المقارنة بين قصة سلكيرك البحار الأسكتلندى الذى عاش وحيدا على جزيرة فى المحيط الأطلسى أربع سنوات وبين رواية روبنسون كروسو
إبراهيم عوض

ثمة اعتقاد متداول بين كثير من الباحثين مؤداه أن ديفو قد اعتمد فى روايته: "روبنسون كروسو" على حادثة حقيقية مشهورة وقعت قبلها بوقت غير طويل لبحار أسكتلندى يدعى: ألكسندر سلكيرك. بل لقد اتُّخِذ هذا الاعتقاد فرصة لتوجيه اتهام لديفو بالسطو على ما كتبه ذلك البحار الأسكتلندى الذى وقع له مثل ما وقع لبطل ديفو. وفى هذا السياق ينبغى الإشارة إلى مقال للدكتور نجم عبد الكريم بعنوان "روبنسون كروسو: سرقة أدبية فى سياق المغامرة!" نشرته صحيفة "الشرق الأوسط" العربية اللندنية بتاريخ الاثنيـن 11 اكتوبر 2004م جاء فيه: "ينسب الكثير من النقاد العرب أن رائعة الكاتب الإنجليزى دانييل ديفو: "مغامرات روبنسون كروسو" إنما هى مأخوذة من تراث عربى، واعتبروها عبارة عن سطوٍ أدبى على قصة ابن طفيل: "حى بن يقظان". وهناك من يقارن بين أحداثها وبين رحلات السندباد. وفيهم من نسب مغامرات روبنسون كروسو إلى تأثرها ببعض الرحالة من العرب! ومما لا شك فيه أن الأعمال الأدبية العظيمة لا تنبع من فراغ، ولا يلزم أن يخوض الكاتب تجربة أبطال روايته أو مسرحيته، فهناك دائما مؤثرات خارجية تدفع بالعمل الإبداعى إلى البروز وفقا لمدى قدرات وإبداعات ذلك الكاتب فى تصويرها.
لكن السيدة سلكيرك التى التقيتها مصادفة فى مناسبة اجتماعية بمدينة مارلو الإنجليزية تزعم بعكس ذلك تماما. فهى ترى أن دانييل ديفو مؤلف رواية "مغامرات روبنسون كروسو" ما هو إلا كاتب أفّاق وسارق لأفكار غيره، وكان جزاؤه أن مات فقيرا عندما دُفِن فى مقابر الفقراء. وتزعم السيدة سلكيرك أنها تحتفظ بالأدلة الأكيدة على حقيقة شخصية روبنسون كروسو لأنه جدها الرابع، واسمه "ألكسندر سلكيرك". والسيدة سلكيرك هذه قد تجاوزت العقد الثامن عمرها، لكنها تتمتع بذهنية متوقدة، وتتحدث بحماس عن جدها، الذى تعتبره الأب الحقيقى لرواية "مغامرات روبنسون كروسو".
عندما علمتْ بأننى من المهتمين بالكتابة والنقد وجهت إلى سؤالا عما هو مضمون رواية "مغامرات روبنسون كروسو"، فأجبتها أنها تروى عن ملاح بريطانى (روبنسون كروسو) تحطمت السفينة التى كان يعمل عليها فى وسط المحيط الهادى، لكنه تمكن من التشبث بقطعة كبيرة من الخشب ليتخذ منها طوّافة تقيه الغرق، إلى أن تقذف به الأمواج على شواطئ جزيرة لم تطأها مِنْ قَبْلُ قدمي إنسان، فيجد نفسه مضطرا للتعايش مع الحياة الجديدة فى تلك الجزيرة مع الحيوانات والطيور. وتمر الأيام، ويجد كروسو نفسه ما إن يخرج من مغامرة مثيرة حتى يدخل فى مغامرة أكثر منها إثارة. وقد اتخذ لنفسه عددًا من الأصدقاء هم عبارة عن ببغاء وقرد وعنزة. وقد صوّر ديفو حياة كروسو فى تلك الجزيرة بشكل رائع وشيّق ، إلى أن تنقذه سفينة عابرة وتعيده إلى المدينة.
بعد أن لخصتُ رواية "مغامرات روبنسون كروسو" للسيدة سلكيرك أضفتُ أن هذه الرواية ضربت رقما قياسيا فى الترجمة عن الإنجليزية إلى اللغات الأخرى. فأنا مثلا قرأتها باللغة العربية، كما قرأها الملايين من الناس بلغاتهم المختلفة. قالت السيدة سلكيرك: ليس هذا فحسب، بل إنها تفوقت على أشهر كتابين ظهرا فى العصر الذى كُتِبَتْ فيه وهما: "ألف ليلة وليلة" المقبلة إلينا منكم يا عرب، و"دون كيشوت"، التى تُرْجِمَتْ إلى الإنجليزية عن الأسبانية، وهى لسيرفانتس. فأجبتها: ولعلمك، إنك لست الوحيدة ممن يزعمون بسَطْو دانييل ديفو على أحداث روبنسون كروسو. والبعض منهم لديه مقارنات يدلل بها على ذلك السطو، فما هو دليلك على أن مؤلف روبنسون كروسو قد سطا على تراث جدك ألكسندر سلكيرك، الذى لم يسمع به أحد من قبل?
ظهر الانزعاج على ملامح السيدة، وقالت بعصبية: "جدى وُلِد فى قرية لارجو الأسكتلندية عام 1676 ، وهو يعرف ديفو، وكانا يلتقيان فى حانة واحدة فى السنوات الأولى من القرن السابع عشر. وكان جميع الناس يعرفون تلك المغامرة والتجربة التى مرّ بها جدى سلكيرك. وكان ديفو يسمعها منه لعدة أشهر ويدوّن بعض أحداثها. ولكنه قد زيّف الكثير مما جاء فيها من أحداث". ثم أخذت تروى قصة جدها، الذى كان يعمل بحارا فى سفينة تجارية كان ربانها شديد القسوة على بحارته. وقد بلغت قسوته أن قام بشنق ثلاثة من الرجال أمام زملائهم فى وسط البحر، وألقى بجثثهم فى المياه فى أثناء رحلة لأميركا الجنوبية. ولم يكن أمام البحارة، وهم يقاسون من عذابات الربان، سوى التمرد والثورة التى دفعت بهم إلى الفتك بالربان ومساعديه، وفروا بالسفينة يجوبون بحار الجنوب، بينما كانت السفن البريطانية تطاردهم. فاتفق ألكسندر سلكيرك (الجد الرابع للسيدة التى تروى الحكاية) مع زميل له على الفرار من السفينة، ونفذا خطتهما فى جوف الليل بعد أن قاما بسرقة قاربٍ صغيرٍ انطلقا به على غير اتجاه إلى أن قذفت بهما الأمواج على شواطئ جزيرة ذات طبيعة أخاذة مليئة بالطيور والحيوانات الأليفة، لأنها (أى الحيوانات) كانت تقف أمامهما ولا تنطلق هاربة خائفة منهما، وهذا يدل على أن الجزيرة لم تطأها أقدام بشرية من قبل!
وفى اليوم الثانى لوجودهما فى الجزيرة مات زميل ألكسندر سلكيرك لأنه تناول فراولة مسمومة. وظل ألكسندر يعيش فى الجزيرة بمفرده بعد أن هيأ لنفسه أجواء تسمح له بالعيش فيها طيلة حياته. ومما عُثِر عليه فى أوراقه عن وصفه لتلك الجزيرة، كما تقول حفيدته، أنها "جنة الله فى الأرض، فكافة أنواع الفواكه والأطعمة موفورة فيها بكثرة، ومياه غدرانها عذبة كالشهد. وكنت أصطاد فيها الغزلان والدِّيَكة البرية، وإذا رغبتُ فى شرب شيء من اللبن فما ألذه من ضَرْعَى مارى، تلك العنزة التى كانت تتبعنى أينما أذهب". وقد بنى سلكيرك كوخا من عيدان الخيزران وأوراق الشجر العريضة .
وقد استرسلت السيدة فى وصف تلك الجزيرة على ضوء قراءتها للأوراق التى خلّفها لها جدها. ومن أطرف ما قالت فى هذا الصدد: إن القطط والكلاب لم تكن بينها تلك العداوة التى نعرفها عنها فى معيشتها بين ظَهْرَانَيْنا! فالحيوانات فى تلك الجزيرة الساحرة كانت تعيش فى سلام ومحبة (والكلام ما زال للسيدة سلكيرك): ومما ذكره جدّى فى أوراقه: "كنت أشاهد الحيوانات كيف تقضى وقتها باللعب معا: فالفئران كانت تركب على ظهر القطط، والقطط تتسابق مع الكلاب، وكثيرا ما كنت أجدها تنظف جلود بعضها البعض بألسنتها. ولم يحدث أن وجدت عداء بين أى من الحيوانات التى تعيش على يابسة تلك الجزيرة".
ولكن الذى حفز ألكسندر سلكيرك للعودة إلى المدينة هو عثوره على مجرى للتبر أخذ يجمع منه ما يستطيع جمعه، وعبَّأه بأكياس جلدية صنعها من جلود الحيوانات. وحَزَرَ أن هذه الثروة ستمكنه من العيش برغد فى حالة عودته إلى العالم المتحضر، فصار يجمع الحطب والأخشاب بكميات كبيرة، ويُضْرِم فيها النار ليتصاعد منها الدخان الذى يلفت إليه انتباه السفن البعيدة. وبعد محاولات متعددة أثمرت خطته أن سفينة ديوك قد اقتربت من تلك الجزيرة. وكان ذلك فى عام 1659. وما إن تمكن من الصعود إليها حتى علم من البحارة أن الملكة اليزابيث قد أصدرت عفوا شاملا عن جميع البحارة الملاحَقين من الانجليز احتفالا بانتصار بريطانيا على الأسطول الأسباني. فوصل ألكسندر سلكيرك حاملا أكياس التبر التى كوّن منها ثروة طائلة.
وقد وعدتنى السيدة سلكيرك بأن تزودنى بنسخ من الصور الأصلية للأوراق التى كتبها جدها ألكسندر سلكيرك، الذى توفى عام 1723 من دون أن يعرفه أحد، بينما دوت شهرة دانييل ديفو فى كافة أنحاء العالم، و"أصبح من أشهر المؤلفين فى التاريخ، بينما هو ليس سوى سارق لقصة جدي" على حد تعبير السيدة، التى راجَعْتُ معها تفاصيل ما أوردته من معلومات فى هذه المقالة، فوافقتْ على ما جاء فيها، مع بعض التعديلات التى أشارت إلى بها. ولكن أين هى الحقيقة?! الحقيقة أن مغامرات كروسو صارت أكبر من كل الادعاءات!".
وفى كتاب "The Life and Adventures of Alexander Selkirk Containing the Real Incidents upon Which the Romance of Robinson Crusoe Is Founded…" لجون هاول (John Howell) نجده فى السطور الأولى من المقدمة يقرر أن روبنسون كروسو هو ثمرة خيال كاتب مبدع أعاد تقديم ما وقع لأحد البحارة البريطانيين فى جزيرة خوان فرنانديز، التى عاش عليها وحيدا لأكثر من أربع سنوات، بعد أن زوَّق تلك الأحداث. والعنوان ذاته يقول هذا بعبارة صريحة لا تحتمل لبسا ولا تأويلا. بل إننا لنقرأ بعيد ذلك أنه قد أعيد تقديم سلكيرك باسم روبنسن كروسو، ذلك الاسم الذى استولى على اهتمام الناس . وقد عاد هاول بعد عدة صفحات إلى تأكيد هذا الأمر قائلا إن دانييل ديفو قد استوحى الفكرة من سلكيرك، إلا أن تفاصيل الأحداث والأوصاف من إبداعه هو. كما مضى فدفع عنه الاتهام الذى وجهه البعض ضده بأنه إنما سرق ما كتبه سلكيرك، مستشهدا على ذلك بأحد المؤلفين الذين كتبوا عن ديفو وبينوا أنه كاتب مبدع، وليس لصا استولى على إنجازات الآخرين . بل لقد تطرق إلى حديث الكابتن إدوارد كوك فى أحد كتبه عن البحار الأسكتلندى وإشارته فى اشمئزاز إلى أن بعض الناس يخلطون الحقائق بالخيالات ويمكنهم أن يفتنوا عقول القراء العوام بتلك التفاهات، وتأكيده أنه سوف يلتزم بما وقع فعلا لسلكيرك دون أن يضيف إليه أى شىء من عنده. وفى أثناء ذلك نرى كوك يقلل من شأن سلكيرك، ملمحا إلى أن كل همه كان ينحصر فى مجرد البقاء على قيد الحياة فوق الجزيرة وأنه ما من أحد كان يمكنه التحدث إليه هناك غير الجِدَاء، وأن ديفو لم يكتب روايته إلا بعد مرور سبع سنوات كاملات على حديث الصحافة عن سلكيرك ومغامرته، وأنه لا يمكن توجيه أى اتهام له بالخداع وعدم الشرف . يريد أن يقول إن ما تركه سلكيرك عن تلك المغامرة لا قيمة له من الناحية الفكرية أو الأدبية وأن ديفو ليس مدينا لسلكيرك بروايته عن روبنسون كروسو، وهو ما رأينا حفيدته البعيدة تقول عكسه تماما، إذ تتهم ديفو بسرقة ما قاله جدها البعيد الذى تذكر فى حزن وألم كيف أنه مات مجهولا فى حين صار ديفو أشهر من نار على علم.
وقبل الدخول فى المقارنة بين الحكايتين نذكر نبذة عن سلكيرك وعن الجزيرة التى عاش فيها على مدى عشرات الشهور وحيدا دون أنيس من بنى الإنسان، فنقول إن ألكسندر سلكيرك (1676- 1721م) رجل أسكتلندى عاش وحيدا بجزيرة معزولة من جزر شيلى بأمريكا الجنوبية كانت له فيها تجربة مثيرة. فعندما كان يعبر البحار الجنوبية عام 1704م فى حملة للقرصنة البحرية تشاجر مع قبطان السفينة، وبناءً على طلبه تُرِك فى إحدى جزر خوان فرنانديز على بعد حوالى 640 كم غرب تشيلى حيث عاش وحيدًا لمدة 52 شهرًا إلى أن أنقذه القبطان وودز روجرز. وقد سجل القبطان تجارب سلكيرك فى كتابه: "رحلة ممتعة حول العالم"، كما وصفها القبطان إدوارد كوك فى كتابيه: "رحلة إلى البحار الجنوبية" و"حول العالم". أما اسم رواية ديفو فمأخوذ من اسم إحدى الجزر التابعة لأرخبيل خوان فرنانديز، الذى يتبع دولة تشيلى، وهى: روبنسون كروسو، وسانتا كلارا، وأليجاندرو سلكيرك. ويعيش نحو 400 نسمة من المتحدثين بالأسبانية فى جزيرة كروسو، التى اشتهرت باعتبارها الجزيرة التى عاش فيها المنبوذ ألكسندر سلكيرك وحيدًا لأكثر من أربع سنوات (1704 - 1709م). وكان الرحالة الأسبانى خوان فرنانديز أول من اكتشف هذه الجزر عام 1563م.
وفى المقارنة بين القصتين نقول إن روبنسون كروسو، حسبما جاء فى رواية دانييل ديفو عام 1632م، قد ولد فى مدينة يورك الإنجليزية لأب تاجر ثرى ذى مال ومن أسرة ذات شأن (ترجمة البستانى لـ"روبنسون كروسو"/ ص1)، بينما ولد سلكيرك عام 1676م فى مدينة لارجو الأسكتلندية لأبٍ حذّاء صابغِ جلود. وكان السابع بين إخوته، على حين كان كروسو ثالث أبناء والديه، وكان له أخوان وأختان. وفى الوقت الذى كان سلوك سلكيرك عدوانيا شرسا داخل البيت وخارجه كان كروسو شابا عاديا لا يثير المشاكل فى علاقته بالآخرين، وإن كان ناشف الدماغ فلم يستمع لنصائح والديه ولا رغبتهما فى أن يظل قريبا منهما ينعم بالرزق المضمون فى بلاده وبيته بعيدا عن الأخطار ومشاكل الحياة وغدرات البحار. بل لقد رُفِعَتْ دعوى ضد سلكيرك، لكنه وقت نظرها فى المحكمة كان على متن إحدى السفن يجوب البحار بعيدا عن بلاده. أما كروسو فقد ترك البلاد وركب إحدى السفن ركوب أى إنسان آخر لا توجد دعاوى ضده فى المحاكم.
كذلك فأُمُّ ألسكندر سلكيرك هى التى كانت تشجعه على تجريب حظه فى البحر وتغريه بالبحث عن رزقه عن طريق العمل بحّارا، متنبئة بأن أحداثا عظيمة سوف تقع له (PP. 7- 8) على العكس من أبيه، الذى كان يريده أن يبقى معه ليرث عنه مهنته مثل إخوته الكبار والذى هدده بأنه إذا لم يُصِخْ لنصيحته فسوف يحرمه من الميراث ، بينما وقفت أم روبنسون كروسو، وأبوه أيضا، ضد فكرة تركه البلاد أصلا. وقد نصحه أبوه كثيرا، ولما لم ينتصح توقع له، إن لم نقل: تنبأ، بأنه سوف يواجه المتاعب والمصائب. بل إن كروسو، فى كل مرة يقع فى مصيبة، كان يتذكر على الفور نصائح أبيه ويتندم على أنه لم يستجب لتلك النصائح ويبق فى بلده حيث يعمل ويجتهد ويعيش عيشة مرتاحة آمنة مطمئنة دون أن يقاسى ما قاساه مما لم يمر به إنسان تقريبا، وهو العيش وحيدا أكثر من ثمانية وعشرين عاما فى جزيرة مهجورة لا يؤنس وحشته فيها أحد من بنى الإنسان، إلى أن كتبت له المقادير النجاة من هذا المصير العجيب (ترجمة البستانى/ 1 وما بعدها). وبدأت عودته فى 19 ديسمبر عام 1686م، ووصل إلى لندن فى 1687م بعد أن غاب عنها خمسا وستين سنة. أما سلكيرك فلم يقض فوق جزيرته المهجورة سوى أربع سنوات وأربعة أشهر تقريبا.
وهنا أحب أن أشير إلى ما كتبه الكابتن إدوارد كوك من أن سلكيرك ليس هو أول شخص يعيش وحيدا فوق جزيرة فردينانديز، بل سبقه إلى ذلك شخصان آخران، لكنهما لم يفكرا فى كتابة شىء عن تجربتهما هناك على عكس سلكيرك رغم أن ظروفهما كانت أصعب كثيرا ورغم أنهما لم يُبْتَلَيَا بالعيش فوق الجزيرة المشار إليها مرة واحدة بل عدة مرات . بل لقد كانت تجربة هذين الرجلين فى العيش وحيدين على جزيرة خوان فرنانديز المقفرة كما قصاها على زملائهما، ومنهم سلكيرك، سببا من أسباب اتخاذه قراره بمغادرة زملائه والبقاء وحيدا فى تلك الجزيرة . ليس ذلك فقط، بل نرى هاول يشير إلى أن سلكيرك لم يكن لديه شىء خاص يمكن أن يقصه على ديفو إن صح أنه قص عليه شيئا بالمرة، إذ كانت الصحف قد نشرت كل ما قاله سلكيرك عن مغامرته قبل ذلك بوقت طويل، وصار ملكية عامة يمكن أى شخص أن يستعملها . وهذا، كما هو واضح، يناقض ما قالته حفيدةُ سلكيرك العجوزُ للدكتور نجم عبد الكريم حسبما تقدم .
كذلك فإن سلكيرك هو الذى قرر، بناء على نزاعه مع رئيس مركبه وحلمه بأن سفينته التى كان يعمل عليها سوف تتحطم ويبتلعها اليَمُّ، أن يترك السفينة لاجئا إلى جزيرة مهجورة بملء حريته وإرادته، أما كروسو فقد غرقت السفينة التى كان يستقلها هو وزملاؤه وغرق بعدها القارب الذين أنزلوه منها وركبوه وسط الأمواج الهائلة المتلاطمة التى قلبته وقلبت منه ركابه جميعا ليغرقوا كلهم ما عدا كروسو، الذى كتبت له وحده النجاة حين حمله الموج، بعد معاناة لا تصدَّق وإشراف على الهلاك محقَّق، إلى جزيرة مقفرة قُدِّر له، بل عليه، أن يعيش فوقها سنوات وسنوات فى المحيط الأطلسى قريبا من البرازيل وجيانا (ترجمة البستانى/ 39- 45).
ولم يكن سلكيرك عبدا عند أحد بخلاف كروسو، الذى كان رقيقا يملكه رجل مسلم من المغرب، إذ كان قد أُسِر فى معركة بين سفينته وسفينة ذلك المغربى واقتيد إثرها إلى ميناء سلى المغربى حيث قضى بضع سنوات يخدم ذلك المغربى، إلى أن هرب منه فى قارب من قواربه هو وغلام آخر، وإن كانت الظروف قد فرقت بينهما بعد ذلك، إذ باعه كروسو فى الطريق لربان إنجليزى بستين جنيها، ليشتغل كروسو، بعد حوادث متنوعة، على سفينة غرقت بمن عليها، وقُدِّر له هو وحده النجاة والوصول إلى تلك الجزيرة الموحشة (ص15 وما يليها).
وبينما نعرف اسم الجزيرة التى لجأ إليها سلكيرك، وهى خوان فرنانديز، التى تقع فى المحيط الأطلسى قريبا من شيلى، فإن الجزيرة التى قضى كروسو على أرضها سنوات طويلة من حياته غير معروفة الاسم لا له ولا لأحد آخر طبقا للرواية التى ألفها دانييل ديفو. كذلك فإن سلكيرك قد شعر بالندم فور أن سمع ضربات مجاديف القارب الذى استقله زملاؤه مخلِّفيه وحده بالجزيرة، فى حين لم يكن هناك ندم من جانب كروسو على شىء مثل هذا إذ لم يختر البقاء فى الجزيرة وحيدا، بل على أنه لم يُصِخ إلى نصائح أبويه بالبقاء آمنا فى بلده والاشتغال بعمل هناك بدل عيشة الملاحين المفعمة بالأخطار والمتاعب.
ليس هذا فحسب، بل سرعان ما عدا سلكيرك إلى الماء خائضا فيه جراء ما شعر به من رعب حين تبين له، بعد لحظات الفرح الأولى بالحرية الموهومة والانعتاق من تحكم رئيسه، أن مصيرا رهيبا ينتظره فى تلك الجزيرة التى لا يسكنها بشر، مناديا زملاءه فى استعطاف حارّ أن يعودوا أدراجهم ليأخذوه معهم، بَيْدَ أنهم قد أعاروه آذانا صماء ساخرين منه ومن رعبه، ومَضَوْا فى طريقهم مبتعدين عنه تاركيه لقَدَره التعيس وقراره الذى اتخذه بنفسه حرا تام الحرية، وواعيا تام الوعى. بل لقد ظل وقتا يظن أنهم سوف يرجعون لأخذه معهم ولن تسمح ضمائرهم وعواطفهم بتركه وحيدا فوق الجزيرة الموحشة. كما ظل أياما لا يشعر باشتهاء الطعام ولا يفكر فى تناول شىء إلا حين يقرصه الجوع ويشعر أنه لا يمكنه الاستمرار فى إهمال الأكل (PP. 11- 13).
وكانت النتيجة أنه، رغم ما كانت الطبيعة تكتسى به فى فصل الربيع من ثياب فاتنة وترسله من أنفاس عاطرة رائعة، لم يكن يلتفت إلى شىء من جمالها الآسر الفتان لما كان ينغص قلبه من الشعور بالوحشة والندم واليأس والبؤس (P. 14). ورغم اعتدال الجو فى تلك الجزيرة كان الثلج يسقط أحيانا فى الشتاء، وقد تكتسى الأرض بطبقة من الجليد (P. 15)، على عكس جزيرة كروسو، التى لم تكن تعرف الثلوج ولا جاء ذكرها على لسانه قط هناك، مع وجود الجو المعتدل نفسه رغم هطول الأمطار خلال فصلين من فصول السنة الأربعة. وقد ظل سلكيرك بلا مأوى إلى أن حل الشتاء ففكر عند ذاك فى بناء كوخ يلجأ إليه، فبنى كوخين من خشب أشجار الغابة وسقَّفهما بقَشٍّ حصل عليه من بعض النباتات: أحدهما للنوم والعبادة، والآخر للطبخ والطعام. وقد استعمل أولا الملابس التى كانت معه حين تخلف عن رفاقه إلى أن بليت، فصنع لنفسه ملابس من جلود المعز. وقد أخذ الأمر منه ثمانية عشر شهرا قبل أن يشعر قلبه بنعمة العزاء والسكينة. وكان يؤدى طقوس دينه الأسبوعية فى كوخه. كما استطاع أن يميز الأيام والتواريخ مثلما جعل ديفو روبنسون كروسو يفعل. وفى الوقت الذى كان على كروسو أن يصنع شموعه من شحم الجداء كان سلكيرك يتخذ شموعه من خشب إحدى الأشجار هناك بسبب صلابته وقوة النور الذى يصدر عنه حين يشتعل وصفائه، فضلا عن العطر الذى كان يسطع منه حينئذ. كما كان يأكل طعامه بدون ملح رغم أنه لم يسترح إلى ذلك فى البداية ثم تعود عليه وصار يستسيغ الطعام غير المملح (PP. 15- 16). وقد أشار هاول أيضا إلى موضوع الملح ونفوره من الطعام أول الأمر لخلوه منه ثم تعوده عليه فيما بعد .
أما كروسو فقد وفق إلى الحصول على الملح من البحر، وكان يضيفه دائما إلى طعامه، ثم لما أتت الأقدار إليه بجمعة الشاب الهندى وأصبح يأكل معه لم يستسغ ذلك الشاب الملح على الرغم من محاولة كروسو تغيير ذوقه وعاداته الطعامية. وفى الوقت الذى أصر كروسو على صنع الخبز ونجح فى صنعه بعد أن استنفد ما كان معه منه مما حصل عليه من السفينة المحطمة بعد مرور بعض الوقت، وجدنا سلكيرك يستغنى عنه بأوراق بعض الأشجار التى تؤكل، كما أكل الفجل والجرجير اللذين وجدهما هناك على شطوط الجداول المائية. أما اللحم فكان لحم الجداء والأسماك (P. 19). كما ذكر هاول أنه فى البداية كان، إذا قرصه الجوع، يأكل المحار الذى يجده وهو يتمشى على الشاطئ، وكذلك الفُقَم ، على حين كان كروسو فى رواية ديفو يأكل فى بدء أمره السلاحف وبيضها. أما فى حكاية سلكيرك فنسمع به وبرفاقه من القراصنة يصطادون السلاحف من الجزر التى يركنون إليها ويتخذونها طعاما شهيا .
وقد ذكر هاول أن سلكيرك فى البداية قد فكر مرارا أن يضع نهاية لشقائه ويأسه عن طريق الانتحار ، لكنه سرعان ما استعان بالعكوف على الكتاب المقدس يقرؤه ويـتأمل نصوصه مثلما كان يصنع كروسو أيضا، مما أراحه نفسيا وخفف من قلقه ويأسه ، وبخاصة أن جو الجزيرة كان صافيا بوجه عام، وصحته ممتازة، إلى جانب ما يشيع فى أرجاء المكان من خضرة ونسيم وعطور. لكن كانت هناك مشكلة الفيران، التى لم يذكر عنها كروسو فى روايته شيئا، تلك الفيران التى كانت تعض قدمى سلكيرك وغير قدميه أثناء نومه، فاستطاع أن يستأنس بعض القطط الوحشية بعد جهد مرهق كى تقف لها بالمرصاد، بل ونجح فى تعلميها الرقص وغيره من المهارات التى كان يتسلى بها وهى تؤديها أمامه فى أوقات فراغه الطويلة، وإن تحولت مع الأيام إلى سبب للقلق، إذ أخذ يفكر فيما سوف يحدث له حين يموت، فكان يتخيل القطط التى رباها واتخذ منها صديقا مؤنسا وهى تلتهم جثته جراء قلة الطعام بعد موته (PP. 20- 23). ولم تكن القطط هى وحدها التى عَلَّمَها الرقص، بل عَلَّمَه الجداءَ الصغارَ أيضا واتخذها كالقطط مسلاة له، إلى جانب حصوله منها على ما يحتاجه من ألبان ولحوم (P. 24). وقد ذكر هاول أن سلكيرك كان يصطاد عددا من الجداء الصغيرة ويربيها فى بيته حتى تكون له ذخرا حين يصعب عليه، بسبب المرض مثلا، اصطياد غيرها. إلى هنا ولا يوجد اختلاف بينه وبين كروسو، لكن هاول يضيف إلى هذا أنه كان يعقرها تبطئة منه لسرعتها، مع حرصه فى ذات الوقت ألا يكون العقر من الشدة بحيث يضر بصحتها .
أما فى حالة كروسو فقد استحال عدد كبير من القطط التى رباها فى بيته بالجزيرة شيئا مزعجا اضطره أن يطردها عنه بل ويقتلها حين كانت تأتى فتهاجم زراعته. كما كانت مسلاتُه الوحيدة هى طائر الببغاء، الذى أمسك به هناك وعلمه على مدى سنوات كيف ينطق اسمه ويردد العبارات التى يتلفظ بها أمامه فيقول مثلا: أين أنت يا روبنسون كروسو? مسكين أنت يا روبنسون كروسو!
وكان سلكيرك فى بداية أمره يحصل على الجداء بالبندقية، ثم لما نَفِدَ منه الرصاص اعتمد على العَدْو وراء أى جدى صغير نظرا لقلة سرعته، وسرعان ما يمسك به ويحمله إلى البيت، ثم استطاع مع الأيام اللحاق بالجداء الكبيرة الشديدة السرعة أيضا (P. 23). أما كروسو فكان يعتمد على البندقية، التى لم تَشْكُ طوال إقامته بالجزيرة نقصا فى طلقات الرصاص التى حصل على المزيد منها من سفينة جنحت ذات يوم قريبا من الجزيرة واستطاع الوصول إليها ووجد فيها ملابس وبنادق ومسدسات وصناديق وبعض الأطعمة والعملات المعدنية، كما اعتمد على حفر الحُفَر وتغطيتها أحيانا كى تكون مصايد لتلك الحيوانات.
أما الأشجار الموجودة فوق التلال فكانت غير غائصة الجذور لأن التربة كانت رقيقة، ومن ثم سرعان ما كانت تنخلع أو تنقلب، مما كان سببا فى أن مات بعض من كانوا يتسلقون تلك التلال ويمسكون بها لتساعدهم فى الصعود، أو يستندون إليها وهم جالسون فوق قمة التل، إذ كانت تنخلع فى أيديهم أو تخونهم وتأخذهم إلى الوادى حيث يتحطمون ويموتون. بل كاد سلكيرك نفسه أن يفقد حياته لنفس السبب ذات يوم حين كان يطارد جديا فوق تل منها، لكن الله سلم فلم يمت بل أصيب بالرضوض والخدوش وأغمى عليه فقط لدن وقوعه من قمة التل فوق الجدى، الذى مات، فحماه جسمه اللين تحته من الهلاك. ولما أفاق بعد فترة قال بعضهم إنها يوم، وقال آخر إنها ثلاثة أيام، زحف على يديه ورجليه حتى وصل إلى كهفه الذى كان يبعد نحو ميل (PP. 24- 28). وبالمناسبة كانت هذه هى الحادثة الوحيدة التى وقعت له وأسقطته مريضا، على عكس روبنسون كروسو، الذى لم يذكر عند سرده أحداث حياته فى الجزيرة شيئا من هذا النوع، واقتصر كلامه على أنه أصيب مرة بالحمى بسبب الأمطار والبرد، وهو ما كان سببا فى أن يتوخى الحذر بعد ذلك فى أيام المطر فيلزم بيته إلى أن تكف السماء عن الهطول. أما أشجار جزيرة كروسو فكانت راسخة، فلم نسمعه يشكو شيئا كهذا، بل بالعكس كان يضطر أحيانا إلى أن يقطع ما كان قد زرعه من شجر حين يجده قد تكاثف واستطال وصار عبئا عليه وعلى المكان، كما كان يجد عنتا بالغا فى قطع ما يريد قطعه منها سواء للتخلص منه أو لصنع آلة يستخدمها فى أشغاله.
ولا شك أن اختفاء المرض من حياة كروسو على هذا النحو هو وضع غير طبيعى، إذ لا أتصور أن يعيش الإنسان ما يقرب من ثلاثين عاما، وفوق جزيرة مهجورة لا يساكنه فيها إنسان، دون أن يصاب بصداع أو إسهال أو إمساك أو تُرَضّ قدمه أو تجرح يده أو تؤلمه أسنانه أو تلتهب عيناه... إلخ إن كان للأمراض والأوجاع والآلام من آخر. وقد قرأت، وأنا بسبيل إعداد هذه الدراسة، عدة نصائح للخبير البريطانى بول هارت لمن تسوقهم أقدارهم إلى العيش على جزيرة مهجورة، إذ أول ما يجب أن يعيه الشخص فى هذه الحالة هو تجنبُ الإصابة ومعالجتُها إذا حدثت بأسرع الطرق الممكنة، ثم التأكد من تفادى أية إصابة أخرى مهما كانت بسيطة إذا ما استمرت محنة البقاء فى هذه الجزيرة . ولكن هل هذا ممكن? لا أظن. إنها، إن حدثت، لمعجزة تستعصى على التصديق.
كذلك حفر سلكيرك على جذوع الأشجار تاريخ مجيئه إلى الجزيرة والفترة التى قضاها حتى يوم الكتابة (P. 29)، وهو ما كان يفعله كروسو، ولكن على نحو أكثر انتظاما ومنهجية، إذ كان يحزّ كل يوم حزًّا فى جذع شجرة، ثم يحسب كل أسبوع وشهر وعام يمر عليه هناك، وإن جاءت عليه بعض أيام قليلة فاته بسبب المرض المذكور أن يقوم أثناءها بهذا العمل. وإذا كان كروسو قد دون يومياته على مدار عدة سنوات بالقلم على الورق إلى أن نَفِدَ منه الحبر والورق فإن سلكيرك لم يكن معه أى شىء يمكنه الكتابة عليه، ومن ثم لم يترك وراءه من المذكرات سوى ما كان يخطر له أن يحفره بطريقة بدائية وعابرة على جذوع الأشجار أملا منه فى أن يمر بالجزيرة يوما بحار فيعرف أنه كان ها هنا فوق الجزيرة شخص اسمه ألكسندر سلكيرك عاش وحده أعوما ثم مات ودفن فيها دون أن يبالى به أحد، وإن لم يبق من هذه الخربشات شىء بعد تركه الجزيرة (P. 29).
وهناك نقطة جديرة بالتوقف قليلا إزاءها، ألا وهى أن رواية روبنسون كروسو، وكذلك الفلم الذى قام عليها، لا يشيران إلى أن كروسو قد واجهته أية صعوبة فى الكلام عندما جاءه بعض البشر وتحدث معهم، وهو ما استغربتُه، إذ بدا لى الأمر غير واقعى، لأن من ينعزل فى مكان وحده طوال تلك السنين يفقد تدريجيا مقدرته على الكلام، على الأقل: الكلام السريع الواضح. وظلت هذه عندى نقطة ضعف فى رواية ديفو. ثم أكدها ما قاله بعض الباحثين من أن سلكيرك فى مثل تلك الظروف كان يجد فى بداية عودته إلى المجتمع البشرى صعوبة فى نطق الحروف كاملة أو بالسرعة المعتادة، وإن كان قد استعاد قدرته على الحديث العادى مع الأيام (PP. 28- 29) رغم قصر المدة التى قضاها وحيدا فوق جزيرة خوان فرنانديز بالنسبة إلى السنوات الطويلة التى أمضاها كروسو منعزلا عن البشر، ورغم أنه كان حريصا على أن يقرأ الكتاب المقدس بصوت عال حتى لا يفقد القدرة على الكلام . ذلك أن الكلام ممارسة، ومن لا يمارس الكلام فترة طويلة يصعب عليه استعادته عند الحاجة إليه. وأذكر أنى شاهدت فى بريطانيا حلقة عن رجل إنجليزى أقام فى فييتنام بعيدا عن أى شخص بريطانى أو حتى أوربى سنوات طوالا، فلما عاد إلى بريطانيا بعد كل تلك الأعوام كان نطقه صعبا وبطيئا رغم أنه لم يكن يعيش طوال الوقت منعزلا عن الناس. فما بالنا إذا كانت حالته كحالة روبنسون كروسو? ومثله الرقيب الأمريكى بوى برجدال، الذى أسرته طالبان فى أفغانستان سنة 2005م وظل فى حوزتها خمس سنوات، إذ حين أطلق سراحه بعد صفقة عقدتها أمريكا مع طالبان أفرجت بموجبها عن خمسة من معتقليها بجوانتانامو كان يعانى من صعوبة فى النطق بالإنجليزية. وقد ذكر أحدهم أن سلكيرك كان قد فقد المقدرة على النطق حين عُثِر عليه بعد الاثنين والخمسين شهرا التى قضاها هناك، لكنه قد استعاد تلك المقدرة مع الزمن .
كذلك لم أر كروسو يأتى على ذكر المرأة بتاتا وكأنه كان مجردا من الغريزة الجنسية. والعجيب أننى لم ألتفت إلى هذه النقطة حين قرأت الرواية فى أصلها الإنجليزى قبل نحو عشرين عاما ولا حينما عدت إليها هذه الأيام أطالعها فى ترجمة البستانى وأعيد النظر فى أصلها الإنجليزى كرة أخرى، اللهم إلا منذ عدة أيام حين أشرق الموضوع فى خاطرى بغتة وكأنه إلهام. ولا أدرى السبب فى هذا رغم أننى أعرف لتلك الغريزة أهميتها وخطورتها ووضعها من النفس والجسد البشريين. فكيف غفل عن معالجتها ديفو، وبخاصة أن بطل روايته قد أنفق من حياته كذا وعشرين سنة دون امرأة وهو فى عز الشباب والرجولة? ولا ينبغى أن يقال: ربما لم يكن لكروسو أرب فى النساء، إذ تذكر الرواية فى نهايتها أنه، حين رجع إلى وطنه، تزوج وأنجب، وكان موفقا فى حياته الزوجية. وبالمثل لا ينبغى أن يحتج أحد بأن المرأة كانت غائبة عن حياته فى الجزيرة، وبالتالى كان من الطبيعى ألا تخطر بباله. ذلك أن الغريزة النسائية ليست شيئا واردا من خارج، بل هى نبتة مغروسة فى أعماق النفس الإنسانية، فسواء كانت هناك امرأة أو لم تكن فإن الانشغال بها موجود فى كل حال.
إن الغريزة الجنسية، وإن لم تكن بالصورة التى صورها فرويد بحيث جعلها تقريبا كل شىء فى حياة البشر حتى فى فترة الرضاعة، لمن أعتى الغرائز وأعصاها على الترويض، وبخاصة عند الحرمان من الجنس الآخر وفقدان الأمل فى قضاء الوطر منه. ولا أستطيع أبدا أن أنسى قصة "مسحوق الهمس" (من مجموعة "النداهة") ليوسف إدريس وبطلها السجين الذى كان يظن أن الزنزانة التى انتقل إليها ملاصقة لمثلها فى سجن النساء، فكان يدق بيديه ثم بقدميه ثم بالدلو على الجدار الملاصق كى تسمعه النساء على الناحية الأخرى من الحائط مجرد سماع، فيشعر أنه قد نال شيئا منهن ولو فى الخيال. ولقد وصل الأمر معه إلى الحد الذى أخذ يستعمل كسرولة يضعها من ناحية قعرها على الحائط ثم يضع أذنه عند فتحتها متصورا أن هناك من تخاطبه على الناحية الأخرى وتبثه لواعجها ولهفتها وغرامها المتلظى من خلال الكسرولة هى أيضا، فيرد عليها بنفس اللهفة والاشتعال مستعملا الكسرولة لإرسال عواطفه مثلما يستقبل بها عواطف المرأة التى فى الزنزانة الملاصقة. وظل هكذا مخبولا بهذا الأمر أو يكاد حتى تبين له عند الإفراج عنه فى نهاية المطاف الطويل أنه لا زنزانة نسائية هناك على الناحية الأخرى ولا يحزنون.
ومما قاله بطل رواية إدريس فى هذا السياق مما يعطينا فكرة عن النار التى كانت تتلظى بأعماقه وتحرمه السكينة فور علمه بأن زنزانته ملاصقة لزنزانة نسائية بنفس السجن وأن أحد المساجين قبله قد استطاع يوما أن يثقب الزنزانة ويتسلل منها إلى هناك وينال كل ما يريد من جميع السجينات ومعهن الرقيبة المشرفة عليهن فوق البيعة، وهو ما دعا إدارة السجن أن تضاعف الجدار الفاصل بين العالمين وتبنيه من مادة لا يمكن اختراقها، وإن لم يكن لهذا أى تأثير عليه، إذ وضع فى عزمه أنه سوف يقدر على النفوذ من الجدار بوسيلة أو بأخرى: "أحسست وكأنما أرى بعينى الحياة تتدفق لدى ذكر النساء وعالمهن واستحضار المرأة فى ذهنى. غريزة وحشية مكتسحة كأمطار الصيف فوق خط الاستواء تنهال على سطح البحيرة الآسن الراكد البليد الذى أُلْتُ إليه بجسدى وأفكارى وأحلامى وانفعالاتى... ملايين من شحنات كهربية حية أحسست بها من منبع خفى فى جسدى تتفجر كالنهر الغاضب فى فيضانه يكتسح... كان باستطاعتى أن أثقب الجدران أو أهدها أو أحطم المعبد. قُوًى لم أعد أقوى على السيطرة عليها، فأصحبتْ حرة تستطيع أن تفعل ما تشاء: تُقْدِم على القتل أو تقتل حارس الليل...
لقد عرفتُ الحب أكثر من مرة، الحب المحموم المجنون الذى ينهش الصدر ويعتصر الروح، الحب الذى ينسيك مَنْ تكون وما كُنْتَه وما يجىء به الغد، الحب الذى مِنْ طينته خرجت قصص الغرام الكبرى، وجُنَّ قيس، وانتحر فرتر، وماتت جولييت. بعد الحديث القصير الذى تم بالأيدى (يقصد الدَّقَّ الذى كان يبعث به، والدَّقَّ الذى كان يخيَّل إليه أن امرأة على الناحية الأخرى من الجدار تبعث به إليه) أحسست وكأننى عثرت على سيدة عمرى، أحسست أن حبى الثالث، ذلك الذى لا يقاس بجواره أول أو ثان، ذلك الذى طالما حلمت به وخشيته، وطالما هفوت إليه وأرعبنى مجرد التفكير فيه، عرفت أنه، هكذا ودون كلمة أخرى، قد بدأ...
ومن همسها المسحوق راحت تتجسد لى، وكما يستطيعون فى الطب الشرعى أن يعيدوا صنع الإنسان بأكمله إذا عثروا على إصبع من أصابعه... استطعت من همسها المسحوق أن أراها وأقربها... إذ هى أقل منى طولا، وعيناها سوداوان غامقتا السواد، وعلى جانبى وجهها المستطيل ينهدل شعرها الأسود الناعم... اسمها حتما فردوس، وفى عروقها دم بدوى، وعلى ذقنها بالضبط فوق الغمازة وشم لا يتعدى ثلاث نقاط رمادية باهتة، وفمها ليس صغيرا كفم البنات، ولكنه ممتلئ مقلوب الشفة العليا، لا تملك لحافتها المشرعة إلى أعلى مقاومةً...". فهذه غريزة الجنس، فكيف تجاهلها كل من سلكيرك وكروسو عند حديثه عن حياته فوق الجزيرة كل تلك المدة، وكان كل منهما فى ذلك الحين شابا قويا مملوءا حيويةً وعُرَامًا وطاقةً، وكان فارغ البال من هموم تدبير المعيشة، إذ كان كل شىء من طعام وتسلية وراحة متاحا إلى حد بعيد، وبوفرة لا يعرفها أى أحد آخر?
كما كان كلاهما يقضى بعض وقته فى قراءة الكتاب المقدس، وفيه قصص جنسية تشير إلى مدى عتو هذه الغريزة وسلطانها الجبار حتى على الأنبياء وأهل بيتهم كما فى قصة لوط وبنتيه، وكقصة يهوذا بن يعقوب وزناه بثامار زوجة ابنه، وكقصة داود وزناه ببتشبع زوجة قائده المخلص أوريا الحثى، وكقصة أمنون بن داود وزناه بأخته، وكـ"نشيد الإنشاد" المملوء باللواعج . ولعله لهذا السبب أعاد أناتول فرانس صياغة مايقال عن تاييس المصرية، التى كانت فى بدء أمرها عاهرة، من أن الراهب بافنوس قد أخذ بيدها وساعدها على التوبة ثم صارت قديسة، فأتى فرانس وجعل الراهب، بعدما تابت تاييس، يقع فى هواها ويصير فريسة شبق مسعور، ويموت ضالا فاسقا بلا عقل ولا دين. ولعجز الإنسان عن معاندة الغريزة الجنسية قرر الإسلام أنه "لا رهبانية فى الإسلام"، إذ هى تُدَابِر الفطرة، وتقود إلى معاطب ومصائب جمة. وفى ذات الوقت يحرص الإسلام على العفة والطهارة الجنسية، ولا يقبل بوجود علاقة بين الرجل والمرأة إلا فى نطاق الزواج.
ومع هذا فقد قرأت فى بحث على المشباك (الإنترنت) حول الأطفال المتوحشين، أى الذين تَرَبَّوْا مع الحيوانات فى الغابة، أو قيل إنهم تربَّوْا معها، ما لاحظه جميع من كتبوا فى هذا الموضوع من اللامبالاة الجنسية لدى الإنسان المتوحش، إذ أظهر أغلب هؤلاء المتوحشين شعورهم بالتقزز أمام الإغراءات الجنسية. كما أبدى أحدهم برودة جنسية قصوى. وأدرك شخصٌ ثانٍ سِنَّ الشيخوخة دون أن تظهر عنده رغبة جنسية واضحة. ولم يُبْدِ ثلاثة آخرون، بعد ثلاث سنوات من الحياة الاجتماعية، إلا بعض الدوافع الجنسية المبهمة. ولا فائدة من الإشارة إلى أن الشعور بالحياء لدى بعضهم قد ظهر تدريجيا بشكل متناسب مع درجة تكيفهم. وهكذا كان الأمر بالنسبة لواحد منهم، إذ لم يكن يشعر فى البداية بالحرج عندما يخلع ثيابه قبيل الاستحمام، لكنه تميز بعد ذلك بخجل وتعفف شديدين. وهذا ما لوحظ أيضا عند فتاة صغيرة برازيلية عاشت عارية مدة سنوات طويلة، لكنها تطورت بحيث صار من الصعب فيما بعد إقناعها، مع شيء من التهديد، بالتعرى ثانية حتى يتمكن أحد الرسامين من رسمها .
هذا فعلا ما قرأته، لكنى أستغربه استغرابا شديدا، إذ الشهوة الجنسية غريزة فطرية لا علاقة لها بتوحش أو تأنس. وهل الحيوانات فى الغابة التى نشأ بينها هؤلاء الأطفال المتوحشون أو قيل إنهم نشأوا بينها واتبعوا سبيلها فى سلوكهم ولم يبتعدوا عنها كثيرا فى نموهم العقلى والذوقى والوجدانى لا تعرف الشهوة الجنسية? الجواب هو أنها تعرف تلك الشهوة، وإلا فكيف تحافظ على نوعها? وإذا كان الأطفال الذين تَرَبَّوْا بين حيوانات الغابة قد صاروا مثلها فى سائر حياتهم، فكيف تعطل هذا الجانب بالذات عندهم، وهو لا يتعطل عند الحيوانات متوحشة كانت أو إنسية? بل كيف نتصور أن سلكيرك وكروسو، وقد كتبت عليهما العزلة فى جزيرة منفردة غير مأهولة بالناس بعد أن كبرا ونضجت غرائزهما، يمكن أن تتعطل عندهما مثل تلك الغريزة? إن سلكيرك ما إن عاد إلى بلاده حتى وقع فى حب فتاة وتزوجها، وهو ما يدل على عدم صحة ما قيل عن لامبالاة الأشخاص المتوحشين بالناحية الجنسية. وبالمثل رأينا كروسو أيضا يتزوج ويشعر بالسكينة والرضا جراء إشباع هذا الجانب من شخصيته.
هذا عن الجنس، أما بالنسبة للملابس فكان كروسو، أثناء عيشه على الجزيرة المهجورة، يستعمل ملابس عادية كلما كان ذلك متاحا له، وإلا صنع ملابس وأحذية من جلود الجداء. وأما سلكيرك فمنذ بَلِىَ حذاؤه الذى كان يلبسه حينما غُودِر فى الجزيرة وحيدا لم يُعَنِّ نفسه بصنع بديل له، بل كان يمشى حافيا لا يبالى . وهناك لحيته، التى لم يقترب منها منذ هبط الجزيرة إلى أن غادرها (PP. 28- 29) بخلاف كروسو، الذى كان يأخذ منها بين الحين والآخر.
ورغم أن كروسو قد ترك لنا فى رواية ديفو وصفا للجزيرة وما فيها من أشجار ونباتات فإنه لم يتحدث مثلا، كما تحدث سلكيرك، عن الانحدارات الحادة لبعض تلالها والأودية التى كانت تقطعها ومجارى المياه التى بلغت من النقاء حدا لا يُطَال والتى كانت تهبط من أعالى التلال قافزة من صخرة إلى صخرة على هيئة شلالات صغيرة إلى أن تصل إلى قاع الوادى، دعك من الروائح المعطرة الساطعة فى هذه التلال والظلال والجمال والجلال، مما لا يمكن بسهولة أن يقابله الإنسان فى أى مكان آخر من العالم، بل ولا تستطيع تصورات الخيال أن تضاهيه. وليس معنى ذلك أن كروسو لم يتحدث عن أى مظاهر للجمال فى الجزيرة، بل المقصود أنه لم يتعرض لتلك التفصيلات بالذات، بل لأشياء أخرى. كما أنه سرعان ما تأقلم مع وضعه الجديد على خلاف سلكيرك، الذى اقتضاه هذا التأقلم وقتا طويلا قبل أن يتغلب على مشاعر اليأس والسخط وتشرع عيناه فى الالتفات إلى هذا الجمال المبذول دون حدود .
شىء آخر يميز تجربة سلكيرك عن نظيره روبنسون كروسو، وهو أن كروسو، حينما التفت إلى الكتاب المقدس وشرع يقرأ فيه نشدانا للعزاء وبثا للطمأنينة فى روحه، كان عقله يشتغل دائما ويقلب كل فكرة تخطر له وكل شىء يصيبه أو يشاهده أو يتذكره كأنه مفكر عميق. كما كان يشعر دائما بقوة قوية أن يد الله حاضرة باستمرار وأن حكمته تتجلى فى كل شىء وفى كل أمر، ومن ثم كان يعمل باطراد على أن يستنبط من أى حدث يقع له وجه الحكمة والقدرة والإبداع الإلهى فيه، ويستخلص الدروس والعبر التى يشتمل عليها. ويجد القارئ هذا الأمر مبثوثا فى كثير جدا من صفحات رواية ديفو. أما سلكيرك فكل ما نعرفه أنه كان يقرأ كتابه المقدس ويجد فيه السلوى عن الوحدة والتعاسة التى كان يحس بها إحساسا عنيفا فى الجزيرة خلال الشهور الأولى من حياته هناك، ثم خَفَّتْ إلى حد ما فيما بعد.
ومن الغريب أن تمر بعض السفن قريبا من الجزيرة، لكن سلكيرك، بدلا من الاستنجاد ببحارتها، كان يتحرى أن يكون بنجوة عن أنظارهم بحيث لا يَرَوْنه، إذ كان يعيش مع قططه وجدائه ويرقص معهم ويستمتع بهم بغاية السعادة، على عكس ما كان يتمناه كروسو، وإن كان هذا الأخير حين عرف أن بعض البشر قد جاس خلال الجزيرة ورأى آثار قدمه على الرمال اعتراه رعب فائق خوفا من أن يكون واحد من أكلة لحوم البشر هو صاحب تلك الآثار. أما حين أتيحت له فرصة مرور سفينة بالجزيرة فقد عض عليها بالنواجذ وخَطَّط للرحيل على متنها رغم أن ظروف بحارتها لم تكن مما يبعث على الاطمئنان. وهو فرق هام جدا بين الرجلين وتصرفاتهما. وفى المرة الوحيدة التى غلب سلكيركَ الفضولُ لمعرفة جنسية السفينة اقترب منها حتى بَصُرَ به بحارتها، وكانوا من الأسبان، أى من الأعداء، فشرعوا يطاردونه، وهو يعدو بعيدا عنهم، ورصاصهم ينهمر فى اتجاهه بغية قتله، لكن دون أن تصيبه رصاصة واحدة، إلى أن نجح فى تسلق شجرة واختبأ بين غصونها دون أن يتنبه إلى مكان اختفائه أحد من مطارديه (PP. 30- 33). وعلى ذكر تسلق سلكيرك الشجرة خوفا من الأسبان نام كروسو أول مقدمه الجزيرة فوق شجرة خوفا من الوحوش، ونام مرة أخرى على هذا النحو بعد ذلك.
وهذه النقطة الأخيرة الخاصة بالجنسية الأسبانية للسفينة تذكرنا بما قاله كروسو من أنه يفضل أن يقع فى أيدى البرابرة آكلى لحوم البشر على أن يقع فى يد الأسبان فى أمريكا الجنوبية حين يكتب له ترك الجزيرة إلى تلك القارة، فيرسله القساوسة إلى محكمة التفتيش حيث يذوق الويل ويُقْتَل قِتْلَةً شنيعة. وهنا أيضا نرى سلكيرك يُؤْثِر أن يموت وحيدا فى الجزيرة وتأكل القطط جثته على أن يقع فى أيدى الأسبان، الذين كانوا حريصين أشد الحرص على ألا يعود أى إنجليزى يعرف شيئا عن الملاحة فى تلك البحار إلى بلاده. ومن ثم كان سلكيرك يعلم تمام العلم أنه لو كان وقع فى أيديهم لكان مصيره القتل الوَحِىّ أو قضاء بقية حياته يعمل فى السخرة فى إحدى مستعمراتهم بأمريكا اللاتينية أو على متن إحدى سفنهم التى تجوب تلك المناطق أو التحول إلى الكاثوليكية (P. 33).
وبعد مرور أربعة أعوام وأربعة أشهر كانت تمر بالقرب من الجزيرة سفنية إنجليزية، فأنفق سلكيرك ليله كله يوقد نارا كى يلفت أنظار ركابها إليه، مما كانت ثمرته أن أرسلوا قاربا إلى الشاطئ فشاهده من فيه وقد رفع قطعة قماش بيضاء علامة السلم والتسليم. وحين وقعت أنظارهم عليه وهو عارى الساقين والقدمين ويغطى وسطه بجلد المعز، وقد استطالت لحيته على نحو شنيع، أصابهم الخرس من هول المفاجأة، إذ بدا لهم واحدا من المتوحشين ، وبخاصة أنه لم يكن يستطيع الكلام آنذاك جراء الفرح الغامر. وقد قدم لهم سلكيرك الطعام وساعدهم على إصلاح ما يحتاج إلى الإصلاح فى السفن التى كانوا يستقلونها. وحين دَعَوْه إلى الصعود على سطح القارب رفض الاستجابة لطلبهم قبل أن يطمئنوه إلى أن دامبييه، القائد الذى تمرد عليه وترك السفينة إلى الجزيرة بسببه، لم يعد يتولى القيادة. والطريف أن دامبييه ما إن رآه حتى شهد له بالبراعة والتفوق، وهو ما حرك كل ما لديه من نشاط وحيوية فساعدهم فى إصلاح سفنهم بكل ما لديه من قوة ومهارة (PP. 40- 44).
أما فى رواية "روبنسون كروسو" فإن السفينة التى غادر بطلها الجزيرة على متنها كانت تقل عددا من البحارة الإنجليز الذين تمرد بعض الأشقياء منهم على قائدهم وقيدوه واثنين من زملائهم المخلصين له وأرادوا تركهم وحدهم فى الجزيرة المهجورة لولا أن العناية الإلهية قد قيضت للقائد أن ينقذه كروسو وأن يعيد بعضَ البحارة غير الأشرار إلى صوابهم بعد أن كان الأشقياء قد أكرهوهم على الانحياز إليهم، وأن يرجع القائد إلى موضعه من قيادة السفينة ويعاقب المتمردين بتركهم على الجزيرة الموحشة، وإن كان قد علمهم طرائق العيش فيها وزودهم بما أضحى فى غنى عنه من الملابس والسلاح وما إليه.
كذلك من الفروق بين حكاية سلكيرك ورواية روبنسون كروسو أن سلكيرك، حين ترك الجزيرة راجعا مع البحارة الإنجليز، لم يكن يطيق لفترة طويلة أن يأكل شيئا فيه ملح لأنه تعود على الطعام الخالى منه نزولا على حكم الضرورة كما أشرنا قبلا، أو يشرب خمرا لأنه لم يكن يجدها على الجزيرة وصار ينفر منها، وبخاصة أن مشاعره الدينية كانت قد استيقظت داخله فى تلك الفترة التى عاش فيها وحيدا فى الجزيرة وأخذ يمارس العبادة والقراءة فى الكتاب المقدس. ولهذا لم يكن يأكل أو يشرب على متن السفينة التى تحمله سوى البسكويت والماء. ليس ذلك فحسب، بل غلبه فى البداية ما تعود عليه من الصمت وعدم وجود من يتواصل معه من البشر، فلهذا لم يكن يكثر من الكلام مع البحارة الذين أنقذوه، وظل متنائيا أطول مما كان متوقعا حتى بعد عودته إلى إنجلترا. كما أخذ الأمر منه وقتا حتى عاد إلى استعمال الحذاء دون حدوث ثآليل فى قدميه أو شعوره بالتقييد والضيق (P. 44). أما كروسو فكان يملّح طعامه كما قلنا، وكان يشرب الروم دائما مما حمله من القارب الذى تحطم قريبا من الجزيرة وكان هو الناجى الوحيد من بحارته، أو مما وجده بعد ذلك فى سفنية تحطمت قريبا من الجزيرة. كما أن الكلام، حين التقى بجمعة، لم يسبب له أية مشكلة، وكأنه لم ينقطع يوما عنه رغم انفراده بنفسه فى جزيرته الموحشة قبل ذلك. أما عند مغادرته الجزيرة فكان بصحبته جمعة طوال الوقت يتحدث معه، وإن كانت اللغة التى يستعملها جمعة لغة بدائية مكسرة تؤدى المعنى الأساسى، والسلام. ولكن كنت أتوقع أن تكون لغة كروسو فى تلك الحالة قد انحدرت وفسدت جراء اختلاطه طول الوقت بجمعة كما يحدث فى مثل تلك الحالة. ولم تشر الرواية إلى أى شىء يتعلق بانتعال الأحذية، لأنه لم يهجرها يوما.
وبالنسبة لسلكيرك فقد عاد بعد مدة إلى مهنته كبحار، ولكن دون الموبقات التى كان يرتكبها قبلا حتى إنه لم يعد يسب أو يحلف كعادة البحارة، فى حين عاد كروسو إلى التجارة فى الوقت الذى أقبل فيه على عمل الخير لأصدقائه وأقاربه، وبخاصة من أخلصوا له فى وقت انعزاله بالجزيرة. وانتهى الأمر بسلكيرك إلى التزوج بفتاة راعية رآها فى واد منعزل كان مغرما بالانفراد وقضاء وقته فى التأمل بين أحضانه امتدادا لما كان قد تعوده فى الجزيرة المعزولة التى لا يسكنها بشر. وقد أعجبه فى تلك الفتاة، التى كان يراقبها بالساعات دون أن تشعر، هدوؤها وبراءتها وصوتها العذب الجميل الذى كانت تردد به أغانيها الرعوية. وقد تزوجها بعد أن اتفق معها على الهروب بعيدا عن بلدهما تجنبا لما يمكن أن يجره عليه هذا الزواج من سخرية من يعرفونه بعدما كان يبدى نفورا من مخالطة الناس. ثم بعد عدة سنوات مات وهو يمارس عمله على متن إحدى السفن الأميرية سنة 1723م (P. 49- 50).
أما روبنسون كروسو فلم يعان شيئا من هذا، بل انخرط منذ الوهلة الأولى فى المجتمع، مع أخذنا فى الاعتبار أنه فى السنوات الأخيرة من حياته بالجزيرة كان يعيش معه طوال الوقت جمعة الشاب الذى أنقذه كروسو من القتل والالتهام، والذى علمه الإنجليزية والنصرانية والزرع والقلع والعجن والخبز والنجارة وارتداء الملابس واستعمال البندقية والمسدس وأكل لحم الجداء بدلا من أكل البشر... إلخ. أى أنه قد عرف قبل ذلك بفترة غير قصيرة الاختلاط بالناس، وإن كان فى دائرة ضيقة بالغة الضيق.
ومن الفوارق الهامة جدا بين القصتين أن فى قصة كروسو أكلة لحوم بشر يقومون بدور خطير فيها، وكان لهم تأثير عنيف على حياة كروسو فوق الجزيرة. بل إن ظهورهم فى حياته هو الذى أدى فى النهاية، بعد سلسلة طويلة من الأحداث استغرقت عددا من الأعوام، إلى مغادرة الجزيرة والعودة إلى بلاده والانغماس فى المجتمع الإنسانى الكبير كَرَّةً أخرى. وليس لشىء من هذا أى وجود فى قصة سلكيرك.
كما أن سلكيرك، أثناء عودته من الجزيرة، قد اشتغل بحارا قرصانا، بل تولى قيادة إحدى السفن التى انتهبها هو وزملاؤه القراصنة من أصحابها وحولوها بدورها إلى سفينة قرصان . وهناك وصف كثير فى كتاب هاول لعمليات القرصنة التى قام بها مع البحارة الآخرين سواء للسفن التى كانت تصادفهم فى المحيط أو للمدن الساحلية التى كانوا يمرون بها فى طريقهم. ويجد القارئ كثيرا من هذه القرصنات بدءا من الصفحة السابعة والتسعين فصاعدا . أما كروسو فكان قبل وصوله إلى الجزيرة تاجرا، وعاد إلى ممارسة تجارته بعد مغادرتها.
وقد نُشِرَتْ مغامرات سلكيرك بصورة مختصرة إثر عودته إلى بريطانيا بعد غياب ما يقرب من ثمانى سنوات قضى منها أربع سنوات وأربعة أشهر فوق جزيرة خوان فرنانديز وحيدا دون مؤنس من البشر، والباقى جائبًا البحار والمحيطات قرصانا مع قراصنة بلاده ومارًّا بكثير من البلاد فى أمريكا وأفريقيا وآسيا فأثارت تلك المغامرات اهتمام الناس إثارة شديدة، وتحدثت عن صاحبها الصحف الإنجليزية، فقال عنه مثلا السير ريتشارد ستيل فى أحد أعداد صحيفة "The Englishman" فى 1713م، حينما التقاه فى أيامه الأولى عقب عودته من رحلته ومغامراته الطويلة، إنه رجل عاقل، ويبدو من حركاته ومظهره أنه كان منعزلا عن المجتمع فترة طويلة من حياته، وإنه لا يبالى كثيرا بما يقع حوله من الأمور العادية كما لو كان غارقا فى التفكير، وإنه كثيرا ما كان يترحم على أيام عزلته فى الجزيرة القفر بما فيها من هدوء وسكينة، وإن كان قد تغير فيما بعد حين اختلط بالناس وزالت عنه مشاعر الاستيحاش الأولى . وكان فى الفترة المبكرة من عودته إلى قريته بأسكتلندا يترك المنزل منذ الصباح ومعه ما يحتاجه من طعام وشراب وغيره ويظل وحده فى أحد الأودية القريبة بين أحضان الطبيعة الحنون يتمشى ويتأمل وهو صامت، مستعيدا ذكريات إقامته فى خوان فرنانديز بالمحيط الأطلسى إلى أن يحل المساء فيرجع حينئذ إلى المنزل ضائق الصدر لينفرد بنفسه فى الطابق الأعلى مع قطتين علمهما الرقص وغيره من الحركات الظريفة كما صنع مع قططه فى الجزيرة المذكورة. وكان أقرباؤه كثيرا ما يفاجئونه وهو يبكى. كما بنى لنفسه كوخا قريبا من منزل أبيه يطل على منظر طبيعى خلاب كان يلجأ إليه كثيرا، وبخاصة عند هطول المطر، ويعبر عن حنينه إلى أيام عزلته فى الجزيرة المهجورة. ثم اشترى قاربا كان يتنزه فيه حين يسمح الجو بالنزهة، أو يصطاد من النهر. وظل هكذا حزينا منطويا على نفسه معظم الوقت إلى أن وقع نظره على فتاة راعية بريئة اسمها صوفيا فى بعض تلك النواحى تشغل نفسها، أثناء الرعى، بجمع الأزهار البرية والترنم ببعض الأغانى، فأُغْرِم بها وتزوجها بعد أن هربا معا إلى لندن، ثم تزوج امرأة أخرى بعد موتها دون أن ينجب من أيتهما. وكان يشتغل أثناء ذلك على إحدى السفن الملكية . وهو ما لم نر شيئا منه فى رواية "روبنسون كروسو".
والآن بعدما عقدنا مقارنة بين حكاية سلكيرك ورواية "روبنسون كروسو" ماذا يمكننا أن نقول? لقد اجتمع كثير من الكتاب من البريطانيين وغير البريطانيين على أن رواية دانييل ديفو إنما اعتمدت على ما وقع لألكسندر سلكيرك. وقد ذكر هاول صراحة، كما بينا فى هذا الفصل، أنه لا يوجد أدنى ريب فى هذا، وإن كان الرجل قد حصر ذلك فى الفكرة العامة، وهو ما نوافقه عليه وما أتصور أن المقارنة بين القصتين قد أوضحتهما بما لا يحتمل شكا. فالتفاصيل تختلف كثيرا جدا: سواء فى وصف الجزيرة أو فى تصرفات البطلين أو فى أحداث القصتين أو فى الأشخاص الذين ظهروا فى الحكايتين أو فى بدايتهما ونهايتهما. وهذا أمر يحسب لديفو.
كذلك من الصعب جدا أن يكتب أى مؤلف رواية ناجحة يلتزم فيها ما وقع فعلا فى الحياة دون أدنى حيدة عنه، لأن الحياة لا تؤلِّف إلا نادرا ونادرا جدا، بل ربما لا تؤلف أبدا، رواية محبوكة الأطراف لا تحتاج إلى تدخل من خيال المؤلف وعقله ومشاعره ووجهة نظره. وبالتالى ما كان دانييل ديفو بمستطيع أن يبدع روايته لو كان التزم بما قاله سلكيرك، وبالذات لأن ما قاله سلكيرك جد قليل، بينما تفيض "روبنسون كروسو" بالأحداث والمواقف والأشخاص والأوصاف والتصرفات والأفكار والتأملات والمخاوف والشكوك والمطامح، علاوة على كثير مما لم يأت له ذكر فى حكاية سلكيرك ولا خطر له ببال كأكلة لحوم البشر بغض الطرف عما إذا كان الأمر صحيحا أصلا كما يؤكد كثير من الأوربيين أو كان ادعاء لا ظل له من الواقع كما يقول آخرون حتى من بينهم، فهذه نقرة، وتلك نقرة.
ورغم هذا فلا شك أن رواية ديفو تعانى من بعض العيوب الفنية كسكوتها تماما عن المسألة الجنسية فى حياة بطلها كما وضحنا فى موضعه، وكتصويرها كروسو قادرا على الكلام بكل سهولة وبساطة بعد صمته تلك الأعوام الطوال التى قضاها وحيدا منعزلا فى جزيرته قبل أن يقابل جمعة ويجد رفيقا يمكنه أن يوجه إليه الحديث، وإن كان حديثا بدائيًّا وشَذْرِيًّا وغير منضبط على اعتبار أن جمعة لم يكن إنجليزيا، ومن ثم لم يكن من الممكن أن يدور بينهما كلام متسق بلغة جون بُلْ، على الأقل: فى البداية. ولقد ظل جمعة، حتى بعد أن صحب كروسو إلى بريطانيا، يستعمل إنجليزية مكسرة مضحكة لا تربطها بإنجليزية البريطان روابط محترمة.
ورغم أنى من أنصار الرأى القائل إن دانييل ديفو قد استوحى حكاية ألكسندر سلكيرك عند تأليف روايته، وإن لم يقف استيحاؤه عند مغامرات سلكيرك كما سوف نوضح فى موضع آخر من هذا الكتاب، فلست أوافق حفيدة سلكيرك التى قابلت د. نجم عبد الكريم واتهمت ديفو بأنه لص سطا على عمل جدها البعيد واكتسب من ورائه الأموال الطائلة والصيت البعيد والشهرة المتناوحة بينما مات جدها مغمورا لم يحس بموته أحد. ذلك أن استيحاء هذا الحدث أو ذاك فى إبداع أدبى أمر معتاد ولا يمكن أن تستغنى عنه الحياة، بل ما من شىء فى الحياة يأتى من فراغ سواء كان إبداعا أدبيا أو صناعة يدوية أو تصرفا اعتياديا من تصرفات الحياة اليومية. ترى كيف نمشى? هل نبتدع المشى ابتداعا من الفراغ? أبدا، بل نتعلمه ممن حولنا ونقلدهم فيه ونرسم على منوالهم. وقل مثل ذلك فى اللبس والأكل والنوم والكتابة والقراءة والسفر وقيادة السيارات والقطارات والطائرات والجلوس على الأرض أو على المقاعد... إلخ إن كان لذلك من آخر.
ترى من أين أستمد ما أكتبه الآن? من آلاف الكتب التى قرأتها من قبل، وعلى رأسها المصادر والمراجع المباشرة التى رجعت إليها وأنا بصدد تأليف هذا الكتاب الذى بين يدى القارئ الكريم، وكذلك من آلاف الأحاديث والدروس والمحاضرات والخطب والمناقشات التى استمعت إليها. أليس كذلك? ترى من أين يستمد مؤلفو الروايات والمسرحيات التاريخية أعمالهم? أليس من كتب التاريخ، التى يأخذون منها الإطار الزمنى والشخصيات والأحداث وربما الأقوال الرئيسية لتلك الأعمال? هل يحق إذن لهؤلاء المؤرخين أو ذرياتهم أن يوجهوا اتهاما لأولئك المؤلفين بالسرقة والنصب والاحتيال? إن فى هذا لجَحْدًا لعبقرية أولئك الكتاب، تلك التى خلقت من الفسيخ شربات كما يقول العامةُ عندنا? إن هذه المادة التاريخية موجودة طوال الوقت فى تلك الكتب، لكن دون أن يكون لها تلك القيمة الأدبية التى تكتب لها الخلود وتجعل منها شيئا جديدا. وليس من العدل ولا من العقل تجاهل جهد أولئك الروائيين والمسرحيين، وإلا فلا قيمة لشكسبير مثلا أو فيكتور هيجو أو كريستوفر مارلو ولا لإبراهيم رمزى أو على الجارم أو توفيق الحكيم أو أحمد على باكثير أو نجيب محفوظ.
وتزداد الاتهامات شناعة إذا ما وضعنا فى اعتبارنا ما فعله مثلا توفيق الحكيم وباكثير فى مسرحيتيهما عن أوديب، اللتين اعتمدا فيها على إعادة كتابة ما كتبه سوفوكليس، أو ما فعله برنارد شو فى مسرحيته عن بجماليون، التى صاغ فيها الأسطورة الإغريقية المعروفة صياغة عصرية وحولها إلى حكاية بريطانية واقعية تختلف عن الحكاية القديمة إلى حد بعيد رغم استيحائها إطار الأسطورة الضاربة فى أغوار الزمن. ترى من أين أتى نجيب محفوظ بروايته: "اللص والكلاب"? لقد استوحى إطارها العام من حكاية السفاح التى كانت تنشرها الجرائد فى تلك الأيام، ذلك السفاح الذى خانته زوجته، فاضطربت حياته وأخذ يرتكب الجرائم سخطا ومرارة إلى أن وقع فى يد الشرطة فقتلته فى إحدى المغارات فى البحيرة فيما أتذكر الآن. إلا أن نجيب محفوظ قد أضفى على تلك الحكاية العادية أبعادا سياسية ودينية وفلسفية وأدخل فيها الشيوعية والتصوف والمسجد والمدينة الجامعية والصحافة والصحفيين الانتهازيين الكذابين الذين يلعبون بالثلاث ورقات. ودعنا من الأسلوب اللغوى والبناء الفنى وتصوير الشخصيات وإجراء الحوار ووصف الأماكن وسرد الوقائع. وأين هذا كله من حكاية السفاح المسكين?
لا بل مِمَّ يتكون كل واحد من البشر أو من البقر، ولا فرق كبير أو صغير بين الاثنين فى أمرنا هذا? ألا يتكون من الأغذية التى تلقاها فى بطن أمه وتلك التى تناولها بعد خروجه إلى الدنيا? ومع هذا فشتان بين إنسان وآخر، وبين بقرة وأخرى. وإلا فمن حق بياعى البطاطا والخيار على عربات اليد فى منطقة الدراسة أن يتهموا نجيب محفوظ بأنه سرق منهم روايته: "أولاد حارتنا"، فما أكثر بياعى عربات اليد فى تلك الرواية! ولا ينبغى أن يتأخر عن مشاركتهم فى توجيه هذه التهمة للرجل تجار الصنف ومستهلكوه، فالرواية تعج بالحشيش والحشاشين. أليس كذلك?
فلو افترضنا صحة ما قالته حفيدة سلكيرك للدكتور نجم عبد الكريم من أن جدها كان يقص كل ليلة على دانييل ديفو فى الحانة وقائع مغامراته على جزيرة خوان فرنانديز لما كان على ديفو من تثريب، إذ لم يأخذ من البحار الأسكتلندى سوى الإطار العام لروايته، وليس هذا جوهر العمل الأدبى، بل مجرد مشجب يعلق عليه المبدع نظرته إلى الحياة، وفلسفته فى فهم الكون والمجتمع والبشر والتاريخ، وبناءه للرواية وصنعته فى تصوير شخصياتها وضَفْر حواراتها وسَلْسَلَة وقائعها ورسم أماكنها ومناظرها، ومقدرته فى التلاعب باللغة لإمتاع القارئ والاستيلاء على لبه وقلبه، بل على كيانه أجمع.
ثم ما الذى أوقعه ديفو على سلكيرك من ضرر بتأليفه روايته? هل ضيع عليه مالا? هل أفقده ميراثا كان سيؤول إليه? هل اختطف منه زوجته? هل سرق منه شهرته? أبدا لم يحدث شىء من ذلك، ففيم تضرُّر الحفيدة إذن وزمجرتها? بالعكس لقد خلد ديفو ذكرى جدها بدلا من أن ينسى الناس قصته بعد قراءتها فى الصحف، التى سرعان ما ينسى الناس ما يطالعونه فيها، وصرنا كلما قرأنا "روبنسون كروسو" نتذكر جدها. وأنا خير مثال على ذلك، وهذه الدراسة التى يطالعها القراء مصداق لما أقول. لقد كانت "روبنسون كروسو" السبب فى بحثى عما كُتِب عن سلكيرك ومعرفة كل صغيرة وكبيرة فى مغامرته تلك، ولولا رواية ديفو ما خطر لى سلكيرك قط على بال.
كذلك لا يصح أن نهمل فى سياقنا هذا أن ديفو كان كاتبا غزير الإنتاج، إذ كتب مئات الكتب والروايات والدراسات والمنشورات ولم يقتصر على تلك الرواية التى تقول حفيدته إنه قد سطا عليها من جدها كما لو كان جدها هو الذى ألفها ثم أتى ديفو وسرقها حاذفا اسمه من فوق غلافها وواضعا اسمه هو عوضا عنه. فهذه هى السرقة لا أن يستمع إلى سلكيرك يحكى مغامرته على الجزيرة الموحشة فيخلق مما سمعه رواية بديعة تعيش مع الأجيال دون أن تفقد قدرتها على الإمتاع والجاذبية وإلهام العقول والقلوب. ومن الممكن أن نقول بنفس طريقة الحفيدة إن جدها ليس له فضل فى مغامراته بل الفضل كله للأقدار، فهو لم يؤلف شيئا منها بل كان الشخصَ الذى وقعت له، فأى فضل فى هذا?
ترى أإذا مرض أحدنا نُسِب إليه الفضل فى أنه مرض? أم هل إذا صدمته سيارة قيل إنه هو صاحب الفضل فى تلك الصدمة وما ترتب عليها من كسور أو عاهات? ولا ننس أن ما وقع لسلكيرك قد نشرته الصحف وكتب عنه الكاتبون، فكان ينبغى إذن، حسب فهم تلك الحفيدة التى أجدنى أتعاطف معها رغم ذلك، أن يزعم الصحفيون والكتاب الذين تناولوا موضوع سلكيرك أن ديفو قد سرق منهم ما كتبوه وصنع منه رواية لا تستحق أن تنسب إليه. كذلك كان ينبغى، بناء على فهم حفيدة سلكيرك، أن يتهم سكان لندن دانييل ديفو بأنه استلهم العاصفة العظمى التى حطمت البيوت وقتلت الناس وشردت الجموع عام 1703م فى تأليف كتابه: "العاصفة" بعد الحادثة بعام واحد. إننى لا أدافع عن ديفو، فديفو لا يعنينى فى شىء، بل أنا أدافع عن العقل والمنطق. وبمناسبة ما نحن فيه هناك كاتب أرجع رواية ديفو إلى مغامرات وقعت لشخص آخر غير سلكيرك هو الجراح البريطانى هنرى بتمان، الذى هرب من حكم صدر ضده لاشتراكه فى تمرد على الدولة وساقته الأقدار، كما ساقت كروسو، إلى جزيرة مهجورة... إلخ، ونشر كتابَه أبو الناشر الذى طبع رواية ديفو كما جاء فى المقالة المخصصة لديفو فى النسخة الإنجليزية من "ويكيبيديا". وهذا غير استيحائه قصة ابن الطفيل: "حى بن يقظان" كما يقول كثير من الدارسين، ومنهم صاحب مقالة "ويكبيديا" المشار إليها آنفا. وهناك غير سلكيرك وبتمان أشخاص وقع لهم ما وقع لهذين الرجلين، ومن المحتمل أن يكون ديفو قد استلهم مغامراتهم جميعا.
وقد قلت إننى متعاطف مع الحفيدة، التى كانت سببا رئيسيا فى اهتمامى برواية "روبنسون كروسو" ومغامرات جدها مما كانت ثمرته الكتاب الذى ينظر فيه القارئ هذه اللحظة، إلا أن التعاطف شىء، وقول الحق شىء آخر. والحمد لله أن تلك السيدة لا بد أن تكون قد ماتت، وإلا رفعت علىَّ قضية فى المحاكم الدولية تتهمنى فيها بأنى استوحيتُ ما قالته للدكتور نجم عبد الكريم وصنعتُ منه كتابا فى الأدب المقارن. ولن تعدم السيدة المبجلة فى هذه القضية الدليل. ألم أقل بعظمة لسانى قبل بضعة أسطر إنها كانت سببا رئيسيا فى اهتمامى بالأمر ووضعى الكتاب الحالى? والاعتراف سيد الأدلة كما يقولون فى عالم القضاء!
وقد ذكرتِ السيدة سلكيرك، على سبيل الشماتة، ما معناه أن الله قد عاقب ديفو على سرقته أفكار جدها فمات فقيرا ودُفِن فى مقابر الصدقة. ولقد قرأت فى مادة "دانييل ديفو" فى الموسوعة البريطانية (ط1912م) أن حياة ديفو فى أيامه الأخيرة قد تعكرت بسبب ديون كانت عليه لم يستطع الوفاء بها وأنه مات مختفيا عن دائنيه، وإن لم تذكر الموسوعة شيئا عن مقابر الصدقة هذه. إلا أننا نقرأ فى المقال الذى خصصته له النسخة الإنجليزية من موسوعة "الويكيبيديا" أنه قد دفن فى مقابر بَنْهِلْ فيلدز بلندن، وهى، كما تقول تلك الموسوعة أيضا فى المادة الخاصة بـ"Bunhill Fields"، المقابر المخصصة للذين لا يتبعون الكنيسة الإنجليزية، ودفن فيها من مشاهير الأدباء إسحاق واطس وتوماس برينجل وجون بانيان ووليم بليك، وطوائف من مشاهير رجال السياسة والدين والفكر والطب والهندسة والحرب والوزارة والإدارة والصناعة وغيرهم ممن كانوا على غير مذهب الكنيسة الأنجليكانية، كما أقيم له نصب تذكارى هناك. وبالمناسبة فمنظر المقابر يشرح الصدر، ويفتح الشهية للموت اليوم قبل الغد، فهى نظيفة ومنسقة وجميلة وجليلة. وهذا كله يكذّب ما قالته السيدة سلكيرك. لكن هل كان سطوه على أفكار جدها هو السبب فى أنْ عاقبه الله بالموت مختفيا عن دائنيه، إذا كان لنا أن نتابعها فى أسلوب تفكيرها، ودعنا من حكاية مقابر الصدقة تلك? لا أظن، فالرجل كان مضطرب الحياة سياسيا وماليا وتأليفيا حتى لقد وُضِع فى تخشيبة الرقبة والذراعين (the pillory: المشهرة)، وطيف به فى الشوارع كى يهينه الغوغاء عقوبة له على كتابته شيئا لم يعجب الدولة، وهذا من قبل كتابته "روبنسون كروسو"، ولا أحسب أن حياته كان يمكن أن تكون أفضل لو لم يكتب تلك الرواية البديعة رغم ما فيها من العيوب شأن أى عمل بشرى.
ثم إن السيدة سلكيرك تشير إلى "أفكار" لجدها استولى عليها ديفو مع أنه لا أفكار هناك ولا يحزنون، إذ إن جدها لم يبتدع أفكارا، بل كل ما هنالك هو أنه قد حدثت له بعض الوقائع والمغامرات التى فرضتها الأقدار عليه فرضا. ولنفترض أنه صاحب أفكار أتى إليها ديفو وصنع منها "روبنسون كروسو"، التى رأينا كم تختلف عن سلكيرك وما وقع له فى كل شىء تقريبا سوى الإطار العام، فهل يجعل هذا من ديفو سارقا? بطبيعة الحال لا ثُمَّ لا ثُمَّ لا.
أما قول السيدة المذكورة إن جميع الناس يعرفون مغامرة جدها فهو فخر لديفو، إذ إن أحدا من أولئك الناس الكثيرين لم يستطع أن يحولها إلى عمل روائى باق على مر العصور والأجيال سوى ديفو. وأما قولها إن ديفو قد زيف الكثير من أحداث المغامرات التى وقعت لجدها والتى تقول إن جدها ظل يحكيها لديفو على مدار عدة أشهر ويسجلها هذا عنه فليس لها حق فيه، لأن هذه هى طبيعة الأدب والإبداعات الأدبية كما نعرف جميعا، بل هى طبيعة كل عمل فى الحياة حتى أعمال الحرفيين المادية. أليس عمل النجار يقوم على إحضار الخشب والمسامير والغراء ثم تحويل هذا كله إلى أثاث جميل يختلف تماما عن المواد الأولية التى صنعه منها? أَوَيَصِحّ أن نتهم النجار فى هذه الحالة بأنه حوَّر تلك المواد ولم يُبْقِها على حالها? إنه لو أبقاها على حالها ما كان هناك أثاث بالمرة ولظلت الأمور على ما هى عليه دون جديد. لقد كنت أوافقها على ما تقول لو كان جدها قد ألف، مما وقع له من أحداث ومغامرات، "رواية"، ثم جاء ديفو فسطا على تلك الرواية ونسبها لنفسه كما هى أو مع بعض التغييرات الطفيفة التى لا تقدم ولا تؤخر ولا تضيف جديدا. أمّا، ودور جدها قد اقتصر على إمداد ديفو بالمادة الخام، تلك المادة التى تصرف فيها ديفو تصرفا واسعا كما شاهدنا، فليس لها الحق فى أن تقول ذلك. وهذا لو كان الأمر قد وقع على النحو التى تحكيه، إذ لم أر أحدا ممن كتب عن "روبنسون كروسو" أو ديفو أو سلكيرك يشير إلى لقاءات تلك الحانة التى ذكرتها السيدة، لا من المعاصرين لنا ولا من المعاصرين لجدها وديفو.
كذلك فالسيدة المذكورة تتحدث عن فرار جدها وزميل له من السفينة التى كانا يعملان عليها بقارب فى جوف الليل انطلقا به على غير هدى حتى قذفتهما الأمواج إلى شواطئ الجزيرة. لكن القصة، كما قرأناها فى المراجع التى تعرضت لها، تقول غير ذلك حسبما رأينا، إذ إن جدها هو الذى طلب من الربان والبحارة أن يتركوه وحيدا فى الجزيرة، لكنه سرعان ما انتابه الرعب والندم حين رآهم يبتعدون عنه فناداهم، وهو يخوض فى الماء بعد انطلاقهم بعيدا عنه، كى يعودوا فيأخذوه معهم ولا يتركوه وحده هناك، إلا أنهم لم يعيروه آذانا صاغية. وعلى هذا فلا وجه لما أضافته السيدة عقب ذلك من أن زميل جدها قد تناول فى اليوم التالى فراولة مسمومة. ذلك أنه لم يكن هناك زميل للجد، بل كان الجد وحيدا منذ اللحظة الأولى. ثم إننا لم نسمع لا فى حكاية جدها كما قرأناها فى المراجع المختلفة ولا فى رواية "روبنسون كروسو" بأنه كان فى تلك الجزيرة أية فراولة على الإطلاق.
وبالمثل نختلف مع السيدة سلكيرك فى أن الجزيرة لم تطأها أقدام بشرية من قبل، فقد رأينا كيف أن بعض البحارة الإنجليز قد عاشوا على تلك الجزيرة قبل جدها. ونأتى إلى حكاية القطط والكلاب التى لم تكن بينها أية عداوة وكانت تلعب وتتسابق معا، وإلى حكاية الفئران التى كانت تركب ظهر القطط دون أى خوف. ولا أدرى ماذا يمكن أن أقول فى هذا. ترى هل يمكن أن تتغلب القطط والفئران على ما ركب الله فى فطرتها من عداوة متبادلة، وما وضعه فى قلب الفأر من رعب من السنانير، التى لا تعرف لها طعاما متى رأته سوى أن تلتهمه، ولا يستطيع هو عملا سوى أن يفر من أمامها فرارا ويدخل فى أقرب جحر? نعم لقد رأينا كيف علم جدها القطط والجداء الرقص، لكن لم نسمع بمسابقات الجرى تلك بين القطط والكلاب. ومما ينسف ما قالته عن صداقة القطط والفئران نسفا ما نقلتُه فى هذا الفصل عن مشكلة الفيران التى كانت تعض قدمى سلكيرك وغير قدميه أثناء نومه، فما كان منه إلا أن استأنس بعض القطط الوحشية كى تقف لها بالمرصاد. فأين إذن الصداقة المدعاة بين السنانير والجرذان هناك? أما أن الجزيرة كان بها غزلان فلم نسمع بشىء من ذلك. وأما أن الحيوانات بها لم تكن تفر من جدها حين تراه فالذى نعرفه أنه كان عليه أن يطارد الجداء عَدْوًا كى يمسكها ليذبحها ويتخذ منها طعاما، ولم تكن تقف له مطمئنة إليه.
وهناك حكاية النيران التى كان يضرمها جدها باستمرار كى يلفت نظر السفن التى تمر من هناك حتى تأخذه من الجزيرة إلى بلاده. والذى قرأناه هو أنه كان حريصا على ألا تشعر به السفن المارة من هناك خوفا من أن تكون سفنا فرنسية أو أسبانية يكون مصيره على يد بحارتها أتعس من بقائه فى الجزيرة كما رأينا، وأنه لم يضرم النار سوى مرة واحدة بعد أربع سنوات وثلث حين تيقن أن السفينة المارة قرب الجزيرة هى سفينة إنجليزية. وهناك أيضا قصة التبر التى حقق منها سلكيرك، حسب رواية حفيدته، ثروة طائلة. وهى من الحكايات التى لم أسمع عنها فى المراجع شيئا البتة. ولو كان هذا صحيحا فلم ظل سلكيرك، بعد مغادرته الجزيرة، يشتغل قرصانا مع القراصنة? ولماذا لم نره يعيش ثريا فى بلده عندما أخلد إليها فى نهاية المطاف? ثم هناك التاريخ الذى تقول السيدة سلكيرك إن جدها قد غادر فيه تلك الجزيرة، وهو عام 1659م. والواقع أن هذا التاريخ غير صحيح بتاتا، إذ غادر جدها الجزيرة فى 1709م، أى بعد ذلك التاريخ بخمسين عاما. بل إن سلكيرك لم يكن قد وُلِد بعد فى ذلك الوقت، إذ رأى نور الدنيا عام 1676م. ومعنى ذلك أن السيدة المذكورة لم تكن دقيقة فيما حكته لنا عن جدها وديفو، لأنها إذا كانت تخطئ فى مثل تلك الأمور المنضبطة فبالأحرى تخطئ فيما لا ينضبط ذلك الانضباط. إننى لست ساخطا على السيدة سلكيرك بل أنا معجب رغم ذلك بها، فأَنْ نجد سيدة ناهزت التسعين وتتحدث بكل تلك الحيوية، وفى أمور أدبية كهذه قد مرت عليها بضعة قرون، وتعتز بجدها البحار وتهاجم أديبا كبيرا مشهورا بهذه الحماسة، هو أمر يدعو إلى الإعجاب، وبخاصة فى ظل ما نعرفه عن افتقار الناس فى بلادنا، حتى بين طلبة الجامعات الذين يشكلون زبدة متعلمى الشعب، إلى الاهتمام بالثقافة والتاريخ حتى ليجهل كثير من طلابى متى عاش توفيق الحكيم مثلا، إذ أجابنى بعضهم بأنه كان يعيش فى العصر المملوكى، وبعضهم بأنه ينتمى إلى العصر الأيوبى. كما أجد كثيرا جدا منهم يخلع لقب الدكتور على أى كاتب أو أديب حتى فى العصور القديمة التى لم تسمع بتلك الكلمة، فأفاجأ بهم يقولون فى ورقة الإجابة: الدكتور الطبرى والدكتور ابن حزم والدكتور امرؤ القيس، وهلم جرا. ولله يا زمرى! ودعنا من سيداتنا العجائز، فهن لا يعرفن عندنا شيئا بالمرة، اللهم إلا إذا كانت الواحدة منهن أستاذة فى الجامعة، إن كانت هناك أستاذة جامعية مصرية تعيش حتى ذلك العمر. هل عرف القارئ الآن السبب فى إعجابى بالسيدة سلكيرك رغم مخالفتى لكل ما قالته تقريبا?