المرحلة الجامعية من حياتى التعليمية
(صفحات من كتابى: "من كُتّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد")
إبراهيم عوض

ما إن حولتُ أوراقى من كلية الاقتصاد إلى كلية الآداب حتى انتظمت على التو فى محاضرات قسم اللغة العربية شاعرا بالسعادة أنْ تركت الكلية التى تخرج رجال السلك الدبلوماسى والسفراء كما كان الطلاب يظنون فى ذلك الوقت، ولم أنتظر حتى تأتى الموافقة على قبول أوراقى فى الكلية الجديدة، اطمئنانا منى إلى أن درجاتى أعلى كثيرا من درجات تلك الكلية، ووجدت نفسى فى الحال فى مقررات اللغة العربية وآدابها. وكان من أساتذتنا د. يوسف خليف ود. عبد الحميد يونس ود. عبد العزيز الأهوانى ود. شكرى عياد ود. حسين نصار ود. كامل جمعة ود. النعمان القاضى ود. عبد المنعم تليمة ود. محمود فهمى حجازى ود. أحمد مرسى، وكذلك الأستاذ عبد الحميد السيورى والأستاذ عبد الحكيم راضى (اللذان صارا دكتورين فيما بعد)... إلخ.
وكان بعضهم يملى علينا ما يريد قوله، وبعضهم يحاضرنا. وكنت أناقش كل الأساتذة تقريبا فيما يقولون. وكتبت أول بحث فى مادة التاريخ العربى قبل الإسلام، التى كان يدرسها لنا فى السنة الأولى د. حجازى، ولم يكن البحث أكثر من تلخيص لما قرأت فى بعض الكتب المتعلقة بالموضوع. وأذكر أننى ألقيته فى المحاضرة برباطة جأش وثقة بالنفس وصوت قوى، وكان زملائى ينصتون جيدا دون أن يحدث أحدهم أية ضجة، وهذا من فضل الله رغم أنى لم أقدم أى جديد آنذاك. ويتضح معنى ما أقول إذا ذكرت أن أحد زملائى التوانسة، وكان معنا منهم فى الفرقة ثلاثة، وهو الأخ محمد بوزركونة، حين ألقى محاضرته لم يكن هناك ذلك الصمت الكامل, وربما كان ذلك راجعا إلى انخفاض صوته وغرابة لهجته.
أما فى السنة التالية فكان علينا مادة بحث بإشراف د. خليف، وكانت تدور حول موضوع الشك فى الشعر الجاهلى. ولا أدرى الآن السبب فى عزوفى عن مجرد القراءة فى ذلك الموضوع، الذى كنت أسمع ما قالته لنا زميلتنا حسنة الزهار، الأستاذة الآن بكلية البنات بجامعة عين شمس، والتى لم أقابلها إلا أمس بعد انقطاع دام نحو ثلاثة وأربعين عاما لم ير فيها أحدنا الآخر، وكان ذلك فى كليتها حين ذهبت، كما أفعل كل أسبوع، لإعطاء طلبة الدراسات العليا محاضرتين فى نصوص المستشرقين ومناهج البحث، وهما المحاضرتان اللتان أعتمد فيهما على استحثاث الطلاب إلى إخراج ما عندهم والحديث بكل حرية عن رأيهم فيما قرأوه فى الموضوع الذى أحاضرهم فيه، شاعرا بالنشوة وأنا أستمع إليهم وأعقب على ما يقولون أو أبدى رأيى فى أمر من الأمور التى يسألوننى فيها... إلخ، موضحا لهم أننى أستفيد منهم كما يستفيدون هم منى وأن المحاضرة دون مشاركة الطلاب فى النقاش لا تساوى الكثير، وأن كثيرا من الأفكار التى أعتز بالتوصل إليها وأعد نفسى ابن بجدتها هى فى الغالب ثمرة أسئلتهم أو اعتراضهم أو تعبيرهم عن رأيهم حتى لو اختلفت معهم فيما يقولون، إذ الحوار هو الأساس فى كثير من الاكتشافات الفكرية، وأن الأستاذ هو فى الحقيقة مجرد طالب علم، وكل ما فى الأمر أنه سبق طلابه إلى طريق المعرفة وأنه قرأ أكثر منهم، وإن كان منهم من قد يفوقه ذكاء وفهما، وأنه من الطبيعى جدا أن يقع فى الأخطاء من كل نوع، وأن ما يقوله ليس كلاما معصوما، بل هو مجرد اجتهاد قد يصح وربما لا يصح، وأن الحقيقة لا يعلمها على وجه اليقين والكمال إلا الله، أما نحن فغايتنا أن ندندن حولها، وأن هذا هو ما سوف يحاسبنا الله على أساسه بغض النظر عن إصابتنا إياها أو لا، وأنه لا يصح أن يحقر أى منهم قدراته العقلية والفكرية.
ترى هل يعى طلابى أبعاد ما أقول؟ أرجو هذا، وإن كان منهم من يؤكد لى أنهم قد تأثروا بكلامى وبإلحاحى الذى لا يفتر أبدا فصاروا يقرأون بعد أن كانوا لا يبالون بالكتاب ولا بالقراءة. وأحيانا ما أقول لنفسى إن كلامى سوف يؤتى ثماره بكل تأكيد ولو بعد حين، إذ لا يعقل أن يستحيل كل هذا الذى أقوله هباء منثورا دون أن يخلف وراءه أى أثر. ذلك أننى فى العادة لا أتصور أن يكون لكلامى تأثير ذو قيمة فى الطلاب، فأحاول أن أدخل الطمأنينة على قلبى بهذه الطريقة.
وكعادتى هنا فى استباق الأحداث للمقابلة بين ما كان وبين ما صار (وتكرير "بين" هنا مع اسمين ظاهرين سليم ليس فيه شائبة لغوية بالمناسبة) أقول: لقد دارت الأيام، وإذا بى أنغمس فى تلك القضية وأتناول ما كتبه مرجليوث فى بحثه الذائع الصيت: "The Origins of Arabic Poetry: أصول الشعر العربى"، فأترجمه وأعلق عليه وأدرسه فى كتاب مستقل، مع تفنيد كل ما جاء فيه مثلما فعلت مع كتاب "فى الشعر الجاهلى" لطه حسين فى كتابى: "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وكذلك فى بحث لى طويل بعنوان "نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى: سرقة أم ملكية صحيحة؟" يجده القارئ فى كتابى الضخم" "أفكار مارقة- قراءة فى كتابات بعض العلمانيين العرب"، ثم ينتهى بى الأمر إلى كتابة دراسة من عشرات الصفحات عما كتبه ابن سلام، الذى كنت فى البداية كغيرى من الباحثين أتصور أن ما قاله فى ذلك الموضوع هو الاعتدال المطلق والمنطق المحكم بعينه، فإذا بى منذ عدة أعوام قليلة أعكف عليه لأتبين أن معظم ما قاله ليس له أساس من الصحة، والباقى غير مقطوع به، إذ هو مجرد أحكام انطباعية أو مبتسَرة أو متسرعة من ناقدنا الكبير. وعنوان البحث المذكور هو "ابن سلام والشك فى الشعر الجاهلى"، وهو عبارة عن الفصل الأول من كتابى: "الأدب العربي- نظرة عامة لبيير كاكيا: عرض ومناقشة".
أما سبب عودتى إلى بحث ابن سلام فى الأعوام الأخيرة فهو دليل قاطع على صحة ما أقوله من أن مشاركة الطلاب فى المحاضرة، حتى لو قالوا كلاما غير ذى قيمة، من شأنه أن يحفز عقل الأستاذ على التفكير والإبداع. وهذا هو البيان: فقد حدث منذ عدة سنين قليلة أن كنت داخلا محاضرة "الثقافة العربية قبل الإسلام" للفرقة الأولى بقسم اللغة العربية بآداب عين شمس ظهرا، فوجدت طالبا كان يدرس فى السنة التمهيدية للماجستير يعترض طريقى فى الممر المؤدى إلى قاعة المحاضرة طالبا منى السماح له بحضور الدرس لأن أستاذهم لم يحضر ذلك اليوم، فرحبت به. وما إن شرعت أتكلم فى موضوع المحاضرة وأتناول الكلام عن الشك فى الشعر الجاهلى حتى علق قائلا إن ابن سلام قد أشار إلى أن الشعر الذى وردنا عن عاد وثمود غير صحيح لأن تينك القبيلتين قد بادتا عن آخرهما، ومن ثم لم يكن هناك من يمكن أن يكون قد روى شعرهما. قال الطالب ذلك دون أن تكون تلك هى النقطة التى أتحدث فيها ساعتئذ. ولكنى لم أعر تلك الشكلية اهتماما، بل ألفيت نفسى أقول له: اسمع يا فلان. هل تظن أن الله سبحانه قد أهلك نبييه: هودا وصالحا مع قوميهما؟ أجاب: لا. فعدت أسأله مرة أخرى: وهل تظن أن من آمنوا من هاتين القبيلتين بذينك النبيين قد عوقبوا وأُهْلِكُوا مع الهالكين؟ فعاد يجيب أنْ لا. فقلت للطلاب: ليعطنى أحدكم مصحفا لأقرأ الآيات التى تعرضت لعاد وثمود وعقابهما. ثم أردفت سريعا: وبالذات سورة "هود"، التى أحسب أنها أكثر السور القرآنية تفصيلا فى هذا الموضوع.
فأعطتنى إحدى الطالبات مصحفا بعدما فتحته على الآيات المذكورة من تلك السورة الأخيرة، فقرأتُ على الطلاب بصوت عال ما جاء فى ختام الكلام عن كل قبيلة من القبيلتين وتمردها على نبيها: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ"، "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ"، ثم عقبت بقولى: إذن فعاد وثمود لم تبيدا عن آخرهما كما ظن ابن سَلاَّم جَرَّاءَ فهمه الخاطئ لقوله تعالى فى سورتى "النَّجْم" و"الحاقَّة" على التوالى: "وأنه أهلك عادا الأولى * وثمود فما أَبْقَى"، "فأما ثمودُ فأُهْلِكوا بالطاغية * وأما عادٌ فأُهْلِكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عاتية". ذلك أنه ظن أن الهلاك كان عاما شاملا لم يُبْقِ ولم يَذَرْ أحدا من هاتين القبيلتين، غير متنبه إلى أن الكلام هو عن الكافرين منهما لا عن كل أفرادهما واحد واحدا، وإلا لكان معنى الكلام هو أن الله قد عاقب نبييه: هودا وصالحا ومن آمن بهما ضمن من عاقبهم واستأصلهم من الكفار المتمردين، وهو ما لا يمكن أن يكون.
ثم أردفتُ مرة أخرى: ولنفترض أن عادا وثمود قد استؤصلتا استئصالا تاما أفلم يكن هناك من القبائل العربية الأخرى من سمع بعض أشعار هاتين القبيلتين ورواها للأجيال القادمة؟ ثم مضيت فى توضيح فكرتى منبها إلى أن كلامى هذا لا يعنى بالضرورة أن ما جاءنا عن تينك القبيلتين من أشعار هو صحيح بالضرورة، بل كل ما أقصده هو أن حجة ابن سلام هى حجة داحضة، وإن كانت قد جازت على عقولنا قرونا طوالا. ثم قمت بتغيير سطر أو سطرين فى الطبعة الجديدة التى كانت توشك أن تظهر من كتابى: "فصول فى ثقافة العرب قبل الإسلام" فيها خلاصة هذا كله باختصار شديد كيلا أفسد طبعة الكتاب كلها. لكنى لم أكتف بذلك، بل عكفت على مقدمة ابن سلام لكتابه: "طبقات الشعراء" أقرؤها بتدقيق لأنتهى بوضع دراسة مطولة عن الموضوع برمته لم أكد أترك فيها شيئا مما قاله ابن سلام فى تلك القضية إلا بينت أن أدلته فيها ضعيفة أو معدومة، ونشرتها أولا على المشباك (الإنترنت)، ثم ضمَّنتها بعد ذلك كتابى: "الأدب العربى- نظرة عامة لبيير كاكيا: عرض ومناقشة" كما وضحت آنفا.
وكنت قد تنبهت إلى أهمية الحوار فى تحريك العقول وبلورة الأفكار وإبداعها منذ كنت فى الثانوية العامة، إذ قد أذكر أننى كنت ذات عصرية أستذكر دروسى فى مسجد السيد البدوى بطنطا، فجاءنى زميل لى (هو الذى ضربنى قبل عدة سنوات بالقبقاب فى رأسى) يسألنى عن شىء فى أحد المقررات، وكنت أظن أن معلوماتى فيه مشوشة فى ذاكرتى تشويشا تاما بحيث لا يمكننى أن أجمع أطرافها، لكنى ما إن بدأت أجيبه إلى مطلبه حتى ألفيتُ ما كنتُ قد نَسِيتُه من معلومات قد أخذ ينثال على تلك الذاكرة المظلومة، فتعجبتُ وعَزَوْتُ ذلك إلى أن سؤال زميلى لى قد أثار اعتزازى بنفسى حين قصدنى لأشرح له شيئا وكأنى أستاذ لا مجرد زميل له. ولست أظن هذا التعليل فاسدا لا قيمة له، ولكنى أضيف إليه الآن أن استفاضتى فى الكلام يرجع فى جانب منه على الأقل إلى أننى لم أكن أفكر وحدى فى الأمر، بل كان يحاورنى شخص آخر يستفز ذاكرتى وعقلى بسؤاله وإنصاته لى، وإن كان حواره سلبيا، بمعنى أنه اكتفى بالسؤال ثم صمت وأخذ يسمع، وأنا أستفيض فيما كنت أحسب أنه قد طار من ذهنى.
وفى الجامعة صارت القراءة أغزر وأعمق، وتصدرتْ قائمةَ الكتب التى أقرؤها تلك المتصلةُ بتخصصى من نحو وصرف وتفسير وتاريخ أدب ونقد وما إلى ذلك. وكانت زمالتى وصداقتى لبعض طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية سببا فى انغماسى فى المناقشات السياسية، والدينية أيضا، فقرأنا وتناقشنا فى الشيوعية والوجودية والاتحاد السوفييتى، الذى كان له بين زملائنا أنصار ومفتونون، مثلما كان له كارهون، وإن كانوا فى ذلك الوقت قليلين، وكنا منهم، إلا أننا كنا نتميز عنهم بأننا لا نحب أمريكا أيضا، ونرى ولا نزال أن الإسلام أفضل من الشيوعية والرأسمالية معا جميعا. ومما أذكره من الكتب التى قرأناها فى ذلك الحين كتاب "آثرت الحرية" لفيكتور كرافتشنكو، الذى اشتريناه بعشرة قروش من سور الأزبكية القديم أيام كانت حديقة الأزبكية مكانا شاعريا مخضوضرا. وكنت أسمع من زملائنا الكارهين للشيوعية قولهم: نار الرأسمالية ولا جنة الشيوعية. وكنا نقرأ كتب العقاد التالية: "الشيوعية والإنسانية فى شريعة الإسلام" و"لا شيوعية ولا استعمار" و"هتلر فى الميزان" و"فى عالم السدود والقيود" والعبقريات، بالإضافة إلى ردوده على المستشرقين والمبشرين من خصوم الإسلام، وكنا نعتز بما كتبه أيما اعتزاز، ونعد ما خطه يراعه هو القول الفصل، ونفضله كثيرا على طه حسين، على العكس من اليساريين والعلمانيين، الذين كانوا يَرَوْن أن طه حسين أفضل من العقاد.
وكان نجيب محفوظ ضمن اكتشافاتى الجامعية، إذ لم أكن قرأت له من قبل، وكانت معرفتى به مقصورة على ما كنت أسمعه أوأقرؤه عنه. ومنه حديث سمعته له فى الإذاعة المصرية وجدته ينطق فيه كلمة "مغربى" بفتح الراء بدلا من كسرها، فأثار هذا استغرابى بشدة. كما كان لنا زميل أزهرى من القرية يصغرنا فى التعليم بسنة أو سنتين قال لنا، ونحن فى الإعدادية، إنه أرسل إلى نجيب محفوظ رسالة ضمنها بعض تجاريبه فى الكتابة فرد عليه الأديب الكبير برسالة مثلها. إلا أننا لم نشأ أن نصدق ما يقول، وألححنا عليه أن يطلعنا على الرسالة إن كان ما يقوله حقا، فكان يَعِدنا ثم يسوّف... إلى أن كنا على مئذنة الجامع الكبير ذات ظهرية، ورأيناه من هناك على سطح بيتهم، وكان قريبا نسبيا من الجامع، فرأيناه يمسك ورقة فى الهواء ويقول إنها هى رسالة نجيب محفوظ. وانتهت المسألة عند هذا الحد، ولكننا بطبيعة الحال لم نصدق هذه الحيلة الساذجة. ولعل أول عمل طالعته لأديبنا العبقرى، الذى اتهمنى طبيب أسنان منذ عدة سنوات ظلما وافتراء بأنى شتمته فى المحاضرة أمام طلبتى قائلا إنه كافر وابن كلب، هو "الثلاثية"، التى أبكتنا وأضحكتنا حتى القهقهة بما فيها من حيوية وحياة لا أظن رواية عربية تحظى بهما أو بنصفهما. ثم كانت الثلاثية معبرا إلى عدد آخر من أعمال محفوظ والاستمتاع الضخم بما يكتبه.
ومرت الأيام والشهور والأعوام، وإذا بى أكتب عن الرجل عددا من الدراسات منها الفصل الأخير من كتابى: "فصول من النقد القصصى" حيث تناولت بالتحليل المفصل روايته: "رحلة ابن فطومة"، والفصل الثانى من كتابى: "ست روايات مصرية مثيرة للجدل"، الذى خصصت فيه عشرات الصفحات للحديث عن "أولاد حارتنا" والرموز التى تتضمنها وما قاله النقاد عنها على اختلاف مشاربهم وأهوائهم وغاياتهم، ورأيى أنا فى تلك القضية. وهذا إلى جانب ما كتبتُه عَرَضًا عن الرجل فى هذا الكتاب أو ذاك من كتبى. ورأيى الذى أدين به وعلى استعداد للشهادة به أمام الله يوم القيامة أن محفوظ، أيا ما يكن رأينا فى اتجاهه الفكرى ومواقفه السياسية، هو أديب عالمى بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. وقد كررت مرارا أنه أفضل كثيرا من بعض من حصلوا من الأوربيين والأمريكيين على جائزة نوبل فى الآداب، وأنه كان يستحقها قبل زمن طويل من حصوله عليها فى أواخر ثمانينات القرن المنصرم. كذلك أرى أن العقاد مثلا قلما يوجد له ضريع بين مفكرى العالم وكُتَّابه، وأنه يستحق نوبل مثلما يستحقها محفوظ، بل أكثر مما يستحقها محفوظ. ولقد أكد محفوظ هذا المعنى حين فاز بالجائزة، وإن لم يقتصر على ذكر اسم العقاد فى هذا السياق، بل أرفق به طه حسين فيما أذكر، وكذلك توفيق الحكيم.
وكان زملائى فى الجامعة الذين مر ذكرهم من خيرة طلابها، إن لم أقل إنهم خيرهم بإطلاقٍ ذكاءً وثقافةً ونقاءً وتدينًا واستنارةً. ولم نكن ننتمى إلى أية جماعة أو تنظيم، وكنا نستقى ديننا من العقاد وشلتوت وأمثالهما فى المقام الأول، كما كنا نقرأ فى الفلسفة والمذاهب السياسية، ولم نعرف الانغلاق ولا التبعية لأى شخص. كذلك كنا نحب أن نقرأ لزكى نجيب محمود لنصاعة أسلوبه وسخريته المبطنة رغم مخالفتنا لكثير مما يكتب. وقد شعرنا بالفرحة حين علمنا أنه سوف يناقش طالبا من طلابه فى المدرج الكبير بكلية الآداب، وهو الطالب إمام أحمد إمام، فذهبنا لحضور تلك المناقشة، وكانت أول مرة نحضر مناقشة رسالة جامعية. واشترك معه فى مناقشة الطالب د. فؤاد زكريا، الذى أذكر أنه اعترض، ضمن ما اعترض عليه من لغة الطالب، على استعماله كلمة "لاَشَى"، قائلا إنه لا وجود لها فى المعجم، فاستغربت أنا من تلك التخطئة لتصورى أنه ما دام هناك "تلاشى" فمن الطبيعى أن يكون الفعل: "لاشى" موجودا أيضا لأن "تلاشى" هو المطاوِع له، والمطاوِع فرع من المطاوَع، وهو هنا "لاشَى". ذلك أننى أحب أن يطرد القياس فى اللغة إلى أبعد مدى، وإلا فما معنى القواعد اللغوية؟ وما لزومها؟ هكذا كنت أفكر. والانطباع الذى خرجت به من جَرْس صوت د. فؤاد زكريا هو الحذلقة، إلا أنها كانت حذلقة محببة. كما كان هناك كذلك د. يحيى هويدى، الذى حظى منا بأقل قبول بين الأساتذة الثلاثة المناقشين، الذين أَثْنَوْا على مقدرة الباحث فى الترجمة من "الألمانية"، إن كنت لا أزال أتذكر ما حصل جيدا.
وكعادتى فى سبق الأحداث قبل حلول موعدها أذكر أننى قد دخلت مع د. فؤاد زكريا بعد ذلك بنحو عشرين سنة فى معركة فكرية على صفحات "الوفد"، إذ كانت تلك الصحيفة قد اتفقت معى فى منتصف الثمانينات على كتابة مقال نقدى كل أسبوع فى نحو ست صفحات أو سبع، وزودنى الأستاذ جمال بدوى مدير التحرير ببعض الكتب أتخذ منها فى البداية موضوعات لمقالاتى، فاستقر عزمى على تناول كتاب د. زكريا عن "الحقيقة والوهم فى الحركات الإسلامية"، واختلفت معه فيما قال، لأفاجأ فى الاسبوع التالى بنشر الصحيفة ردا له على ما كتبت، وهو أمر طبيعى، إلا أن ما ليس طبيعيا أنهم لم يخبرونى بالأمر، علاوة على أنهم أجّلوا مقالى التالى ودون أن يخطرونى مسبقا كذلك. ثم زادوا فقالوا إنهم يغلقون باب الأخذ والرد فى الأمر، ودون أن يرجعوا إلىَّ أيضا، معتذرين عن نشر ردى على رد الرجل، فزاد هذا من حنقى، إلا أننى ضغطت على نفسى وقلت: دعك من العصبية المعروفة عنك يا خِلّ، وامض فى الكتابة وكأن شيئا لم يكن. بيد أننى فوجئت بهم ينشرون مقالا فى الرد على رد د. فؤاد زكريا لدكتور آخر ينتمى إلى الإسلاميين، فكانت هذه قاصمة الظهر، إذ توقفت عن إرسال أى شىء لهم بعد المقالين الآخرين اللذين كنت بعثت بهما إلى الصحيفة. وقد جاءنى شاب من تلاميذى كان يشتغل مصححا هناك يسألنى عن مقالى الجديد، فرفضت أن أعطيه شيئا رغم ما أكده لى من أنهم وعدوا بعدم الإقدام بعد ذلك على فعل أى شىء مما أغضبنى. إلا أننى أصررت على موقفى، لتنتهى صلتى بـ"الوفد" ولم تكد تبدأ. وقد عاتبنى صديق لى بأن هذه فرصة لى للانتشار وتحقيق الجماهيرية، لكنى اختلفت مع وجهة نظره مؤثرا كرامتى على جماهيريتى رغم أنه لم يجد فيما فعلته "الوفد" ما يمس تلك الكرامة.
وأعود إلى أيام الجامعة فأقول إننا كنا نخرج فى كثير من العصارى نسير على أقدامنا فى الغالب من حى بين السرايات حيث تقوم المدينة الجامعية حتى التحرير، وأحيانا نستمر فى السير والنقاش حتى العتبة، ومرة أكملنا السير إلى حى الحسين ذاته، ثم بعد تطوافة هناك فى الشوارع الصغيرة ركبنا الحافلة وعدنا أدراجنا إلى بين السرايات. وكثيرا ما كنا نذهب للسينما أو نقصد آلاميريكين فى شارع 26 يوليه "l’Américaine À: على الطريقة الأمريكية". وكنا ننطقها كما ينطقها كل الناس: "الأمريكين" (بإمالة الياء الثانية) لتناول الآيس كريم الذى كنا نسميه: "ثلاثة خنازير صغيرة" مُتَرْجِمِين، فى قهقهة وحبور، اسمه الفرنسى: "Trois Petits Couchons"، فقد كان الجرسون يحضر لكل منا سلطانية تحتوى على ثلاث بولات، أى ثلاث قطع من الآيس كريم كروية الشكل، فنأكلها بالهنا والشفا ونضحك ونخرج سعداء إلى شارع 26 يوليه (أو كما كنا وكان ناس كثيرون فى ذلك الوقت يقولون: شارع فؤاد)، الذى كان يبدو لنا فى آنذاك غاية فى الأناقة والأرستقراطية. وفى الفترة الأخيرة (وآخرها اليوم 13 فبراير 2013م ظهرًا وأصيلاً) أتجول فيه كل عدة أيام، وقد أقف عند الواجهات الزجاجية أتفرج على الأحذية الجديدة كما كنت أصنع وأنا فى مقتبل الشباب. ولكن أين 26 يوليه الحالى من 26 يوليه القديم؟ وأين شارع سليمان ذلك الوقت من شارع سليمان الآن ببائعيه السريحة المنتشرين بعرباتهم فوق الأرصفة فى كل مكان؟ نعم أين شارع سليمان القديم من شارع سليمان ما بعد الثورة الينايرية، التى ما زالت توابعها المزلزلة تتتالى حتى بعد مرور سنتين دون أن يكون هناك ما يدل على أن مصر سوف تستقر أمورها قرييا؟
وفى الجامعة كان لبطل مذكراتنا هذه زملاء وزميلات منهم زميلة من بلد عربى مجاور جميلة وأنيقة وحيية لفتت نظره ثم لفتت شيئا آخر غير نظره هو قلبه بل كيانه كله، وكان ذلك فى السنة الأولى، فكتب مقالا فى مجلة حائط كان يصدرها بمساعدة صديقه اليابانى المسلم الظريف الذى كان يصور المجلة بريشته البارعة، وكان عنوان المقال: "أميرتى ذات الحذاء الساحر"، ورسم اليابانى محسن يوشيهارو أوجاساوارا صورة قريبة الشبه بالأميرة. وشعر بطل مذكراتنا، على طريقة الفنانين، بالنشوة وهو ينشر المقال، إلا أن النشوة لم تكتمل ولم تستمر، إذ كان المقال سببا فى قيام حاجز من التحرج بين الاثنين على مدار السنوات الأربع التى استغرقتها الدراسة بالكلية، وعادت الأميرة إلى بلادها دون أن يتحادثا، اللهم إلا مرة واحدة يتيمة دار حديث سريع بينهما على انفراد بعد المحاضرة المسائية التى كان يلقيها عليهم د. محمود فهمى حجازى العائد حديثا من ألمانيا فى تاريخ العرب قبل الإسلام حيث سمع بطل مذكراتنا لأول مرة باسم د. جواد على وكتابه الخاص بتلك الفترة من التاريخ العربى. لقد دعاها عقب المحاضرة وانطلق وهى تتبعه مسرعة تبعا لإيقاع سيره السريع مما أثار استغراب الزملاء، وسألها وهما وحدهما عن خطاب بعث به إليها على الكلية فأنبأته أنها تسلمته، ودار بينهما حديث سريع حول ذلك الخطاب دون أن يبدو عليها ضيق أو انزعاج من الأمر ودون أن تقول مع هذا شيئا يشى بما تجنه فى قلبها. بيد أن غيابها على غير المعتاد فى اليوم التالى أفسد كل شىء وأيقظ حساسية الشاب، وهى المستيقظة بطبيعتها، فكانت الفاصلة. واصطبغت أيام بطلنا بالقلق والضيق والإحباط جراء ذلك الحاجز الصلب والصلد الذى قام بينهما بغتة، ولم يكن يخفف من ذلك سوى النظرات التى كانا يتبادلانها أثناء المحاضرات. لقد كان شديد الحساسية رغم جرأته الفنية تلك. ولو كان ذكيا لما نشر مثل ذلك المقال فى محيطه الضيق الذى لا يمكن أن تفوت الطلاب فيه فائتة، فضلا عن أن الطرف الآخر كان من بلد تغلب عليه التقاليد الصعبة. ومن يدرى، فلربما لم تكن تشعر نحوه بأى شىء. ولكن ماذا عن النظرات التى ظلت تُتَبَادَلُ بينهما طَوَال السنوات الأربع؟ كثيرا ما قال لنفسه: أتراها تهتم بك؟ فلِمَ إذن لا تُقْبِل عليك؟ فيجيب نفسه قائلا: وأنت ألا تهتم بها اهتماما ملك عليك أقطار نفسك وحياتك، ومع هذا فأنت لا تقبل عليها؟ إن هذا لمن ذاك.
والحقيقة أنه، رغم مرور كل تلك العقود الطويلة على صديقنا المحب القديم ورغم نضجه الفكرى والاجتماعى والنفسى ورغم قراءاته وما يرفد به قصاده المتوجعين (مثلما كان يتوجع أيام الجامعة) من نصائح فى هذا المجال وكأنه قد قطع السمكة وذيلها، ما زال عاجزا عن إجابة ذلك السؤال. وكان أيامئذ كثيرا ما يسأل نفسه: وماذا لو كانت تبادلك الاهتمام وتصارحتما بما يشعر به كلاكما نحو صاحبه؟ أويمكن أن تتزوجها، وهى من بلد غير بلدك، وأنت غير مستعد للزواج ولا تستطيع الباءة التى تحدث عنها الرسول؟ لكن الحب بطبيعة الحال أعمى، أو قل: إنه إنسان طيب القلب على نياته لا يعرف مثل هذا المنطق الواقعى الأرضى. إنه يتغذى على ذاته ولا يستند إلى أى شىء خارج عن مملكته. وإلا فكيف تفسر، أيها القارئ، ما حدث لعنترة وقيس وجميل وكُثّيِّر والعباس بن الأحنف وابن زيدون... إلى آخر القائمة الطويلة للمحبين العرب وحدهم؟ لو كان الحب للزواج فقط ماكانت قصص الحب الخالدة التى عرفتها وتعرفها وستعرفها الإنسانية على مدى تاريخها الطويل فى كل بقاع الأرض، وعند كل الأمم. لقد كانت تجربته العاطفية تلك تختلف عن تجربته العاطفية القديمة حين تفتح قلبه للحب أول مرة وفتح عينيه على السعادة الصافية وهام فى الملكوت وصعد إلى السماوات العلا. لقد كان الحب الأول خاليا من الإحباطات، فقد كان يرى فتاته طوال إجازة صيفية كاملة وعام دراسى كامل بين أهلها وإخوتها، ويكلمها وتكلمه ويناقشها وتناقشه ويتبادلان الرأى... إلى آخر ما يمكن أن يكون بين فتى وفتاة فى مثل تلك الظروف، مع الاحترام التام والعفة النقية الصافية التى لا تكدر صفاءها ذرة من عيب. أما هذا الحب الجديد فكان، مع عنفه وبطشه، مفعما بالحرمانات والمرارات على الدوام. وكان أصدقاؤه المقربون يحاولون على الدوام التخفيف عنه فيهدأ بعض الوقت لتعود الأمور سيرتها الأولى مرارة واشتعالا... وهكذا دواليك، إلى أن انصرمت السنوات الأربع، وعادت الأميرة إلى بلادها. ترى أين هى الآن؟ وماذا تصنع؟ اللهم أسعد حياتها إذا كانت لا تزال على قيد هذه الحياة!
على أن هذا الاشتغال بالأميرة كانت له فوائده التى لا تحصى. لقد عصمه الله به عن الدنايا، إذ من ذا الذى يهتم بمثل الأميرة أناقةً وجمالاً ورِقَّةً وحياءً وأرستقراطيةً ونعمةً ورُفَهْيِنَةً ثم يمكن أن يتدهدى إلى من هى دونها أو إلى أى سلوك لا يليق؟ كما أن صديقنا ذا العواطف المشتعلة كان يعمل، دون تنبه منه، كل ما من شأنه أن يزيده فى نظرها، طبقا للواقع الحقيقى أو للوهم الزائف المستكن فى ذهنه، رفعة وتفوقا، فكان يقرأ كثيرا، وإن كانت القراءة قد استحالت منذ وقت بعيد إدمانا لديه، فليس فيها فى ذاتها من جديد، إلا أنه كان أيضا لا يترك شيئا يقوله أستاذ من أساتذته ويكون له فيه رأى إلا ناقش الأستاذ بشأنه واستشهد بمن قرأ لهم من الكتاب والعلماء والمفكرين القدامى والمحدثين فى جرأة لا تعرف التردد أو الغمغمة، فكان الجميع يعاملونه معاملة خاصة حتى من لا يحبه منهم. وقد صقلت هذه المناقشات عقله وذوقه وشخصيته كلها، فخرج من الكلية وقد أمسى شخصا غير الذى كانه إلى حد بعيد، وهو ما عوضه بعض التعويض عن تلك الآلام الباهظة التى كان يصطليها فى معظم الأوقات طوال السنوات الأربع.
كما كانت الصلاة سبيلا إلى تخفيف الأوار المشتعل فى فؤاده، لكن الألم كان أقوى من أن يكون هناك حل حاسم يقضى عليه. وكانت الأغانى العاطفية سبيلا آخر للتخفيف عما يلاقيه من بُرَحَاء، إلا أنها، ككل شىء آخر، كانت تخفف عنه شيئا من التخفيف لتعود الأمور سريعا إلى ما كانت عليه من قبل. وكان يوم الجمعة يوما مملا لأنه لا يتمكن فيه من رؤية الأميرة، إذ الجامعة تغلق أبوابها. ومما لا يمكن أن ينساه صديقنا المحب أغنية عبد الحليم التى سمعها هو وبعض زملائه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وهُمْ فى النصف الأول من أول أعوامهم الدراسية فى الجامعة، إذ كانوا عائدين ذات ليلة رمضانية بعد تناول السَّحُور فى مطعم المدينة الجامعية، فلم يشاؤوا الصعود إلى غرفهم، بل عاجوا على الصالون الزجاجى الواسع الموجود فى الطابق الأرضى من المبنى الخامس، وكان غير مضاء، ونور القمر النحيل يتسلل إلى ركن من أركانه، وكان هناك مذياعٌ يَدَوِىٌّ تنطلق منه أغنية "بأمر الحب"، فأنصت الجميع إنصاتا تاما، وجاشت مشاعره وهو يسمع المطرب الحاذق الحساس يشدو بقوله: "ونجمَهْ مسكْتِها بإيدى وكانت فى السما بِعِيدَه * وشِىءْ فى الليل متوِّهْنى، وشىء ف عْنِيك بيندهْنى"، فازدادت عواطفه جيشانا، وكادت دموعه تطفر من مآقيه لولا الحاضرون رغم ما يسود المكان من عَتَمَة، وشعر بروحه تنطلق من زجاج الصالون وترتفع إلى الأعالى مع كلمات الأغنية التى يطوّلها المغنى فى شجن قاهر وكأنه يطير معها إلى السماء يريد أن يفر من أوهاق الأرض وحسراتها. لقد كان سنوات أربعا صعابا تمام الصعوبة. رحم الله تلك الأيام الصعاب! إنها جزءٌ غالٍ من حياته لا يمكن أن يهون عليه. وهل تهون "الآلام" إلا على ابن الحرام؟ والآن هأنذا بعد أن كتبت هذا الكلام بعدة أسابيع أستمع إلى الأغنية المذكورة المسجلة على الكاتوب (أو الحاسوب إن شئت)، وأصل إلى البيتين اللذين يطيران بنا إلى النجم العالى الذى أمسك به الشاعر والمغنى فى رحلتهما السماوية وأمسكنا به معهما، ويرن فى أذنى صوت الأرغول البديع الحزين الذى يجاوب المغنى كلما أطال كلماته، فأتخيل تلك الليلة العجيبة، بل أعيش فيها من جديد رغم انصرام عشرات السنين وانتقالى معها من الصبا والشباب النضر المقبل على الحياة فى أمل، وإن كان حزينا شجيا، إلى الشيخوخة المولِّية، وأشعر بأن شيئا ما يقبض على قلبى ويؤلمه إيلاما، لكنه إيلام محبب رغم كل شىء، إذ فيه بعض من عطر الشباب الضائع، فتتندى له عيناى، وتوشك الدموع أن تنفرط من سلكها لولا فضل من تماسك. اللهم عفوك ورحمتك!
وفى تلك الأيام وقعت فى يد الفتى رواية الكاتب الروسى ترجنيف المسماة: "الحب الأول"، فقرأها فألفى نفسه يتقمص بطلها ويشعر بما يشعر به ذلك البطل، ويحس وهو يطالعها بأن شيئا عنيفا يضغط على قلبه بل يعصره. كما قرأ فى السنة التالية رواية محمد عبد الحليم عبد الله: "شمس الخريف"، التى كانت أول شىء يقرؤه للكاتب. وكان يطالعها وكأنه بطلها مختار، ذلك الصبى الذى كان يهرب من الإسكندرية إلى عزبة خورشيد بعد موت أبيه وترمُّل أمه، فينطلق فى الحقول أو يجلس إلى عم خليل الرجل الريفى وأسرته فى الحقل هناك، فكان صديقنا يجد نفسه كثيرا فى الرواية وأحداثها وفى الطبيعة التى أبدع الكاتب فى وصفها فى النصف الأول من الرواية قبل أن تنتقل أحداثها مع انتقال البطل إلى القاهرة. ومع هذا كله لم تستطع الرواية أن تقضى على آلام صديقنا القضاء المبرم رغم أنها قد لَطَّفَتْ، أثناء مطالعته لها، من ألم النيران التى كان يصطليها بعض التلطيف.
لقد كانت الكتب، وبخاصة الروايات، إحدى وسائله إلى هدهدة الجراح التى تنتاش قلبه. ولعل هذا كان، دون أن يدرى، السبب فى وقوفه عند هذه الوسيلة الناجعة فى مداواة العواطف فى رسالته التى حصل بها على درجة الدكتورية من أكسفورد سنة 1982م، وكذلك فى كتابه الذى ألفه فصلا بعد فصل مع كل محاضرة يلقيها على الطالبات فى جامعة قطر فى بداية هذا القرن، وهو كتاب "التذوق الأدبى". وإنه ليستغرب كيف يقدم بعض المشايخ من المحسوبين على علماء الإسلام، وبضاعتهم من الفهم والعلم والتذوق ضئيلة مزجاة، على تحريم كتابة الروايات والقصص بحجة أنها تقوم على الكذب، إذ يكتب القصاص أن فلانا قام من نومه الساعة الفلانية فصنع كذا وكذا، وقال كيت وذيت، فى حين لا وجود لفلان هذا ولا لما ينسب له من أقوال وأفعال. ولا ريب أن هذا ضيق أفق وقسوة وتنطع وسخف، إذ يكفى أن هؤلاء المحسوبين على علماء الدين يريدون حرمان عباد الله من دواء نفسى ناجع، وإن كان مؤقتا، لكنه بكل يقين أفضل تماما من ترك المعذبين يتلظَّوْن فى نار الحرمان دون أن نتيح لهم وسيلة تخفيف لهذا العذاب تخلو من عصيان الله ولا تؤذى أحدا من عباد الله. ثم أين الكذب هنا، والمؤلف لا يقول بتاتا إنه يحكى شيئا وقع، ولا يفهم القراء ذلك؟ ومن المعروف أن هناك اتفاقا ضمنيا على أن المؤلف إنما يروى ما يرويه من بُنَيَّات خياله وإبداعه. فلم التحبيك السخيف؟ إن هؤلاء المفتين يجهلون ما هو معروف فى النقد الأدبى من أن ما تقوله القصص لم يقع، ولكنه قابل لأن يقع، بمعنى أن حدوثه غير مستبعد، بله مستحيلا. وهذا مربط الفرس.
وقد كانت مشاعر صديقنا هذه نحو فتاته سببا فى إثارة موضوع مهم يتعلق بالحب، ألا وهو: هل يمكن أن يقع الإنسان، رجلا كان أو امرأة، على مدار حياته فى أكثر من حب، ويكون حبا صادقا صادرا من الأعماق؟ لا ريب أن حالة صديقنا كانت أبلغ رد على من يتوهمون أن الحب الصادق العنيف لا يقع سوى مرة واحدة فى العمر بحيث لا يمكن أن يتعلق قلب الشخص إلا بمحبوب واحد. ومن الواضح أن هذا الوهم لا علاقة له بدنيا الواقع، التى كثيرا ما نقابل فيها من يمر بتجربة الحب مرة واثنتين وثلاثا... وهكذا، وبخاصة إذا لم يوفَّق فى حبه السابق فلم ينل غرضه من الاقتران بمن يحب. وفى الإسلام لا مكان لتلك الرهبنة التى يمكن أن يظن بعض الناس أنها هى الحل لمن فشل فلم يحصل على ما يريد ولم يتزوج من ثم حبيبته. ومن الواضح أيضا أن الحياة لا تصيخ السمع لمن يردد مع أساطير الإغريق أن الله قد خلق كل اثنين من بنى الإنسان كيانا واحدا ثم قسم ذلك الكيان الواحد اثنين ثم أنزلهما إلى الأرض ليبحث كل منهما عن نصفه الآخر، الذى لا يستريح ولا يجد نفسه ولا سعادته إلا معه دون سواه من أفراد الجنس المقابل، بما يعنى أنه لا يمكن أن يكون لكل منا إلا شخص واحد يناسبه هو نصفه الذى كان ملتحما به فى السماء قبل أن ينزلا إلى الأرض. إن هذا كلام فنى جميل، لكنه غير واقعى ولا منطقى. والقلب يمكن أن يقع فى الحب أكثر من مرة. كل ما هنالك أن فوز المحب بمحبوبه حَرِىٌّ أن يخفف من لهفته إليه وانتقال الحب المشتعل الذى كان يكوى قلبيها إلى عشرة ومودة هادئة فى أغلب الأحيان، إذ لم نر زوجين يظل كلاهما مشغوفا برفيقه نفس الشغف القديم الذى كان يعذبه قبل حصوله عليه.
كما كانت تلك التجربة فرصة لصديقنا للتمعن فى ذوقه تجاه الجنس اللطيف، فتنبه إلى أنه بوجه عام لا يميل إلى السُّمْر ولا إلى النحيفات أو الممتلئات، بل البضات. كذلك لم تكن تعجبه المرأة إلا إذا كانت أنيقة راقية العقل مثقفة مهذبة رغم أنه من الريف، ولم يكن فى الريف وقتها بنات يتعلمن إلا على سبيل الشذوذ والندرة، كما أن البيئة الاجتماعية التى خرج منها بيئة عادية جدا، إلا إذا تنبهنا إلى أنه كان يقرأ، ويقرأ بعمق، ويصاحب عمالقة المؤلفين ممن نوروا عقله، وصقلوا ذوقه، وأرهفوا عواطفه، ورَقَّوْا مطامحه، وأخذوا بيده من الأرض إلى السماء. ولا ننس أن أباه، وإن كان تاجرا ريفيا، كان يقرأ الصحف والمجلات كلها تقريبا، ويستمع إلى أحاديث كبار الكتاب والصحفيين فى الإذاعة، فضلا عن بعض الكتب حسبما مر من قبل. ولا شك أن لهذا كله تأثيرا على صديقنا المحب.
ولا بد كذلك أن نتحدث عن أصدقاء صاحبنا غير المصريين فى تلك المرحلة، كمحسن اليابانى، وريانج الكورى الشمالى، ومحمد الهندى، وغيرهم من طلاب الصين والاتحاد السوفييتى وفييتنام. وقد جعلته هذه الصداقات التى حظى بها فى المدينة الجامعية بحى بين السرايات بالقاهرة عالمى الفكر، فهو يناقشهم ويقارن بين ما يقولونه عن بلادهم وأديانهم وعقائدهم وما يراه هو حوله فى بلاده وما يعرفه عن دينه وأمته... وهكذا. وهو ما تكرر فى أكسفورد حيث انعقدت بينه وبين عدد من الباحثين من بلاد العالم المختلفة صداقة أو زمالة أو مجرد تعارف. وكان معظم هؤلاء الأصدقاء الذين تعرف إليهم فى جامعة القاهرة ظرافا خفاف الدم. فمحسن اليابانى مثلا لا يكف عن الضحك وحكاية نوادر جحا، الذى كان يسميه: "مهران العبيط"، أو بنطقه هو: "مَرَانَبِطْ". وقد كتبت عنه فى السنة الأولى بالجامعة مقالا بعنوان "الشعب المصرى شعب دمه خفيف"، شغل محسن منه حيزا كبيرا. ومما قلته عنه ما كان يردّ به علىَّ فى كل مرة أطلب منه على سبيل المداعبة أن يعطينى سترته، التى لم تكن تصلح لى لأن حجمى أكبر من حجمه كثيرا، فقد كان يقول: "انظر يا إبراهيم. إنها مكسورة". يقصد أن جيبها الداخلى ممزق بعض التمزيق. لكنه يتحدث عنها كما لو كانت منسوجة من الخشب أو من الحديد مثلا، ومن ثم لا يقول إنها ممزقة، بل مكسورة. وهنا أود أن أشير إلى أن اللغة الإنجليزية تقول عن الخيط إنه "broken"، والترجمة الحرفية أنه مكسور. أما نحن فنقول فى العربية إن الخيط مقطوع.
ولم يكتف صديقنا بمصادقة هؤلاء فى الجامعة فقط، بل أخذ معه محسن اليابانى إلى طنطا عند أسرة صديقه المرحوم أحمد الزاهد، فاحْتَفَوْا به أيما احتفاء وأحبوه حبا جما. ومن ناحيته أحبهم هو كثيرا جدا. بل أخذتُه أيضا إلى قريتى كتامة الغابة، وقضينا هناك ليلة أزعجتِ البراغيث فيها محسنا، فكان يقوم من نومه ويضم كفيه مفتوحتين انتظارا لقفزة برغوث من هذه البراغيث، وحينئذ كان يغلق الكفين عليه فإذا به فى الشَّرَك لا يستطيع منه فكاكا. بل زدت فأخذته مرة إلى قرية إخوتى من أبى: ميت الديبة التابعة لمركز قَلِّين بمحافظة كفر الشيخ. ولما وصلنا كفر الشيخ وأردنا متابعة الرحلة إلى القرية المذكورة لم نجد إلا سيارة أجرة قديمة متهالكة من أيام نوح عليه السلام، أو ربما قبل نوح والطوفان، فلم نجد مفرا من ركوبها، ولم نجد فى داخلها مكانا لأينا، فتشعبطنا على الرفرف، وقد اختفت السيارة تماما وراء أجساد الركاب على الجانبين، وعلى الشنطة من الخلف، وعلى مقدمة السيارة ما عدا فرجة صغيرة من الزجاج كان السائق الريفى المفعوص تماما بين الركاب ينظر من خلالها إلى الطريق حتى لا يسقط ونسقط معه فى الترعة. ولست أستطيع أن أتذكر الآن هل كان هناك ركاب آخرون مسطحون فوق السيارة أو لا. وكان محسن اليابانى يضحك وأضحك معه على هذا الزحام المرعب الذى لم يشاهده قط فى سيارة، ونأخذ فى عَدّ الركاب فنجدهم قد تجاوزوا العشرين كثيرا رغم أن السيارة من الناحية القانونية لا ينبغى أن تحمل أكثر من سبعة ليس إلا. وكان الخطاطون يكتبون أيامها على زجاج سيارات الأجرة الأمامى: "أولاد النبى 7 راكب". يا صلاة النبى! بالله عليكم هل شفتم عبقرية كعبقرية المصريين فى الربط بين النبى وسيارات الأجرة؟ ومما قاله لى محسن يوشيهارو أوجاساوارا ضاحكا، ونحن متشعبطون على السيارة: إنه سوف يكتب إلى أمه (ذلك أن أباه كان قد مات قبل ذلك) واصفا لها منظر السيارة ومحصيا لها عدد الركاب. ثم يردف قائلا: المشكلة أنها لن تفهم كلامى، بل ستظن أننى إنما أتحدث عن أوتوبيس لا تاكسى! فيفطس العبد لله من الضحك. ألم تفطسوا أنتم أيضا؟ إذا لم تكونوا قد فطستم فبالله عليكم أرجوكم أن تفطسوا، ولا تكسروا خاطرى. افطسوا! افطسوا!
وكنت كثيرا ما أذهب مع محسن إلى مدينة البعوث الإسلامية فى الدراسة حيث يسكن، فيطبخ لى (أو لنا إذا كان معى صلاح أبو النجا زميلى بالاقتصاد والعلوم السياسية، والسادس فى دفعتى من الثانوية العامة على الجمهورية) طعاما يابانيا: أرزا بدون لبن أو سمن أو زيت (وربما بدون ماء ولا أرز أيضا)، وفيه صراصير بحر وخنافس بحر، ولا أدرى ماذا أيضا من العناصر البحرية ذات الأسماء البشعة مع أن طعمها لذيذ، على الأقل: ألذ من الأرز اليابانى الشاهق البياض. وكنت آكل دون تقزز، إذ لم تكن هناك صراصير ولا دياولو، بل مجرد أسماء فحسب. أما صديقى أبو النجا فكان يشمئز من الطعام ويكتفى بالنقنقة من أى لون محايد من ألوان الطعام المحسنى. وقد شاهدت محسن ذات مرة يصنع لى أنا وهو فى دقائق معدودات مخلل خيار لم أذق ألذ منه فى حياتى "ولا فى مماتى"، فقد أحضر الخبز وفَتَّهُ فى الماء حتى صار كالعجين وأضاف إليه ملحا وخلا ولا أدرى ماذا أيضا، ثم شرع يمرت قطع الخيار فى هذا العجين عدة دقائق، وإذا بقطع الخيار قد اصفرت وصارت طرية كالمخلل، وأربى مذاقها على الغاية فى الطعامة. هكذا ينبغى أن يكون أهل اليابان، وإلا فلا. ومع ذلك فلا بد من التنبيه إلى أنهم، مهما فعلوا وأبدعوا، لن يبلغوا مبلغنا فى العبقرية والاختراعات الخارقة. ألم نَصُرَّ نحن الفيل فى المنديل؟ ألم نعبئ الشمس فى زجاجات؟ ألم نخرم التعريفة؟ ألم ندهن الهواء دوكو؟ أويمكن اليابانيين أن ينجزوا عشر معشار شىء من هذا الذى أنجزناه نحن المصريين؟ لا طبعا، فنحن أُولُو حضارةٍ عمرها سبعة آلاف عام!
وكنت أنا وبعض زملائى الآخرين، على تفاوت بينهم فى ذلك، نساعد محسن اليابانى فى فهم الدروس والكتب، فنشرح له ونلخص كل شىء حتى كان أنشط زملائه وأسرعهم تعلما وتقدما. ولما انتهى من الليسانس بعد ستة أعوام (لاحظ أنه، حين أتى إلى مصر، لم يكن قد تعلم العربية، فدخل الآداب بعد مجيئه بسنة) عاد إلى اليابان، وانقطعت أخباره عنى، وإن كنت سمعت من صديق لى مصرى يعيش فى اليابان ومتزوج يابانية، وعرفنى عن طريق المشباك (الإنترنت) ودراساتى التى أنشرها من خلاله، أنه بحث عنه فى المشباك بناء على طلبى، فوجد له عدة كتب عن الأدب العربى. الله أكبر! لقد كبرنا إذن يا عم محسن وصار لنا ريش! فالحمد لله أنْ جاء تعبنا معك بفائدة، وأثمرت فينا صراصير البحر وخنافسه، وهذا هو الدليل!
وكمحسن اليابانى كان لى صديق آخر من كوريا الشمالية الشيوعية اسمه ريانج كان زميلنا عبد المنعم سعيد اليسارى يسميه: "ريانج الكافر"، مداعبة منه لبعض زملائنا المتدينين الصارمين. وقد طلب منى ريانج (الكافر طبعا) فى نصف العام الدراسى الأول لنا فى الجامعة أن يسكن معى حتى ينمى لغته ويصقلها من خلال السكنى مع واحدٍ من أبناء اللغة لَمِظٍ (لِمِض) مثلى، فتركت المبنى الخامس إلى المبنى الثانى، مبنى الكبار ذى الغرف الزوجية الواسعة الأنيقة التى بكل منها حوض خاص بها لغسل الوجه. وأشهد لقد كان ريانج "الكافر" لطيف المعشر، ولا أظننى أنا أيضا كنت سيئا. وكان يذهب إلى سفارتهم بين الحين والحين حيث يسهر مع زملائه هناك ويأتى وأنا نائم، فأستيقظ لصلاة الفجر فأجده ساهرا يقرأ على ضوء مصباحٍ مكتبىٍّ قد وضعه بعيدا عن عينى حتى لا أتأذى وأنا فى سابع نومة، وعيناه المشقوقتان الصغيرتان تبرقان لى عند استيقاظى، فأضحك ويضحك بدوره. ومرة وجدته يقوم من النوم ويشكو صداعا عنيفا فهمت من تأوهه منه أن رأسه يكاد ينفجر، مخبرا إياى أنه خُمَار المشروب الذى عَبَّ منه فى حفل السفارة، فقلت له مداعبا: انظر كم أن الإسلام لطيف نظيف، فنحن لا نشرب الخمر، ولا يصيبنا مثل هذا الصداع من ثم. فوافقنى، ربما مجاملة، وربما من أثر ما كان يعانيه من صداع، وربما من قلبه. غير أنه بقى كما كان "كافرا"، وسوف يذهب إلى النار خبْطَ لَزْقَ على رأى عبد المنعم سعيد.
وكان يزورنا بين الحين والحين شاب آخر من كوريا، لكنها كوريا الجنوبية، فكان ريانج "الكافر" يستقبله ويجامله، إلا أنه كان ينبهنى ألا أدعه يفتش أوراقه أو متاعه إذا جاء وهو بالخارج، موضحا لى ما لم أكن أجهله من أن الكوريتين بينهما من العداوة ما طرق الحداد. وكنت ألاحظ أن تصرفاته دائما تصرفات راقية دمثة أنيقة، وهو ما يتعارض وما أجابنى به حين سألته عن وظيفة والده، إذ كان يقول إنه عامل، فكنت ألوذ بالصمت. ثم لما ترك المدينة فى العام التالى صارحنى فى نوبة انبساط بأن أباه فى الحقيقة وزير وليس عاملا. ولعله قال إنه وزير العمل. ورجانى ألا أفشى ذلك السر إلا بعد مغادرته البلاد. و"أظن" أنه لا بد أن يكون قد غادرها خلال هذه الأعوام الخمسين، وإلا فأرجو أن تَنْسَوْا ما قلته لكم عن منصب أبيه.
وكان ضحوكا يستجيب لفكاهاتنا، وكانت تعجبه العبارة التى كان أخى الأكبر، رحمه الله، يرددها أمامه دائما كلما حصل على إجازة من الجيش وأتى يزورنى فى المدينة الجامعية، ألا وهى أنه حاصل على المركز الأول فى العوم على الرمل، فيظل يضحك لها محاولا تصور كيفية السباحة فوق الرمل. وكان أذكى زملائه الكوريين مثلما كان محسن اليابانى أذكى وأنشط زملائه اليابانيين. ومرجع ذلك إلى أنهما اجتماعيان، فكان من السهل عليهما الاختلاط بنا والتعلم السريع منا، وبالذات لكثرة ما يدور بيننا وبينهما من حوار بالعربية وما كنا نشرحه لهما من الدروس.
ومع هذا كانت تندّ منه عبارات متعثرة ظريفة تُضْحِك الثكلى كما يقول العرب القدماء، مثلما حدث ذات يوم حين كان يعاتبنى على أمر فعلته ولم يسترح إليه، إذ أجبته (مازحا أو جادا: لا أدرى) بأننى حُرّ، فما كان منه إلا أن قال من فوره محتدا: عِنْدَكَ مَفِيشِى حُرّ! فضحكت، وانتهى الموقف المتأزم بسلام. ومرة أخرى طلبت منه أن يناولنى شيئا أو يحمل لى شيئا، فأتتنى إجابته للتو: أنا خَدَمِىٌّ يا إبراهيم؟ فضحكت قائلا: لا يا عم ريانج، بل أنت صعيدىٌّ! أقصد أنه يحبكها أكثر من اللازم دون داع كما يفعل إخواننا الصعايدة، الذين أنا والله العظيم واحد منهم، إذ كان جدى لأبى صعيديا من الصعيد الجوانى (أو "الدُّوَّانِى" كما يقول أبناء عمومتنا هناك) هاجر إلى الوجه البحرى ليستقر فى نهاية المطاف فى قريتنا حيث تزوج ما لا أدرى عدده من النسوان من كل لون وطعم، فهو يتزوج ويطلق، ويتزوج ويطلق... ولهذا كانت جدتى لأمى، على قبرها شآبيب الرحمة والرضوان، كلما أزعجناها ونحن صغار بعفرتاتنا التى لا تنتهى، تشتمنا وتقول لى أنا بالذات وهى تشد شعرها منى: "يا صعيدى، يا ابن الـ..."، وأكملوا أنتم الباقى. وكانت تصفنا بأننا معجونون بماء العفاريت، فأضحك من هذه العبارة العبقرية، ولا أكف مع ذلك عن شيطناتى.
وكنت أذهب فى الصيف إلى الإسكندرية حيث كان يعمل أخى الأكبر فى إحدى الشركات منذ كنت فى الإعدادية، فكنت أنزل عليه، فيتحملنى ويعطينى من المصروف ما تسمح به ماهيته الصغيرة. ومع ذلك كنت سعيدا. أما بعدما التحقتُ بالجامعة فكنت أتزاور أنا وزميلى صلاح أبو النجا، الذى تصادف أنْ كانت أسرته تسكن نفس الحى الذى يسكنه أخى قريبا من ترام الحضرة. وكان أبوه وأمه يستقبلاننى بترحاب، وكنت أحب ملاطفة إخوته: عادل الصغير (المستشار القضائى الآن)، الذى كان يزعجه مناداة أخواته البنات له بـ"ديدى"، وسامية وسهير وعفاف وعزة، وكانت البنات ذكيات، وكانت سهير أحلى الثلاث الكبيرات أسلوبا. أما حين عدت من بريطانيا فقد فوجئت بعزة ("عَذَّة" بالذال كما كانت تنطق اسمها وهى صغيرة تمسك بذيل جلباب أمها البيتى خجلا أو خوفا منى رغم ملاطفتى لها) طالبة بالفرقة الثالثة بقسم اللغة العربية بآداب الإسكندرية، فاختبرتها فى النحو والصرف خشية أن تكون قد دخلت القسم دون أن تكون مؤهلة له أو دون أن تكون محبة لمواده، لأفاجأ أنها متفوقة فى تلك المادة التى يخشاها معظم طلاب مصر، ولا أدرى لماذا، فتوقعت لها أن تكون معيدة فى الجامعة، وقد كان. وهى الآن أستاذة مساعدة فى كلية البنات بجامعة عين شمس مع زميلتى القديمة د. حسنة الزهار.
وعن طريق صلاح أبو النجا (الذى كان يكتب اسمه وهو صغير فى المدرسة الابتدائية: "سلاح" كما أخبرنا مرارا، فكنت أتندر عليه، وصرت بعدما كبرت وألفت الكتب أكتب له فى الإهداء إلى الصديق "سلاح" أبو النجا، والذى أخبرنا من نوادر أخيه الصغير اللطيف أنه كان إذا سألوه عما حفظه من القرآن الكريم فى المدرسة يجيب قائلا: لقد حفظنا سورة "الهِرّة"! فيقولون له ضاحكين: هيا أسمعنا إذن سورة "الهرة"! فيتنحنح ويبدأ فى التلاوة وهو يتمايل يمنة ويسرة على عادة الأطفال حين يُسَمِّعون ما يحفظون من كتاب الله: "بسم الله الرحمن الرحيم. دخلت امرأةٌ النارَ فى هِرَّةٍ حبستْها: لا هى أطعمتها ولا هى تركتها تأكل من خَشَاش الأرض. صدق الله العظيم"، فيصفقون له إعجابا بذكائه ودقة حفظه) أقول: لقد تعرفت من طريق صديقى هذا إلى صديق آخر إسكندرانى كان مع عَمُّو "سلاح" فى مدرسة رأس التين هو هانى المرعشلى الأستاذ الحالى بتربية طنطا. ومن الذكريات الظريفة التى حكاها لى صديقى "سلاح" أن أستاذ الفرنسية كان يحبه ويطلب منه دائما أن يقرأ الدرس الفرنسى بعد الانتهاء من شرحه قائلا بصوته الرقيق: "Lisez Salah: لِيزِيه صلاح"، فينطلق الطلاب يغنون فى نغمة واحدة: "ليزيه صلاح. ليزيه صلاح. ليزيه صلاح. ليزيه صلاح..." وهم يتضاحكون.
وكان أبو هانى المرعشلى مديرا بالجمارك، وكان رجلا طيبا يكرمنا ويستقبلنا أحسن استقبال كلما زرناهم فى شقتهم الأنيقة المطلة على مقابر النصارى الشاعرية بالأزاريطة. وكان ينتقد أخلاق الناس فى مصر قائلا إنه كلما نزل صباحا للذهاب إلى عمله هتف قائلا تشجيعا لنفسه: حى على الجهاد! يقصد أن أمامه يوما عصيبا بسبب وعورة أخلاق البشر والتوائهم وما انْطَوَوْا عليه من حب للأذى. وكان له ابن آخر هو هشام كان قد أصيب فى صغره بحُمَّى شوكية أورثته عجزا عن السيطرة على حركات جسمه وعن النطق. ومع هذا كان لطيفا وذكيا ويحبنا كثيرا، وكنا نحن نحبه أيضا ونداعبه. وكان يضع إصبعه بالطول تحت أنفه دلالة على الشارب كلما أراد أن يشير فى حديثه إلىَّ. ولا أدرى ما الذى كان يعجبه فى شاربى حتى يتخذه عنوانا علىَّ مع أننا جميعا كانت لنا شوارب. ولكن يبدو أن شاربى أنا بالذات كان صناعة يابانية (ألست صديق محسن يوشيهارو أوجاساوارا اليابانى؟)، بينما كانت شوارب الباقين فالصو: صناعة صينية! ولو كان حيا الآن (إذ مات رحمه الله منذ أعوام) فلا أدرى كيف كان يشير إلىَّ. أتراه كان يمرر يده على رأسه أمامًا ووراءً إيماء إلى صلعى؟
وبمناسبة الصين كان لنا فى المدينة الجامعية بالقاهرة بعض أصدقاء من الطلاب الصينيين نزورهم فى غرفهم، فكانوا يأتون لنا بكتيبات دعائية يقولون فيها إن الملاح يجدّف فى البحر بفضل أفكار الزعيم ماو، وكذلك الصانع يتقن عمله بفضل أفكار الزعيم ماو، وبالمثل تشرق الشمس على العالم بفضل أفكار الزعيم ماو، ولم يبق إلا أن يقولوا إن الرجال ينامون مع زوجاتهم... إلى آخر ما تعرفونه أو ما أتصور أنكم تعرفونه، وينجبون منهن أطفالا بفضل أفكار الزعيم ماو، أو فلنقل: بفضل الزعيم ماو مباشرة دون المرور بأفكاره، إذ ليس فيما يحدث بين الرجل وامرأته فى الفراش موضع لأية أفكار: لا أفكار ماو ولا أفكار غير ماو.
وبالمناسبة أيضا أذكر أننى ضحكت حين قرأت للدكتور أحمد أمين فى تلك الأيام من كتاب "حياتى" أن زوجته فى الأيام الأولى من شهر العسل قد بحثت عنه ذات ليلة فى الشقة فوجدته فى مكتبه مشغولا تماما فلم يتنبه لها لأنه كان مستغرقا فى القراءة. ولما رويت القصة لفضيلة الشيخ محمد الغزالى وأنا أضحك، وكنت وبعض زملائى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية حينذاك فى زيارة له فى بيته، علق قائلا وهو يضحك بدوره: طبعا حتى يذهب إليها وهو قارئ! فظللنا نردد كلمة الشيخ لأعوام طوال ونحن نضحك!
وهناك أيضا فتحى عثمان، وكان أكثرنا خبرة بالدنيا وأقوانا نزعة عملية وأقدرنا على الصبر على لأواء الحياة، إذ ذكر لنا أنه كان يعمل صيفا فى كافتريا (أو "قهوشية" كما كان يسميها أنيس بن منصور) لتوفير مصاريفه. وقد صار أوفرنا حظا من المال، وله دارة جميلة رائعة وفسيحة فى مدينة الشروق، وفيها كلبان شرسان مخيفان، بارك الله له فى دارته الرائعة، وكذلك فى الكلبين جميعا، ولكن بعيدا عنى، فأنا أخاف الكلاب موتا. وهناك كذلك زميلنا إكرام إسماعيل، الذى كان أصلبنا وأقوانا إرادة، والذى حين قابلناه فى الجامعة كان مفتونا بسقراط، ثم بكَانْط، ثم بجمال الدين الأفغانى، الذى كان معجبا بعزوبته ويراها عزوفا رجوليا عن شهوة الجنس، فكنت أقول له: ليس هذا من المفاخر فى شىء، وقد يكون الأمر مرجعه إلى ضعف جنسى لا يد للرجل فيه. وحين ذهبت إلى بريطانيا ثم عدت فوجئت بأنه قد تشيع.
ومن أساتذتى الجامعيين الذين أرى أن أتوقف أمامهم قليلا د. شكرى عياد، الذى كان إذا أملى علينا شيئا ينحاز ناحية النافذة الجنوبية القريبة من مقعد المحاضر ويملى علينا جملة أو نحوها ثم يصمت قليلا وينظر إلى الخارج وهو يفكر فى شىء من المعاناة يظهر فى تجاعيد جبهته. وكان يلبس فى العادة بيريها أزرق داكنا. وقد شرعت أبحث أنا أيضا هذه الأيام عن مثل هذا البيريه، ولعلى أوفق إلى شراء اثنين منه أرتديهما بالتبادل فأكون من المفكرين. أليس لى نفس كبقية من يلبسون البيريه فيظهر على سمتهم أنهم مفكرون؟ كما كان من أساتذتى أيضا د. يوسف خليف، الذى كان لطيفا دمثا رقيقا، وكان يملى علينا هو أيضا مادة تاريخ الأدب الجاهلى، وكنت أتصور أنه لا يصنع شيئا سوى تلخيص ما كتبه أستاذه د. شوقى ضيف فى كتابه عن العصر الجاهلى وإعادة صياغته بأسلوبه الحلو القائم على الترادف. وذات مرة لاحظ أننى لا أكتب ما يمليه علينا فعلق ضاحكا بأن إبراهيم عوض (الذى هو أنا طبعا) يعرف أن د. خليف (الذى هو هو دون أدنى شك) ينتهج الترادف فى أسلوبه دائما، فهو لذلك يكتب مما أمليه جملة ويترك جملتين أو ثلاثا لها نفس المعنى. وقد ذهبت إلى بيته مع محسن اليابانى ذات ليلة، وأذكر أنه كان قريبا من ميدان الجيزة. كما ذهبت مع بعض زملائى فى مناسبة أخرى إلى شقة د. حجازى، وكان لايزال عَزَبا، وقدم لنا سباطة موز أخرجها من الثلاجة لنأكل منها. ولا أدرى أأكلنا منها فعلا أم غلبنا الحياء. ومن بين ما دار بيننا من نقاش فى تلك الليلة انتقاد أستاذنا لبعض الزعماء السوفييت الذين يريدون أن ينظروا لِلُّغة من زاوية شيوعية لا تلائم طبيعة اللسان البشرى.
أما د. شوقى ضيف فلم أره إلا فى العام الثالث لى بالكلية، إذ كان معارا قبل ذلك إلى الأردن. وكنت قد تأخرت تلك السنة فى القرية، ولم أحضر فى أول الدراسة لبعض الظروف الخاصة، فأتانى خطاب من صديق لى بقسم اللغات الشرقية هو المرحوم سليمان سباق يستحثنى على القدوم قائلا: "أقبل أقبل يا إبراهيم، فقد أتانا أستاذ عظيم يحتاج وجوده أن يكون واحد مثلك بيننا"، أو كلاما بهذا المعنى. ففى الحال صح منى العزم على السفر إلى القاهرة. وفى أول محاضرة تقريبا خرجت وراءه فى الفسحة التى تفصل بين نصفى الدرس، وسألته عن الكيفية التى أتغلب بها على تشتت الحديث عن الشاعر الواحد فى عدة مجلدات من كتاب "الأغانى"، فوعدنى بأنه سوف يجيب على هذا السؤال حين يعود لاستكمال الدرس بعد دقائق الراحة. وحين عاد تناول الموضوع فعلا كما وعدنى، لكنه انتقدنى قائلا إنه من الواضح أن الطالب الذى سألنى قبل قليل فى كذا وكذا لم يقرأ كتاب "الأغانى" ولا يعرف أن المستشرقين قد ألحقوا به مجلدا كاملا يحتوى على الفهارس التى من شأنها تعريف القارئ بمواضع الحديث عن الشاعر المراد. فآلمتنى الملاحظة، ومكثت طوال كلامه وأنا قلق متوتر لا أدرى أأرد عليه أم أسكت حتى تنتهى المحاضرة ويصير لكل حادث حديث. وقد تغلب صوت الحكمة عندى هذه المرة على غير مألوف عادتى، فسكتُّ إلى أن انتهى الدرس وخرج الأستاذ، فخرجت وراءه سريعا حيث لحقت به فى الغرفة الملاصقة لقاعة المحاضرة.
وكان معى زميلتان، فتكلمتُ قائلا إننى أعرف جيدا كتاب "الأغانى" وأقرأ فيه، ولا يقلل من شأنى أنى لا أعرف فهارس المستشرقين، فالعبرة بأنى أقرأ وأتابع وأهتم. ثم أضفت قائلا فى حدة فنية لا أقصد بها تجاوز حدود اللياقة بل التدلل حتى يعرف أستاذى أننى غير راض عما قاله فى حقى: وإذا كنتم، يا أساتذتنا، قد وضعتم منا أصابعكم العشرة فى الشق فنحن قد وضعنا منكم أصابعنا العشرين: أصابع يدينا وأصابع قدمينا معا. ففغرت إحدى الزميلتين، وكانت من قسم اللغات الشرقية، فاها استغرابا واستنكارا لهذه الجرأة غير المعهودة. فأشرت إليها برفق أن تتركنى أتحدث على راحتى، وهو ما أَمَّن عليه الأستاذ الدكتور فى رقة وعطف.
ثم انتهى الموقف وعدت إلى المدينة الجامعية، وشيطان الفن يتنمر ويتقافز فوق كتفى تارة، وبين عينىَّ تارة أخرى، فلم أهدأ تلك الليلة حتى سطرت خطابا طويلا للدكتور شوقى ضيف أعنف من الكلام الذى تفوهت به فى اللقاء المذكور، ولم أنس أن أضمنه حكاية الأصابع العشرة والعشرين، وسلمته إياه فى غرفته، وانتظرت إلى المحاضرة التالية التى جئتها مبكرا وجلست فى الصف الأول على عادتى متحفزا بجوار الممر الذى يفصل بين نصفى القاعة. فلما دخل الأستاذ الدكتور كنت كُلِّى أعصابا مرهفة انتظارا لما سوف يكون عليه رد فعله. فما كان منه إلا أن تيممنى حيث أجلس وانحنى علىَّ هامسا بحنو جميل أنه قرأ رسالتى وأنه مسرور بها، وأنه سوف يهدينى كتابا من كتبه، وهو ما حدث، إذ وجدته يحضر لى نسخة من كتابه: "العصر العباسى الثانى" وقد كتب فيها إهداء جميلا نعتنى فيه بـ"الصديق السيد فلان".
الله أكبر. نعم هكذا ينبغى أن تسير الأمور، وإلا فلا. وقد أخذتُ منه رحمه الله تلك العادة، فلا أكاد ألمح طالبا نشيطا محبا للعلم والبحث حتى أشجعه بكل سبيل: بالكتب والمال والبسكويت والشيكولاتة والحديث الكثير عنه فى المحاضرة ومداعبته دائما أمام زملائه حتى أستفز قدراته ومواهبه وأُرْهِف اهتمامه بالعلم والثقافة لافتا إياه إلى خطر أمر العلم فى منظومة الحضارة وعند الله والرسول والملائكة، مبينا له أنه ما من دين يضع العلم فى ذات المكانة التى وضعه فيها الإسلام ولا تحدث عنه بنفس الحراراة والاهتمام كدين محمد. وبالمناسبة فالأستاذ الدكتور هو الذى اقترح علىَّ الكتابة عن محمود طاهر لاشين فى أطروحة الماجستير، وقد كتبتها تحت إشراف د. عبد القادر القط حين صرت معيدا بقسم اللغة العربية بآداب عين شمس، وإن كنت أنهيتها دون أن يرى الأستاذ المشرف شيئا مما كتبته فيها، وتمت مناقشتى ونجحت والحمد لله، وكانت لجنة المناقشة مكونة منه ومن د. عز الدين إسماعيل ود. أحمد كمال زكى. ولست أذكر أننى كنت خائفا أو قلقا فى ذلك الوقت ولا فى أكسفورد عندما انتهيت من أطروحة الدكتورية هناك وناقشنى فيها Dr. Derek Hopwood(الذى كان يقول مفاخرا على سبيل الدعابة إن اسمه مكون من كلمتى "حُبّ" و"وُدّ"، والذى سمعت أنه غير طبيعى، وإن لم ألحظ شيئا من ذلك على الرجل، وبخاصة أنه كان له جيرل فرند تشتغل فى مكتبة مركز دراسات الشرق الأوسط معه. وكانت شخصيته بوجه عام ودودة) ود. محمد عبد الحليم الأستاذ بمدرسة اللغات الشرقية بلندن ومترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية. وقد تبين لى بعد ذلك فيما بعد، حين اطلعت على كتاب أستاذى د. شوقى ضيف: "معى"، أنه رحمه الله قد اتخذ من كتاب "الأغانى" موضوعا لأطروحته فى الماجستير، ففسر لى هذا الأمر سر تعليقه المنزعج على ما قلته عن الكتاب. إنه "يعرفه كظهر يده" كما يقول التعبير الإنجليزى، فكان يتوقع أن يعرفه الطلاب كما يعرفه هو.
ومنذ ذلك اللقاء الأول والخطاب الأول للدكتور شوقى ضيف قامت علاقة خاصة بينى وبينه، فكان يستقبلنى فى بيته متى ما زرته ويحمل لى بنفسه، كرما منه ولطفا، فنجان القهوة وقطعة الشكولاتة، فأشرب القهوة رغم أنى لست من شاربيها لا هى ولا الشاى، وأجد فيها لذة وسرورا لأنها من يد الدكتور، وآكل الشيكولاتة هَمّ يا مَمّ. وما أكثر المناقشات التى دارت بيننا فى تلك الزورات: ومنها مثلا أن همزة "أنَّ" بعد كلمة "حقا" تفتح ولا تكسر على أساس أنها واسمها وخبرها مصدر مؤول بالصريح فى محل رفع فاعل للفعل المقدر: "حَقَّ". كما أبديت أمامه ذات مرة ضيقى بنفسى لإحساسى أننى أقل ثقافة ومقدرة على التأليف من العقاد وطه حسين وأحمد أمين، فكانت إجابته أنْ ليس لى الحق فى هذا الضيق لأن المقارنة ظالمة، إذ يجب أن أقارن بينى وبينهم حين كانوا فى مثل سنى، لا بعدما صاروا كتابا مشهورين يكبروننى بعقود من السنين، فهدأت نفسى قليلا.
ومن تلك المناقشات أيضا المقارنة بين العقاد وطه حسين. وقد فوجئت به يفضل الأول على الثانى كثيرا، قائلا إن العقاد كان يبدو مترفعا فى ظاهر الأمر، لكنه كان شعبيا ديمقراطيا فى حياته وتصرفاته على عكس طه حسين، وإنه من ثم قد ألف كتابا كاملا عن العقاد (هو "مع العقاد"، الذى قرأته بعد انتهائى من المرحلة الإعدادية)، فى الوقت الذى لم يفكر فيه أن يضع كتابا عن أستاذه طه حسين. وقد سجلت ما دار فى هذا الحديث وأردت نشره فى إحدى المجلات ضمن مقال لى رسمت فيه صورة قلمية له، إلا أننى فكرت أولا أن أطلعه عليه حتى يبدى ما يراه من ملاحظات، فأشار علىَّ بأن أبقى على كلامه الخاص بالعقاد وأحذف ما قاله فى طه حسين حتى لا يتهمه الناس بالتنكر لأستاذه، أو كما قال. فانصعت لرغبته احتراما له ولما يراه، ونشرت المقال فى منتصف سبعينات القرن الفائت بملحق "الزهور" التابع لمجلة "الهلال" على أيام المرحوم صالح جودت فيما أذكر، وكان بعنوان "د. شوقى ضيف شيخ مؤرخى الأدب العربى- صورة قلمية". نشره لى الأستاذ نصر الدين عبد اللطيف، الذى لا أدرى ألا يزال حيا حتى الآن أم لا، وكان رقيقا مجاملا يشجعنا ويرحب على قدر وسعه بما أحمله إليه أنا وغيرى من مقالات. شكر الله له رقته ولطفه.
كما كتبتُ منذ عدة سنوات دراسة طويلة عن د. نصر أبو زيد بعنوان " نصر أبو زيد- أغلاط ومغالطات"، تناولت فيها، ضمن ما تناولت، النقد المجحف الذى وجهه د. جابر عصفور إلى أستاذه د. شوقى ضيف رحمه الله، واتهمه فيه بأنه لا يفهم شيئا فى البنيوية ولا التفكيكية ولا الهرمنيوطيقية، وأنه قد انسحب من اللجنة التى تم تشكيلها لقراءة إنتاج د. نصر أبوزيد العلمى للنظر فى مدى استحقاقه للترقية إلى رتبة الأستاذ، حتى يأخذ مكانه د. عبد الصبور شاهين، الذى كانت بينه وبين أبو زيد ثارات قديمة، مع أن د. جابر عصفور كان يمجد أستاذه د. شوقى ضيف دائما ولا يجرؤ أن يقول فيه أثناء حياته ولا واحدا على المليون من ذلك الكلام. وقد نشرتُ هذه الدراسة فى كتابى: "أفكار مارقة" شاغلة فصلا كاملا من فصول ذلك الكتاب. وفى هذه الدراسة يجد القارئ دفاعا عن أستاذى وأستاذ د. جابر عصفور يعتمد على الحقائق والعلم ولا يعرف الهلس ولا توجيه الاتهامات الزائفة الملفقة التى لا تستند إلى أى أساس ولا تستشهد بالموتى الذين انتقلوا إلى العالم الآخر ولم يعد بوسعهم أن ينطقوا ولا أن يقولوا إن ما ينسب إليهم من استشهادات إنما هو كلام باطل لم يتفوهوا بحرف واحد منه.
ومن الأساتذة الذين لا يمكن الصمت عنهم فى هذه اللمحات د. حسن حنفى، الذى حاضرنا عامين متتابعتين فى السنتين الأخيرتين لى بآداب القاهرة فى الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامى على التوالى. ولم يكن له كتاب نرجع إليه، بل كان الطلاب يعتمدون على تسجيل ما يقوله فى المحاضرات: يقوله لا يمليه، إذ كان يتحدث بالإيقاع المعتاد فى الحديث ودون أى تنظيم. أما أنا فلم أكن أكتب شيئا مما أسمعه منه، بل كنت أعود إلى المراجع أقرؤها فى المكتبة. وكنت ألاحظ أن د. حنفى يعزو بعض الآراء الغريبة إلى هذا الفيلسوف المسلم أو ذاك حتى إذا ما ذهبتُ وقرأتُ ما كتبه الفيلسوف نفسه فى كتبه ألفيته شيئا مختلفا عما يقوله الدكتور، وقد يكون مناقضا له، فأعود فى المحاضرة التالية وأعلن هذا على رؤوس الطلاب دون جمجمة أو تردد. وكانت المناقشات كثيرا ما تحتد بينى وبين أستاذى. ولا أذكر أنه حاول إسكاتى أو الانتقام منى طوال العامين اللذين قضيتهما فى الاعتراض معظم الوقت على ما يقول والمقارنة بينه وبين ما يقوله الفلاسفة المسلمون فى مؤلفاتهم، واتهامه بأنه يلوى كلامهم وينسب إليهم ما لم يقولوه.
فمثلا كان ينسب إلى بعض الفلاسفة المسلمين القول بأن الله يعلم الكليات فقط دون الجزئيات أو أنهم ينكرون الحياة الآخرة. فرجعت مثلا إلى كتابى ابن رشد: "فصل المقال" و"مناهج الأدلة" لأجده يؤمن بالحياة الآخرة وأنه لا شىء يند عن علم الله. كل ما هنالك أنه قد عرض آراء المتكلمين المسلمين فى تصور البعث من قائل بأنه سيكون جسديا، ومن قائل بأنه سيكون روحيا، ومن قائل بأنه سيكون جسديا لكن بأجساد جديدة أو شىء قريب من هذا. وقد علمنى هذا شيئا مهما، وهو عدم تصديق ما يسمعه الشخص أو يقرؤه من الآخرين دون تمحيص. وكان من رأى الأستاذ الدكتور أن ابن رشد قد بث آراءه فى شرحه لفلسفة أرسطو، على حين كان رأى العبد لله أن شرحه لأرسطو إنما هو عرض لأفكار أرسطو لا يُسْأَل هو عن شىء منه، أما كتاباه الآنفا الذكر فهما مناط البحث عن آراءئه.
وأذكر أيضا أننى، فى إحدى المحاضرات وبعد انتهاء الدكتور حنفى من قول ما عنده وحلول ميعاد المناقشة، رفعت يدى طلبا للتعقيب، وكنت قريبا من آخر القاعة، فقال: سنبدأ من الصف الأول. فما كان منى إلا أن انتقلت من موضعى إلى الصف الأول كى أستطيع التعليق على ما قال قبل انتهاء المحاضرة. وكان معه قطعة من الطباشير فقذفها نحوى قائلا: ماذا تريد بانتقالك هذا؟ قلت له: أريد أن أتكلم قبل أن تنتهى المحاضرة. فقال: إذن تكلم، ولا تُطِلْ. فقلت ضاحكا، ولكن فى جد تام: بل سآخذ راحتى فى التعليق. فأجابنى حينئذ إلى طلبى دون تعسف. وقد حصلت فى المادتين اللتين حاضرَنا الأستاذ الدكتور فيهما خلال تَيْنِكَ السنتين على تقدير "ممتاز" و"جيد جدا" على التوالى. ولم يحصل أحد فى السنة الرابعة فى مادة "التصوف الإسلامى" على أعلى من "جيد جدا" بما يدل على أنه لم يكن كذلك الأستاذ الآخر الذى أعطانى فى مادتيه فى ذينك العامين أنفسهما أدنى درجة فى تقدير "الجيد". ولم أكن فى إجاباتى على أسئلة الدكتور حسن حنفى أستشهد بما يقول إلا على سبيل المناقشة له والاختلاف معه، ومع هذا لم يفكر الرجل فى طعن ظهرى فى الظلام. لكن لا بد من القول رغم ذلك بأننى حين أقرأ له شيئا الآن لا أستطيع إلا أن أتذكر طريقته فى عرض أفكاره أثناء المحاضرة، تلك الطريقة القائمة على الإتيان بنتائج خاطئة مبنية على مقدمات متهافتة. إلا أن هذه نقرة، وتلك نقرة أخرى! وقد تحدثت إلى د. شوقى ضيف ذات مرة عن آراء الدكتور حسن حنفى واختلافى مع ما يردده فى المحاضرات، فأبدى استغرابه لأنه، حسبما أخبرنى، كان عضوا فى جماعة الإخوان المسلمين!