ‏الله. قال: ليس من البر الصيام في السفر. فعليكم برخصة الله التي أرخص ‏لكم، فاقبلوا".‏
‏"(عن عمرو بن أبى سلمة ربيب رسول اللهنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي كنت غلاما في حِجْر ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام، سَمِّ الله، وكل بيمينك، وكل ‏مما يلي". فما زالت تلك طعمتي بعد".‏
‏"(عن عائشةنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ إليه ‏ضَبٌّ، فلم يأكله، فقالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، ألا تطعمه ‏المساكين؟ فقال لا تطعموهم مما لا تأكلون".‏
‏"إذا اجتمع الداعيان فأَجِبْ أقربهما بابا، فإن أقربهما بابا أقربهما ‏جوارا. وإنْ سَبَقَ أحدُهما فأجب الذي سبق".‏
‏"من دُعِىَ إلى عرس أو نحوه فليجب".‏
‏"إذا دُعِىَ أحدكم إلى الوليمة فليجب".‏
‏"إذا دُعِيَ أحدكم إلى طعام فليجب: فإن كان مفطرا فليأكل، وإن ‏كان صائما فلْيَدْعُ بالبركة".‏
‏"شر الطعام طعام الوليمة يُدْعَى لها الأغنياء ويُتْرَك الفقراء. ومن ‏ترك الدعوة فقد عصى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم".‏
‏"أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسْرِيَ به بإيلياء بقدحين ‏من خمر ولبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن. قال جبريل: الحمد لله الذي هداك ‏للفطرة. لو أخذتَ الخمر غَوَتْ أمتك".‏
‏"(عن أنسنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أو ‏شرب قال: الحمد لله، الذي أطعمنا وسقانا وسَوَّغه وجعل له مخرجا".‏
‏"من أكل طعاما ثم قال: "الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ‏ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة" غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ‏ومن لبس ثوبا فقال: "الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير ‏حول مني ولا قوة" غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".‏
‏"كان (الرسول عليه السلام) إذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله الذي ‏أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين".‏
‏"(عن عائشةنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي كانت فاطمة إذا دخلت على النبي صلى الله عليه ‏وسلم قام لها فأخذ بيدها وقبّلها وأجلسها في مجلسه. وكان إذا دخل ‏عليها قامت إليه وأجلسته في مجلسها".‏
‏"(عن أبى الطفيلنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي رأيت النبي وأنا غلام، فدنت منه امرأة، فبسط ‏لها رداءه، فجلست عليه. فقلت: من هذه؟ قالوا: أمه التى أرضعته".‏
‏"(لما جيء بأخت الرسول من الرضاعة في سبايا هوازن وتعرفتْ ‏إليه بسط لها رداءه وقال لهانقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي إن أحببتِ أقمتِ عندنا مكرمة مُحَبَّة، أو ‏متَّعْتُكِ ورجعتِ إلى قومك"، فاختارت قومها، فمتَّعها".‏
‏"كان إذا أُتِيَ بهدية قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت ‏صديقة لخديجة. إنها كانت تحب خديجة".‏
‏"(عن أبي سعيد الخدري أن النبى صلى الله عليه وسلم قالنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي ‏إياكم والجلوس في الطرقات. قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدّ. ‏قال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق يا ‏رسول الله؟ قال: غض البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر ‏بالمعروف والنهي عن المنكر".‏
‏"يسلِّم الراكب على الماشي، وفي رواية: يسلم الصغير على الكبير ‏والماشي على القاعد، والقليل على الكثير".‏
‏"لا يقيمن أحدكم رجلا من مجلسه ثم يقعد فيه، ولكن توسَّعوا ‏وتفسَّحوا يَفْسَح الله لكم".‏
‏"إذا انتهى أحدكم إلى مجلسٍ فلْيُسَلِّم. فإن بدا له أن يجلس ‏فلْيجلس، ثم إذا قام فلُيسَلِّم، فليست الأولى بأحقَّ من الثانية".‏
‏"إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به".‏
‏"وَفَدَ وَفْدٌ للنجاشي، فقام رسول الله يخدمهم، فقال له أصحابه: ‏نحن نكفيك. فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مُكْرِمين، وإني أحب أن ‏أكافئهم".‏
‏"إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس، ‏فإن ذلك يحزنه".‏
‏"تبسُّمك فى وجه أخيك صدقة".‏
‏"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ‏ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم. لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام ‏والنُّهَى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".‏
‏"(قال أبو عياش الزرقينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏بعسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، قال: فصلينا الظهر، فقال ‏المشركون: لقد كانوا على حال لو أردنا لأصبنا غفلة. فأُنْزِلَتْ آية القَصْر ‏بين الظهر والعصر، فأخذ الناس السلاح وصَفُّوا خلف رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم مستقبلي القبلة، والمشركون مستقبلوهم. فكبَّر رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم وكبَّروا جميعا، ثم ركع وركعوا جميعا، ثم رفع رأسه ‏ورفعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون ‏يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء، ثم نكص الصف ‏الذي يليه، وتقدم الآخرون فقاموا في مقامهم، وركع رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم فركعوا جميعا، ثم رفع رأسه ورفعوا جميعا، ثم سجد وسجد ‏الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من ‏سجودهم سجد هؤلاء الآخرون، ثم اسْتَوَوْا معه فقعدوا جميعهم، ثم سلم ‏بهم جميعا. فصلى بعسفان، وصلاها يوم بني سليم".‏
‏"لما انكفأ المشركون من أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‏‏"اسْتَوُوا حتى أُثْنِيَ على ربي"، فصاروا خلفه صفوفا، فقال: اللهم لك ‏الحمد كله. وفيه: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون ‏رسلك، واجعل عليهم رِجْزَك وعذابك. اللهم عَذِّب الكَفَرة، إلهَ الحق".‏
‏"من زار قوما فلا يَؤُمَّهم، ولْيَؤُمَّهم رجل منهم".‏
‏"إذا حضرتِ الصلاة فلْيُؤَذِّن لكم أحدكم، وليَؤُمَّكم أقرؤكم".‏
‏"(عن عبد الله بن زيد الأنصارىنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي لما أمر رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم بالناقوس يُعْمَل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم ‏رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما ‏تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير ‏من ذلك؟ فقلت: بلى، فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر. الله أكبر، الله ‏أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا ‏رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. حَيَّ على الصلاة، حَيَّ على ‏الصلاة، حَيَّ على الفلاح، حَيَّ على الفلاح. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا ‏الله، ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله ‏أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي ‏على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله ‏أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحتُ أتيتُ رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله. فقم مع ‏بلال، فألق عليه ما رأيتَ، فليؤذِّن به، فإنه أندى صوتا منك".‏
‏"إذا سافرتم فليؤمَّكم أقرؤكم، وإن كان أصغركم. وإذا أمَّكم فهو ‏أميركم".‏
‏"من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلْنا أو ليعتزلْ مسجدنا، وليقعدْ في ‏بيته".‏
‏"عن المغيرة بن شعبة قال: أكلت ثوما ثم أتيت مصلى رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم فوجدته قد سبقني بركعة، فلما قمت أقضي وجد ‏ريح الثوم، فقال: من أكل من هذه البقلة فلا يقربنَّ مسجدنا حتى يذهب ‏ريحها".‏
‏"ما مسستُ حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبي صلى الله عليه ‏وسلم، ولا شممت ريحا قط أو عَرْفًا قط أطيب من ريحِ أو عَرْفِ النبي ‏صلى الله عليه وسلم". ‏
‏"حوضي من كذا إلى كذا، فيه من الآنية عدد النجوم، أطيب ريحا ‏من المسك، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأبيض من اللبن، من ‏شرب منه شربة لم يظمأ أبدا، ومن لم يشرب منه لم يَرْوَ أبدا".‏
‏"إن هذا (أى يوم الجمعة) يوم عيد جعله الله للمسلمين. فمن جاء ‏الجمعة فليغتسل، وإن كان عنده طيب فلْيَمَسَّ منه. وعليكم بالسواك".‏
‏"من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ".‏
‏"نهى (رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن البول في الماء الدائم ثم ‏الاغتسال منه، ونهى عن اغتسال الجنب فيه، وأمر المستيقظ من نوم الليل ‏ألا يغمس يده فيه، وأمر بإراقة الإناء من ولوغ الكلب فيه".‏
‏"الإسلام: إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و حج البيت، و صوم شهر ‏رمضان، و الاغتسال من الجنابة".‏
‏"إن أمتي يُدْعَوْن يوم القيامة غُرًّا محجَّلين من آثار الوضوء. فمن ‏استطاع منكم أن يُطِيل غُرَّته فليفعل".‏
‏"إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، واجعل الماء بين أصابع يديك ‏ورجليك".‏
‏"لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد".‏
ويدخل فى الذوق الفنون من غناء وتصوير ونحت وشعر ونثر... ‏ولسوف أتناول الفنون الآن من حيث حكمها فى الإسلام. ولسوف أقتصر ‏منها على الغناء والتصوير والنحت، وهى الفنون التى يحرمها بعض العلماء ‏ويرى أنها لا يمكن أن تتسق مع الإسلام، بخلاف العمارة والنقوش والتوريق ‏والتكفيت والخطوط الجميلة مما لا يمارى فى حِلّه أحد. ونبدأ بفن الصوت ‏الجميل، وهو الغناء، وها هى ذى بعض النصوص التى وردت فى أحاديث ‏النبى عليه الصلاة والسلام عن ذلك الفن: ‏
‏"زَيِّنُوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا".‏
‏"مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى ذات ليلة وهو يقرأ ‏فقال: إن عبد الله بن قيس (أو الأشعري) أُعْطِيَ مزمارا من مزامير داود. ‏فلما أصبح ذكروا ذلك له فقال: لو كنتَ أعلمتَني لحبَّرْتُ ذلك تحبيرا". ‏

‏"زَوَّجَتْ عائشةُ ذاتَ قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله فقال: ‏أَهْدَيْتُم الفتاة؟ قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها من يغنّي؟ قالت: لا. فقال ‏رسول الله: إن الأنصار قوم فيهم غَزَل. فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم ‏أتيناكم، فحيانا وحياكم".‏
‏"دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي جاريتان ‏تغنيان بغناء بُعَاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه. ودخل أبو بكر ‏فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل ‏عليه رسول الله عليه السلام فقال: دعهما. فلما غفل غمزتهما فخرجتا. ‏وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النبي صلى الله ‏عليه وسلم وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم. فأقامني وراءه، خدي ‏على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة. حتى إذا مللت قال: ‏حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي".‏
‏"(عن بريدة) أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا، فنذرت أَمَةٌ ‏سوداءُ إنْ رده الله سالما أن تضرب عنده بالدف. فرجع سالما غانما، ‏فأخبرتْه، فقال: إن كنتِ فعلتِ فافعلي، وإلا فلا. فقالت: يا رسول الله، ‏قد فعلتُ. فضَرَبَتْ، فدخل أبو بكر وهي تضرب. ودخل عمر وهي ‏تضرب، فألقت الدف وجلست عليه مُقْعِيَة. فقال رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم: أنا هاهنا، وأبو بكر هاهنا، وهؤلاء هاهنا. إني لأحسب ‏الشيطان يَفْرَق منك يا عمر". ‏
‏"بعثني الله رحمة وهدى للعالمين، وبعثني لمحق المعازف والمزامير وأَمْر ‏الجاهلية. ثم قال: من شرب خمرا في الدنيا سقاه الله كما شرب منه من ‏حميم جهنم". ‏
وهناك خلاف شديد حول حلية هذا الفن ما بين محرّم له متشدد ‏فى التحريم، ومحلل بشروط: فأما المتشددون فمعروفةٌ مواقِفُهم وحُجَجُهم، ‏فهم يستندون إلى بعض الآيات والأحاديث التى تنهى عن الغناء أو يفهمون ‏منها ذلك. وأما المبيحون فلا يبيحون هذا الفن دون ضوابط، بل لهم ‏شروطهم. وهم فى أثناء ذلك يحرصون على الرد على كل ما قاله الناهون ‏بالتفصيل. وسوف أكتفى هنا بآراء المجوِّزين، ومن خلال هذه الآراء ‏سنطلع على ماقاله الطرف الآخر. قال ابن حزم فى رسالة له صغيرة ‏اسمها: "رسالة الغناء الـمُلْهِي: أمباحٌ هو أم محظور؟": "أما بعد، أيدك الله ‏وإياي بتوفيقه، وأعاننا بلطفه على أداء حقوقه، فإنك رغبت أن أقدم لك ‏في الغناء الملهي: أمباح هو أم من المحظور؟ فقد وردتْ أحاديث بالمنع منه ‏وأحاديث بإباحته. وأنا أذكر الأحاديث المانعة وأنبّه على عللها، وأذكر ‏الأحاديث المبيحة له وأنبه على صحتها إن شاء الله، والله موفق ‏للصواب. ‏
فالأحاديث المانعة: 1-ما روى سعيد بن أبي رزين عن أخيه عن ‏ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن سابط عن النبي عليه السلام أنه ‏قال: إن الله حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها. 2-وروى ‏لاحق بن حسين بن عمر أن ابن أبي الورد المقدسي قال: ثنا أبو المرجى ‏ضرار بن علي بن عمير القاضي الجيلاني ثنا أحمد بن سعيد عن محمد بن ‏كثير الحمصي ثنا فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن الحنفية ‏عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله: إذا عملتْ أمتي خمس عشرة ‏خصلة حل بها البلاء: إذا كان المال دولاً، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، ‏وأطاع الرجل زوجته، وعَقَّ أمه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في ‏المساجد، وكان زعيم القوم أذلهم، وأُكْرِم الرجل مخافة شَرّه، ولبست الحرير ‏واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليتوقعوا عند ذلك ‏ريحًا حمراء ومسخًا وخسفًا. 3-وروى أبو عبيدة بن فضيل بن عياض ثنا ‏أبو سعيد مولى بني هاشم هو عبد الرحمن بن عبد الله انبا عبد الرحمن بن ‏العلاء عن محمد بن المهاجر عن كيسان مولى معاوية ثنا معاوية أن رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تِسْعٍ، وأنا أنهاكم عنهن: ألا إن منهن ‏الغناء والنوح والتصاوير والشعر والذهب وجلود السباع والخَزّ والحرير. ‏‏4-وروى سلام بن مسكين عن شيخٍ شهد ابن مسعود يقول: الغناء ينبت ‏النفاق في القلب. 5-وروى عبد الملك بن حبيب ثنا عبد العزيز الأُوَيْسِيّ ‏عن إسماعيل بن عيّاش عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: ‏سمعت رسول الله يقول: لا يحل تعليم المغنيات ولا شراؤهن ولا بيعهن ولا ‏اتخاذهن. وثمنهن حرام. وقد أنزل الله ذلك في كتابه: "ومِن الناس من ‏يشتري لَهْو الحديث ليُضِلّ عن سبيل الله بغير علم" (لقمان/ 6). والذي ‏نفسي بيده ما رفع رجلٌ عقيرته بالغناء إلا ارتدفه شيطانان يضربان ‏بأرجلهما صدره وظهره حتى يسكت. 6-وبه إلى عبد الملك بن حبيب ‏عن الأويسي عن عبد الله بن عمير بن حفص بن عاصم أن رسول الله ‏قال: إن المغني أُذُنه بيد شيطان يرعشه حتى يسكت. 7-وبه إلى عبد ‏الملك بن حبيب ثنى ابن معين عن موسى بن أعين عن القاسم عن أبي ‏أمامة أن رسول الله قال: إن الله حرم تعليم المغنيات وشراءهن وبيعهن ‏وأكل أثمانهن. 8-وذكر البخاري قال: قال هشام بن عمار ثنا صدقة بن ‏خالد ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثنا عطية بن قيس الكلابي ثنا عبد ‏الرحمن بن غنم الأشعري ثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه سمع النبي ‏عليه السلام يقول: ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحِرَ والحرير والخمر ‏والمعازف. 9-وروى ابن شعبان ثني ابراهيم بن عتمان بن سعيد ثني ‏أحمد بن الغمر بن أبي حماد بحمص ويزيد بن عبد الصمد قالا ثنا عبيد بن ‏هاشم الحلبي، هو أبو نعيم، ثنا عبد الله بن المبارك عن مالك عن محمد بن ‏المنكدر عن أنس قال: قال رسول الله: من جلس إلى قينة صُبَّ في أذنيه ‏الآنُكَ يوم القيامة. 10-وبه إلى ابن شعبان ثني عمي ثنا أبو عبد الله ‏الدوري ثنا عبيد الله القواريري ثنا عمران بن عبيد عن عطاء بن السائب ‏عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل: "ومن الناس من ‏يشتري لهو الحديث ليُضِلّ عن سبيل الله"، قال: الغناء. 11-وروى ابن ‏أبي شيبة أبو بكر ثنا زيد بن الحباب ثنا معاوية صالح عن حاتم بن حريث ‏عن ابن أبي مريم قال: دخل علينا عبد الرحمن بن غنم فقال: أنبأنا أبو ‏مالك الأشعري أنه سمع النبي عليه السلام يقول: يشرب ناس من أمتي الخمر ‏يسمونها بغير اسمها، تُضْرَب على رؤوسهم المعازف والقينات، يخسف الله ‏بهم الأرض. 12-وحديث فيه: أن الله تعالى نهى عن صوتين ملعونين: ‏صوت نائحة، وصوت مغنية. ‏
وكل هذا لا يصح منه شيء، وهي موضوعة: 1-أما حديث ‏عائشة رضي الله عنها ففيه سعيد بن أبي رزين عن أخيه، وكلاهما لا ‏يدري أحد مَنْ هما. 2-وأما حديث علي رضي الله عنه فجميع من فيه ‏إلى يحيى ابن سعيد لا يُدْرَى من هم. ويحيى بن سعيد لم يرو عن محمد ‏بن الحنفية كلمة ولا أدركه. 3-وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه ‏ففيه شيخ لم يُسَمَّ، ولا يعرفه أحد. 4-وأما حديث معاوية فإن فيه ‏كيسان، ولا يُدْرَى من هو، ومحمد بن مهاجر، وهو ضعيف. وفيه النهي ‏عن الشّعْر، وهم يبيحونه. 5، 6، 7-وأما أحاديث عبد الملك بن حبيب ‏فكلها هالكة. 8-فأما حديث أبي أمامة ففيه إسماعيل بن عياش، وهو ‏ضعيف، والقاسم، وهو مثله. 9-وأما حديث البخاري فلم يورده ‏البخاري مُسْنَدًا، وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار ثم إلى أبي عامر أو ‏إلى أبي مالك، ولا يُدْرَى أبو عامر هذا. 10-وأما أحاديث ابن شعبان ‏فهالكة. 9-وأما حديث أنس فبَلِيَّةٌ لأنه عن مجهولين، ولم يروه أحد قط ‏عن مالك من ثقات أصحابه، والثاني عن مكحول عن عائشة، ولم يلقها ‏قط ولا أدركها، وفيه أيضًا من لا يُعْرَف، وهو هاشم بن ناصح وعمر بن ‏موسى، وهو أيضًا منقطع. والثالث عن أبي عبد الله الدوري، ولا يُدْرَى ‏من هو. 11-وأما حديث ابن أبي شيبة ففيه معاوية بن صالح، وهو ‏ضعيف، ومالك ابن أبي مريم، ولا يُدْرَى من هو. 12-وأما النهي عن ‏صوتين فلا يُدْرَى من رواه. فسقط كل ما في هذا الباب جملة. 10-وأما ‏تفسير قول الله تعالى: "ومِنَ الناس مَنْ يشتري لَهْوَ الحديث" بأنه الغناء ‏فليس عن رسول الله، ولا ثبت عن أحد من أصحابه، وإنما هو قول بعض ‏المفسرين ممن لا يقوم بقوله حجة. وما كان هكذا فلا يجوز القول به. ثم لو ‏صح لما كان فيه متعلَّق لأن الله تعالى يقول: "ليُضِلّ عن سبيل الله"، وكل ‏شيء يُقْتَنَى ليُضَلّ به عن سبيل الله فهو إثم وحرام، ولو أنه شراء مصحف ‏أو تعليم قرآن، وبالله التوفيق.‏
فإذ لم يصح في هذا شيء أصلاً فقد قال تعالى "وقد فَصَّل لكم ما ‏حَرَّم عليكم" (الأنعام/ 119)، وقال تعالى "هو الذي خلق لكم ما في ‏الأرض جميعًا" (البقرة/ 29) وقال رسول الله من طريق سعد بن أبي ‏وقاص، وطريقه ثابتة، "إن من أعظم الناس جرمًا في الاسلام من سأل عن ‏شيء لم يحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته"، فصح أن كل شيء حرّمه تعالى قد ‏فصّله لنا، وما لم يفصّل لنا تحريمه فهو حلال. 1-وخرج مسلم بن الحجاج ‏قال ثني هارون بن سعيد الأيلي ثنا عبد الله بن وهب عمرو، وهو ابن ‏الحارث، أن ابن شهاب حدثه عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين، ‏أن أبا بكر دخل عليها، وعندها جاريتان تغنيان في أيام مِنًى وتضربان، ‏ورسول الله مُسَجًّى بثوبه، فنهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله عنه ‏فقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد. 2-وبه إلى عمرو بن الحارث أن ‏محمد بن عبد الرحمن حدثه عن عروة عن عائشة قال: دخل رسول الله ‏وعنده جاريتان تغنيان بغناء بُعَاث، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ‏فدخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله؟ فأقبل ‏عليه فقال: دعهما. فإن قيل إن أبا أسامة روى هذا الحديث عن هشام ‏بن عروة عن أبيه فقال فيه: "وليستا بمغنيتين"، قيل: قد قالت عائشة: ‏‏"تغنيان"، فأثبتت الغناء لهما. فقولها: وليستا بمغنيتين، أي ليستا ‏بمحسنتين. وقد سمع رسول الله قول أبي بكر: "مزمار الشيطان؟"، فأنكر ‏عليه، ولم ينكر على الجاريتين غناءهما. وهذا هو الحجة التي لا يسع أحدا ‏خلافُها، ولا يزال التسليم لها. 3-وروى أبو داود السجستاني ثنا أحمد ‏بن عبيد العداني ثنا الوليد بن مسلم ثنا سعيد بن عبد العزيز ثنا سليمان ‏بن موسى عن نافع قال: سمع ابن عمر مزمارًا فوضع إصبعيه في أذنيه ونأى ‏عن الطريق، وقال: يا نافع، هل تسمع شيئًا؟ قال: لا. فرفع إصبعيه ‏وقال: كنت مع رسول الله فسمع مثل هذا، فصنع مثل هذا. فلو كان ‏حرامًا ما أباح رسول الله لابن عمر سماعه، ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه، ‏ولكنه عليه السلام كره لنفسه كل شيء ليس من التقرب إلى الله كما كره ‏الأكل متكئًا، والتنشف بعد الغسل في ثوب يُعَدّ لذلك، والستر الموشى ‏على سدة عائشة وعلى باب فاطمة رضوان الله عليهما، وكما كره أشد ‏الكراهية عليه السلام أن يبيت عنده دينار أو درهم. وإنما بُعِث عليه ‏السلام منكرًا للمنكر وآمرًا بالمعروف. فلو كان ذلك حرامًا لما اقتصر عليه ‏السلام أن يسد أذنيه عنه دون أن يأمر بتركه وينهى عنه. فلم يفعل عليه ‏السلام شيئًا من ذلك بل أقره وتنزه عنه، فصح انه مباح وأن تركه أفضل ‏كسائر فضول الدنيا المباحة، ولا فرق. 4-وروى مسلم بن الحجاج قال ‏ثنا زهير بن حرب ثنا جرير ابن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال: ‏جاء حبشٌ يزفنون في المسجد في يوم عيد، فدعاني رسول الله فوضعت ‏رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي انصرفت عن ‏النظر به إليهم. 5-وروى سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن أبي إسحاق ‏السبيعي عن عامر بن سعد البجلي أن أبا مسعود البدري وقرظة بن كعب ‏وثابت بن زيد كانوا في العريش، وعندهم غناء، فقلت: هذا، وأنتم ‏أصحاب رسول الله؟ فقالوا: إنه رُخِّص لنا في الغناء في العرس، والبكاء ‏على الميت في غير نوح، إلا أن شعبة قال: "ثابت بن وديعة" مكان ثابت ‏بن زيد، ولم يذكر أبا مسعود. 6-وروى هشام بن زيد ثنا حسان عن ‏محمد بن سيرين قال: إن رجلاً قدم المدينة بجَوَارٍ، فنزل على ابن عمر، ‏وفيهم جارية تضرب، فجاء رجل فساومه فلم يَهْوَ منهن شيئًا. قال: انطلقْ ‏إلى رجل هو أمثل لك بيعًا من هذا. فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهن ‏عليه، فأمر جارية فقال: "خذي"، فأخذت حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر ‏إلى ذلك، فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان. فبايعه ‏ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني غُبِنْتُ بتسعمائة ‏درهم. فأتى ابن عمر مع الرجل إلى المشتري فقال له إنه غُبِن في تسعمائة ‏درهم، فإما أن تعطيها إياه وإما أن ترد عليه بيعه. فقال: بل نعطيها إياه. ‏فهذا عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد سمعا ‏الغناء بالعود. وإن كان ابن عمر كره ما ليس من الجِدّ فلم ينه عنه. وقد ‏سَفَر في بيع مغنية كما ترى، ولو كان حرامًا ما استجاز ذلك أصلاً.‏
فإن قال قائل: قال الله تعالى: "فماذا بَعْدَ الحقِّ إلا الضلال؟" ‏‏(يونس/ 32)، ففي أي ذلك يقع الغناء؟ قيل له: حيث يقع التروح في ‏البساتين وصباغ ألوان الثياب وكل ما هو من اللهو. قال رسول الله: "إنما ‏الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". فإذا نوى المرء بذلك ترويح ‏نفسه وإجمالها لتقوى على طاعة الله عز وجل فما أتى ضلالاً. وقد قال ‏أبو حنيفة: من سرق مزمارًا أو عودًا قُطِعَتْ يده، ومن كسرهما ضَمِنَهما. ‏فلا يحل تحريم شيء ولا إباحته إلا بنص من الله تعالى أو من رسوله عليه ‏السلام لأنه إخبار عن الله تعالى، ولا يجوز أن يخبر عنه تعالى إلا بالنص ‏الذي لا شك فيه. وقد قال رسول الله: "ومن كذب علي متعمّدًا فليتبوأ ‏مقعده من النار". قال أبو بكر عبد الباقي بن بريال الحجاري رضي الله ‏عنه: ولقد أخبرني بعض كبار أهل زمانه أنه قال: أخذتُ النسخة التي فيها ‏الأحاديث الواردة في ذم الغناء والمنع من بيع المغنيات وما ذكره فيها أبو ‏محمد رضي الله عنه، ونهضت بها إلى الإمام الفقيه أبي عمر بن عبد البر ‏ووقفته عليها أيامًا ورغّبته في أن يتأملها، فأقامت النسخة عنده أيامًا ثم ‏نهضتُ إليه فقلت: ما صنعتَ في النسخة؟ فقال: وجدتها فلم أجد ما ‏أزيد فيها وما أنقص".‏
ومن الفقهاء المعاصرين يقول الشيخ شلتوت، رحمه الله رحمة ‏واسعة، فى كتابه: "الفتاوى" (ط18/ دار الشروق/ 1424هـ- 2004م/ ‏‏355- 358) مع بعض التصرف: "الأصل الذي أرجو أن يُتنبَّه إليه في هذا ‏الشأن وأمثاله مما يختلفون في حِلِّهِ‏‎ ‎وحُرمته هو أن الله خلَق الإنسان بغريزة ‏يَميل بها إلى المستلَذّات والطيبات التي‎ ‎يَجِدُ لها أثرًا طيبًا في نفسه به يهدأ، ‏وبه يرتاح، وبه ينشط، وبه تسكن جوارحه. فتراه ينشرح بالمناظر الجميلة، ‏كالخُضرة المُنَسَّقَة والماء الصافي الذي تلعب أمواجه، والوجه الحسَن الذي ‏تنْبسط أساريرُه، وينشرح صدرُه بالروائح الزكيَّة التي تُحْدِث خِفَّةً في ‏الجسم والروح، وينشرح صدره بلَمْسِ النُّعومة التي لا خُشونة‎ ‎فيها، وينشرح ‏صدره بلذَّة المَعرفة في الكشف عن مجهول مَخْبُوءٍ، وتراه بعد هذا‎ ‎مَطبوعًا ‏على غريزة الحب لمُشتهيات الحياة وزينتها من النساء والبنين، والقناطير‎ ‎المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام‎ ‎والحرْث.‏
ولعلَّ قيام الإنسان بمُهمته في هذه الحياة ما كانت لِتَتِمَّ على‎ ‎الوجه ‏الذي لأجله خلَقه الله إلا إذا كان ذا عاطفة غريزية، تُوَجّهه نحو ‏المشتَهَيَات، وتلك المُتَع التي خلقها الله معه في الحياة، فيأخذ منها القَدْر ‏الذي يحتاجه وينفعه. ومن هنا قضت الحِكمة الإلهية أن يُخْلَق الإنسان ‏بتلك العاطفة، وصار من غير‎ ‎المعقول أن يَطْلُب الله منه، بعد أن خلَقه ‏هذا الـخَلْق، وأودع فيه لحِكمته السامية هذه العاطفة، نزْعَها أو إِمَاتتها أو ‏مكافحتها في أصلها، وبذلك لا يُمكن أن يكون من أهداف الشرائع ‏السماوية، في أيِّ مرحلة من مراحل الإنسانية، طلبُ القضاء على‏‎ ‎هذه ‏الغريزة الطبيعية التي لابد منها في هذه الحياة. نعم للشرائع‎ ‎السماوية بإِزاءِ ‏هذه العاطفة مَطلب آخر يتلخص في كبْح الجماح. ومعناه: مكافحة‎ ‎الغريزة ‏عن الحدِّ الذي ينسى به الإنسان واجباتِه، أو يُفْسِد عليه أخلاقه، أو ‏يَحُول‎ ‎بينه وبين أعمال هي له في الحياة ألْزمُ، وعليه أوجب.‏‎ ‎
ذلك هو‎ ‎موقفُ الشرائع السماوية مِن الغريزة. وهو موقف الاعتدال ‏والقَصْد لا موقف الإفْراط ولا مَوقف التفريط. هو موقف التنظيم لا ‏موقف الإماتة والانتزاع. هذا أصْلٌ يجب أن يُفْهَم، ويجب أن تُوزَن به ‏أهداف الشريعة السماوية. وقد أشار إليه‏‎ ‎القرآن في كثير من الجُزئيات ‏‏"ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ ولا‎ ‎تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ". "يا بَنِي آدمَ ‏خُذُوا زِينَتَكُمْ عندَ كُلِّ‎ ‎مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا". "واقْصِدْ فِي ‏مَشْيِكَ واغْضُضْ مِن صَوْتِكَ". وإذنْ فالشريعة تُوجِّه الإنسان في مُقتضيات ‏الغريزة‎ ‎إلى الحدِّ الوسَط، فهي لم تنزل لانتزاع غريزة حُبِّ المال. إنما نزلت ‏بتَعديلها على الوجه الذي لا جشَع فيه ولا إسراف. وهي لم تنزل لانتزاع ‏الغريزة في حُبِّ المناظر الطيبة ولا المسموعات المستلذة، وإنما نزلت ‏بتهذيبها وتعديلها على ما لا‎ ‎ضرر فيه ولا شر. وهي لم تنزل لانتزاع غريزة ‏الحُزْن، وإنما نزلت بتعديلها على الوجه الذي لا هلَع فيه ولا جزَع. وهكذا ‏وقفت الشريعة السماوية بالنسبة لسائر الغرائز. وقد كلَّف الله العقل، ‏الذي هو حُجته على عباده، بتنظيمها على‏‎ ‎الوجه الذي جاء به شرْعه ‏ودينه. فإذا مال الإنسان إلى سماع الصوت الحسن أو النغم المستلذ من ‏حيوان أو إنسان أو آلة كيفما كانت أو مالَ إلى تعلُّم شيء من ذلك فقد ‏أدَّى للعاطفة حقَّها. وإذا ما وقف بها مع هذا عند الحدِّ الذي لا يصرفه ‏عن‎ ‎الواجبات الدينية أو الأخلاق الكريمة أو المكانة التي تتَّفِق ومركزه كان ‏بذلك مُنظمًا لغريزته، سائرًا بها في الطريق السوي، وكان مَرْضِيًّا عند الله ‏وعند‎ ‎الناس. بهذا البيان يتَّضِح أن موقف الشاب في تعلُّم الموسيقى، مع‏‎ ‎حرصه الشديد على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها وعلى أعماله ‏المكلف بها، موقف (كما قلنا) نابعٌ من الغريزة التي حكَمها العقل بشرع الله ‏وحكمه، فنزلت على إرادت. وهذا هو أسمى ما تطلبه الشرائع السماوية ‏من الناس في هذه‎ ‎الحياة.‏
ولقد كنتُ أرى أن هذا القدْر كافٍ في معرفة حكم الشرع في ‏الموسيقى وفي سائر ما يُحب الإنسان ويهوَى بمقتضى غريزته لولا أن كثيرًا ‏من الناس لا يكتفون، بل ربما لا يؤمنون بهذا النوع من التوجيه في معرفة ‏الحلال والحرام، وإنما يقنعهم عرض ما قيل في الكتب‏‎ ‎وأُثِر عن الفقهاء. ‏وإذا كان ولا بد فليعلموا أن الفقهاء اتفقوا على إباحة‎ ‎السماع في إثارة ‏الشوق إلى الحج، وفي تحريض الغُزَاة على القتال، وفي مناسبات السرور ‏المألوفة كالعيد والعُرْس وقدوم الغائب وما إليها. ورأيناهم فيما وراء ذلك ‏على‎ ‎رأيينِ: يُقَرّر أحدهما الحُرْمة، ويستند إلى أحاديث وآثار. ويُقرر ‏الآخر الحِلّ، ويستند كذلك إلى أحاديث وآثار. وكان من قول القائلين ‏بالحِلِّ: "إنه‎ ‎ليس في كتاب الله ولا سُنة رسوله ولا في معقولهما من القياس ‏والاستدلال ما يقتضي تحريم مُجَرَّد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة ‏من الآلات". وقد تعقَّبوا جميع أدلة القائلين بالحُرمة، وقالوا: إنه لم يصحَّ منها‎ ‎شيء.‏
وقد قرأت في هذا الموضوع لأحد فقهاء القرن الحادي عشر ‏المعروفين بالورَع والتقوى رسالة هي: "إيضاح‎ ‎الدلالات في سماع الآلات" ‏للشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي قرر فيها أن الأحاديث‎ ‎التي استدل بها ‏القائلون بالتحريم، على فرض صحتها، مُقَيَّدة بذِكْر الملاهي وبذكر‎ ‎الخمر ‏والقيْنات والفسوق والفجور، ولا يكاد حديث يخلو من ذلك. وعليه كان ‏الحُكْم‎ ‎عنده في سماع الأصوات والآلات المُطرِبة أنه إذا اقترن بشيء من ‏المُحرَّمات، أو‎ ‎اتُّخذ وسيلةً للمُحرَّمات، أو أَوْقعَ في المحرمات كان حرامًا، ‏وأنه إذا سلِم من كل‎ ‎ذلك كان مباحًا في حضوره وسماعه وتعلُّمه. وقد ‏نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن كثير من الصحابة والتابعين ‏والأئمة والفقهاء، أنهم كانوا يسمعون ويحضرون‏‎ ‎مجالس السماع البريئة من ‏المجون والـمُحَرَّم. وذهب إلى مثل هذا كثير من الفقهاء. وهو‏‎ ‎يُوافق تمامًا ‏في المغزى والنتيجة الأصل الذي قرَّرناهُ في موقف الشريعة بالنسبة‎ ‎للغرائز ‏الطبيعية.‏
وإذن فسماع الآلات ذات النغمات أو الأصوات الجميلة لا يُمكن أن ‏يحرم باعتباره صوت آلة أو صوت إنسان أو صوت حيوان. وإنما يُحَرَّم إذا‎ ‎استُعِين به على محرَّم أو اتُّخِذ وسيلةً إلى محرَّم أو ألْهَى عن‎ ‎واجب. ‏وهكذا يجب أن يعلم الناس حُكْم الله في مثل هذه الشؤون. ونرجو بعد ‏ذلك ألا نسمع القول يُلْقَى جزافًا في التحليل والتحريم، فإن تحريم ما لم ‏يُحَرّمه الله أو تحليل ما حرَّمه الله كلاهما افتراءٌ وقوْلٌ على الله بغير علم: ‏‏"قُلْ‎ ‎إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإثْمَ‎ ‎والبَغْيَ بِغَيْرِ ‏الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا باللهِ مَا لمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلطَانًا وأنْ تَقُولُوا علَى اللهِ ما لا ‏تَعْلَمُونَ" (الآية 33 من سورة‏‎ ‎الأعراف)".‏
ومن الفقهاء المعاصرين كذلك د. القرضاوى، الذى عالج هذه ‏المسألة فى كتابه: "الإسلام والفن"، والذى ننقل كلامه هنا أيضا بشىء من ‏التصرف. قال: "ما حكم الإسلام في الغناء والموسيقي؟ سؤالٌ يتردد على ‏ألسنة كثيرين في مجالات مختلفة وأحيان شتى، سؤالٌ اختلف جمهور ‏المسلمين اليوم في الإجابة عليه، واختلف سلوكهم تبعًا لاختلاف أجوبتهم: ‏فمنهم من يفتح أذنية لكل نوع من أنواع الغناء ولكل لون من ألوان الموسيقي ‏مدعيًا أن ذلك حلال طيب من طيبات الحياة أباح الله لعباده. ومنهم من ‏يغلق الراديو أو يغلق أذنيه عند سماع أية أغنية قائلا: إن الغناء مزمار ‏الشيطان ولهو الحديث، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة‌، وخاصة‌ إذا كان ‏المغني امرأة. فالمرأة عندهم صوتها عورة بغير الغناء، فكيف بالغناء؟ ‏ويستدلون لذلك بآيات وأحاديث وأقوال. ومن هؤلاء من يرفض أي نوع من ‏أنواع الموسيقى حتى المصاحِبة لمقدمات نشرات الأخبار. ووقف فريق ‏ثالث مترددًا بين الفريقين: ينحاز إلى هؤلاء تارة،‌ وإلى أولئك طورًا، ينتظر ‏القول الفصل والجواب الشافي من علماء الإسلام في هذا الموضوع الخطير ‏الذي يتعلق بعواطف الناس وحياتهم اليومية، وخصوصًا بعد أن دخلت ‏الإذاعة: المسموعة والمرئية على الناس بيوتهم بِجِدّها وهَزْلها، وجذبت ‏إليها أسماعهم بأغانيها وموسيقاها طوعًا وكرهًا.‏
والغناء‌ بآلة، أي مع الموسيقى، وبغير آلةٍ مسألةٌ ثار فيها الجدل ‏والكلام بين علماء الإسلام منذ العصور الأولى، فاتفقوا في مواضع واختلفوا ‏في أخرى: اتفقوا على تحريم كل غناء يشتمل على فحش أو فسق أو ‏تحريض على معصية، إذ الغناء ليس إلا كلامًا: فحَسَنُه حَسَنٌ، وقبيحه ‏قبيح. وكل قول يشتمل على فحشٍ حرامٌ، فما بالك إذ اجتمع له الوزن ‏والنغم والتأثير؟ واتفقوا على إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري ‏الخالي من الآلات و الإثارة، وذلك في مواطن السرور المشروعة كالعرس ‏وقدوم الغائب وأيام الأعياد ونحوها بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة ‏أجانب منها. وقد وردت في ذلك نصوص صريحة سنذكرها فيما بعد. ‏واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافًا بيّنًا: فمنهم من أجاز كل غناء بآلة وبغير ‏آلة، ومنهم من منعه منعًا باتًّا بآلة وبغير آلة‌، وعده حرامًا، بل ربما ارتقي ‏به إلى درجة "الكبيرة". ولأهمية الموضوع نرى لزامًا علينا أن نفصل فيه ‏بعض التفصيل، ونلقي عليه أضواء كاشفة لجوانبه المختلفة حتى يتبين ‏المسلم الحلال فيه من الحرام، مُتّبِعًا للدليل الناصع، لا مقلدًا قول قائل. ‏وبذلك يكون على بينة من أمره، وبصيرة من دينه.‏
قرر علماء الإسلام أن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله تعالى: "هوَ ‏الَذِي خَلَقَ لَكم مَا فِي الأَرُضِ جَمِيعًا"، و لا تحريم إلا بنص صحيح صريح ‏من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلي الله عليه و آله و سلم، أو إجماع ‏ثابت متيقن. فإذا لم يرد نص ولا إجماع، أو ورد نص صريح غير صحيح، ‏أو صحيح غير صريح، بتحريم شيء من الأشياء لم يؤثر ذلك في حله، ‏وبقي في دائرة العفو الواسعة. قال تعالى: "وَقَدُ فَصَلَ لَكم مَا حُرَِّمَ عَلَيْكُمُ ‏إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتمُ إِلَيْهِ". وقال رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم: "ما ‏أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو ‏عفو. فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا"، وتلا: "وَ مَا ‏كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا". وقال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحَدَّ ‏حدودًا فلا تَعْتَدُوها، وسكت عن أشياءَ رحمةً بكم غير نسيان فلا ‏تبحثوا عنها". وإذ كانت هذه هي القاعدة، فما هي النصوص و الأدلة ‏التي استند إليها القائلون بتحريم الغناء؟ وما موقف المجيزين منها؟ ‏
استدل المحرِّمون بما رُوِيَ عن ابن مسعود وابن عباس وبعض ‏التابعين: أنهم حرموا الغناء محتجين بقول الله تعالى: "وَمِنَ النَاسِ مَن يَشُتَرِي ‏لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الَلهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهمُ ‏عَذَاب مهِين"ـ وفسروا لهو الحديث بـ"الغناء". قال ابن حزم: "ولا حجة ‏في هذا لوجوه: أحدها أنه لا حجة لأحد دون رسول الله صلي الله عليه ‏و آله وسلم. والثاني أنه قد خالف غيرهم من الصاحبة والتابعين. ‏والثالث أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها لأن فيها: "وَمِنَ النَاسِ مَن ‏يَشْتَرِي لَهْوَ الُحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا". ‏وهذه صفةٌ مَنْ فَعَلها كان كافرًا بلا خلاف، إذ اتخذ سبيل الله هزوًا. ‏قال: "ولو أن امرءًا اشترى مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذه هزوًا ‏لكان كافرًا! فهذا هو الذي ذم اللهُ تعالى، وما ذَمَّ قَطُّ عز و جل مَنْ ‏اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروّح نفسه لا ليضل عن سبيل الله تعالى. ‏فبطل تعلقهم بقول هؤلاء. وكذلك من اشتغل عامدًا عن الصلاة بقراءة ‏القرآن أو بقراءة السنن أو بحديث يتحدث به أو بغناء أو بغير ذلك فهو ‏فاسقٌ عاصٍ لله تعال. ومن لم يضيع شيئًا من الفرائض اشتغالا بما ذكرنا ‏فهو محسن".‏
واستدلوا بقوله تعالى في مدح المؤمنين: "وَإِذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أَعْرَضُوا ‏عَنُه"، والغناء من اللغو، فوجب الإعراض عنه. ويجاب بأن الظاهر من ‏الآية أن اللغو سفه القول من السب والشتم ونحو ذلك، وبقية الآية تنطق ‏بذلك. قال تعالى: "وَ إِذَا سَمِعوُاُ اللَغْوَ أَعْرَضُوا عَنْه وَقَالُوا لَنا أَعُمَالنَا ‏وَلَكمُ أَعُمَالَكمُ سَلامٌ عَلَيْكُم لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِيُنَ". فهي شبيهة بقوله تعالى ‏في وصف عباد الرحمن: "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا: سَلامًا". ولو ‏سلّمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا الآية تستحب الإعراض عن ‏سماعه، ‌وليس فيها ما يوجب ذلك. وكلمة "اللغو"، ككلمة "الباطل"، تعني ‏ما لا فائدة فيه. وسماعُ ما لا فائدة فيه ليس محرّمًا ما لم يضيّع حقا أو ‏يشغل عن واجب. رُوِيَ عن ابن جريج أنه كان يرخِّص في السماع، فقيل ‏له: أيؤتى به يوم القيمة في جملة حسناتك أو سيئاتك؟ فقال: لا في ‏الحسنات ولا في السيئات لأنه شبيه باللغو. قال تعالى: "لا يُؤَاخِذُكم الله ‏بِالَلغْو ِفِي أَيْمَانِكمْ".قال الإمام الغزالي: "إذا كان ذكر اسم الله تعالى على ‏الشيء على طريق القَسَم من غير عقد عليه ولا تصميم، والمخالفة فيه، ‏مع أنه لا فائدة فيه، لا يؤاخَذ به، فكيف يؤاخَذ بالشعر والرقص؟".‏
على أننا نقول: ليس كل غناءٍ لغوًا. إنه يأخذ حكمه وفق نية ‏صاحبه: فالنية الصالحة تحيل اللهو قربة، والمزح طاعة. والنية الخبيثة ‏تحبط العمل الذي ظاهره العبادة، وباطنه الرياء: "إن الله لا ينظر إلى ‏صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". و ننقل هنا كلمة ‏جيدة قالها ابن حزم في "المحلَّى" ردا على الذين يمنعون الغناء. قال: ‏‏"احتجوا فقالوا: من الحق الغناء أم من غير الحق؟ ولا سبيل إلى قسم ‏ثالث.‌ وقد قال الله تعالى: "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلاَلُ؟". فجوابنا، ‏وبالله التوفيق، أن رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم قال: "إنما ‏الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى". فمن نوى باستماع الغناء ‏ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك ‏على البر، فهو مطيع محسن، وفِعْله هذا من الحق. ومن لم ينو طاعة ولا ‏معصية فهو لغوٌ معفوٌّ عنه كخروج الإنسان إلى بستانه، وقعوده على باب ‏داره متفرجًا، وصبغه ثوبه لا زورديًّا أو أخضر أو غير ذلك، ومدّ ساقه ‏وقبضها، وسائر أفعاله.‏
واستدلوا بحديث "كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة: ملاعبة ‏الرجل أهله، و تأديبه فرسه، و رميه عن قوسه"، والغناء خارج عن هذه ‏الثلاثة. وأجاب المجوِّزون بضعف الحديث، ولو صح لما كان فيه حجة، ‏فإن قوله: "فهو باطل" لا يدل على التحريم، بل يدل على عدم الفائدة. ‏فقد ورد عن أبي الدرداء قوله: "إني لأستجمّ نفسي بالشيء من الباطل ‏ليكون أقوى لها على الحق". على أن الحصر في الثلاثة غير مراد، فإن ‏التلهي بالنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في المسجد النبوي خارج عن تلك ‏الأمور الثلاثة، وقد ثبت في الصحيح. ولا شك أن التفرج في البساتين ‏وسماع أصوات الطيور، وأنواع المداعبات مما يلهو به الرجل، لا يحرم عليه ‏شيء منها، وإن جاز و صفه بأنه باطل.‏
واستدلوا بالحديث الذي رواه البخاري معلقًا عن أبي مالك أو أبي ‏عامر الأشعري (شكٌّ من الراوي) عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: ‏‏"ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف". والمعازف: ‏الملاهي أو آلات العزف. والحديث، وإن كان في صحيح البخاري، إلا أنه ‏من "المعلَّقات" لا من "المسندات المتصلة".‌ ولذلك رده ابن حزم لانقطاع ‏سنده. ومع التعليق فقد قالوا: إن سنده ومتنه لم يسلما من الاضطراب. ‏وقد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحديث، ووصله بالفعل من تسعة ‏طرق، ولكنها جميعًا تدور على راوٍ تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد، ألا ‏وهو هشام بن عمار. وهو، وإن كان خطيب دمشق ومقرئها ومحدِّثها ‏وعالمها، ووثَّقه ابن معين و العجلي، فقد قال عنه أبو داود: حدَّث ‏بأربعمائة حديث لا أصل لها. وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقد تغير. فكان ‏كل ما دُفِع إليه قرأه،‌ وكل ما لُقِّنَه تلقَّن. وكذلك قال ابن سيار. وقال ‏الإمام أحمد: طياش خفيف. وقال النسائي: لا بأس به (وهذا ليس ‏بتوثيق مطلق). ورغم دفاع الحافظ الذهبي عنه قال: صدوقٌ مُكْثِرٌ له ما ‏يُنْكَر. وأنكروا عليه أنه لم يكن يحدّث إلا بأجر! ومثل هذا لا يُقْبَل ‏حديثه في مواطن النزاع، وخصوصًا في أمر عمت به البلوى. ورغم ما في ‏ثبوته من الكلام ‌ففي دلالة كلام آخر، فكلمة "المعازف" لم يُتَّفَق على ‏معناها بالتحديد: ما هو؟ فقد قيل: الملاهي، وهذه مجملة. وقيل: آلات ‏العزف. ولو سلّمنا بأن معناها آلات الطرب المعروفة‌ بآلات الموسيقى، ‏فلفظ الحديث المعلّق في البخاري غير صحيح في إفادة حرمة "المعازف" ‏لأن عبارة "يستحلون"، كما ذكر ابن العربي، لها معنيان: أحدهما يعتقدون ‏أن ذلك حلال، والثاني أن تكون مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك ‏الأمور، إذ لو كان المقصود بالاستحلال المعني الحقيقي لكان كفرًا، فإن ‏استحلال الحرام المقطوع به، مثل الخمر والزنى المعبر عنه بـ"الحِرِ"، كفر ‏بالإجمال.‏
ولو سَلَّمْنا بدلالتها على الحرمة، فهل يستفاد منها تحريم المجموع ‏المذكور من الحِرِ والحرير والخمر والمعازف، أو كل فرد منها على حدة؟ ‏والأول هو الراجح. فإن الحديث في الواقع ينعى على أخلاق طائفة من ‏الناس انغمسوا في الترف والليالي الحمراء وشرب الخمور، فهم بين خمر ‏ونساء، ولهو وغناء، وخَزٍّ و حرير. ولذا روى ابن ماجه هذا الحديث ‏عن أبي مالك الأشعري باللفظ: "ليشربنّ أناسٌ من أمتي الخمر يسمّونها بغير ‏اسمها، يُعْزَف على رؤوسهم بالمعازف و المغنيات، يخسف الله بهم ‏الأرض، ويجعل منهم القردة و الخنازير".‌ وكذلك رواه ابن حبان في ‏‏"صحيحه"، والبخاري في "تاريخه". وكل من روى الحديث من طريق غير ‏هشام بن عمار جعل الوعيد على شرب الخمر، وما المعازف إلا مكملة ‏وتابعة.‏
واستدلوا بحديث عائشة: "إن الله تعالى حرّم القينة (أي الجارية) ‏وبيعها وثمنها ‌وتعليمه". والجواب عن ذلك: أولا أن الحديث ضعيف، وكل ‏ما جاء في تحريم بيع القيان ضعيف. ثانيًا، قال الغزالي: "المراد بالقينة ‏الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشرب. وغناء‌ الأجنبية للفسّاق ومن ‏يُخَاف عليهم الفتنة حرام.‌ وهم لا يقصدون بالفتنة إلا ما هو محذور. ‏فأما غناء الجارية لمالكها فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث. بل لغير مالكها ‏سماعها عند عدم الفتنة بدليل ما رُوِيَ في الصحيحين من غناء الجاريتين في ‏بيت عائشة رضي الله تعالى عنها، وسيأتي. ثالثًا، كان هؤلاء‌ القيان ‏المغنيات يُكَوِّنَّ عنصرًا هامًّا من نظام الرقيق، الذي جاء الإسلام بتصفيته ‏تدريجيًا، فلم يكن يتفق وهذه الحكمة إقرار بقاء هذه الطبقة في المجتمع ‏الإسلامي. فإذا جاء حديث بالنعي على امتلاك "القينة " وبيعها والمنع ‏منه، فذلك لهدم ركن من بناء "نظام الرق" العتيد.‏
واستدلوا بما روى نافع: أن ابن عمر سمع صوت زمارة‌ راعٍ فوضع ‏أصبعيه في أذنيه ‌وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع، أتسمع؟ ‏فأقول: "نعم"، فيمضي حتى قلت: "لا"، فرفع يده وعدل راحلته إلى ‏الطريق،‌ وقال: "رأيت رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم يسمع زمارة ‏راعٍ فصنع مثل هذا". والحديث قال عنه أبو داود: حديثٌ مُنْكَرٌ. ولو ‏صح لكان حجة على المحرِّمين لا لهم، فلو كان سماع المزمار حرامًا ما أباح ‏النبي صلي الله عليه و آله وسلم لا بن عمر سماعه، ولو كان عند ابن عمر ‏حرامًا ما أباح لنافعٍ سماعه ولأَمَرَ عليه السلام بمنع وتغيير هذا المنكر. ‏فإقرار النبي صلي الله عليه وآله وسلم لابن عمر دليل على أنه من الحلال. ‏وإنما تجنب عليه السلام سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا، كتجنبه ‏الأكل متكئًا،‌ وأن يبيت عنده دينار أو درهم... إلخ.‏
واستدلوا أيضًا بما روي: "إن الغناء يُنْبِت النفاق في القلب". ولم ‏يثبت هذا حديثًا عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، و إنما ثبت قولا ‏لبعض الصحابة أو التابعين، فهو رأي لغير معصوم خالفه فيه غيره. فمن ‏الناس من قال، وبخاصة الصوفية: إن الغناء يرقق القلب، ويبعث الحزن ‏والندم علي المعصية،‌ ويهيج الشوق إلى الله تعالى. ولهذا اتخذوه وسيلة‌ ‏لتجديد نفوسهم، وتنشيط عزائمهم، وإثارة أشوقهم. قالوا: وهذا أمر لا ‏يُعْرَف إلا بالذوق والتجربة والممارسة. ومن ذاق عرف، وليس الخبر ‏كالعِيَان! على أن الإمام الغزالي جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمغنى لا ‏للسامع، إذ كان غرض المغنى أن يعرض نفسه على غيره ويروج صوته ‏عليه، ولا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه. ومع هذا قال ‏الغزالي: وذلك لا يوجب تحريما، فإن لبس الثياب الجميلة، وركوب الخيل ‏المهملجة، وسائر أنواع الزينة، والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك، ‏ينبت النفاق في القلب، ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله. فليس السبب في ‏ظهور النفاق في القلب المعاصي فقط، بل المباحات التي هي مواقع نظر ‏الخلق أكثر تأثيرا.‏
واستدلوا على تحريم غناء المرأة خاصة بما شاع عند الناس من أن ‏صوت المرأة عورة. وليس هناك دليل ولا شبه دليل من دين الله على أن ‏صوت المرأة عورة. وقد كان النساء يسألن رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم في ملإ من أصحابه، وكان الصحابة يذهبون إلى أمهات المؤمنين ‏ويستفتونهن ويفتينهم ويحدثنهم، ولم يقل أحد إن هذا من عائشة أو غيرها ‏كشفٌ لعورةٍ يجب أن تُسْتَر. فإن قالوا: هذا في الحديث العاديّ لا في ‏الغناء، قلنا: روى "الصحيحان" أن النبي سمع غناء الجاريتين ولم ينكر ‏عليهما، وقال لأبي بكر: دعهما. وقد سمع ابن جعفر وغيره من الصحابة ‏والتابعين الجواري يغنين.‏
تلك هي أدلة المحرّمين، وقد سقطت واحدا بعد الآخر، ولم يقف ‏دليل منها على قدميه. وإذا انتفت أدلة التحريم بقى حكم الغناء على ‏أصل الإباحة بلا شك، ولو لم يكن معنا نص أو دليل واحد على ذلك غير ‏سقوط أدلة التحريم، فكيف ومعنا نصوص الإسلام الصحيحة الصريحة، ‏وروحه السمحة، وقواعده العامة، ومبادئه الكلية؟ وهاك بيانها: أولا من ‏حيث النصوص: استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة منها حديث ‏غناء الجاريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة، وانتهار ‏أبي بكر لهما، وقوله: "مزمور الشيطان في بيت النبي صلى الله عليه ‏وسلم؟". وهذا يدل على أنهما لم تكونا صغيرتين كما زعم بعضهم، فلو ‏صح ذلك لم تستحقا غضب أبي بكر إلى هذا الحد. والمعوَّل عليه هنا هو ‏رد النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضى الله عنه وتعليله أنه ‏يريد أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة، وأنه بُعِث بحنيفيةٍ سمحة. وهو ‏يدل على وجوب رعاية تحسين صورة الإسلام لدى الآخرين، وإظهار ‏جانب اليسر والسماحة فيه. وقد روى البخاري وأحمد عن عائشة أنها ‏زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ‏عائشة، ما كان معهم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو". وروى النسائي ‏والحاكم، وصححه عن عامر بن سعد، قال: دخلتُ على قرظة بن كعب ‏وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوارٍ يغنين. فقلت: أيْ صاحَبْى ‏رسول الله أهلَ بدر، يُفْعَل هذا عندكم؟ فقالا: اجلس. إن شئت ‏فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رُخِّص لنا اللهو عند العرس. ‏وروى ابن حزم بسنده عن ابن سيرين أن رجلا قدم المدينة بجَوَارٍ، فأتى ‏عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فغنت، وابن عمر ‏يسمع، فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة. ثم جاء الرجل إلى ابن عمر ‏فقال: يا أبا عبد الرحمن، غُبِنْتُ بسبعمائة درهم! فأتى ابن عمر إلى عبد ‏الله بن جعفر فقال له: إنه غُبِن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما ‏أن ترد عليه بيعه. فقال: بل نعطيه إياها. قال ابن حزم: فهذا ابن عمر قد ‏سمع الغناء وسعى في بيع المغنية. وهذا إسناد صحيح لا تلك الأسانيد ‏الملفقة الموضوعة. واستدلوا بقوله تعالى: "وإذا رَأَوْا تجارةً أو لهوًا انفضُّوا ‏إليها وتركوك قائما. قل: ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير ‏الرازقين". فقرن اللهو بالتجارة، ولم يذمّهما إلا من حيث شُغْل الصحابة ‏بهما، بمناسبة قدوم القافلة وضرب الدفوف فرحا بها، عن خطبة النبي ‏صلى الله عليه وسلم وتَرْكه قائما. واستدلوا بما جاء عن عدد من ‏الصحابة رضي الله عنهم أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه، وهم القوم ‏يُقْتَدَى بهم فيُهْتَدَى. واستدلوا بما نقله غير واحد من الإجماع على إباحة ‏السماع كما سنذكره بعد. ‏
وثانيا من حيث روح الإسلام وقواعده: أ-لا شئ في الغناء إلا أنه ‏من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، وتستطيبها العقول، وتستحسنها ‏الفِطَر، وتشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن، كما أن الطعام الهنيء لذة المعدة، ‏والمنظر الجميل لذة العين، والرائحة الذكية لذة الشم... إلخ. فهل ‏الطيبات، أي المستلذات، حرام في الإسلام أم حلال؟ من المعروف أن الله ‏تعالى كان قد حرم على بني إسرائيل بعض طيبات الدنيا عقوبة لهم على ‏سوء ما صنعوا، كما قال تعالى: "فبِظُلْمٍ من الذين هادوا حرَّمْنا عليهم ‏طيباتٍ أُحِلَّتْ لهم وبِصَدِّهم عن سبيل الله كثيرا * وأَخْذِهم الربا وقد ‏نُهُوا عنه وأَكْلِهم أموالَ الناس بالباطل"، فلما بعث الله محمدا صلى الله ‏عليه وسلم جعل عنوان رسالته في كتب الأولين: "الذي يجدونه مكتوبا ‏عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلّ لهم ‏الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إِصْرَهم والأغلال التي كانت ‏عليهم". فلم يبق في الإسلام شئ طيب، أي تستطيبه الأنفس والعقول ‏السليمة، إلا أحله الله رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها وخلودها. قال ‏تعالى: "يسألونك: ماذا أُحِلَّ لهم؟ قل: أُحِلّ لكم الطيبات". ولم يبح الله ‏لواحد من الناس أن يحرم على نفسه أو على غيره شيئا من الطيبات مما ‏رزق الله مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه، فإن التحليل ‏والتحريم من حق الله وحده، وليس من شأن عباده. قال تعالى: "قل: ‏أرأيتم ما أنزل اللهُ لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا؟ قل: آلله أذن ‏لكم أم على الله تفترون؟"، وجعل سبحانه تحريم ما أحله من الطيبات ‏كإحلال ما حرّم من المنكرات، كلاهما يجلب سخط الله وعذابه، ويُرْدِى ‏صاحبه في هاوية الخسران المبين والضلال البعيد. قال جل شأنه يَنْعَى ‏على من فعل ذلك من أهل الجاهلية: "قد خَسِر الذين قتلوا أولادهم سَفَهًا ‏بغير علم وحرَّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله. قد ضلوا، وما كانوا ‏مهتدين".‏
ب-ولو تأملنا لوجدنا أن الغناء والطرب للصوت الحسن يكاد غريزة ‏إنسانية وفطرة بشرية حتى إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته ‏الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه. ‏ولذا تعودت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن ‏قديم. بل نقول: إن الطيور والبهائم تتأثر بحسن الصوت والنغمات الموزونة ‏حتى قال الغزالي في الإحياء: "من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن ‏الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجِمَال ‏والطيور وجميع البهائم، إذ الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحُدَاء تأثرا يستخف ‏معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، ‏وينبعث فيه من النشاط ما يُسْكِره ويُوَلِّهه. فنرى الإبل إذا سمعت الحادي ‏تمد أعناقها، وتصغي إليه ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها حتى تتزعزع ‏عليها أحمالها ومحاملها". وإذا كان حب الغناء غريزة وفطرة، فهل جاء ‏الدين لمحاربة الغرائز والفطر والتنكيل بها؟ كلا، إنما جاء لتهذيبها والسمو ‏بها وتوجيهها التوجيه القويم. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الأنبياء قد ‏بُعِثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها. ومصداق ذلك أن ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، ‏فقال: "ما هذان اليومان؟". قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال ‏عليه السلام: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم ‏الفطر". وقالت عائشة: "لقد رأيت النبي يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى ‏الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأمه، أي اللعب. فاقدروا ‏قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو". وإذا كان الغناء لهوا ولعبا ‏فليس اللهو واللعب حراما، فالإنسان لا صبر له على الجِدّ المطلق ‏والصرامة الدائمة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لحنظلة حين ظن نفسه ‏قد نافق لمداعبته زوجه وولده وتغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: "يا حنظلة، ساعة وساعة". وقال علي بن أبي ‏طالب: رَوِّحُوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا أُكْرِهَتْ ‏عَمِيَتْ. وقال كرم الله وجهه: إن القلوب تَمَلُّ كما تمل الأبدان، فابتغوا لها ‏طرائف الحكمة. وقال أبو الدرداء: إني لأستجمّ نفسي بالشيء من اللهو ‏ليكون أقوى لها على الحق. وقد أجاب الإمام الغزالي عمن قال: "إن ‏الغناء لهو ولعب" بقوله: هو كذلك، ولكن الدنيا كلها لهو ولعب... ‏وجميع المداعبة مع النساء لهو، إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد، ‏وكذلك المزح الذي لا فحش فيه، حلال. نُقِل عن ذلك عن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة.‏
تلك هي الأدلة المبيحة للغناء من نصوص الإسلام وقواعده، فيها ‏الكفاية كل الكفاية ولو لم يقل بموجبها قائل، ولم يذهب إلى ذلك فقيه. ‏فكيف، وقد قال بموجبها الكثيرون من صحابة وتابعين وأتباع وفقهاء؟ ‏وحسبنا أن أهل المدينة على ورعهم، والظاهرية على حَرْفِيّتهم وتمسكهم ‏بظواهر النصوص، والصوفية على تشددهم وأخذهم بالعزائم دون ‏الرُّخَص، رُوِيَ عنهم إباحة الغناء. قال الإمام الشوكانى في "نيل الأوطار": ‏‏"ذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة الصوفية إلى ‏الترخيص في الغناء ولو مع العود واليراع. وحكى الأستاذ أبو منصور ‏البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى ‏بالغناء بأسا، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره. وكان ‏ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور ‏مثل ذلك أيضا عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي ‏رباح والزهري والشعبي". وقال إمام الحرمين في "النهاية" وابن أبي الدنيا: ‏‏"نَقَل الأثباتُ من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جَوَارٍ عوَّادات، وأن ‏ابن عمر دخل إليه وإلى جنبه عود، فقال: ما هذا يا صاحب رسول ‏الله؟ فناوله إياه، فتأمله ابن عمر فقال: هذا ميزان شامي؟ قال ابن ‏الزبير: يوزن به العقول!". وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالة في ‏السماع بسنده إلى ابن سيرين قال: "إن رجلا قدم المدينة بجَوارٍ، فنزل على ‏ابن عمر، وفيهن جارية تضرب. فجاء رجل فساومه، فلم يَهْوَ فيهن شيئا. ‏قال: انطلقْ إلى رجل هو أمثل لك بيعًا من هذا. قال: من هو؟ قال: عبد ‏الله بن جعفر... فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فقال لها: خذي ‏العود، فأخذته، فغنت، فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر... إلخ القصة". ‏وروى صاحب "العِقْد" العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن ‏عمر دخل على ابن جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود، ثم قال ‏لابن عمر: هل ترى بذلك بأسا؟ قال: لا بأس بهذا. وحكى الماوردي ‏عن معاوية وعمرو بن العاص أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى أبو ‏الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء بالمِزْهَر ‏بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرّد نحو ذلك. والمزهر عند أهل ‏اللغة: العود. وذكر الأدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع جواريه قبل ‏الخلافة. ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاووس، ونقله ابن قتيبة ‏وصاحب "الإمتاع" عن قاضى المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ‏الزهري من التابعين. ونقله أبو يعلى الخليلي في "الإرشاد" عن عبد العزيز ‏بن سملة الماجشون مفتى المدينة. هؤلاء جميعا قالوا بتحليل السماع مع آلة ‏من الآلآت المعروفة، أي آلات موسيقى. وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال ‏الإدفوى في "الإمتاع": إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على ‏حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري ‏وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه، ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضا إجماع ‏أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخِّصون فيه في ‏أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة والذكر. وقال ابن النحوي في ‏‏"العمدة": وقد رُوِيَ الغناءُ وسماعُه عن جماعة من الصحابة والتابعين: ‏فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره، وعثمان كما نقله ‏الماوردي وصاحب "البيان" والرافعي، وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ‏ابن أبي شيبة، وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي، وسعد بن أبي ‏وقاص كما أخرجه بن قتيبة، وأبو مسعود الأنصاري كما أخرجه البيهقي، ‏وبلال وعبد الله بن الأرقم وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي أيضا، ‏وحمزة كما في "الصحيح"، وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر، والبراء بن ‏مالك كما أخرجه أبو نعيم، وعبد الله بن جعفر كما رواه ابن عبد البر، ‏وعبد الله بن الزبير كما نقل أبو طالب المكي، وحسان كما رواه أبو الفرج ‏الأصبهاني، وعبد الله بن عمرو كما رواه الزبير بن بكار، وقرظة بن كعب ‏كما رواه ابن قتيبة، وخَوّات بن جيبر ورباح المعترف كما أخرجه صاحب ‏‏"الأغاني"، والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي، وعمرو بن ‏العاص: حكاه الماوردي، وعائشة والرُّبيّع كما في "صحيح البخاري" ‏وغيره. وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر وابن ‏حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي ‏وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري ‏وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري. وأما تابعوهم فخَلْقٌ لا ‏يُحْصَوْن منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية". انتهى كلام ابن ‏النحوي. هذا كله ذكره الشوكاني في "نيل الأوطار".‏
ولا ننسى أن نضيف إلى هذه الفتوى قيودا لا بد من مراعاتها في ‏سماع الغناء: 1-فقد أشرنا في أول البحث إلى أنه ليس كل غناء مباحا، ‏فلا بد أن يكون موضوعه متفقا مع أدب الإسلام وتعاليمه. فالأغنية التي ‏تقول: "الدنيا سيجارة وكاس" مخالفة لتعاليم الإسلام، الذي يجعل الخمر ‏رجسا من عمل الشيطان، ويلعن شارب "الكاس" وعاصرها وبائعها ‏وحاملها وكل من أعان فيها بعمل. والتدخين أيضا آفة ليس وراءها إلا ‏ضرر الجسم والنفس والمال. والأغاني التي تمدح الظلمة والطغاة والفسقة ‏من الحكام الذين ابتليت بهم أمتنا مخالفة لتعاليم الإسلام، الذي يلعن الظالمين ‏وكل من يعينهم بل من يسكت عليهم، فكيف بمن يمجدهم؟ والأغنية التي ‏تمجد صاحب العيون الجريئة أو صاحبة العيون الجريئة أغنية تخالف أدب ‏الإسلام، الذي ينادي كتابه: "قل للمؤمنين يَغُضّوا من أبصارهم... وقل ‏للمؤمنات يَغْضُضْن من أبصارهن". ويقول صلى الله عليه وسلم: "يا عليّ، ‏لا تُتْبِع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة". 2-ثم إن ‏طريقة الأداء لها أهميتها، فقد يكون الموضوع لا بأس به ولا غبار عليه، ‏ولكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول وتعمد الإثارة ‏والقصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة وإغراء القلوب المريضة ينقل الأغنية من ‏دائرة الإباحة إلى دائرة الحرمة أو الشبهة أو الكراهة من مثل ما يذاع على ‏الناس ويطلبه المستمعون والمستمعات من الأغاني التي تلح على جانب ‏واحد هو جانب الغريزة الجنسية وما يتصل بها من الحب والغرام وإشعالها ‏بكل أساليب الإثارة والتهيج، وخصوصا لدى الشباب والشابات. إن ‏القرآن يخاطب نساء النبي فيقول: "فلا تَخْضَعْن بالقول فيطمعَ الذي في قلبه ‏مرض". فكيف إذا كان مع الخضوع في القول الوزن والنغم والتطريب ‏والتأثير؟ 3-ومن ناحية ثالثة يجب ألا يقترن الغناء بشيء محرم كشرب ‏الخمر أو التبرج أو الاختلاط الماجن بين الرجال والنساء بلا قيود ولا ‏حدود. وهذا هو المألوف في مجالس الغناء والطرب من قديم، وهي ‏الصورة الماثلة في الأذهان عندما يُذْكَر الغناء، وبخاصة غناء الجواري ‏والنساء. وهذا ما يدل عليه الحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره: ‏‏"ليشربنّ ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يُعْزَف على رؤوسهم ‏بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة ‏والخنازير". وأود أن أنبه هنا على قضية مهمة، وهي أن الاستماع إلى ‏الغناء في الأزمنة الماضية كان يقتضي حضور مجلس الغناء ومخالطة المغنين ‏والمغنيات وحواشيهم. وقلما كانت تسلم هذه المجالس من أشياء ينكرها ‏الشرع ويكرهها الدين. أما اليوم فيستطيع المرء أن يستمع إلى الأغاني وهو ‏بعيد عن أهلها ومجالسها. وهذا لا ريب عنصر مخفف في القضية، ويميل ‏بها إلى جانب الإذن والتيسير. 4-هذا إلى أن الإنسان ليس عاطفة ‏فحسب، والعاطفة ليست حبا فقط، والحب لا يختص بالمرأة وحدها، ‏والمرأة ليست جسدا وشهوة لا غير. لهذا يجب أن نقلّل من هذا السيل ‏الغامر من الأغاني العاطفية الغرامية وأن يكون لدينا من أغانينا وبرامجنا ‏وحياتنا كلها توزيع عادل، وموازنة مقسطة بين الدين والدنيا، وفي الدنيا بين ‏الحق الفرد وحقوق المجتمع، وفي الفرد بين عقله وعاطفته، وفي مجال العاطفة ‏بين عواطف الإنسانية كلها من حب وكره وغيرة وحماسة وأبوة وأمومة ‏وبنوة وأخوة وصداقة... إلخ، فلكل عاطفة حقها. أما الغلو والإسراف ‏والمبالغة في إبراز عاطفة خاصة فذلك على حساب العواطف الأخرى، ‏وعلى حساب عقل الفرد وروحه وإرادته، وعلى حساب المجتمع ‏وخصائصه ومقوماته، وعلى حساب الدين ومثله وتوجيهاته. إن الدين ‏حرّم الغُلُوّ والإسراف في كل شئ حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف في ‏اللهو وشغل الوقت به ولو كان مباحا؟ إن هذا دليل على فراغ العقل ‏والقلب من الواجبات الكبيرة والأهداف العظيمة، ودليل على إهدار ‏حقوق كثيرة كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود وعمره ‏القصير. وما أصدق وأعمق ما قال ابن المقفع: "ما رأيت إسرافا إلا ‏وبجانبه حق مضيَّع"! وفي الحديث: "لا يكون العاقل ظاعنا إلا لثلاث: ‏مَرَمَّة لمعاش، أو تزوُّد لمعاد، أو لذة في غير محرم". فلنقسم أوقاتنا بين هذه ‏الثلاثة بالقسط، ولنعلم أن الله سائل كل إنسان عن عمره فيم أفناه، وعن ‏شبابه فيم أبلاه؟ 5-وبعد هذا الإيضاح تبقى أشياء يكون كل مستمع فيها ‏فقيه نفسه ومفتيها. فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستشير غريزته، ‏ويغريه بالفتنة، ويسبح به في شطحات الخيال، ويطغى فيه الجانب الحيواني ‏على الجانب الروحاني، فعليه أن يتجنبه حينئذ، ويسد الباب الذي تهب ‏منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه فيستريح ويريح.‏
ونختم بحثنا هذا بكلمة أخيرة نوجهها إلى السادة العلماء الذين ‏يستخفّون بكلمة "حرام" ويطلقون لها العِنَان في فتاواهم إذا أَفْتَوْا، وفي ‏بحوثهم إذا كتبوا: عليهم أن يراقبوا الله في قولهم ويعلموا أن هذه الكلمة: ‏‏"حرام" كلمة خطيرة. إنها تعنى عقوبة الله على الفعل، وهذا أمر لا يُعْرَف ‏بالتخمين ولا بموافقة المزاج، ولا بالأحاديث الضعيفة، ولا بمجرد النص عليه ‏في كتاب قديم. إنما يعرف من نص ثابت صريح أو إجماع معتبر صحيح، ‏وإلا فدائرة العفو والإباحة واسعة، ولهم في السلف الصالح أسوة حسنة. ‏قال الإمام مالك رضي الله عنه: "ما شيءٌ أشدَّ علىّ من أن أُسْأَل عن ‏مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع في حكم الله. ولقد أدركت ‏أهل العلم والفقه ببلدنا، وإن أحدهم إذا سُئِل عن مسألة كأن الموت ‏أشرف عليه. ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا، ولو وقفوا ‏على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا. وإن عمر بن الخطاب وعليًّا ‏وعامة خيار الصحابة كانت تَرِدُ عليهم المسائل، وهم خير القرون الذين ‏بُعِث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى ‏الله عليه وسلم ويسألون، ثم حينئذ يفتون فيها. وأهل زماننا هذا قد ‏صار فخرهم، فبقدر ذلك يُفْتَح لهم من العلم. قال: ولم يكن من أمر الناس ‏ولا من مضى من سلفنا الذين يُقْتَدَى بهم ومُعَوَّل الإسلام عليهم أن يقولوا: ‏هذا حلال، وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا، وأرى كذا. وأما ‏‏"حلال" و"حرام" فهذا الافتراء على الله. أما سمعتَ قول الله تعالى: "قل ‏أرأيتم ما أنزل اللهُ لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا؟ قل آللهُ أَذِنَ ‏لكم أم على الله تفترون؟"؟ لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما ‏حرماه. وقال الله تعالى: ولا تقولوا لما تَصِفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ ‏وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذب. إن الذين يفترون على الله الكذب لا ‏يفلحون".‏
هذا فى الغناء، أما بالنسبة إلى التصوير فإلى القارئ أولا هذه ‏الأحاديث النبوية المشرفة بشأنه وحكمه فى الإسلام: "لا تدخل الملائكة ‏بيتا فيه صورة. قال بُسْر: فمرض زيد بن خالد، فعدناه، فإذا نحن في بيته ‏بسِتْرٍ فيه تصاوير. فقلت لعبيد الله الخولاني: ألم يحدّثنا في التصاوير؟ قال: ‏إنه قال: إلا رَقْمًا في ثوب. ألم تسمعه؟ قلت: لا. قال: بلى، قد ذكر ‏ذلك".‏
‏"كنت عند ابن عباس إذ أتاه رجل فقال: إني إنسان إنما معيشتي ‏من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. قال ابن عباس: لا أحدثك إلا ‏ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. سمعت رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم يقول: مَنْ صَوَّر صورةً فإن الله عز وجل يعذبه يوم القيامة حتى ‏ينفخ فيها، وليس بنافخ فيها أبدا. قال: فرَبَا لها الرجل ربوةً شديدةً ‏واصفرّ وجهه. قال: ويحك! إنْ أَبَيْتَ إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر ‏وكل شيء ليس فيه روح".‏
‏"(عن صفية بنت شيبةنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏بَلَّ ثوبا وهو في الكعبة، ثم جعل يضرب التصاوير التي فيها".‏
‏"أخبرني أبو طلحة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ‏قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة". يريد صورة التماثيل ‏التي فيها الأرواح".‏
‏"(عن جابرنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ‏وفي البيت (أو حول البيت) ثلاثمائة وستون صنما تُعْبَد من دون الله تعالى، ‏فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُكِبَّتْ لوجهها، ثم قال: "جاء ‏الحق، وزهق الباطل. إن الباطل كان زَهُوقا". ثم دخل رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم البيت فصلى فيه ركعتين، فرأى فيه تمثال إبراهيم ‏وإسماعيل وإسحاق، وقد جعلوا في يد إبراهيم الأزلام يستقسم بها، فقال ‏رسول الله: "قاتلهم الله! ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام". ثم دعا رسول ‏الله بزعفران فلطخه بتلك التماثيل".‏
‏"أشد الناس عذابا يوم القيامة رجلٌ قتل نبيا أو قتله نبي، أو رجل ‏يُضِلّ الناس بغير علم، أو مصور يصور التماثيل".‏
هذه بعض أحاديث نبوية فى التصوير يفهم من نصوصها أن هذا الفن ‏لا موضع له فى الإسلام. لكن للشيخ محمد عبده مقالا هاما بعنون ‏‏"الصور والتماثيل وفوائدها وحكمها" يناقش فيه التصوير والنحت والحكم ‏الدينى فيهما مستندا إلى التحليل العقلى، ومحاولا التعرف إلى ما وراء ‏النصوص الدينية من حكمة، جاء فيه: "إذا كنت تدرى السبب فى حفظ ‏سلفك للشعر وضبطه فى دواوينه والمبالغة فى تحريره، خصوصا شعر ‏الجاهلية وما عُنِىَ به الأوائل رحمهم الله بجمعه وترتيبه، أمكنك أن تعرف ‏السبب فى محافظة القوم (يقصد الأوربيين) على هذه المصنوعات من ‏الرسوم والتماثيل. إن الرسم ضَرْبٌ من الشعر الذي يُرَى ولا يُسْمَع، ‏والشعر ضرب من الرسم الذي يُسْمَع ولا يُرَى.‏‎ ‎إن هذه الرسوم حفظت ‏من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة ومن أحوال الجماعات في‎ ‎المواقع ‏المتنوعة ما تستحق به أن تسمى: ديوان الهيئات والأحوال البشرية. ‏يصورون الإنسان أو الحيوان فى حال الفرح والرضا، والطمأنينة والتسليم، ‏وهذه المعانى المدرجة فى هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك تمييز ‏بعضها من بعض، ولكنك تنظر فى رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرا ‏وباهرا. يصورونه مثلا فى حالة الجزع والفزع، والخوف والخشية. والجزع ‏والفزع مختلفان فى المعنى، ولم أجمعهما هنا طمعا فى جميع عينين فى سطر ‏واحد، بل لأنهما مختلفان حقيقة. ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد ‏الفرق بينهما وبين الخوف والحشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون ‏الفزع، ومتى يكون الجزع، وما الهيئة التى يكون عليها الشخص فى هذه ‏الحال أو تلك. أما إذا نظرت إلى الرسم، وهو ذلك الشعر الساكت،‎ ‎فإنك ‏تجد الحقيقة بادرة لك تتمتع بها نفسك كما يتلذذ بالنظر فيها حِسُّك إذا ‏نزعتْ نفسك إلى تحقيق الاستعارة المصرحة في قولك: "رأيت أسدا"، ‏تريد رجلا شجاعا.‏‎ ‎فانظر إلى صورة أبي الهول بجانب الهرم الكبير تجد ‏الأسد رجلا، أو الرجل أسدا.‏‎ ‎فحِفْظ هذه الآثار حِفْظٌ للعلم في الحقيقة، ‏وشكرٌ لصاحب الصنعة على الإبداع فيها. إن كنت فهمت من هذا شيئا ‏فذلك بغيتي، أما إذا لم تفهم فليس عندي وقت لتفهيمك بأطول من هذا، ‏وعليك بأحد اللغويين أو الرسامين أو الشعراء المُفْلِقين ليوضح لك ما ‏غمض عليك إذا كان ذلك من ذَرْعه.‏
ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه ‏الصور في الشريعة الإسلامية إذا كان القصد منها ما ذُكِر من تصوير هيئات ‏البشر في انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجسمانية؟ هل هذا حرام أو ‏جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك إن الراسم قد رسم، ‏والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد ‏مُحِيَ من الأذهان. فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما ‏أن ترفع سؤالا إلى المفتي، وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردت عليه حديث ‏‏"إن أشدالناس عذابا يوم القيامة المصورون" أو ما في معناه، فالذى يغلب ‏على ظني أنه سيقول لك إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور ‏تُتَّخَذ في ذلك العهد لسببين: الأول اللهو، والثاني التبرك بمثال من تُرْسَم ‏صورته من الصالحين. والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام ‏لمحوه. والمصور في الحالين شاغلٌ‎ ‎عن الله أو ممهدٌ للإشراك به. فإذا زال ‏هذان العارضان وقُصِدَت الفائدة كان تصوير‎ ‎الأشخاص بمنزلة تصوير ‏النبات والشجر في المصنوعات. وقد صُنِع ذلك في حواشي المصاحف ‏وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة في نقش المصاحف ‏موضع النزاع.‏
أما‎ ‎فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذُكِر. وأما إذا ‏أردت أن ترتكب بعض السيئات في محل فيه صورٌ طمعًا في أن الملَكين ‏الكاتبين أو كاتب السيئات على الأقل لا يدخل محلا فيه صُوَرٌ كما ورد، ‏فإياك أن تظن أن ذلك ينجيك من إحصاء ما تفعل، فإن الله رقيب عليك ‏وناظر إليك حتى في البيت الذى فيه صُوَر. ولا أظن أن الملَك يتأخر عن ‏مرافقتك إذا تعمدت دخول البيت لأن فيه صورا! ولا يمكنك أن تجيب ‏المفتي بأن‎ ‎الصورة على كل حال مظنة العبادة، فإني أظن أنه يقول لك إن ‏لسانك أيضا فيه مظنة‎ ‎الكذب، فهل يجب ربطه مع أنه يجوز أن يصدق كما ‏يجوز أن يكذب؟ وبالجملة إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد ‏من أن تحرّم وسيلة من أفضل‎ ‎وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها ‏على الدين: لا من جهة العقيدة، ولا من جهة‎ ‎العمل. على‎ ‎أن المسلمين لا ‏يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا أنفسهم منها، وإلا فما بالهم لا ‏يتساءلون عن زيارة قبور الأولياء أو ما سماهم بعضهم بـ"الأولياء"، وهم ممن‎ ‎لا نعرف لهم سيرة ولا يطَّلع لهم أحد على سريرة، ولا يستفتون فيما يفعلون ‏عندها من ضروب التوسل والضراعة، وما يعرضون عليها من الأموال ‏والمتاع، وهم يخشَوْنها كخشية‎ ‎الله أو أشد، ويطلبون منها ما يخشَوْن ألا ‏يجيبهم الله فيه، ويظنون أنهم أسرع إلى إجابتهم من عنايته سبحانه ‏وتعالى؟ ولا شك أنهم لا يمكنهم الجمع بين‎ ‎هذه العقائد وعقيدة التوحيد، ‏ولكن يمكنهم الجمع بين عقيدة التوحيد ورسم صورة‎ ‎الإنسان والحيوان ‏لتحقيق المعاني العلمية وتمثيل الصور الذهنية" (الأعمال الكاملة للإمام ‏الشيخ محمد عبده/ تحقيق د. محمد عمارة/ دار الشروق/ 1414هـ- ‏‏1993م/ 2/ 198- 200).‏
وقد تناول الشيخ الطاهر بن عاشور فى "التحرير والتنوير" هذه ‏القضية فرأى، كما رأى الشيخ محمد عبده، أن التماثيل ليست معيبة فى ‏ذاتها، بل لأن العرب كانت أمعن فى الشرك، فأراد الإسلام أن يجتثّه من ‏أصله. إلا أنه لم يرتب على هذا التوجيه تجويزا لصنعها، بل قال بحرمتها ‏رغم هذا. وإلى القارئ نص كلامه: "التمثال هو الصورة الممثلة، أي ‏المجسمة مثل شيء من الأجسام. فكان النحاتون يعملون لسليمان صورا ‏مختلفة كصور موهومة للملائكة وللحيوان مثل الأسود، فقد كان كرسي ‏سليمان محفوفا بتماثيلِ أُسودٍ أربعة عشر كما وُصِف في الإِصحاح العاشر ‏من سفر "الملوك الأول". وكان قد جَعَل في الهيكل جابيةً عظيمةً من ‏نحاسٍ مصقولٍ مرفوعةً على اثنتي عشرة صورةَ ثورٍ من نحاس. ولم تكن ‏التماثيل المجسمة محرَّمَة الاستعمال في الشرائع السابقة، وقد حرمها الإِسلام ‏لأن الإِسلام أمعن في قطع دَابر الإِشراك لشدة تمكن الإِشراك من نفوس ‏العرب وغيرهم. وكان معظم الأصنام تماثيل، فحرّم الإسلام اتخاذها ‏لذلك. ولم يكن تحريمها لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها، ولكنْ ‏لكونها كانت ذريعة للإشراك. واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظلّ ‏من تماثيل ذوات الروح إذا كانت مستكملة الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح ‏بدونها، وعلى كراهة ما عدا ذلك مثل التماثيل المنصّفة، ومثل الصور التي ‏على الجدران وعلى الأوراق والرقم في الثوب ولا ما يُجْلَس عليه ويُدَاس. ‏وحُكْمُ صُنْعِها يتبع اتخاذَها. ووقعت الرخصة في اتخاذ صور تلعب بها ‏البنات لفائدة اعتيادهن العمل بأمور البيت". ‏
وللدكتور عبد الحليم محمود فتوى فى هذا الشأن قال فيها تحت ‏عنوان "التصوير سواء كان رقما فى ثوب أم نقشا على الجدار، وسواء ‏أكان رسما على ورق أم تماثيل مجسَّدة": "إن كل ما يحدث من ذلك مخلا ‏بالآداب مثيرا للشهوة منافيا للفضيلة فهو حرام حرمةً لا شك فيها، وذلك ‏مثل الأجساد العارية والصور الخليعة. وقد ابتُلِينا فى هذه الأيام بالكثير ‏من ذلك، بل أصحبت الإعلانات عن الكباريهات عن طريق الصور العارية ‏تنشر فى الصحف اليومية وغيرها، ولا تتورع صحيفة عن نشر هذه ‏الإعلانات، ولا تكاد توجد صحيفة إلا وهى تتهالك على نشر ذلك طلبا ‏للمال. وما من شك فى أن كل مال يؤدَّى فى ذلك فهو سُحْتٌ تمتنع عنه ‏النفس الأبية والأخلاق الفاضلة. وأكثر من ذلك فإنه توجد مجلات ‏متخصصة فى نشر الصور العارية المثيرة، وتمر هذه المجلات على الرقابة فلا ‏تعيرها اهتماما وتصرّح بها وتصبح بين أيدى الشبان وطلبة الجامعات ‏وطالباتها. ويكثر الفساد فى المجتمع نتيجة لهذا السوء الذى أصبح ‏مألوفا، وكأن الله تعالى لم يحرمه، وكأن المجتمع لا دين له. ونعود فنقول: إن ‏كل ذلك حرام، وفاعلوه ومبيحو نشره فى المجتمع ملعونون فى عُرْف ‏الفضيلة ومن قِبَل الله سبحانه وتعالى.‏
ونوع آخر لا شك فى حرمته، وهو هذه الأصنام التى أخذت منذ ‏فترة تنتشر شيئا فشيئا فى العالم الإسلامى. إنها الأصنام التى يقيمونها ‏هنا وهناك تخليدا لذكرى شخص أو رمزا لفكرة معينة أو تعبيرا عن القوة ‏والجمال. يقول الله تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً ‏إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (الأنعام/ 74). ويقول تعالى: "وَإِذْ قَالَ ‏إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ ‏إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ ‏رَحِيمٌ" (إبراهيم/ 35- 36). ويقول تعالى: "وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ ‏قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا ‏عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ‏ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ ‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * ‏وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا ‏لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ" (الأنبياء/ 51- 58). وحينما دخل رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم مكة أخذ يحطم الأصنام دون استثناء، وهو يقول: ‏‏"جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ. إن الباطل كان زَهُوقًا" (الإسراء/ 81). ‏والتحريم، فيما يتعلق بهذه الأصنام، يقين لا شك فيه.‏
ومما يُذْكَر فى هذا الصدد ما ذكره القرآن الكريم عن بنى إسرائيل ‏مبينا أن فكرتهم عن الإله سبحانه لم تكون فكرة مستنيرة، وإنما كانت ‏فكرة ضالة. وقد صورها القرآن فى صورتين أبرع ما يكون التصوير ‏الساخر الموجِّه المرشِد المعلِّم إحداهما هذه الصورة: لقد أنعم الله على ‏بنى إسرائيل بنعمة النجاة، وما إن تمت النجاة حتى رَأَوْا قوما يعكفون ‏على أصنام لهم. وعن ذلك يقول الله تعالى: "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا ‏كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا ‏كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" ‏‏(يونس/ 138- 140). ويقول سبحانه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ ‏لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ ‏يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا ‏كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * ‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (الشعراء/ 69- 70). أما الصورة الثانية ‏فهى: "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ ‏يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ ‏فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ ‏مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا ‏خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ ‏يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ ‏الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي ‏وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ ‏سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" ‏‏(الأعراف/ 148- 152). ‏
وقد يقول قائل إن علة تحريم الأصنام فى الإسلام أنها كانت تُعْبَد ‏من دون الله، ولكن هذه العلة زالت فى العصر الحاضر، فلا يتأتى أن ‏يصنع الإنسان صنما ويعبده فى عهد هذه الحضارة التى عمّت الشرق ‏والغرب. ونحبّ، إجابةً على ذلك، أن نقول: إن الإسلام قد حرّم ذلك ‏تحريما مطلقا لا يقيده زمان ولا مكان، وإن حكمة الله فوق كل حكمة، ‏والمبادئ التى أوحاها الله سبحانه لا تنقضها أهواء البشر. ثم إنه فى ‏هذه الحضارة التى عمت الشرق والغرب ما زالت البقر تُعْبَد أو تُقَدَّس، ‏وما زالت تثير المعارك وتُسِيل دماء بنى البشر، دماء أهل وطن واحد. ‏وفى هذه الحضارة الحديثة ما زالت الأصنام تعبد أو تقدس فى معابد لا ‏تحصى من معابد الشرق الأقصى. وفى هذه الحضارة الحديثة ما زالت ‏بعض الأديان فى أكبر الدول تحتفظ بطابع اللامعقول، طابع يتميز بأنه ضد ‏العقل والمنطق والتفكير السليم. ويتغلغل هذا الطابع فى كثير من زواياها، ‏ولكن الإلف والزمن والتكرار والتعود، كل ذلك جعل منها أديانا تستمر فى ‏الماضى، وما زالت مستمرة فى الحاضر مع أنها خرافات وأساطير. وقد ‏أعلن كبار مؤرِّخى الأديان عن الأساطير فيها والخرافة، ومع ذلك ما زالت ‏مستمرة. وأمر الإنسان فى الحاضر أو فى الماضى غريب: إن الإلف ‏يغرس فى شعوره أن المألوف صحيح، وأن ما عليه الآباء والأجداد من ‏عقائدَ حقٌّ. بل إنه يفر ويهرب من التأمل والفحص إذا أداه ذلك إلى إنكار ‏المألوف من العقائد، ويُسْكِت فى نفسه بالقهر صوتَ الإنكار أو النقد. ‏وبقيتْ أساطير، واستمرتْ خرافات، ودام ضلالٌ دهورًا: "إنا وجدنا ‏آباءنا على أُمّة..."‏
ونخلص من كل ذلك إلى القول بأمرين هما من البداهة بمكان: أن كل ‏ما يتنافى مع الدين فى التصوير محرَّم. أن الأصنام، على أى وضع كانت: ‏تمثيلا لشخص أو تمثيلا لفكرة، محرَّمةٌ. بقى بعد ذلك أهم جانب من ‏الوجهة العلمية البحتة نحب أن نتحدث عنه، وذلك هو موضوع التصوير ‏العادىّ الذى يستعمل الآن فى شمول عام: هذه الصور التى تستخدم فى ‏البطاقات الشخصية، وفى جوازات السفر، والصور الخاصة بالذكريات، ‏وصور الآباء للأبناء أو صور الأبناء للآباء. وأنا أتحدث الآن عن هذا ‏الموضوع، وأنا أعلم أنه مثار نزاع حاد يبدأ شيئا فشيئا على توالى الأيام، ‏ولكن هدفه لا يرجع إلى اقتناع المانعين، بل إلى طغيان الموجة وقصورهم ‏عن مقاومتها. ونحن لا ننظر فى إعلان رأينا إلى وضع قائم أو إلى طغيان ‏الموج أو العوج أو إلى حاجات فى المجتمع تقتضى التحليل، وإنما نرجع فى ‏رأينا إلى الوثائق، وإلى آراء أسلافنا. وقد اختلفوا هم الآخرون اختلافا ‏كثيرا محلّلين أو محرّمين. ‏
ونحن نبدأ بحديث صحيح رواه الإمام البخارى فى صحيحه. قال: ‏حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن بكير بن بُسْر بن سعيد عن زيد بن خالد ‏عن أبى طلحة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال إن رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صُوَرٌ. قال ‏بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة. فقلت لعبيد ‏الله الخولانى ربيب ميمونة زوج النبى صلى اله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد ‏عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: إلا رَقْمًا فى ‏ثوب؟". وقال ابن وهب: أخبرنا عمرو، وهو ابن الحارث، حدثه بكير، ‏حدثه بسر، حدثه زيد، حدثه أبو طلحة عن النبى صلى الله عليه ‏وسلم. هذا الحديث الشريف هو الأساس الذى يقوم عليه رأينا. ويقول ‏الإمام النووى: وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل، وأما ما ‏لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقا. ثم يعقب الإمام النوى على ذلك بقوله: ‏‏"وهو مذهب باطل". ولكن الإمام ابن حجر صاحب "فتح البارى" ‏يعقب على ذلك قائلا عن مذهب "بعض السلف" إن "المذهب المذكور ‏نقله ابن أبى شيبة عن القاسم بسند صحيح، ولفظه: عن ابن عون قال: ‏‏"دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة فى بيته، فرأيت فى بيته حَجَلَة ‏فيها تصاوير القندس والعنقاء". ففى إطلاق كونه مذهبا باطلا نَظَرٌ، إذ ‏يحتمل أنه تمسك فى ذلك بعموم قوله: "إلا رقما فى ثوب"، فإنه أعم من أن ‏يكون معلَّقا أو مفروشا، وكأنه جعل إنكار النبى صلى الله عليه وسلم ‏على عائشة تعليق الستر المذكور مركَّبا من كونه مصوَّرا، ومن كونه ساترا ‏للجدار. ويؤيده ما ورد فى بعض طرقه عند مسلم، فأخرج من طريق ‏سعيد بن يسار عن زيد بن خالد الجهنى قال: "دخلت على ‏عائشة..."، فذكر نحو حديث الباب، لكن قال: "فجذبه حتى هتكه ‏وقال: إن الله لم يأمرنا بكسوة الحجارة والطين. قال: فقطعنا منه ‏وسادتين... الحديث". فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كره ‏ستر الجدار بالثوب المصوَّر، فلا يساويه الثوب الممتَهن ولو كانت فيه ‏صورة، وكذلك الثوب الذى لا يُسْتَر به الجدار. والقاسم بن محمد أحد ‏فقهاء المدينة، وكان من أفضل أهل زمانه، وهو الذى روى حديث ‏النمرقة. فلولا أنه فهم الرخصة فى مثل الحَجَلَة ما استجاز استعمالها. ‏
ويقول الإمام ابن حجر: وقد أخرج ابن أبى شيبة من طريق أيوب ‏عن عكرمة، قال: كانوا يقولون فى التصاوير فى البُسُط والوسائد التى ‏تُوطَأ: ذُلٌّ لها. ومن طريق عاصم عن عكرمة، قال: كانوا يكرهون ما ‏نُصِب من التماثيل نصبا، ولا يرون بأسا بما وطئته الأقدام. وعن طريق ‏ابن سيرين وسالم بن عبد الله وعكرمة بن خال وسعيد بن جبير قولهم ‏إنهم قالوا: لا بأس بالصورة إذا كانت تُوطَأ. ومن طريق عروة أنه كان ‏يتكئ على المرافق فيها تماثيل الطير والرجال. ويلخص الإمام أبو بكر بن ‏العربى المذاهب فى التصوير فيقول: حاصل ما فى اتخاذ الصور أنها إن ‏كانت ذات أجسادٍ حَرُمَ بالإجماع، وإن كانت رَقْمًا فى ثوب فأربعة أقوال: ‏الأول، يجوز مطلقا على ظاهر قوله فى حديث الباب: "إلا رقما فى ‏ثوب". الثانى، المنع مطلقا حتى الرَّقْم. الثالث، إن كانت الصورة باقية ‏الهيئة قائمة الشكل حَرُمَ، وإن قُطِعَت الرأس جاز. قال: وهذا هو ‏الأصح. الرابع، إن كان ما يُمْتَهَن جاز، وإن كان معلَّقًا لم يجز. ولقد حمل ‏أبو على الفارسى لفظ "المصورين" فى الأحاديث التى تتحدث عن ‏عذابهم على "المشبِّهة"، وقال: إنهم المراد بقوله: "المصورون"، أى الذين ‏يعتقدون أن الله صورة كما يقول. ويقول أبو محمد الجوينى: إن نسج الصورة ‏فى الثوب لا يمتنع لأنه قد يُلْبَس. وقال البعض: إن التصوير على الأرض ‏ونحوها جائز.‏
وبعد، فإن الآراء فى هذا النوع من الفن لم تُجْمٍع على الحل ولا على ‏التحريم. ونحن نميل إلى الحِلّ مستندين إلى الحديث الشريف ومتناسقين مع ‏كل الآراء على الرغم من أن كثيرين يخالفوننا الرأى، وكل مجتهدٍ مخلصٍ ‏مأجورٌ. ولقد كتبت مجلة "المسلم" نقلا عن كتاب "الإسلام والحضارة ‏العربية" للأستاذ محمد كرد على ما يلى: أقر الرسول الكريم سيدنا محمد ‏صلى الله عليه وسلم النقود التى كان يستخدمها العرب فى الجاهلية، ‏وكانت تَرِدُ من الممالك المجاورة، وكانت مصوَّرة. وضرب عمرُ الدراهمَ ‏نقش الكسروية وشكلها. وضرب معاوية دنانير عليها تمثالٌ متقلدٌ سيفا. ‏واستعمل زيد بن خالد سترا فيه صور. وكانت المنسوجات اليمنية فيها ‏تصاوير. وصُنِعَت الصور فى دَارَىْ مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. ‏وهكذا لم يحرّم الإسلام صناعة مفيدة فى كثير من العلوم والفنون" (د. ‏عبد الحليم محمود/ 38- 49).‏
هذا ما قاله فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود، الذى أقدره وأبجّله ‏وأعتز به لأنه كان شيخا محترما للأزهر، وكانت شخصيته مهيبة جليلة. ‏ولكنى أود أن أناقش قوله: "إنه فى هذه الحضارة التى عمت الشرق ‏والغرب ما زالت البقر تُعْبَد أو تُقَدَّس، وما زالت تُثِير المعارك وتُسِيل دماء ‏بنى البشر: دماء أهل وطن واحد. وفى هذه الحضارة الحديثة ما زالت ‏الأصنام تُعْبَد أو تُقَدَّس فى معابد لا تحصى من معابد الشرق الأقصى. ‏وفى هذه الحضارة الحديثة ما زالت بعض الأديان فى أكبر الدول تحتفظ ‏بطابع اللامعقول، طابع يتميز بأنه ضد العقل والمنطق والتفكير السليم، ‏ويتغلغل هذا الطابع فى كثير من زواياها، ولكن الإلف والزمن والتكرار ‏والتعود، كل ذلك جعل منها أديانا تستمر فى الماضى، وما زالت مستمرة ‏فى الحاضر مع أنها خرافات وأساطير. وقد أعلن كبار مؤرِّخى الأديان ‏عن الأساطير فيها والخرافة، ومع ذلك ما زالت مستمرة. وأمر الإنسان ‏فى الحاضر أو فى الماضى غريب: إن الإلف يغرس فى شعوره أن المألوف ‏صحيح، وأن ما عليه الآباء والأجداد من عقائدَ حقٌّ. بل إنه يفرّ ويهرب ‏من التأمل والفحص إذا أداه ذلك إلى إنكار المألوف من العقائد، ويُسْكِت ‏فى نفسه بالقهر صوتَ الإنكار أو النقد. وبقيت أساطير، واستمرت ‏خرافات، ودام ضلالٌ دهورًا: إنا وجدنا آباءنا على أُمّة...". والواقع أنه ‏لا اعتراض عندى على ما قاله فضيلته رحمه الله عن عبادة الأبقار ‏والأصنام والبشر فى بعض البلاد حتى الآن. إلا أننا لو جرينا دائما على ‏مبدإ سَدّ الباب الذى يأتى منه الريح حتى نستريح لكان لزاما علينا أن ‏نستأصل مثلا جنس الأبقار مثلا من الأرض ما دامت تشكل فتنة فى ‏الهند. لكن أحدا لا يقول بهذا. ثم إننا لسنا مسؤولين عن الهند ولا عن ‏غير الهند. لا بل إننا لا نملك أن نقول لهم أو لغيرهم: اقتلوا أبقاركم، أو ‏تخلصوا ممن تعبدونهم من البشر حتى لا تفتتنوا بها ولا بهم. أم تراه، رحمه ‏الله رحمة واسعة، سيقول إن حكم الأبقار والأصنام والبشر فى هذه الحالة ‏مختلف؟ لكن على أى أساس؟ وعلى كلٍّ فالمسلمون لا يعبدون أبقارا ولا ‏أصناما، بل تتمثل مشكلتهم فى الرهبة من حكامهم رهبة تجاوز حد ‏المعقول. وفى بعض بلادهم قد ينفذون ما يقوله الحاكم ويهملون ما يقوله ‏ربهم. فما العمل؟ إن المشكلة تكمن فى الضمير قبل كل شىء كما هو ‏واضح. وفوق ذلك هناك مَلاَحِظُ علميةٌ وحضاريةٌ جِدُّ هامةٍ سوف نأتى ‏عليها بعد قليل توجب أن نفكر فى أمر التماثيل بمقدار من التروى أكبر. ‏فكنت أحب لو أن د. عبد الحليم محمود، الذى أُجِلّه كثيرا وأحبّه كثيرا ‏رغم أنى لست من المغرمين كثيرا بكتاباته الصوفية، قد أخذها بعين ‏الاعتبار. ‏
وثَمَّ رأى للشيخ جاد الحق على جاد الحق فى ذات الموضوع يتضمنه ‏كتابه: "بيان للناس" يقول فيه: "الذى تدل عليه الأحاديث النبوية الشريفة ‏والتى رواها البخارى وغيره من أصحاب السُّنَن أن التصوير الضوئى ‏للإنسان والحيوان المعروف الآن، وكذلك الرسم، لا بأس به متى كان ‏لأغراض علمية مفيدة للإنسان". ثم يقول عن التماثيل: "إن هذه التماثيل ‏كانت محرمة، وذلك سَدًّا لذريعة عبادتها واتخاذها وسيلة للتقرب إلى ‏الله". ثم يستطرد إلى الكلام عن تماثيل الآثار القديمة قائلا: "إن هذه ‏التماثيل والصور تسجيل لتاريخ هؤلاء الذين صنعوها، ودراسة تاريخهم ‏تدفع إلى المزيد من التقدم العلمى والحضارى النافع. لهذا كان حتما ‏الحفاظ على الآثار والأخذ منها ما يوافق قواعد الإسلام". وعن المتاحف ‏يقول: "إذا كان التحفظ على الآثار هو الوسيلة الوحيدة لدراستها كانت ‏إقامة المتاحف جائزة، إن لم تكن واجبة، لأنها ضرورة، وللضرورة حكمها ‏كما جاء فى نصوص الشريعة. وتخريجا على ذلك كان الاحتفاظ بالآثار ‏ضرورة من الضرورات الدراسية والتعليمية لا يحرّمها الإسلام لأنها لا ‏تنافيه، بل إنها تخدم غرضا علميا وعقائديا حث عليه القرآن، فكان ذلك ‏جائزا، إن لم يصل إلى مرتبة الواجب" (من كتاب "بيان للناس"/ الأزهر ‏الشريف/ 1989م/ 2/ 166).‏
أما الدكتور القرضاوى فقد تناول هذه القضية على نحو أكثر ‏تفصيلا فى كتابه: "الإسلام والفن" تحت عنوان "الرسم و التصوير ‏والزخرفة"، وأورد معظم النصوص التى تتصل بالموضوع ولم ينطلق من ‏الحجج العقلية كالشيخ محمد عبده، بل جعل النصوص تحت بصره طوال ‏الوقت محافظا عليها كما هى فى ظاهرها. وهذا ما كتبه بشىء من ‏التصرف: "عَرَضَ القرآن الكريم للتصوير على أنه عمل من أعمال الله تبارك ‏وتعالى، الذي يبدع الصور الجميلة، وخصوصا صور الكائنات الحية، وفي ‏مقدمتها الإنسان: "هوَ الَذِي يُصَوِّرُكمُ فِي الأَرْحَام كَيْفَ يَشَآء"، "وَصَوَّرَكمُ ‏فَأَحْسَنَ صُوَرَكمُ"، "الَذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةِ مَا شَآءَ ‏رَكَّبَك". وذكر القرآن أن من أسماء الله الحسنى اسم "المصوِّر" كما في قوله ‏تعالى: "هوَ اللهُ الُخَالِقُ البَارِئُ الُمصَوِّر لَهُ الأَسْمَآء الحُسْنَى". كما عرض ‏القرآن للتماثيل في موضعين: أحدهما في موضع الذم و الإنكار، وذلك على ‏لسان الخليل إبراهيم عليه السلام حيث اتخذها قومه أصناما، أي آلهةً ‏تُعْبَد، فأنكر عليهم ذلك قائلاً:‌ "مَا هَذِهِ التَمَاثِيل التِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونُ * ‏قَالُوا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَابِديِنَ". والثاني: ذكرها القرآن في معرض الامتنان ‏و الإنعام على سليمان عليه السلام حيث سخر له الريح، وسخر له الجن ‏يعملون بين يديه بإذن ربه: "يَعْمَلونَ لَه مَا يَشَآءُ مِن محَاريِبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانِ ‏كَالْجَوَابِ وَقدورِ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْرًا". ‏
أما السُّنّة فقد حفلت بأحاديث كثيرة صحيحة معظمها يذم التصوير ‏و المصورين، وبعضها يشدد غاية التشدد في منع التصوير وتحريمه والوعيد ‏عليه. كما ينكر اقتناء الصور أو تعليقها في البيت، ويعلن‌ أن الملائكة لا ‏تدخل بيتا فيه صورة. والملائكة هم مظهر رحمة الله تعالى ورضاه وبركته، ‏فإذا مُنِعَتْ من الدخول في بيت فمعناه أنه محروم من الرحمة والرضا ‏والبركة. والمتأمل في معاني الأحاديث الواردة في التصوير أو اقتناء الصور ‏وفي سياقاتها وملابساتها ويقارن بين بعضها وبعض يتبين له أن النهي ‏والتحريم والوعيد في تلك الأحاديث لم يكن اعتباطا ولا تحكما، بل كان ‏وراءه علل ومقاصد يهدف الشرع إلى رعايتها وتحقيقها. ‏
أ-فبعض التصوير كان يقصد به تعظيم المصوَّر، وهذا التعظيم ‏يتقاوت حتى يصل إلى درجة التقديس. بل العبادة وتاريخ الوثنيات يدل ‏على أنها بدأت بالتصوير للتذكرة، وانتهت بالتقديس والعبادة. ذكر ‏المفسرون، في قوله تعالى على لسان قوم نوح: "وَقَالواُ لا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكمُ وَلا ‏تَذَرُنَ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَ نَسْرًا"، أن أسماء هذه الأصنام ‏المذكورة كانت أسماء رجال صالحين، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم ‏أنِ انْصُبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابا، وسمُّوها بأسمائهم ‏ففعلوا، فلم تُعْبَد. حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدَتْ. وعن ‏عائشة قالت:‌ لما اشتكى النبي صلي الله عليه وآله وسلم ذكر بعض نسائه ‏كنيسة يقال لها: مارية‌. وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، ‏فذكرنا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: أولئك إذا مات فيهم ‏الرجل الصالح بَنَوْا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصور. أولئك ‏شرار خلق الله. ‏
ومن المعروف أن الصور والتماثيل أروج ما تكون في رحاب الوثنية، ‏كما عُرِف ذلك عند قوم إبراهيم، وعند المصريين القدماء واليونان ‏والرومان، وعند الهنود إلى اليوم وغيرهم. والنصرانية حينما تروَّمَتْ على ‏يد قسطنطين إمبراطور الروم دخلها كثير مما كان عند الرومان من مظاهر ‏الوثنية. ولعل بعض ما ورد من الوعيد الشديد على التصوير يُقْصَد به ‏الذين ينحتون الآلهة المزعومة والمعبودات المتنوعة عند الأمم المختلفة، ‏وذلك مثل حديث ابن مسعود مرفوعا: "إن أشد الناس عذابا عند الله: ‏المصورون". قال النووي:‌ "قيل: هي محمولة على من فعل الصورة لتُعْبَد، ‏وهو صانع الأصنام ونحوها. فهذا كافر، وهو أشد عذابا. و قيل: هي ‏فيمن قصد المعنى الذي في الحديث من مضاهاة خلق الله تعالى، واعتقد ‏ذلك. فهذا كافر له من أشد العذاب ما للكافر، ‌ويزيد عذابه بزيادة قبح ‏كفره". وإنما ذكر النووي ذلك، وهو من أشد المشددين في تحريم التصوير ‏واتخاذ الصور لأنه لا يُتَصَوَّر، بحسب مقاصد الشرع، أن يكون المصور ‏العاديّ أشد عذابا من القاتل والزاني وشارب الخمر والمرابي وشاهد ‏الزور وغيرهم من مرتكبي الكبائر و الموبقات. وقد روى مسروق حديث ‏ابن مسعود المذكور بمناسبة دخوله هو وصاحب له بيتا فيه تماثيل، فقال ‏مسروق: هذه تماثيل كسرى؟ قال صاحبه: هذه تماثيل مريم. فرَوَى ‏مسروقٌ الحديثَ. ‏
ب-وقريب من هذا اللون من التصوير ما كان يعبر عن شعائر دين ‏معين غير دين الإسلام، وأبرز مثل لذلك الصليب عند النصارى. فما كان ‏من الصور مشتملاً على الصليب فهو محرَّم بلا ريب، ويجب على المسلم ‏نقضه و إزالته. وفي هذا روي البخاري عن عائشة أن النبي صلي الله ‏عليه وآله وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه. ‏
ج-مضاهاة خلق الله عز و جل بدعوى أنه يبدع ويخلق كما يخلق ‏الله سبحانه. ويبدو أن هذا أمر يتعلق بقصد المصور ونيته، وإن كان ‏هناك من يرى أن كل مصور مُضَاهٍ لخلق الله. وفي هذا جاء‌ حديث عائشة ‏عن النبي صلي الله عليه و آله وسلم: "أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين ‏يضاهون بخلق الله". فهذا الوعيد الغليظ يوحي بأنهم يقصدون إلى ‏مضاهاة خلق الله، وهو ما نقله الإمام النووي في شرح مسلم، إذ لا يقصد ‏ذلك إلا كافر. ويدل عليه حديث أبي هريرة الصحيح، قال: سمعت ‏رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: "‌قال الله تعالى: ومَنْ أَظْلَمُ ممن ‏ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة". ‏فقوله:‌ "ذهب يخلق كخلقي" يدل على القصد والتعمد. ولعل هذا هو سر ‏التحدي الإلهي لهم يوم القيامة حيث يقال لهم: "أَحْيُوا ما خلقتم". وهو ‏‏"أمر تعجيز" كما يقول الأصوليون. ‏
د-أن تكون جزءا من أدوات الترف ومظاهره، وهذا ما يظهر من ‏كراهية النبي صلي الله عليه وآله وسلم لبعض الصور في بيته، ‌فقد روت ‏عائشة‌ أنه عليه الصلاة والسلام خرج في غزالة، قالت: فأخذتُ نمطًا (نوعًا ‏من البُسُط اللطيفة أو الستائر) فسترته على الباب، فلما قدم رأى النمط، ‏فجذبه حتى هتكه، ثم قال: "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة‌ والطين". ‏قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفا، فلم يَعِبْ ذلك عليَّ. والنص ‏بهذه الصيغة: "إن الله لم يأمرنا" يقتضي أنه ليس بواجب و لا مندوب، فهو ‏لا يدل على أكثر من الكراهة التنزيهية كما قال الإمام النووي.‌ ولكن بيت ‏النبوة ‌ينبغي أن يكون أسوة ومثلاً للناس في الترفع على زخرف الدنيا ‏وزينتها. ‏
يؤكد هذا حديث عائشة الآخر. قالت: كان لنا ستر فيه تمثال ‏طائر، و كان الداخل إذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله صلي الله ‏عليه وآله وسلم:‌ "حَوِّلي هذا، ‌فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا". ‏ومثله ما رواه القاسم بن محمد عنها رضي الله عنهما: أنه كان لها ثوب ‏فيه تصاوير ممدود إلى سهوة، فكان النبي صلي الله عليه وآله وسلم يصلي ‏إليه،‌ فقال: "أخِّريه عني". قالت: فأخرته فجعلته وسائد. وفي رواية‌ عند ‏غير مسلم: "أخريه عني، فإن تصاويره تعرض لي في صلاتي". فهذا كله ‏من زيادة الترفه والتنعم، وهو من وادي الكراهية لا من وادي التحريم. ‏ولكن النووي قال: هذا محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه ‏صورة. فلهذا كان يدخل ويراه ولا ينكره. ومعني هذا ‌أنه يرى الأحاديث ‏التي ظاهرها التحريم ناسخة لهذا الحديث وما في معناه. ولكن النسخ لا ‏يثبت بمجرد الاحتمال. فإثبات مثل هذا النسخ يستلزم أمرين: أولهما ‏التحقق من تعارض النصين بحيث لا يمكن الجمع بينهما، مع أن الجمع ممكن ‏بحمل أحاديث التحريم على قصد مضاهاة خلق الله، أو بقصرها على ‏المجسَّم، أي ما له ظل. وثانيهما معرفة المتأخر من النصين. ولا دليل على ‏أن التحريم هو المتأخر، بل الذي رآه الإمام الطحاوي في "مُشْكِل الآثار" هو ‏العكس، فقد شدد الإسلام في شأن الصور في أول الأمر لقرب عهده ‏بالوثنية، ثم رخص في المسطحات من الصور، أي ما كان رَقْمًا في ثوب ‏ونحوه. ‏
وقد رُوِيَ هذا الحديث عن عائشة بصيغة أخرى تدل على شدة ‏الكراهية من النبي صلي الله عليه وآله وسلم. فعن عائشة أنها اشترت ‏نمرقة (وسادة صغيرة) فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلي الله عليه ‏وآله وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعَرَفَتْ في وجهه الكراهية. قالت: ‏فقلت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله. ما أذنبت؟ فقال: "ما ‏بال هذه النمرقه؟". قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتَوَسَّدَها. فقال ‏رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم: "إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون ‏يوم القيامة‌، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم". وقال:‌ "إن البيت الذي فيه ‏الصورة لا تدخله الملائكة".‏
في هذا الجو الذي كان يحيط بفن التصوير والصور في عصر النبوة ‏وَرَدَ معظم الأحاديث المحرمة. ولا غرو أنْ شددت الأحاديث النبوية في ‏هذا الأمر، و إن كان تشديدها في صنعة التصوير أكثر من تشديدها في ‏اقتناء الصورة، فبعض ما يحرم تصويره يجوز اقتناؤه فيما يُمْتَهَن مثل البُسُط ‏و الوسائد ونحوها مما يُبْتَذَل بالاستعمال كما رأينا في حديث عائشة. ومن ‏أشد ما رُوِيَ في منع التصوير ما جاء‌ في الصحيحين عن ابن عباس ‏مرفوعا: "كل مصور في النار. يجعل الله بكل صورة صورها نَفَسًا فيعذبه ‏في جهنم". وفي رواية للبخاري عن سعيد بن أبي الحسن قال: "كنت عند ‏ابن عباس، إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس، إني رجل إنما معيشتي من ‏صنعة يدي، ‌وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ‏ما سمعت من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. سمعته يقول: "من ‏صَوَّر صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها ‏أبدا". فربا الرجل ربوه شديدة (أي انتفخ غيظا و ضيقا)، فقال: ‏ويحك! إنْ أبيتَ إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه ‏روح". وروى مسلم عن حبان بن حصين قال: "قال لي علي بن أبي ‏طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلي الله ‏عليه وآله وسلم؟ ألاّ تَدَعَ صورة إلا طمستَها، ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيْتَه". ‏وروى مسلم عن عائشة‌ أنها قالت:‌ "واعد رسول الله صلي الله عليه وآله ‏وسلم جبريل عليه السلام في ساعة يأتيه فيها، فجاءت تلك الساعة، ولم ‏يأته، وفي يده عصا، فألقاها من يده، وقال: "ما يخلف اللهُ وعدَه ولا ‏رسلُه!". ثم التفت فإذا جَرْوُ كلبٍ تحت سريره، فقال: "يا عائشة، متى ‏دخل هذا الكلب ههنا؟". فقالت: والله ما دريت! فأمر به، فأُخْرِج. ‏‏‌فجاء جبريل، فقال رسول الله صلي الله عليه و آل و سلم: "واعَدْتَني، ‏فجلستُ لك، فلم تأت!". فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك. إنا لا ‏ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة". ‏
وبهذا نرى أن عدد الأحاديث التي وردت في شأن التصوير والصور ‏ليس قليلاً كما زعم بعض من كتب في ذلك، فقد رواها جمع من الصحابة ‏منهم ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وعلي، وأبو هريرة، ‏وأبو طلحة، وكلها في الصحاح. وقد اختلف آراء الفقهاء في قضية ‏التصوير في ضوء هذه الأحاديث، وكان من أشدهم في ذلك الإمام النووي، ‏الذي حرم تصوير كل ما فيه روح من إنسان أو حيوان: مجسَّمًا (له ظل) أو ‏غير مجسَّمٍ، ممتهَنًا أو غير ممتهن، ولكنه أجاز استعمال ما يُمْتَهَن، وإن كان ‏تصويره حراما، كالمصوَّر في البُسُط و الوسائد ونحوها. ولكن بعض فقهاء‌ ‏السلف قصر التحريم على المجسَّم (الذي له ظل)، وهو ما نطلق عليه ‏عُرْفًا: "التماثيل"، فهي أوغل في مشابهة الوثنية، وهي التي يظهر فيها ‏مضاهاة خلق الله، لأن خلق الله و تصويره مجسم: "هوَ الَّذِي يُصَوِّركمُ فِي ‏الأَرُحَامَ كَيُفَ يَشَآء". وفي الحديث القدسي:‌ "ومن أظلم ممن ذهب يخلق ‏كخلقي؟". وخَلْق الله تعالى مجسَّم، وهو الذي يمكن قبول نفخ الروح فيه، ‏إذ المسطَّح ليس قابلاً لذلك، ولأنها أدخل في الترف والسَّرَف، ولا سيما ‏ما كان من المعادن الثمينة. وهذا مذهب بعض السلف. وقد قال ‏النووي:‌ "إن هذا مذهب باطل"، فتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه مذهب ‏القاسم بن محمد. ولعله أخذ بعموم قوله صلي الله عليه و آله وسلم: "إلا ‏رَقْمًا في ثوب". وسنذكر نص هذا الحديث. ‏
و القاسم بن محمد بن أبي بكر أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ومن ‏أفضل أهل زمانه، وابن أخي عائشة‌، وراوي حديث النمرقة عنها، ويحتج ‏له بالحديث التالي: ففي الصحيح عن بُسْر بن سعيد زيد بن خالد الجهني ‏عن أبي طلحة صاحب رسول الله صلي اله عليه و آله وسلم أنه قال: إن ‏رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه ‏صورة". قال بُسْر: ثم اشتكى زيد بَعْدُ، فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه ‏صورة. قال: فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلي الله ‏عليه و آل و سلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال: ألم تسمعه ‏حين قال: إلا رقما في ثوب"؟ وأكد ذلك ما رواه الترمذي أن سهل بن ‏حنيف وافق أبا طلحة على هذا الاستثناء:‌ "إلا رَقْمًا في ثوب". وتأويل ‏هذا بأن المراد به "ما كان لغير ذي روح" يعارضه حديث تمثال الطائر ‏الذي كان في بيت عائشة وقول النبي لها: "حَوِّلي هذا، فإني كلما رأيته ‏ذكرت الدنيا"، أو "فإن تصاويره تعرض لي في صلاتي". ‏
فالأرجح قصر التحريم على المجسَّم، وأما صور اللوحات المسطَّحة ‏على الورق أو الجدران أو الخشب ونحوها فأقصى ما فيها الكراهية ‏التنزيهية كما ذكر الإمام الخطابي، إلا ما كان فيه غلو و إسراف‌ كالصور ‏التي تباع بالملايين ونحوها. ويستثنى من المجسم المحرَّم لُعَب الأطفال من ‏الدمى والعرائس والقطط والكلاب والقرود ونحوها مما يتلهى به الأطفال ‏لأن مثله لا يظهر فيه قصد التعظيم، والأطفال يعبثون بها. ودليل ذلك ‏حديث عائشة أنها كانت تلعب بالبنات (العرائس)، وأن صواحب لها كن ‏يجئن إليها فيلعبن معها. وكان الرسول الكريم يُسَرُّ لمجيئهن إليها. ومثل ذلك ‏التماثيلُ (العرائس) التي تصنع من الحلوى وتباع في بعض المناسبات، ثم لا ‏تلبث أن تؤكل. كما يستثنى من الحظر التماثيل التي تشوه بقطع رأسها أو ‏نحو ذلك منها كما جاء في الحديث أن جبريل قال للرسول صلي الله عليه ‏وآله وسلم: "مُرْ برأس التمثال فلْيُقْطَع حتى يصير كهيئة الشجرة". وأما ‏التماثيل النصفية التي تنصب في الميادين و نحوها للملوك والزعماء فلا ‏يخرجها من دائرة‌ الحظر لأنها لا تزال تعظَّم. ونهج الإسلام في تخليد ‏العظماء والأبطال يخالف نهج الغربيين، فهو يخلدهم بالذكر الحسن والسيرة ‏الطيبة يتناقلها الخلف عن السلف ويتمثلونها ويأتسون بها. وبهذا خُلِّد ‏الأنبياء والصحابة والأئمة والأبطال والربانيون،‌ فأحبتهم القلوب ودعت لهم ‏الألسنة، وإن لم تُرْسَم لهم صورة‌ ولا نُصِب لهم تمثال. وكم من تماثيل قائمة ‏لا يعرف الناس شيئا عن أصحابها كتمثال لاظوغلى في قلب القاهرة، وكم ‏من تماثيل يمر الناس عليها فيلعنون أصحابها. ‏
ومما لا خفاء فيه أن كل ما ورد في التصوير والصور إنما يعني الصور ‏التي تُنْحَت أو تُرْسَم على حسب ما ذكرنا. أما الصور الشمسية، التي ‏تؤخذ بآلة الفوتوغرافيا، فهي شيء‌ مستحدَث لم يكن في عصر الرسول ولا ‏سلف المسلمين، فهل ينطبق عليه ما ورد في التصوير والمصورين؟ أما الذين ‏يقصرون التحريم على التماثيل المجسمة فلا يَرَوْن شيئا في هذه الصور، ‏وخصوصا إذا لم تكن كاملة‌. و أما على رأي الآخرين فهل تقاس هذه ‏الصور الشمسية على تلك التي تبدعها ريشة الرسام؟ أم أن العلة‌ التي ‏نصت عليها بعض الأحاديث في عذاب المصورين، وهي أنهم يضاهون ‏خلق الله، لا تتحقق هنا في الصورة الفوتوغرافية، وحيث عدمت العلة ‏عدم المعلول كما يقول الأصوليون؟ إن الواضح هنا ما أفتى به المغفور له ‏الشيخ محمد بخيت مفتي مصر: "إن أخذ الصورة بالفوتوغرافيا، الذي هو ‏عبارة عن حبس الظل بالوسائط المعلومة لأرباب هذه الصناعة، ليس من ‏التصوير المنهي عنه في شيء لأن التصوير المنهي عنه هو إيجاد صورة ‏وصنع صورة لم تكن موجودة ولا مصنوعة‌ من قبل يضاهي بها حيوانا ‏خلقه الله تعالى، وليس هذا المعني موجودا في أخذ الصورة بتلك الآلة. ‏يؤكد هذا تسمية أهل الخليج الصورةَ: عَكْسًا، والمصوِّرَ: عكّاسًا". ‏
هذا، ومن المقرر أن لموضوع الصورة أثرا في الحكم بالحرمة أو ‏غيرها. ولا يخالف مسلم في تحريم الصورة إذا كان موضوعها مخالفا لعقائد ‏الإسلام أو شرائعه و آدابه، فتصوير النساء عاريات أو شبه عاريات،‌ ‏وإبراز مواضع الأنوثة والفتنة منهن، ورسمهن أو تصويرهن في أوضاع مثيرة ‏للشهوات موقظة للغرائز الدنيا، كما نرى ذلك واضحا في بعض المجلات ‏والصحف و دور السينما، كل ذلك مما لا شك في حرمته، وحرمة‌ تصويره، ‏وحرمة نشره على الناس،‌ وحرمة اقتنائه واتخاذه في البيت أو المكاتب ‏والمحلات، وتعليقه على الجدران، وحرمة القصد إلى رؤيته ومشاهدته. ‏ومثل هذا صور الكفار والظلمة والفساق، الذين يجب على المسلم أن ‏يعاديهم في الله، فلا يحل لمسلم أن يصور أو يقتني صورة لزعيم ملحد ينكر ‏وجود الله، أو وثني يشرك مع الله البقر أو النار أو غيرها، أو يهودي أو ‏نصراني يجحد نبوة محمد صلى الله عليه و آله وسلم، أو مُدَّعٍ للإسلام ‏وهو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يشيع الفاحشة و الفساد في المجتمع. ومثل ‏هذا الصُّوَرُ التي تعبر عن الوثنية أو شعائر بعض الأديان التي لا يرضاها ‏الإسلام كالأصنام وما شابهها. ‏
ومن المعلوم أن هناك بعض العلماء حاولوا أن يؤولوا الأحاديث ‏الصحاح الواردة في تحريم التصوير واقتناء الصور ليقولوا بإباحة الصور كلها ‏حتى المجسمة منها: مثل ما حكاه أبو علي الفارسي في "تفسيره" عمن ‏حَمَل كلمة "المصورين" في الحديث على من جعل الله صورة‌،. يعني ‏المجسِّمة والمشبِّهة، الذين شبهوا الله تعالى، الذى ليس كمثله شيء. ذكر ‏هذا أبو علي فارسي في كتابه: "الحجّة". وهو تكلف واعتساف لا ‏تساعده الألفاظ الثابتة في الأحاديث. ومثل من استند إلى ما أبيح ‏لسليمان عليه السلام وذَكَره القرآن في سورة سبأ: "يَعُمَلونَ لَه مَا يَشَآء مِن ‏مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيُلَ..."، ولم يقولوا بنسخه في شريعتنا. وهذا الرأي ذكره ‏أبو جعفر النحاس، وحكاه بعده مكي في تفسيره: "الهداية إلى بلوغ ‏النهاية". ومثل من حمل المنع على مجرد الكراهة وأن هذا التشديد كان في ‏ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان، وقد تغير الحال في العصور ‏التالية. هذا مع أن الوثنية لا زال يدين بها آلاف الملايين. وهذا قاله ‏بعضهم من قبل، ورد عليهم الإمام ابن دقيق العيد بأن "هذا القول باطل ‏قطعا لأن هذا منافٍ للعلة التي ذكرها الشارع، وهي أنهم يضاهون أو ‏يشبهون بخلق الله". قال: "وهذه علة عامة مستقيمة مناسبة لا تخص ‏زمانا دون زمان. وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة‌ ‏بمعنًى خياليٍّ". ‏
و الثابت الواضح أن هذه الأقوال لم تقنع العقل المسلم، وبالتالي لم ‏تؤثر في المجرى العام للحضارة الإسلامية والحياة الإسلامية‌، وإنْ عَمِل بها ‏بعض الناس في بعض البلدان، كما رأينا في أسود قصر الحمراء بغرناطة في ‏الأندلس، وبعض ما حكاه شمعدانٌ وُضِع للملك الكامل: كلما مضى من ‏الليل ساعة انفتح باب منه، وخرج منه شخص في خدمة الملك... إلخ، ‏وأن القرافي نفسه عمل شمعدانا زاد فيه أن الشمعة‌ يتغير لونها كل ساعة‌، ‏وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد إلى الحمرة ‏الشديدة، ويسقط حصانان من طائرين، ويدخل شخص، ويخرج شخص ‏غيره، ويغلق باب ويفتح باب، في كل ساعة لها لون، وإذا طلع الفجر طلع ‏الشخص على أعلى الشمعدان، وأصبعه في أذنه يشير إلى الأذان. قال ‏القرافي: غير أني عجزت عن صنعة الكلام. وقريب من ذلك ما حكاه ابن ‏جُبَيْر في رحلته عن وصف الساعة التي كانت بجامع دمشق، وفيها تمثال ‏صقور... إلخ. ‏
ولكن المؤكد أن المزاج العام للحضارة الإسلامية لم يرحب بصور ‏الإنسان والحيوان، وخصوصا المجسمة منها، وغلب عليه التجريد اللائق ‏بعقيدة التوحيد لا التجسيم اللائق بالوثنيات علي اختلاف درجاتها. ومن ‏هنا اتجه الفن التشكيلي في حضارتنا إلى أمور أخري فيها إبداع، وترك ‏فيها آثارا رائعة الجمال تجلت في الزخارف التي تفنن فيها عقل الفنان ‏المسلم ويده وريشته. وتجلي ذلك في المساجد والمصاحف والقصور ‏والمنازل وغيرها: علي الجدران والسقوف والأبواب والنوافذ، وعلي ‏الأرضيات أحيانا، ‌وفي الأدوات المنزلية، وفي الأثاث والتحف والبُسُط ‏والثياب والسيوف، واستخدمت المواد المختلفة من الحجارة والرخام ‏والخشب والخزف والجلد والنحاس والمعادن المتنوعة. ودخل في الزخرفة ‏الخط العربي بأنواعه المختلفة من الثلث والنسخ والرقعة والفارسي ‏والديواني والكوفي وغيرها، وافتن الخطاطون في ذلك كل الافتنان، وخلفوا ‏لنا لوحات في غاية الحسن والإبداع. وأكثر ما تجلي الفَنَّانِ: "الخط ‏والزخرفة" في المصاحف والجوامع. أما الجوامع فلا زلنا نشهد منها آيات ‏في الجمال كما في المسجد النبوي، ومسجد قبة الصخرة، والجامع الأموي ‏بدمشق، وجامع السلطان أحمد والسليمانية بإستانبول، وجامع السلطان ‏حسن وجامع محمد علي بالقاهرة، وغيرها وغيرها في أنحاء العالم ‏الإسلامي.‏
وأبرز ما تجلي فيه الفن الإسلامي إنما كان في العمارة،‌ وقد قال ‏مؤرخو الحضارة إن فن البناء أحسن معبر عن الفن الإسلامي. وقد ظهر ‏ذلك في روائع كثيرة في أقطار عدة لعل أبرزها في الهند إحدى عجائب ‏الدنيا المتمثلة في تلك الرائعة الهندسية الجمالية: تاج محل. وهكذا كان منع ‏التصوير والنحت سببا لفتح أبواب أخري في عالم الفنون جعلت للعالم ‏الإسلامي تميزه الخاص، ومثاليته المتفردة". ‏
هذا ما قاله د. القرضاوى، ولعل السياق يتسع لى فأضيف بدورى ‏شيئا قد يكون له بعض من الجدوى. لقد ورد فى كلام فضيلته أن ‏‏"الملائكة هم مظهر رحمة الله تعالى ورضاه وبركته، فإذا مُنِعَتْ من الدخول ‏في بيت فمعناه أنه محروم من الرحمة الرضا والبركة". وكان ينبغى أن يتحرز ‏فضيلته هنا قليلا، إذ إن جبريل كان، طبقا لنص حديث الكلب الذى كان ‏مختبئا تحت سرير الرسول، ممنوعا من دخول بيته صلى الله عليه وسلم، مما ‏يُفْهَم منه أنه كان محروما طوال ذلك الوقت من الخير والبركة. فهل يليق أن ‏نقول هذا؟ ثم هل كلمة "سرير" بالنسبة إلى الرسول تعنى سريرا كسريرنا ‏الذى يعلو عادة عن الأرض بما يسمح بدخول كلب تحته؟ الذى أفهمه من ‏كلمة "سرير" فى هذا السياق هو الفراش المبسوط على الأرض لا أكثر. ‏فكيف يتسنى للكلب أن يدخل تحته؟ كذلك وردت فى كلام الأستاذ ‏الدكتور الإشارة إلى أن "بعض فقهاء‌ السلف قصر التحريم على المجسَّم ‏‏(الذي له ظل)، وهو ما نطلق عليه عُرْفًا: التماثيل، فهي أوغل في مشابهة ‏الوثنية، وهي التي يظهر فيها مضاهاة خلق الله، لأن خلق الله وتصويره ‏مجسم: "هوَ الَّذِي يُصَوِّركمُ فِي الأَرُحَامَ كَيُفَ يَشَآء". وفي الحديث ‏القدسي:‌ "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟". وخلق الله تعالى مجسَّم، ‏وهو الذي يمكن قبول نفخ الروح فيه، إذ المسطَّح ليس قابلاً لذلك". وإنى ‏لأتساءل: هل خلق الله وتصويره لا يكون فعلا إلا مجسما؟ فمَنْ خَلَقَ ‏السطوح والمسطَّحات فى الدنيا إذن؟ الحق أنه ليس ثَمَّ خالق إلا الله ‏سبحانه وتعالى، سواء كان هذا الخلق مجسما أو مسطحا. فكل شىء ‏فى الكون: مجسما أو مسطحا هو من خلق الله لا خلق أى كائن آخر. ‏أليس كذلك؟
كذلك أحب أن أقول كلمة عن مضاهاة خلق الله، إذ الفنانون إنما ‏يضاهون دائما ما حولهم من الأشياء والأشخاص: كما هى، أو بعد ‏إدخال شىء من التحوير عليها طبقا للمدرسة الفنية التى يتبعها كل منهم، ‏فلم كانت مضاهاتهم للإنسان والحيوان بالذات هى العلة فى التحريم؟ ‏أليست مضاهاتهم للنباتات أو الشجر أو الجبال أو السحاب أو البحر أو ‏النهر هى كذلك مضاهاة لخلق الله؟ فلماذا لا يُعْتَرَض عليهم فى ذلك ‏أيضا؟ بل ألا يضاهى الأدباء أيضا بأقلامهم خلق الله من حيوان وإنسان ‏ونبات وجمادات حين يكتبون رواية أو مقالا مثلا فى وصف ما يريدون ‏وصفه من بشر وغير بشر؟ ثم إن المصورين، حتى الكافرين منهم، لا ‏يضعون فى اعتبارهم أبدا أنهم يخلقون كخلق الله. إنهم يعرفون أن كل ما ‏يصنعون هو تصوير ما حولهم. ولا أعلم أحدا من المصورين قال شيئا آخر ‏سوى هذا. الواقع أن الذين قد تدور فى أذهانهم مضاهاة خلق الله بخلق ‏مثله ليسوا هم المصورين، بل الأطباء والعلماء، الذين سول الغرور لبعضهم ‏فى وقتٍ من الأوقات الزعم بأنه لو توفرت لهم المواد التى خُلِق منها ‏الإنسان وأُعْطُوا الوقت الكافى لاستطاعوا هم أيضا أن يخلقوا الإنسان، ‏على أساس أن العملية لا تزيد على أن تكون تركيبة كيميائية تخلو من ‏المعجزة، ولا تحتاج من ثم إلى إله. ثم إن فى مؤسسة الشُّرْطة فى كثير من ‏البلاد المتقدمة قسما يصورون فيه، على السماع لا على المشاهدة، ‏المجرمين الفارين من العدالة ممن لم يتمكن أحد من تصويرهم بالآلة ‏الفوتوغرافية، إذ يُؤْتَى بجميع الشهود الذى رَأَوُا المجرم الهارب فيصفون ‏ملامحه، ومن جُمّاع كلامهم يتم رسم صورة له تعلَّق فى الأماكن العامة كى ‏يقبض الناس عليه أو يبلغوا السلطات بموضعه فتمسكه هى. فهل يعدّ ‏الفقهاء هذا اللون من التصوير، وهو ليس تصويرا ظليا بل تصويرا باليد، ‏حراما أيضا؟ ثم ماذا عن التماثيل فى عهد سليمان؟ هل كانت تخلو من ‏فتنة الناس فى عقيدتهم؟ لكن لم؟ أهى تماثيل من نوع خاص؟ وإذا كانت ‏التماثيل المنحوتة للمشاهير يمكن أن تفتن، فماذا عن تماثيل غير المشاهير؟ ‏ثم لو تركنا التماثيل البشرية جانبا، هل يجوز نحت صور الأسماك والطيور ‏والحيوانات مثلا؟ أو على الأقل: هل يصح نحت الجمادات والنباتات، التى ‏ليس فيها روح؟
وفى عصرنا الحالى، كما يؤكد بحقٍّ د. أحمد شوقى الفنجرى، لا ‏يخلو أى كتاب يدرَّس فى الكليات العملية من الرسوم التوضيحية لتبسيط ‏المادة وشرحها للطلاب، وليس من المعقول ولا من الممكن طبعا أن يرفقوا ‏كل كتاب بالأشياء والبشر المراد تصويرهم. ويشير الباحثون إلى أن ‏المسلمين هم أول من قام بهذا فى التاريخ حينما ابتدعوا فن المنمنمات فى ‏بعض كتبهم التى تحتوى على صور الإنسان والحيوان والطيور. كما يستعان ‏بفن النحت فى العلميات التجميلية للوجوه التى شُوِّهت فى حادثة من ‏الحوادث. وهناك الصور والتماثيل التى يستعان بها فى دراسة الطب ‏لتطبيق المعلومات التشريحية أو تعليم الصغار، وبخاصة إذا كانت التماثيل ‏خاصة بحيوانات بادت منذ وقت طويل أو لشخصيات تاريخية لا نعرف ‏عنها شيئا من ناحية الملامح إلا من خلال هذه التماثيل. وكنت أظن إلى ‏وقت قريب أن صور بعض علمائنا القدامى كابن سينا مثلا والرازى وابن ‏الهيثم وابن النفيس هى صور اجتهادية من وحى الخيال إلى أن قرأت، ‏عند د.الفنجرى، أنها صور دقيقة قامت على أساس علمى. وإلى ‏جانب هذا فإن الشركات الصناعية تستعين بالتماثيل للوصول بمنتجاتها إلى ‏أحسن وضع ممكن، كما فى صناعة السيارات والقطارات، إذ يضعون ‏تمثالا من مادة بلاستيكية تشابه جسم الإنسان فى المتانة والاحتمال، ثم ‏يضعونها فى السيارة أو القاطرة التى يطلقونها بسرعة معينة لتصطدم عمدا ‏بأحد الحواجز كى يعرفوا المواضع التى تتعرض أكثر من سواها فى جسد ‏الإنسان للكسر أو التلف، ومن ثم يراعون ذلك فى تصميم السيارة أو ‏القطار توفيرا لأكبر قدر من السلامة والأمان للسائقين (انظر ما كتبه د. ‏أحمد شوقى الفنجرى فى هذا الموضوع فى كتابه: "الإسلام والفنون"/ دار ‏الأمين/ 1418هـ- 1998م/ 101- 108). ‏
ويؤسفنا أن العلماء الكرام الذين تشددوا فى الأمر لم يتنبهوا إلى هذه ‏الملاحظ فأَفْتَوْا فتاواهم دون أن يضعوا السياق الذى وردت فيه النصوص ‏فى الاعتبار ولم يلحظوا ما فى صنع التماثيل أحيانا كثيرة من فوائد لا يمكن ‏نكرانها أو الغض منها بحال، مع ملاحظة أننا لا نقول بإطلاق التصوير ‏والنحت على مصراعيه، بل لا نقول به حتى فى مجال الأدب، فكيف ‏بالتصوير، الذى يُرِى المشاهدَ الأمرَ عيانا بيانا؟ فمن الطبيعى أننا لا نوافق ‏ولا يمكن أن يُتَصَوَّر أننا نوافق على اتخاذ الأصنام للعبادة. كما أننا لسنا ‏ممن يَرَوْن إقامة تماثيل للحكام المسلمين القائمين فى الحكم، إن لم يكن من ‏أجل شىء فمن أجل أنهم فى الغالب حكام مستبدون ساقوا البلاد إلى ‏الضياع على ما هو معروف، وإن كانت الشعوب فى رأيى، وبخاصة ذوو ‏الرأى والتأثير فيهم، تتحمل النصيب الأعظم من المسؤولية لأن البلاد ‏بلادهم، والمصلحة مصلحتهم قبل أن تكون مصلحة الحكام، لكنهم سكتوا ‏بل خنعوا للحكام الفاشلين، بل هتفوا لهم حتى بُحَّتْ منهم الحناجر، ‏ومجّدوا القمع والغطرسة والاستبداد، فحقت عليهم كلمة الذل والتخلف ‏والهوان. كذلك فنحن بكل قوة ضد التماثيل العارية التى تثير الشهوات ‏مهما تكلف المتكلفون فى محاولة تزيين نحتها ونصبها فى المتاحف أو ‏الميادين العامة أو حتى فى البيوت.‏
وبالمناسبة فإن المسلمين القدماء لم يلتزموا دائما بالامتناع عن رسم ‏البشر والحيوان: لقد ظهرت صور بعض الخلفاء على قطع النقود. وثَمَّ ‏أبسطة وسجاجيد خلَّفوها وراءهم منقوش عليها صور لرجال من ‏الحاشية ومقاتلين ومغنيات وطيور... وتحتوى كثير من المخطوطات على ‏صور توضيحية، كـ"مقامات الحريرى" مثلا، التى تحتوى إحدى مخطوطاتها ‏على أربعين صورة لحكامٍ عرب وفرس وملكات وقادة ومشاهير. كما أن ‏سقف قاعة الحكم فى الحمراء يشتمل على صور مختلفة منها مجلس بعض ‏الأمراء ومطاردة أحد الفرسان المسلمين لنظير له إسبانى وغير ذلك. ‏وهناك صور آدمية وحيوانية رسمها خطاطون مسلمون من خلال تشكيل ‏العبارات المكتوبة تشكيلا معينا. وقد أعطى الفرس بالذات لأنفسهم حرية ‏كبيرة نسبيا فى مجال تصوير الأحياء. أما بالنسبة للتماثيل فقد أقام بعض ‏الخلفاء فى قصورهم تماثيل لنسائهم، كما نصب بعضٌ آخرُ تماثيلَ حيوانات ‏وطيور كما فى الأسود المنصوبة حول نوافير بعض القصور التى أنشئت ‏على نحو ينبثق معه الماء من أفواهها عائدا إلى النافورة من جديد (انظر، ‏على سبيل المثال، كتاب جوستاف لوبون: "حضارةالعرب"/ ترجمة عادل ‏زعيتر/ 507- 511). وقد سبق أن أشار د. يوسف القرضاوى إلى أن ‏المسلمين لم يمتنعوا تماما عن النحت والتصوير اللذين يستقيان موضوعاتهما ‏من عالم الإنسان والحيوان، وإن ظل ذلك فى نطاق محدود.‏
وعلى كل حال فها هى ذى أبرز النصوص التى تعرض فيها القرآن ‏إلى تلك القضية: فقد تعرض لها فى موضع من مواضعه على سبيل ‏الامتنان على سليمان حين ذكر أنه قد سخر له الجن تصنع له محاريبَ ‏وتماثيلَ وجِفَانًا كالجوابى وقُدُورًا راسياتٍ. فلم ذكرها سبحانه وتعالى فى ‏سياق الامتنان بالنعمة، وهى فى الإسلام حرام؟ أما قوله على لسان ‏إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه فى الآية 52 من سورة "الأنبياء": "مَا ‏هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُون؟" فهو إنكار لعبادتهم إياها لا لصناعة ‏التماثيل فى ذاتها. وفى ضوء هذا ينبغى أن نفهم معنى قوله تعالى: ‏‏"وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا ‏يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ ‏مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ ‏فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (يونس/ 138- 140). فمن الواضح الذى لا يحتاج ‏إلى أى شرح أن الأصنام هنا للعبادة، إذ اتخذها أصحابها "آلهة" بنص ‏القرآن. ومثله قوله جل جلاله: "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ ‏عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ ‏وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ ‏يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ ‏غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ‏الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا ‏يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ ‏اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ ‏اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ ‏نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" (الأعراف/ 148- 152)، "فَأَخْرَجَ لَهُمْ (أى أخرج ‏السامرىُّ لبنى إسرائيل) عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ ‏مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ‏‏* وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ‏فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا ‏مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ ‏أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ ‏فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * ‏قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا ‏وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا ‏مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ‏لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ‏وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" (طه/ 88- 98). ‏
ولقد يُسْتَحَبّ أن ننقل هنا كلام النحاس ومكى بن أبى طالب فى ‏هذا الموضوع، وهو الكلام الذى أشار إليه د. القرضاوى، إذ قال النحاس ‏عند تناوله للآية 13 من سورة "سبأ" فى كتابه: "إعراب القرآن": "قال ‏قوم: عمل الصور جائز لهذه الآية ولِمَا أخبر الله عن المسيح. وقال قوم: ‏قد صح النهى عن النبى صلى الله عليه وسلم عنها والتوعد لمن عملها أو ‏اتخذها، فنسخ الله بها ما كان مباحا قبله. وكانت الحكمة فى ذلك لأنه ‏بُعِث عليه السلام، والصور تُعْبَد، فكان الأصلح إزالتها". وفى تفسير ‏مكى بن أبى طالب المسمى: "الهداية إلى بلوغ النهاية": "قال مجاهد: تماثيل ‏من نحاس. وقال الضحاك: "تماثيل": تماثيل الصور. وهذا عند أكثر ‏العلماء منسوخ بنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن عمل الصورة وتوعُّده ‏لمن عملها أو اتخذها. وكان فى ذلك صلاح الدين، إذ بعثه الله عز وجل، ‏والصور تُعْبَد، فكان الأصلح إزالتها. وقد قال قوم: عمل الصور جائز ‏بهذه الآية وبما صح عن المسيح عليه السلام". يقصد ما جاء فى القرآن ‏من أنه كان عليه السلام يصنع من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون ‏طيرا بإذن الله. ‏
على أن هناك مسألة سبق أن لمستها لمسا سريعا قبل قليل، وأحب ‏أن أعود إليها بشىء من التفصيل فى هذاالمقام، وهى العلاقة بين الفن (أو ‏الجمال) والأخلاق. ذلك أن قولنا بأن فى الإسلام مكانا فسيحا للفنون ‏شىء، والتصور الذى يظن أصحابه أن الفن عندنا ينبغى أن يكون مُعْفًى ‏تماما من الكوابح كما هو الحال فى الدول الغربية شىء آخر. وفى هذا ‏الصدد يوضح المرحوم مالك بن نبى وضع العلاقة بين الجمال والأخلاق ‏قائلا: "إن هناك على الخصوص صلة بين المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال ‏تكون في الواقع علاقة‎ ‎عضوية ذات أهمية اجتماعية كبيرة، إذ إنها تحدد ‏طابع الثقافة كله واتجاه‎ ‎الحضارة حينما تضع هذا‎ ‎الطابع الخاص على ‏أسلوب الحياة في المجتمع وعلى سلوك الأفراد فيه. فالحياة‎ ‎في مجتمع معين ‏قبل أن تتأثر بالفنون والصناعات، أي بالجانب المادي أو الاقتصادي‎ ‎من‎ ‎الحضارة، تتخذ لها اتجاها عاما ولونا شاملا يجعلان جميع تفاصيلها ‏مرتبطة بالمبدإ الأخلاقي وبذوق‎ ‎الجمال الشائعين في هذا المجتمع. وبعبارة ‏أدق إنها تكون مرتبطة بالعلاقة الخاصة‎ ‎القائمة بينهما. ونتيجة هذه العلاقة ‏تأتي أولا في ترتيب‎ ‎خاص‎ ‎يقدم أو يؤخر المبدأ الأخلاقي على ذوق الجمال ‏في "سلم" القيم الثقافية حتى يتكون نموذج معين من المجتمع بسبب هذا ‏الترتيب.‏‎ ‎ويمكننا أن نصوغ هذه العلاقة في صورة جبرية هكذا: "مبدأ ‏أخلاقي+ ذوق جمالي= اتجاه حضارة". وتُعَدّ إذن هذه المعادلةُ‏‎ ‎مقياسا ‏عاما يدل على اتجاه‎ ‎الحضارة كما يدل ما يسميه‏‎ ‎علماء الرياضيات: الدال ‏‏(‏Le discriminant‏) في المعادلات الجبرية من الدرجة الثانية.‏
كذلك‎ ‎شأن‎ ‎الحضارة:‏‎ ‎تتغير‎ ‎ميزاتها‎ ‎وتتجه بوجه‎ ‎خاص طبقا لعلاقة ‏المبدإ الأخلاقي وذوق الجمال في المعادلة الحضارية، أي طبقا لترتيب هذين ‏العنصرين في تلك المعادلة.‏‎ ‎وعليه فإنه يمكننا القول إن هناك، بصورة ‏عامة، نموذجين من المجتمع: نموذجا يقوم فيه النشاط أساسا على الدوافع ‏الجمالية، و نموذجا يقوم‏‎ ‎فيه النشاط على الدوافع الأخلاقية أوّلاً. وهذا ‏الاختلاف الأساسي ليس مجرد اختلاف شكلي. إنه يؤدي إلى نتائج ‏تاريخية ذات أهمية كبيرة. فالنموذجان اللذان يختلفان هكذا بسبب ‏اختلافهما في ترتيب عناصر الثقافة لا يتطوران في‎ ‎اتجاه واحد. بل إنه في ‏بعض الظروف تنشأ بينهما مناقضات جذرية حتى إن الأمر الذي‎ ‎لا يريد ‏أحدهما، بل لا يمكنه أن يريد، تحقيقه بسبب أخلاقي نرى الآخر يحققه ‏بسبب جمالي. ولنتخذ دليلا على هذا من حضارتين: 1-إن المجتمع ‏الغربي قد‎ ‎مارس، من بين فنونه، فن التصوير و تصوير المرأة العارية بخاصة ‏بسبب الدافع الجمالي،‎ ‎بينما لا نرى الفن الإسلامي قد خلف آثارا في ‏التصوير‎ ‎كذلك‎ ‎الذي نشاهده في متاحف‎ ‎الحضارة‎ ‎الغربية لأن الرادع ‏الأخلاقي في المجتمع الإسلامي لا يطلق العِنَان للفنان أن يعبر عن كل ألوان ‏الجمال، وعلى وجه الخصوص المرأة العارية. 2-إن تطور الملابس في ‏المجتمع الغربي قد‎ ‎انطلق من نقطة معينة هو إبراز جمال المرأة في الشارع ‏بكل ما يمكن أن يوضح مظهره،‎ ‎بينما نجد أن تطور الملابس في المجتمع ‏الإسلامي قد اتخذ اتجاها مخالفا تمام‎ ‎الاختلاف، إذ هو يهدف أساسا ‏بوسائل "ملاية اللف" أن يخفي جمال المرأة في الشارع.‏
وليس‎ ‎الأمر في هذين الاتجاهين أمر تفكير واختيار، و إنما هو أمر ‏تقليد يخضع للوراثة الاجتماعية وللعادات والتقاليد. وليس يعني أن الثقافة ‏الإسلامية تفقد عنصر‎ ‎الجمال، وإنما تضعه في مكان آخر في سُلَّم القيم. ‏فكل ثقافة تتضمن عنصر "الجمال" وعنصر "الحقيقة"، غير أن عبقرية ‏إحداهما تجعل محورها الجمال، بينما الأخرى تفضل أن يكون محورها ‏الحقيقة. والاختلاف هذا يعود إلى الأصول‎ ‎البعيدة: فالثقافة الغربية قد ‏ورثت ذوق الجمال من التراث اليوناني الروماني، أما‎ ‎الثقافة الإسلامية فقد ‏ورثت الشغف بـ"الحقيقة" من بين ميزات الفكر السامي. فكان رواد ‏الأولى وحملة لوائها زعماء الفن من فيدياس (‏Phidias‏) إلى مخائيل أنجلو ‏‏(‏Michel Angelo‏)، بينما قادة الأخرى أنبياء مثل إبراهيم ومحمد ‏عليهما الصلاة والسلام. ومن هنا لم يكن من محض الصدفة أو من لغو ‏الحديث أن مؤرخي النهضة‎ ‎الأوربية يحددونها بأنها "رجوع إلى الحضارة‎ ‎الرومانية اليونانية". ‏
ولقد كان لهذا الاختلاف في الأصول البعيدة للحضارتين أثر فيما ‏ينتجه الفكر في كل واحدة منهما: فالعبقرية الأوروبية أنتجت مناهج أدبية ‏كتبت على رايتها خلال القرون أسماء لامعة منذ أسشيل (‏Aschyle‏) ‏وسوفوكل (‏Sophocle‏) إلى راسين وبلزاك ودستويفسكى حتى برنارد ‏شو. غير أن هذه العبقرية بعيدة عن وحي التوراة والإنجيل والفرقان. ‏وعلى العكس من ذلك فإن الأدب العربي، والأدب الإسلامي بصفة عامة، ‏لم ينتج التراجيديا ولا القصة، بل لم يحاول أن ينتجهما إلا في القرن العشرين، ‏و في صورة تدعو أحيانا للأسف.‏‎ ‎وعليه فإن‎ ‎كل ثقافة تتضمن علاقة ‏‏"مبدأ أخلاقي- ذوق جمالي" تكون ذات دلالة من نوع عبقرية‎ ‎مجتمع معين. ‏وهي ليست تطبع إنتاجه الأدبي بطابع‎ ‎خاص‎ ‎فحسب، وإنما تحدد اتجاهه‏‎ ‎في التاريخ أيضا". ‏
وهذا كلام طيب إلى حد بعيد. وإذا كان هناك من ينكر الاعتراض ‏من هذا الوجه على الفنون والآداب فاعتراضه خاطئ من أساسه، إذ لا ‏يُعْقَل أن يبنى الدينُ المجتمعَ الصالحَ بيدٍ ليستدير فيهدم باليد الأخرى ما كان ‏قد بناه. لقد جاء الإسلام لتصحيح العقيدة وتتميم مكارم الأخلاق، ‏فيكف يُتَصَوَّر أنه يمكن أن يقف صامتا إزاء أى عمل يهدد العقيدة أو ‏يضرب الأخلاق فى الصميم؟ إن هذا هو ما يسمونه: "انفصام ‏الشخصية"، ودين الله أَقْوَمُ وأَطْهَرُ من أن يُظَنّ به ظنُّ السَّوْء. لكننى أود ‏أن أبين أن الإسلام، حينما يرى أن القيمة العقيدية أو الخلقية يجب أن تظل ‏نصب عين الفنان، فهو لا يدعو إلى التحامل على "الجميل"، وإلا لرأيناه ‏يعمل على تشويه "الجميل" وإظهاره فى صورة قبيحة، وهو ما لم يحدث ‏قط، بل هو يعمل دائما على الموازنة بين "الجميل" وبين "الأخلاقى" من ‏خلال إبراز "الجميل" فى صورة كريمة، أى الحفاظ على الجانبين معا. أما ‏الحضارة الغربية فإنها، حسب هذا التحليل، هى التى تغلِّب "الجميل" (أو ‏بالأحرى: تغلّب "المثير للشهوة") على "الأخلاقى". ذلك أن ما يعمل ‏الإسلام على ستره فى هذا السياق ليس هو الجميل، بل المثير للشهوة ‏الجنسية. كذلك ليس شرطا إلزام الأديب أو الفنان بالدعوة إلى القيم ‏الدينية والأخلاقية، بَلْهَ أن يكون الدعاء إليها فِجًّا لا فن فيه ولا إبداع، بل ‏يكفيه ألا يصادمها. ‏
كذلك فقول بن نبى إن الأديب المسلم لم يستطع أن يبدع المسرحية ‏والقصة إلا فى القرن العشرين، وفى صورة تدعو للأسف، هو قول لا ‏أستطيع أن أشاطره إياه فيما يخص القصة، إذ عُرِف الفن القصصى فى ‏أدبنا العربى وغيره من الآداب الإسلامية منذ أزمان طويلة. والواقع أنه لم ‏يحدث أنْ خلا أى أدب من هذا الفن يوما، إذ الفن القصصى يجرى فى ‏عروق البشر، ولا علاقة له بنوع الحضارة، بل هو شىء إنسانى لا يقتصر ‏على قوم دون غيرهم من الأقوام. ففى التراث الأدبى الذى خلّفه لنا ‏أسلافنا قَصَصٌ كثير منه الدينى، ومنه السياسى، ومنه الاجتماعى، ومنه ‏الفلسفى، ومنه الوعظى، ومنه الأدبى، ومنه ما وُضِع للتسلية ليس إلا. ‏ومنه الواقعى، ومنه الرمزى. ومنه المسجوع المجنَّس، ومنه المترسِّل. ومنه ‏المحتفَى بلغته، والبسيط المنساب. ومنه الطويل مثل "رسالة النمر ‏والثعلب" لسهل بن هارون (ت215هـ)، و"رسالة التوابع والزوابع" لابن ‏شُهَيْد (382- 426هـ)، و"رسالة الغفران" و"رسالة الصاهل والشاحج" ‏للمعرى (363- 449هـ)، و"سلامان وأبسال" و"رسالة الطير" لابن سينا ‏‏(370- 427هـ)، و"رسالة حَىّ بن يقظان" لكل من ابن سينا وابن الطُفَيْل ‏‏(ت581هـ) والسهروَرْدِىّ (549- 587هـ)، وقصص "ألف ليلة وليلة، ‏و"سيرة عنترة"، و"سيرة سيف بن ذى يزن"، ومنه القصير كالحكايات التى ‏تَغَصّ بها كتب الأدب والتاريخ المختلفة وجَمَعَ طائفةً كبيرةً منها محمد أبو ‏الفضل إبراهيم وعلى محمد البجاوى ومحمد أحمد جاد المولى فى أربعة ‏مجلدات كبار، و"كليلة ودمنة" لابن المقفع (ت146هـ)، و"البخلاء" ‏للجاحظ (163- 255هـ)، و"الفرج بعد الشدة"، و"نشوار المحاضرة" ‏للقاضى التنوخى (327- 384هـ)، و"المقامات"، و"عرائس المجالس" ‏للثعالبى (350- 429هـ)، و"مصارع العشاق" للسراج القارى (417- ‏‏500هـ)، و"سلوان المطاع فى عدوان الأتباع" لابن ظَفَر الصِّقِلّىّ ‏‏(ت565هـ)، و"المكافأة" لابن الداية (ت340هـ)، و"غُرَر الخصائص ‏الواضحة وعُرَر النقائض الفاضحة" للوطواط (632- 719هـ)، ‏و"المستطرَف من كل فنٍّ مستظرَف" للأبشيهى (790- 852هـ)، ‏و"عجائب المقدور فى أخبار تيمور" و"فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء" ‏لابن عربشاه (791- 854هـ)، وبعض قصص "ألف ليلة وليلة" أيضا، وما ‏ذكره ابن النديم فى "الفهرست" من كتب الأسمار الخرافية التى تُرْجِمَتْ ‏عن الفارسية والهندية واليونانية، أو رُوِيَتْ عن ملوك بابل، أو أُلِّفَتْ ‏بالعربية، فكانت حوالى مائة وأربعين كتابا: المؤلَّف منها بلسان العرب فقط ‏نحو ثمانين كتابا كلها فى أخبار العشاق فى الجاهلية والإسلام، ودعنا مما ‏أُلِّفَ بعد ذلك... ومنه النثرىّ كالأمثلة السابقة، والشِّعْرِىّ كشعر ‏الشَّنْفَرَى عن لقائه بالغول، وقصيدة الحُطَيْئة: "وطاوِى ثلاثٍ عاصبِ ‏البطن مُرْمِلٍ"، وكثير من قصائد عمر بن أبى ربيعة، وأبيات الفرزدق عن ‏الذئب، ورائية بشار، ومغامرات أبى نواس الخمرية، وقصيدة المتنبى عن ‏مصارعة بدر بن عمار للأسد... وهلم جرا.‏
على أن ليس معنى ذكر الكتب والمؤلفات فى هذا السياق أن الفن ‏القصصى لم يُعْرَف عند العرب إلا فى عصر التدوين بعد أن انتشر نور ‏الإسلام وتخلص العرب من الأمية وأصبحوا أمة كاتبة قارئة مثقفة كأحسن ‏ما تكون الأمم ثقافة وتحضرا، بل كان هذا الفن معروفا قبل ذلك فى ‏الجاهلية. وهذا الحكم يستند أولا إلى أن حب القصص نزعة فطرية لا ‏يمكن أن يخلو منها إنسان، فضلا عن مجتمع كامل كالمجتمع العربى قبل ‏الإسلام. وفى الفقرة التالية يؤكد كاتب مادة "‏Storytelling‏" فى ‏‏"الويكيبيديا" عن حقٍّ أن جميع المجتمعات البشرية، قديما وحديثا، قد ‏عرفت رواية القصص. وهذه هى عبارته نصا: "‏People in all ‎times and places have told stories‏". وثانيا إلى أن ‏لدينا قصصا كثيرا تدور وقائعه فى الجاهلية وينتسب أبطاله إليها. وقد ‏اقتصر دور الكتاب الأمويين والعباسيين على تسجيل ذلك القصص، وقد ‏يكونون تدخلوا بأسلوبهم فى صياغته، وهذا أبعد ما يمكن أن تكون ‏أقلامهم قد وصلت إليه. ومن الواضح أن هذا القصص يصوّر المجتمع ‏العربى قبل الإسلام تصويرا لا يستطيعه إلا أصحابه.‏
وثمة خبر أورده المسعودى فى "مروج الذهب" عن معاوية يدل على ‏أنه كان هناك منذ خلافته على الأقل تدوينٌ كتابىٌّ لما كان الجاهليون ‏يروونه من قصص وحكايات وأسمار، وأن هذا التدوين من ثَمَّ لم ينتظر ‏حتى مجىء العصر العباسى. وهذا هو النص المذكور، وقد ورد فى ‏سياق كلام المسعودى عن المنهج الذى كان معاوية يتبعه فى إنفاق ساعات ‏يومه نهارا وليلا، وهو خاص بسماع العاهل الأموى أخبار العرب وأيامها ‏فى الجاهلية: "ويستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها والعجم ‏وملوكها وسياستها لرعيتها وسِيَر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها ‏وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطُّرَفُ ‏الغريبة من عند نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل ‏فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها ‏والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتَّبون، وقد وُكِّلوا بحفظها ‏وقراءتها، فتمرّ بسَمْعه كلَّ ليلة جُمَلٌ من الأخبار والسير والآثار وأنواع ‏السياسات، ثم يخرج فيصلي الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا في كل ‏يوم". ولدينا أيضا كتاب "أخبار عَبِيد بن شَرِيّة الجُرْهُمِيّ في أخبار اليمن ‏وأشعارها وأنسابها"، الذى سجل فيه مؤلفه ما كان يقع بينه وبين معاوية ‏بن أبى سفيان من حوارات تاريخية، وكان معاوية قد استقدمه ليستمع منه ‏إلى أخبار ملوك اليمن. ويذكر ابن النديم أن عَبِيدًا وَفَد على معاوية فسأله ‏العاهل الأموى عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل ‏الألسنة وأَمْر افتراق الناس في البلاد، وكان قد استحضره من صنعاء ‏اليمن، فأجابه إلى ما سأل، فأمر معاوية أن يُدَوَّن ذلك ويُنْسَب إلى عبيد. ‏وهو الكتاب الذى يؤكد المسعودى أن صاحبه هو الوحيد الذى صح ‏وفوده على معاوية من رواة أخبار الجاهلية.‏
واللافت للنظر أن الأغلبية من كتّاب القصة ونقادها فى بدايات ‏العصر الحديث بأرض الكنانة مثلا لم ينظروا إلى القصة على أنها شىء ‏جديد، بل على أنها امتداد للقصص العربى القديم، إن لم تكن هى هو. ‏وهذا واضح مما كتبه رفاعة الطهطاوى فى مقدمة ترجمته لرواية فنلون التى ‏عنونها بــ"مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك"، إذ قال إنها موضوعة على هيئة ‏مقامات الحريرى فى صورة مقالات. كما يقارن عبد الله النديم، فى مقال ‏له بمجلة "الأستاذ" بتاريخ 10 يناير 1893م، الأسلوب الذى كُتِبَتْ به رواية ‏سعيد البستانى: "ذات الخدر" بأسلوب السِّيَر الشعبية ويدافع عنها على ‏هذا الأساس. كذلك كان حافظ إبراهيم، حين ترجم رواية هوجو: ‏‏"البؤساء"، ينظر إلى عمله على أنه امتداد لما كان العرب يعملونه فى العصر ‏العباسى من نقل القصص الأجنبى القديم إلى لسانهم. وهذا الكلام متاح ‏لمن يطلبه فى مقدمة الترجمة المذكورة. وهو نفسه ما قاله تقريبا جرجى ‏زيدان فى الجزء الرابع من كتابه: "تاريخ آداب اللغة العربية"، وإن أضاف ‏أن القصص العصرى ينحو نحو الواقعية التى تلائم روح العصر. ‏
أما الاعتراض بأن شكل القصة العربية القديمة يختلف عنه فى ‏القَصَص الحديث فليس بشىء لأن الفن القصصى تتغير أشكاله مع الزمن، ‏والقصص الغربى نفسه فى بدايته يختلف عنه الآن من هذه الناحية ‏اختلافا شديدا، وليس هذا بمسوغ عند أحد للقول بأن الغرب لم يكن ‏يعرف القصة من قبل. بل إن عددا كبيرا مما تركه العرب من قَصَص ليصمد ‏لمحكّ الشكل الفنى الحديث رغم أن هذا ليس بشرط أبدا، فلكل زمان ‏ولكل مكان دولة ورجال، وكثير من النقاد العرب الكبار فى عصرنا قد ‏أثبتوا هذا وأطالوا القول فيه. والمهم أن يتألف العمل القصصى من أحداث ‏تقع فى زمان ومكان معينين وشخصيات وحوار وسرد وموضوع تدور ‏عليه القصة وشكل فنى محكم يتكون من بداية وعقدة ونهاية. أما ‏التفصيلات فتختلف من زمن إلى زمن، ومن أمة إلى أمة، تبعا للتطورات ‏السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والذوقية، وما إلى ذلك. ‏وما يعجبنا اليوم ربما لا يعجب أبناءنا وأحفادنا غدا، مثلما لا يعجبنا ‏بعض ما خلفه لنا أسلافنا. وهل تجرى الحياة على وتيرة واحدة؟ إن هذا ‏لهو المستحيل بعينه، فلماذا يشذ الفن القصصى عن هذه السُّنّة وتكون ‏القصة الغربية فى العصر الحديث هى "القصة" بـ"أل" الماهية، وما سواها ‏ليس بقصة؟ وإذا كنا قد ترجمنا ولا نزال نترجم الأعمال القصصية التى ‏يبدعها الغربيون فقد ترجموا هم بدورهم كثيرا من الأعمال القصصية التى ‏أبدعها أجدادنا وتأثروا بها مثلما تأثرنا نحن بهم. ترجموها إلى اللغات ‏الأوربية المختلفة، وكثيرا ما ترجموا هذا العمل أو ذاك إلى اللغة الواحدة ‏عدة مرات. وهى سنة كونية لا تتخلف أبدا: كل أمة تأخذ من غيرها ‏وتعطيها.‏
الحضارة الإسلامية فى عز مجدها
لمحة طائر
تبدأ الحضارة الإسلامية مع‏‎ ‎بداية الإسلام‎ ‎عام 622م. ذلك أن‎ ‎النبي‎ ‎وضع أسس دولة حضارية‏‎ ‎متينة مستمدة من روح القرآن الكريم وتعاليمه. ‏ومع الدعوة الجديدة اتجه الناس نحو عبادة الإله الواحد،‎ ‎والانتظام في قوانين ‏ودساتير مدنية نظمها القرآن الكريم. فبدأ العرب ينضوون تحت‎ ‎لواء ‏الإسلام، وينتظمون فيما أخذ يشكل دولة حقيقية. وفى تلك الرقعة ‏الشاسعة التى بلغ بها الإسلام أقصى أنحاء العالم ترسخت أسس حضارة ‏إسلامية في عقل الإنسان الفرد وقلبه،‎ ‎وفي ضمير الجماعة‎.‎
ومن أبرز الأسس التي قامت عليها الحضارة الإسلامية في العهد ‏النبوي عقيدة التوحيد. وترتَّب على هذا التوحيد آثار إيجابية في بناء ‏المسلمين لأن الناس عندما تُقْبِل‎ ‎على الخضوع لله وحده تُحِلّ الحلال وتُحَرِّم ‏الحرام وتجاهد في سبيل الله لإرساء قيم‎ ‎الحق والعدل والمساواة والكرامة ‏والعلم النافع‎.‎‏ ويخبرنا التاريخ الإسلامي أن العقيدة الإسلامية هي التي ‏أفرزت بطولات نادرة، وجعلت المسلمين ينتصرون على شهواتهم، ثم ‏يصمدون أمام قوى البغي والعدوان في مكة، وينتصرون في الغزوات ‏والسرايا التي انطلقت من المدينة المنَّورة‎.‎‏ ومن يتابع أبحاث المستشرقين ‏المنصفين يلحظ أنهم يقفون مندهشين أمام هذه الظاهرة العجيبة في ‏الحضارة الإسلامية.‏
ومن هذه الأسس أيضا وحدة الأمَّة ورَفْض كل العصبيات الطبقية ‏والقومية والعنصرية والقبلية وما شابه ذلك، إذ جعل الإسلام رابطة العقيدة ‏هي الأصل الذي يجتمع ويتفرق عليه الناس. والحق أن إلحاح الإسلام على ‏وحدة الأصل البشري وبناء علاقات الناس على هذا الأساس يمثل سمة ‏إنسانية‎ ‎حضارية بارزة في تشريعات الإسلام المختلفة. فمثلاً يقف الناس ‏جميعًا في الصلاة بين‎ ‎يدي الله متراصين دون أى تفرقة بين غنى وفقير أو ‏حاكم ومحكوم، ويلبسون زيا واحدا في الحج،‏‎ ‎ويؤدون المناسك جميعها ‏بعضهم مع بعض‎.‎‏ كذلك عبرت نصوص القرآن والسنة عن العدل، وطبّقه ‏الرسول والصحابة‎ ‎تطبيقا صارما. وهناك أيضا العِلْم، فقد جاء الإسلام ‏ليعيد ترتيب العقل الإنساني ثم يُطلقه ليعرف ربَّه من خلال‏‎ ‎آياته في الكون ‏والنفس بقصد البناء. وكان أول ما نزل من الوحي يختص بالعلم، وهو‎ ‎قوله ‏تعالى:‏‎ ‎‏"اقرأ باسم ربك الذي خلق" (العلق/ 1).‏‎ ‎وامتن الله على رسوله ‏عليه السلام بالعلم في مواضع كثيرة من القرآن، وامتن على المسلمين بأنه قد ‏بعثه فيهم رسولاً كما في قوله تعالى‎: ‎‏"لقد مَنَّ اللهُ على‏‎ ‎المؤمنين إذ بعث ‏فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياتِه ويزكّيهم ويعلّمهم الكتابَ‎ ‎والحكمةَ، ‏وإنْ كانوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضلالٍ مُبِينٍ " (آل عمران/ 164‏‎(‎، وفضَّل الله ‏العلماء على غيرهم‎.‎‏ ومن دلائل اهتمام الرسول بالعلم أنه جعل فداء بعض ‏أسرى بدر تعليم الواحد منهم‎ ‎عشرة من أبناء الأنصار القراءة والكتابة. ‏ووردت أحاديث كثيرة في الحث على تحصيل‎ ‎العلم النافع، مما كان له الأثر ‏الفعال في بناء حضارة إسلامية رائدة‎.‎
وبالمثل كان الجهاد بجميع ميادينه ومعانيه أعظم وسيلة لتحقيق العمل ‏بالدين بما في ذلك نشر مبادئ العدل والمساواة والإخاء والحرية وحماية ‏الدين‎ ‎بالنفس والمال. ولذا رغَّب فيه الإسلام ترغيبًا شديدًا حين جعل ‏ثواب المجاهدين الشهداء في المرتبة الأولى من مراتب الأعمال الصالحة. ‏والتزم النبي بالعهود والمواثيق في جهاده ضد المشركين في حالتي الحرب ‏والسلم‎ ‎مهما كلّفه ذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها أن جماعة من ‏المسلمين المستخْفِين‎ ‎بإسلامهم خرجوا من مكة للحاق بالمسلمين بالمدينة ‏أثناء حصار الأحزاب لها، ولكن لم‎ ‎يسمح لهم كفار قريش بدخولها، إلا ‏إذا التزموا بعدم الحرب مع المسلمين. فلما أخبروا الرسول قال: نَفِي ‏بعهدهم ونستعين بالله عليهم. وعندما هاجر إلى‎ ‎المدينة خلَّف وراءه عليًا ‏ليؤدي عنه أمانات الكفار التي كانت بيده، ولم يستحل‎ ‎لنفسه الاستيلاء ‏عليها‎.‎
كذلك تمثل آيات القرآن دستورا شاملا لتربية الأفراد والجماعات ‏تربية صحيحة في شتى مجالات الحياة. والحق أن كل القيم التي أسست ‏لقيام الحضارة الإسلامية في العهد النبوي هي من آثار تلك‎ ‎التربية الإسلامية ‏الصحيحة للفرد والجماعة. وتميزت هذه التربية التي بدأت بدار الأرقم بن ‏أبي الأرقم بمكة بأنها‎ ‎تربية‎ ‎أخلاقية شمولية تتناول كل شأن من شؤون ‏المسلم، وبأنها قرنت القول بالعمل. وكان لُحْمَتها وسَدَاها الأخلاق ‏الإنسانية الراقية التي يلحظها الإنسان في جميع أحكام الإسلام من‎ ‎فروض ‏وسنن ومندوبات ومستحَبّات. وتمثل ذلك كله في شمائل الرسول ‏وصحابته. ويدرك الناظر‎ ‎في كتاب "الأنوار في شمائل النبي المختار" للإمام ‏البغوي‎ ‎هذه الحقيقة، إذ‎ ‎يكفي دلالة أن تعلم أنه أورد 1257 حديثًا وأثرًا ‏معظمها في‎ ‎الأخلاق‎.‎
ومعروف أن العمل هو الذي يشيّد صرح الحضارة، ومن ثم قد علّم ‏الإسلام المؤمنين المثابرة على العمل، وكان الرسول عليه الصلاة‎ ‎والسلام ‏يتعوّذ من العجز والكسل، موضحا أن الذي يخرج لطلب الرزق لأبويه ‏الشيخين أو لذريته الضعاف أو ليُعِفّ نفسه من‎ ‎مذلة السؤال هو في سبيل ‏الله‎.‎‏ وارتقى الإسلام بالعمل، أيا كان نوعه، إلى مرتبة العبادة ما دام يُبْتَغَى ‏به وجه‏‎ ‎الله. وحثّ الإسلام الناس على العمل لعمارة الأرض في شتّى ‏الميادين الاقتصادية، مثل استصلاح الأرض الموات انطلاقا من قول الرسول: ‏‏"من أحيا أرضًا ميتة فهي له". ولذا شهدت وقائع التاريخ الإسلامي ‏حركة عظيمة لاستصلاح الأرض وتحسين أساليب الزراعة وتنويع ‏المزروعات، ومثل التعدين والإنتاج الصناعي انطلاقا من توجيه القرآن ‏أنظار المؤمنين إلى أهمية المعادن، وفي مقدمتها الحديد: "وأنزلنا الحديدَ فيه ‏بأسٌ شديدٌ ومنافعُ للناس" (الحديد/ 2)، ومثل النشاط التجاري الذي ‏انطلق من حث الله الناس للضرب في الأرض ابتغاء فضله‎.‎
ومن جهة الوعي بالزمن لا يختلف اثنان مع المفكر الإسلامي ‏الجزائري مالك بن نبي، يرحمه‏‎ ‎الله، في تحليله لشروط النهضة الحضارية ‏عمومًا حين قال: إن مشكلة الحضارة تنحلّ إلى‏‎ ‎ثلاث مشكلات أولية: ‏مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت. فالإسلام يربّي ‏الإنسان المؤمن به على محاسبة نفسه على كل لحظة يعيشها واستغلال كل ‏لحظة للصالح‎ ‎العام والخاص. قال عليه الصلاة والسلام: "من أحس قيام ‏الساعة وبيده فسيلة‎ ‎فليغرسها". ومن أول ما يُسأل عنه المرء يوم القيامة ‏عمره فيم أبلاه‎.‎
وإذا أردنا أن نلم بعصور الحضارة الإسلامية فى عجالة فنستطيع أن ‏نقول: في السنة الحادية عشرة للهجرة توفي النبي بعد أن حج حجة الوداع. ‏وجاء بعده الخلفاء‎ ‎الراشدون الأربعة: أبو بكر الصديق فعمر بن الخطاب ‏فعثمان بن عفان فعلي بن أبي طالب، فوجههوا اهتمامهم إلى نشر رسالة ‏الإسلام على هدي الرسول واتسعوا في الفتوح.‏
وفي عام 41هـ انتقلت الخلافة إلى دمشق مع الخلفاء الأمويين الأربعة ‏عشر، الذين ركز معظمهم على إرساء معالم الحضارة الإسلامية. وفي ‏عصرهم تطور الشعر والنثر بأنواعهما المختلفة، كما ازدهرت بعض نواحي ‏العلوم والموسيقى والغناء. ومع الأمويين اتسع العالم الإسلامي صوب ‏مشارق الأرض ومغاربها، وبلغت فتوحهم إفريقيا الشمالية والمغرب، ثم ‏عبروا إلى أسبانيا (الأندلس)، فأنشأوا فيها حضارة إسلامية راسخة لا ‏تزال آثارها باقية حتى اليوم.‏‎ ‎
وفي عام 132هـ انتقلت الخلافة من دمشق إلى بغداد مع الخلفاء ‏العباسيين السبعة‎ ‎والثلاثين، الذين انقسم عصرهم إلى أربع حقب زاخرة، ‏إذ بلغت الخلافة الإسلامية أوانئذ أقصى مداها. ففي العصر العباسي ‏اتخذت الدولة شكلاً متطورًا، وعرف المجتمع‎ ‎الإسلامي عصره الذهبي. ‏وكان من أواصر هذا التقدم الحضاري قيام المجتمع الإسلامي على‎ ‎ثلاث ‏وحدات: وحدة الدين، ووحدة الاقتصاد، ووحدة اللغة. وفي ذلك العصر ‏قامت المذاهب‎ ‎الفكرية التي تعالج قضايا الشريعة والعقل مستمدة مواقفها ‏من روح القرآن الكريم. ومن أبرز مآثر العصر العباسي تأسيس "بيت ‏الحكمة" على عهد المأمون، وكان تجمعًا لكبار المفكرين والمترجمين ‏والعلماء. وفيه بدأت عمليات الترجمة من‏‎ ‎اليونانية والفارسية والهندية إلى ‏العربية حيث تمت ترجمة الكثير من كتب‏‎ ‎الفكر والعلوم وتأليفها، مما أهَّل ‏المسلمين لاستقبال الفكر الإنساني في أبلغ مصادره. وإلى‏‎ ‎جانب الشعر ‏والنثر الفني برز أدب السيرة والرواية والتصنيف الأدبي وفقه اللغة والمعاجم ‏والنحو والعلوم الدينية والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والطب والفلك ‏والرياضيات والعلوم الطبيعية والغناء والموسيقى. ويمكن القول إن العصر ‏العباسي رفد‎ ‎الحضارة الإسلامية بالعلوم وشتى مجالات المعرفة، وهو ما ‏ظهر أثره لاحقًا على الفكر‎ ‎العالمي والإنتاج الغربي‎.‎‏ ثم أصيب العصر ‏العباسي للأسف بنكبة حضارية كبرى حين اجتاح المغول البلاد الإسلامية ‏وأشاعوا الرعب والقتل ودمروا، ضمن ما دمروا،‎ ‎مكتبة بغداد، فدخلت ‏الحضارة العربية عصرًا أطلق عليه بعض الدارسين: عصر الانحطاط، بعد ‏أن أقام المسلمون بين القرنين السابع والثالث عشر الميلاديين حضارة عالمية ‏جعلتهم في طليعة الشعوب المتحضرة. وقد شملت هذه الحضارة العظيمة ‏أسبانيا‎ ‎وإفريقيا الشمالية في الغرب، وشعوب العالم القديم من مصر إلى ‏سوريا إلى بلاد ما‎ ‎بين النهرين في الشرق. وكان واضحًا أن سرعة انتشار ‏الإسلام هي التي عجّلت بربط‎ ‎أجزاء الخلافة الإسلامية. وهكذا كان ‏الإسلام هو المحرِّك، وكانت اللغة العربية هي‏‎ ‎الصلة‎.‎
وقد حققت الحضارة‎ ‎الإسلامية العربية في فترة ازدهارها الكثير من ‏الإنجازات في ميادين المعرفة المختلفة، خصوصًا في مجالات الرياضيات ‏والفلك والطب والعمارة والجغرافيا والفيزياء‎ ‎والهندسة: ففي الرياضيات ‏اخترع الخوارزمي، أحد علماء المأمون، علم الجبر وانتشر العلم‎ ‎بفضله في ‏العالم. وأخذت أوروبا في الرياضيات عن العرب مفهوم "الصفر" ونظام ‏التقويم‎ ‎والنظام العشري، الذي دفع بعلم الرياضيات خطوات إلى الأمام، ‏وكذلك الأرقام العربية التي‎ ‎هي اليوم أوسع الأرقام انتشارًا في العالم. وفي ‏علم الفلك شهدنا ظهور الأسطرلاب العربي، الذي أوجده العلماء ‏المسلمون‎ ‎لتحديد أوقات الفجر والمغرب والصوم، ثم طوّروه فاكتشفوا ‏خطوط الطول والعرض وسرعة الصوت والضوء حتى أصبح ذلك مرجعًا ‏لعلماء الغرب. وتمكن‎ ‎البيروني‎ ‎من اكتشاف‎ ‎دوران الأرض حول الشمس، ‏وهو ما أثبته جاليليو بعد ستة قرون. وترجم الفلكيون العرب كالزرقالي ‏والفرغاني والفزاري مؤلفات بطليموس في الفلك وأضافوا إليها ثم تركوا ذلك ‏كله مرجعًا‎ ‎للفلكيين الغربيين. وفي ميدان الطب تفوق العرب في فنون العلاج ‏التي كانت معروفة في مصر القديمة وبلاد ما‎ ‎بين النهرين. وكانت مؤلفات ‏الرازي المتقدمة في الطب مرجعًا للأوربيين حتى وقت متأخر من القرن ‏السادس عشر الميلادي. كما ظل الأوروبيون حتى القرن السابع عشر ‏يتعلمون من‎ ‎نظريات ابن سينا الطبية ككلامه فى الطب العقلي، الذى ‏أصبح‎ ‎فيما بعد أساسًا لعلم النفس. واشتهر عند العرب أيضًا أمر ‏التداوي بالأعشاب والمواد الطبيعية من ثوم ومُرّ وعصير جُلاّب وماء ‏زهر... إلخ، ومنهم انتشرت إلى الشرق الأوسط فأوروبا. وفي علوم ‏الفيزياء أفاد الأوروبيون من علماء الإسلام فوائد جمة، وبخاصة فى حقل ‏البصر والبصريات، من مؤلفات الكندي وابن الهيثم. وفي الفلسفة ترجم ‏العرب أهم مصادرها المشرقية واليونانية القديمة مع تطويرها، فاشتهر ‏الكندي بتطوير فلسفة أفلاطون وأرسطو، والفارابي بفكرة "المدينة ‏الفاضلة"، وابن سينا بفلسفته العقلية، وابن خلدون بنظرياته الاجتماعية ‏التي‎ ‎لا تزال حتى اليوم أصل مؤلفات الكثيرين من الفلاسفة الاجتماعيين ‏الغربيين. وبرز‎ ‎ابن رشد بفلسفته التي ارتكز عليها بعده فلاسفة غربيون ‏كبار‎.‎
كذلك كان للعرب فى مجال الملاحة والجغرافيا تأثير كبير على ‏الغرب. وقد أخذ العرب من الكنعانيين وقدامى المصريين ما أعانهم على ‏تطوير البوصلة. وبرع‎ ‎الإدريسي في القرن الثاني عشر الميلادي بابتكاراته ‏ومكتشفاته، إذ وضع أول أطلس في‏‎ ‎العالم، حاويًا سبعين خريطة بعضها ‏لمناطق لم تكن معروفة من قبل. وكانت رحلات ابن‎ ‎بطوطة خير معين ‏للأوروبيين على معرفة مناطق جغرافية لم يكونوا يعرفونها. وفي القرن ‏السادس عشر تمكن حسن الوزان (وهو يُعْرَف عندهم باسم "ليون ‏الإفريقي") من كشف مجاهل إفريقيا، مما استفاد منه الغربيون استفادة ‏هائلة. وفي رحلات فاسكو دي جاما الشهيرة كان الملاح‎ ‎العربي أحمد بن ‏ماجد هو البحار الرئيسي في القيادة. ويقال إن كريستوفر كولمبوس كان‎ ‎يتكل على بحار عربي في توجيه حملته البحرية التي أدت إلى اكتشاف ‏أمريكا. ‏
وفي العمارة عرف المسلمون طرازًا معماريًّا متميزا تجسد في بناء ‏المساجد. ويعترف علماء الغرب أن الجامع الأموي في دمشق‏‎ ‎وجامع ابن ‏طولون في القاهرة كانا أساسًا لبناء عدة كاتدرائيات ضخمة في أوروبا. ‏وقد‎ ‎تأثر فن البناء الغربي كثيرًا ببناء المآذن والأقواس والقناطر والأهِلّة ‏والأطراف‎ ‎والمثلثات والمنحنيات المعكوسة وهندسة القباب والمكعبات، ‏مما أخذه الأوروبيون عن‎ ‎مساجد مكة والقدس والقاهرة ودمشق. وكان ‏لفن الزخرفة والخط والنقوش تأثير كبير على‎ ‎الأوروبيين، خاصة ما تركه ‏العرب في الأندلس كقصر الحمراء والجامع الكبير في‎ ‎قرطبة. وعلى نفس ‏المنوال برع العرب في الحرفيات الدقيقة والمنمنمات والزجاجيات والخزف ‏والحفر والبلَّور ومزج الألوان وصباغة الحرير والأقمشة والجلود‎ ‎والدباغة ‏وصقل الحديد. ومازالت بعض هذه الخامات والحِرَف تحمل في الغرب ‏اسمها الأصلي: دمقس، حرير دمشقي، دباغة مغربية، أزرق محمدي. ‏ويردها بعض الغربيين كما هي في أصلها‎ ‎العربي تقريبا.‏‎ ‎
ولم يتوقف إبداع المسلمين الحضارى عند هذا الحد، بل كانت لهم ‏تطويراتهم في الموسيقى وآلاتها أيضا، وما زالت هناك حتى اليوم آلات ‏عديدة كالقيثارة والطبلة والناي والمزمار ومزمار‎ ‎القربة... إلخ معروفة ‏على أنها تطوير غربي للآلات الموسيقية العربية. كما أخذ الأوروبيون ‏الكثير من الألحان العربية التي كانت شائعة في غناء القصائد العربية في ‏قصور الملوك. وعلى ذات الشاكلة أخذ الغربيون جماليات اللسان العربي ‏فدخلت كلمات وعبارات عربية كثيرة إلى عدة لغات أوروبية، ولا تزال ‏حتى اليوم جزءا من نسيج‏‎ ‎هذه اللغات كالإنجليزية والفرنسية والأسبانية ‏والإيطالية والألمانية. وأثرت‎ ‎مؤلفات عربية مثل‎ ‎‏"حي بن يقظان"‏‎ ‎لابن ‏طفيل‎ ‎و"ألف ليلة وليلة" و"مقدمة‎ ‎ابن خلدون" وغيرها في الفكر والأدب ‏الغربي تأثيرا عظيما. كما اشتهر العرب أيضا بفن الجنائن والحدائق، وبات ‏كتاب "الفِلاَحة الأندلسية"‏‎ ‎لابن العوام مرجعًا أوروبيًّا في علم النبات لأنه ‏وصف فيه‎ ‎نحو خمسمائة نبتة، وبيَّن طريقة زراعتها والاعتناء بها وبالأرض ‏والتربة. وكذلك ظل الأوروبيون لوقت طويل يستفيدون من العرب، خاصة ‏الأندلسيين، في فنون حفظ الخضراوات‏‎ ‎والفواكه والأزهار، ومواد التجميل ‏ومساحيق الوجه والعطور والتطيب والجواهر‎ ‎والحُلِيّ. ‏
هكذا نجد أن المسلمين ساهموا في إعلاء الحضارة العالمية وتقدمها ‏وتطورها بفضل أعلامهم في العلوم والفنون والتربية والفلسفة والشعر ‏والموسيقى. وفي مكتبات العالم اليوم آلاف الوثائق التي تشهد بفضل ‏المنجزات الحضارية الإسلامية في حقول الفلك والرياضيات والفيزياء ‏والكيمياء والطب والصيدلة والجغرافيا والعمارة‎ ‎والموسيقى، وما كان لهم ‏من تأثير في تصنيع النسيج والورق والدهان والصابون والحبر والشمع ‏والسكر والنشاء والزيوت النباتية والعطور والبارود، وكذلك في اكتشاف ‏أو‎ ‎تطوير الميزان ورقاص الساعة والساعة المائية والطاحونة المائية والهوائية ‏والآلات‎ ‎الفلكية وأجهزة سكب المعادن وصك النقود والمعدات الحربية ‏والأدوات الطبية‎ ‎والجراحية، وبناء الجسور والقنوات المكشوفة وجر المياه ‏والتدفئة والتبريد وأنظمة الري والحمامات العامة وأبراج المراقبة ‏والتحصينات العسكرية وسواها من الإنشاءات والابتكارات والاكتشافات ‏التي يعترف الغرب اليوم بفضلها للعرب‎ ‎وحضارتهم. وبهذا تكون الحضارة ‏العربية الإسلامية قد قدمت للحضارة العالمية إسهامات رئيسية‎ ‎ما يزال ‏العالم يستخدمها اليوم، مدينًا بها للعرب بالسبق والابتكار‎.‎
أما بالنسبة للأندلس فقد فَتحَ المسلمون شبه جزيرة أيبرية بقيادة ‏طارق بن زياد في رمضان عام 92هـ- 711م بعد أن انتصروا على جيوش ‏القُوط، وأسّسوا دولة إسلامية حكمت ثمانية قرون من الزمان تمتد من ‏نهاية القرن‎ ‎الأول حتى نهاية القرن الثامن الهجري (92- 798هـ)، الموافق ‏للفترة من القرن الثامن‎ ‎حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي (711– ‏‏1492م). وقد أدّت الأندلس، في عهود ولاتها الذين شجَّعوا العلم ورَعَوْا ‏حقوق العلماء، دورًا‎ ‎مهمًا في نقل الحضارة العربية الإسلامية من المشرق ‏إلى المغرب، فقامت بحمل مشاعل الفكر والمعرفة مبددة ما حولها من ظلام ‏الغرب وتخلّفه قبل أن يبدأ ما‏‎ ‎عُرف بـ"عصر النهضة"، الذي كانت أوروبا ‏تعيش قبله في جهل وظلام فكري وروحي‎.‎‏ وتمّيزت الحضارة الإسلامية ‏بالأندلس بمقومات عدّة أهمها: العقيدة، أى الدين الإسلامي، واللّسان، ‏وهو اللغة العربية، فاختلفت بذلك عن كل الحضارات التي سبقتها أو ‏لحقت بها فى شبه جزيرة أيبريا، إذ إن هويتها إسلامية‎ ‎عربية، فهي تَحْمِل ‏قيم الإسلام وعزّته مع فصاحة اللّسان العربي وبيانه‎.‎
وقد أدّى تاريخ الأندلس السياسي دورًا كبيرًا، سواء في ازدهار ‏هذه‎ ‎الحضارة ونموّها أو في تقلصها وانكماشها. وعرفت الحضارة ‏الأندلسية تطورات مختلفة‎ ‎من القوة والضعف وصلت بها إلى ذروة قوتها ‏ونضجها في عهد الخلافة الأُموية أيام حكم‎ ‎الخليفة عبد الرحمن الناصر ‏‏(300- 350هـ/ 912- 961م) وابنه الحَكَم (350- 366هـ/ 961-‏‏976م). لقد عرفت الاندلس في هذا العصر شعراءَ كبارًا كابن عبد ربه ‏وابن هانئ، ومؤرخين مشهورين كالرازي وابن القوطية، وعرفت كذلك فن ‏التأليف الموسوعي كما هو الحال فى "العِقْد الفريد" لابن عبد ربه، وظهرت‎ ‎في هذا العصر المُؤَلَّفات الفلسفية على يد ابن مسَّرة. وفوق هذا فقد ‏حظيت الدراسات العلمية‎ ‎في مجال الفلك والرياضيات باهتمام طيب، وإن ‏كان أقل شأنًا من الاهتمام بالدراسات‎ ‎الأدبية. وبلغ الاهتمام بالعلوم الدينية ‏والشرعية مدى عاليا، فظهر محدِّثون وفقهاءُ ومفسرون أعلام. ولعل ما ‏بلغته مكتبة الخليفة الناصر من ثراء وغنى يُعَدُّ دليلاً على تلك‎ ‎النهضة ‏الحضارية الشاملة التي عاشتها الأندلس في هذا العصر‎.‎
ولما انهارت الخلافة الأموية انقسمت الأندلس إلى إمارات وطوائف ‏تتطاحن فيما بينها، ولكنْ ظلت شمس الأدب والفكر ساطعة رغم ‏تطاحن هذه الدول. وعرفت الأندلس في هذه الفترة المضطربة طائفة من‎ ‎أعظم مفكريها وأدبائها وشعرائها، فقد كان أكثر حكام الطوائف وأمرائها ‏من رجال الفكر والأدب، ومن ثمّ حظيت الحركة الثقافية بتشجيعهم ‏وحَفْزهم لها. ومن أشهرهم حاكم أشبيلية الشاعر المعتمِد بن عباد، ‏وكذلك المُظَفَّر وابنه المتوكل، ثم المعتصم بن صُمَادح أمير‎ ‎ألمريِّة، والمقتدر ‏والمؤتمن من بني هود في سَرَقُسْطة. كما برز الفقيه العالم ابن حزم ‏‏(ت456هـ)‏‎ ‎وابن حيَّان‎ ‎مؤرخ الأندلس (ت469هـ)‏‎ ‎وابن زيدون‎ ‎دُرّة الشعر ‏والشعراء (ت469هـ)، وغير هؤلاء كثيرون‏‎.‎
وعندما استولى المرابطون على الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين ‏‏(493- 541هـ) تألقت بعض الأسماء اللامعة في مختلف مجالات المعرفة، ‏ووصلت الأندلس‎ ‎في هذا العصر أعلى درجات الازدهار الأدبي والفكري ‏والحضاري. فقد كان الأندلسيون، كما يقول‏‎ ‎المستشرق الأسباني خوليان ‏ربيرا، "هم الشعب الأوروبي الوحيد الذي ازدهرت عنده‎ ‎الفنون بشْتَّى ‏صنوفها والآداب والفلسفة وغيرها ازدهارًا عظيمًا". وحينما نهضت ‏أوروبا نهضتها الفلسفية والفنية والعلمية والأدبية في القرنين الثاني عشر ‏والثالث‎ ‎عشر الميلاديين كانت الأندلس من أكبر شعوب أوروبا تأثيرًا في ‏الفلسفة والفلك والطب‎ ‎والقصص وشعر الملاحم. ومن أعلام هذا العصر ‏الفيلسوف‎ ‎ابن ماجه (ت523هـ)‏‎ ‎والفتح بن‎ ‎خاقان‎ ‎صاحب‎ ‎‏"قلائد ‏العِقْيان" (ت535هـ)‏‎ ‎وابن بسام‎ ‎‏(ت542هـ) صاحب‎ ‎‏"الذخيرة في محاسن ‏أهل الجزيرة". وفي مجال الطب كان‎ ‎أبو القاسم خلف بن عباس‎ ‎القرطبي ‏‏(ت516هـ) علمًا لا ينكر.‏
ولما حَلَّ الموحِّدون حكامًا للأندلس (541- 668هـ/ 1146-‏‏1269م) انطلقت حركة الفنون والعلوم بقوة أكبر في مجالات التأليف ‏والبحث والبناء والعمران، فازدهرت على‎ ‎عهدهم الدُّور العلمية في ‏مختلف المدن الأندلسية في‎ ‎قرطبة وأشبيلية وبلنسية‏‎ ‎وغرناطة ومرسية، ‏ونشط التأليف في مختلف العلوم والفنون. ومن الأسماء اللامعة لهذا العصر‎ ‎ابن طفيل‎ ‎صاحب رسالة حيّ بن يقظان (ت571هـ) والفيلسوف‏‎ ‎ابن ‏رشد‎ ‎‏(ت594هـ)‏‎ ‎وابن بشكوال‎ ‎صاحب كتاب‎ ‎‏"الصلة" (ت578هـ) ‏وغيرهم وغيرهم‎.‎
ولما اضمحلّ شأن الموحدين وضعف أمرهم بالأندلس والمغرب في ‏أوائل القرن السابع الهجري بعد أن دام ملكهم نحو مائة وثلاثين سنة ‏انحصرت الدولة الأندلسية منزوية في‎ ‎الركن الجنوبي الغربي في مملكة صغيرة ‏هي‎ ‎غرناطة‎ ‎تحت حكم بني الأحمر (668- 798هـ/ 1269- 1395م)، ‏الذين امتاز عصرهم بنصرة العلوم والآداب. وقد نبغ في هذا‎ ‎العصر شعراءُ ‏وكتابٌ ومفكرون ومؤرخون كبارٌ رغم سوء الأحوال السياسية وعدم‏‎ ‎استقرارها. ومن هؤلاء العالم النباتي والطبيب المشهور ابن البيطار ‏المالقي،‎ ‎الذي رحل‎ ‎من الأندلس إلى المغرب ثم إلى مصر والشام، وتُوُفِّيَ ‏بدمشق سنة 646هـ، وشيخ المتصوفة‎ ‎بالأندلس‎ ‎محيي الدين بن عربي،‎ ‎الذي نزح إلى المشرق وتوفي بالشام سنة 638هـ.‏‎ ‎وعن هذه الفترة قال‎ ‎ابن ‏الأَباَّر القُضَاِعي‎ ‎صاحب المرثية المشهورة في سقوط‎ ‎بَلَنْسِيه:‏
أدرك بخيلك خيلِ الله أَنْدَلُسَا * إنَّ الطريق إلى مَنْجَاِتها دَرَسَـا
وقد هاجر بدوره إلى تونس وتوفي‎ ‎بها سنة 659هـ، مثلما رحل‎ ‎ابن ‏سعيد الأندلسي‎ ‎صاحب‎ ‎‏"المُغْرب في حُلَي‎ ‎المَغْرب"‏‎ ‎إلى دمشق وتوفي بها ‏سنة 673هـ. ومن أعلام ذلك العصر أيضا الوزير الكبير‎ ‎لسان الدين بن ‏الخطيب‎ ‎‏(ت776هـ)‏‎ ‎وابن خلدون‎ ‎مؤسس علم الاجتماع (ت808هـ)‏‎.‎‏ ‏وبحلول عام 798هـ/ 1395م وصل المدّ الصليبي مداه وسقطت غرناطة ‏وانهد آخر معقل‎ ‎للإسلام في أوروبا‎.‎
وقد شملت الحضارة الإسلامية في الأندلس مجالات متعددة‏‎ ‎تركت ‏بصماتها على الحياة والأحياء من حولها. وكان من ثمار هذه الحركة أنْ ‏تحولت‎ ‎قرطبة حقًّا إلى عاصمة للحضارة، ليس في أسبانيا وحدها، ولكن ‏في المغرب قاطبة. ويذكر المؤرخون مثلا أن قصور قرطبة تجاوزت ‏‏20000 قصر، وأن مساجدها تجاوزت 900 مسجد، وأن حَمَّاماتها ‏تجاوزت 700 حَمَّام. وكانت بها مدارس للطب والهندسة والعلوم والفنون ‏ومستشفيات ومعامل للكيمياء ومراصد للفلك. وكانت جامعة قرطبة ‏منارة شامخة للفكر والثقافة وحاملة لواء الحضارة العربية الإسلامية ‏الشاملة.‏
ويمكن أن نتعرف أوجه هذه الحضارة في المجالات الآتية: فعلى سبيل ‏المثال يَتَجلَّى فن البناء والمعمار في بناء المساجد والقصور وإنشاء المدن ‏كمدينة الزهراء، التي بناها عبدالرحمن الناصر بما فيها من الحدائق ‏والنّوافير والحمَّامات العامة والخاصة، فكانت الأنموذج والمثال لما بلغه‏‎ ‎فن ‏البناء والعمران للحضارة العربية الإسلامية. وفي المجال الأدبي واللغوي ‏اهتم حكام الأندلس على مرّ العصور برعاية العلوم‏‎ ‎والآداب، واستقطبوا ‏الأدباء والمفكرين ووفروا لهم المناخ الطيّب المناسب لإبداعهم،‎ ‎فظهرت ‏طائفة من الشعراء والعلماء والأدباء أنتجوا أعمالاً متألقةً في مختلف مجالات‏‎ ‎المعرفة، وازدهر فن الشّعر والرسائل الأدبية والتأليف في علوم اللغة والنحو‎ ‎والمعاجم والطبقات والتراجم. وعندنا كذلك المجال الديني والشرعي. ولما ‏كان الإسلام هو أساس هذه الحضارة‎ ‎كان الاهتمام بعلومه جزءًا من ‏شخصية الأندلس، فظهر عدد وفير من المؤلَّفات التي‎ ‎عُنِيَتْ بالقرآن الكريم ‏وعلومه، وبالحديث الشريف في روايته وشروحه، وبالدراسات‎ ‎المنوعة في ‏مجال الفقه والعقيدة والفلسفة وتاريخ الأديان.‏
وفى مجال العلوم التطبيقية نجد أنه قد ازدهر علم الطب، خاصة ‏في القرنين الخامس والسادس الهجريين (الحادي عشر والثاني عشر ‏الميلاديين)، وبرع أطباء الأندلس في الجراحة‏‎ ‎وتحضير العقاقير، وأُنْشِئت ‏المستشفيات، ووُضعت عشرات المؤلَّفات الطبية مثل كتاب "الأدوية ‏المُفْرَدَة"‏‎ ‎للكتَّاني المُتَوَفَّى سنة 420هـ،‎ ‎و"التعريف لمن عجز عن‏‎ ‎التأليف" ‏للزهراوي المتوفَّى سنة 403هـ. أما علم الرياضيات فتعد المدرسة التي ‏ظهرت على يد الفلكي‎ ‎مسلمة المجريطي‎ ‎المتوفَّى سنة 394هـ من أولى ‏مدارسه في الأندلس. وقد أدى تلاميذه من بعده خدمةً جليلةً‏‎ ‎لهذا العلم‎.‎‏ ‏وفي ميدان الفلك ظهر‎ ‎ابن برغوث‎ ‎‏(433هـ) وأبو‎ ‎إبراهيم بن يحيى الزرقالي‎ ‎القرطبي‎ ‎وغيرهما‎.‎
وهكذا مرت الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس بمراحلَ وأطوارٍ ‏مختلفة تبعًا‎ ‎للعصور السياسية التي تواترت على الأندلس، لكن الذي لا يقبل ‏الشك هو أن هذه الحضارة‎ ‎كانت نتاجًا لعقلية عربية إسلامية استطاعت ‏بوعي واقتدار أن تزاوج بين فكرها وتلك‎ ‎الأنماط التي كانت سائدة في ‏شبه الجزيرة الأيبيرية (الأسبانية) قبل الفتح العربي الإسلامي، فكانت ‏الأقوى والأشد تأثيرًا بفضل العقيدة واللغة، مما أدى إلى انصراف الناس ‏عما سواها حتى شكا القسيسون من ضياع اللاتينية بين النصارى، ‏وانصراف بني جلدتهم إلى‎ ‎كتابات المسلمين باللغة العربية. وقد أدى المناخ ‏الحضاري الذي تنسّمته الأندلس إلى العناية بجوانب العلم والفكر،‎ ‎فشُيِّدت ‏المدارس، وافتُتحت المكتبات، واقتُنِيَت الكتب حتى أصبح معظم الناس ‏قادرين‎ ‎على الكتابة والقراءة، فازدهرت الآداب والفنون، وارتقت العمارة ‏بفنّ إسلامي‎ ‎أصيل‎.‎
والملاحظ أن الفتوح الإسلامية في الأندلس لم تكن، كما هو الحال في ‏المشرق، قائمة فقط على أكتاف العرب المترابطين بينهم لغة وعقيدة وإيمانًا ‏بالرسالة الإسلامية تحت قيادة فاتحين من الصحابة والتابعين، بل قامت ‏على أكتاف شعوب مختلفة اللغات والعادات شغلتهم الصراعات الداخلية ‏بينهم، إذ تأجج الخلاف‏‎ ‎بين القيسية واليمنية والشامية والحجازية، وبين ‏العرب والفرس، وكذلك بين العرب والبربر، الذين فرقتهم الخلافات القبائلية ‏بدورهم بين الصنهاجيين والزناتيين. كما حَمِيَ صراع‏‎ ‎الفاتحين على ولاية ‏الأندلس حتى تعاقب عليها أربعة وعشرون واليًا في خمس وأربعين‏‎ ‎سنة ‏بمعدل والٍ لكل سنتين. وما كاد الفتح يتم وتُغْمَد السيوف حتى تدفق ‏السكان الأسبان يدخلون في دين‏‎ ‎الإسلام أفواجًا لما ألفوا من الفاتحين من ‏حسن المعاملة وسمو الأخلاق، ولما في‎ ‎الإسلام من سماحة ساعدتهم على ‏تحسين ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية فسارعوا إلى‎ ‎التودد بالمصاهرة ‏والمساكنة‎.‎
ويعدّ عبد الرحمن الداخل الملقب بـ"صقر قريش" هو مرسي التلاحم ‏بين أهل الأندلس، وواضع الأسس الأولى للحضارة الإسلامية فيها، فقد ‏حدَّ من غُلَواء الصراعات وأخمد‎ ‎الثورات، وتسامح مع المذاهب الفقهية ‏التي وصلت إلى الأندلس من مالكية وشافعية‎ ‎وأوزاعية، حتى إذا جاء ‏خلفه هشام (172- 180هـ/ 788- 796م) اختار القضاةَ من أتباع ‏مذهب مالك، فانتشر بين الناس وتشدد الفقهاء في الالتزام به، فلما جاء ‏الحكم بن هشام (180- 206هـ/ 796- 821م) وجد في تشدد الفقهاء ‏ما جعلهم يثورون ضد حكمه، فكانت فتنة‎ ‎النصارى بقرطبة ووقعة الحفرة ‏في طليطلة وهيج الربض في قرطبة، فأخمد هذه الانتفاضات والثورات، ‏واستمر في بناء الحضارة الإسلامية في الأندلس مطبوعة بالتفتح‎ ‎والتسامح ‏والتعاون‎.‎
إن الثقافة الإسلامية وما تضمنته الشريعة من عقيدة ومعاملة ‏وسلوك، وما تستلزمه‎ ‎لغتها من معرفة بلاغية ولغوية، وما في كلماتها من ‏جرس موسيقي، وما في السلوك‎ ‎الإسلامي من حسن معاملة ومن تشريعات ‏وقوانين وأحكام سامية، وما في الأعراف البربرية من‎ ‎هيام بالحرية، إضافة ‏إلى الفنون المعمارية التي ورثها الأسبان عن الرومان في بناء الكنائس ‏والقصور والأبراج والقناطر، ثم ما أضفاه الفاتحون المسلمون الجدد على ‏ذلك‎ ‎من رقة الفن الشامي وجمال الخط والزخرفة، وما جلبوه من رياش ‏الروم والفرس، وما‎ ‎نقلوه عن الرومان من فنون الصناعات البحرية والحربية، ‏كل ذلك طبع الحضارة‎ ‎الأندلسية بطابع جديد. واستقرت أصول الحضارة ‏الإسلامية في عهد عبدالرحمن الأوسط،‎ ‎فخلصت الأندلس للمذهب ‏المالكي على يد يحيى بن يحيى، وشاركت المرأة في بلورة‏‎ ‎الحضارة على يد ‏زوجة الخليفة الأميرة طروب، وارتقى الذوق الحضاري بدخول المغنّي‎ ‎زرياب إلى الأندلس. ذلك أن المذهب المالكي المحافظ ساعد على ‏استقرار الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وزرياب سما بالذوق الأدبي ‏والفني، وكان للأميرة طروب أثر‎ ‎في حياة المرأة الأندلسية وإسهامها في بناء ‏مرافق الحياة الجديدة. وباجتماع العناصر‏‎ ‎الثلاثة تهيأت الحضارة الإسلامية ‏في الأندلس لتسمو وتتعالى، فاستبحر العمران وتطورت فنون البناء في ‏المساجد والقصور والمستشفيات وهندسة الري والنقش على الجص ‏والخشب‎ ‎والنحاس وإتقان الوِرَاقة ورياش المنازل، فسادَ الرخاء وطاب ‏العيش وازدهرت الفلاحة‎ ‎وهندسة الحدائق وتنميق الزهور. وانعكس أثر ‏ذلك على الحياة الحضارية والثقافية في‎ ‎الأندلس، فتقدمت المعرفة وانتشر ‏العلم وبرز علماءُ كبارٌ في التفسير والقراءات والحديث‏‎ ‎والفقه وأصوله ‏واللغة والأدب والطب والحكمة والفلك والتصوف مما يعسر تقصيه‎.‎‏ ‏
وقد تطورت الفلسفة في الأندلس على يد الأندلسيين الذين ذهبوا ‏إلى المشرق كمحمود بن‎ ‎عبدون (347هـ)، الذي درس المنطق على ‏سليمان السجلماسي، ورجع إلى بلاده ليكون طبيب‏‎ ‎الحكم الثاني وهشام ‏الثاني الأمويين، وكان له تأثير في الفكر الفلسفي في الأندلس كما ظهر في ‏الفلسفة الرشدية. ومما لاشك فيه أن ابن رشد في طليعة فلاسفة المغرب ‏الإسلامي، وكان ذا تأثير عظيم في المحيط المغربي وفى أوروبا أيضا، التى ‏تدين له بفهم‎ ‎الفلسفة الإغريقية الأرسطية. واستمر أثره إلى عصر كانط في ‏بداية القرن التاسع عشر. ولم يقتصر التأثير الأندلسي في أوربا على ‏الفلسفة فقط، بل امتد كذلك إلى الرياضيات وغيرها.‏
وبالمثل شهدت الأندلس الإسلامية ولعًا بالشعر والغناء قل نظيره في ‏حقب التاريخ المختلفة، إذ شاع إنشاد الشعر في كل المناسبات الدينية ‏والسياسية والاجتماعية، وظهر‏‎ ‎شعراء سجلوا بمدائحهم أعمال الخلفاء ‏والوزراء والولاة كابن عبد ربه وابن زمرك وابن الخطيب، وكذلك شعراء ‏الطغرائيات الذين يكتبون قصائدهم في حنايا أبواب المساجد والقصور ‏كابن زمرك،‎ ‎وشعراء الحماسة الذين يمثلون الفروسية العربية مثل سعيد بن ‏جودي، وشعراء التصوف... إلخ. وضاقت بالشعراء أوزان الشعر ‏العربي وأعاريضه فأقبلوا على شعر الزجل والموشحات‎ ‎ومقطوعات الغناء، ‏وأصبح معظم أهل الأندلس شعراء حتى قال القزويني إن الفلاح الذي ‏يحرث بالثور في شلب يرتجل ما شئت من الأشعار فيما شئت من ‏الموضوعات. وكان كبار القوم لا يتراسلون إلا شعرًا ويتهادَوْن بطاقات ‏الدعوات والاعتذارت والأهاجي والتعريف‎ ‎شعرًا. وكان أهل الأندلس ‏يغنون ويطربون بأسلوب الغناء المسيحي الأندلسي أو بطريقة الحداء‎ ‎العربي ‏كما هو الحال عند التيفاشي، ثم تطور الغناء بعد ذلك على يد ابن ماجة ‏ثم أبي الحسن المرسي، الذي أرسى قواعد الموسيقى، وكذلك على يد ‏العباس بن فرناس ومسلمة المجريطي وأبي الصلت الداني (ت529هـ) وابن ‏سبعين الصوفي مؤلف كتاب‎ ‎‏"الأدوار" ويحيى‎ ‎الخدوج المرسي مؤلف ‏الأغاني الأندلسية‎ ‎على نهج‎ ‎الأغاني‎ ‎الأصبهانية‎.‎‏ وتأسست في الأندلس ‏مدرسة للغناء وتعليم الجواري جاء وصفها في‎ ‎‏"الذخيرة"‏‎ ‎لابن بسام، وكان ‏يعلَّم فيها الغناء والكتابة والخط والعزف على الآلات، والرقص‎ ‎والخيال ‏‏(التمثيل) والفروسية. أما الآلات فكثيرةٌ، وقد ذَكَرَها الشقندي مثل العود ‏والروطة والرباب والقانون والمؤنس والجيتار والمزمار والبوق وغير ذلك‎.‎‏ ‏ومع هذا كان الفقهاء ينكرون الطرب والغناء ولايقبلون شهادة المغني، ولم ‏يسمحوا أن تباع‎ ‎كتب الموسيقى علنًا لأن الموسيقيين المغنين كانوا يَغْشَوْن ‏مجالس الشراب‎.‎
وبعد انتهاء الحكم الإسلامي في الأندلس تحول المورسكيون (أى ‏المسلمون) قسرا بعد نشاط محاكم التفتيش ضدهم إلى مزارعين يعملون في ‏الإقطاعيات‎ ‎التي يملكها النبلاء. ونظرًا لخبرتهم ونشاطهم فقد أصبحوا ‏عمدة الفلاحة والغراسة‎ ‎والاقتصاد بصفة عامة مما جعل النبلاء يقاومون ‏الكنيسة في حملتها التنصيرية لما يُفْقِدها ذلك من مزايا اليد العاملة. ‏وعندما ظهرت حركة العمال لمقاومة النبلاء كانت دعوتهم إلى تنصير ‏المسلمين بقصد إضعاف النبلاء، لكن المسلمين آثروا العبودية وخدمة ‏النبلاء بدل التنصير المفروض عليهم. وبعد سنة 1521م عادت الكنيسة ‏من جديد إلى‎ ‎الحملة التنصيرية عن طريق محكمة التفتيش، وأنهت فظائعها ‏بإجلاء الموريسكيين عن‎ ‎الأندلس، ولم يمنع ذلك من بقاء كثير من المسلمين ‏بأسبانيا تنصروا ظاهريا فقط كما‎ ‎حدث عنهم الغساني في رحلته المسماة: ‏‏"افتكاك الأسير". وبعد انتصار الجمهوريين بأسبانيا جاهر كثير من ‏الموريسكيين الأسبان بأصلهم، فتفوقوا بأوروبا، وكانوا من أعلام الفكر ‏بجامعاتها، وكذلك في أمريكا الجنوبية، وبالأخص في الأرجنتين والبرازيل، ‏وفي أرخبيل الفلبين‎ ‎حيث ماتزال بقية منهم في جزيرة مور. كما استوطنوا ‏إفريقيا الشمالية والسنغال، التي‏‎ ‎ماتزال تحتفظ ببقايا منهم. ويذكر شكيب ‏أرسلان في كتابه: "حاضر العالم‎ ‎الإسلامي" أن ظهور كراهية النبلاء ‏والرهبان بين هؤلاء ليست نتيجة رواج المبادئ‎ ‎الشيوعية أو الاشتراكية، ‏بل ثمة عِرْق عربي عاد فنزع في الأندلس بعد إعلان الحكم‎ ‎الجمهوري‎.‎‏ وقد ‏حمل العلماء الأندلسيون إلى الغرب عددا من المصطلحات العربية، إذ كانوا ‏يلتحقون بالعمل في الجامعات الأوروبية، وكذلك الجامعات الأسبانية في ‏أمريكا اللاتينية عندما هاجر إليها الأسبان، فنقلوا معطيات الحضارة‏‎ ‎الإسلامية إلى أوروبا (اعتمدنا فى الفقرات السابقة على ما يخص الحضارة ‏الإسلامية من مادة "الحضارة" فى "الموسوعة العربية العالمية" مع شىء ‏كثير من التصرف حذفا واختصارا وتقديما وتأخيرا وإعادة صياغة). ‏
وفى تقويم هذه الحضارة الإسلامية يقول جوستاف لوبون فى كتابه: ‏‏"حضارة العرب" (ترجمة عادل زعيتر/ 614): "إذا قابلنا بين العرب ‏والأمم الأوربية... أمكننا أن نقول إنهم أرقى من جميع أمم العرب التى ‏عاشت قبل عصر النهضة أخلاقا وثقافة، فلم تعرف جامعات القرون ‏الوسطى فى قرون كثيرة مصدرا غير مؤلفاتهم العلمية ومناهجهم، وكانت ‏أخلاقهم أفضل من أخلاق أجدادنا بمراحل. وكان العرب قد توارَوْا عن ‏التاريخ حوالَىْ عصر النهضة، ولا نقدر أن نقول شيئا عما يمكن أن يصلوا ‏إليه لو لم يتوارَوْا، ولكننا لا نعتقد أنهم كانوا يبلغون مستوى أفضل مما بلغوا ‏لما كان يُسْفِر نقص نظمهم عنه من الموانع. وتمكن المقابلة بين مختلف ‏الأدوار كالدور الذى غاب فيه العرب والدور الحاضر كما هو واضح. ‏ولكننا إذا حُمِلْنا على المقابلة بين هذين الدورين قلنا إن أكابر العرب ‏السابقين دون أكابر الحاضر، وإن عرب الطبقات الوسطى السابقة مساوون ‏لأبناء طبقاتنا الوسطى المتمدنة الحاضرة على الأقل، وأرقى منها فى ‏الغالب". وهذا هو النص الفرنسى لهذا الاقتباس: ‏
‎"Avec ces explications préalables, nous ‎pouvons porter un jugement suffisamment ‎exact sur la place qui revient aux Arabes dans ‎l'histoire. Ils eurent des hommes supé¬rieurs, ‎leurs découvertes le prouvent assez ; mais des ‎grands hommes comparables aux génies que ‎j'ai nommés, je ne crois pas que l'on puisse ‎dire qu'ils en aient possédés jamais. Inférieurs ‎aux Grecs sur beaucoup de points, égaux ‎certainement aux Romains par l'intelligence, ‎ils ne possédèrent pas, ou au moins ne ‎possédèrent que pour quelque temps, les ‎qualités de caractère qui firent le long succès ‎de ces derniers.‎
Si, au lieu de comparer les Arabes aux ‎peuples qui ont disparu de la scène du monde, ‎nous essayons de les mettre en parallèle avec ‎les nations européennes, nous pouvons dire, ‎qu'au double point de vue intellectuel et moral ‎ils sont supérieurs à toutes celles qui vécurent ‎avant la renaissance. Les universités du ‎moyen âge n'eurent d'autre aliment, pendant ‎des siècles, que leurs ouvrages et leurs ‎doctrines ; et par leurs qualités morales ils ‎surpassèrent beaucoup nos ancêtres.‎
Vers l'époque de la Renaissance, les ‎Arabes disparurent de l'histoire, et nous ne ‎pouvons dire ce qu'ils fussent devenus un ‎jour. Nous ne croyons pas cependant qu'ils ‎eussent jamais dépassé beaucoup le niveau ‎déjà atteint. L'infériorité de leurs insti¬tutions ‎leur créait de trop sérieux obstacles.‎
On ne peut comparer évidemment des ‎époques aussi différentes que celle où ‎disparurent les Arabes et les temps modernes. ‎Si l'on exigeait cependant que cette ‎comparaison fût faite, nous dirions que chez ‎les Arabes les hommes supérieurs furent ‎notablement au-dessous des hommes ‎correspondants de l'âge actuel, mais que les ‎individus moyens de leur race furent au moins ‎égaux, et le plus souvent supérieurs, à la ‎couche moyenne des populations civilisées ‎d'aujourd'hui".‎
ويقول بريفولت: "لقد طورت الحضارة الإسلامية فى ظرف أعوامٍ ‏قلائلَ ثقافةً كان لها أثرها على كل التطورات اللاحقة التى شهدتها أوربا. ‏ولسوف تظل هذه الثقافة، حتى عندما نضع فى اعتبارنا الدفعة التى ‏أخذتها من الفرس، تبعث على الانبهار بسبب السرعة التى نمت بها. أما ‏حضارتنا الحديثة فقد استغرقت فى الخروج من ظلام البربرية الحالك ‏السواد ثلاثةَ أو أربعةَ قرونٍ كاملة". وهذا نص كلامه بالإنجليزية ( وهو ‏موجود فى ‏The Making of Humanity, P. 70‎‏): "‏The ‎Islamic Arabs developed in the course of a ‎few years a culture which has influenced all ‎the subsequent developments of Europe, and ‎which, even when we allow for the cultural ‎impulse which it inherited from Persia, was ‎marvellous in the rapidity of its growth. Our ‎own modern civilization has risen out of ‎darkest barbarism in the course of three or ‎four centuries‏".‏
وفى "قصة الحضارة" يكتب ول ديورانت عن هذه المسألة فيقول: ‏‏"إن قيام الحضارة الإسلامية واضمحلالها لمن الظواهر الكبرى في التاريخ. ‏لقد ظل الإسلام خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200 يتزعم العالم كله ‏في القوة، والنظام، وبسطة الملك، وجميع الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع ‏مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، ‏والبحث العلمي، والعلوم، والطب، والفلسفة. وفي العمارة أسلم مكانته ‏الأولى في القرن الثاني عشر إلى الكنائس الكبرى الأوربية، ولم يجد فن ‏النحت القوطي منافسا له في بلاد الإسلام، التي كانت تحرّم صنع التماثيل. ‏أما الفن الإسلامي فقد أفنى قوته في الزخرفة، وعانى الشيء الكثير من ‏ضيق المدى ووحدة الطراز المملة. ولكنه في داخل هذا النطاق الذي ‏فرضه على نفسه لم يَفُقْه حتى الآن فن سواه. وكان الفن والثقافة في بلاد ‏الإسلام أعم وأوسع انتشارا بين الناس مما كانا في البلاد المسيحية في ‏العصور الوسطى، فقد كان الملوك أنفسهم خطاطين، وتجارا، وكانوا أطباء، ‏وكان في مقدورهم أن يكونوا فلاسفة...‏
غير أن المسلمين، كما يلوح، كانوا رجالاً أكمل من المسيحيين، فقد ‏كانوا أحفظ منهم للعهد، وأكثر منهم رحمة بالمغلوبين، وقلما ارتكبوا في ‏تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما اسْتَوْلَوْا على بيت ‏المقدس في عام 1099. ولقد ظل القانون المسيحي يستخدم طريقة ‏التحكيم الإلهي بالقتال أو الماء أو النار، في الوقت الذي كانت الشريعة ‏الإسلامية تضع فيه طائفة من المبادئ القانونية الراقية ينفذها قضاة ‏مستنيرون. واحتفظ الدين الإسلامي، وهو أقل غموضا في عقائده من ‏الدين المسيحي، بشعائرهِ أبسط، وأنقى، وأقل اعتمادا على المظاهر ‏المسرحية من الدين المسيحي، وأقل منه قبولاً لنزعة الإنسان الغريزية نحو ‏الشرك. وهو شبيه بالمذهب البروتستنتي في احتقاره ما يعرضه دين البحر ‏المتوسط من عون للخيال والحواس وما يطلقه لهما من عِنَان... وقد ظل ‏هذا الدين بعيدا كل البعد تقريبا عن النظم الكهنوتية، ولكنه قُيِّد في الوقت ‏الذي كانت فيه المسيحية مقبلة على أخصب عصور الفلسفة ‏الكاثوليكية. ‏
ويكاد تأثير العالم المسيحي في الإسلام يكون مقصورا على بعض ‏المظاهر الدينية وعلى الحرب. فأما من حيث المظاهر الدينية فأكبر الظن ‏أن التصوف قد جاء إلى العالم الإسلامي من نماذج مسيحية، ومن الرهبنة ‏وعبادة القديسين. ولقد تأثرت النفس الإسلامية بقصة عيسى وشخصيته ‏وظهرت في الشعر والفن الإسلاميين، وكانت فيهما موضع العطف الكبير. ‏أما العالم الإسلامي فقد كان له في العالم المسيحي أثر بالغ مختلف الأنواع. ‏لقد تلقت أوربا من بلاد الإسلام الطعام، والشراب، والعقاقير، والأدوية، ‏والأسلحة، وشارات الدروع ونقوشها، والدوافع الفنية، والتحف، ‏والمصنوعات، والسلع التجارية، وكثيرا من الصناعات، والتشريعات ‏والأساليب البحرية. وكثيرا ما أخذت عن المسلمين أسماء هذه كلها: ‏Orange. Lemon, Sugar, Syrup, Sherbet Julep. ‎elixir, Jar Azure, arabesque, Mattress. Sofa ‎Muslin, satin, Fustian, bazaar, Caravan, ‎Check Mate, Tariff, douane, magazine, Risk. ‎sloop Barge. cable, Admiral‏. ويقابل هذه في العربية: ‏البرتقال، والليمون، والسكر، والشراب، والشربات، والجُلاَّب، والإكسير، ‏والإبريق، والأوراق، والنقش العربي، والحشية - المَرْتَبَه ‏mattress‏ ‏‏(واللفظ الإنجليزي مشتق من "المطرح") والأريكة ‏sofa‏ (اللفظ الإنجليزي ‏مشتق من الصُّفّة)، والموصلين، والساتان، والفستان والسوق، والقافلة، ‏والشاه مات، والتعريفة، وحركة المرور، والديوان، والمخزن، والخطر، ‏والقلوب بنوعيه، والحبل، وأمير البحار (وبعض هذه الألفاظ مأخوذة عن ‏الفارسية مثل ‏Bazaar، وبعضها الآخر عن العربية). ‏
وقد جاءت لعبة الشطرنج إلى أوربا من الهند عن طريق بلاد ‏الفرس، واتخذت لها في طريقها أسماء فارسية وعربية، فلفظ "‏Check ‎Mate‏" مثلاً مأخوذ من عبارة "الشاه مات". وبعض آلاتنا الموسيقية ‏تحمل بين طيات أسمائها أدلة على أصولها السامية، ومن هذه الألفاظ ‏‏"‏Lute‏" من "العود"، و"‏Rebeck‏" من الربابة، و"‏Guitar‏" من ‏‏"القيثارة"، و"‏tambourine‏" من "الطنبور". وقد انتقل شعر شعراء ‏الفروسية الغزليون (‏Troubadours‏) وموسيقاهم من بلاد الأندلس ‏إلى بروفانس (‏Provence‏) في فرنسا، ومن صقلية المسلمة إلى إيطاليا. ‏ولعل الأوصاف العربية للرحلات إلى الجنة والجحيم كان لها نصيب من ‏المسلاة الإلهية (‏The Divine Comedy‏) لدانتي. ‏
وقد دخلت القصص الخرافية، والأعداد الهندية إلى أوربا في زيها ‏العربي أو صورتها العربية. والعلماء العرب هم الذين احتفظوا بما كان ‏عند اليونان من علوم الرياضة، والطبيعة، والكيمياء، والفلك، والطب، ‏وارْتَقَوْا بها، ونقلوا هذا التراث اليوناني بعد أن أضافوا إليه من عندهم ‏ثروة عظيمة جديدة إلى أوربا. ولا تزال المصطلحات العلمية العربية تملأ ‏اللغات الأوربية. ونذكر منها على سبيل المثال "‏Algebra‏" للجبر، ‏و"‏Zero‏" و"‏Cipher‏" للصفر، و"‏Azimuth‏" للسُّمُوت، ‏و"‏Alembic‏" للأنبيق، و"‏Zenith‏" للسمت، و"‏Almanac‏" ‏للتقويم، وهي مشتقة من لفظ "المناخ". وظل أطباء العرب يحملون لواء ‏الطب في العالم خمسمائة عام كاملة، وفلاسفة العرب هم الذين احتفظوا ‏لأوربا بمؤلفات أرسطو وشرحوا لها هذه المؤلفات. وكان ابن سينا وابن ‏رشد نجمين لاحا من الشرق للفلاسفة المدرسيين الذين كانوا ينقلون عنهما، ‏ويعتمدون على كتبهما، ويثقون بهما ثقة لا تزيد عليها إلا ثقتهم بالنصوص ‏اليونانية. ‏
والقباب المضلعة أقدم في بلاد المسلمين منها في أوربا، وإن لم يكن في ‏مقدورنا أن نتتبع الطريق الذي وصلت منه إلى الفن القوطي. وأبراج ‏الكنائس المسيحية المستدقة، وأبراج نواقيسها مدينة بالشيء الكثير إلى ‏مآذن المساجد. ولعل زخارف النوافذ القوطية المقطعة المصنوعة من ‏الحجارة قد أوحت بها بوائك برج الخِرَلْدَة ذات الأقواس المقترنة. ويُعْزَى ‏انتعاش فن الخزف الرفيع في إيطاليا وفرنسا إلى انتقال صناع الخزف ‏المسلمين في القرن الثاني عشر إلى هذين البلدين، وإلى زيارة صناع ‏الإيطاليين إلى بلاد الأندلس الإسلامية. ولقد أخذ صناع الحديد والزجاج ‏في البندقية، ومجلدو الكتب في إيطاليا، وصانعوا الدروع والسلاح في ‏أسبانيا، أخذ كل هؤلاء فنونهم عن الصناع المسلمين. وكان النساجون في ‏جميع أنحاء أوربا تقريبا يتطلعون إلى بلاد الإسلام ليأخذوا منها النماذج ‏والرسوم. وحتى الحدائق نفسها قد تأثرت إلى حد بعيد بالحدائق ‏الفارسية. ‏
وسنشرح فيما بعد بالتفصيل السبل التي جاء منها هذا التأثير ‏الإسلامي إلى بلاد الغرب، غير أننا نقول هنا بإيجاز إنه قد جاء عن طريق ‏التجارة، والحروب الصليبية، وعن آلاف الكتب التي تُرْجِمَتْ من اللغة ‏العربية إلى اللاتينية، وعن الزيارات التي قام بها العلماء أمثال جربرت ‏‏(‏Gerbert‏)، وميخائيل أسكت (‏Michael Scot‏) وأدلارد ‏‏(‏Adelard‏) من أهل باث (‏Bath‏) إلى الأندلس الإسلامية، ومن ‏الشبان المسيحيين الذين أرسلهم آباؤهم الأسبان إلى بلاط الأمراء المسلمين ‏ليُرَبَّوْا فيها ويتعلموا الفروسية. ذلك أن بعض الأشراف المسلمين كانوا ‏يُعَدُّون: "فرسانا وسادة مهذبين كاملين، وإن كانوا مسلمين"، ومن الاتصال ‏الدائم بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الشام، ومصر، وصقلية، وأسبانيا. ‏وكان كل تقدم للمسيحيين في أسبانيا تتبعه موجة من آداب المسلمين ‏وعلومهم وفلسفتهم وفنونهم تنتقل إلى البلاد المسيحية. وحسبنا أن نذكر ‏على سبيل المثال أن استيلاء المسيحيين على طليطلة في عام 1085 قد ‏زاد معلومات المسيحيين الفلكية، وأبقى على الاعتقاد بكروية الأرض. ‏
ولكن نار الحقد لم تطفئ لظاها هذه الاستدانةُ العلمية. ذلك ألاّ ‏شيءَ بعد الخبز أعزُّ على بني الإنسان من عقائدهم الدينية، لأن الإنسان لا ‏يحيا بالخبز وحده، بل يحيا معه بالإيمان الذي يبعث في قلبه الأمل. ومن ‏أجل هذا فإن قلب الإنسان يتلظى غيظا على من يهدده في قُوتَه أو ‏عقيدته. ولقد ظل المسيحيون ثلاثة قرون يشهدون زحف المسلمين، ‏ويبصرونهم يستولون على قطر مسيحي في إثر قطر، ويمتصون شعبا ‏مسيحيا بعد شعب، وكانوا يحسون بأيدي المسلمين القوية تقبض على ‏التجارة المسيحية، ويستمعون إليهم وهم يسمون المسيحيين: "كفرة"، ‏وأمست المعركة المرتقبة في آخر الأمر معركة حقيقية، فاصطدمت ‏الحضارتان في الحروب الصليبية، وقَتَل خَيْرُ ما في الشرق أو الغرب خَيْرَ ما ‏في الغرب أو الشرق، وكان هذا العداء المتبادل عاملاً فعّالاً في تاريخ ‏العصور الوسطى كله، مضافا إليه دين ثالث هو الدين اليهودي قائما بين ‏الطائفتين المتحاربتين الرئيسيتين يتلقى ضربات كلتيهما. ‏
وخسر الغرب الحروب الصليبية، ولكنه ربح معركة الأديان. فقد ‏طُرِد كل مسيحي محارب من الأرض المقدسة، ولكن المسلمين، وقد ‏استنزف النصر البطيء دماءهم، وخرّب المغول بلادهم، مرت بهم فترة من ‏العصور المظلمة ساد فيها الجهل والفقر، على حين أن الغرب المنهزم قد ‏أنضجه ما بذل من جهود، فنسي هزائمه، وأخذ عن أعدائه التعطش إلى ‏العلم والولع بالرقي. فأقام الكنائس عالية تناطح السحاب، وأخذ يجوب ‏ميادين العقل، وحوّل لغاته الفجة الجديدة إلى أساليب دانتي وتشوسر ‏‏(‏Chaucer‏) وفيلون (‏Villon‏)، وسار تحدوه العزة إلى النهضة. ‏
وبعد، فإن القارئ العادي ستعتريه الدهشة من طول هذه الإلمامة ‏بحضارة المسلمين، وسيأسف الباحث لما يجده فيها من إيجاز غير خليق ‏بها. إن عصور التاريخ الذهبية دون غيرها هي التي أنجب فيها المجتمع، في ‏مثل هذا الزمن القصير، ذلك العدد الجم من الرجال الذين ذاع صيتهم في ‏الحكم، والتعليم، والآداب، واللغة، والجغرافية، والتاريخ، والرياضة. ‏والفلك، والكيمياء، والفلسفة، والطب كما أنجب الإسلام في الأربعة ‏القرون الفاصلة بين هارون الرشيد وابن رشد. وقد استمد بعضُ هذا ‏النشاط المتلألئ مادّتَه من تراث اليونان، ولكن الكثير منه، وبخاصة في ‏الحُكم، والشعر، والفن كان نشاطا مبتكرا لا تقدَّر قيمته. ‏
ولقد كانت هذه الذروة من نهضة الإسلام من بعض نواحيها تحريرا ‏للشرق الأدنى من سيطرة اليونان العلمية. ولم تمتد إلى فارس الساسانية ‏والأكيمينية (‏Achaemenid‏) فحسب، بل امتدت كذلك إلى بلاد ‏اليهود وبلاد سليمان، وإلى أشور بلاد أشور هانيبال، وإلى بابل حمورابي ‏‏(‏Hammurabi‏)، وأكاد سرجون (‏Sargon‏)، وسومر بلد الملوك ‏الذين لا تعرف أسماؤهم. وهكذا يَثْبُت مرة أخرى اتصالُ حلقات التاريخ ‏بعضها ببعض: ذلك أن الأسس الجوهرية في الحضارة لا تضيع أبدا مهما ‏حل بها من زلازل وأوبئة، وجدب، وهجرات مدمرة، وحروب مخربة ‏مهلكة. بل إن ثقافات فنية تمد أيديها إلى هذه الأسس فتنتشلها من هذا ‏اللهب، وتمد حياتها بالتقليد والمحاكاة، ثم بالخلق والابتكار حتى ينبعث في ‏الشعب الناشئ شباب جديد وروح وثابة جديدة. وكما أن الناس ‏أعضاء في مجتمع، والأجيال لحظات في تسلسل الأُسَر، فإن الحضارات ‏وحدات في كُلٍّ أكبرَ منها وأعظمَ اسمُه التاريخ، فهي مراحل في حياة ‏الإنسانية. ‏
إن الحضارة متعددة الأصول، وهي نتاجٌ تعاونيٌّ لكثير من الشعوب ‏والطبقات والأديان. وليس في وسع من يدرس تاريخها أن يتعصب لشعب ‏أو لعقيدة. ومن أجل هذا فإن العالـِم، وإن كان مواطنا في بلدهِ يحبه لما ‏يربطه من صلات وثيقة، يحس أيضا بأنه مواطن في بلد العقل، الذي لا ‏يعرف عداوات ولا حدودا. وهو لا يكاد يكون خليقا باسمه إذا ما حمل ‏معه في أثناء دراسته أهواء سياسية، أو نزعات عنصرية، أو عداوات ‏دينية. وهو يقدم لكل شعبٍ حَمَل مشعل الحضارة وأغنى تراثها شُكْره ‏وإجلاله" (من كتاب "قصة الحضارة" لديورانت/ ترجمة محمد بدران/ ‏عصر الإيمان/ المجلد الرابع/ الكتاب الثانى/ الباب الرابع عشر: "عـظـمــة ‏المســـلمين واضـمـحـــلالـهم"/ الفصل العاشر: "الإسلام والعالم المسيحى"). ‏والآن إلى الأصل الإنجليزى لهذا الكلام: ‏
‎"The rise and decline of Islamic ‎civilization is one of the major phenomena of ‎history. For five centuries, from 700 to 1200, ‎Islam led the world in power, order, and extent ‎of government, in refinement of manners, in ‎standards of living, in humane legislation and ‎religious toleration, in literature, scholarship, ‎science, medicine, and philosophy. In ‎architecture it yielded the palm, in the twelfth ‎century, to the cathedrals of Europe; and ‎Gothic sculpture found no rival in inhibited ‎Islam. Moslem art exhausted itself in ‎decoration, and suffered from narrowness of ‎range and monotony of style; but within its ‎self-imposed limits it has never been surpassed. ‎In Islam art and culture were more widely ‎shared than in medieval Christendom; kings ‎were calligraphers, and merchants, like ‎physicians, might be philosophers…‎
The Moslems seem to have been better ‎gentlemen than their Christian peers; they kept ‎their word more frequently, showed more ‎mercy to the defeated, and were seldom guilty ‎of such brutality as marked the Christian ‎capture of Jerusalem in 1099. Christian law ‎continued to use ordeal by battle, water, or fire ‎while Moslem law was developing an ‎advanced jurisprudence and an enlightened ‎judiciary. The Mohammedan religion, ism ‎than the Christian, kept its creed and ritual ‎simpler and purer, less dramatic and colorful, ‎than the Christian, and made less concession to ‎the natural polytheism of mankind. It ‎resembled Protestantism in scorning the aid ‎and play that Mediterranean religion offered to ‎the imagination and the senses; but it bowed to ‎popular sensualism in its picture of paradise. It ‎kept itself almost free from sacerdotalism, but ‎fell into a narrow and dulling orthodoxy just ‎when Christianity was entering into the most ‎exuberant period of Catholic philosophy.‎
The influence of Christendom on Islam ‎was almost limited to religion and war. ‎Probably from Christian exemplars came ‎Mohammedan mysticism, monasticism, and the ‎worship of the saints. The figure ouched the ‎Moslem soul, and appeared sympathetically in ‎Moslem poetry and art. The influence of Islam ‎upon Christendom was varied and immense. ‎From Islam Christian Europe received foods, ‎drinks, drugs, medicaments, armor, heraldry, ‎art motives and tastes, industrial and ‎commercial articles and techniques, maritime ‎codes and ways, and often the words for these ‎things- orange, lemon, sugar, syrup, sherbet, ‎julep, elixir, jar, azure, arabesque, mattress, ‎sofa, muslin, satin, fustian, bazaar, caravan, ‎check, tariff, traffic, douane, magazine, risk, ‎sloop, barge, cable, admiral. The game of chess ‎came to Europe from India via Islam, and ‎picked up Persian terms on the way; checkmate ‎is from the Persian shah mat - "the king is ‎dead." Some of our musical instruments bear in ‎their names evidence of their Semitic origin- ‎lute, rebeck, guitar, tambourine. The poetry and ‎music of the troubadours came from Moslem ‎Spain into Provence, and from Moslem Sicily ‎into Italy; and Arabic descriptions of trips to ‎heaven and hell may have shared in forming ‎The Divine Comedy. Hindu fables and ‎numerals entered Europe in Arabic dress or ‎form.‎
Moslem science preserved and developed ‎Greek mathematics, physics, chemistry, ‎astronomy, and medicine, and transmitted this ‎Greek heritage, considerably enriched, to ‎Europe; and Arabic scientific terms- algebra, ‎zero, cipher, azimuth, alembic, zenith, almanac ‎‎-still lie imbedded in European speech. ‎Moslem medicine led the world for half a ‎millennium. Moslem philosophy preserved and ‎corrupted Aristotle for Christian Europe. ‎Avicenna and Averroes were lights from the ‎East for the Schoolmen, who cited them as next ‎to the Greeks in authority.‎
The ribbed vault is older in Islam than in ‎Europe, though we cannot trace the route by ‎which it came into Gothic art. Christian spire ‎and belfry owed much to the minaret, and ‎perhaps Gothic window tracery took a lead ‎from the cusped arcading of the Giralda tower. ‎The rejuvenation of the ceramic art in Italy and ‎France has been attributed to the importation of ‎Moslem potters in the twelfth century, and to ‎the visits of Italian potters to Moslem Spain. ‎Venetian workers in metal and glass, Italian ‎bookbinders, Spanish armorers, learned their ‎techniques from Moslem artisans; and almost ‎everywhere in Europe weavers looked to Islam ‎for models and designs. Even gardens received ‎a Persian influence.‎
We shall see later by what avenues these ‎influences came: through commerce and the ‎Crusades; through a thousand translations from ‎Arabic into Latin; through the visits of scholars ‎like Gerbert, Michael Scot, and Adelard of ‎Bath to Moslem Spain; through the sending of ‎Christian youths by their Spanish parents to ‎Moslem courts to receive a knightly education- ‎for the Moslem aristocrats were accounted ‎‎"knights and gentlemen, albeit Moors"; through ‎the daily contact of Christians with Moslems in ‎Syria, Egypt, Sicily, and Spain. Every advance ‎of the Christians in Spain admitted a wave of ‎Islamic literature, science, philosophy, and art ‎into Christendom. So the capture of Toledo in ‎‎1085 immensely furthered Christian knowledge ‎of astronomy, and kept alive the doctrine of the ‎sphericity of the earth. Behind this borrowing ‎smoldered an undying hate. Nothing, save ‎bread, is so precious to mankind as its religious ‎beliefs; for man lives not by bread alone, but ‎also by the faith that lets him hope. Therefore ‎his deepest hatred greets those who challenge ‎his sustenance or his creed. For three centuries ‎Christianity saw Islam advance, saw it capture ‎and absorb one Christian land and people after ‎another, felt its constricting hand upon ‎Christian trade, and heard it call Christians ‎infidels. At last the potential conflict became ‎actual: the rival civilizations clashed in the ‎Crusades; and the best of the East or West slew ‎the best of the West or East. Back of all ‎medieval history lay this mutual hostility, with ‎a third faith, the Jewish, caught between the ‎main combatants, and cut by both swords. ‎
The West lost the Crusades, but won the ‎war of creeds. Every Christian warrior was ‎expelled from the Holy Land of Judaism and ‎Christianity; but Islam, bled by its tardy ‎victory, and ravaged by Mongols, fell in turn ‎into a Dark Age of obscurantism and poverty; ‎while the beaten West, matured by its effort ‎and forgetting its defeat, learned avidly from ‎its enemy, lifted cathedrals into the sky, ‎wandered out on the high seas of reason, ‎transformed its crude new languages into ‎Dante, Chaucer, and Villon, and moved with ‎high spirit into the Renaissance.‎
The general reader will marvel at the ‎length of this survey of Islamic civilization, ‎and the scholar will mourn its inadequate ‎brevity. Only at the peaks of history has a ‎society produced, in an equal period, so many ‎illustrious men- in government, education, ‎literature, philology, geography, history, ‎mathematics, astronomy, chemistry, ‎philosophy, and medicine- as Islam in the four ‎centuries between Harun al-Rashid and ‎Averroes. Part of this brilliant activity fed on ‎Greek leavings; but much of it, above all in ‎statesmanship, poetry, and art, was original and ‎invaluable. In one sense this zenith of Islam ‎was a recovery of the Near East from Greek ‎domination; it reached back not only to ‎Sasanian and Achaemenid Persia, but to the ‎Judea of Solomon, the Assyria of ‎Ashurbanipal, the Babylonia of Hammurabi, ‎the Akkad of Sargon, the Sumeria of unknown ‎kings. So the continuity of history reasserts ‎itself: despite earthquakes, epidemics, famines, ‎eruptive migrations, and catastrophic wars, the ‎essential processes of civilization are not lost; ‎some younger culture takes them up, snatches ‎them from the conflagration, carries them on ‎imitatively, then creatively, until fresh youth ‎and spirit can enter the race. ‎
As men are members of one another, and ‎generations are moments in a family line, so ‎civilizations are units in a larger whole whose ‎name is history; they are stages in the life of ‎man. Civilization is polygenetic- it is the co-‎operative product of many peoples, ranks, and ‎faiths; and no one who studies its history can ‎be a bigot of race or creed. Therefore the ‎scholar, though he belongs to his country ‎through affectionate kinship, feels himself also ‎a citizen of that Country of the Mind which ‎knows no hatreds and no frontiers; he hardly ‎deserves his name if he carries into his study ‎political prejudices, or racial discriminations, ‎or religious animosities; and he accords his ‎grateful homage to any people that has borne ‎the torch and enriched his heritage".‎