رواية "فتاة مصر" ليعقوب صروف
وقضية الريادة الروائية

إبراهيم عوض


جاء فى كتاب "الأعلام" لخير الدين الزركلى تعريفا بالدكتور يعقوب ‏صروف مؤلف هذه الرواية ما يلى: "الدكتور صروف (1268- 1346ه‍ـ= ‏‏1852- 1927م): يعقوب بن نقولا صروف. عالم بالفلسفة والرياضيات ‏والفلك، من أئمة المترجمين عن الإنكليزية. وُلِد في قرية "الحدث" بقرب ‏بيروت، وتعلم ببيروت في الجامعة الأميركية، وامتاز بالرياضة والفلسفة. ‏واشتغل بالأدب، وله نَظْمٌ جيد، وعلَّم في صيدا وطرابلس وبيروت. ‏وأصدر، مع فارس نمر وشاهين مكاريوس، مجلة "المقتطف" سنة 1876، ‏وانتقلوا بها إلى مصر سنة 1885، وكانت من أرقي المجلات العلمية ‏العربية. أخرج منها الدكتور يعقوب واحدا وسبعين مجلدا، وشارك في ‏إصدار جريدة "المقطم" سنة 1889، وصنَّف وترجم عدة كتب منها ‏‏"سر النجاح" و"بسائط علم الفلك" و"الحرب المقدسة" و"الحكمة الإلهية" ‏و"سِيَر الأبطال والعظماء" (شاركه في ترجمته عن الانكليزية فارس نمر)، ‏و"فصول في التاريخ الطبيعي" و"الحلى الفيروزية في اللغة الإنكليزية". ونشر ‏في المقتطف بحثا طويلا في "نوابغ العرب والإنكليز" قارن فيه بين المعَرّي ‏ومِلْتُنْ، وابن خلدون وسبنسر، وصلاح الدين وريشار قلب الأسد. وله ‏نحو عشرين قصة منها "فتاة الفيوم" و"أمير لبنان" و"فتاة مصر". قال خليل ‏ثابت: كان محققا باحثا، أضاف إلى ثروة اللغة العربية ألفاظا ‏واصطلاحات علمية عديدة ابتكرها أو نحتها أو استخرجها من المظانّ ‏المجهولة، وساقها في عُرْض مقالاته في الفلسفة والأدب والتاريخ". ‏
أما بالنسبة لرواية "فتاة مصر" فتقع فى نحو 180 صفحة من القطع ‏فوق المتوسط، إذ تتكون الصفحة من ثلاثين سطرا، فى كل سطر أربع ‏عشرة كلمة أو أكثر. وهى ليست الرواية الوحيدة التى أعرفها لصاحبها، ‏بل أعرف له روايتين أُخْرَيين هما: "أمير لبنان" (سنة 1907م)، و"فتاة ‏الفيوم" (سنة 1908م). وقد ذكر الزركلى أن له نحو عشرين رواية حسبما ‏رأينا قبل قليل، لكنى لا أعرف شيئا عما وراء تلك الروايات الثلاث. ‏وأول ما أحب الوقوف عنده العنوان، وهو "فتاة مصر"، فالمؤلف بهذا ‏العنوان إنما يجارى التقليعة التى كانت سائدة آنذاك من تضمين عناوين ‏الروايات كلمة "فتاة" أو "غادة" أو ما إلى ذلك، مثل: "غادة جبل أناصيا" ‏لأحمد سعيد بغدادى، و"الغادة الأوربية فى الشرق" لعبد الله طاهر، ‏و"غادة الأندلس" لعبد الرحمن إسماعيل، و"غادة حمانا" لمحمود طاهر ‏حقى، و"غادة الأهرام" لمحمد مسعود، و"فتاة الثورة العرابية" ليوسف ‏بحرى، و"فتاة غسان" و"فتاة القيروان" لجرجى زيدان، و"الفتاة الريفية" ‏لحسين رياض، و"اليهودية العجيبة أو فتاة إسرائيل" لعبد المحسن الأنطاكى، ‏و"الفتاة الشركسية فى حرب الدولة العليّة" لزكريا نامق، و"شيرين أو فتاة ‏الشرق" للبيبة هاشم، و"فتاة البوسفور" و"فتاة أرضروم" لسعادة مورلى، ‏و"شهداء الوفاء أو فتاة النعمان بن المنذر" لمحمود جعفر إسماعيل، ‏و"فاطمة أو الفتاة المعذَّبة" للسعيد محمد، و"فتاة القرية أو جناية الحب" ‏لمعروف الأرناؤوطى، و"عذراء الهند أو تمدّن الفراعنة" لأحمد شوقى، ‏و"عذراء اليابان" لعوض واصف، و"عذراء دنشواى" لمحمود طاهر ‏حقى...إلخ. وليس فى ذلك ما يدعو إلى الاستغراب، فإن للتقاليع ‏حكمها القاهر فى كل مجالات الحياة، وبخاصة فى ميدان الفنون والآداب. ‏وإذا كانت الحضارة والثقافة تقوم فى جانب منها على الإبداع والابتكار، ‏فهى أيضا تقوم على التقليد والاقتباس فى جانبها الآخر.‏
كذلك فإن التاريخ الذى ظهرت فيه هذه الرواية يدعونا إلى فتح ‏الملفّ الخاص بقضية الريادة فى ميدان التأليف الروائى فى الأدب العربى ‏الحديث، إذ قد رسخ، لدى معظم الباحثين على الأقل، أن لصاحب ‏‏"زينب"، وهو الدكتور محمد حسين هيكل، قصب السبق فى هذا ‏المضمار. وعندما يتبين أن هناك من تقدم هيكل فى تأليف الروايات يكون ‏الجواب أن المقصود هو الرواية الفنية الجيدة، أما الروايات التى صدرت قبل ‏رواية هيكل فلا تَرْقَى، فى نظرهم، إلى المستوى المطلوب، ومن ثَمّ لا يُعْتَدّ ‏بها.‏
والحق أن هذه الدعوى هى إحدى المقولات التى تعكس ذلك ‏الكسل العقلى الذى لا يَعْرَى منه أحد من البشر تماما. ذلك أن ثمة ‏روايات ظهرت قبل "زينب" ولا تقلّ عنها لا من الناحية الفنية ولا من ‏ناحية خطورة الموضوع. ومن هذه الروايات الرواية القصيرة التى ألفها ‏محمود طاهر حقى (عم الأستاذ يحيى حقى) عن حادثة دنشواى بعنوان ‏‏"عذراء دنشواى"، والتى مر ذكر عنوانها آنفا، وكذلك الرواية التى بين ‏أيدينا(1). وقد اقتصرتُ على ذكر هاتين الروايتين لأنى قد قرأتهما بنفسى: ‏قرأت الثانية مرة فى ثمانينات القرن الماضى مع مقدمة يحيى حقى لها، ‏وعجبت كيف غفل الأستاذ حقى، فى كتابه الصغير القيم: "فجر القصة ‏المصرية"، عن أهمية هذه القصة التى دبجتها يراعة عمه فجعل "زينب" ‏هى الرواية الأولى فى أدبنا العربى، مع أنه فى مقدمة "عذراء دنشواى" قد ‏أشاد برواية عمه أَيَّمَا إشادة. فأين كان ذلك الاحتفاء حين كان يؤرخ ‏للقصة المصرية فى كتيّبه المذكور؟ غريبة! أما الأولى فقد قرأتها مرتين: ‏الأولى فى أوكسفورد فى أواخر سبعينات القرن المنصرم، وشدّتنى إليها ‏آنذاك شدًّا عجبت معه أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بما تستحقه من ‏اهتمام. ومن يومها وأنا حريص على أن أجدها فأقرأها مرة أخرى. ولكن ‏للأسف لم تقع عليها عيناى فى أى مكان. وكنت قد كتبت عنها بضعة ‏سطور فى كتابى: "محمد حسين هيكل أديبا وناقدا ومفكرا إسلاميا"، ‏الذى صدر بعد احتفالية المجلس الأعلى للثقافة فى مصر بالدكتور هيكل ‏فى 1996م بقليل أشرت فيها إلى الخلاف الذى دار بينى وبين صبرى ‏حافظ فى إحدى جلسات تلك الاحتفالية، إذ ذكرتُ ضمن كلام لى ‏أعقِّب به على ما قاله أحد الباحثين حول ريادة "زينب" أن ليعقوب ‏صروف رواية مهمة ظهرت قبل رواية الدكتور هيكل بثمانية أعوام، فانبرى ‏صبرى حافظ يؤكد أنها متأخرة فى الصدور عن "زينب" ولـَجَّ فى العناد ‏دونما سبب مفهوم، وانتهى الأمر عند هذا الحد، فلما أخرجت كتابى عن ‏هيكل وجدت من المناسب أن أشير إلى هذه النقطة وأبرز أهمية تلك ‏الرواية فكتبت السطور المشار إليها(2).‏
وظل الأمر هكذا إلى أن عثرت بطريق المصادفة البحتة على نسخة ‏أخرى من رواية صروف بين أكداس الكتب القديمة على سور الأزبكية ‏بمعرض القاهرة الدولى للكتاب عام 2001م، وما إن وصلت إلى البيت ‏حتى شرعت أقرؤها من جديد، فوجدت أننى لم أخطئ فى شىء مما ‏كتبته عنها من الذاكرة فى كتابى عن هيكل. وبالمناسبة فإن د. سهير ‏القلماوى، على ما سلف ذكره قبل قليل، تقول إن رواية صروف التى بين ‏أيدينا قد ظهرت عام 1922م، ولا أدرى على أى أساس قالت ذلك! ‏وهناك روايات أخرى سبقت رواية "زينب" وأشار إليها د. سيد حامد ‏النساج حسبما مر بنا فى هذا الكتاب، مؤكِّدًا أنها جيدة فنًّا ومضمونًا، ‏بَيْدَ أنه لم يقدَّر لى أن أقرأها لأحكم عليها بنفسى.‏
وتعالج الرواية التى بين أيدينا عدة موضوعات يأتى على رأسها تعلُّق ‏شاب بريطانى، هو ابن واحد من أكبر مالكى الصحف فى بلاده، بفتاة ‏قبطية اسمها بهية تعلقا ينتهى بزواجه منها. وأحسب أن الأمر لا يخلو من ‏الرمز إلى العلاقة التى ينبغى أن تكون بين بريطانيا ومصر من وجهة نظر ‏المؤلف. وغير خافٍ أن جريدة "المقطم" هى إحدى الجرائد التى كانت ‏تناصر الاحتلال البريطانى لبلادنا، والمؤلف (كما هو معروف) أحد ‏أصحاب تلك الجريدة. وفى الرواية ثلاث أُسَرٍ حرص المؤلف على أن ‏يجعل كلا منها تنتمى إلى دين من الأديان الثلاثة التى تضمها أرض الكنانة، ‏لكن الذى يلفت النظر هو أن الأسر الثلاث جميعها من الأسر الغنية، وبينها ‏مودة وتزاور بل وتداخل أيضا. ‏
وكان للأسرة اليهودية فتاة جميلة عاقلة مثقفة ثقافة غربية وعربية ‏راقية وتتكلم الفرنسية والإيطالية بطلاقة، وكذلك العربية التى كثيرا ما ‏تستشهد بشعرها فى موضعه. ولا غَرْو فى هذا، فقد تعلمت اللسان ‏العربى وآدابه على يد عالم دين مسلم متفتح الذهن عصرى التفكير له ‏علاقة قوية بأسرتها وبالأسرتين الأُخْرَيَيْن فأحسنت التعلم. وكان يطمح إلى ‏الزواج بها أمين القبطى أخو بهية، وحليم المسلم التركى الأصل، وعزرا ‏اليهودى المرابى. كذلك كان للأسرة التركية المسلمة ابنة فى سن الزواج ‏اسمها حليمة على درجة عالية من الأناقة والجمال وطيب النفس انتهى ‏الأمر بها إلى أن أطلق النار عليها شابٌّ من أقاربها أرعنُ سِكِّيرٌ كان يحبها ‏حبًّا قاهرًا، لكنها لم تكن تبادله هذا الحب، فضربها بالرصاص انتقاما ‏منها. وكانت النتيجة أنْ ذَوِيَتْ وضَوِيَتْ ثم ماتت رغم أن الأطباء كانوا ‏قد استخرجوا من جسمها الرصاصة ورمّموا ما انكسر من أضلاعها.‏
وقد صور المؤلف العادات والتقاليد المصرية فى أوائل القرن العشرين ‏تصويرا حيا، ورسم للافى (رب الأسرة اليهودى) بالذات صورة مقنعة ‏بعقليته المتمركزة حول المال وتفكيره الدائم فى التوفير والأرباح، وإن لم يُخْلِه ‏مع هذا من الصفات الطيبة، فجاءت صورته مقنعة إلى حد كبير. كما ‏جعل الفتاة المسلمة قليلة الخروج والاختلاط بالمجتمعات، وبالمثل جعل ‏الفتاة القبطية متحفظة حيية رغم مبادلتها هنرى (الشاب البريطانى) ‏الاهتمام، حتى إنها لم توافق على أن يكتب لها أثناء رحلته الصحفية إلى ‏الهند واليابان، مكتفية بأن تعرف أخباره من خلال رسائل دورا أخته ‏إليها.‏
وفى الرواية كلام كثير عن البورصة وهَوَس كثير من أغنياء المصريين ‏بالمضاربة فيها ومكاسبها التى تضاعف ثرواتهم بغاية السهولة، وكذلك ‏الخسائر التى تقصم ظهورهم وتقضى عليهم بغاية السهولة أيضا. كما ‏صورت الرواية، ضمن ما صورت، وسائل النقل التى كان يركبها الأغنياء ‏أوانئذ، وهى مركبات الخيول، وأماكن التنزه التى كانوا يقصدون إليها، ‏وبخاصة طريق الأهرام. وفى الرواية كلام عن الحجاب واختلاف الناس ‏والعلماء بشأنه، وكذلك وصفٌ مفصَّلٌ لبعض طقوس الزار مما كنت أجهله ‏رغم نشأتى الريفية وشهودى فى طفولتى الأولى حلقة من حلقاته، إذ لا ‏أذكر أنى رأيت فيها شيئا مما ذكرته الرواية عن طقس الخروف المذبوح ‏وتلطيخ الوجوه والأيدى بدمه وخروج الأصوات الغريبة من فم المريضة وما ‏إلى ذلك(3).‏
وهناك أيضا كلام كثير عما عُرِف آنذاك من الاستعانة بصور بصمات ‏الأصابع على التوصل إلى معرفة المجرم. وثمة كذلك عدة فصول عن الصراع ‏بين الإنجليز والأمريكان بسبب القطن واهتمام الأولين بأن يتوسعوا فى ‏زراعة هذا المحصول بمصر كيلا يحتاجوا إلى الأمريكان فيه، وكلام كثير مثله ‏عن الحرب بين روسيا واليابان ودور ساسة الإنجليز ورجال أعمالهم ‏وأرباب جرائدهم فى تأريث نارها طمعا فى المكاسب الهائلة التى ستعود ‏عليهم من جرائها دون اعتبار للمصائب والكوارث التى ستصيب الطرفين. ‏وفى الرواية حديث عن خُلُق الرجل الإنجليزى وتحكمه فى عواطفه ‏وتقديم مصلحة وطنه على كل اعتبار وحبّه للأسفار واستهدافه للأخطار ‏من أجل ذلك.‏
هذا، وقد تقدمت الإشارة إلى عالم دين مسلم اسمه الشيخ أحمد ‏عصرى التفكير محترم الحضور مسموع الكلمة عند الجميع. ولست أشك ‏لحظة فى أن المقصود بذلك العالم هو الشيخ محمد عبده: فآراؤه العصرية ‏فى الدين هى آراء الشيخ، وملامح شخصيته هى الملامح التى نعرفها ‏للأستاذ الإمام. بل لقد جاء فى الرواية صراحةً أنه يسمَّى أحيانا ‏بــ"الشيخ"، وأحيانا أخرى بــ"الأستاذ"، وأحيانا ثالثة بــ"الإمام"(4)، وهذا ‏الكلام لا ينطبق إلا على محمد عبده، فضلا عن قرب اسم "أحمد" من ‏‏"محمد" كما هو معروف. ويكفى أن الرسول الكريم كان يسمَّى بالاسمين ‏معا. ولعل مما له مغزاه هنا أن المفكر الأوربى الوحيد الذى ورد ذكره فى ‏الرواية وأُلْقِىَ الضوء على بعض أفكاره هو الفيلسوف الإنجليزى هربرت ‏سبنسر، الذى كانت بينه وبين الشيخ محمد عبده معرفةٌ وتَوَادٌّ، وزاره ‏الشيخ فى منزله حين ذهب إلى بلاد الإنجليز. وبالمناسبة فقد أبرزت ‏الرواية حرص ذلك الفيلسوف على مصالح اليابانيين ونصحه لهم بألا ‏ينخدعوا فى الأوربيين فيرتبطوا بهم اقتصاديا ويخضعوا لهم(5).‏
وقد يكون مفيدا أن نسوق هنا بعض ما نُسِب إلى الشيخ أحمد فى ‏الرواية، فلعله ينفع فى استكمال صورة الأستاذ الإمام: لقد ذكرت القصة ‏أن الشيخ لم يكن يجد حرجا فى "إزالة الحجاب وخروج النساء سافرات ‏الوجوه... مثل نساء الإفرنج"، وأن الناس كانوا "يكفّرونه كلما قال قولا ‏خالف فيه المألوف"، وأنه كان يغشى "البالو" (أى حفلات الرقص) فيلتفّ ‏حوله جِلّة القوم ممن تعلم أكثرهم فى أوربا(6). بل لقد جرى على لسانه أنه، ‏وإن لم يستحسن مراقصة الرجال للنساء، لا يَعُدّ ذلك حراما، "ولا سيما ‏فى المجتمعات الأدبية حيث يكون الراقصون والراقصات من الأقارب أو ‏العُشَراء، فقد رأيت البدو يرقصون رجالاً ونساءً فى حلقة واحدة كأنهم ‏إخوة وأخوات: لواءُ العفة منشورٌ فوق رؤوسهم، لا شىء يكدر صفوهم. ‏أما إذا فسدت الأخلاق فالفصل بين الجنسين أدرأ للمفاسد"(7). وكان يرى ‏أن "أكثر نسائنا لسن متربيات التربية الكافية التى تسمح لهن بمخالطة ‏الرجال"، على عكس ما كان الحال عليه أيام ازدهار الحضارة الإسلامية، ‏إذ "قام من نسائنا سيدات كن يدرّسن العلوم الشرعية، وكان أكبر الأئمة ‏يقرأون عليهن"(8). وهو يرمى عبء المؤاخذة فيما وصلت إليه حال ‏المسلمين فى عصره على عاتق من التصقوا بالعرب من أمم الفرس والترك ‏والديلم(9).‏
والشيخ أحمد أيضا هو الذى علّم أستير اليهودية النحو والبيان حتى ‏أتقنت لسان الضاد قراءة وكتابة واستطاعت أن تَنْظِم الشعر(10). وكان ‏رأيه فى تلك الفتاة أنها دُرَّةٌ يتيمةٌ، ولذلك حسَّن لحليم (الشاب المسلم) ‏التقدم لخِطْبتها حين جاء يسأله رأيه فى ذلك(11). وذكرت الرواية كذلك أنه ‏شرع يتعلم الفرنسية وأنه كان يخاطب بها هنرى الشاب البريطانى الذى ‏وقع فى غرام بهية(12).‏
كما حكت أستير تلميذة الشيخ أنها سألته ذات مرة عن الموت ‏والمكان الذى سيجتمع فيه الأهل والأحباب والأصدقاء بعده إذا كان ‏هناك اجتماع كهذا مما سكتت التوراة فلم تذكر عنه شيئا البتة، فكان ‏جوابه أنه لا يعلم شيئا عن هذا الموضوع أكثر مما تعلم، "ولكنه لا يقدر أن ‏يتصور أن خالق الأجسام والأرواح خلقها لتعيش سنين قليلة ثم تَفْنَى، ‏فكأنه بنّاء يبنى القصور الفخمة ثم يخرّبها ليتسلى ببنائها وخرابها، وهذا ‏أمر لا يصدقه عقل". كما أكد "أن النفوس تبقى ولو صارت الأجسام ترابا ‏ورمادا"(13). ‏
ولم تكن علاقة الشيخ أحمد بالخواجة لافى مقصورة على ذلك، إذ ‏يظهر من سياق الوقائع والحوار أنه كانت له ودائع مالية عنده. وربما كان ‏هذا هو السبب فى تداخله فى قضية السطو على بنك ذلك الخواجه ‏وتأكيده أن المال الذى تحت يده "أَحَلّ من الحلال". بل لقد امتُقِع وجهه ‏وصار لونه ترابيا (كما جاء فى الرواية) وارتجفت لحيته عندما علم بالخبر ‏لأول مرة وأن الحـُجَج والرَّهْنِيّات والدفاتر التى كانت فى خزانة لافى قد ‏سُرِقَتْ كلها مع الأموال. ليس ذلك فحسب، بل إن الحادثة، لشدة ‏وقعهاعليه، قد سببت له الحيرة فأخذ يؤكد أنه من المتعذر جدا معرفة ‏الحكمة التى تجرى عليها أمور الكون نظرا إلى كثرة العلل التى تحرّكها ‏وتعقّدها. وقد كان الشيخ ساعة علمه بذلك فى الإسكندرية، فما كان ‏منه إلا أن أسرع إلى القاهرة فى أول قطار سريع(14). كذلك نراه يقدم ‏للشرطة تقريرا للمساعدة فى حل لغز السرقة وتسهيل الوصول إلى ‏الجانى(15)، كما كان دائم التردد على بيت الخواجه لافى فى ذلك ‏الوقت(16).‏
ومن القضايا التى تضمنتها الرواية وتستحق الالتفات قضية الحروب ‏ومن يثيرونها من الحكام ورجال المال وأرباب الصحف بدافع من أنانيتهم ‏ورغبتهم الآثمة فى جَنْى مكاسبها الحرام المغموسة بشقاء الجموع التعسة ‏الذين يقاسون ويلاتها وتأكلهم نيرانها. فهذه الطائفة الغليظة القلب "لا هم ‏لها إلا تسخير الناس وإيقاع بعضهم فى بعض لأخذ ما فى أيديهم ولو ‏استلحم بعضهم بعضا ونُهِكَتْ قواهم من التعب ويبست ألسنتهم من الظمإ ‏وتقطعت أوصالهم من الجراح ونزفت الدماء من عروقهم وذاقوا الموت ‏أشكالا وألوانا. وهذه الفئة قديمة فى الدنيا لم يَخْلُ منها عصر من عصور ‏التاريخ قام منها الملك والكاهن والقائد والوزير، وتكاد تنحصر الآن فى ‏أرباب الأموال والذين على شاكلتهم من كل منتفع بضرر غيره ولو ملكا ‏عظيم الشأن، فقد صَمَّتْ آذانهم عن عويل اليتيم والأرملة ووقَرَتْ عن نَوْح ‏الثاكل وأنين الجريح فلا تسمع إلا رنة الدينار وصوت المنادى بارتفاع ‏الأسعار...إلخ"(17). وكانت مناسبة هذا الكلام هى التعليق على الحرب ‏التى كانت تدور رحاها الطاحنة بين روسيا واليابان. ‏
ولا يفوتنا من الناحية الفنية أن ننبه إلى أن هذا الكلام قد ورد على ‏لسان مؤلف الرواية، وكان أحرى به أن يورده فيما كان يدور بين ‏شخصياتها من حوار، إذ يعيب النقاد مثل هذا التدخل المباشر ويطليون ‏من المؤلف أن يخفى شخصه ويكتم صوته فلا يسمعه أو يحس بوجوده ‏أحد، وذلك حتى لا ينكسر ما ينبغى أن يسود القصة من جَوٍّ يُوهِم القارئ ‏أنه يعايش وقائع وأحاديث حقيقية لا قصة مخترعة. ومع ذلك فلا بد أن ‏نكون على ذِكْرٍ من أن هذه الرواية هى إحدى الروايات الرائدة فى الأدب ‏العربى الحديث، فلا غرابة أن يكون فيها مثل هذا المأخذ الذى يوجد ‏أشباهه فى "زينب" و"عودة الروح" و"دعاء الكروان" و"إبراهيم ‏الكاتب" وغيرها من الروايات التى جاءت بعدها بزمن. وقد انتقل المؤلف ‏بالقارئ بعد هذا إلى العواصم الثلاث التى تتصل بتلك الحرب بأوثق آصرة، ‏وهى لندن وبطرسبورج وطوكيو، بغية إطلاعه على ما يجرى خلف ‏الستار بين أرباب الأموال وأصحاب السلطان وأمثالهم مما يدبرونه من أجل ‏بلوغ مصالحهم وتفويت فرص الخير على خصومهم غير مبالين بأى قانون ‏أخلاقى أو اعتبار إنسانى(18). ‏
وقد قُسِّمَتْ الرواية إلى فصول معنونة، على عكس ما انتهى إليه ‏التقليد الفنى منذ فترة ليست بالقصيرة، إذ لم تعد فصول الروايات الآن ‏تُعَنْوَن كما كان يفعل يعقوب صروف وجرجى زيدان مثلا. وفى بعض ‏المواقف كان المؤلف حريصا على أن يورد الأحداث والحوارات المرتبطة ‏بموضوع من الموضوعات فى أكثر من مكان فى ذات الوقت، وهو ما يُعَدّ ‏على نحو ما تمهيدا بدائيا للقصة التى تُرْوَى على لسان عدد من ‏الأشخاص: كل منهم يرويها من جديد من وجهة نظره كما هو الحال مثلا ‏فى "الرجل الذى فقد ظله" لفتحى غانم، و"الظلال على الجانب الآخر" ‏لمحمود دياب، و"ميرامار" لنجيب محفوظ.‏
ومما تمتاز به القصة خلوها من المبالغات، ففى الوصف والسرد ‏اقتصاد وإحكام بحيث يتم بلوغ الهدف من أقصر الطرق وأكثرها ‏استقامة. كما أن المؤلف قد نحى العاطفة جانبا حتى ليشعر القارئ أن ‏الرواية عمل عقلى محض، اللهم إلا فى المشهد الذى كانت فيه حليمة ‏راقدة فى فراش المرض بعد إطلاق الرصاص عليها، شاعرة أن الموت ‏يرفرف عليها بجناحيه الأسودين، إذ تذكرت أختها الصغيرة التى كانت قد ‏ماتت، فملأت الأفكار والخواطر السُّود قلبها وعقلها، وأخذتها الحيرة من ‏كل أقطارها فسدَّتْ عليها الأفق، وغلبتها الأوهام فكانت تتخيل أنها ترى ‏أختها. "وكانت أفكار حليمة سريعة التنقل من موضوع إلى موضوع، ‏فراجعت ماضى حياتها من حين كانت طفلة، وتَرَدَّدَ فى بالها ما حفظته ‏غَيْبًا من الآيات والأشعار العربية والتركية والفرنسية وأحاديثها مع أمها ‏وأبيها وأخيها...‏
وكررتْ أيضا ما كانت تسمعه من معلمتها الفرنسية عن السماء ‏وجهنم والثواب والعقاب فقالت: إلى أين أمضى بعد الموت؟ وحاولت أن ‏تنظر إلى ما وراء القبر فلم تر إلا ظلاما دامسا. ثم قالت: إن كل المعلِّمين ‏والمهذِّبين يأمروننا بعمل الصلاح، وأنا لم أضرّ أحدا ولا قصدتُ ضرر أحد، ‏فإلى أين أذهب بعد الموت؟ وكيف يكون حال أمى بعدى؟ لا بد من أنها ‏تنسانى كما نَسِيَتْ أختى توحيدة! كم بكت عليها وكم ناحت! نعم إنه ‏مر على ذلك خمس سنوات الآن، ولو بقيتْ توحيدة لكانت صبية. كان ‏عمرها تسع سنوات لما ماتت. يا حبيبتى! كانت تحبنى أكثر من كل ‏أحد، وقد فارقتنى منذ خمس سنوات. فراق طويل جدا، ولكننى لا ‏أنساها أبدا، وسأذهب إليها. نعم سأذهب إليها سريعا، وهى الآن فى ‏انتظارى. ما أعظم سرورى بها حين أراها! أظنها صارت طولى الآن. ‏ولكن هل يطول الجسم بعد الموت؟ وهل ينمو كما تنمو أجسام الأحياء؟ ‏إن أجسام المصريين القدماء التى فى الأنتكخانة لم تزل على حالها: الكبير ‏كبير، والصغير صغير. حتى الطفل لم يزل طفلا. وقد بقيت محفوظة لأنها ‏محنَّطة، ولو دفنت فى الأرض كما نُدْفَن نحن لانحلت وصارت ترابا. فأين ‏ألتقى بك يا توحيدة، يا عزيزتى، بعد أن صرتِ ترابا ورمادا؟ وهل أصير ‏أنا ترابا مثلك؟ أصير ترابا ولا يبقى شىء من جسمى وشعرى؟ كان لى ‏جسم، أما الآن فصرت جلدا وعظما، وسيَبْلَى كله. ما أفرغ هذه الحياة ‏التى نهايتها الموت والبِلَى! من أرى بعد الموت؟ ومن أعرف؟ ومن ‏أنتظر؟ ومن ينتظرنى؟ لم يعلّمنى أبى شيئا ولا أمى عما يكون بعد الموت. ‏نعم إن المدموازيل كانت تقول لى إننا نجتمع فى السماء ونرتّل مع الأبرار ‏ونمجّد الله. ولكن كيف نرتّل لله، وكيف نمجده ونحن بلا أجسام؟ آه يا ‏أمى، ما هذا الصداع؟ كيف نمجّده بلا أجسام؟ ‏
الفم يَبْلَى، واللسان يبلى، فكيف نتكلم ولا لسان لنا ولا فم؟ ولكن ‏هأنا أتكلم الآن. أفتكر فكرا ولا أحرك لسانى ولا فمى. نعم نعم، ‏نستطيع أن نتكلم من غير لسان، نتكلم بالفكر، وهذا الفكر يبقى ولا ‏يموت، فإن الجسم ينام فى الليل، والفكر يبقى، فقد يبقى الفكر حيا بعد ‏موت الجسم. قد يكون ذلك صحيحا، وقد لا يكون. يا حبذا لو أتى ‏الشيخ أحمد إلى هنا، فإنه يعلم كل شىء، فكنت أسأله. وحليم(19) يعلم ‏أيضا، فسأسأله متى حضر. أين هو الآن؟ مسكين حليم! كنت أريد أن ‏يقترن بأستير. هل أرى توحيدة بعد الموت؟ نعم أراها. بلا جسمى ‏أراها. أراها بعين العقل. ولكن هل يبقى العقل من غير جسد؟ إن كان ‏عقلى يبقى فعقلها يبقى، فلماذا لا تكلمنى مطلقا؟ حلمتُ بها مرتين أو ‏ثلاثا فى السنة الأولى، ثم لم أحلم بها بعد ذلك. أين أنت يا توحيدة؟ يا ‏حبيبتى، كلمينى. نعم سأراك، ولا أعلم كيف أراك، ولكنى سأراك. آه ‏يا ربى! ما هذا الصداع؟ آه يا أمى! يا راسى!"(20).‏
إنه نصٌّ عجيبٌ وفريدٌ فى الرواية كلها يلغ فيه المؤلف الذروة. ولا ‏أظن أن هناك نصوصا فى روايات تلك الفترة تشبهه فى استخدام تيار ‏الوعى بهذا الاتساع وبهذه البراعة والحرارة، وعلى ذلك النحو الذى يجسد ‏الحيرة واليأس تجسيدا بأفكاره المتلاحقة المتقافزة ذات اليمين وذات الشمال ‏لا تستقر على حال، وجمله القصيرة السريعة المتقلبة ما بين الخبر والإنشاء، ‏ومقارناته بين ما عند المسلمين وغيرهم فى هذه المسألة، مع العجز التام ‏عن الوصول إلى شىء يبعث على الراحة، فضلا عن البساطة المتناهية فى ‏تناول مفهوم الموت وما وراءه، وهى بساطة تتسق تمام الاتساق مع ‏شخصية فتاة فى ظروف حليمة الاجتماعية والتعليمية وفى مرضها الذى ‏لا يرجى لها منه شفاء. ويزيد النصَّ فرادةً أنه قد ورد فى قصة محكية ‏بضمير الغائب لا بلسان حليمة نفسها، لأنه لو كانت حليمة هى راوية ‏الأحداث لكانت هذه الخواطر مجرد امتداد للسرد أو كادت أن تكون، ‏فالسارد هو حليمة، والخواطر أيضا لحليمة. أمّا، والقصة محكيّة بضمير ‏الغائب، أى على لسان الراوى العليم بكل شىء، فمعنى ذلك أن الأمر لم ‏يكن بهذه السهولة وأنه من حسنات المؤلف الكبيرة. وفضلا عن ذلك فإن ‏الرواية، بوجه عام، تخلو (كما أشرنا من قبل) من هذه النزعة الوجدانية ‏وتلك الشاعرية، مما يعطى النص تميزا إضافيا. ‏
كذلك تخلو الرواية من الوقائع الغريبة التى لا يقبلها العقل مما كان ‏شائعا فى قصص ذلك الزمان، اللهم إلا ما جاء فى مطلعها من أن الشاب ‏هنرى قد رأى فى منامه فتاة شرقية أحبها وتمنى لو تزوجها، ثم لما ذهب ‏إلى مصر قابل بهية، التى كانت تشبه حبيبة أحلامه تمام الشبه، والتى ‏يشكل حبه لها ورغبته فى الزواج منها إحدى عُقَد القصة. فالرواية فى ‏عمومها واقعية لا تطير مع رياح العجائب والمبالغات والأوهام. وقد كان ‏صروف واعيا بهذا الاتجاه الجديد فى الرواية الحديثة، إذ جاء فى ‏‏"المقتطف" مثلا قبل تأليف صروف لروايته التى نحن بصددها بعدة أعوام ‏أن الفرق بين المنهج القصصى القديم ونظيره الجديد هو أن القدماء لم يكونوا ‏يبالون بإمكان وقوع الأحداث القصصية ما دامت غريبة تَشْدَه العقل. ‏ذلك أنهم إنما كانوا يَنْشُدون التسلية والمتعة. أما الطريقة الجديدة فتحرص ‏على أن تكون أحداث القصص محتملة الوقوع(21). وأغلب الظن أن كاتب ‏هذا الكلام هو صروف نفسه.‏
ولغة الرواية لغة عصرية سهلة بسيطة منسابة ليس فيها إغراب ولا ‏اهتمام بمتانة التراكيب أو المحسنات البديعية. بل إن أسلوبها لَيَقْرُب إلى ‏حد بعيد من أسلوب المقالات العلمية الصحفية التى كان يكتبها صروف ‏فى مجلة "المقتطف". ولست أستطيع أن أتذكر، مما يغمض معناه على ‏بعض القراء، سوى كلمات "اللَّمَاظ" (أى ما يذاق من الطعام)، و"الحنجر" ‏‏(أى "الـحُقّ")، و"الأَرْى" (أى "العسل"). ولإعطاء القارئ فكرة سريعة ‏عن طبيعة ذلك الأسلوب أسوق إليه العبارات التالية: "له فى خدمتهم ‏بضع سنوات"، "لا بد من تصفية مركزى غدا"، "سلطان زمانه"، "الله ‏يرضى عليك"، "يشق المرائر"، "المصيبة على المديون" (وبالمناسبة فمن ‏الصرفيين العرب القدامى من كان يقول: "مَدْيُون، ومَعْيُوب، ومَبْيُوع، ‏ومَرْوُوض، ومَسْوُوم... إلخ" بدلا من "مَدِين، وَمِعيب، ومَبِيع، ومَرُوض، ‏ومَسُوم". فاستعمال صروف لــ"مديون" كما ننطقها فى العامية يرتكن إلى ‏أساس فصيح)، "لا أجد من يبلّ شفتى بقطرة ماء"، "انقطعت أخباره ‏عنهم منذ شهر من الزمان"، "أقام فى غرفته، لا طعام ولا شراب، ولا هَمّ ‏له إلا النظر إلى المحفظة التى معه"، "وقالت لأمها أن تخبر أباها"، "وأما أنا ‏فقلبى فارغ لم يدخله أحد"، "كل ما يمكن مشتراه (أى "شراؤه")"...‏
كذلك ليس ثمة فرق كبير بين لغة السرد ولغة الحوار، التى لا يلحظ ‏القارئ فيها أى لون من ألوان الابتعاد عن الحياة اليومية، اللهم إلا فى قول ‏أحدهم مثلا: "بئس العمل! وبئس المساعدة!"، إذ ليست كلمة "بئس" ‏من ألفاظ الحياة اليومية. وهناك تعبير قابلته مرتين لا أدرى أهو جزء من ‏لغة الحياة اليومية فى بلاد الشام أم لا، إذ هو بالتأكيد غير مصرى. ألا ‏وهو: "نفسى صغيرة"، بمعنى "حزينة بائسة".‏
والملاحظ أن الحوار دائما ما يكون بالفصحى حين يدور الكلام بين ‏السادة، أما حينما يتحدث الخدم فإنه ينقلب حوارا عاميا، وتبدو عليه ‏مسحة شامية تتمثل فى اختتام الأسماء والأفعال والحروف المنتهية بضمير ‏الغائب المفرد المذكَّر بحرف "الواو"، مثل: "قولى لو انى بَخْدِمُو بعينى"، ‏وكذلك استعمال "ها" قبل الاسم للإشارة إليه كقول أحدهم: "سيدى ‏عزرا مشيّع لك هالخاتم"، بخلاف العامية المصرية التى تقول فى تلك الحالة: ‏‏"مشيّع لك الخاتم ده" باستعمال كلمة "ده" بعد الاسم المشار إليه. أما إذا ‏كان الحوار بين سيد وخادم فإن الأول يتكلم حينئذ بالفصحى، والثانى ‏بالعامية، كما فى الحوار الموجود ص 125 بين حليمة وفاطمة الخادمة.‏
ولعل القارئ قد لاحظ أن صروف يكتب على الأقل بعض الكلمات ‏العامية حسب نطقها، وهو ما سبق به محمود طاهر لاشين فى مجموعته: ‏‏"سخرية الناى"، على عكس ما يُفْهَم من كلام يحيى حقى من أن لاشين ‏هو أول من فعل ذلك بين كتاب القصة(22). وقد زعم يحيى حقى أن عمه ‏محمود طاهر حقى هو الذى مهد لهيكل كتابة الحوار فى "زينب" ‏بالعامية(23)، وهو زعم خاطئ، فها هو ذا صروف، كما لاحظنا، يكتب ‏كلام الخدم فى "فتاة مصر" بالعامية قبله بسنة. وربما كان هناك من سبق ‏صروف بدوره فى هذا، وإن كنت لا أجد فى ذلك الاتجاه مبعثا على ‏الفخر والمباهاة، فنحن من أنصار منهج نجيب محفوظ فى كتابة الحوارات ‏كلها بالفصحى، أيا كانت الشخصية المتحاورة، مع تلوين لغة الحديث بما ‏يوحى بشخصية المتكلم ومستواه الفكرى والنفسى والاجتماعى، وهو ما ‏برع فيه محفوظ رحمه الله براعة هائلة كما هو معروف.‏
وهناك سمة أخرى فى لغة الكاتب، وهى أنه إذا ما أراد مثلا الربط ‏بين ما وقع لشخصين فى مكانين مختلفين فى ذات الوقت فإنه يقول: "هذا ‏ما كان من أمر فلان، أما علان فإنه قد فعل كذا وكذا". وهذه من البقايا ‏الأسلوبية التى خلّفتها وراءها لبعض الوقت السيرة الشعبية وألف ليلة ‏وليلة. ومثل ذلك أيضا نجده فى روايات جرجى زيدان عن تاريخ ‏الإسلام. إلا أن روايتنا، خلافا لما هو شائع فى السير الشعبية وقصص ‏ألف ليلة، لا تتضمن من الأشعار تقريبا إلا ما جاء فى الحوار على لسان ‏هذه الشخصية أو تلك(24)، وبطريقة طبيعية جدا، وعلى سبيل الندرة. ‏بل لقد أجرى المؤلف على لسان دورا أخت هنرى بضعة أبيات لجورج ‏لنتش من رده على رديارد كبلنج بعد أن عربها منظومة(25). لكن لا يوجد ‏شىء من هذا فى السرد حسبما لاحظت. ومعروف أن يوسف ‏السباعى كان لا يزال، بعد ذلك بعشرات السنين، يحرص على ترصيع ‏سَرْده القصصى بأبيات لمشاهير الشعراء العرب.‏
ومما يلفت النظر بقوة فى روايتنا التى بين أيدينا أن بعض فصولها، أو ‏على الأقل: أجزاء كبيرة منها، تجىء كلها حوارا خالصا لا يشوبه سرد ولا ‏وصف، فضلا عن أنه لا توجد فى هذه الفصول عبارات ممهدة لكلام ‏الحوار من مثل: "قال، أو صاح، أو صرخ قائلا، أو قاطعه بقوله، أو أجابه ‏وهو ينظر له بغضب...إلخ"، بل يكتفى صروف فى هذه الحالة بذكر ‏اسم المتحاور فقط قبل كلامه مشفوعا بنقطتين متراكبيتن دلالة على أن ‏هذا حوار(26)، ثم يرجع الأمر بعد ذلك إلى وضعه المعتاد، وهو ما يقترب ‏كثيرا مما حاوله توفيق الحكيم فى أواسط الستينات فى "بنك القلق" ‏وسماه"مسرواية"، نَحْتًا من كلمتى "مسرحية" و"رواية".‏
وفى بعض الأحيان كان السرد يتحول من الفعل الماضى إلى المضارع ‏كما لو كان المؤلف يصف حادثه تقع أمامه مثلما يفعل المعلقون على ‏المباريات الرياضية أو الأفلام المذاعة فى الراديو. مثال ذلك كلام الراوى ‏عقب الفراغ من الحوار الذى دار بين السير إدوارد وزوجته ص 132، إذ ‏قال: "يلتفت السر إدوارد إلى الساعة ويقول: "لا بد من ذهابى الآن، ‏وسنعود إلى الكلام فى هذا الموضوع بعد رجوعى إن شئتِ"، ثم يقبل ‏وجنيتها ويذهب ويدور الحديث فى نادى الصحافة على طلب اليابان ‏قرضا جديدا وعلى كيفية مساعدتها فى الجرائد بالكتابة والترغيب حتى ‏يغطَّى القرض مرارا عديدة. ويعرض على كل جريدة المبلغ الذى يحق لها ‏أن تكتتب به وتأخذ فَرْقه". وهذا يعزِّز ما قلته من أن صروف قد اقترب ‏فى مواضع من روايته من شكل "المسرواية" كثيرا. ذلك أن هذه الطريقة ‏فى استخدام المضارع أشبه التعليقات التى يلجأ إليها الكاتب المسرحى ‏أحيانا عند حكاية ما يفعله هذا أو ذاك من أبطال مسرحيته. ‏
كذلك فإن المؤلف قد يتدخل بين الحين والحين أثناء السرد بتعليق ‏على ما يحكيه، كما فعل حين كان يصف شكل كل من هنرى وأخته دورا ‏وكيف ورث الولد عن أمه صفاتها، على عكس البنت، التى أخذت من ‏الأب ملامحها، إذ قال: "وهذا هو الغالب فى وراثة الأخلاق العقلية ‏والأوصاف البدنية: الذكر يرث من أمه، والأنثى من أبيها"(27). وفى مثل ‏هذا التعليق تتضح ثقافة صروف فى مجال العلوم الطبيعية، التى كان ‏متخصصا فيها، ومهتما بنشر آخر مستجداتها فى مجلة "المقتطف"، التى ‏كان يرأس تحريرها لفترة طويلة. وهناك مَثَلٌ أخَرُ على هذه السمة سبق أن ‏أوردناه فيما مضى من صفحات هذه الدراسة.‏
وأخيرا فإذا كان مسرح رواية "زينب" هو الريف المصرى، فإن ‏روايتنا هذه إنما تدور فى القاهرة. وكلاهما أمر طبيعى، فإن صروف لم ‏يكن مصريا، بل أتى أرض الكنانة من لبنان، ولم يعرف من بلادنا إلا ‏المدينة. أما هيكل فكان، وهو يكتب روايته فى أوربا، يستعيد ذكريات ‏الوطن العزيزة. وهل من ذكرى لابن الريف تضارع ذكريات القرية التى عاش ‏فيها طفولته وصباه وشبابه وذاب هياما فى حقولها وسمائها وأشجارها ‏وجداولها وسواقيها وأهرائها وحدائقها لدرجة الاتحاد، بل لدرجة ‏الفناء؟ لقد صور هيكل فى روايته حقول القطن والبرسيم والأشجار ‏والطيور وأجران القمح والشروق والغروب والفصول الأربعة والفلاحين ‏الأُجَراء والسادة أصحاب الأطيان، أما صروف فقد رسم لنا صورة ‏للقاهرة فى أوائل القرن الماضى بنشاطها السياسى والاقتصادى وشوارعها ‏ومركباتها ودَوْر اليهود المرابين فيها وأوضاع الأسر الأرستقراطية...إلخ. ‏فكلتا الروايتين تكمل الأخرى فى إمدادنا بصورة لمصر فى العِقْدين الأولين ‏من القرن العشرين. ‏
الهوامش:‏
‏(1)‏ وهناك رواية ثالثة موجودة فى مكتبتى الخاصة، ولكنى لم ‏أقرأها بعد، وهى رواية "فى وادى الهموم" لمحمد لطفى جمعة، التى ‏أصدرها صاحبها عام 1905م أيضا. ومع أنى لا أستطيع أن أصدر ‏عليها حكما فنيا لهذا السبب فبإمكانى، وأنا مستريح الضمير، أن أنبه إلى ‏أهمية المقدمة التى كتبها لها مؤلفها، إذ هى بمثابة بيان (أو لمن يحبون ‏الرطانة بالمصطلحات الأجنبية: بمثابة "مانيفستو") نقدى، إذ سبق جمعة ‏عصره فهاجم الاتجاه الخيالى فىكتابة القصص ودعا إلى النزول لأرض ‏الواقع والتمسك بتلابيبه وغير ذلك، مما أبرزته فىكتابى: "محمد لطفى ‏جمعة وجيمس جويس" (عالم الكتب/ 1421هـ- 2001م/ 9- 11).‏
‏(2)‏ انظر كتابى المذكور/ مكتبة زهراء الشرق/ 1418هـ- ‏‏1998م/ 67- 68.‏
‏(3)‏ ص 128 من الرواية/ مطبعة جريدة المقتطف.‏
‏(4) ص 138.‏
‏(5) انظر ص 47 وما بعدها.‏
‏(6) ص 20.‏
‏(7) ص 23.‏
‏(8) ص 36- 37.‏
‏(9) ص 37.‏
‏(10) ص 20- 21.‏
‏(11) ص 23.‏
‏(12) ص 35، 105- 106.‏
‏ (13) ص 136. وكنت قرأت، فى أواخر سبعينات القرن الفائت ‏بأوكسفورد، مذكرات ولفرد سكاون بلنت بالإنجليزية، وفيها كلام كثير عن ‏صديقه الشيخ محمد عبده، وأذكر أنه قد غمز عقيدة الشيخ فى مسألة ‏البعث والحساب، وصوّره فى صورة المتشكك اللاأدرى، وهو ما أنكرتُه ‏ولم أصدقه. وأذكر أيضا أننى قرأت فى إحدى المجلات الثقافية المصرية ‏بعد ذلك بقليل ترجمة كلام بلنت عن الأستاذ الإمام إلى العربية (ولعل ‏المترجم هو محمد أمين حسونة) فلاحظت غياب الفقرة التى قال فيها ‏المستشرق الأيرلندى فى عقيدة الشيخ ما قال. لكن ها هو ذا يعقوب ‏صروف يسوق للشيخ أحمد فى النشور رأيا آخر مخالفا لما جاء فى ‏مذكرات بلنت.‏
‏(14) ص 148- 150.‏
‏(15) ص 153.‏
‏(16) ص 156.‏
‏(17) ص 111.‏
‏(18) انظر الصفحات 112- 121.‏
‏(19) حليم هذا هو أخوها.‏
‏(20) ص 125- 127.‏
‏(21) المقتطف/ عدد فبراير 1901م/ 145.‏
‏(22) انظر مقدمته لمجموعة "سخرية الناى"/ الدار القومية للطباعة ‏والنشر/ 1383هـ- 1964م/ ب.‏
‏(23) نفس المرجع والصفحة.‏
‏(24) انظر مثلا ص 156 حيث يتمثل كل من الشيخ أحمد وأستير ‏ببيت من الشعر مصداقا لما يقول.‏
‏(25) ص 62.‏
‏(26) من ذلك مثلا الفصل المسمى: "تغير الشؤون" من ص 101 ‏فصاعدا، والمشهد الذى عنوانه: "فى بطرسبورج" ص 118- 119، ‏وكذلك المشهد الآخر المسمَّى: "القاهرة" من ص 121 فما بعدها. ‏
‏(27) ص 1.‏