فى هذا الفصل يكتب العقاد عن الشيخ أحمد حمزة طباخه الشخصى فى كتابه: "عالم السدود والقيود"، وهو الكتاب الذى وصف فيه فترة السجن التى قضاها عقوبة له على إهانة الذات الملكية فى ثلاثينات القرن الماضى. وقد شرعت أقرأ الكتاب للمرة الثانية أو الثالثة فى حياتى، فقلت: أشرككم فيه. وأذكر الآن أن حفيد الشيخ فى سبعينات القرن الماضى كتب يهاجم العقاد جراء ما كتبه عن جده واتهم الكاتب الكبير بالمبالغة المقيتة
============
أحمد حمزة
عباس محمود العقاد

أحمد حمزة رجل بارع الذكاء، بل هو أبرع الناس ذكاءً، إن كان المقصود من الإنسان أن يفهم عكس ما يفهمه الناس.
فإذا اتجه الفهم بين الناس من اليمين إلى الشمال، فالشيخ أحمد حمزة خير من يفهم من الشمال إلى اليمين، وكل ما هنالك — كما يرى القراء — اختلاف في اتجاه الفهم كالاختلاف في اتجاه الكتابة بين العرب والأوروبيين: فريق يبدأ السطر من يمينه وفريق يبدؤه من شماله، وكلهم يكتبون ويقرءون.
وأحمد حمزة هذا ليس بسجان ولا بموظف في السجن ولا بزميل فيه، ولكنه طاهي البيت عندي منذ عشر سنوات.
ولا يعرف القارئ كنه طريقته في الفهم إلا ببعض الأمثلة الواقعة، فإلى القارئ من هذه الأمثلة قليل من كثير.
أيسر طلب تطلبه منه يجري على هذا الأسلوب: هات قهوة يا شيخ أحمد.
– نعم؟
– هات قهوة.
– أجيء بماذا؟
– بقهوة!
– بقهوة تقول حضرتك!
– أي نعم بقهوة.
فيكتفي ولا يحوجك بعد ذلك — لذكائه — إلى يمين مغلظة ليصدق أنك تطلب قهوة!
وكنا على المائدة سبعة فطلبنا من الشيخ أحمد حمزة أن يضيف إلى كراسي المائدة الستة كرسيًّا سابعًا من غرفة الاستقبال.
ثم كان الأسبوع التالي فكنا على المائدة أربعة، وكان كرسيان من كراسي المائدة خاليين، ولكن أحمد حمزة صف الكراسي الستة على حسب العادة، وجاء بالكرسي السابع من غرفة الاستقبال؛ لأن هذا المكان حق كسبه الكرسي بالاستعمال، ولما ضحكنا وأغرقنا في الضحك نظر الرجل إلى الكراسي ونظر إلى ما حوله وإلى نفسه في حيرة واستغراب لا يدري فيم يضحك هؤلاء الناس ولا ممن يضحكون. أينكرون عليه زيادة الكرسي وهم الذين أمروه بنقله قبل أسبوع؟ أيضحكون منه أن خالف ويضحكون منه أن أطاع؟ لا جرم يعقل هؤلاء الخلق من اليمين إلى الشمال حين ينبغي أن يكون العقل من الشمال إلى اليمين!
وكنت متعبًا في بعض أيام التوعك والانحراف.
وكنا نهيئ مكانًا في البيت لإحضار قطعة من الأثاث، ونحب أن نقيس المكان الذي توضع فيه على حسب المقاس المطلوب، فقلت له عليك يا شيخ أحمد بالمتر فقس الحائطين وقل لي أيهما أطول وأصلح لوضع الأثاث المنتظر؟ فمضى هنيهة ثم عاد يتمتم ويوسوس كمن يناجي الغيب.
قلت: ما الخبر يا شيخ أحمد؟! هل قست الحائطين؟
قال: نعم.
قلت: وكم الطول؟
قال مثلًا: ثلاثة أمتار.
قلت: وكم العرض؟
قال: كذلك ثلاثة أمتار.
فعجبت للأمر؛ لأنني أعرف أن الحجرة ليست مربعة، ولكنها مستطيلة بعض الاستطالة، وسألته: أي الحوائط الأربعة قست؟
قال: الحائط الذي فيه الباب والحائط الذي أمامه!
وكان في المنزل ضيوف ذات يوم، وأنا أفضل إذا كان في المنزل ضيوف أن أغسل يدي في حوض المطبخ، وأدع لهم حوض الحمام، فدخلت المطبخ — حرم الشيخ أحمد — وطلبت منه صابونة فذهب وعاد بها وأنا أبدأ غسل يدي ووجهي على مهل، ولا أحسب أن هناك ما يدعو إلى العجلة، ثم خرجت فإذا بالضيوف كلهم عند حوض الحمام ينتظرون الصابون؛ لأن الشيخ أحمد أخذ الصابونة من ذلك الحوض، ولم يخطر له أن يسأل نفسه لماذا أجشم نفسي أن أغسل يدي ووجهي في المطبخ وأدع لهم الحمام، وإنما قيل له: هات صابونة فجاء بصابونة، وهذا هو المطلوب، ولماذا لا يجيء بها من حوض الحمام ولم يقل له أحد مؤكدًا مشددًا: إياك أن تجيء بها من حوض الحمام؟
أما معجزة الشيخ أحمد الكبرى فهي تلك التي صنعها بصورة قصر أنس الوجود وقد تركته هو وتركت المبيضين بالمنزل ونجوت بنفسي إلى مدينة أخرى؛ فرارًا من ربكة الأثاث المشتت الذي لا يطاق معه قرار، فتجلت هنا عبقرية الشيخ أحمد التي تخلف كل ظن وتخرق كل حد وتخرج عن كل تقدير، لقد خطر لي أن أقصى ما يستطيعه الشيخ أحمد من إعجازه المعهود في هذه الحالة أن يضع الصور في غير مواضعها منحرفة نحو اليمين أو نحو الشمال وصاعدة إلى الأعلى أو هابطة إلى الأسفل، فقيدت مواضعها بمسامير لا تتحول وأوصيت المبيضين أن لا يخلعوا المسامير عند طلاء الجدران، ولكن أين يذهب بي سوء الظن بأفانين هذه العبقرية التي تهوى أبدًا أن تداعب الظنون، وتتخطى الآماد مما تحيط به الأفكار والأوهام؟ فقد عدت من غيبتي القصيرة فوجدت الصور والحق يقال في مواضعها تمامًا بلا انحراف ولا تحريف، ولكنني وجدت أنس الوجود مقلوبًا يقع فيه النيل موقع السماء وتقع فيه السماء موقع النيل!
وإنما يبدو لنا مدى هذا الإعجاز إذا علمنا أن الشيخ أحمد من أهل ذلك الإقليم الذي قام فيه أنس الوجود، فلو كانت «الرؤية» وحدها كافية لتصوير أثر من الآثار لكان الشيخ أحمد أولى من المصور الكبير «هدايت» بتصوير ذلك الهيكل غيبًا بلا معاينة ولا استحضار!
وللشيخ أحمد ملكة نادرة في نسيان الأسماء، ثم تحريفها وتصحيفها عند التذكر أعجب تحريف وتصحيف.
فإذا تكلم «راشد» مثلًا بالتلفون في غيبتي ثم سألته: من الذي تكلم، فمن المستحيل أن يكون المتكلم راشدًا وإنما هو «منشة» على التحقيق أو التقريب!
وينتهي «جاماتي» عنده إلى «جماد»، والشجاعي إلى رجل من «كوم الشقافة»، والطناحي إلى الصنافي، وذو الفقار إلى زعفران! … وقس على ذلك سائر الأسماء.
قلت: يا شيخ أحمد، أرحني أراحك الله بالكتابة، وأنت بحمد الله تعرفها على الأقل خيرًا من معرفة الكلام، فإذا تكلم أحد فاكتب ولا تعتمد على الذاكرة بعد الآن.
وحضرت إلى المنزل فسألته: هل من أحد تكلم؟
قال: نعم، تكلم أربعة.
قلت: وهل كتبتهم عندما تكلموا؟
فقال لي: نعم، وأحضر لي الورقة فإذا فيها البيان الشافي على هذا النحو الوجيز، إذ ليس فيها إلا هذه السطور الأربعة سطرًا فوق سطر وهي:
- أحد تكلم.
- أحد تكلم.
- أحد تكلم.
- أحد تكلم …
ولما تنازعني الغيظ والضحك من هذا البيان الذي لا بيان فيه، وهذه الكتابة التي خير منها الكلام وخير منها النسيان، بدا عليه العجب والاحتجاج، وعلمت أنني المخطئ لا الشيخ أحمد المعصوم من الخطأ على طريقته العكسية الواضحة، فإنني حين أقول للشيخ أحمد: «إذا تكلم أحد فاكتب …» فليس ينبغي لي أن أنتظر غير ما فعل، فقد تكلم أحد فقال: أحد تكلم، وأعاد الكرة كلما عادت الكرة، فأين الخطأ وأين المخالفة يا منصفون؟
هذه أمثلة يعرف إخواننا الذين خبروا الشيخ أحمد نظائر من طرازها البديع، والظريف في أمره بعد ذلك أنه جاءني يومًا يستأذن في «إجازة» شهر للسفر إلى البلد على غير عادة.
فسألته: وفيم هذا السفر الغريب؟
قال: يا أستاذ، إنهم يوزعون الآن تعويضات الخزان، وأقاربي وأهل البلد يخشون الغبن وخطأ الحساب، فأرسلوا يستقدمونني ويلحون علي في شهود التوزيع.
قلت: ومن لها غيرك يا شيخ أحمد؟ سافر على بركة الله، كان الله في عون البلد الذي أنت هاديه، وألبق من فيه.
والشيخ أحمد كما علم القارئ ليس بسجان ولا موظف في السجن ولا زميل فيه، فما الذي زج به في هذا المأزق المكروه؟
الذي زج به فيه أننا تركنا له البيت وحده وأنا وأخي يوم كنا كلانا معتقلين، وقد ظل عمدتي الوحيد في كل ما له علاقة بتدبير شيء في المنزل، أو إحضار شيء منه حتى انتهت الشهور التسعة، ولا حاجة بي إلى أن أقول: إنه لم يقلع خلالها عن ذكائه البارع ولا عن تزويدنا بالأعاجيب من «وحائده» وأفانينه.
فقد استطاع الشيخ أحمد بذكائه الثاقب وتجربته السنين الطويلة أن يعلم أنني أتناول الغداء نحو الساعة الثانية، ولا أغير هذا الموعد إلا لسبب عارض، ولكنه لم يستطع أن يعلم أن مواعيد السجن غير مواعيد البيت، ولم يستطع أن يصدق السجانين حين قالوا له: إن الساعة الثانية عشرة هي موعد الغداء عندهم؛ لأنه لا يصدق إلا ما يسمعه من الأستاذ!
وتعبوا في إقناعه بغير جدوى، وعالجوا إفهامه أن «العنبر» يقفل عند الظهيرة وأن الموظفين المنوط بهم رقابة السجن ينصرفون في هذه الساعة، وهو لا يفهم ولا يزيدهم على أن يقول: «إن الأستاذ لم يتناول غداءه قط في الساعة الثانية عشرة، وقولوا ما شئتم، فأنا لا أصدق لكم كلامًا حتى أسمع من لسانه!» وهيهات ذلك إلا بإذن وموعد زيارة وكتابات وردود.
وكان السجانون قد عرفوا الشيخ أحمد، وخبروا منهاجه في فهم الأمور، فولعوا بعناده واستثارته، وأنذروه يومًا لئن لم يحضر غدًا قبل الساعة الثانية عشرة ليدخلنَّه السجن ولا يخرجنَّ منه بعد ذلك أبدًا.
ولم يحفل الشيخ أحمد بوعيدهم ولم يتقدم لحظة عن الموعد الذي اختاره لحضوره. فلما دق الباب كان السجانون على أهبة القبض عليه، واتفق ثلاثة منهم على استدراجه وجذبه إلى داخل الباب، فأخذوا بيديه وشدوا عليه وهو يستعيذ بالله ويقاوم بقوة الجبارين وقوة الخائفين ثلاثة رجال ليسوا بالضعاف ولا بالهينين.
والشيخ أحمد لا يعلم أن دخول السجن إنما يكون بتحقيق وأمر بالقبض أو حكم من القضاء وإثبات في الأوراق والسجلات، بل كل ما يعلمه أن من جاوز عتبة البناء المرهوب فهو مسجون لا فكاك له حتى يشاء السجان!
فماذا ينتظر؟ أينتظر حتى يتغلب عليه هؤلاء الظلمة العتاة ويوقعوه في الفخ الذي ليس بينه وبينه إلا شبر واحد أو شبران اثنان؟
لا وحق الأولياء ومشايخ الطرق أجمعين! لقد حصلت بركتهم ونفخوا في عضلات مريدهم وربيبهم حتى حار السجانون من أين له كل هذه القوة التي دافعهم بها مجتمعين؟ فلم يستطيعوا أن يزحزحوه شبرًا أو شبرين، وأفلتوه وقد غلبوا ضحكًا، فانطلق كالسهم في ميدان القلعة لا يلوي على شيء ولا يصدق بالسلامة!
ولكن هل عدل عن الموعد وأقلع عن العناد؟
معاذ الله ومعاذ الذكاء! لم يعدل ولم يقلع ولم يزد على أن يدق الباب في الأيام التالية، ويضع الآنية على مقربة منه، ثم يرجع هو إلى حيث يضمن النجاة، ويأمن الظلمة العتاة! ولم يزل كذلك حتى بلغه عني مصداق ما يقول السجانون.
وعلى هذا جرى في إحضار الملابس لموعد الحمام، فهو لا يحضرها إلا أيام الحمام في البيت، ولا شأن له بما يقولون عن مواعيدهم ومواعيد البخار الذي لا يدار في أيام الجمع ولا يختلف عن الأوقات المرتبة له على حسب الحاجة إليه، وظل على عناده حتى أبلغته مواعيد الاستحمام كما أبلغته مواعيد الطعام.
ولا تسل عن المشقة في تعريف الشيخ أحمد بالملابس اللازمة حين يدعو الأمر إلى التدرج من الملابس الثقيلة إلى الملابس الخفيفة بين الفصول، فالتفرقة بين القميص الصوفي الأحمر والبرتقالي والرمادي عنده من المشكلات المعضلات، وهو مع ذلك لا يتورع عن طلاء ما يلقاه من تمثال أو صورة عندي بالألوان التي تروقه كلما تقشرت طبقة منها واحتاجت إلى طلاء، فتلك فنون لا يحجم عنها الشيخ أحمد ولا ينتظر إذني في عملها، ولا يحتفل بالتفكير فيها أقل احتفال، وإذا ضحك أصدقائي الفنانون صانعو تلك الصور أو تلك التماثيل من فنه في التلوين والتظليل فماذا يعنيه من ضحك الناس المغرمين بالضحك من كل شيء؟ لقد تعود منهم أن يضحكوا حين يصنع الشيء وحين يصنع نقيضه، فليضحكوا ما بدا لهم ما داموا لا يقطبون ولا يغضبون.
لكن بدائع الشيخ أحمد ليست كلها مضحكة ولا كلها سليمة، فربما كان منها ما يميت وما يغيظ، وقد جاد علينا بواحدة من هذه البدائع القاتلة في السجن ثم اكتفى بها ولم يشفعها بثانية، ولله الحمد.
فأنا أتداوى من عوارض البرد بالماء الساخن أنغمس فيه بضع دقائق ثم أسرع إلى لبس البرنس في الصيف أو البرنسين معًا في الشتاء بغير وناء، فإذا أبطأت ساءت العاقبة وجنيت جريرة هذا الإبطاء زكامًا قد يلازمني الأسابيع، وقد يتجاوز الزكام إلى ما هو أشد وأقسى.
فلما كان يوم من أيام الحمام خرجت من الحوض الساخن والتمست البرنسين والملابس فإذا بالشيخ أحمد قد نسي أن يصلح بعض أكمامها وتركها مقلوبة تارة ومعدولة تارة أخرى، وهذه هفوة صغيرة ولكنها كافية! لأنني شعرت بالقشعريرة تسري في أوصال جسمي ورعدة البرد تملؤني، فأسرعت إلى الحوض الساخن مرة ثانية حتى عاودني الدفء وشملتني الحرارة، ولكن الوقت الذي قضيته في الحوض كان أطول مما يطاق، فلم ألبث أن خرجت منه حتى غشيني الإغماء، ولو أدركني في الماء قبيل ذلك بلمحة عين لكانت هي القاضية.
وإن نسية من هذه النسيات التي يتقنها الشيخ أحمد لكافية لتوديعه مدى الحياة، لولا أمانة عزيزة تشفع له وإخلاص وثيق يزكيه، وطول خدمة مذكورة تكافئ هذه النسيات