ابن الفارض - دراسة تحقيقية
إبراهيم عوض


ابن الفارض (576- 632هـ/ 1181- 1235م) هو عمر بن علي بن مرشد الحموي، المعروف بـ"سلطان العاشقين". ولد بمصر في بيت علم وورع، ولما شَبَّ اشتغل بفقه الشافعية، وأخذ الحديث عن ابن عساكر، ثم سلك طريق الصوفية ومال إلى الزهد. رحل إلى مكة، واعتزل في وادٍ بعيد عنها، وفي عزلته تلك نظم معظم أشعاره في الحب الإلهي. ثم عاد إلى مصر بعد خمسة عشر عامًا. وقد اختلف الناس في شأنه كاختلافهم في ابن عربي ومن ذهب مذهبه. وقال عنه الذهبي: "سيد شعراء عصره وشيخ الاتحادية". وقال ابن خلكان: "سمعت أنه كان رجلاً صالحًا كثير الخير، جاور بمكة. وكان حسن الصحبة محمود العشرة". وله ديوان شعر مطبوع، وشرحه كثيرون منهم عبدالغني النابلسي وحسن البوريني. وكانت وفاته بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم. و"الفارض" لقب أبيه، وهو الذي يكتب الفروض للنساء بين يدي الحُكّام (انظر ترجمته فى "الموسوعة العربية العالمية").
وفى ترجمة ابن الفارض أشياء لا يمكن أن يعقلها عاقل، فضلا عن أن يصدقها. وهى مروية على لسان ابنه أو سِبْطه: من ذلك مثلا الزعم بأنه كانت تمر عليه الأيام العشرة أو نحوها وهو دهش غائب عمن حوله لا يحس بهم ولا يسمعهم أو يراهم، وقد شخص بصره إلى الأمام، أو نام كالميت وتغطى، وأنه كان يصوم عن الطعام والشراب والنوم أربعين يوما متتالية، وأنه ذات مرة اشتهت نفسه أكل الهريسة فعاقبها بإضافة عشرة أيام أخرى إلى صومه ويقظته، فتمت خمسين يوما، وأنه قابل فى المسجد يوما رجلا بقالا لا يحسن كيف يتوضأ، فلما نبهه إلى الطريقة الصحيحة للوضوء نصحه الرجل أن يذهب إلى مكة ويجاور بها حتى يفتح الله عليه هناك، ولم يكن الوقت وقت خروج الحجيج، فأشار الرجل ناحية مكة قائلا: ها هى ذى مكة أمامك. فنظر ابن الفارض فرآها فعلا قبالته، وظلت قبالته لا تغيب عن عينيه طوال السفر للحجاز إلى أن وصل إليها. ثم لما بلغ مكة لم يسكنها ولم يجاور فى الحرم الشريف، بل أقام بِوَادٍ كان بينه وبين مكة عشرة أيام للراكب الـمُجِدّ، وكان يأتى من هذا الوادى كل يوم وليلة ويصلى فى المسجد الحرام الصلوات الخمس ومعه سبع عظيم الخلقة يصحبه فى ذهابه وإيابه وينخّ له كما ينخّ الجمل قائلا: يا سيدى، اركب! لكنه لم يركبه قط. ولما فكر بعض مشايخ الحرم أن يُعِدّوا له رَكُوبة تكون عنده فى البَرِّيَّة ظهر لهم السبع عند الباب ورَأَوْه وسمعوه يقول له: يا سيدى، اركب! فعندئذ استغفروا الله واعتذروا إليه... إلى آخر هذه الهلوسات السخيفة التى لا أدرى كيف يصدقها بعض الناس ويتصور أنها برهان على ولاية الرجل (انظر مقدمة شرح ديوان ابن الفارض للبورينى والنابلسى/ المطبعة العامرية الشرفية/ 1306هـ/ 1/ 5، 7، 10).
والحق أن هذا كله ليس سوى تُرَّهَات وأضاليل ما أنزل الله بها من سلطان، لا تجوز إلا على العامة الجهلاء. وإن العقل ليتساءل: كيف يتسق نومه عشرة أيام أو أكثر دون أن يصلى رغم وجوب الصلاة خمس مرات على المسلم يوميا؟ قد يقال إنه قد سقط عنه التكليف أثناء هذا. لكن فات من يمكن أن يردوا بهذا الجواب أن القلم، وإن كان يسقط عن النائم حتى يستيقظ، فإن ابن الفارض لم يكن فى الحقيقة نائما، إذ النوم لا يستمر عشرة أيام فما فوقها. ولنفترض انه كان نائما، فكيف سمحت نفس ابنه وأهله أن يتركوه دون إيقاظ حتى يؤدى فرض ربه؟ ألا يرى القارئ أن الأمر كله مريب؟ إننا نعرف كلنا أن شيئا من هذا لم يقع للنبى عليه السلام، وهو الذى كان ينزل عليه الوحى من السماء من عند ربه، فكيف يقع لابن الفارض؟ وأين الشهود الآخرون المحايدون على ما يورده بعض أفراد أسرته عنه من هذه الروايات الشاذة التى لا يعقلها عاقل؟
ومن جهة أخرى لم يا ترى ذهب الرجل إلى مكة ما دام لم يسكنها بل مضى إلى البادية مستعيضا بها عن البلد الحرام؟ لقد كان ولا يزال فى مصر، والحمد لله، بادية لا تكاد تنتهى، إذ هى تشغل من مساحة مصر ستة وتسعين فى المائة، ولا أظنها كانت تضيق بابن الفارض لو أراد أن يتخذها مُقَامًا له، وهى تسع من الحبايب ألفا بل مليونا بل ملايين. وما دام بإمكانه الانتقال إلى مكة فى غمضة عين من مسافة عشرة أيام للراكب المجدّ، ومعه فوق البيعة سبع يحرسه لا أدرى ِممّاذا، لقد كان بإمكانه إذن أن ينتقل وقتما يشاء من مصر إلى الحجاز فى نفس الغمضة من العين فيصلى ويُتَحِّى براحته ثم يعود إلى المحروسة آمنا مطمئنا دون أن يحرمها من طلعته البهية وبركته الروحانية! ثم من كان يأتيه بالطعام والشراب، وهو فى صحبة الوحش فى ذلك الوادى؟ أتراه السبع أيضا؟ ولكن هل السباع تحضر الطعام والشراب للناس؟ ثم ما الداعى إلى مصاحبة السبع له إذا لم يكن يركبه؟ وهل السباع تصلح للركوب أصلا؟ كذلك أين كان يسكن؟ ومن كان يحلق له شعره ويقص أظافره ويغسل ملابسه؟ وكيف كان يتغلب على عدم وجود زوجة معه؟ أليس إنسانا له حاجات طبيعية؟ أم تراه فوق الطبيعة البشرية؟ لكن النبى لم يكن كذلك، بل كان بشرا، وإن كان مع بشريته نبيا. أما ابن الفارض فهذا الكلام يضعه فوق ذلك المستوى بكثير، وهو ما لا نفهمه ولا تقبله عقولنا. ثم هل يمكن إنسانا، أى إنسان، أن يعيش مع الوحوش طوال خمسة عشر عاما، سواء المسالم منه كالغزلان وحُمُر الوحش أو الضارّ المؤذى كالذئاب والأسود والضباع والثعالب وأبناء آوى والثعابين والحيات والعقارب... وهلم جرا؟ بل كيف كان يطوى مسافة الأيام العشرة للراكب المجدّ فى دقائق يا ترى؟ هل كانت خطوته تتسع بحيث تغطى مائة كيلو متر فى المرة؟ أم هل كانت الأرض نفسها تُزْوَى تحت أقدامه؟ وأيا ما يكن الأمر كيف لم يلاحظ الناس هذا أو ذاك وهو يمر بهم فى البادية وفى الحضر فى طريقه إلى المسجد الحرام على هذا النحو الخارق؟ وكيف لم يفكر هو فى الكتابة عن هذه التجربة المثيرة التى لم يمر بها بشر من قبل فيسدى لنا جميلا ما كنا لننساه له أبدا؟ بل لماذا آثر صحبة الوحش على صحبة الناس؟ ثم لماذا أبعد النُّجْعَة على هذا النحو ولم يكتف بأن يبتعد عن أم القرى عدة أميال مثلا وأصر على أن تكون المسافة التى تفصل بينه وبينها مئات الكيلومترات؟ وعلى أى أساس اختار البقعة التى يقال إنه سكنها فى الوادى المذكور مع الوحوش؟ وكيف كان يتعرف إليها فى كل مرة يعود فيها من المسجد الحرام، ونحن نعرف أن الصحراء متاهة لا يمكن أحدا من غير الخِرِّيتين من أبنائها أن يتعرف إلى طرقها ومسالكها؟ وكيف لعالم أن يستغنى عن الكتب والعلماء طوال خمسة عشر عاما؟ إن ثمرة ذلك لهى الجهل الشامل!
وبالمناسبة فقد اتهمه عضد الدين الإيجى، على ما نقله البِقَاعىّ لنا فى كتابه: "تنبيه الغبى على تكفير ابن عربى"، بأنه كان يتناول الحشيش وأن ذلك قد أثّر على عقله وتفكيره، إذ اتهم البقاعى ابن عربى بأنه "كان كذابا حشاشا كأوغاد الأوباش، فقد صح عن صاحب كتاب "المواقف" عضد الملة والدين، أعلى الله درجته في عِلِّيّين، أنه لما سئل عن كتاب "الفتوحات" لصاحب "الفصوص" حين وصل هنالك قال: أفتطمعون من مغربي يابس المزاج بحَرّ مكة ويأكل الحشيش شيئا غير ذلك؟ وقد تبعه، أي ابنَ عربي، في ذلك ابنُ الفارض حيث يقول: ‘أمرني النبي صلى الله عليه وسلم بتسمية التائية: "نَظْم السلوك"’، إذ لا يخفى على العاقل أن ذلك من الخيالات المتناقضة الحاصلة من الحشيش، إذ عندهم أن وجود الكائنات هو الله تعالى، فإذن الكل هو الله لا غير، فلا نبي ولا رسول ولا مرسَل إليه. ولا خفاء في امتناع النوم على الواجب وفي امتناع افتقار الواجب إلى أن يأمره النبي بشيء في المنام. لكن لما كان لكل ساقطة لاقطة ترى طائفة من الجهال ذَلَّتْ أعناقهم لها خاضعين أفرادا وأزواجا". وبالإضافة إلى ذلك ففى مقدمة شرح الديوان نقلا عن الابن ما يدل على أن الأب كان يرقص ويتواجد حتى يسيل العرق الغزير منه ويسقط فى اضطراب عظيم إذا كان هناك ما يبعث على الفرح حتى لو كان أمرا تافها. وهذا هو النص بحرفه: "رأيت الشيخ رضى الله عنه نهض ورقص طويلا وتواجد وَجْدًا عظيما، وتحدر منه عرق غزير حتى سال تحت قدميه وخر إلى الأرض، واضطرب اضطرابا عظيما، ولم يكن عنده غيرى، ثم سكن حاله وسجد لله تعالى، فسألته عن سبب ذلك، فقال: يا ولدى، فتح الله علىّ بمعنى فى بيتٍ لم يفتح علىّ بمثله، وهو:
وعلـــــــــى تفنُّن واصفيـــــه بحسنهِ يَفْنَى الزمــــانُ، وفيه مـــا لم يُوصَفِ
ويقول د. محمد مصطفى حلمى (فى كتابه: "ابن الفارض والحب الإلهى"/ ط2/ دار المعارف/ 1985م/ 67- 68): "وقد أمعن ابن الفارض فى الوَجْد وأسرف فى خضوعه له وتأثره به إلى حد بعيد، فهو لم يقنع بما كان يتفق له من المؤثرات الخارجية والداخلية التى تحرك انفعاله وتثير وجده، بل كان من عادته أن يخلق الجو الذى يلزم عن وجوده الانفعال والوجد، ويهيئ المناسبة النفسية التى من شأنها أن تجعله فى حضرة من يحب، وتشعره بالفناء عن نفسه والاتحاد بمحبوبه. وليس أدل على هذا مما يحدثنا به ابن حجر العسقلانى من أنه كان لابن الفارض بمدينة البهنسا بصعيد مصر بيت يقيم فيه طائفة من الجوارى والمغنيات الضاربات على الدفوف والشبّابات، وأن الشاعر كان يقصد إلى هذا البيت حيث يلقى نفسه فى غمرة من غمرات السماع الذى ينشأ عنه الرقص بما يلازمه من حركة واضطراب، ويتولد منه الوجد بما يستتبعه من دهش وغيبة. وهنالك فى هذا البيت وبين هاتيك الجوارى كان يقضى صاحبُنا لُبَانة نفسه من الوجد ثم يعود إلى القاهرة. ولعلنا إذا التمسنا للرقص الناشئ عن السماع تفسيرا نفسيا وتحليلا يمكّننا من تفهم هذه الحال وما يعرض فيها من ظواهر نفسية لم نُوَفَّق إلى خَيْرٍ مما يقدمه ابن الفارض نفسه فى هذه الأبيات التى يصور فيها حاله عند السماع، وقد شهد محبوبته واتحد معها. فاسمع إليه حيث يقول:
ويُحضِرُني في الجمع مَنْ باسمها شدا
فيَنحو سَمَاءُ النَّفْــــــــــــحِ روحي ومظهري الــــــ
فمِنِّيَ مَجْــــــذوبٌ إلَيها وجــــــاذِبٌ
ومــــا ذاكَ إلاَّ أَنَّ نَفْسِي تَذَكَّــــرَتْ
فحَنَّتْ لتَجْريدِ الخطاب ببرْزَخ الـــــــــ فأَنْشُدُها عندَ السِّمـــــاعِ بجُمــلتي ـــــــمُسَوَّى بها يحْنو لأتــــــــــــــرابِ تُـــــــــــرْبَتي
إليِه، ونَزْعُ النَّــزْعِ في كـــــــــلّ جَـــذبَةِ
حَقيقتهــا مِن نَفْسِهـا حينَ أَوْحَتِ
ــــــــــــــــــتُّرَابِ، وكُلٌّ آخِذٌ بأزِمَّتي"
وهذا هو نص ما قاله ابن حجر فى ذلك الموضوع، وهو موجود فى ترجمة ابن الفارض فى المجلد الرابع من "لسان الميزان": "رأيت في كتاب "التوحيد" للشيخ عبد القادر القوصي، قال: حكى لي الشيخ عبد العزيز بن عبد الغني المنوفي، قال: كنت بجامع مصر، وابن الفارض في الجامع، وعليه حلقة، فقام شاب من عنده وجاء إلى عندي، وقال: جرى لي مع هذا الشيخ حكاية عجيبة، يعني ابن الفارض، قال: دفع إلىَّ دراهم وقال: اشتر لنا بها شيئاً للأكل. فاشتريت، ومشينا إلى الساحل فنزلنا في مركب حتى طلع البهنسا، فطرق بابًا، فنزل شخص فقال: بسم الله. وطلع الشيخ، وطلعتُ معه، فإذا بنسوة في أيديهن الدفوف والشبابات وهن يغنين له، فرقص الشيخ إلى أن انتهى وفرغ، ونزلنا وسافرنا حتى جئنا إلى مصر، فبقي في نفسي. فلما كان هذه الساعة جاءه الشخص الذي فتح له الباب فقال له: يا سيدي، فلانةٌ ماتت. وذكر واحدة من أولئك الجواري، فقال: اطلبوا الدَّلاّل. وقال: اشتر لي جارية تغني بَدَلَها. ثم أمسك أذني فقال: لا تُنْكِر على الفقراء".
فإذا انتقلنا إلى مضمون أشعار ابن الفارض فالملاحظ أن غالب الغزل فيها هو ذلك النوع من الغزل الذى يوجهه الشعراء إلى محبوباتهم. ويرى الدكاترة زكى مبارك أن كل ما قاله من شعر قبل أن يتجه اتجاها صوفيا هو فى الغزل الحسى لا فى الحب الإلهى، وأنه ليس هناك دليل على أنه يتحدث عن الذات الإلهية، اللهم إلا ما يقوله المتصوفة (انظر كتابه: "التصوف فى الأدب والأخلاق"/ 1/ مطبعة الرسالة/ 1357هـ- 1938م/ 291). وهَبْ أن ما قاله الصوفية صحيح، فالسؤال هو: هل يليق بنا أن نخاطب الله أو نتحدث عنه على أنه امرأة، بَلْهَ أن نسميها فنقول: ليلى، أو سعاد، أو سلمى مثلا؟ إن شيئا من هذا لم يُسْمَع عن أحد من الصحابة، ولا أظنه كان يمكن أن يخطر لهم على بال. ذلك أن المشركين حين كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله كان القرآن ينزل مسفها عقولهم وأقوالهم تسفيها. قال تعالى: "أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا" (الإسراء/ 40)، "فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (الصافات/ 149- 157)، "وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ" (الزخرف/ 15- 19). فإذا كان الأمر كذلك فيما يخص الملائكة، فما بالنا به حين يتعلق برب العزة سبحانه وتعالى؟ وأنا لا أتكلم هنا عن الحرام والحلال، بل أتكلم عما يليق وما لا يليق، ويقينى أن ذلك لا يليق بتاتا.
وفوق هذا فإنه يعيّن الأماكن التى كان يَلْقَى فيها حبيبته ويصل بينه وبينها الود والتفاهم قبل أن يحلّ الهَجْر، إذ نسمعه يذكر الحجاز والغَضَا والغَوْر وقُدَيْد ويَنْبُع ومَرّ الظهران وثنيّات اللِّوَى والتنعيم وغيرها من الأماكن التى تقع فى بلاد العرب:
يـــــا راكِبَ الوجْناء، وُقِّيتَ الرَّدَى
وسَلَكْتَ نُعْــمــــانَ الأراكِ فعُجْ إلى
فبأيْمَنِ العَلمَيْنِ مِـــــــن شـــــــــــرقيّه
وإذا وصَلْـــــــتَ إلى ثَنِيّاتِ اللِّـــوَى
واقْرِ السّلامَ أُهَيْلَهُ عَنّي، وقُــــــــل:
يا ساكني نَجدٍ، أمـا مِنْ رحمَـــــــــةٍ
هَـــــــلاَّ بَعَثْتُمْ لِلمَشُـــــــوقِ تحيّــــــــةً
يحْيا بها مَــن كانَ يحسَبُ هَجرَكُمْ
*
اِحْفَظْ فؤادَكَ إن مَرَرْتَ بحــاجـــــرٍ
فالقلبُ فيه واجبٌ مــن جـــــــائزٍ
وعلى الكَثيبِ الفرْد حَيٌّ دونهُ الـــ







*
إن جُبْتَ حَزْنًا أو طَوَيْتَ بِطَاحا
وادٍ هُنـــــــــاكَ عَهِدْتُهُ فَيّاحــــــــــا
عَــــــــرِّجْ وأُمَّ أَرِينَـــــهُ الفوّاحـــــــــا
فانْشُـــــدْ فؤادًا بالأُبَيْطِح طاحــــا
غادرْتُــــــــهُ لِجَنــــــابِكُمْ مُلْتاحــــا
لأســــيرِ إلْفٍ لا يُرِيدُ سَرَاحــــا؟
في طَيّ صـــافِيَةِ الرّيَاحِ رَوَاحــا؟
مَزْحًــــــا، ويعتقِدُ المِزَاحَ مِزَاحـــــا
*
فَظِبَـــــاؤُه منها الظُّبَى بمَحَاجِــــــرِ
إن يَنْــــــجُ كان مُخاطِرًا بالخاطــرِ
آسادُ صَــرْعَى من عيونِ جَــآذرِ
كما يتكلم عن الرسول الذى كان يسفر بينه وبين حبيبته، والعَذُول الذى يحاول أن يفسد ما بينهما وما إلى هذا مما لا يتصور وقوعه إلا فى حب الرجل للمرأة، إذ إن علاقتنا بالله لا تحتاج بل لا تحتمل مثل هؤلاء الوسطاء: الخيرين منهم والشريرين أجمعين كما هو واضح. وفوق ذلك فهو يعد حبه لها ضلالا لا رشاد فيه:
عَمْرُكَ اللَّهُ إن مـــــــــــــــرَرْتَ بوادي وبَلَغْتَ الخيامَ فابْلِغْ ســــــــــــــــلامي
وتَلَطّفْ واذكُرْ لهُمْ بعض مــــــا بي
*
يا عاذِلَ المُشْتَاقِ جَهْــــــــــلاً بالَّذي
أَتْعَبتَ نفسَكَ في نصيحَــة مَن يَرى
*
وشَكَتْ بَضاضةُ خـــدّهِ من وَرْدِهِ
عَمَّ اشْتِعالا خــــــــــالُ وجْنَتِهِ أخا
خَصِــــرُ اللّمَى عـــــــذْبُ المُقَبَّلِ بُكْـــــرةً
مِن فيِه، والألحاظُ سُكْرِي، بل أرى
نَطَقَتْ مَناطقُ خَصْـــــرِهِ خَتْمًـا إذا
...
كالغُصْـــــنِ قدًَّا، والصّبـاحِ صباحَةً
*
ولـقــــــد أَقــــــولُ للائمي في حُبّـــــــه
عَنّي إليــــــــكَ، فَلِي حَشًـــــــا لم يَثْنِهـــــــا
*
قُلْ للعذولِ: أطلْتَ لوميَ طـــامعًـــــا
دَعْ عنكَ تَعنيفي، وذُقْ طعـــــــم الهَـــوَى
*
رَجَـــــــــعَ اللاّحِي عليكُــــــــــــمْ آئِسًـــــــــا
أَبِعيْنَيْــهِ عَمًـــــــى عنكُــــــــــمْ كَــــمـا


*


*







*


*


*

يَنْبُعٍ فالـدُّهَيْنا فبَدْرٍ فــــــــــغادي
عـــنْ حفاظٍ عُرَيْبَ ذاك النّادي
مــــن غــــــــرامٍ ما إنْ لَه من نَفادِ
*
يَلْقَى مَلِيًّا، لا بَلَغْتَ نجــــــاحــــــا
ألاَّ يرى الإِقْبــــــالَ والإِفْـــــــلاحـا
*
وحَكَتْ فظاظةُ قلبِه الـــــــفولاذا
شُغْلٍ به وَجْدًا أبَى استنِقـــــــاذا
قَبْلَ السّـــواكِ المِسْكُ ســاد وشـاذى
في كــــــــــــلّ جـــــــارحَة به نَبّـاذا
صَمْتُ الخـواتِم للخناصِـــــرِ آذَى

واللّيْلِ فَــــرْعًا منهُ حاذَى الحــاذا
*
لَمّا رآهُ بُعَيْدَ وَصْلِيَ هـــــاجري:
هُجْـــرُ الحديثِ ولا حديثُ الهاجـــرِ
*
إنَّ الملامَ عن الهــــــوى مُسْتَوْقِفي
فإذا عَشِــقْتَ فبَعْــــــــــدَ ذلكَ عَنِّفِ
*
مِنْ رشـــادي، وكذاكَ العِشْـــــقُ غَيّْ
صَمَمٌ عـــــــن عَـــــذْلِهِ في أُذُنَيّ؟
ويزداد الأمر قلة لياقة حين نقرأ مثل قوله:
أنحَلَتْ جسمي نُحُولاً خَصْرُهـــــــا
إنْ تَثَنّتْ فَقَـــــــضِيبٌ في نَقًـــــــــــــا منه حــــــــالٍ، فهْـــــوَ أبْهَى حُلّتَيّْ
مُثْمِـــرٌ بَدْرَ دُجًى فَــــــــــرْع ظُمَيّْ
أو هذا:
أقْصِر، عَدِمْتُك، واطَّـــــــرِحْ مَنْ أَثْخَنَتْ أحشــــاءَهُ النُّجْـــــــلُ العُيونُ جِرَاحــــا
أو هذا:
عَوّذْتُ حُبَيّبي بــــــــربِ الـــــــطُــــورِ مــــــن آفةِ ما يجـري منَ المَقْدُورِ
أو هذا:
ولـــــــقد أَقـــــــــولُ للائمي في حُبّـــه
عَنّي إليكَ، فَلــــــــــــــِي حَشًـــــــا لم يَثْنِها
...
ويوَدّ طَرْفيَ إن ذُكِـــــــــــرْتَ بمَجلسٍ
مُتَعَوّدًا إِنجـــــــــــــــــازَهُ مُتَوعّــــــــــدًا

لَمّا رآهُ بُعَيْـدَ وَصْلــــِيَ هاجري:
هُجْـــــرُ الحديثِ ولا حديثُ الهاجـرِ

لو عاد سَمْعًا مُصغيًا لـِمُسَامِرِي
أبدًا، ويَمْـــطُلُني بوَعْـــــــــــدٍ نادرِ
أو هذا:
كــــم زارني، والـــــدّجى يَرْبدّ من حَنَقٍ وابتَزَّ قلبيَ قَسْـــرًا قُلـــــتُ مَظْلَمــــــــــــةً:
غَرَسْتُ باللّــحظ وَرْدًا فـــــــــوقَ وجنَتِهِ
فإن أَبَى فالأقـــــــاحي منهُ لي عِـــــــوَضٌ
إنْ صــــالَ صِلُّ عِذَارَيْهِ فـــــلا حَـــــــرَجٌ
كم باتَ طَوْعَ يــــــدي، والوصلُ يجمعُنـــا
والزهْرُ تبسِمُ عن وَجْــهِ الذي عَبَسَا
يا حاكمَ الحبّ، هذا القلبُ لِمْ حُبِسا
حقٌّ لطَرْفِيَ أنْ يَجْني الذي غرســـــــا
مَنْ عُوّض الدُّرّ عن زهــــرٍ فما بخُِسا
أنْ يجْنِ لَسْـــــعـًا وأنِّي أجْتَنِي لَعَسَـــــا
في بُرْدَتَيْـــــهِ التُّقَى، لا نعرِفُ الدّنَســــا
أو هذا:
أوعِــــــــدوني أو عِـــــــدوني وامطُلـــــــوا حُكْمَ دين الحُـــبّ. دَيْــــــنُ الحبّ لَيّْ
أو هذا:
تِهْ دَلاَلاً، فأَنْتَ أهْــــــــلٌ لِـــــذَاكـــــا
ولكَ الأمرُ، فاقضِ ما أنتَ قــــاضٍ
وتَلافِي إن كـــــــــان فيـــــــه ائتــلافي
...
هَبْـــــــــــــكَ أنَ اللاّحي نَهـــــــــــاهُ بِجَهـْلٍ
وإلى عِشْقِـــــكَ الجَمـــــــــــــالُ دعاهُ
أتُرى من أفتَاكَ بالصَّــــــــــدّ عنّي؟
كُنْتَ تجْفُو، وكــان لي بعضُ صَبْرٍ

وتحَكّمْ، فالحُسْــــنُ قـــد أعطاكا
فَعَلَيَّ الجَمَـــــــالُ قـــــــد وَلاّكَـــــــا
بِكَ عَجّلْ به. جُعِلْتُ فِـــداكــــا

عنك قل لي: عن وَصْلِهِ مَنْ نَهـاكا؟
فإلى هجَرِهِ تُرَى من دعــــاكــا؟
ولغَيري بالوُدّ مَــــــــن أفتاكــــــا؟
أحْسَنَ اللهُ في اصطباري عَزَاكا
أو هذا:
إنْ كــــان مَنزِلَتي في الحـــــــبّ عنـــــدكُمُو أُمْنِيّة ظفِرَتْ روحـــي بهـــــــا زَمَنًــا
...
ولـــــــو علِمْتُ بأَنّ الحُــــــبّ آخِــرُهُ
أَودَعْتُ قـــــلـــــــبي إلى مَن ليس يحفظُه مــــا قـــــد رأيتُ فقد ضيّعْتُ أيّـامي
واليومَ أحسَبُها أضغاثَ أحــــلامِ

هذا الحِمَامُ لَمَا خالََفْتُ لُوّامـــــي
أبصرْتُ خلفي وما طالعتُ قـُــدَّامي
أو هذا:
أهــــــــــــواهُ مُهَفْهَفًا ثقيـــــــلَ الرِّدْفِ
مـا أحسَـــــنَ واوَ صُدْغِهِ حــــــينَ بَدَتْ كالبدرِ يَجِلُّ حُسْنُهُ عن وَصْفِ
يــــا ربّ، عَسَى تكونُ واوَ العَطْــــفِ
أو هذا:
ما أَطْيَبَ مــــــــا بِتْنَا معًــــا في بُرْدِ
حتّى رَشَحَتْ مــــــن عَرَقٍ وجْنَتُهُ إذْ لاصَقَ خَدَّهُ اعْتِنَاقًــــا خَدِّي
لا زالَ نَصِيبِي مِنْهُ مـــــــاءُ الوردِ
فنجد أنه يتحدث عن دلال حبيبته واستماعها للعُذّال وهَجْرها له بسببهم، وعن قدها الذى يشبه الغصن، وعن تثنيها دلالا وتبخترا، وعن خصرها الناحل الذى أنحله بدوره فأحاله شبحا لا يُرَى، وعن أردافها الثقال وقوامها المهفهف وسوالفها التى تشبه حرف الواو وريقها البارد وشعرها الفاحم، وعن عيونها النُّجْل التى طعنته بسيوفها فى أحشائه، وصرعت بها الأُسُود، وعن خُلْفها الوعد ومَطْلها إنجاز ما مَنَّته به، وعن هُجْرها فى الحديث، وعن البُرْد الواحد الذى كان يلفهما معا، وعن النظرات التى كان يوجهها إليها فيحمر خداها، والأقحوان الذى كان يجنيه من فيها، وعن الليالى التى باتت فيها طوع يديه. فهل هذا مما يليق إسناده إلى الله تعالى؟ وهل يصح أن يقال لله: "تِهْ دَلاَلاً"، وكأنه سبحانه يتيه ويتدلل؟ وعلى من؟ على عبد من عباده! وهل الحسن أو الجمال وحده هو الذى أشغف ابن الفارض به؟ أليس هو الخالق الرازق الرحمن الرحيم أيضا؟ أليس هو الله رب العالمين؟ وهل يليق أن يقول الواحد منا لله إنه قد ضيع أيامه فى محبته هدرا أو يتهمه جل وعلا بأنه لم يحفظ قلبه، ومن ثم لم يحسن هو صنعا حين خالف لوامه، الذين عابوا عليه حبه له وتعلقه به؟ وهل هناك من يلومنا على تعلقنا بالله سبحانه؟ إن كان فذلك من القوم الكافرين. فهل كان لُوَّام ابن الفارض من الكافرين؟ ثم كيف يستعين ابن الفارض بالله وبالصبر الذى يلهمه الله إياه على صدود حبيبته عنه إذا كانت حبيبته هى الله نفسه؟ وهل ثَمَّ أحدٌ يُفْتِى اللهَ بشىء أو ينهاه عن شىء؟ وهل يصح أن يقال له عز شأنه: "جُعِلْتُ فِداكَ" بما يفيد أنه سبحانه محتاج إلى أن يفديه أحد؟ ترى يفديه مماذا؟
ليس ذلك فقط، إذ نراه يصف الله فى بعض شعره بأنه يتبدى فى أشخاص النساء:
ففي النشأة الأولــــــــى تراءت لآدمٍ
وتظهر للعشاق في كـــــــل مظهـــــــــــــــــرٍ
ففــي مرةٍ لُبْنَي، وأخــــــــــرى بُثَيْنَةٌ
بمظهرِ حَوّا قبل حكــــــــــم النبوةِ
من اللبس في أشكـــــالِ حسنٍ بديعةِ
وآونةً تُدْعَي بـ"عَزَّةَ" عـــــــــــزَّتِ
قد يقال إن هذا من باب ضرب المثل، لكن الواقع أنه ليس من هذا الباب، إذ إن ضرب المثل هو لون من التشبيه يتم اللجوء إليه لتقريب الأمر البعيد الذى لا يمكن تصوره فيُؤْتَى بالمثل للتوضيح، مع معرفة السامع والقارئ أنه مثل لا حقيقة. وهو ما لا يتحقق فى هذا الغزل الغريب، إذ ليس فى قول الواحد منا إنه يحب الله ما يصعب تصوره ولا التعاطف معه أو الانفعال بل الانتشاء به. جاء فى"أخبار أبى تمام" لأبى بكر الصولى: "حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال، حدثني أبي قال، شهدتُ أبا تمامٍ ينشد أحمد بن المعتصم قصيدته التي مدحه بها:
مَا في وُقُوفِكَ سَـــــــاعَةً مِــــنْ بَاسِ
فَلَعَلَّ عَيْنَكَ أنْ تُعِينَ بِمَـــــــائِهَــــــــــا تَقْضِي ذِمــــــــامَ الأَرْبُُــع الأَدْرَاسِ
وَالدَّمْعُ مِنهُ خَــــــــــاذِلٌ وَمُوَاسِي
... فلما قال:
أَبْليَتَ هذَا المَجْدَ أَبْعَـــــــــــدَ غَايَـةٍ
إِقْدَام عَمْروٍ في سَماحَةِ حَــــــــــاتِمٍ فِيهِ وَأَكــــرَمَ شِيمةٍ ونِحَـــــــــــاسِ
في حِلْـــــمِ أَحْنَفَ في ذَكَاءِ إِيَاسِ
قال له الكندي، وكان حاضرا، وأراد الطعن عليه: الأمير فوق من وَصَفْتَ. فأطرق قليلاً، ثم زاد في القصيدة بيتين لم يكونا فيها:
لاَ تُنْكِـــــــروُا ضَرْبِي لَــــهُ مَنْ دُونَهُ
فالله قـــــــد ضَـــــــــرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ مَثَلاً شَـــــروُدًا في النَّدَى وَالبَاسِ
مَثَلاً منَ المِشْـــــــــــكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ
قال: فعجبنا من سرعته وفطنته". فمن الواضح أن هذا مثلٌ شَبَّه فيه أبو تمام شيئًا بشىء. أما ابن الفارض فيتحدث عن حبه ومعاناته فى ذلك الحب حديث الغزلين الذين يتجهون بغزلهم إلى نساء من البشر بحيث إنه إذا لم يُقَلْ للقارئ إن هذا غزل فى الذات الإلهية فلن يدرك هذا من تلقاء نفسه.
والدليل على ما أقول أن د. محمد مصطفى حلمى، المتخصص فى التصوف الإسلامى والذى كتب عن ابن الفارض كتابين كاملين، يذكر أنه، حين قرأ شعر ابن الفارض للمرة الأولى فى شبابه، كان ينظر إليه على أنه تصوير أنيق لعاطفة الحب البشرية، وكان يأخذ شعره على أنه شعر غزلى كشعر غيره من الشعراء الغزليين... وظل هكذا إلى أن استمع، بعد أن دخل الجامعة، إلى محاضرة عامة للدكتور عبد الوهاب عزام يعرض فيها لشعر ابن الفارض وبعض الشعراء الصوفيين المسلمين الآخرين وضَّح فيها أن هذا الشعر ليس فى الحب الإنسانى بل فى الحب الإلهى، فعاود عندئذ النظر إلى ابن الفارض وشعره، وأخذ يحقق ألفاظه ومعانيه، فتكشفت له خيوط صوفية باهتة شاحبة أول الأمر ثم زاهية واضحة فيما بعد (انظر كتابه: "ابن الفارض سلطان العاشقين"/ سلسلة"أعلام العرب"/ العدد 15/ 5- 6).
وقد انتهى الدكتور حلمى إلى أن المسؤول عن ذلك التجاوز الذى لاحظناه على شعر ابن الفارض وأخذناه عليه واستغربنا أشد الاستغراب صدوره عنه إن كان فعلا فى الغزل الإلهى كما يزعم المتحمسون له، هو أذواق ابن الفارض ومواجيده، إذ "كان يعنى من الألفاظ والعبارات الغزلية والخمرية المعانى والدلالات التى تتفق مع ذوقه وتثير كوامن وجده. وليس أدعى إلى إثارة هذا الوجد ولا أكثر ملاءمة لذلك الذوق من الألفاظ والعبارات الغزلية والخمرية التى شاعت فى ديوان ابن الفارض من أوله إلى آخره شيوعا جعل من شعره غزلا، ومن ناظمه شاعرا غزلا، وأوهم الذين لم يذوقوا ذوقه ولم يعانوا وَجْده بأنه شاعر كغيره من الشعراء الغَزِلين، وأن حبه إنسانى كحب غيره من العذريين. والحقيقة أنه شاعر صوفى من أصحاب الأذواق والمواجيد وأن شعره مهما أمعن فيه من اصطناع الألفاظ الغزلية الإنسانية فلن يكون إلا تعبيرا عن حب إلهى قد فاض به قلبه ووجدانه، فعبر عنه لسانه وبيانه، فكان ديوانه، وكانت أناشيده وألحانه" (ص244 من كتابه: "ابن الفارض سلطان العاشقين"). ويذكّرنا موقفه هذا موقف من يفسرون سِفْر "نشيد الإنشاد" تفسيرا روحانيا.
والحق أن هذا توجيه متهافت، إذ كيف يكون المحب لله بهذا التغشمر والجراءة فى الحديث عن ربه سبحانه، ثم يقال بعد ذلك إنه صاحب ذوق ووجد؟ ترى لو لم يكن صاحب ذوق ووجد، فإلى أية غاية من الإساءة كان سيصل؟ إن ما قاله فى هذه القصائد لهو مما يتعارض مع الذوق. ثم ما الذى تركه لنا نحن الذين حُرِمْنا أذواقه ومواجيده؟ أليس من المفارقة المزعجة أن يكون صاحب الذوق والوجد بهذا الغشم فى الكلام عن الله، ونكون نحن المحرومين من الذوق والوجد أكثر تنبها لما يليق وما لا يليق مع الله؟ إن أقصى ما يمكن أن يقال فى شعر ابن الفارض، إن صدّقنا أنه فى الحب الإلهى، هو أن صاحبه قد جرى فيه على سنة التكلف الذى يوقع أصحابه فى المآزق المحرجات. فلم يا ترى لجأ، فى التعبير عن حبه لله، إلى كل هذا التصنع؟ ولم الإصرار على جعل التعبير عن الحب الإلهى غزلا بشريا؟
نعم لماذا كل هذا التَّفَيْهُق فى موضوع إنما يفسده التفيهق، إذ لا يكره الإسلام شيئا قدر كراهيته التفيهق طبقا لما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: "إنّ مِنْ أحبّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أَحَاسِنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون". وعن عائشة: "ربما ضَرَّ التكلّفُ أهلَه". وإلى القارئ كذلك الحكاية التالية، التى أسوقها للتفكهة أيضا، وهى عن أحد معارف سلمان الفارسى: "دخلتُ أنا وصاحبٌ لي على سلمان رضي الله عنه، فقرّب إلينا خبزا وملحا فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن التكلُّف لتَكَلَّفْتُ لكم. فقال صاحبي: لو كان في مِلْحنا سَعْتَر! فبعث بمِطْهَرته إلى البقال فرهنها، فجاء بسعتر فألقاه فيه. فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله، الذي قنَّعنا بما رَزَقَنا. فقال سلمان: لو قَنَعْتَ بما رُزِقْتَ لم تكن مِطْهَرتي مرهونة عند البقال".
ثم لو كان العشق الذى جعلوا ابن الفارض بسببه "سلطان العاشقين" هو عشق الله، أكان يقول الكلام التالى الذى ينضح غرورا وكبرا؟ هل المحب لله يمكن أن يخرج عن طوره ويتفاخر بأنه إمام فيه على هذا النحو؟ أليس التدين الحقيقى يدفع صاحبه دفعا إلى التواضع فى الحكم على نفسه؟ لنستمع:
نســــــــــخْتُ بِحَبّي آية العِشْـقِ مــــــن قبـــــــلي
وكلُّ فَتًى يَهْـــــــــــوَى فـــــــــإنّي إمَــــــــامُهُ
ولي في الهوى عِلْمٌ تَجِلّ صفـــــــاتُهُ فأهْــلُ الهوى جُنْدِي، وحكمي على الكُلِّ
وإني بَـــريءٌ من فَتًى سامعِ العَــــــذْلِ
ومـن لم يُفَقّهْه الهوى فهْو في جهلِ
ومع هذا فقد شُرِح ديوان ابن الفارض على أنه أشعار فى الحب الإلهى لا فى حبٍّ بشرىٍّ عادىّ. كما وقف د. محمد مصطفى حلمى مثلا هذا الموقف فرأى أن أشعار ابن الفارض على ما فيها من أشياء لا تتسق مع كونها فى الحب الإلهى هى رغم ذلك أشعار فى الحب الإلهى لا فى الحب البشرى (انظر فصل "الغزل فى شعر ابن الفارض" من كتابه: "ابن الفارض سلطان العاشقين"). ومثله بل أوغل منه فى ذلك د. شوقى ضيف، الذى فسر كل أشعار الغزل لدى ابن الفارض فى ضوء الحب الإلهى غير واجد أى شىء يمكن أن يؤخَذ عليه فى استعمال الألفاظ والعبارات والصور التى يستعملها الشعراء الغزلون فى محبوباتهم من النساء أمثال ليلى وسعدى وعزة. بل إنه ليجد ما قاله ابن الفارض فى الخمر أمرا طبيعيا تماما حتى إنه ليسميها: الخمر الربانية. والعجيب أن الأستاذ الدكتور يركز على تأكيد ابن الفارض تمسكه الدائم بالكتاب والسنة. لكن هل تأكيد ابن الفارض هذا دليل على أنه كان فعلا كذلك؟ إذن فأين فى الكتاب أو فى السنة أن العبد يمكن أن يفنى فى ربه أو يتحد به وأن يقول عن نفسه إنه حين يصلى فإنما يوجه صلاته لذاته وأنه هو قِبْلَة ذاته فى صلاته... إلى آخر هذا الكلام الذى ليس له رأس ولا ذيل، ولا ندرى من أين يأتى به بعض المتصوفة؟ ومع هذا يختم د. ضيف كلامه عن ابن الفارض بأن تصوفه تصوف إسلامى خالص (انظر كتابه: "عصر الدول والإمارات- مصر"/ دار المعارف/ 1990م/ 357- 361)، وهو ما أخالف أستاذى الفاضل فيه لأن النصوص التى أمامى تقول عكس ذلك كما بيَّنْتُ.
وأيا ما يكن الأمر فها هو ذا أبو نواس مثلا، وهو من هو إثما وفجورا معظم أدوار حياته، يبتهل إلى ربه بكل بساطة مستغفرا تائبا مادحا واثقا فى عفو الله وكرمه فيستولى منا على القلوب استيلاء دون أن يلجأ إلى مثل تلك الأساليب المسيئة:
يا ربِّ، إن عَظُمَتْ ذُنـــــــوبِيَ كثرةً
إنْ كانَ لا يرجــــــــــوكَ إلا مُحْسِــنٌ
أدعــــــــوكَ ربِّ، كما أَمَـــرْتَ، تضَرُّعًــــا
مـالي إليك وسيلـةٌ إلا الرَّجَـــــــــــــا فلقد علمتُ بأنَّ عفـــوكَ أعظــمُ
فبِمَنْ يلــوذُ ويستغيثُ الـمُجْــرِمُ؟
فإذا رَدَدْتَ يدي فَمَـــــنْ ذا يَرْحَـــمُ؟
وجميلُ عفـــــــــوِك ثم أَنـِّيَ مُسْلِـمُ
الواقع أن د. محمد مصطفى حلمى يريدنا أن نتخلى عن فهمنا وعقولنا وما نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا ونعيه بأفئدتنا، ونصدق بما لا نقتنع به! واعجبا! ولم كل هذا؟ لكى يبرئ صوفيًّا من المؤاخذة. إذن فهو قد دخل الموضوع، وفى ذهنه فكرة مسبقة. أما أنا كاتب هذه السطور فقد أقبلت على الموضوع وأنا خالى الذهن تماما، فقرأت شعر ابن الفارض، فبوغِتُّ بما عرضتُه هنا على القراء، فكانت لى تلك الوقفة. وأنا لست ضد الصوفية من ناحية المبدإ كما قلت من قبل، بل أنتقد ما أراه يستحق الانتقاد فى كل الفرق والمذاهب لا فى الصوفية وحدهم، وأعد نفسى مسلما لا أنتمى إلى أية جماعة أو مذهب أو حزب. وكتاباى: "من الطبرى إلى سيد قطب- دراسة فى مناهج التفسير ومذاهبه" و"مسير التفسير- الضوابط والمناهج والاتجاهات" مثلا يشهدان على هذا الذى أقول، وأقول معه دائما إن ما أكتبه هو مجرد اجتهادات تصيب وتخطئ، إلا أننى مقتنع بصوابها مع ذلك، ولهذا أذعتها، ولولا الاقتناع ما نشرتها على الملإ.
ويذكّرنا توجيه الدكتور محمد مصطفى حلمى، مع الفارق فى الدرجة، بتوجيه الشعرانى مثلا لما كان يصدر عن بعض من ترجم لهم من صوفية عصره ممن يفسقون بالنساء والغلمان أمام الناس، أو يأتون من الأفعال كل شاذ غريب يدل على أنهم مخابيل، ويتلفظون من الكلام بكل ما هو بذىء جارح للحياء والذوق، إذ كان يمدحهم مع ذلك ويؤوّل كلامهم وأفعالهم بما لا يُخْرِجهم عن الولاية. وهذا مذهب بعض الناس ممن يسيرون على مبدإ "عنزة ولو طارت"! وتتلخص قصة تلك العنزة، ضمن ما قرأته عنها من تفسيرات، فى أن رجلين كانا يسيران معا، وفجأة توقف أحدهما وأشار بيده نحو جسم أسود يقف على الأرض قائلا لصاحبه: انظر لذلك الغراب. فقال الثاني: أيُّ غرابٍ هداك الله؟ إنها عنزة! فاستهجن الأول ضعف بصر صاحبه وقال: إنه غراب. ألا ترى منقاره وذيله؟ ورد الثاني: أي ذيل ومنقار؟ ألا ترى قوائمه الأربع؟ فما كان من الأول إلا أن رمى حجرا تجاه الجسم الذي اختلفا عليه، فطار. فقال الثاني: لا تحاول معي. إنها عنزة ولو طارت! فصارت مثلا ومبدأ عند كثير من الناس.
أما الدكتور زكى مبارك فله رأى آخر فى الأشعار التى يتجه فيها فعلا ابن الفارض إلى الذات الإلهية يعبر عن لواعج أشواقه إليها، وهو أن الصوفية لم يستطيعوا أن ينشئوا لأنفسهم لغة غزلية تختلف عن لغة الغزل البشرى. وسبب ذلك عنده أن "الحب الإلهى يغزو القلوب بعد أن تكون انطبعت على لغة العوامّ أصحاب الصَّبَوات الحسية، فيمضى الشاعر إلى العالم الروحى ومعه من عالم المادة أدوات وأخيلة هى عُدَّته فى تصوير عالمه الجديد. ومَثَلُهم فى ذلك مَثَل ابن الجهم حين غلبت عليه أخيلة البادية وهو يخاطب الخليفة فى بغداد". وابن الفارض فى حب الإلهى إنما كان يتكئ على الأساليب والصيغ التى يصطنعها شعراء الحب البشرى من أمثال العباس بن الأحنف وابن زيدون (زكى مبارك/ التصوف فى الأدب والأخلاق/ 1/ 293).
وقد وقعت، وأنا أقرأ مادة "ابن الفارض" فى "Encyclopedia of Arabic Literature: موسوعة الأدب العربى"، على كلمة للمستشرق الإنجليزى نيكلسون يصف فيها أشعار ابن الفارض بأن معانيها الظاهرية والباطنية من التشابك والتضافر بحيث يمكن قراءتها باعتبارها قصائد غزلية أو تراتيل صوفية: "Nicholson remarks that 'the outer and inner meanings are so interwoven that they may be read either as love poems or as mystical hymns"
ليس ذلك فحسب، بل هناك ما يسميه المتصوفة بـ"الخمر الإلهية"، تلك الخمر التى جعلها ابن الفارض، حسب التفسير الصوفى، محور قصيدته الميمية:
شــربنا على ذِكْر الحبيب مُـــــدَامَةً سَكِرْنا بها من قبــل أن يُخْـــلَق الكَرْمُ
وقبل الدخول فى تفصيلات القصيدة نسأل: هل يحق أن نقول بوجود "خمر إلهية"؟ إننا، فى دنيانا هذه، لا نعرف إلا خمرا واحدة هى تلك الخمر التى نهانا عنها الدين وحرمها علينا تحريما قاطعا، والتى يصفها القرآن المجيد بأنها "رِجْسٌ من عمل الشيطان" حسبما نقرأ فى النص التالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" (المائدة/ 90- 92)، فهى إذن خمر شيطانية، وليست خمرا إلهية. وفى هذه الخمر الشيطانية يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر وسَكِر لم تُقْبَل له صلاةٌ أربعين صباحا، وإنْ مات دخل النار. فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فشرب فسَكِر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن مات دخل النار. فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن مات دخل النار. فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من رَدَغَة الخبال يوم القيامة. قالوا: يا رسول الله، وما رَدَغَة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار". وقال عثمان رضى الله عنه: "اجتنبوا أم الخبائث فإنه كان رجل ممن كان قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فعَلِقَتْه امرأة فأرسلت إليه خادما: إنا ندعوك لشهادة. فدخل، فطفقتْ كلما يدخل بابا أغلقته دونه حتى إذا أفضى إلى امرأة وضيئة جالسة، وعندها غلامٌ وباطيةٌ فيها خمر، فقالت: إنا لم نَدْعُك للشهادة، ولكن دعوتُك لقتل هذا الغلام أو تقع عليَّ أو تشرب كأسا من الخمر. فإن أبيتَ صِحْتُ بك وفضحتُك. قال: فلما رأى أنه لا بد له من ذلك قال: اسقيني كأسا من الخمر. فسقته كأسا من الخمر، فقال: زيديني. فلم تزل حتى وقع عليها، وقَتَل النَّفْس. فاجتنِبوا الخمر، فإنه والله لا يجتمع إيمانٌ وإدمانُ الخمر في صدر رجل أبدا، وليُوشِكَنّ أحدهما يُخْرِج صاحبَه". هذا ما أعرفه، أما أن تكون هناك خمر أخرى تُنْسَب إلى الله فلا أدرى فى الواقع كيف تكون، ولا أين نجدها. نعم هناك خمر أخرى فى الجنة سيذوقها المتقون، وهى خمر لذةٌ للشاربين. لكنها لا تُسْكِر، فهى كما قال القرآن: "لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها ينزفون"، وهو ما يتعارض مع قول ابن الفارض:
شــربنا على ذِكْر الحبيب مُـــــدَامَةً سَكِرْنا بها من قبــل أن يُخْـــلَق الكَرْمُ
ثم إن هذا، على أية حال، إنما سيكون فى العالم الآخر لا فى عالمنا الحالى. وفوق ذلك لم يحدث قط أن استخدم كتاب الله أو حديث رسول الله "السُّكْر" فى أية صورة بلاغية للإشارة إلى هذا الشعور الذى يحاول المتصوفة إقناعنا بأنه يخامرهم حين يكونون تحت سلطان الحب الإلهى. بل إن الحب الإلهى لمن شأنه أن يوقظ النائم وينشّط الكسلان ويردّ على السكران وعيه وصحوه لا العكس. كذلك لم يحدث للرسول أو أحد من أصحابه أى شىء مما يزعمه المتصوفة فى تلك الحالة. فكيف إذن نصدق ما يقوله المتصوفة فى هذا الشأن؟ وكيف إذن بعد هذا كله تطاوع المتصوفةَ نفوسُهم على نسبة الخمر إلى الله، وهى فى الإسلام "أمّ الخبائث"؟ وكيف استخدموها، وهى أخبث شىء، فى الدلالة على أطهر المعانى وأقدسها؟ أَوَقَدْ ضاقت الدنيا فى وجوههم فلم يجدوا إلا الخمر يتخذونها رمزا على الحب الإلهى؟ لكأن المتصوفة مغرمون بالشذوذ والخروج على كل ما يليق فى تعبيرهم عما يقولون إنه الحب الإلهى؟ ألا إن الأمر يحتاج إلى دراسة نفسية.
أمر آخر هو أن ابن الفارض، بعد أن زعم أن كل المحبين الذين أَتَوْا قبله أو سيأتون بعده هم "هو" فى الحقيقة، وإن تعددت الأسماء واختلفت الأزمان والأماكن، وكذلك بعد أن قال إن محبوبته هى نفسها محبوبات كل المحبين ظهرت فيهن رغم اختلاف الأسماء والأزمان والأماكن، يقول إنه حين أحب محبوبته إنما أحب ذاته فى الحقيقة. فإذا قلنا بأن محبوبته التى يسميها مرة: ليلى، ومرة: سعاد، ومرة: سلمى... هى الذات الإلهية، مما يصعب جدا أن نفسر الأبيات بغيره، فمعنى ذلك أنه هو ومحبوبته شىء واحد:
ومــــــــــــا زِلْتُ إيَّاها، وإيايَ لَم تَزَلْ ولا فَرْقَ، بل ذاتِي لـِــذَاتي أحَبَّتِ
والآن هل كان الرجل يقول بالاتحاد بالذات الإلهية؟ سوف أعطى فرصة الإجابة لعاشق ابن الفارض، وهو د. محمد مصطفى حلمى، الذى يقول إننا "سنتبين مع عاشقنا... أن الحب ما برح يصفّى نفسه شيئا فشيئا، ويطهّر قلبه رويدا رويدا، حتى أشرقت جوانب باطنه بأنوار الجمال المطلق التى بها ينكشف المحجوب، وفيها يصبح المحب عين المحبوب، لا لأن الذاتَيْن قد أصبحتا ذاتا واحدة بعد أن كانتا اثنتين، ولا لأنه لم يعد ثمة فَرْقٌ أو بَيْنٌ، وإنما لأن المحب أخذ نفسَه بالرياضة والمجاهدة، وروّض نفسَه على المكاشفة والمشاهدة، وصَرَف نفسه كلها عن كل شىء حتى خلص منها ومن كل شىء، وأفنى نفسه فى محبوبته حتى فَنِىَ عن نفسه وعن كل شىء، فإذا هو يمسى ويصبح فلا خبر له من نفسه ولا من أى شىء، وإنما كل ما هنالك هو ذات محبوبته، التى استوعب جمالُها وحبُّها كلَّ حياته" (ص18- 19 من كتابه: "ابن الفارض سلطان العاشقين"). وإذا كان لا بد من تعليق على هذا التفسير الـمَصُوغ، ككل شىء يكتبه د. حلمى، بأسلوب عذب جميل مفعم بالأناقة والتوقيع الموسيقى يمكن أن يُغَشِّىَ على بصر القارئ لو لم يكن يقظا، فإنى أقول إن الدكتور حلمى كان فى هذه السطور مَلَكِيًّا أكثر من الـمَلِك، فابن الفارض قد قال بصريح العبارة:
ومــــــــــــا زِلْتُ إيَّاها وإيايَ لَم تَزَلْ ولا فَرْقَ، بل ذاتِي لـذاتي أحَبَّتِ
وهو ما يعنى أن الذاتين أصبحتا ذاتا واحدة، إذ ها هو ذا يقول بوضوح ما بعده وضوح، وصراحة لا تدانيها صراحة، إنه هو هى لا فرق بينهما، وإنها هى هو، وإنه حين أحبها إنما أحبت ذاتُه ذاتَه لا ذاتا أخرى. ولو كان تفسير الدكتور حلمى مستقيما لقال ابن الفارض إنه فَنِىَ عن ذاته ولم يعد يشعر بها بسبب هذا الفناء، وإن كنت لا أدرى كيف يكون ذلك، ولكنه على أية حال أقل فى التجاوز من القول بالاتحاد، ومع ذلك فهو لم يقله، بل قال ما قلناه. ثم إن الدكتور، يرحمه الله، قد أقر بـ"أن الحب ما برح يصفّى نفس ابن الفارض شيئا فشيئا، ويطهّر قلبه رويدا رويدا، حتى أشرقت جوانب باطنه بأنوار الجمال المطلق التى بها ينكشف المحجوب، وفيها يصبح المحب عين المحبوب"، فهل لهذا معنى غير ما قلناه؟ أما محاولة الأستاذ الدكتور توجيه هذا الكلام الذى قاله هو نفسه لا أحد سواه إلى معنى آخر فهى محاولةٌ غير مقنعة. وعلى أية حال فهذه هى الأبيات التى ورد ذلك البيت فى سياقها، والكلام فيها عن قيس وكُثَيِّر وجميل وحبائبهم: ليلى وعزة وبثينة. أما الضمير المفرد المؤنث فى"لها" وأمثالها فيعود على حبيبته هو:
بدوْتُ لهــــا في كُــــلّ صَبٍّ مُتَيَّــــمٍ
وَلَيْسُــــوا بغَيْري في الهــــــوَى لتَقَدُّمٍ
وما القَــــومُ غيري في هواها، وإنَّما
فــــفي مَرْةٍ قَيســـًا، وأخـرَى كُثَـيِّرًا
تجَـــلَّيْتُ فيهــــمْ ظــاهرًا واحْتَجَبْتُ بــا
وهُنّ وهُمْ لا وهْنَ وهْمٍ مَظَــــــاهِرٌ
فكُلّ فَتَى حُبٍّ أنا هُوَ، وهْيَ حِــــــــــــــ
أَسَــــامٍ بِها كُنْتُ الـمُسَمَّى حَقِيقَــةً
وما زِلْـــــتُ إيَّاهــــا، وإيايَ لــَم تَــــــــــزَلْ
وليس معي في الملك شيءٌ سِوَايَ، والـــ
وهَــــــذِي يَدِي، لا إنّ نَفْسي تَخَـــــوَّفَتْ بــــأيّ بـــــديــــعٍ حُسْــــنُهُ وبــــأيَّةِ
عَـــلَـيَّ لِسَبْـــقٍ في اللَّيالي القَديمةِ
ظَهــرْتُ لهمْ لِلَّبْسِ في كــــل هيئَةِ
وآوِنَــــةً أبـــــدو جَـميــــــــلَ بُثَيْنَةِ
طِنـــًا بهم، فاعْجَـبْ لِكشْفٍ بسُتْرَةِ
لنـــا بتَجَلِّينـــا بحُــــــبٍّ ونَضْـــــرَةِ
ــــــــبُّ كلّ فَتًى، والكُلّ أسماءُ لُبْسَةِ
وكنـــتُ ليَ البادي بِنَفْسٍ تخَفَّتِ
ولا فَــــــرْْقَ، بل ذاتِي لذاتي أحَـــبَّتِ
ــــــــمَعيَّةُ لم تخـــطُــــــــرْ عــلـــى أَلْمَعِيَّةِ
سِـــوَاي، ولا غَـــيْرِي لخـــَـْيرِي تَرَجَّتِ
ثم لنأخذ هذه الأبيات من تائيته الصغرى، وهى تدور فى نفس المدار، وإن كانت متعثكلة بعض الشىء:
وما شـــــانَ هذا الشأنَ منكَ ســـوى السِّـــوَى
كذا كُنتُ حينا قبل أن يُكْشَف الغِـطــا
أروحُ بــفَــقْــــدٍ بالشّــــهودِ مـــؤلِّــفي
يُـــفــــــرّقُــــــني لُبّي الـــتِزامًا بمـَحــــْضَــري
أخــال حضيضي الصّحْوَ، والســـكر معـْرَجِي
فلـــمــّا جلَوْتُ الغَينَ عنّي اجتَلَيْتُني
ومـــِن فــــاقتي سُـــكْـــرًا غَنِيتُ إفــــاقـةً
فجـــاهدْ تُشــاهِدْ فيكَ منكَ وراءَ مــا
فمِـــــن بعدمـــــا جاهدتُ شـــــــاهدتُ مَشْــــهَدي
وبي مـــــــوْقِفي لا بَلْ إليَّ تَوَجُّـــــهي
فلا تَكُ مَفْتُوناً بحُسْنِـــكَ مُعْجَبًــــــا
وفارقْ ضَلالَ الفَرْق، فالجَمْعُ مُنْتِجٌ
وصَرّحْ بإطْلاقِ الجَمــالِ ولا تَقُـــــلْ
فكُلّ مَليحٍ حُسنُهُ منْ جَمـــــالهـــــا
بها قَيسُ لُبْنى هامَ بل كلّ عــاشقٍ
فكُلُّ صَبَـــــــا منهُمْ إلى وَصْفِ لَبْسِهــــــا
ومـــــــــــا ذاكَ إلاَّ أن بدَتْ بمَظاهِـــــــــــرٍ
...
وتَظْهَرُ للعُشَّـــــــــــــــــــاقِ في كلّ مَظْهَــــــرٍ
ففي مَــــــــــرَّةٍ لُبْنَى، وأخْــــــــــــرى بُثَيْنَة
وَلَسْــــنَ سِــــــــواهــــا لا ولا كُنَّ غَيرَهـــا
كذاكَ بحُكْمِ الإتّّحــــــــــــادِ بحُسْنِـــــــــــها ودعـــــواهُ حقًّـــــا عنــــــــك إن تُمْـــحَ تُثْبَتِ
مـــــنَ اللَّبـــسِ لا أنفّكُّ عن ثـــَنــــوِيَّــــة
وأغْـــدو بوَجْدٍ بالوجـــودِ مُشَتّتي
ويَجمعُني سَــــــــلْبي اصْـــطلامًا بغيبتي
إليــــهـــا، ومَـــحْـــوِي مُْنَتَهى قابِ سِـــدْرتي
مُفيقــا، ومنّي العَيْنُ بالعَيْن قَرّتِ
لدى فَرْقيَ الثَاني، فجَمْعي كوَحْدتي
وصَـــفْتُ سُكونًا عن وجُودِ سَكينَة
وهـــــــــادِيَّ لي إيَّــــــايَ بــل بِيَ قـُــــــدْرَتــــي
كـذاكَ صَلاتي لي، ومِنِّيَ كَعْبــتي
بنَفْسِكَ مَوْقوفًا على لَبْسِ غِـــرّةِ
هُدى فِرْقَةٍ بالإتّحَـــــــادِ تَحَــدَّتِ
بتَقْيِيِدِهِ مَيـــــــلاً لِزُخْــــــرُفِ زِينَةِ
مُعـــــــارٌ لهُ بل حُسْنُ كلّ مَليحِةِ
كَمجنـــون لَيْلَى أو كُثَيّرِ عَـــــــــزَّةِ
بصورةِ حُسنِ لاحَ في حُســــنِ صورة
فظَنُّوا سِــــواها وهي فيهــــــــا تجَلَّتِ

من اللَّبْسِ في أشْكـــالِ حُســنٍ بديعةِ
وآوِنَةً تُدْعَـــــــــــــى بعَزَّةَ عَـــــزَّتِ
وما إن لها في حُسْـــــنهـا من شَريكةِ
كما لي بَدَتْ في غـــــــــــــيرِها وتزَيَّتِ
ثم هذه الأبيات من التائية الكبرى:
يَراها إِمامي في صـــــــلاتِيَ ناظِري
ولاَ غرْوَ أنْ صَلَّى الإِمــــــامُ إليَّ أَنْ
وكُلُّ الجِهــــــاتِ السِّتِّ نَحــــوي تَوَجَّهتْ
لها صَلَواتي بالـمَقـــــامِ أُقِيمُهــــــــــــا
كِلانا مُصَلٍّ واحِــــــــدٌ ســاجِدٌ إلى
وما كان لي صَلَّى سِوايَ، وَلَم تَكُن
إِلى كَم أُواخـــــــــي السِّتْرَ ها قــــــــــــد هَتَكتُهُ
*
وها أنا أُبدي في اتّحــــاديَ مَبْدَئي
جَلَتْ في تَجَليّها الوجــــودَ لِناظري
وأُشْهِدْت غَيْبي إذ بدتْ فوجدتُني
وطاحَ وُجودي في شهـــــــودي، وبِنْتُ عــــــــن
وعانقْتُ ما شاهــــــــدتُ في محْوِ شــــــاهدي
ففي الصّحوِ بعد الـمَــــــحْوِ لم أكُ غيرَها
فوَصْفيَ إذ لم تُدْعَ باثنَين وصفُــــها
فإن دُعِيَتْ كنتُ الـمُـــجيبَ، وإن أكُن
وإنْ نَطقَتْ كنْتُ المُنـــــاجي. كذاك إن
فقـــــد رُفِعَــــــتْ تـــــــاءُ المُخاطَبِ بَينَنَا
فــــــإن لـم يُجَوِّزْ رؤيَةَ اثنَينِ واحدا
ولمـــــّا شَـــعَبْتُ الصّــــدْعَ والتأمَتْ فُطُو
ولـــم يَـــــبقَ مــــــــا بيني وبينَ توَثّقي
تحـــقّـقـــــتُ أنّا في الحــــقيقِة واحـــــــــــــدٌ
وكُـــــــــلّي لِســــــَانٌ ناظرٌ مَسْمَعٌ يَدٌ
فَــــعَــــيْنيَ نــــاجتْ، واللّســــــانُ مُشاهِدٌ
وسَمْـــــــــعِيَ عَــــيْنٌ تجتَلي كُلّ ما بـــــــدا
ومِنّيَ عن أيدٍ لِســــــــــــاني يَدٌ كـــــمـــــــــا
كذاكَ يَــــــدِي عَينٌ تَـــــــرَى كُلّ مـــا بـــدا
وسَمْعي لِسانٌ في مُخاطبَتي. كذا
وللشّمّ أحكامُ اطّرادِ القيــــــــــاسِ في اتـــــ
وما فِيَّ عُضْوٌ خُصّ مـن دونِ غيرِهِ
ومِني على أفــــــرادهــــا كُـــــلُّ ذَرّةٍ
يُنــــــــاجي ويُصغي عن شُهــــودِ مُصرِّف
فأَتلُو عُلومَ العــــــالِمَـــــين بلـــفْظَــــــةٍ
وأسمــَعُ أصواتَ الدّعـــــــــاةِ وسائِرَ اللُّـــــــ
وأُحْــــضِرُ ما قد عَـــزّ للبُعْدِ حَمْلُهُ
وأنشَــــــقُ أرواحَ الجِنَانِ وعَرْفَ مَــا
وأستَعرِضُ الآفاقَ نحوي بخَـــــــطْرَة
وأشبـــــاحُ مَن لمْ تَبْقَ فيهِــــــــمْ بقيّةٌ
فمَن قالَ أو مَن طال أو صال إنمـــا
وما ســــــارَ فوقَ الماء أو طارَ في الهــــوا
وعَــــنِّيَ مَـــنْ أَمْـــــــــــدَدْتُهُ برَقيــقَةٍ
وفي ساعة أو دون ذلك مَـنْ تــــــلا
ومِنّيَ لو قامــــــتْ بِمَيْتٍ لــــــطيفةٌ
هي النّفــسُ إن ألقَتْ هواها تضاعفت
وناهيـــكَ جَمْعًا لا بفَرْقِ مساحَتي
بــــذاك علا الطّوفانَ نوحٌ، وقد نَجا
وغـاضَ لَهُ ما فاضَ عنهُ استجادةً
وســــارَ، ومتنُ الرّيحِ تحتَ بساطِه،
وقبل ارتـــدادِ الطرفِ أُحضِرَ مِن سَبـَـــا
وأَخْمَــــدَ إبــــراهيمُ نــــــــارَ عــدُوّهِ
ولمَا دعا الأطيارَ من كُلّ شــــاهِقٍ
*
وأهـــلُ تَلَقِّى الـــــروح باسْمي دَعَــــوْا إلى
وكُلّهُمُ عن سبْق معــــــنايَ دائـــــــرٌ
وإنّي، وإن كنتُ ابــــنَ آدمَ صــورةً،
ونفسي على حِجْرِ التّجَـــــــلّي برُشــدها
وفي المَهْـــدِ حِـــــزْبي "الأنبيـــــاءُ" وفي عنـــا
وقبلَ فِصالي دون تكليــــــــفِ ظــاهــري
فهُمْ والأُلى قالـــوا بَقَولِهِـــــمو عـــــلى
فيُمْنُ الـــــدعــــــاةِ الســـابقينَ إليّ في
ولا تَحْسَبنّ الأَمْـــــرَ عنّيَ خـــارجًا
ولولايَ لم يُوْجَدْ وُجــــودٌ، ولم يكُــنْ
فلا حيَّ إلاّ مـِـنْ حيــــــاتي حيــاتُهُ
ولا قائلٌ إلاّ بلَفْــــــظِي مُــــــحَـــدِّثٌ
ولا مُنْصِتٌ إلاّ بِسَمْعِيَ ســـامـــــــعٌ
ولا ناطِقٌ غَـــــيري ولا ناظِـــــرٌ ولا
وفي عالَم الــــــتركيب في كلّ صورَةٍ
وفي كلّ معنــــــىً لم تُبِنْهُ مَظاهِـــري
وفيما تراهُ الرّوحُ كَشْفَ فــراســـــةٍ
وفي رَحَــــمُوتِ البَسْطِ كُلّيَ رَغْبَةٌ
وفي رَهَبَوتِ القبــــــضِ كُلِّيَ هَيبَــــةٌ
وفي الجــمــــــــعِ بالوَصْفَينِ كُلِّيَ قُرْبَةٌ
وفي مُنْتَهـــَى "في" لم أَزَل بيَ واجِـدًا
وفي حـيثُ "لا في" لم أزَلْ فِــــيَّ شـــاهدًا
فـــإن كنتَ منّي فانْحُ جمعيَ، وامْحُ فَـــــرْ
...
وجـــــاء حديثٌ في اتّحاديَ ثابتٌ
*
تسبّبتُ في التوحيدِ حتى وجَــدتُهُ
ووحّـــــدتُ في الأسبـــابِ حتى فقــــدتُها
وجــرّدتُ نفسي عنهمــــا فتجرّدتْ
وغُصْتُ بحار الجمع بل خُضتُها على انـــــــ
لأسْمَـــــعَ أفعـــــــالي بسَمْــــعِ بَصِيرَةٍ
فإنْ ناح في الأِيْكِ الهَــــزَارُ وغرّدَتْ
وأطْرَبَ بالمِزْمَــــارِ مُصْلِــــحَةٌ عـلى
وغنّتْ من الأشعــــــارِ ما رَقّ فـــارتقَتْ
تَنَزّهْــــــتُ في آثارِ صُنْــعِــــــــي مُنَزِّهًــــــــا
فبي مجلسُ الأذكارِ سَمْــــعُ مُـــطـالِعٍ
وما عَقَدَ الزُّنّارَ حُكْمًا ســوى يدي
وإن نارَ بالتنزيلِ مِحْــــرابُ مَسْجِـدٍ
وأســـــــفـــــارُ تَوراةِ الكَلِيم لقَـــــوْمِهِ
وإن خَرّ للأحجـارِ في البُدِّ عاكِفٌ
فقد عَبَـــــــدَ الدّينـــــارَ مَعْنًى مُنَزَّهٌ
وقد بَلَــــغَ الإِنذارَ عَنِّيَ مَـــــــن بَغَى






*











































*

























*













وَيَشْهَـــــــــدُني قلبي أمـــــــــامَ أئِمَّتي
ثَوَتْ في فؤادي وهْيَ قِبـــــلةُ قِبلتي
بما تَمَّ من نُسْــــــكٍ وَحَـــــــجٍّ وعُمـــــرَةِ
وأشهَدُ فيـــها أنَّهـــــــــــا ليَ صَلَّتِ
حقيقتِهِ بالجــــــمـــعِ في كُلِّ سجدَةِ
صَــــــلاتي لغَيْرِي في أَدَا كُلِّ رَكعَةِ
وحَــــــلُّ أَوَاخِـــــي الحُجبِ في عَقـْــــــدِ بَيْعَتي
*
وأُنْهي انتِهائي في تــــــواضُعِ رِفعتي
ففي كُلّ مَـــــــــرْئِيٍ أراهــــــا برؤيَةِ
هُنَالِكَ إيّــــــــــاها بجَلوَةِ خَـــــــلْوَتي
وُجـــــودِ شُهـــــــــودي ماحيـــــــــًـا غيرَ مُثبِت
بمَشـــــــــــهدِهِ للصّحْوِ من بَعـْـــــــــــــد سَكرتي
وذاتي بــــــــــــــــــذاتي إذ تحَلّتْ تجَلّتِ
وهيئتُها، إذ وَاحِـــــدٌ نحنُ، هيئَتي
منادًى أجــــــابَتْ مَن دعــــــاني ولَبّتِ
قَصَصْتُ حـــــــــــديثا إنَّما هي قَصَّتِ
وفي رَفْــــــعِها عن فُرْقة الفَـــــرْقِ رِفْعَتي
حِجَـــــــــاكَ ولم يُثْبِتْ لبُعْــدِ تثَبُّتِ
رُ شَمْلٍ بفَــــرْق الوصــفِ غيرِ مُشتّتِ
بإيناسِ وُدّي مــــــــا يُؤَدّي لِوَحْشـةِ
وأثبَتَ صَحْـــــوُ الجمع محْـــــــوَ التشتتِ
لنُـــــطــْــقٍ وإداركٍ وَسَمْعٍ وبَطشـةِ
ويَنْـــــــطِــقُ مني السمْعُ، واليدُ أَصْغَتِ
وعَينيَ سَمـْــعٌ إن شـــــدا القومُ تُنْصِتِ
يَدي لي لســـــــانٌ في خطابي وخُطبتي
وعيني يــــــَدٌ مبـسوطةٌ عِنْدَ بَسْـــــطَتي
لسانيَ في إصغـــائِه سَمْعُ مُنْصِتِ
ــــــحادِ صِفـــــاتي أو بعَكْسِ القضيّــةِ
بتَعيينِ وصْــــفٍ مثْلَ عينِ البصيرةِ
جوامِعُ أفـــــعـــــالِ الجــوارحِ أَحْيَتِ
بمجمـــــوعِهِ في الحــــــالِ عن يَدِ قُـــــدرَةِ
وأَجْلــــُو عــــليَّ العالمــــــين بلَحْظَــةِ
ــــــغَاتِ بِوَقْتٍ دونَ مِقــــــدارِ لَمْحَـــــــةِ
ولم يَرْتَـــــــدِدْ طـَـــــرْفي إليّ بغَمْضَــةِ
يُصافحُ أذيــــالَ الرّيـــــــاحِ بنَسْمَـــــةِ
وأخــــــــترِقُ السّبْعَ الطّبَــاقَ بخُطْوَةِ
لجَمــــــعيَ كالأرواحِ حفّتْ فخفّتِ
يَمُـــــــتّ بإمــــــــدادي له برَقيقَــــــةِ
أوِ اقتحـــــمَ النّـــــــــيرانَ إلاّ بهِمّـــــــــــتِي
تصَرّفَ عن مَجـــــموعِهِ في دقيقــةِ
بمجموعةٍ جَمْــعِي تَلا أَلفَ خَتْمَــةِ
لَرُدّتْ إليْـــــــــهِ نفسُـــــــهُ وأُعِيـدَتِ
قُوَاها وأعطَـــــــــــتْ فِعْلَهــــــــا كُلَّ ذرّةِ
مكان مَقِيسٍ أوْ زمــــانٍ مُوَقَّـــــتِ
به مَنْ نجا من قومِــــــهِ في السفينةِ
وجَدَّ إلى الجُودِيّ بهـــا واستقَـرّتِ
سُلَيمانُ بالجَيْشَينِ فـــوقَ البسيـطةِ
لـــــهُ عَــــــرْشُ بلقـــــــــــيسٍ بغيرِ مشَقّــةِ
وعَـــن نورِهِ عــادت له رَوْضَ جنَّة
وقـــد ذُبِحَتْ جاءتْهُ غيرَ عَصِيَّــةِ
*
سبيـــــلي وحَجُّوا المُلحِـــــــدينَ بحُجّتِي
بدائِـــرَتِي أو وارِدٌ مـــــن شريعــــتي
فَلِي فيِـه مَعنًى شـــاهـــــدٌ بأبُــوَّتِي
تَجَلّتْ وفي حِجْـــــــــــــــرِ التجَلّي تَرَبّتِ
صري لَوْحِيَ المحفوظ و"الفتــحُ" ســــورتي
ختمتُ بشرعي الموضِحِي كلّ شرْعــةِ
صراطيَ لم يَعْدوا مواطئ مِشْيـــَتي
يَميني، ويُسْـــــرُ اللاّحقينَ بِيَسْــرَتي
فما سادَ إلاّ داخِـــــلٌ في عُبــودتي
شـهــــــودٌ، ولم تُعْهَــــدْ عُهودٌ بذِمّــةِ
وطَوعُ مُــــرادي كُلّ نفسٍ مُــــــريدةِ
ولا ناظِـــــــــرٌ إلاّ بناظِـــــــرِ مُقْلَـــتي
ولا بــاطِــشٌ إلاّ بأزْلِي وشِــــــدّتي
سميـع سِـــــــوائي من جميعِ الخليقـةِ
ظَهَـرْتُ بمَعْنًى عنه بالحســنِ زِينَتِ
تصــــوّرْتُ لا في صـــــورةٍ هيكليّــةِ
خَــــفِيتُ عنِ المَعنى الـمُعنَّى بدِقّةِ
بهـا انبَسطتْ آمالُ أهْلِ بَسيـــطتي
ففيمــــا أجَلْتُ العَيْــنَ منِّي أجَلَّتِ
فــــحَيَّ على قُرْبَي خِلالي الجميـلة
جَلالَ شُهودي عن كمــالِ سجيّتي
جَمـــــالَ وُجــــودي لا بناظِــــــر مُقْـــلتي
قَ صَدْعي، ولا تجنح لجنــــحِ الطبيعةِ

روايتُهُ في النقْلِ غيــــــرُ ضعيفَــــــةِ
*
وواسطةُ الأسبابِ إحــــدى أَدِلّتي
ورابطةُ التّـــــوحيدِ أجْـــــــدَى وسيــــلَةِ
ولم تَكُ يومـــــًا قَطُّ غيرَ وحيـــــــدَة
ــــــــــفِرَاديَ، فاستَخْــــــرَجتُ كـــــلّ يتيمـةِ
وأَشْهَــد أقــــــوالي بعَيْنٍ سَميعـــــــة
جوابًا لهُ الأطيــــــارُ في كلّ دَوْحَــةِ
مُنَاسَبَـةِ الأوتارِ مــــن يَـــــدِ قَيْنَـــــةِ
لسِــــدْرتِهَا الأســــــرارُ في كلّ شــــــدْوَةِ
عن الشرْك بالأغيــــــــارِ جَمْــعي وأُلْفتي
ولي حـــــــانَةُ الخمّـــــارِ عَينُ طليعَةِ
وإنْ حُــــلّ بالإِقرارِ بي فَهْيَ حَلّتِ
فما بارَ بالإِنجيلِ هيكـــــــــلُ بِيعَــــةِ
يُناجِي بها الأحبــــــارُ في كلّ ليــلةِ
فلا وجْهَ للإِنكــــــــــارِ بالعـــــصَبِيّةِ
عـــنِ العـــــــارِ بالإِشـــراكِ بالوثَنيّــةِ
وقـــامتْ بيَ الأعــذارُ في كلّ فِرْقةِ
ومــــــــا زاغتِ الأبصــــــارُ من كلّ مِلّــــةٍ
ومـــا اختارَ مَنْ للشّمس عن غِــرّةٍ صبَا
وإن عبـــــدَ النَّارَ المَجـــوسُ وما انطفَت
فما قَصَــدُوا غيري وإن كان قصــــدهُم
رأوْا ضَــــــوْءَ نوري مــرّةً فَتَوَهَّمُــــــو ومــــــا زاغتِ الأفكارُ من كلّ نِحْــــــلَةِ
وإشـــــراقُها مِن نُورِ إسْفـــــــــارِ غُـرّتي
كــمـا جاءَ في الاخبارِ في ألفِ حِجَّـــةِ
سِــــــوايَ وإن لم يُظْهِــــــروا عَقْــــدَ نِيّــةِ
هُ نــارًا فَضَلّوا في الهُـدَى بالأشعَّـةِ
وفى المادة المخصصة لشاعرنا فى "L'Encyclopedie Universalis" نقرأ أن دوره فى تاريخ التصوف يتلخص فى أن التيار القائم على الاتحاد بالذات الإلهية قد ابتدأ به: "Quant au rôle d'Ibn al-Fāriḍ dans le développement du sufisme, on peut le résumer ainsi : « Avec lui prenait son départ la grande école des ittihādīya, des partisans de l'union avec Dieu".
وأخيرا، وليس آخرا، فإن المتحمسين لهذا الكلام من ابن الفارض وأمثاله من المتصوفة يشيرون فى هذا السياق إلى حديث يزعمون أنه حديث قدسى يقول فيه رب العالمين: "كنت كنزا مخفيّا فأردت أن أُعْرَف، فخلقتُ الخَلْق، فبه عرفونى". وقد ذكر العجلوني هذا الحديث في "كشف الخفاء" برقم 2016 بلفظ "كنت كنزًا لا أُعْرَف، فأحببت أن أُعْرَف، فخلقت خلقًا فعرَّفتهم بي، فعرفوني". وفي لفظٍ: "فتعرفتُ إليهم، فبي عرفوني". قال العجلوني: "المشهور على الألسن: ‘كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعْرَف فخلقت خلقًا، فبي عرفوني’. وهو واقع كثيرًا في كلام الصوفية. وهذا حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم. قال العجلوني: قال ابن تيمية: ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعْرَف له سَنَدٌ صحيح ولا ضعيف. وتبعه الزركشي، والحافظ ابن حجر في "اللآليء"، والسيوطي وغيرهم". ثم ما معنى أنه سبحانه كان كنزا مخفيا؟ ترى مخفيا عن من؟ إنه لم يكن هناك إلا ذاته حسبما يقول الحديث، فهل يمكن أن يكون مخفيا عن نفسه؟ مستحيل، فالله يعلم كل شىء، علاوة على أن الإنسان المخلوق لا يخفى على نفسه، فما بالنا بالله جل فى علاه؟ أم تراه كان مخفيا عن الخلق؟ ولكن هل كان هناك وقتئذ خلق أصلا؟ إذن فليس صوابا أن يقال إنه كان مخفيا عنهم، لأنهم لا بد أن يوجدوا أولا حتى يمكن أن يقال إنه مخفى عنهم. ثم هل كان الله بحاجة إلى أن يعرفه أحد؟ أليس هو الغنى بذاته عن كل أحد وكل شىء؟ وإذا كان هو الذى خلق الخلق، الذين كان بحاجة إلى أن يعرفوه بعدما كان كالكنز المخفى كما يقول الحديث الموضوع، أفليس هذا دليلا على ما أقول من أنه سبحانه وتعالى لم يكن بحاجة إليهم؟ ذلك أنه هو الذى خلقهم، والخالق لا يحتاج إلى من يخلقه. من هنا فإن كل ما يتعلق بهذا الموضوع متهافت أشد التهافت كما نرى. ثم إن المعرفة شىء، والحب شىء آخر، إذ ما أكثر من يعرف بوجود الله، لكنه لا يوحّده أو يعبده، كمشركى العرب قبل البعثة، بَلْهَ أن يحبه.
هذا من ناحية المضمون فى شعر ابن الفارض، فما الحكم عليه من الناحية الفنية؟ أولا لا بد أن أقول إن فى كثير من شعر ابن الفارض حرارة وعذوبة، وفى نفس الوقت فيه بديعيات كثيرة، وكل من هذين الأمرين لا ينسجم مع الآخر عادةً. لكن هناك من الشعراء من يستطيع توفير ذلك الانسجام كما هو الحال مثلا فى قصيدة ابن زيدون النونية التى لا أُسَوِّى بها قصيدة أخرى فى نفس موضوعها فى أدبنا العربى، بل لا أتصور أن يكون لها نظير فى الآداب غير العربية، فقد استطاع ابن زيدون أن يبلغ فيها مستوى من السموق والشموخ والروعة لم يبلغه شاعر غزلى آخر. لكننى، فى غمرة التذاذى بشعر ابن الفارض، ما إن أتذكّر ما يقال من أن هذا الشعر هو فى الحب الإلهى حتى تضعف لذتى وتفتر حرارتى وحماستى. صحيح أننى لا أنسى أبدا هذا التفسير، إلا أنه يظل بعيدا عن سطح وعيى فلا يكون فى مركز الانتباه، أما ما أنا بسبيله الآن فخاصٌّ بانتقال ذلك الشعور من خلفيّة الوعى إلى صَدَارته. وسمة أخرى من سمات شعر ابن الفارض هى تعثكل العبارة أحيانا بسبب تعثكل المعنى. ومن السهل على القارئ أن يلحظ ذلك فى أبيات التائية المارة لتوّها. وسبب هذا التعثكل هو قوله بالاتحاد ورغبته فى التعبير عن هذا المعنى، ولكن بطريقة مداورة لا تقصد إلى المراد مباشرة عادةً حتى لا يأخذها عليه آخذ فتكون مشكلة، بل تلف وتدور مستخدمة الضمائر المختلفة متقاربة بل متلاصقة أحيانا على غير ما عهد الناس استخدام الضمائر فى لغة العرب. واستخدام الضمائر بهذا الشكل يحوج القارئ إلى أن يكون فى غاية التنبه، وإلا توجَّب عليه أن يعيد قراءة الأبيات من جديد. ومع هذا فإن قول ابن الفارض بالاتحاد يظهر فى بعض الأحيان بما فيه الكفاية رغم كل شىء. وسمة ثالثة هى إكثاره من المصطلحات الصوفية من بسط وقبض ومحو وإثبات وفناء ووجود وافتراق وجمع وانفصال واتحاد. وقد مرت أمثلة على هذا فى النصوص التى أوردناها آنفا.
وهناك أيضا كثرة القوافى الداخلية:
وَاحَسرَتي ضــــاعَ الزَّمـانُ وَلَم أَفـــُزْ
وَمَتى يُؤَمِّلُ راحَــــــــــةً مَن عُمْـــــــره
فَهُمُو هُمُو صَـــدُّوا دَنَوْا وَصَلـُـــــوا جَفَـوْا
*
حيثُ الحِمَى وطَــــــني، وسُكّانُ الغَضـــا
وأُهَيْـــــــلُهُ أَرَبِــــي، وظِــــلُّ نَخيلـِــهِ
*
ما تَرَى العِيسَ بينَ سَــوْقٍ وشَــــوْقٍ
*
كان فيها أُنسي ومِعْـــــــراجُ قُدْسِي
*
وظِلاَلِ الجنابِ والحِجْرِ والميْـــــــــــــ
والموازنة:


*


*

*

*

مِنكُم أُهَيــــــــلَ مَــــــوَدَّتي بِلِقــاءِ
يَومــــانِ: يَومُ قِلًى ويَومُ تَنـــــــــائي
غَــدَرُوا وَفَوْا هَجَـــروا رَثَوْا لِضنــائِي
*
سَكَنِي، ووِرْدِي المـــــاء فيه مُبَــــاحا
طَـــرَبي، ورَمْلَةُ وادِيَيْهِ مَـــرَاحـــــا
*
لرَبيعِ الرُّبـوعِ غَـــــــرْثَى صـــــوادي
*
ومُقـــــامي الـمَقـــامُ، والفَتْحُ بادِي
*
ــــــــــــــزابِ والمُسْتَجَاب للقُصّــادِ

يحْيا بها مَن كانَ يحسَب هَجـــرَكُمْ
*
عُمْـــــــــرُهُ واصْطبَــارُهُ في انتِقَــــاصٍ
*
وَيفْــــــرَحَ محـــــزونٌ، ويَحْيَــــــا مُتَيَّمٌ
*
فالوَجْدُ بـــاقٍ، والوِصَالُ مُمـَـاطِلي
*
مني لَهُ ذُلّ الخَضُــــــــوعِ، ومنـــــهُ لي
*
يا مــانِعي طيبَ المَنَــــامِ، ومــانِحِي
*
فسَمِعْتُ مــــا لم تسمَعِي، ونَظَــــرْتُ مـــا
*
فالوَجْدُ باقٍ، والوِصَــالُ مُـمـــاطلي
*
صفاءٌ ولا ماءٌ، ولُطْفٌ ولا هَـــــوًا
*

*

*

*

*

*

*

*
مَزْحًـــــا، ويعتقِدُ المِـــزَاحَ مِزاحـــا
*
وجَـــــــــــوَاهُ ووَجْــــــدُهُ في ازديادِ
*
ويَأْنَسَ مُشْتَـــــاقٌ، ويَلْتَـذّ سامِـــعُ
*
والصّبْــــــرُ فــانٍ، واللّقـاء مُسَوّفي
*
عِـــزُّ الـمَنُــــــوعِ وقوّة المستضْعِفِ
*
ثوبَ السّقامِ بِهِ ووَجْــدِي المُتْلِفِ
*
لم تنظُــــري، وعَــــرَفْتُ مــــا لم تعـــرِفي
*
والــــصّبْــــرُ فانٍ، واللّقــاء مُسَوِّفي
*
ونُورٌ ولا نارٌ، ورُوحٌ ولا جِسْـــمٌ
والجناس:
نَحَـــــرتُ لضَيْفِ الطَّيْفِ في جَفْنِيَ الكَــــرَى
ومَنَّتْ ومـــــــــا ضَنَّتْ عــــــــــلَيَّ بوَقْفَـــــــــــةٍ
*
ولَوْلاَكِ مــــا استهدَيْتُ برْقًـــــا ولا شجَــــتْ
فـــــذاكَ هُـــــدًى أهْــــــدَى إليّ، وهــــــــــــذه
...
فبَـــَــــــلُّ غَـــــــليلٍ مِنْ عــــــــليلٍ على شـــفـــا
...
وأَبعَــــــدَني عـــــــن أرْبُعي بُعْــــــــــدُ أرْبَــــــــعٍ
فلي بعــــــــدَ أوْطــــــاني سكونٌ إلى الفـــــــلا
وزَهّـــــــــدَ في وَصــــلي الــغـــــوانيَ إذْ بَـــــدا
فرُحْــــــنَ بحُــــــزْنٍ جـــــازعــاتٍ بُعَيْــــد مـــا
...
فأصْبَـــــحَ لي من بعـــــــدِ مـــــا كان عــــاذِلاً
...
وقال: تَلافَى مــــــا بَقِي منكَ. قلتُ: مــــــــا
...
سَـــقى بالصّفـــــــا الرَّبْعِيُّ رَبْعًا به الصَّـــــــــفا
...
غـــــرامي بشَعْبٍ عامــــــرٍ شِعـــبَ عامــــــرٍ
...
ومــا جَــــــزَعي بالـجََــــــزْعِ عــــن عبثٍ ولا
*
فاللّــــــوْمُ لــــــــؤمٌ، ولم يُمْــــــــدَحْ بِهِ أحَـــــــــــدٌ
*
يهـــــــــوي لذِكْــــرِ اسمه مَنْ لَجّ في عَـــــــــذَلِي
*
خليَــــــــــــــــليَّ، إن جئُتمـــــــــــا منـــــــــــــزِلي
وإن رُمْتُمَــــــــــــا منطِقًـــــــــــــا من فَمِــــــــــي
*
أَضْحَى بإحســــــــانٍ وحُسْــــــنٍ مُعْطِيًـــــــــا
*
قَسَمًــــــــــا بمَنْ فيـــــــــــــــه أرى تعـــــــــــذيبَهُ

*



















*

*

*


*

*
قِرًى فَجَــــرَى دَمْعي دمًــــا فـــوقَ وَجْنَتي
تُعــــــادِلُ عنْدي بالمُعَـــــــــــــرَّفِ وَقْفَــــــتي
*
فؤادي فأبكتْ إذ شــــــــــدَتْ وُرقُ أيكةِ
على العُود إذ غنّت عن العُـــــــودِ أغْنَتِ

يُبِــــــــلّ شِفَــــــــــاءً منه أعظَــــــمُ مِنّــــــــــةِ

شبــابي وعقلي وارتيـــــاحـــي وصِحّــتي
وبالوَحش أُنسي إذ من الإِنـــس وَحشـتي
تبَلُّـــجُ صُبْـــــحِ الشيْب في جِــنْح لِمّـــــــتي
فـــــــرِحْنَ بحَزْنِ الجَـــــــزْعِ بي لشبيبــــــــتي

به عاذرًا بل صــــارَ مـن أهـــــــل نَجْدَتي

أرانـــــــــــــــيَ إلا لِلتّـــــــــــــلافِ تَلَفُّـــــــــــتي

وجــــــــادَ بأجيــــــــادٍ ثَرَى منهُ ثـــــــرْوتي

غـــريمي، وإن جــاروا فهم خيرُ جــــيرتي

بَـــــــدا وَلَعًـــا فيهـــــا وُلــــوعي بلَــــــوْعَتِي
*
وهــــــــل رأيتَ مُحِبًّـا بالغـــــــرام هُجِي؟
*
سَمْــــــعِي، وإن كــان عَذْلي فيــــــه لم يَلِجِ
*
ولم تَجِــــــــــــــدَاهُ فسيحًــــــــا فَسِيحَـــــــــا
ولم تسْمَعَـــــــــاهُ فصيحًـــــــــا فَصِيحَـــــــــا
*
لِنَفَــــــــــــائسٍ، ولأَنْفُــــــــــــسٍ أخّــــــــــــاذا
*
عَـــــــــــذْبًا وفي استِـــــــذْلاله اســــــتِلْذاذا
والطباق والمقابلة:
فجِسْمِي وقلبي مُستحيــلٌ وواجِبٌ
*
وابْيَضَّ وجــــــهُ غَـــــــرامي في محَبَّتِهِ
*
أم تلكَ ليلى العـــــــــامـريّةُ أَسْفَــــرَتْ
يا راكِبَ الـــــــوجْناء، وُقِّيتَ الرَّدَى
*
مَا أَمَرّ الفـــــــــراقَ يا جِيرَةَ الـحَـــــــــ
*
عُمْرُهُ واصطبَـــــــــارُهُ في انتِقَـــــــاصٍ
*
لِلَمَاهُ عُدْتُ ظَمًــــــــا كأَصْدَى واردٍ
خيرُ الأُصَيْحَــــــابِ الذي هو آمري
*
يُـدْني الحـبــيــــــبَ، وإن تنــاءتْ دارُه،
*
ولبُعْدِهِ اسْوَدَّ الضُّحَى عندي كمــا ابْــ
*
أنْتُـم فُـــــــــرُوضِـــــــــي ونَفْـــــــــــــــلي
...
فــــــــالمــــــــــــوتُ فيــــــــهِ حيــــــــاتي
*

*


*

*

*


*

*

*


وخَدِّيَ مندوبٌ لِجَــــــــائِزِ عَبْرَتي
*
واسْوَدَّ وجْـهُ ملامي فيـه بالحُجَجِ
*
لَيْلاً فصيّرَتِ المساءَ صباحــــــا؟
إن جُبْتَ حَزْنًا أو طَوَيْتَ بِطَاحـا
*
ــــــيِّ، وأحْلَى التّلاقِ بعدَ انفرادِ!
*
وجَــــــوَاهُ ووَجْـــــــــدُهُ في ازديـــادِ
*
مُنِعَ الفُراتَ وكنتُ أَرْوَى صــــادر
بالغَيّ فيِه وعن رشاديَ زاجــري
*
طَيْفُ المَلامِ لطَرْفِ سمعي الســاهرِ
*
ــــــيَضّتْ لقُربٍ منهُ كان دَياجِـــري
*
أنْتُم حَـــــــــــــديثي وشُغْــــــــــــــلي

وفي حَيَـــــــــــــــــــاتيَ قَتْـــــــــــــــلي
وهناك كثرة النداء، وكثرة الاستفهام أو الدعاء بعد النداء:
يا رَاكبَ الوَجنـــــــــاءِ، بُلِّغتَ المُنى،
...
يا ساكِني البَطحـاءِ، هَل مِن عَـــودَةٍ
*
يا راكِـــبَ الوجْنــــاء، وُقّيتَ الرَّدَى
...
يا ســـــاكني نَجـــدٍ، أمـــــا مِنْ رحمَةٍ
...
يا عـــاذِلَ المُشْتَاقِ جَهْـــــــــلاً بالَّذي
...
يا أهـلَ وِدّي، هل لــراجي وَصْلِكُمْ
*
خـاطِبَ الخَطْبِ، دعِ الدَّعْوَى، فما
...
أَيْ ليــــــالي الوَصْـــلِ هـــل من عَوْدَة
والدعاء:


*







*



عُجْ بالحِمَى إن جُــزْتَ بالجَرعَـــاءِ

أَحيا بِها يا سـاكِني البَطحَــــــاءِ؟
*
إن جُبْتَ حَزْنًا أو طوَيْتَ بِطـاحا

لأَسِيرِ إلْفٍ لا يُريدُ سَــــراحـــــا؟

يَلْقَى مَلِيًّـــــا، لا بَلَغْتَ نجــــــاحـــا

طَمَعٌ فيَنعَــــمَ بالُهُ استِرْوَاحــــــا؟
*
بالرُّقَى تَرْقَى إلى وَصْــــــلِ رُقَـــــيّْ

ومــــــن التعليـــلِ قولُ الصَبّ: أَيّْ
يا رَاكبَ الوَجنــــــــاءِ، بُلِّغتَ المُنى،
*
يا راكِبَ الوجْنـــــــاء، وُقّيتَ الرَّدَى
*
أقْصِر، عَدِمْتُك، واطّـــرح من أثخنتْ
*
يا عــــاذِلَ المُشْتَاقِ جَهْـــــلاً بالَّـــذي
*
سَقْيًــــــا لأيّامٍ مَضَتْ مـع جــــــــــيرَةٍ
*
يا رعَــــى اللَّهُ يومنــــــــــــا بالمـــصَلَّى
...
وسقَــــــــى جَمْعَنــــــــا بجَمْــعٍ مُلِثًّـــــا
*
وهل رَضَعَت من ثَدْي زمـزَم رَضْعَةً؟
*
رعَى اللهُ مَغـــــــىً لم أَزَلْ في ربوعِـــــــــــــــهِ
*
خَفّفِـــــــي الوَطْءَ، ففي الخيْف، سَلِمْـــــــ
...
يا سَقــــــــــى اللهُ عَقِيقًـــــــــــا باللِّوَى
*

*

*

*

*



*

*

*


عُجْ بالحِمَى إن جُزتَ بالجَـــرْعَــاءِ
*
إن جُبْتَ حَزْنًا أو طوَيْتَ بِطـاحا
*
أحشاءَهُ النُّجْلُ العُيونُ جِــــــراحـــــا
*
يَلْقَى مَلِيًّــــــــا، لا بَلَغْتَ نجــاحــــا
*
كانتْ لَيـــالينــــا بِهِمْ أفــــــراحـــــــا
*
حيثُ نُدْعى إلى سبيــل الرّشــادِ

ولُيَيْلاَتِ الخَيْفِ صــــَوْبُ عِهــــــادِ
*
فلا حُرّمت يومًا عليها المـــــــــراضعُ
*
مُعَنًّى، وقُلْ إن شئتَ: يا ناعِم البــالِ
*
ــــــــــــتِ، على غَيْرِ فـــــؤادٍ لم تَطَيْ

ورَعَــــى ثَمّ فريقًــــــا مِــــــــــن لُؤَيّ
وصيغة التعجب:
مـــــــا أَعْجَبَ الأيَّامَ تُوجِـــبُ للفَتَـى
*
تبـــــــــارَكَ اللَّهُ! ما أحــــــلى شمـــــائلَهُ
*
مَا أَمَــــرّ الفراقَ يا جـيرَة الحـــــــــــــــ
*
يا ما أُمَيْلحَهُ رَشًـــــا فيــه حَــــــــــلا
*
أحبِبْ بأسمَـرَ صِينَ فيـــــــه بأبيــضٍ
*
يا ما أُمَيْلَحَ كُلَّ ما يرْضَــــــــــــى بِـــهِ
*
ويا ما ألذّ الذلّ في عِــــــزّ وَصْلِــكُمْ

*

*

*

*

*

*
مِنَحًــــا، وتَمنَــــحُهُ بسَلْبِ عَطاءِ
*
فكــــمْ أماتَتْ وأحْيَتْ فيه من مُهَجِ
*
ــــــــيِِّ وأحْـــلَى التّلاقِ بعدَ انفرادِ
*
تبـــــــديلُهُ حــــــــالي الحـــلَِي بَذَّاذا
*
أجفـــانُهُ مِنّي مكــــــانَ ســـرائِري
*
ورُضـــــــابُهُ يــــا مــــا أحَيْلاَهُ بِفِي
*
وإنْ عَزّ ما أحلى تقَطُّــعَ أوصالي
وكثرة القسم، وبخاصة بالشعائر المقدسة والحياة والعَمْر:
وحَيَاتِكُم يا أَهــــلَ مَكَّةَ، وهـــيَ لي
حُبِّيكُمُ في النَّاسِ أَضحـى مَـــذْهَبي
*
وتَاللَّهِ لم أختَرْ مــــــــــذَمّةَ غَدْرِهــــــا
*
قَسمًا بمكَّةَ والمــقامِ ومَن أتَى الـــــــــ
ما رنَّحَتْ ريحُ الصَّبـــا شِيــحَ الرُّبَى
*
عَمْـــرُكَ اللَّه إن مـــــــرَرتَ بـــــــوادي
...
وبَلَغْتَ الخيـــــامَ فأبـــلِغْ ســـلامـــــــي
*
قَسَمًـــــا بالحطيم والــــرُّكنِ والأسْــــــ
وظِـــــــلاَلِ الجنابِ والحِجـرِ والمِيْـــــــ
ما شَمِمْتُ البَشــــــامَ إلاَّ وأهــــــدَى
*
قَسَمًــــــــا بمَنْ فيــــــــه أرى تعــــذيبَهُ
ما استحسَنَتْ عيني سواه، وإن سبى
*
وحيـــاتِكُمْ وحيــــاتِكُمْ قَسَمًا، وفي
لو أَنّ رُوحـــــــــي في يـــدي وَوَهَبْتُها
*
عَمْـــــــــرُكَ اللَّه إن مـــــرَرتَ بــوادي
*
أخفَيتُ حُبّكُمُـــــو، فأخــفــاني أَسًى
*
لَعَمري هُمُ العُشّـــــاقُ عنـــــــدي حقيــــــــقةً
*
وحَيــــــــــــــــــــاةِ أشــــــــــواقي إليكَ
ما اسْتَحْسَنَتْ عيني ســــــــــــــواكَ

*

*


*



*



*


*


*

*

*

*

قَسَمٌ، لقــد كَلِفَت بِكُـم أحشائي
وهَـــــــواكُمُ دِيني وعَـــــقـــدُ وَلائي
*
وفـــاءً، وإن فاءتْ إلى خَتْر ذِمّتي
*
ـــــــــــــبيتَ الحرامَ مُلَبّيًا سَيّــــاحا
إلاَّ وأهْـــــدَتْ منكـــُمُ أرواحـــــــا
*
ينْبُعٍ فالـــدُّهَينـــــا فبدرٍ فغـــــادي

عنْ حفــاظٍ عُرَيْب ذاك النّـــادي
*
ـــــــــتَارِ والمَرْوَتَيْنِ مَسْعَى العِبَـــادِ
ـــــــــــــزابِ والمُسْتَجَـــاب للقُصّادِ
لِفــــــــــؤادي تحيّـــةً من سُعَـــــــــادِ
*
عَذْبًا وفي استِـــذْلاله استِلْـــــذاذا
لكنْ ســـــــواي ولمْ أكــــــــــــــن مَلاّذا
*
عُمري بغيرِ حيــاتِكُمْ لم أحْـــلــِف
لمُبَشِّـــري بِقُدُومـــــكمْ لم أُنْصِـــف
*
ينْبُعٍ فالــــــدُّهَيْنا فبَــــدْرٍ فغـــادي
*
حتى، لَعَمْرِي، كِــدْتُ عَنِّيَ أختفي
*
على الجِـــــدّ، والبـــاقون منهم على الهَزْلِ
*
وتُرْبَـــةِ الصَّبْـــــــــــرِ الجــميـــــــــــــلِ
ولا صَبَـــــــوْتُ إلى خــــــليـــــــــــلِ
والاستفهام بـ"هل":
يا هَل لِمَـــاضي عَيْشِنــا مــن عَودَةٍ
*
فاللّوْمُ لؤمٌ، ولم يُمْـــــــــــدَحْ بِهِ أحَــــدٌ
*
يَومًا وَأسمَــــــحُ بَعـــــــــدَهُ بَبقائي؟
*
وهل رأيتَ مُحِبًّا بالغرام هُجِي؟
والاقتباس من القرآن:
كَأنَّ الكـِــــــــرَامَ الكَــــــــــاتِبينَ تَنَزَّلوا
*
فلا تُنْكِــــروا إن مَسَّني ضَرُّ بَيْنِكُــم
...
أَيا كعْبَـــــةَ الحُسْــــــنِ الَّتي لِجمــــالِـــهــا
*
فلِلْعَيْنِ والأحشـــــاء أوّلَ "هل أتى"
*
وفي المَهْــــــــدِ حِزْبي "الأنبيــاء"ُ وفي عنـــــــا
*



*

*
على قَلْبِهِ وَحيًــا بما في صَحيفَتي
*
عَلَيَّ سُؤالي كَشْفَ ذاكَ ورَحْمَتي

قــلــوبُ أُولي الأَلبابِ لَبَّتْ وَحَجَّتِ
*
تلا عَـائدي الآسي وثالِثَ "تَبَّتِ"
*
صري "لَوْحِيَ المحفوظ" و"الفتحُ" سورتي
ويمكن رد اهتمام ابن الفارض بالمحسنات البديعية حسبما توضح الشواهد الآنفة إلى أن ذلك هو أسلوب العصر الذى عاش فيه، عصر القاضى الفاضل والعماد الأصبهانى وابن النبيه والبهاء زهير وابن سناء الملك، إذ كان هؤلاء الشعراء يحبون الصناعة البديعية حبا شديدا (انظر د. محمد عبد المنعم خفاجى/ الأدب فى التراث الصوفى/ 217).
وإلى جانب ما مر من سمات شعرية فى شعر ابن الفارض لا بد أن نذكر التصغير:
كنتَ الصــديقَ قُبَيْلَ نُصْحِكَ مُغْرَمًا
...
وأُهَيْلُهُ أَرَبـــــــــي، وظِـلُّ نَخيلـــــــــِهِ
عَمْـــرُكَ اللَّه إن مــــــــرَرتَ بــــــوادي
...
وقَطَعْتَ الحِــرَارَ عَــــــمْدًا لخَيمــــــــا
وتَدَانَيتَ مـنْ خُلَيْـــــــصٍ فعُسْفــــــا
...
وبَلَغْتَ الخيـــــــــــامَ فأبلِغْ ســــــلامي
...
في قُرى مصرَ جســـمُهُ، والأُصَيْحَـا
إنْ تَعُـــدْ وَقْفَةٌ فُوَيْق الصُّــــــــــــحَيْرَا
...
وقِبــابُ الــــــــركابِ بَينَ العُلَيْمَيْــــــــــ
وسقَــــــــــى جَمْعَنـــــــــا بجَمْعٍ مُلِثًّــا
...
يا أُهَيْلَ الحِجَازِ، إنْ حَكَم الدّهْـــــــ
...
قـــــــــــد سَكَنْتُمْ منَ الفُـــؤادِ سُوَيْدَا
*
يا ما أُمَيْلحَهُ رَشًــــا فيه حَــــــــــــلا
*
عَوّذْتُ حُبَيّبي بـــــــــــربِ الـــــطُـــــورِ
*
خيرُ الأُصَيْحَـابِ الذي هو آمـــــري
*
ألا ليتَ شِعري هــل سُلَيْمَى مقيمةٌ
...
وهل أَرِدَنْ مــاء العُذَيْب وحاجِـــــــرٍ
وهل برُبَى نجْدٍ فتوضـــــــحَ مسنِـــدٌ
...
وهـــــل ظَبَيَــاتُ الـــــــرَّقْمَتَيِن بُعَيْدَنَا
...
وهـــــــل أَمَّ بيتَ اللِه يا أُمّ مـــــــالِكٍ
...
لعلّ أُصَيْحَابي بمكّـــــة يُبْــــــــــــرِدُوا
وعلّ اللُّيَيْلاَتِ التي قــــــد تصــرّمت
*
وبِذَاتِ الشّيح عنّــــــــي إنْ مَــــــرَرْ
...
نَشَرَ الكـــــــاشِـحُ مـــــــا كــــــــانَ لهُ
...
يا أُهَيْـــــــــلَ الــــــــــــــوُدّ أنّــى تُنْكِرُو
وهَوَى الغــــــادةِ عَمْـــري عــــــــــادةً
...
هـــــــــل سَمِعْتُمُ أو رأيتُمُ أسَـــــــــدًا
...
وَضَــــــــعَ الآســـــــي بصَـــدْرِي كَفَّهُ
...
سَقَمِي مِـنْ سُقْــــــــم أجفــــــــــانِكُمُ
...
ولِمـــــــــــــا يَعْــــــــــذُلُ عن لميـــــــــاء طَــــــوْ
لَوْمُهُ صَبًّـــــــــا لدى الحِجْـــرِ صَبَــــا
...
رَوِّحِ القــــــــلبَ بِذِكْــــــــــرِ المُنْحَـنَى
...
لَمِنًى عِنــدي المُنـــــــــــى بُلّغْتُهــــــــــا
...
آهِ وَا شَوْقـــــي لِضـــــــاحِي وجهِـــها
...
وأرى مـن ريِحِـــــهِ الــــــرّاحَ انتشَتْ
ذو الفَقَــــــــارِ اللّحْـــظُ منهــــــــا أبدًا
...
إنْ تَثَنّــــتْ فَقَضِــــيـــــــــبٌ في نَقًـــــــا
...
وأبَــــــــــى يَتْلــــــــــوَ إلاّ يوسُـفًـــــــــــــا
خَرّتِ الأقمــارُ طَــــــــــــوعًا يَقْظَـــــةً
...
لم تَكَـــــــدْ أَمْنًــا تُكَـــدْ من حُكْمَ لا
...
كُحِلَتْ عَيْـــني عَمًــــــى إنْ غَيْـــرَها


















*

*

*

*











*



























أرأيتَ صَبًّــا يألَفُ النُّصَّــــاحــا؟

طَــــرَبي، ورَمْلَةُ وادِيَيْهِ مَـــــــرَاحا
ينْبُعٍ فالـــدُّهَيْنــــــا فبَــــدْرٍ فغادي

تِ قُـــدَيدٍ مَــــــــــواطنِ الأمجـــــــادِ
نَ فمَـــرِّ الظَّهرانِ ملْقَى البـــــوادي

عنْ حـِـفَاظٍ عُرَيْبَ ذاك النّـــادي

بُ شآمًــا، والقــــلبُ في أجيـــــادِ
ت رَواحًــا سَعِدْتُ بَعد بعـــادي

ــــنِ سِـــراعًا للمأزِمَيْنِ غــــــوادي
ولُيَيْلاَتِ الخَيْفِ صَـــوْبُ عِـــــهـادِ

ــــــــــــرُ بِبَيْنٍ قضـــاءَ حَتمٍ إرادي

هُ، ومـــنْ مُقْلَتي ســــواءَ السّـــــوادِ
*
تبـــديلُهُ حـــــــــالي الحلَِــــــي بَذَّاذا
*
مـــن آفةِ ما يجــــري مــِنَ المَقْدُورِ
*
بالغَيّ فيِه وعن رشـاديَ زاجري
*
بِوادي الحِمــى حيثُ المُتَيَّمُ والعُ؟

جِهَارًا، وسِرُّ الليلِ بالصّبــح شائعُ؟
أُهَيْلَ النّقا عمّا حـــوَتْه الأضالع؟

أَقَمْنَ بهـــا أمْ دونَ ذلكَ مـــــــانعُ؟

عُرَيْبٌ لهُمْ عندي جميعًا صنائع؟

بِذِكْرِ سُلَيْمَى مـــا تُجِنّ الأضـــالع
تعـــــودُ لنــــا يومًا فيَظْفَرَ طـامــــعُ
*
تَ بِحَيٍّ من عُرَيْبِ الجِـــــزْعِ حَيّْ

طاويَ الكَشحِ قُبَيْلَ النــــأيِ طَيّْ

نيَ كَهْلاً بعدَ عِرفـــــــــاني فُتَـــيّ؟
يَجْلبُ الشّيبَ إلى الشّابِ الأُحَيّْ

صــــادَهُ لـحْـــظُ مَهــــاةٍ أو ظُبَيّْ؟

قال: مـــا لي حيـــــلةٌ في ذا الهُوَيّْ

وبِمَعْسُــــــــــول الثّنــــــايـا لي دُوَيّْ

عَ هوىً في العــــذل أعصى من عُصَيّْ
بِكُمُ دَلّ علـى حِـــــــجْـــــرِ صُبَيّْ

وأعِدْهُ عِنْــــــــدَ سمعــــي يا أُخَيّْ

وأُهَيْـــــــــلُوهُ، وإنْ ضَنّـــــــــوا بِفَيّْ

وظَمَـــــــا قَلـــبي لـــــــــــذَيّاكَ اللُّمَيّْ

ولَـــهْ مــــــــــِنْ وَلَهٍ يعْنُــــــــــو الأُرَيّْ
والحشَـــــا مِنّـــيَ عَمْــــــروٌ وحُيَيّْ

مُثْمِـــــرٌ بَـــدْرَ دُجــــــى فَرْعِ ظُمَيّْ

حُسنُهَـــا كالذّكِرِ يُتْلَى عــــــن أُبَيّْ
إنْ تـــراءَتْ لا كَــــــرُؤْيا في كُــــرَيّْ

تَقْـــصُــصِ الرّؤيا عليهـــــــم يا بُنَيّْ

نَـــظَرْتْهُ إيهِ عَنّـــــي ذا الــــــــرُّشَيّْ
ومن المعروف أن من أسباب التصغير الرغبة فى الاستملاح والتدليل. ولعل شاعرنا قد بدأ أولاً بتصغير اسم الحبيب ثم عمّم هذا الأسلوب فجعله يشمل كل ما له علاقة بالحبيب حتى لو لم تكن علاقة مباشرة. ويرى د. زكى مبارك أن ابن الفارض قد يكون أكثر شعراء العربية استعمالا لصيغة التصغير وأن هذا المذهب قد اضطره إلى التكلف فى التقفية (انظر كتابه: "التصوف فى الأدب والأخلاق"/ 1/ 296- 297). وأتصور أنه تفوق فى هذه الخصيصة على المتنبى نفسه، الذى سجل نقاده هذه السمة فى شعره وقام بشأن تفسيرها فى شعره خلاف بين العقاد ومحمد مندور يوما. وقد تناول العقاد هذه السمة لدى المتنبى فى مقال نشره بجريدة "البلاغ" بتاريخ العاشر من ديسمبر 1923م، وأعاد نشره لاحقا فى كتابه: "مطالعات فى الكتب والحياة"، ثم تناولها مندور فى "النقد المنهجى عند العرب" مناقشا رأى العقاد ومخالفا له، وهو ما عرضت له فى كتابى: "مناهج النقد العربى الحديث" محاولا أن أكون حكما بين الخصمين، وانتهيت إلى أن رأى العقاد أصح مما قاله مندور.
ومن تلك السمات فى شعر ابن الفارض أيضا الإكثار من أسماء المواضع من بلاد العرب. وسوف أجتزئ بالمثالين التاليين، ففيهما الكفاية:
أوَمِيــــــــضُ بَرْقٍ بالأُبَيْرِقِ لاَحـــــــــــا
أم تلكَ ليــــــــلى العـــامريّةُ أَسْفَـــرَتْ
يا راكِبَ الوجْنــــــاء، وُقّيتَ الـرَّدَى
وسَلَكْتَ نُعمـــــانَ الأراكِ فعُـــجْ إلى
فبأيْمَنِ العلمَيْنِ مِـــــــن شــــــــــرقيـــّه
وإذا وصَــلـْتَ إلى ثَنِيّــــــاتِ اللـــِّوَى
واقْــــــــرِ السّلامَ أُهَيْلَهُ عَنّي، وقُــل:
يا ســــاكني نَجدٍ، أمـــــا مِنْ رحمَـــةٍ
*
عَمْـــرُكَ اللَّه إن مـــــــرَرتَ بـــــــوادي
وسَلَكْـــــــــتَ النّـــقــــــا فَأَوْدانَ وَدّا
وقَطَعْتَ الحِـــــــــرَارَ عَــــمـــدًا لخَيما
وتَدَانَيتَ منْ خُلَيْـــصٍ فعُسْـــــــفــــــا
وَوَرَدتَ الجـــمومَ فــــالقَصْـــرَ فالدّكْــ
وأَتَيْتَ التّنعيــــــــمَ فـــالزّاهــــــــرَ الزّا
وعَبَرْتَ الحُجـون واجــــتَزْتَ فاخترْ
وبَلَغْتَ الخيـــــــــامَ فابلـــِغْ ســــــلامي
...
يا أَخِلاَّيَ، هَـــــــلْ يَعـــــــــودُ التّداني
...
كيــــــــــــف يَلتَذّ بالحيـــــــــــــاة مُعَنًّى
...
في قُرى مصـرَ جسمُه،ُ والأُصَيْحَـــا
إنْ تَعُـــــــدْ وَقْفَـــةٌ فُوَيْق الصُّحَيْــــــرَا
يـــا رعَــــــــى اللَّهُ يومنـــــــــا بالمصَلَّى
وقِبابُ الـــركابِ بَينَ العُلَيْمَيْــــــــــــــــ
وسقَــــــى جَمْعَنــــــــا بجَمْعٍ مُلِثًّـــــــــا
...
يا أُهَيْــلَ الحِجَازِ، إنْ حَكَـــم الدّهْـــ
فغَرامـــــــي القــــــديــمُ فيكُمْ غرامي
...
يا سميـري، رَوّحْ بمَـــكــّةَ رُوحـــــــي
فـــــذُرَاها سِـــرْبي، وطيبي ثَرَاهـــــا
*







*
























* أم في رُبَـــى نجد أرى مِصبـــاحـــا
لَيْلاً فصيّــــرَتِ المساءَ صباحــا؟
إن جُبْتَ حَزْناً أو طوَيْتَ بِطاحـا
وادٍ هُنــــــــاكَ عَهِـــدْتهُ فَيّــــــــاحـا
عَـــــــــــــرِّجْ وأُمَّ أرينَــــهُ الفوّاحــــــا
فانْشُــــدْ فؤادًا بالأُبَيْـــطِح طاحــا
غـــــــادرْتُهُ لِـــجَنابِكُمْ مُلْتاحــــــــا
لأسيرِ إلْـــفٍ لا يُريدُ سَـرَاحــــا؟
*
ينْبُعٍ فالـــدُّهَيْنا فبَـــــدْرٍ فغـــــادي
ن إلى رَابــــغِ الـــــــــرّويّ الثّمـــــــادِ
تِ قُدَيدٍ مَـــواطـــــــنِ الأمجــــــــــادِ
نَ فمَرِّ الظَّهرانِ مـــلْقَى البــــــوادي
ناء طُرًّا منـــــــــاهـــــــــــــلَ الـــوُرّادِ
هِــــــــرَ نَوْرًا إلى ذُرَى الأطـــــــــوادِ
تَ ازديـــــادًا مشــــــاهـــدَ الأوتادِ
عنْ حفـــاظٍ عُرَيْــب ذاك النّادي

منكُمُ بالحِمَــــى بعَـــوْد رفــــادي؟

بَين أحشـــــائه كَــــوَرْيِ الزّنــــــادِ؟

بُ شـــآمًا، والقـــلبُ في أجيـــــادِ
ت رَواحًا سَعِـــدْتُ بَعْد بعـــادي
حيثُ نُدْعَى إلى سبيــل الرّشــادِ
ــــــــــنِ سِراعًا للمـــأزِمَيْنِ غوادي
ولُيَيْلاَتِ الخَيْفِ صَـــوْبُ عِــــهــادِ

ــــــــــرُ بِبَيْنٍ قضـــــاءَ حَتمٍ إرادي
ووِدادي كمــــــــا عَـــهِدْتُمْ وِدَادِي

شادِيًا إنْ رَغِبْتَ في إســعـــــادي
وسبيــــلُ المَسِيــــلِ وِرْدِي وزادي
*
والملاحظ أنه يرصّ هذه الأسماء رصًّا وكأنه يشعر أن على رأسه بطحة، فهو دائم التحسس لها، إذ إننى أشك شكا كبيرا فى أنه ذهب إلى مكة أصلا، وإلا فأين المصدر المحايد الذى يذكر أنه ذهب فعلا إلى هناك؟ ومَنْ يا ترى من علماء مكة قد تكلم عن ابن الفارض وإقامته فى البلد الحرام؟ ليس لدينا إلا ما نُسِب إلى السهروردى على لسان ولد ابن الفارض من أنه لقى ابن الفارض فى المسجد الحرام، وهو كلام لا يقبل التصديق البتة لأن السهروردى قد مات عام 586هـ، ولابن الفارض عشر سنوات ليس إلا، ولم يكن فى تلك السن قد سافر إلى بلاد العرب حسبما قيل، ودعنا من أن الرواية تصور ابن الفارض وكأنه هو الأكبر سنا والجدير من ثَمَّ بأن يُقْبِل عليه السهروردى ويتطلع لرؤيته، مما يعد عكسًا للآية، إذ السهروردى هو الأكبر سنا، وإن كان ولد ابن الفارض قد جعل تلك الواقعة فى سنة 628هـ بما يفيد أن السهروردى كان لا يزال على قيد الحياة أوانئذ، وهذا خطأ محض، إذ قُتِل السهروردى فى عهد صلاح الدين الأيوبى، الذى مات سنة 589هـ، فكيف تُوضَع زيارته للكعبة بعد موت صلاح الدين بنحو أربعين عاما؟ واضح أن الاضطراب واللامنطق يحيطان بكل ما يتعلق بذهاب ابن الفارض إلى الحجاز (انظرمقدمة شرح ديوان ابن الفارض للبورينى والنابلسى/ 1/ 10- 11). وبالمناسبة فمن الطبيعى ألا يكتب السهروردى شيئا عن هذا اللقاء المزعوم. ببساطة لأنه لم يحدث، ولا يمكن أن يكون قد حدث كما رأينا بأنفسنا. ثم بالله عليك هل يمكنك، أيها القارئ، أن تصدق أن ابن الفارض قد مكث فى وادٍ وحده مع الوحش لا يعاشر إنسيا لمدة خمس عشرة سنة؟ وهل تصدق أنه كان يذهب إلى المسجد الحرام فى اليوم خمس مرات ليصلى رغم أن المسافة التى كانت تفصل بين ذلك الوادى وبين مكة تسغرق عشرة أيام للمسافر المجد كما قيل؟ لاحظ الغموض المتعمد حول تلك السفرة إلى مكة والإقامة فى بلاد العرب. ترى أين كان الرجل طوال تلك السنوات الخمس عشرة؟ وماذا كان يفعل أثناءها؟ ومع من كان يعيش؟ ولماذا هذا التعتيم عليه خلال تلك الفترة؟
وعودة إلى سمات أسلوبه الشعرى نقول إن هناك أيضا تسهيل الهمزة أو زيادتها. وهى سمة لاحظتها فى شعر الحلاج من قبل على ما مر بيانه:
واقْرِ السَــــــــلامَ عُـــرَيْبَ ذَيّاكَ اللِّوَى
*
فَهُمُو هُمُو صَـدُّوا دَنَوْا وَصَلُوا جَفَوْا
*
وهُــــــــمُّ بِقَلبِي إِن تَنــــاءَت دارُهُـــــم
وَعَلــــــى مَحَلّـــِي بَينَ ظَــهْــــــرانيهِمو
*
واقْرِ السّــــــــلامَ أُهَيْلَهُ عَنِّي، وقُــلْ:
مَــــــــنْ تَمَنّــــــــى مالاً وحُسْنَ مـآلٍ
...
قـــــد سَكَنْتُمْ مـــــــنَ الفُــؤادِ سُوَيْدَا
*
فالمَــــطْلُ منكَ لــــدَيّ إنْ عزّ الوَفَـــا
...
ولــقــــد أَقـــــولُ لِمَنْ تحَرّشَ بالهوى:
...
فلَعَلّ نارَ جــــــوانحـــــــي بهُبُوبِــــهـــا
...
صفاءٌ ولا ماءٌ، ولُـــطْفٌ ولا هَــــوًا
...
عُـــــودوا لِـمــا كُنْتُــــم عليه من الوَفَا
*
وفـــوْقَ لِواء الجـــيشِ لــو رُقِمَ اسمُها
*
قُــل: ترَكْتُ الـــصّبّ فيكـــُم شبَحًا
...
أيُّ شـــيء مُبْــــــــرِدٌ حَــــرًّا شَــــــوَى
...
رَجَعَ اللاّحــــــي عليـــــــــــــكُمْ آئِسًا
...
فهَبُـــــــوا عَينيّ ما أجـــــــــدى البُكَا
...
فالقَضــــَا ما بينَ سُخْطِي والرّضــى
*
فــــــــإنِ استَغْنَيْتَ عــــن عِزّ البَــــقَا
...
إن تَشَيْ راضيــــةً قَتْـــــلي جَـــــــــوًى
...
خَفّفِي الوَطْءَ، فـــفي الخيْف، سَلِمْـ
*

*


*




*









*

*









*


مِــــــــن مُغـــــــرَمٍ دَنِفٍ كئيبٍ نائي
*
غَدَرُوا وَفَوْا هَجَرُوا رَثوْا لِضَنائِي
*
عَنِّي وَسُخطـي في الهَـوَى وَرِضائي
بِالأَخشَبَيْنِ أَطــوفُ حَولَ حِمائي
*
غـــادرْتُهُ لِجَنــــابِكُمْ مُلْتــــاحـــــــا
فَمُنائي مِنًـــى وأقصــى مُــــــرادي

هُ ومــــــــنْ مُقْلَـــتي ســــواءَ السّوادِ
*
يحــلو كوَصْلٍ من حبيبٍ مُسْعِفِ

عَرَّضْتَ نفسَكَ للبَلا فاستـهدفِ

أن تنطَـــفي، وأوَدّ أن لا تنـــطَفِي

ونُورٌ ولا نـــارٌ، ورُوحٌ ولا جِسْــمُ

كَــــرَمًا، فإنّي ذَلِكَ الخِــــلّ الـــــوَفي
*
لأسـكَرَ مَنْ تحتَ اللِّوا ذلك الرَّقْمُ
*
مـــــا لهُ ممّا بَـــــــــراهُ الشّـــــوقُ فَيّْ

لِلشَّوَى حَشْوَ حَشَائي؟ أيُّ شَيّْ؟

مِنْ رشادي، وكذاكَ العِشْقُ غَيّْ

عَـــينَ مـــــاءٍ، فَهْيَ إحدى مُنيَتَيّْ

مَـــنْ لهُ أُقْــصِ قَضَى أوْ أُدْنِ حَيّْ
*
فإلى وَصْـــلي ببذلِ النفـــسِ حَيّْ

في الهَـوى حَسبي افتخارًا أن تَشَيْ

ـــــــــتِ، على غَيْرِ فـــؤادٍ لم تَطَيْ
كذلك نجد ابن الفارض يكرر أنه يرى بسمعه:
يَراها على بُعْــدٍ عَنِ العَيْنِ مسمَعي
*
رأى رجبًا سمْعِي الأبيَّ ولَوْمـــيَ الــ
*
يُدْني الحبيـــــــبَ، وإن تنــــاءتْ دارُه،
فكــأنّ عَـــــــذْلَكَ عِــيسُ مَن أحبَبْتُهُ
*
بَعْضي يَغـارُ عليكَ من بَعــــــضي ويَحْــــــ
ويوَدّ طَـــــرْفي إن ذُكِــــرْتَ بمَجــلسٍ
*
لأرى بعينِ السّمعِ شــــاهِـــدَ حُسْنِهِ
*

*


*


*
بطَيْفِ مَـــــــلامٍ زائرٍ حينَ يَقْظَـــتي
*
ـــمُحَرَّمَ عن لُؤْم وغِشّ النصيحـةِ
*
طَيْفُ المَلامِ لـطَرْفِ سمعي الساهرِ
قَدِمَتْ عَليَّ، وكانَ سَمْعِيَ ناظري
*
ــــسُدُ باطني، إذ أَنتَ فيه، ظـــاهري
لو عاد سَمعًا مُصغيًا لـِــمُسَامِري
*
مـــعنًى، فـــأتحِــفْني بذاكَ وشَرِّفِ
وثم سمة أخرى فى شعر ابن الفارض أشار إليها د. زكى مبارك هى تكرر إشارته، ككثير من الشعراء القدماء، إلى ضَنَى جسمه من فرط الصبابة:
خَفِيتُ ضَنًى حتى لقد ضـــلّ عــــائدي
ومــــــا عَثَرَتْ عَيْنٌ علـــــــى أَثَـــــري، ولم
*
وَقَـــــــــد بَرَّحَ التَّـــــــــــــــبريحُ بي وَأَبــادَني
فنادَمتُ في سُــكري النُحولَ مُراقِبي
ظَهَــــــرتُ لَهُ وَصفًا وَذاتي بِحَـــيثُ لا
فَأَبدَت وَلَــــــــم يَنطِق لِســـــــاني لِسمـــعِهِ
وظلَّت لِفكري أُذنُــــــهُ خَلَدًا بهــــــا
...
فَأَظهَـــــــــرني سُقمٌ بِهِ كُنتُ خـــافيًا
*
ويا جَسدي الـمُضْنَى، تَسَلَّ عنِ الشِّفــــا
ويا سَقَمــي، لا تُبقِ لي رَمَقًا، فقَـــدْ
ويا صِحَّتي، مـا كان من صحبتي انقضَى
ويا كلَّ ما أبقى الضَّنى منِّي، ارتحِلْ
*
يشِفّ عن الأســـرارِ جِسْمي من الضّنى
...
صحيحٌ عليلٌ فاطلبوني مِن الصَّبـــا
خَفِيتُ ضَنًى حتـــــى خَفِيتُ عــن الضّنى
ولم أَدْرِ من يدري مـكاني سوى الهوى
*
ما ثناني عنـــكَ الضّنَى فبمـــــــــاذا،

*







*




*





*
وكيف تَرَى العُــــــوّادُ من لا له ظِـــلُّ؟
تَدَعْ لِيَ رسمًا في الهـوى الأعينُ النُّجْلُ
*
وَأَبـــدى الضَّنى مِنِّي خَــــفِيَّ حَقيقَتِي
بجُملَةِ أَســراري وتَفصيـلِ سِيرَتِي
يَراها لِبِلـوى مِن جَوى الحُــبِّ أَبلَتِ
هَواجِسُ نَفْسـي سِرَّ ما عَنْـــهُ أخْفَتِ
يدورُ بِه عن رُؤْيَةِ العــــــينِ أغنَتِ

لَهُ وَالهَـــــوى يَأْتِي بِكُـــــلِّ غَـــريبَةِ
*
ويا كبِـــــــــــدي، مَــــن لي بأنْ تَتَفَتّتي؟
أبَيْتُ لبُقْيـــــــا الــــــعِزِّ ذُلَّ البَقِيَّـــةِ
ووصلُكِ في الأحشـــــــاء مَيْتًا كهِجرَةِ
فما لكَ مـــــأوًى في عِظامٍ رَميمَةِ
*
فيَغْدو بهــــــا معنًى نُحُـــــــولُ عظامي

ففيـــها كما شاء النّحولُ مُقـــامي
وعــــــــن بُرْءِ أسقامــــــي وبَرْدِ أُوَامـــــــي
وكِتْمان أســـــراري ورَعْي ذِمامـــي
*
يا مَلِيـــــــحُ، الـدّلالُ عني ثناكـــا؟
ويعانى شعر ابن الفارض فى قليل من قصائده من قلق القافية. وهذا راجع إلى أنه قد يلجأ إلى التقفية بحروف صعبة كالذال مثلا فلا يجد من الألفاظ التى تصلح قوافى إلا القليل، فيضطر إلى استعمال الـحُوشِىّ من الكلمات. كما أنه يطيل شعره دون داع قوى، وهذا يسد عليه أبواب القوافى فيضطر أيضا إلى التقفية بالـحُوشِىّ من الكلمات. كذلك فالموضوع الذى ينظم فيه محدود، وهو ذلك اللون من النسيب، الذى يقول مشايعوه إنه فى الحب الإلهى، فضلا عن شطحاته المفزعة التى سقنا بعض الشواهد عليها آنفا. ومن قوافيه الصعبة التى لا تسوغ فى الحلق ولا فى الأذن ولا فى الذهن: "الثّمَادِ، ملاّذا، بذّاذا، وقّاذا، بَنِى يزداذا، بغداذا، ألواذا، نبّاذا، مشتاذا، وِجَاذا، لم يَتَأَىّ، زَىّ، أُشَىّ، لم تُبَىّ، ذَىّ، خُبَىّ". كما أن بعض قوافيه فاترة نثرية للأسباب السابق ذكرها، مثل: "أفعالك الأثريةِ، بسرعةِ، فى مُدّةٍ مستطيلةِ، فى جموعٍ كثيرةِ، على كل هيئةِ، فى وَسْط لُجَّةِ، تحت ذلّ الهزيمةِ، بقفرةِ، بحالٍ فصيحةِ، غير ضعيفةِ، أداء فريضةِ، بالعصبيةِ، بالأشعّةِ... إلخ". ويعزو زكى مبارك لجوء ابن الفارض لمثل تلك القوافى الصعبة إلى حبه للإغراب ورغبته فى الإدلال على معاصريه بأنه يمتلك ناصية القوافى الشموس (انظر د. زكى مبارك/ التصوف فى الأدب والأخلاق/ 1/ 295- 296).
وهناك أشعار لابن الفارض تخلو من نفحة الشاعرية، وتكثر هذه النماذج فى المقطوعات القصيرة والنتف، وبخاصة تلك التى حوَّلها إلى ألغاز. ولا أدرى كيف رضى أن ينزل بفنه الشعرى إلى هذا الدرك المتهافت. كذلك يكثر فى التائية الكبرى الجفاف لأنها تتناول موضوعا صوفيا تناولا عقليا يخلو من الحرارة التى نجدها فى بعض أشعاره الأخرى. أما تألقه فيتجلى فى أشعاره التى يعبر فيها عن حبه، ولكن بشرط أن نتجاهل أنها فى الحب الإلهى، أو على الأقل: ألا نركز على هذا المعنى، وإلا رأيناها مسيئة. ولا أقول أكثر من ذلك، فقد بينت وجهة نظرى فى الأمر كله آنقا.
وهو فى هذه القصائد عادة ما يتحدث عن أهل الحجاز ذاكر مواضع فى بلاد العرب يسكنها أحبته أو يمر بها الرسول الذى حمّله رسائل الشوق الملتهبة إلى هؤلاء الأحبة. وفى هذه الأشعار نجده، ككل أشعاره، يتلاعب بمحسنات البديع تلاعبا حسنا فى كثير من الأحيان فتزيد الشعر جمالا فوق جمال، وإن لم يمنع هذا من أن تجىء تلك المحسنات فى بعض الأحيان الأخرى متخشبّة تفتقر إلى الرِّىّ والدفء والجمال، فنحس أن ابن الفارض حينئذ قد تحول إلى مدرّس يشرح مسألة عقلية. ومع هذا فإن التائية يظل لها شىء من الجاذبية، لكنها الجاذبية المرعبة، إذ نشعر وكأن ناظمها أمسك بإرزبة وراح ينهال بها على أم رأسنا بكلامه المتجاوز الذى يرى فيه نفسه وقد اتحد مع الذات الإلهية فأصبح هو هى، وأصبحت هى هو. إن هذا التجاوز هو الذى يشدنا غالبا فى القصيدة المذكورة، وهو الذى يجعل لها قيمة، وليس ما فيها من فن. وتعانى تلك القصيدة من بعض الغموض جراء العثكلة التى يُضْطَرّ ابن الفارض إلى الوقوع فيها بسبب موضوعها العقلى المتجاوز الذى يقتحم فيه الشاعر منطقة ممنوعة. وللأسف هناك من يشرح تلك القصيدة شرحا مفتعلا يحاول به التغطية عما فيها من تجاوزات.
وقد كتب السيوطى عن إبداع ابن الفارض الأدبى وأسلوبه فقال فى رسالته المسماة: "قَمْع الـمُعَارض فى نُصْرَة ابن الفارض"، وهى الرسالة التى يرد فيها على من يتهم ابن الفارض فى دينه: "وأما محله من الأدب فكانت النكت الأدبية تَنْسِل إليه إذا نَظَم من كل حَدَبٍ. انظر إلى شِعْره تجده دالاًّ على تبحُّره فى حفظ اللغات وجمعه منها للشتات، وأما الجناسات وأنواع البديع فكَمَرّ السَّيْل، وكَجَرّ الذيل: روضٌ مُفَوَّف، وطباعٌ قَطُّ ما تكلف. وما زالت الأعلام وغيرهم يلحظونه بعين التعظيم، ويحلونه محل التبجيل والتكريم". ويرى د. عمر فروخ أن "شعر ابن الفارض ينوء بضعفٍ كثيرٍ من التكرار والغموض والتخلخل، ومن الإسراف فى الصناعة المعنوية والصناعة اللفظية"، لكنه مع ذلك "شعر عذب أنيق فى أكثر الأحيان، والرمز فيه غاية فى البراعة وحسن الإشارة" كما يقول هو نفسه (د. عمر فروخ/ ط5/ دار العلم للملايين/ تاريخ الأدب العربى/ بيروت/ 1989م/ 3/ 521)، وإن عاد فى موضع آخر من الكتاب فقال عن التائية الكبرى لابن الفارض إن "المعانى الصوفية فيها عميقة معقدة، وقلما يفيد شرحها اللغوى والبيانى توضيحا لمداركها الصوفية"، بما يعنى أن الرمز، فيها على الأقل، ليس بالبراعة ولا حسن الإشارة التى أكدها من قبل. ويُعَدّ ابن الفارض، فى رأى كاتب مادة "الأدب العربى" بالنسخة الفرنسية من موسوعة إنكارتا (ط2009م)، أكبر شاعر صوفى "considéré comme le plus grand poète soufi". وبالمثل نقرأ فى مادة "ابن الفارض" فى طبعة 2010م من "الموسوعة البريطانية" أن ابن الفارض يعد أرقّ شاعر صوفى فى الأدب العربى: " Arab poet whose expression of Sufi mysticism is regarded as the finest in the Arabic language"، وأنه رغم ما فى شعره من تصنّع ومحسنات بديعية وصور تقليدية فإن فى قصائده مقاطع تتسم بجمال أخاذ وإحساس دينى عميق: "Although Ibn al-Fāriḍ's poetry is mannered in style, with rhetorical embellishments and conventional imagery, his poems contain passages of striking beauty and deep religious feeling". وفى المادة المناظرة من "موسوعة الأدب العربى: " (تحرير Julie Scott Meisami and Paul Starkey) يكتب J. S. Meisamiمشيرا إلى توظيف ابن الفارض للصور التقليدية المعروفة فى شعر الخمر والغزل واستعانته بالمحسنات البلاغية التى كانت طابع ذلك العصر فى التعبير عن المرموزات الصوفية: "In his poems he employs the traditional imagery of bacchic and erotic poetry, and the complex rhetorical devices characteristic of his age, to express mystical allegory".
ويطبع قصائد ابن الفارض وحدة الموضوع والغرض، فشعره كله تقريبا فى الغزل، وهو الغزل الإلهى حسبما يقول المعجبون بشعره، فلا تجد فى القصيدة كلاما عن أى موضوع آخر. وكثيرا ما يتحدث عن الرسول أو الحادى الذى يقود زمام القافلة ويوصيه أن يوصل سلامه إلى أحبته وأن يشرح لهم حاله فى الهوى وما يعانيه جَرّاء هجرانهم له. وفى تلك الأثناء يذكر أسماء المواضع التى يتوقع أن يمر بها الحادى أو الرسول ويلتمس منه أن يفعل كذا أو كذا لدن مروره بهذا الموضع أو ذاك. وهو فى معظم شعره هذا حريص على إظهار تدلهه فى هوى المحبوبة والتعبير عن رضاه بكل شىء يقع عليه منها وتذكيرها بليالى الوصل القديمة التى انقضت وبدأت بانقضائها آلامه المبرحة. وكثيرا ما يعكف على مشاعره ورؤاه مفصّلا القول فيها، فضلا عن محاولته فى بعض القصائد إقناع القارئ بأنه لم يعد هو هو، فقد اتحد بالذات الإلهية وصار الاثنان شيئا واحدا كما مر بيانه. وهذا الاتحاد قد دانه عدد من علماء المسلمين مثل ابن تيمية وابن خلدون والذهبى والبلقينى وابن حجر العسقلانى وبرهان الدين البقاعى وصالح بن مهدى المقبلى وغيرهم، وإن كان هناك من دافع عن ابن الفارض وبرّأه من هذا وأثنى عليه كزكريا بن محمد الأنصارى وجلال الدين السيوطى وعبد الوهاب الشعرانى رغم أن التأويلات التى تأولوا بها أشعاره لتحسين سمعته لا تقنع أحدا (انظر، فى مناقشة هذه القضية بشىء من التفصيل، الفصل الرابع من كتاب د. محمد مصطفى حلمى: "ابن الفارض والحب الإلهى"/ ط2/ دار المعارف/ 1985م/ 111- 135، وعنوانه: "ابن الفارض بين خصومه وأنصاره").