ملخص عن معركة ميريوكيفالوم وأهميتها 572هـ/ 1176م :


الأستاذ الدكتور علي محمد عودة الغامدي


تنبع أهمية معركة ميريوكيفالوم من النتائج المهمة التي تمخضت عنها ومما يؤسف له أن هذه المعركة الحاسمة تكاد تكون مجهولة لدارسي التاريخ الإسلامي، ويعود السبب في هذا إلى أن المصادر الإسلامية المعاصرة لم تتحدث أطلاقا عن المعركة ،بل لم تُشِر إليها أبدا. ولا يوجد تفسير لإغفال المؤرخين المسلمين لذكر هذه المعركة الحاسمة، فقد كان يعيش في زمن المعركة العديد من المؤرخين الكبار في العراق والشام ومصر مثل ابن الجوزي، وبهاء الدين بن شداد، والعماد الأصفهاني والقاضي الفاضل وابن الأثير وغيرهم. وقد فصّـلواء كثيراً في الحوادث التاريخية التي جرت في عصرهم دون أن يُشيروا لتلك المعركة ، ولعلّ أخبارها لم تصل إليهم أو أنهم لم يُدركوا آهميتها فأغفلوها. ويُضاف إلى هذا آنه لم يوجد أي مؤرخ مسلم في تلك الحقبة في آسيا الصغرى حتى يتحدث عن تلك المعركة، ولهذا السبب كادت المعركة أن تكون مجهولة لدى الكثير من المختصصين في دراسة التاريخ الإسلامي.

وقصة المعركة جاءت مفصلة في رسالة الإمبراطور البيزنطي مانويل الاول الى صديقه الانجليزي هنري الثاني٠اضافة الى ما ذكره المؤرخ البيزنطي نيستاس خونياتس، وغيره من مؤرخي البيزنطيين والفرنج.
ولقد تمخض عن هذه المعركة دمار الجيش البيزنطي وتدهور الإمبراطورية البيزنطية بعد أن كانت تقوم بشن الحروب الضارية ضد المسلمين في آسيا الصغرى وبلاد الشام، كما تمخض عن المعركة توطيد نفوذ دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى وازدهارها٠ونتج عنها أيضاً تأمين الجناح الشمالي للجبهة الإسلامية المتحدة بقيادة صلاح الدين الأمر الذي مكنه من المضي قدما في جهاده ضد الصليبين دون أن يخشى جانب الدولة البيزنطية٠

في سنة 560هـ/1165م نشبت الفتنة بين قلج أرسلان الثاني وبين ياغي آرسلان بن دانشمند صاحب ملطية وتطورت إلى اندلاع الحرب الشديدة بينهما ، فانهزم قلج أرسلان أمام ابن دانشمند ،فاستنجد قلج أرسلان بالإمبراطور البيزنطي مانويل الأول الذي أرسل له مساعدة عسكرية طبقا لسياسته في إذكاء نار الخلافات بين الأمراء الأتراك في آسيا الصغرى٠ ولكن ياغي أرسلان لم يلبث أن توفيّٓ واستولى قلج أرسلان الثاني على بعض بلاده “واصطلح هو والملك ابراهيم بن دانشمند ، لأنه ملك بعد عمه ياغي أرسلان ، واستولى ذو النون محمد ابن دانشمند على مدينة قيسارية٠ وملك شاهان بن مسعود أخو قلج أرسلان على مدينة انكورية ، واستقرت القواعد بينهم واتفقوا” كما يقول ابن الأثير : غير أن تفكك دولة بن دانشمند أغرى قلج أرسلان الثاني بأن يضم إليه بعض بلادهم، ففي سنة ٥٦٨هـ/١١٧٢م زحف على ملطية وسيواس فاستولى عليها وطرد منها صاحبها ذالنون محمد ابن دانشمند ،فهرب الأخير، ملتجئاً إلى نور الدين محمود و مستمدا العون منه ، فأكرمه وأرسل إلى قلج أرسلان يطالبه بإعادة. بلاد ذي النون إليه، فلم يُجِبه إلى طلبه ” وكانت عادة نور الدين أنه لا يقصد ولاية أحد من المسلمين إلا ضرورة ، آما ليستعين بها على قتال الفرنج أو للخوف عليها منهم كما فعل بدمشق ومصر وغيرهما” ٠

وإزاء إصرار قلج أرسلان على موقفه، ولم يجد نور الدين بدا من الضغط عليه عسكريا، فسار إلى جنوب آسيا الصغرى واستولى على بعض الحصون التابعة لقلج أرسلان ، كما أرسل فرقة عسكرية انتزعت سيواس وأعادتها إلى ذي النون، وعندما شعر قلج أرسلان بجدية تهديد نور الدين أرسل إليه طالبا الصلح، فأجابه نور الدين إلى طلبه، وأرسل إليه شروطه ومن أهمها قوله: ” إذا طلبت عسكرك إلى الغزاة تُسيّره فإنك ملكت طرفا كبيرا من بلادالإسلام وتركت الروم وجهادهم وهادنتهم، فأما أن تنجدني بعسكرك لأقاتل بهم الأفرنج ، واما أن تجاهد من يجاورك من الروم وتبذل الوسع في جهادهم ” ولم يسع قلج أرسلان إلا الموافقة على شروط نور الدين الذي ترك فرقته العسكرية في سيواس لمساعدة ذي النون بن دانشمند٠

وبعد وفاة نور الدين سنة 569هـ/1174م عاد قلج أرسلان واستولى على بلاد ذي النون مرة آخرى٠ ولم يجد ذو النون ابن دانشمند حليفا يشدُ من أزره ويقف إلى جانبه، بعد وفاة نور الدين، فلجأ الى القسطنطينية شاكيا من قلج أرسلان كما أن شقيق قلج آرسلان شاهان شاه لجأ هو الآخر إلى القسطنطينية بعد أن انتزع منه بلاده٠ ومن الطبيعي أن يستجيب مانويل الأول لذي النون وشاهان شاه ولاسيما بعد أن ازدادت قوة قلج أرسلان كثيراً بعد أن عزل سائر منافسيه وأصبح هو الحاكم الأقوى في أسيا الصغرى ٠ كما أن قلج إرسلان استأنف من جانبه غزواته على حدود الدولة البيزنطية بتشجيع من الإمبراطور الألماني فريدريك بربرسا الذي يبدو أن هدفه من ذلك تحويل انتباه مانويل عن التدخل في الشؤون الأوربية من ناحية وتخفيف الضغط على الإمارات الصليبية في بلاد الشام من جانب المسلمين من ناحية أخرى ولذلك شرع مانويل في تحصين نشط لحدوده فأعاد بناء دوريليوم كما أحرز بعض الإنتصارات البسيطة في صيف سنة571هـ/1175م وأرسل إلى البابا في روما يحثه على الدعوة إلى حملة صليبية جديدة، وبدأ في أعداد قوات الإمبراطورية للزحف على آسيا الصغرى ،
ويبدو أن قلج أرسلان علم بالإستعدادات الضخمة للإمبراطور مانويل وتصميمه على اجتياح بلاده، فأرسل في شتاء571هـ/1175م-1176م رسولا إلى القسطنطينية ملتمسات تجديد اتفاقية الصلح ، فقوبل هذا الإلتماس بالرفض٠
وفي ربيع عام 572هـ/1176م قاد الإمبراطور البيزنطي مانويل الأول كل قوات الإمبراطورية البيزنطية عاقدا العزم على طرد الأتراك من غربي آسيا الصغرى طردا تاما ، ثم الإستيلاء على العاصمة السلجوقية قونية٠ ثم أرسل الإمبراطور مانويل حملة من قواته بقيادة ابن عمه اندرونيكوس فاتاتزيس وبصحبته ذي النون الدنشمندي للإتجاه الى نكسار لإنتزاعها من قلج أرسلان وتسليمها إلى ذى النون ، ولكن ذالنون تخلى عن القيام بالدور المطلوب منه لمساعدة البيزنطيين ٠ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا تخلف ذو النون عن القيام بالدور المناط به؟ الحقيقة أنه لم يرد في المراجع المتداولة تفسير السبب الذي جعل ذا النون لا يقوم بالدور المكلف به ٠ غير أن السبب لا يخفى على الباحث الحصيف اذا مانظر للحوادث نظرة شمولية ، وعرف الموقف برمته في منطقة الشرق الأدنى حينذاك ‘ فالراجح أن ذا النون خشي أن تفشل حملة الإمبراطور مانويل وهو ما حصل بالفعل وبالتالي لا يبقى له مكان يلجأ اليه هربا من انتقام قلج أرسلان ولا سيما وان نور الدين محمود الذي حماه في السابق قد توفي في ذلك الحين،وانقسم البيت الزنكي كما هو معروف،وبدأ النزاع يحتدم بين صلاح الدين و الزنكيين على السيطرة على بلاد الشام٠كما لا يستبعد إن ذا النون شعر أن إنتصار مانويل يعني انهيار نفوذ الترك وسيطرتهم على آسيا الصغرى، وهذا يعني أن ذا النون يشارك في تدمير قومه مما سيلحق به عارا لايُمحى إذا ما شارك في الحملة ٠وكي لا يظهر بمظهر الخائن في نظر المسلمين بمشاركته أعدائهم.
كل هذه الأسباب وربما بعضها ، حمل ذا النون على التخلي عن البيزنطيين ومخالفة الخطة المتفق عليها ٠
وفي ربيع الأول 572هـ/سبتمبر 1176م وبعدأن تخلى ذو النون عن البيزنطيين حلت الهزيمة الساحقة بحملة اندرونيكوس فاتاتزيس عند أسوار نكسار ، وقُتِل وأُرسلت رأسه كدليل على النصر إلى السلطان قلج أرسلان٠
والراجح ان خطة الإمبراطور مانويل ارتكنت الى ان ينجح ابن عمه اندرونيكوس في الاستيلاء على نكسار في الوقت الذي يكون فيه الإمبرطور قد حاصر قونيه عاصمة قلج أرسلان ليبدأ بعد ذلك اندرونيكوس في الضغط على سلاجقة قونية من الشرق، ويتم وضع مملكة قلج أرسلان بين فكي كماشة للإطلاق عليها٠
وكيفما كان الأمر فقد جمع قلج أرسلان عساكره من جميع حلفائه وأتباعه فأصبح يناهز في العدد جيش الإمبراطور البيزنطي وإن كان يقل عنه في الأسلحة والعدة، ويبدو أن قوات السلطان الرئيسية تتكون من قبائل التركمان الرماة الذين يمتازون بدقة التصويب وخفة الحركة ٠ وسارالإمبراطور مانويل بجيشه الهائل المثقل بالأمتعة والمؤن ومعدات الحصار قاصدا قونية عبر اقليم فيرجينا واجتاز طريق لوديكيا وأعالي وادي نهر المياندر مارا بحصن سوبلا يوم الذي بناه في السنة السابقة حتى وصل منطقة جبلية قريبة من الحدود، بينما تقدم قلج أرسلان بقوته بمحاذاة اكشيهير وهنا جدد قلج أرسلان طلبه عقد الصلح ، فرفض مانويل مرة أخرى٠ وصعد الإمبراطور بجيشه وادي المياندر نحو السلسلة الضخمة من جبل السلطان والمشتمل على شعب ضيق شديد الإنحدار شمالي بحيرة اجريدير (المسمى حاليا ممر تشارداك) ويقع في نهاية الشعب حصن بيزنطي مهجور يعرف باسم ميريوكيفالوم قرب الحدود٠ وكان الجيش السلجوقي قد احتشد حول التلال الجرداء المشرفة على الشعب بحيث أصبح واضحا بجلاء للبيزنطيين٠ وانقسم الرأي بين قادة الجيش البيزنطي ، فالقيادة المتمرسون من ذوي الخبرة الطويلة في حروب آسيا الصغرى والمدركين لأساليب الترك القتالية أشاروا على الإمبراطور بالتراجع ، وحذروه من مغبة مواصلة الزحف ، في حين حث القادة الشباب المتحمسين الإمبراطور على المضي قدما عبر الممر متوهمين أن في مقدورهم اكتساح الأتراك وإحراز النصر وتحقيق المجد فاستجاب الإمبراطور لرأي القادة المتهورين٠
وفي ربيع الأول 572 هـ/12سبتمبر 1176م مضت مقدمة الجيش داخل الشعب الضيق غير مبالية بالأتراك الذين اعترضوا طريقها وحاولوا في البداية المقاومة ثم تراجعوا ، وفق خطة مرسومة على الأرجح ، وأخذ الأتراك المسلمون يدورون حول التلال، وينقضون على جناح الجيش البيزنطي ومؤخرته ، وفي الوقت الذي واصلت فيه فرق الجيش الأخرى التقدم داخل الشعب وضغطوا على بعضهم البعض بشدة، وحاول صهر الإمبراطور بلدوين الأنطاكي رد الهجوم التركي فقاد فرقة من الفرسان في هجوم مضاد على التلال غير أنه قُتِل مع كل الفرسان الذين معه، وكان الأتراك يلوحون برأس اندرونيكوس فاتاتزيس لكي يحطموا معنويات البيزنطيين ويفتوا في عضدهم، نظرا لأنهم لا يعلمون المصير الذي آلت إليه حملته٠ وكان لمصرع بلدوين ورؤية رأس اندرونيكوس أسوأ الأثر على معنويات البيزنطيين المتورطين في الشعب .

وفي تلك الأثناء فقد الإمبراطور شجاعته وولى هاربا خارج الشعب لا يلوي على شيء، وتبعه كل أفراد الجيش الذين وجدوا أنفسهم متشابكين مع عربات الأمتعة والمؤن التي سدت الطريق خلفهم ، وهناك انحدر عليهم الأتراك المسلمون من أعالي التلال وشرعوا يحصدونهم حتى حلول الظلام، أما الإمبراطور فقد جرى إيقافه أخيرا من قبل بعض ضباطه، وكان في الإمكان إبادة الجيش البيزنطي بأكمله وأسر الإمبراطور مثلما حدث في ملاذكرد، غير أن قلج أرسلان أمر أتباعه بالتوقف عن القتل فأنقذ ما تبقي من فلول الجيش البيزنطي ،على إن معظم الجيش الإمبراطوري أبيد في المعركة ٠

وقد صور المؤرخ البيزنطي المعاصر نيستاس خونياتس تلك المعركة بإنها كانت”منظرا بالغ التمزق ، بل إنه يبرز القول،فآلكارثة كانت عظيمة اذ أن القول أنها كانت فاجعة لايكفي فالحفر امتلأت إلى ذروتها بالجثث ، وهناك في الوهاد وشعاف الجبال كانت أكوام من القتلى ، ولم يعبر أحد بدون جروح أو عويل ، فالجميع كانوا يبكون ويولولون منادين أصدقائهم وأقربائهم المفقودين بأسمائهم”٠

شرع مانويل في جمع شتات بقايا جيشه الممزقة، وقبل السلطان قلج أرسلان التماس الإمبراطور السلام ، واشترط عليه هدم الحصنين الجديدين دوريليوم وسوبلايوم ، فقبل مانويل راضيا وشاكرا هذه الشروط السهلة ، وانسحب مخربا تحصينات سوبلا يوم وتاركا دوريليوم ، وعاد مع بقاياه الممزقة صوب القسطنطينية، وقد أرسل معه السلطان ثلاثة أمراء من السلاجقة ممر أفقين لحمايته من هجمات التركمان أثناء عودته٠
لقد كان في مقدور السلطان قلج أرسلان إملاء شروط قاسية على الإمبراطور مثل إخلاء كل آسيا الصغرى فورا وتركها نهائيا للسلاجقة٠ ولذلك يعجب بعض أساتذة التاريخ البيزنطي لتلك الشروط السهلة التي قدمها قلج أرسلان لمانويل بعد المعركة، والتي لا تتناسب مطلقا مع ما حازه من انتصار٠
ويذكرون أنه لأسباب لا تزال غير معروفة استخدم قلج أرسلان انتصاره باعتدال وفتح بابا المفاوضات مع الإمبراطور والتي أفضت إلى معاهدة سلام معقولة لم تتضمن سوى تدمير بعض الحصون البيزنطية٠ ويعزو بعض الباحثين الآخرين شروط قلج أرسلان السهلة، إما لأنه كان قانعا بحدوده المميزة وإن ما ينشده على الحدود الغربية هو الأمن والسلام، أو لأنه لم يدرك حجم الإنتصار الذي أحرزه٠ والواقع أن الأسباب التي حدثت بقلج أرسلان إلى تقديم شروط سهلة للإمبراطور البيزنطي ، هي أن جُلّ اهتمامه كان منصبا نحو الشرق فكان يريد السلام على الحدود الغربية كيما ينصرف إلى توطيد نفوذه في الشرق وإخضاع بقية الإمارات المستقلة في تلك المناطق، ثم العمل على توسيع نفوذه في أعالي الجزيرة والشام، ولاسيما وأن نور الدين محمود قد توفي ، وهو الرجل الذي كان قلج أرسلان يخشاه في هذه المناطق٠
اضافة إلى أن صلاح الدين كان حينذاك منهمكا في توطيد نفوذه في مصر وفي جهاد الصليبين، بل وكان النزاع محتدما بين صلاح الدين وبين بقايا الزنكيين في شمال الشام والجزيرة٠ الأمر الذي يبدو أنه جعل قلج أرسلان يسارع بعقد الصلح مع الإمبراطور مانويل لكي يفيد من ذلك النزاع لحسابه الخاص٠ ومما يزكي هذا الرأي أن قلج أرسلان شرع فعلا في التوسع في أعالي الشام والجزيرة وفرض الحصار على حصن رعبان المهم في شمال الشام، والذي كان قد انتزعه منه نور الدين وهو في ذروة مجده ، ولكن صلاح الدين رغم انشغاله حينذاك بقتال الفرنج وتخريب حصن بيت الأحزان أرسل ابن أخيه تقي الدين عمر لنجدة رعبان فأنزل الهزيمة بقلج أرسلان ومنعه من التوسع في شمال الشام٠ ولعل قلج أرسلان أدرك إن القضاء التام على نفوذ الدولة البيزنطية في كل آسيا الصغرى قد يحدو بها إلى استثارة البابوية والغرب الأوروبي مما يجعلهم يشعرون بالخطر مثلما حدث بعد ملاذكرد- الأمر الذي سيدفع بهم إلى تجريد حملة صليبية ضده،في وقت لا تزال فيه بعض أجزاء من آسيا الصغرى في الشرق والجنوب خارجة عن سيطرته٠
وقد أدرك الإمبراطور مانويل نفسه مدى الكارثة التي حلت به وبالأمبراطورية البيزنطية في معركة ميريوكيفالوم ، حتى أنه شبهها بمعركة ملاذكرد (مانزيكرت) التي وقعت للأمبراطور رومانوس ديوجينس قبل قرن من الزمان.
ويقرر المؤرخ الألماني كوجلر أن معركة ميريوكيفالوم قررت وإلى الأبد مصير الشرق ٠ ويمكن لنا القول : أنها كانت نقطة تحول في تاريخ العالمين الإسلامي والمسيحي في ضوء النتائج التي تمخضت عنها وهي:

أولا :
فيما يتعلق بسلاجقة الروم فالحقيقة أن معركة ميريوكيفالوم تضارع في أهميتها ونتائجها معركة ملاذكرد، فإذا كانت معركة ملاذكرد قد فتحت أبواب آسيا الصغرى على مصراعيها أمام الأتراك السلاجقة فإن معركة ميريوكيفالوم ووطدت ورسخت وجود الأتراك السلاجقة المسلمين على أرض آسيا الصغرى٠
ذلك أنه ترتب على معركة ملاذكرد ردة فعل عنيفة لدى الأباطرة البيزنطيين استمرت على مدى قرن من الزمان ، فبذلوا كل مافي وسعهم من محاولات لاسترداد آسيا الصغرى، وتجسدت تلك المحاولات في الاستنجاد بالغرب الأوروبي والبابوية من قبل ميخائيل السابع والكسيوس مؤمنين، ثم ما أمله الكسيوس من الإفادة من الحملة الصليبية الأولى في استرداد آسيا الصغرى ،وما قام به الأباطرة من أسرة آلِ كومنين من محاولات جادة ، عن طريق الحملات التي قادوها بأنفسهم ضد الأتراك السلاجقة ٠ فجاءت معركة ميريوكيفالوم لتبدد ردة الفعل تلك ولتقضي وإلى الأبد على كل الآمال والأحلام البيزنطية في اعادة آسيا الصغرى إلى حظيرة الإمبراطورية ، ناهيك عما نجم عن معركة ميريوكيفالوم من ازدياد الضعف والخور الذي انتاب الإمبراطورية البيزنطية مما جعلها تقف عاجزة حتى عن الدفاع عن وجودها أمام الحملة الصليبية الرابعة بعد 28 سنة على معركة ميريوكيفالوم ٠ فصارت بلادأسيا الصغرى أرضا للترك ومنذ أواخر القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي أصبحت تدعى في المصادر الغربية باسم تركيا ٠ كما أن قلج أرسلان تمكن بعد معركة ميريوكيفالوم من إرسال قواته إلى غربي أسيا الصغرى ، ففتحت مناطق يلوبورلو وكوطاهيا واسكى شهر، ولم يجد التركمان المسلمون بعد معركة ميريوكيفالوم صعوبة في التوغل بخيولهم وسائمتهم مع مجاري الأنهار حتى مصباتها في بحر ايجه٠ وبفضل هذا النصر الحاسم توطدت الوحدة السياسية للأناضول وساد بها القانون والنظام وبدأت حقبة التقدم الإقتصادي والثقافي، وبلغت دولة سلاجقة الروم ذروة المجد في عصرها الذهبي الذي استمر حتى الغزو المغولي سنة 641هـ/1243م ، كما تكثفت طرق المرور الهامة للتجارة العالمية في تلك المنطقة وأصبحت آسيا الصغرى جزءا رئيسيا من العالم الإسلام٠

ثانيا:
كانت معركة ميريوكيفالوم بالنسبة للإمبراطورية البيزنطية كارثة عظمى منيت بها ٠ أراد الإمبراطور مانويل أن يبدد الخطر السلجوقي فإذا به يقع مع إمبراطوريته في هوة سحيقة لا سبيل إلى الخروج منها ٠ ومع ذلك فإن مادحا مجهولا لمانويل قلب فراره الفعلي أمام الأتراك المسلمين إلى واحدة من مآثره الرائعة حينما قال: ” بعد الإصطدام مع حشود المهاجمين الأتراك اندفع (مانويل) إلى الهرب بمفرده دون أن يخشى السيوف والسهام والرماح ” ٠ أما ابن اخت مانويل فقد زين بيته الجديد بصور زيتية ومن ضمنها صور تتضمن أعمال السلطان على الجدران، ولكنه وضعها في الأماكن المظلمة من الدار تعبيرا عن التشاؤم ، وهي في حقيقتها تشرح الكارثة التي حلت بالإمبراطورية في معركة ميريوكيفالوم ٠ ورغم ادراك مانويل لإبعاد الكارثة التي حلت به وحقيقة ما فقده في المعركة فإنه حاول التقليل من هزيمته الساحقة في نظر معاصريه، ففي رسالة طويلة بعث بها إلى صديقه الغربي الملك هنري الثاني بلاتاجنيت ملك إنجلترا ، أعلن مانويل هزيمته ، ورغم إنه حاول بوضوح أن يخففوا قليلا ، إلا أن القصة الكاملة للمعركة أعطيت من جانبه في تلك الرسالة، كما أورد فيها معلومات مهمة تتعلق باشتراك الرجال الإنجلتر في المعركة ، والذين خدموا الأباطرة البيزنطيين كجنود مرتزقة منذ سنة 1166م وبخاصة في الحرس الأمبراطوري٠
غير أن كل تلك المحاولات لم تجد نفعاً في التخفيف من وقع الكارثة على الإمبراطورية ، فهيبة مانويل انحدرت إلى الحضيض ، إذ أن هزيمته في معركة ميريوكيفالوم أذكرت الرغبة لدى الأباطرة الجرمان من آسرة الهوهنشتاوفن في أن تصبح سيطرتهم عالمية الطابع ، أي على الشرق والغرب على حد سواء٠ فقد أرسل الإمبراطور مانويل بعد معركة ميريوكيفالوم رسالة إلى الإمبراطور فريدريك الأول بربرسا صاحب الإمبراطورية الرومانية المقدسة صور فيها وضع السلطان قلج أرسلان وكأنه ضعيف٠ غير أن فردريك بربرسا قد علم في ذلك الحين بحقيقة هزيمة مانويل الساحقة، و في رده عليه أعلن فردريك أن الأباطرة الجرمان تسلموا سلطتهم من أباطرة الروم العظام ، ليحكموا ، ليس فقط الإمبراطورية الرومانية بل المملكة اليونانية (الدولة البيزنطية) ولذلك أمر فردريك الملك اليوناني مانويل بأن يعترف بالسلطة للإمبراطور الغربي ويطعن لسلطة البابا ،. وأنهى فردريك خطابه بالإشارة إلى. أنه سوف يعدل سلوكه في المستقبل ازاء مانويل الذي كان يزرع عبثا القلاقل بين الأتباع الإقطاعيين ضد الإمبراطورية الغربية ٠ وهذا كله يشير بوضوح إلى انهيار هيبة الإمبراطورية البيزنطية ورغبة الإمبراطور الألماني في استغلال هزيمة البيزنطيين وفرض سيطرته عليهم٠
ولم يستطع مانويل أن يخفي الأثر الذي تركته معركة ميريوكيفالوم في نفسه٠ وقد وصف المؤرخ الصليبي المعاصر وليام الصوري حالة مانويل النفسية حين زار القسطنطينة سنة 575هـ/1179م في طريق عودته من مجلس اللاتران الثالث الذي انعقد في روما، وفي القسطنطينة حضر بعض الإحتفالات الإمبراطورية، ووصف حالة مانويل النفسية مؤكدا على أنه لم يسترد عافيته وطمأنينته أبدا، وأنه لا يزال يحمل في قلبه أثرا عميقا من هزيمة ميريوكيفالوم ، ولم يعد يبدي روحا مرحة ، وهي التي كانت تميزه في السابق ، ولم يظهر مبتهجا أمام مواطنيه مهما تضرعوا إليه ولم يعد ينعم بصحة جيدة، بعد أن كان قبيل تلك الحادثة مفعما بالصحة، رابط الجأش مؤلفته للنظر، إذ أن تلك الهزيمة اخمدته إلى الأبد٠. وأشار وليام الصوري إلى ما تركته هزيمة ميريوكيفالوم من أثر سيء في نفوس الصليبين٠
ونتج عن معركة ميريوكيفالوم تدمير الجيش البيزنطي الذي أُنشىء تدريجيا وبتضحيات جسيمة للبيزنطيين ٠
ولفترة من الزمن أصبحت الإمبراطورية بدون حماية عسكرية، وجرى تطويقها من جانب أعدائها الذين طمعوا فيها٠ أما حلم مانويل في جعل الإمبراطورية مرة أخرى قوة عظمى فقد ذهب أدراج الرياح ٠ وأخيرا طُردت الحاميات البيزنطية القليلة من إيطاليا وشرع الهنغاريون في جس الحدود الشمالية ، وأسهم الصربيون في زعزعة السيطرة البيزنطية، وليس هناك سوى القليل الذي استطاع أن يفعله مانويل ازاء تلك الأزمات التي أخذت تترى على الإمبراطورية بعد معركة ميريوكيفالوم، فبدد موارد الإمبراطورية وأنفق الثروة المكدسة من قبل والده ، الشدي الحرص في النفقة، كما أنفق النفائس المعدة للإستخدام في أوقات الطوارئ على الجنود المرتزقة، وابتدع حكم الطبقة العسكرية التي انفرد أعضاؤها بكراهية الشرقيين٠ والأمر الذي لا شك فيه أن فناء الجيش البيزنطي في معركة ميريوكيفالوم يفسر السهولة التي سقطت بها القسطنطينة أمام الحملة الصليبية الرابعة، اذ لو قد لجيشها البقاء لأصبح من العسير جداً على الحملة الصليبية الرابعة اقتحام القسطنطينية والإستيلاء عليها٠
وصفوة القول أن الإمبراطور مانويل كان يريد السيادة العليا على الإمارات الصليبية في الشرق والنجاح في هنقاريا وتوهم أن في مقدوره أن يحتل منطقة واسعة في إيطاليا وأن يحافظ على مركزه في سائر الميادين الشرقية والأوروبية ٠ جاءت معركة ميريركيفالوم الحاسمة لتبدد كل المكاسب التي أحرزتها الإمبراطورية في السابق فانهار النفوذ البيزنطي في الشرق وطُرد البيزنطيون من قيليقية وفقدوا السيطرة على. آسيا الصغرى إلى الأبد٠

ثالثا:
أما عن أثر معركة ميريوكيفالوم على الصليبين ، فقد حاول مانويل أن يثبت في السنة التالية للمعركة 573 هـ/1177م أنه لا زال قادرا على مساعدة الصليبين فأرسل أسطوله بحرا للمشاركة مع مملكة بيت المقدس الصليبية لغزو مصر غير إن الحملة لم تبحر إلى مصر مطلقا بسبب تقاعس فيليب كونت فلاندر الذي وصل مؤخراً من أوروبا٠ ورغم احتفاظ مانويل بعلاقات جيدة مع أصدقائه الصليبين في بلاد الشام وجهوده في سبيل ازالة الحواجز بين اليونانيين واللاتين وعمله على تقليص المشاحنات السياسية اللاذعة والتيارات الدينية المتنافرة بين الجانبين ، فإن ذلك كله لا يمكن أن يحجب حقيقة تدمير قوات الإمبراطورية في معركة ميريوكيفالوم وانهيار السياج الإخير الذي يمكن أن يركن الصليبيون إلى مساعدته في وقت الشدائد ٠ وقد أدرك المؤرخ الصليبي المعاصر وليام الصوري تلك الحقيقة كما ذكرنا آنفا ٠ ويعلق بعض الباحثين المحدثين بقوله :” إن الهزيمة الساحقة التي حلت بالإمبراطور مانويل من جانب سلاجقة قونية (17سبتمبر 1176) أقصت البيزنطيين بوصفهم حليفا فعالا في مستقبل الحملات الصليبية في بلاد الشام ومصر”٠
إلا أنه برغم شعور الشك والريبة الذي ساد بين الدولة البيزنطية والصليبين منذ فجر الحركة الصليبية فانهم كانوا يلوذون بها وقد شاركتهم أحيانا في شن الحرب المباشرة على المسلمين مثل الحملة البيزنطية الصليبية المشتركة التي قادها الإمبراطور حنا كومنين ضد عماد الدين زنكي سنة 531 هـ/1138م ، لذلك كله من الطبيعي أن تصيب معركة ميريوكيفالوم الصليبين بالفزع والهلع ، لأنهم أدركوا انكماش الإمبراطورية البيزنطية عن آسيا الصغرى وزوال مساعدتها المقدمة إليهم ولاسيما إلى إمارة أنطاكيا بالذات جعلهم في الميدان وحدهم أمام المسلمين٠

رابعا:
أما عن أثر المعركة على الجبهة الإسلامية ضد الصليبين بقيادة صلاح الدين، فعلى الرغم من أن سلاجقة الروم لم يرسلوا قواتهم للإشتراك مع صلاح الدين في جهاد الصليبين الا أن قضاءهم على الجيش البيزنطي في معركة ميريوكيفالوم كفل الأمن للجناح الشمالي لجبهة صلاح الدين ، فقد كانت تلك الجبهة كما رأينا مصدر قلق لنور الدين محمود إبان حياته وحالت بينه وبين الامعان كثيراً في الضغط على الصليبين٠ وليس هذا فحسب ، بل لقد أصبحت الإمبراطورية البيزنطية بعد وفاة مانويل تتخلى نهائيا عن سياستها الصليبية وقلبتها رأسا على عقب، فلم تجد غضاضة في التماس صداقة صلاح الدين فعقدت معه معاهدة سلام وصداقة ضد المصالح الصليبية في بلاد الشام٠ وبذلك خدمت معركة ميريوكيفالوم القضية الإسلامية برمتها.

وهكذا كانت المعركة الحاسمة احدى المآثر العظيمة التي قام بها الأتراك المسلمون في التاريخ الإسلامي٠

http://alghamdiprof.com/ali/%D9%85%D...%D8%A7-%D9%A5/