قواعد مهمة في كتابة وعرض التاريخ الإسلامي

أحمد المنزلاوي



التاريخ الإسلامي يحتاج إلى كتابة جديدة، وذلك بأخذه من ينابيعه الصافية لاسيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخربة من ملفقي الأخبار، علمًا أن أمتنا الإسلامية هي أغنى الأمم بمادة تاريخها الذي حفظته بـالأسانيد الثابتة.
ولقد تدارك سلفنا الصالح من المؤرخين الأخبار قبل ضياعها، فجمعوا كل ما وصلت إليه أيديهم من غث وسمين، مُنبهين على مصادر الأخبار وأسماء رُواتها، ليكون القارئُ على بينةٍ من صحيحها وسقيمها.
والآن يأتي دورنا نحن الخلف؛ كي نسير على خطى سلفنا الصالح، ونصفي هذه الكتب، ونميز السقيم من الصحيح، والغث من السمين، فنكون بذلك خير خلف لخير سلفٍ، وحتى يعلم الجميع أن صحائف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهرًا.
وبما أن دراسة التاريخ في حس المسلم مرتبطة بعقيدته، والتاريخ أداة من أدواته في الدعوة إلى الله، وتحقيق عبودتيه بإقامة منهجه، وتحكيم شريعته؛ فإنه يتوجب عليه ملاحظة بعض القواعد في أسلوب الكتابة وطريقة العرض، ومنها:

1 - جعل العقيدة الإسلامية المحور الأساسي في عرضه:
فإن البشرية على طول تاريخها كلما فاءت إلى هذه العقيدة، وتمسكت بها حصل لها السعادة والتمكين في الأرض، وكلما بعدت عنها أصيبت بالأمراض والاجتماعية والخلقية، وفشا فيها الظلم والجور، وسلط عليها الأعداء.

2 - المحافظة على الوقائع التاريخية الصحيحة:
التركيز في التصورات الإسلامية الصحيحة أثناء العرض الموضوعي للحادثة التاريخية، يتم مع ملاحظة المحافظة على الوقائع التاريخية، وعدم الإخلال بها وعرضها كما جاءت في مصادرها الصحيحة.

3 - اعتماد اللفظ دون المعنى:
وذلك بأن ينقل الكلام بنصه دون أن يتصرف فيه بتقديم أو تأخير أو تدوين المعنى، ومن هنا انتقد العلماء ابن حبان حيث تصرف في ألفاظ الجرح والتعديل المروية عن العلماء في نقد الرواة وعبر عنها من عند نفسه.

4 - التركيز في الأهداف والغايات:
عند دراسة الباحث لحقبة معينة من الزمن أو حادثة من الحوادث، فإنه لا ينظر إلى هذه الدراسة إلا كوسيلة من الوسائل للوصول إلى الغاية العليا، فلا ينفق كل جهده في الوسيلة، ويترك الغاية، ولذلك ينبغي أن لا تشغلنا الدقائق التفصيلية في حوادث التاريخ عن العبرة من الحدث والرؤية الشاملة له، وعن الاعتبار الذي يترك في النفس أثرًا، وإنفاق الوقت والجهد في البحث عن أمور لا طائل تحتها ولا تعود على البحث بفائدة، وليست من هدف المسلم، ولا غايته في الحياة، إلا أن يكون البحث في التفصيلات متعلق به مقصد شرعي أو تاريخي أثري، فلا بأس حينئذ من البحث ومحاولة إثباته.
ومن صور الخلاف الذي لا فائدة منه: اسم الرجل في قصة أصحاب القرية (سورة يس) ولونه وطوله وبلده واسم أبيه، وكذلك مؤمن آل فرعون، وعدد أهل الكهف ولون كلبهم، فالناس عادة يتعلقون بالأمور الجانبية التي لا فائدة ترجى من وراء معرفتها، ويختلفون في ذلك، ثم يخوضون بالجدل فيه بغير علم ويتركون المقاصد، والأمور المهمة، وهي أخذ العبرة من وراء سياق القصة.

5 - أن يكون العرض موحيًا بتحبيب الخير وتبغيض الشر:
فالمؤرخ الإسلامي صاحب رسالة وحامل مشعل هداية للبشرية وميزانه في معرفة الخير والشر ليس عُرف الناس، ولا ما تواطأ عليه أهل زمن، أو قررته هيئة من الهيئات أو زعيم من الزعماء، إنما ميزانه هو شرع الله، ولذلك فالمؤرخ في دراسته يجب عليه أن يفحص ويُدقق وينقد المصادر والمراجع، ويتثبت غاية التثبت، وأن يعرض الأحداث بأمانة وصدق، ثم عليه أن لا يظهر الباطل بمظهر الحق، ولا يظُهر الشر بمظهر الخير إنما يُسمى الأشياء باسمها؛ فالحق حق مهما كان فاعله، والباطل باطل مهما كان قائله، والميزان هو شرع الله، وهذا من أعظم غايات دراسة التاريخ وثمراته.

6 - إبراز دور الأنبياء:
على المؤرخ أن يبرز دور الأنبياء، وأثرهم في تاريخ البشرية، وكيف جاءوا بعقيدة واحدة، هي: إفراد الله بالعبادة والاستسلام له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله، وتوضيح أن الإسلام هو دين الأولين والآخرين:
{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ...(19)}[آل عمران]،
{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}[آل عمران].

ويُبين أن التاريخ البشري كله يمثل صراعًا بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، ودور الأنبياء وأتباعهم يمثل في تاريخ البشرية كلها خطًا مستقلًا، ومرتبطًا بعضه مع بعض من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وتقف بإزائه الجاهليات على تعدد أنواعها واختلاف عصورها، فالجاهليات تُشكل أمة واحدة وحزبًا واحدًا في مقابل أمة الإسلام، ودعوة الحق، وحزب الرحمن، وأتباع الرسل والأنبياء، وما من فترة سيطرت فيها الجاهليات إلا وأصيبت البشرية بالشقاء والتعاسة وسادها الظلم، ولا أظلم من الشرك بالله.

7 - تحري استعمال المصطلحات الإسلامية:
على المؤرخ الإسلامي -أيضًا- تحري استعمال المصطلحات الإسلامية، وتجنب المصطلحات الدخيلة، مثل: الوحدة العالمية، والإخاء الإنساني، والتعاون الدولي، والسلام العالمي، وزمالة الأديان، والحرية، والمساواة، والتقارب بين المؤمنين بالله في مواجهة الإلحاد والشيوعية... إلخ.
وأن نعلم أنه لا التقاء بين الحق والباطل، ولا بين الهدى والضلال؛ فالديمقراطية والاشتراكية، والثيوقراطية، والدكتاتورية والإمبراطورية واليمين واليسار والمحافظين والليبرالي والإمبريالي والأحرار والأرستقراطية .. كلها مصطلحات أوربية ذات مضامين ودلالات محلية وتاريخية، ولا يمكن فصلها عن ذلك الوسط الاجتماعي والظروف التاريخية والثقافية التي لابست نشوء هذا المصطلح أو ذاك، وأن كل كلمة لها معنى ورصيد عند أهلها، ولابد من ضبط اللفظ والمعنى بما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح الترويج لها في بلاد المسلمين ولا حتى إضافة الإسلام إليها كالديمقراطية الإسلامية، فهذا مما يروج للفظ الديمقراطي (بمضمونه عند أهله) ويحببها للنفوس مع ما تحمله من خراب ودمار.

8 - الابتعاد عن أسلوب التعميم قبل حصول الاستقراء:
من جملة هذه القواعد المهمة التي تُراعى: الابتعاد عن أسلوب التعميم قبل حصول الاستقراء، فمثلًا لا يصح أن نقول: إن أهل المدينة كلهم تخاذلوا عن نصرة عثمان بن عفان رضي الله عنه أو رغبوا في قتله، كما لا يجوز أن نأتي إلى مجتمع من المجتمعات أو عصر من العصور، فنحكم على أخلاق أهله من خلال شِعر اثنين أو ثلاثة، أو حتى مئة من الشعراء الماجنين، فنقول: إن هذا العصر عصر مجون وتهتك وخلاعة، أو أن نَصِف أُسرة كأسرة بني أمية بأنها كلها ظالمة، أو نقول: إن فرقة المرجئة أو المعتزلة كلهم زنادقة ومنافقون؛ لأن كل طائفة لا تخلو من بعض الخيِّرين أو العوام، أو المجتهدين المتأولين، غير أن الحكم يكون للغالب.

9 - النظرة الشاملة:
إن النظرة الجزئية لأحداث التاريخ تنتج مواقف إزاء تلك الأحداث لا تتفق مع الواقع تمامًا، وتكون ظالمة لأشخاص ووقائع؛ فمن نظر إلى الدولة العباسية من منظور قسوة النشأة وتتبع الخصوم، سيحكم عليها حكمًا جائرًا.
ومن نظر إلى الدولة العثمانية في ضوء الوقائع العسكرية فقط، فسيحكم عليها حكمًا غير دقيق، وهي أنها دولة أفلحت في الجوانب العسكرية فقط، وأخفقت في سائر الجوانب الأخرى.
ومن نظر إلى دول الشيعة في ضوء منجزاتها دون النظر إلى عقيدة القائمين عليها (زيدية أو إمامية أو إسماعيلية باطنية)، فسيخطئ في الحكم عليها، وسيرى أنها دول لها فضل وأثر في بابي الحضارة والثقافة، وسيعمى عن خطورة تلك الدول في جوانب أخرى... وهكذا.

10 - التفريق بين أخطاء البشر وأحكام الإسلام:
وهذه قاعدة جليلة عظيمة، فمن رزقه الله تصورًا صحيحًا وفهمًا في علم الشريعة علم يقينًا أنه لا شيء من أخطاء البشر مها كانوا محسوبًا على الإسلام، فقواعد الإسلام وأحكامه تُتلقى من مصدريها (الكتاب والسنة)، لا من عمل الناس وسيرتهم -ما لم يكن إجماعًا ممن ينعقد بهم الإجماع- ولا حجة في عمل أحد ولا قوله إذا كان مخالفًا لنصوص الشرع، ولهذا قال الإمام مالك: «ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم».
وكثير من الناس يخطئ في هذه المسألة فيظن أن كل ما حدث في التاريخ الإسلامي هو تطبيق لمبادئ الإسلام أو أن الإسلام أمر بمثل هذه الأفعال التي قام بها المسلمون في ظل الحكم الإسلامي ويعتبر ذلك الحدوث حجة أو مسوغًا للاقتداء به على اعتبار أنه سابقة تاريخية حدثت في المجتمع الإسلامي، لكن من المعلوم أن السوابق التاريخية لا يجوز العمل بها إذا خالفت النصوص الشرعية أو حدثت نتيجة انحراف وخطأ في المفهوم الإسلامي أو كانت صادرة عمن لا يحتج بعمله؛ ولذلك تراهم إذا تحدثوا عن حضارة الإسلام يذكرون أنواعًا من الأفعال والتنظيمات وهي مناقضة تمامًا للأحكام الشرعية دون أن يوضحوا بأن مثل هذا مما يخالف الأوامر والنواهي الشرعية، والأمثلة على ذلك كثيرة في كتابات المتأخرين، فإنك تراهم يذكرون في الفنون الإسلامية مثلًا أنواعًا مما حرمه الله مثل فن الغناء، وفن التصوير، والنحت، وفن بناء القباب على القبور، وفي النظم المالية، مثلًا يذكرون نظام الضرائب والمكوس التي تؤخذ من التجار المسلمين، وغير ذلك مما نهى الشارع عنه، فيعرضون مثل هذا على أنه تقدم حضاري، أو من نتائج الحضارة الإسلامية، ويفاخرون به غيرهم، هذا بالإضافة إلى الأخطاء التي وقع فيها الكثير من القادة المسلمين (الصالحين والطالحين) في العصور الإسلامية! وهذا في الحقيقة من فساد التصور والخلط بين انحرافات البشر وأخطائهم، وبين أحكام الإسلام، والمفترض في الباحث أن يصطحب التصور الإسلامي الصحيح في كل دراساته وأحواله، وأن يفرق بين أخطاء البشر وبين قيم الإسلام، وموازينه؛ لأن البشر يخُطئون ويصيبون، ويستقيمون على الطريق فترة وينحرفون فترات، وتتبدل مفاهيمهم وموازينهم إن لم ترجع إلى ضابط ومقياس شرعي، أما أحكام الإسلام وموازينه فهي ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، كما قال تعالى:
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}[الأنعام]

11 - الموضوعية والتجرد من العاطفية:
التاريخ فيه ما يجمل ذكره وفيه ما يسوء ذكره، وهذه سنة الله في خلقه، وهكذا هو التاريخ منذ فجر البشرية. وهناك مؤرخون يُجَمِّلون التاريخ بذكر الحسنات فقط وإغفال السيئات، وصنيعهم هذا خطأ منهجي واضح، ومما يفعلونه:

أ- عدم ذكر ما يسوء من الوقائع وسير الأشخاص، وإغفال كل ذلك تمامًا.
ب- ذكر ما يسوء مختصرًا من دون توسع وانتزاع للعبر والعظات؛ مما يجعل القارئ في حيرة من أمره ولا يغنيه ما يقرؤه ولا يقضي حاجته للمعرفة.
جـ- ذكر ما يسوء مع انتحال الأعذار الكثيرة التي تذهب بأهمية الحدث، وتُجرِّئ الباحثين على مزيد من الاعتذارات السمجة.

هذا وقد كان في الأقدمين هذا الصنيع مثل كتاب الإمام أبي بكر بن العربي «العواصم من القواصم»، خاصة عندما تكلم على تاريخ بني أمية.
أما المُحدَثون فبعضهم كتب كتابة عجيبة لا تُقبل بحال؛ فمن ذلك الكتاب الذي صنفه أحدهم بعنوان «الحجاج بن يوسف المفترى عليه»، وهذا دفاع أعمى عن رجل ظالم ولغ في الدماء ولوغًا بلغ مبلغ التواتر، وكان جبارًا عسوفًا، يأخذ الناس بأدنى شيء وأقله، بل في بعض الأحيان بدون سبب، فمثل هذا دفاع يبغضه الله ويبغضه المؤمنون.
وهناك مَن بالغ في الدفاع عن بني أمية في بعض سقطاتهم وتجاوزاتهم، نعم إن في بني أمية مزايا ونقائص، فدفع النقائص عنهم عمل باطل، كما أن غمطهم حسناتهم فعل محرم في شرعنا.
وهناك اتجاه عند بعض الكتاب بأن التاريخ الإسلامي كله شر وفتن، ولم يسلم منه إلا مدة محدودة زمن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أما ما عدا ذلك فليس فيه إلا الفتن والمشكلات، وهذا غلو واضح وتزوير فاضح؛ وفي الغالب حامل لواء هذه الفرية -غالبًا- هم الليبراليون والعلمانيون لحاجة في نفس يعقوب، وهي أنه إذا لم يستطع الصدر الأول أن يعيشوا في أمن واطمئنان وهدوء تحت راية الشريعة، فلن يستطيع ذلك مَن يجيء من بعدهم، ومرادهم أن يثبتوا هذا، وأمرًا آخر هو أن الشريعة نفسها لا يمكن تطبيقها، وإن طُبِّقت فلن تجلب الرخاء والأمن.

ولا بد عند ذكر تاريخنا من ذكر تواريخ الأمم الأخرى مقارنًا بتاريخنا؛ لنعرف أن تاريخنا أفضل من تواريخ جميع الأمم بل ليس بينه وبينها أفعل تفضيل.

12 - الحس النقدي:
إن النقد لما يورده المؤرخ أمر في غاية الأهمية؛ لأنه بالنقد يطمئن قارئ التاريخ لصحة المادة التي يقرؤها وترتاح نفسه لمتابعة الاطلاع، وعكس هذا صحيح؛ إذ القارئ للكتاب الخالي من النقد والذي تكثر فيه الروايات الضعيفة أو الأساطير الموضوعة، سيعزف عنه وتمله نفسه.
هذا وإن أكثر المؤرخين المعاصرين يراعون مسألة النقد هذه، ولا يوردون الأساطير والمرويات شديدة الضعف، التي تورط فيها بعض ضعاف قدامى المؤرخين، لكنهم قد يبالغون فيستبعدون الوقائع الممكنة، ويَردون الأحداث التي يرون أنها لا توافق ما يعتقدونه ويذهبون إليه.
كما يحتاج المؤلف في التاريخ والمحلل للأحداث، أن يقرأ في تاريخ الخصوم لأنفسهم، ويعرف نظرتهم للأحداث التاريخية التي خاصموا فيها المسلمين، كما في الأندلس، والدولة العثمانية، وما من شك أنه سيجد تجاوزات ومبالغات، تقابل العاطفة عند مؤرخي المسلمين، وبينهما سيجد الحقيقة التاريخية أو ما يقاربها.
وأعظم المؤرخين القدامى نقدًا هو الإمام الذهبي الذي تتوافر المادة النقدية في كتبه التاريخية خاصة كتاب سير أعلام النبلاء، ثم يأتي بعده الإمام ابن كثير في كتابه البداية والنهاية.
وليس النقد فقط هو المراد، إنما المراد هو النقد القائم على أسس شرعية صحيحة، وهذا لا يقوى عليه إلا مؤرخ له حظ وافر من العلوم الشرعية.
ولذلك كان لزامًا على من يريد التصدي لنقد الحوادث التاريخية أن يحوز قدرًا جيدًا من الثقافة الشرعية، يستطيع به أن يميز الصالح من الطالح، ويحسن به الانتقاء والاختيار.
والحد الأدنى أن يكون عارفًا لطرائق تمييز الأخبار الصحيحة من السقيمة بموازين أهل الحديث، وأن يكون عارفًا للحلال والحرام على وجه الإجمال وليس التفصيل.

13- التحري في وقائع أعيان الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنه:
لما أُمرنا به من الإمساك عما كان بينهم، والتأويل له بما لا يحط من مقدارهم، ويلتحق بذلك ما وقع بين الأئمة، سيما المتخالفين في المناظرات والمباحثات، وهذا الشرط مهم للغاية، وعدم مراعاته كان السبب في وقوع كثير من الأخطاء والانحرافات في كتابة التاريخ الإسلامي، وكان ما دُون من مثل هذه الأخبار عونًا للمستشرقين والحاقدين على الإسلام وعلمائه فيما نشروه من دراسات عن التاريخ الإسلامي حتى أخفوا معالمه الأساسية وأظهروه في صورة قاتمة شوهاء لا تزيد على كونها صراعًا على السلطة وتكالبًا على الشهوات، وفسروا التاريخ الإسلامي كما يحلو لهم تفسيرًا ماديًا، أو قوميًا، أو علمانيًا.
يقول السبكي: «لا يزال طالب العلم عندي نبيلًا حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين، ويقضي لبعضهم على بعض».
ويقول الشوكاني في جواب من سأله عن مذهب أهل الحق في شأنه ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم في الخلافة: «إن كان هذا السائل طالبًا للنجاة فليدع الاشتغال بهذه الأمور في هذا المضيق الذي تاهت فيه الأفكار، فإن هؤلاء الذين تبحث عن حوادثهم وتتطلع لمعرفة ما شجر بينهم قد صاروا تحت أطباق الثرى، ولقوا ربهم في المئة الأولى من البعثة وها نحن الآن في المئة الثالثة عشر، فما لنا والاشتغال بهذا الشأن الذي لا يعنينا «ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وأي فائدة لنا في الدخول في الأمور التي فيها ريبة وقد أُرشدنا إلى أن ندع ما يريبنا إلى ما لا يريبنا، ويكفينا من تلك القلاقل والزلازل أن نعتقد أنهم خير القرون وأفضل الناس»، إلى أن قال: «فرحم الله امرأ اشتغل بما أوجبه الله عليه وطلبه منه، وترك ما لا يعود عليه بنفع لا في الدنيا ولا في الآخرة بل يعود عليه بالضر، ومن ظن خلاف هذا فهو مغرور مخدوع قاصر الباع عن إدراك الحقائق، ومعرفة الحق على وجهه كائنًا من كان».
وما أحسن ما قال إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل، وقد سئل عن الفتن أيام الصحابة فما زاد أن تلا قول الله تعالى:
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}[البقرة].

وهذا الذي قرره الأئمة رحمهم الله هو الحق الذي تؤيده النصوص الشرعية، وتقتضيه القواعد المنهجية، قال تعالى زاجرًا المؤمنين من مجاراة الشائعات التي يقولها أهل السوء في إخوانهم المؤمنين:
{ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}[النور]، وقال تعالى:
{ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)}[النور]
فقد أمرهم بالرجوع إلى ما علموا من إيمان المؤمنين الذي يدفع السيئات وأن يعتبروا هذا الأصل العظيم، ولا يعتبروا كلام أهل السوء الذي يناقضه ويقدح فيه، وقد دلت الآيتين على قاعدة جليلة وهي الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقق للخروج من الشبهات والتوهمات، وقد يعبر عنها بأن: الوهم لا يدفع المعلوم، وأن المجهول لا يعارض المحقق.

فعلينا أن نعتقد ونحن نقرأ تاريخ الصحابة أمرين اثنين:
1- أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير البشر بعد أنبياء الله -صلوات الله وسلامه عليهم-؛ وذلك لأن الله تبارك وتعالى مدحهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مدحهم، وبين في أكثر من حديث أنهم أفضل البشر بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامة عليهم.
2- أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصومين: نعم نحن نعتقد العصمة في إجماعهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة [أخرجه أحمد في «مسنده» من طريق أبي بصرة الغفاري (6/396) رقم [26682]، وابن ماجه كتاب «الفتن» باب السواد الأعظم (2/367) رقم [3950]، وابن أبي عاصم في «السنة» باب ما ذكر من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، ص [39] رقم [80]، من حديث أنس بن مالك، وصححه الشيخ الألباني في «صحيح سن ابن ماجه».]. فهم معصومون من أن يجتمعوا على ضلالة، ولكنهم كأفراد غير معصومين، فالعصمة لأنبياء الله وملائكته، أما غير الأنبياء والملائكة؛ فلا نعتقد عصمة أحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
كتاب "مهارات الكتابة والتأليف" أحمد المنزلاوي.

عن موقع قصة الإسلام