لولو
**
كدت أصرخ فرحا: وجدتها، وأنا أتجول في المدينة القديمة، أتنفس عبقها التاريخي، حين داهمني غناء طروب. شعرت بتخفف من حمل ثقيل صاحبني منذ صغري كاد يفل قدراتي.
كنا، ونحن صغار، ننجذب إلى محل خياط حومتنا بمجرد مداعبة أنامله لأوتار عوده، كما لو أنه يداعب أوتار قلوبنا جميعا، كنا ننجذب بقوة روعة ما يصدر عن آلته العجيبة، كما تنجذب الفراشات للضوء، لكن صديقه الشرطي كان يفرقنا كما لو كنا نحمل فيروسات قاتلة يخاف على نفسه منها؛ وهو المهزول ضعيف البنية، ذو الوجه المستطيل، والعينين الضيقتين اللتين تجولان في محجريهما بحثا عن ضحية. نبتعد نفورا من صوته الأجش، مكرهين وكارهين، وقد شفى قلوبنا يوم علمنا أن إدارته يوم دخلته قد طلبته للخدمة، نازعة إياه من دفء الفراش، وما كاد ينعم به.
أما صاحب المحل فكان رجلا طيبا، لم يغضب أبدا من مناداته ب"لولو"، اسم غريب لم أستسغه، ولم أعرف له معنى، ظل يقرع سمعي زمنا طويلا، كاد يصيبني بحيرة مدوخة. كان يبتسم للمنادي بوجه بشوش رغم سمرته بل بفعل سمرته الصافية واللامعة وكأنها ذهنت زيتا . كان يتميزبجسمه الضخم، وقده الرياضي، وسمرته المحببة، لم يكن شعره أجعد بالمرة، بل كان متموجا، ما فارقته الابتسامة أبدا، أنيقا. كان ودودا، والكل يحب طيبته، أما صوته فرائع؛ لكنه كان يخجل من لونه، كما لو أنه عار يستوجب التخلص منه، وكان يحب أن يصير ذا سحنة بيضاء لدرجة سكنت وجدانه وعقله، ولم تبارحه أبدا، هذا ما كان يسر به لمقربيه، ومنهم الشرطي وأخوه، والحق أنها دائرة صغيرة، لكن خبث الشرطي كان مضمرا؛ فقد كانا، هو وأخوه، يسخران منه، وكان يصدق أي قول يصدر عنهما، دبرا له مقلبا.
بدآ يزينان له القيام بتجريب خلطة نجحت في تفتيح بشرة الكثيرين، شيطانان ملعونان ظلا يغريانه دون كلل أو ملل، وهو الرجل الذي تفل إرادته بمجرد ذكر تغيير اللون. ومديح الشيء يفتح أبواب النفس الموصدة، ولا حيلة مع الإغراء المتواصل.
ظلا يزينان له الخلطة، ومفعولها السحري، ظلا يغريانه بقدرتها على تبييض البشرة:
اخضر، ازرق، احمر، ابيض؛ ففرح؛ ولم تدم فرحته سوى أيام...
أغلق المحل، ونسي أهل الحي القصة، وبعد مرور عقد من الزمن، أتيت المحل، ارتقيت عتباته بروح عاشقة كما لو كنت أرتقي عتبات ضريح أطلب بركاته؛ لأنصت لعزفه الرائع، كنت أسمعها آتية من أعماق المحل، بل من أعماقه هو، آهاته تكاد تمزق نياط قلبي، عجبت للناس كيف لا يسمعونها؛ يمرون غير مبالين، همهم التبضع، والانصراف، أما الفن فكان آخر همهم، بل إن بعض الجيران اشتكى من موسيقاه. يرمونني بنظراتهم المستغربة؛ وقد رأوني أتابع بخشوع النغمات الصادقة، بهز رأسي، وانحدار الدمع من عيني. وكنت أتخيل العود في أحضاني، أعزف عليه بصدق مشاعري، كنت غارقا في اللحن، وإذا بي أحس، أن العود، فعلا، بين أحضاني صدره يلامس بطني، شعرت أنني وإياه قد اندغمنا، فصرنا واحدا، انصهار أسعدني، ورفعني إلى أعلى الذرى. سررت بهذه الهدية الجميلة، فزاد حماسي..
كنت منغمسا في عزف اللحن الذي سكنني زمنا، كنت منهمكا في العزف على العود وقد منحني أسراره، وطاوعت أوتاره أناملي المسكونة بالجمال، لم أكن أهتم بما حولي، أنا في لحظة تجل مجيدة، روحي محلقة في سماء النشيد الأزلي، وبمجرد ما توقفت حتى ضجت القاعة بالتصفيقات، خلت، للحظة، أن الرجل لمس كتفي وهمس في أذني: تستحق عودي، فخذه، إنه لك.
في تلك اللحظة، وكمن رفع عنه الحجاب، أو أصابه مس ما، رأيت فيما يراه النائم:
أن الأرض تنشق ويظهر منها رجل ضخم، قوي البنية، بشعر متموج، ببشرة حليبية، يرتدي بذلة بيضاء ، وحذاء من اللون نفسه، بوجه عطر الابتسامة، يخاصر فتاة بفستان أبيض يمتد إلى ألارض، قمحية اللون، بشعر أسود فاحم، منسدل خلف ظهرها، وبصدر نافر، وخصر نحيف، كانت تبتسم هي الأخرى، في وضع يشعرك برضاها، نظرا إلي بعذوبة، ثم رفرفا في الفضاء لفترة، هو يعزف يعوده أروع الألحان، وهي تغني بصوت شجي ومؤثر. ثم حطا بقلبي.
فتحت عيني لأجد الحي فارغا من الناس، وقد سادته ظلمة قاتمة بعد أن غادرته الشمس.