طز
**
قالها بصوت مرتفع لنفسه وللعالم، ثم ضرب برجله كل الخطوط الحمراء التي قيدته لعقود..كانت الركلة قوية، دقيقة التصويب، مريحة للنفس والبدن، فما أعذب التخلص من هموم الحياة، وأعبائها!
وأقبل على الحانة يستمتع بعصير الدوالي كما لم يفعل من قبل، يعب من ماء الحاية ما حرم منه طويلا، يكتشف متعة ظلت بعيدة عنه بفعل منطق التحريم، يعب ليملأ فراغ ما ضاع منه، يشبع حرمانا اشتد بفعل الصبر الطويل، كان يصوم الاثنين والخميس، و الأيام الييض، وكل أيام الأعياد الدينية غير عيدي الأضحى والفطر، ويلتزم الصلاة ويصبر عليها، لكن تعففه لم يمكنه من بلوغ الزوجة، ولا إنشاء الأسرة الدافئة، فأجره هزيل، وزاد من هزاله القرض الدي حصل عليه لشراء شقة متواضعة بأطراف المدينة. يستيقظ كل صباح مبلل السروال، فيتجه سريعا صوب الحمام لتحصيل الطهارة الكبرى.
ضرب كل الخطوط الحمراء، بقوة...
وأقبل على الحانة يشرب من نبيذها، ويأكل من لحم فتياتها، كل ليلة صحبة واحدة، حتى إذا ما استنزفهن، انتقل إلى حانة جديدة. تعجب من نفسه التي انبسطت أساريرها، ومن وجهه الذي ارتسمت عليه ابتسامة عذبة جذبت إليه الفتيات، وكان قبل ذلك عبوسا قمطريرا، كاد هذا العبوس أن يمتص رحيق ماء شبابه، ويكسو وجهه وحياته بالتجاعيد. وبفعل عدم قدرته على ربط علاقة مع فتاة، انتشرت شائعة تقول عنه: إنه حصور! كم تؤلمه هذه الكلمة، سافرت معه حتى كادت تصير لصيقة به لولا الانبساط المفاجئ؛ لو درى لفعل ذلك قبلا...لكن، لكل كتاب أجل.
صارت له مغامرات، يحمل كل مرة من الشارع أو البار، فتاة إلى ذلك المنزل المنزوي في أطراف المدينة، لم يعد بائسا، صار منتورا كما لو أنه أدخل إليه الكهرباء، أو أن الشمس صارت صديقة له، يقضي وطره بمتعة كبيرة.
والغريب أن الترقية التي انتظرها سنوات، واجتاز من أجلها المباريات، وتأبت عليه، جاءته على طبق من ذهب، هو الذي يئس من بلوغها، صار مدير البنك المركزي، وتحت إمرته موظفون وموظفات، كانوا يقولون عنه سابقا، إنه منحوس، رغم أنه استنجد بحجاب طوق به عنقه لكنه لم يجلب له حظا. أما الآن، وقد صار المدير الآمر الناهي، والموزع للحوافز، فقد أطلقت حوله شائعة جديدة: لقد نال الترقية بفعل الحجاب الذي يطوق به عنقه. أهو نسيان أم أن لكل موقع شائعة تناسبه؟ ربما هو قصور في الذاكرة وعطب لها، ربما هو رغبة في البحث عن مبر لنجاح الآخرين بإلصاق ترقيهم بالأحجبة والبخور. العين المليئة بتقرحات الأوهام لا ترى أن النجاح يرتبط بالجهد والعطاء، بالكفاءة والنبوغ.
اشترى سيارة بعد أن نفض الغبار عن رخصة سياقته التي حصل عليها في بداية شبابه ظنا منه أنه سينال سيارة تجلب أنظار الناس، وتحقق له الحظوة المطلوبة، لكن أجره الهزيل، ومرض أبيه، والأقساط الشهرية لم تمكنه من بلوع المراد، فاكتفى بالرخصة كعلامة...
قال لنفسه هامسا: لن أظل رهين أحلامي، لن تظل الحفلة الصاخبة والهمجية حبيسة توهماتي، سأجعلها تنزل إلى الأرض، سأخرجها من القوة إلى الفعل، الآن، صرت ذا مال ونفوذ، وما تنقصني ملاحة ولا قوة جسد، سأنهش اللحم بأسناني كإنسان بدائي، سألتهم الشرائح كلها بوحشية لا تضاهى...
قرر مع نفسه أن يصنع حدثا تتكلم عنه الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية والرقيمة، لفترة طويلة، ويرسخ في ذهن ووجدان الناس؛ حدثا لا ينسى، يبقى موشوما في ذاكرة الأجيال، يرحل عبر الزمان، ولا يتقيد بتقلباته، ولا يعبأ بممسحته. دعا كل موظفيه لحفل باذخ، ودس في المشروبات قليلا من حب النشاط، أقصد فياغرا الفرح، ثم هيأ غرفة نومه للحفل الماجن، تقلبت عليه كل النساء، أقبل على الشرب دون رغبة، والمضاجعة دون متعة، ينتقل من جسد لآخر بسرعة كما لو كان نحلة تمتص رحيق الأزهار كلها، وتصهرها في ذاتها، إلى أن بلغ تلك التي رمته ذات حب بنظرة شزراء، فأفرغ فيها ما تجمع في سده من مياه كانت كالطوفان، شعر لأول مرة بانتشاء رفعه إلى مقام التجلي، حيث رأى العالم في ظلامه الدامس، ورأى نفسه نبي المرحلة، فأشعل عود ثقاب.