مع رواية "ربما يأتى القمر" للسعيد نجم
د. إبراهيم عوض


السعيد نجم روائى من إحدى قرى المنصورة. قرأت له تقريبا كل رواياته واستمتعت وأعجبت بها إعجابا كبيرا. وقد أهدانى قبل بضعة أسابيع روايته الأخيرة: "ربما يأتى القمر" الفائزة فى مجال الرواية بمسابقة هالة فهمى للتنمية الثقافية، والصادرة عن دار إيزيس للفنون والنشر بالقاهرة عام 2016م. وهى تدور حول شاب مصرى سافر إلى ألمانيا ليكسب رزقه من العمل فى غسل الأطباق بأحد المطاعم ككثير من الشبان المصريين، بعد أن ذاق الأمرين فى الحصول على تأشيرة الدخول. وهناك وقع فى غرام فتاة مسلمة لبنانية حلاقة رائعة الجمال لبقة وأنيقة وجريئة ومقتحمة، وذات عقل وقلب غربى لا تكاد ترى فى الغرب شيئا معيبا. وبعدما قضى معها فى الحرام فترة من الوقت عاش أثناءها على النحو الذى تريده من ممارسة حرة للجنس وشرب للخمر واتباع لأحدث التقاليع فى الملابس وتصفيف الشعر وتطرية الوجه تزوجا، لكنه أرادها أن تترك ميولها المتغربة وأن تتبع تعاليم الإسلام، فكانت تَعِدُه وعودا غامضة تسويفية وتعلِّق الأمر على هداية الله. وانتهى الأمر بأن حملت منه رغم اشتراطه عليها فى البداية ألا تحمل إلا بعلمه. ثم بدأ صدره يضيق بتصرفاتها وتغيُّبها عن البيت طويلا وعودتها متأخرة من عملها على غير العادة وأحاديثها الهامسة فى الهاتف داخل غرفتها، التى تغلقها بالمفتاح على نفسها حتى ركبته الوساوس والشكوك، وإن لم يصل إلى يقين بشأن هذه التصرفات، إذ كانت عادة ما تقدم شرحا لها مقبولا ولو ظاهريا. ولكن مع تمادى الأيام ومصارحة دينا لسامى بأنها لن تتغير ولن تنفذ ما يطلبه منها من الالتزام بالملابس المحتشمة وترك العمل والاهتمام بالبيت والطفل والإقلاع عن الخمر انتهى الأمر بينهما إلى الطلاق وعودة سامى إلى قريته بمصر تاركا لها ابنه منها، ولكن دون أن يستطيع التأقلم مرة أخرى مع الأوضاع فى أرض الوطن، ودون أن يستطيع نسيانها أو نسيان ذكريات البهجة واللذة التى ذاقها معها ولا نسيان جمالها ورقتها وأناقتها.
هذا ما كتبته عن موضوع الرواية، أما هو فكتب ما يلى ردا على رغبتى أن يمدنى بتلخيص لها: "بداية أقسم أنها ليست قصتى، فأنا ولله الحمد وحده لم أجرع إلى الآن جرعة خمر واحدة.. الرواية نتف من مشاهد عاينت بعضها هنا، وبعض المشاهد من التخيلات التى تتناسب مع المشاهد الواقعية. القصة تُعْنَى بذلك الصراع الثقافى المرير بين شرقى بعاداته وتقاليده وتدينه وبين واقع مادى صلب وصلد قامت عليه الحياة الأوروبية ببريقها الخلاب ومكتسباتها العاتية. القصة لريفى انتقل فجأة من تلك الحياة البسيطة الرتيبة الهادئة إلى أوروبا بضجتها وضجيجها. هدفه بسيط كبساطته: أن يتحصل على بعض مال يظنه قنطرة يعبر عليها منزلق فقر سليط سبق أن عانى منه كما عانت أسرته.
بدأت الرواية بنهايتها، فقد عاد بطل الرواية (سامى) إلى قريته. طبيعى أن يسترجع أيامه فى برلين مدققا فى أحداثها، مراجعا مواقفه من تلك الأحداث ومدى سلامتها من عدمه. تتسلل إلى ذاكرته أيضا أحداث وأحداث مسرحها أرض قريته. ما دار بين أكثر من زوج وزوجة من أبناء قريته ربما كان أخف وطأة مما دار بينه وبين دينا بطلة قصتنا. وقد استمرت الحياة الزوجية بين أزواج وزوجات قريته بينما انفصمت عرى زيجته بجميلته دينا!
أجفل بطلنا حين راوده خاطر أنه يبرر تصرفات زوجته المتأوربة، وبالتالى يلقى اللوم على نفسه وثقافته القروية، وطرد على الفور حلم يقظة راوده أن تأتى دينا (القمر) إليه لتعيش معه فى قريته كما تعيش القرويات. سافر أحمد إلى ألمانيا دون قدر كاف من القراءة أو المعرفة عن ماهية الحياة فى أوربا. قابلته الصعوبات المعتادة، لكنه سرعان ماتغلب عليها بمساعدة البعض مع الصبر والإرادة. عمل كغاسل أطباق فى مطعم إيطالى ثم تطور فأتقن صناعة البيتزا، فزاد أجره وقوى مركزه، وراودته الأحلام: أن يصبح يوما ليس ببعيد صاحب مطعم ككثير من المصريين الذين بدأوا بدايته. سارت حياته كما يشتهى. أرسل إلى والده مبلغا يقر به عينه ويرفع عن كاهله العناء الثقيل. كلما زادت نجاحاته زاد قربا من ربه وإمعانا فى شكر خالقه. بحث عن مسجد وجد فيه ضالته: صبحى شيخ المسجد، خطيبه ومقيم شعائره، رجل متمكن واسع الثقافة والخبرة بالحياة والأحياء. وفضلا عن سعة معرفته بالإسلام فهو نهاية مشواره لتقديم أطروحة دكتوراه فى الكيمياء. تعرف أحمد على عماد. وهو، على النقيض من صبحى، شاب يعيش كما يعيش الأوربيون تماما، وكأن كل مادارت عليه حياته فى القاهرة قد مسح من ذاكرته تماما.
ظن سامى أنها أوربية فرنسية، فهى أجمل وأرق من الألمانيات تلك التى تحلق له شعره. كانت مفاجأة مذهلة أن اكتشف أنها عربية. كسرت خجله القروى وتعرفت عليه سريعا. لم تضع وقتا فواعدته. سحره جمالها الأخاذ فلم تفلح مراجعاته الذاتية أن تجعله يتخلف عن موعدها. كان أضعف من أن يتخلص من نسيجها العنكبوتى حوله. قادت دينا العلاقة بينهما كما تريد. القروى الممعن فى قرويته يشرب الخمر ويفعل الفاحشة. أرادت دينا الزواج منه، فكان لها ما أرادت رغم تحذيرات صبحى الشديدة، أما عماد فحثه على الزواج منها بلا تأخير. وعدته أنها ستكون الزوجة الصالحة على النمط الذى يتمناه. بعد الزواج لم يتغير سلوكها قيد أنملة، بل أمعنت فى كل ما يثير غيرته، وبالغت أكثر فى ارتداء مايكشف عن جل مفاتنها. بدأت حرارة اللقاءات الحميمة تقل تدريجيا، وكذا تأثير سحر جمالها. يذكرها بوعدها صباح مساء وهى تسوف وتسوف، ثم أعلنت ضيقها، وأضافت أنها لن تتغير، فهو الذى يجب أن يتغير ليعيش عصره لا عصر والديه، وصبحى ينصحه بالفرار منها كما يفر من أسد، وعماد يحضه على مجاراتها والعيش على طريقتها.
تأزمت الأمور بينهما، فهجرها عازما على ألا يعود إليها. كان الفراغ الذى سببه غيابها صعب الاحتمال، لكنه استعصم بالصبر يحضه صبحى. أسبوع واحد وأتت إليه دينا وبأسلوبها الشيطانى سحبته إلى عشها منتكسا. هى على ماهى عليه، تصرفاتها تشعل غيرة تحرقه ليل نهار. أهمل مظهره بينما هى تبالغ فى زينتها. ينحدر سريعا إلى كهوف الاكتئاب بينما هى تتوهج إقبالا على الحياة، وصبحى يحذر، وعماد يحضه أن يسبح فى نهر عسل يحسده عليه الكثيرون. يحكى له صبحى قصصا لكثيرين تعرضوا لما تعرض له: منهم من استمع لنصحه فسلم، ومنهم من استسلم فضاعت دنياه كما ضاع دينه، وعماد يضرب له أمثلة لمصريين خلعوا رداء كل ما هو مصرى فحققوا النجاحات وجمعوا الثروات وغرقوا فى اللذات. فاجأته دينا مفاجأة كادت توقف قلبه: أنها حامل! أتصلح هذه أن تكون أما؟ ماذا لو أنجبت بنتا؟ ساومها أحمد بكل السبل كى تجهض حملها، وهى ترفض بكل شدة، ولا تقبل النقاش حول هذا الموضوع. خيرها بين أن تتمسك به أو تتمسك بحملها، فأعلنت التمسك بحملها. هجرها علها تراجع نفسها. مر أسبوع وثان وثالث، ولا تراجع. أصبح الإجهاض عسيرا، والحمل أمر واقع. أعادته دينا بطرقها المخملية إلى عش الزوجية مع وعد أن تتغير، فهى عما قريب ستصبح أما. كعادتها لم تبر بوعدها. تسوف ولا تظهر أية علامة للعدول عن غيها. ولدت دينا طفلا أسماه والده: علىّ. لم ترضع الأم ابنها خوفا من تهدل صدرها، ولم تظهر الاهتمام المعهود به، وسعت منذ أيامه الأولى أن تتولى أموره جليسة أطفال، وهرعت إلى عالمها الخاص بكل شوق وكأن الحمل كان سجنا. يئس أحمد تماما بعد محاولات مستمرة ومستميتة أن تتغير زوجته، أو أن تخفف من غُلَوائها. أضناه التفكير فى مصير ابنه. حاول أن يساومها: أن تأخذ منه كل ما اكتسبه على أن تترك عليا، ولا فائدة. بعد عناء طويل اتخذ قراره بطلاق زوجته والعودة إلى قريته. استقبلت قراره ببرود ثلجى. ترك لها عنوانه معربا أنه سيرحب بها إن عَنَّ لها أن تعود إليه كزوجة، فيواصلان الحياة معا فى قريته.
(أستاذى الكريم: كتبت هذه الكلمات المقتضبة عن الرواية من الذاكرة دون الرجوع إلى الرواية، فأنا فى ألمانيا، ربما لاتكون وافية، لكن هذا مااستطعته. تقديرى وتحياتى وشكرى).













والآن نشرع فى تحليل الرواية على بركة الله. وأرجو فى البداية من القراء أن يُوسِعوا لى فى صدورهم شيئا حتى أفعل كما يفعل بعض النقاد إذ يمسك الواحد منهم مسطرة يقيس بها العمل الذى أمامه بالمليمتر بناء على ما يقال فى دنيا النقد والنقاد دون نظر فى هذا الذى يقال لمعرفة مدى صوابه من خطئه وخَطَله. وسأبدأ بما يقوله بعض النقاد، استنادا إلى ما جاءنا من النقد الغربى فى العقود الأخيرة، عما يسمى بـ"عتبات النص" (paratexte). والمقصود بها كل ما لا يمت إلى نص الكتاب مباشرة كالعنوان وتصميم الغلاف والخط الذى كتب به الكتاب ونوع الورق ولونه ولون الحبر والعبارة التى يحرص بعض المؤلفين على تحلية جِيدِ كتبهم بها ويطالعها القراء قبل الدخول إلى النص، بل والعلامة التجارية لدار النشر أيضا.
وكنت ولا أزال أعترض على انشغال النقاد بهذه الأشياء، فهذا الانشغال ليس من النقد الأدبى فى شىء، لأن تلك الأشياء ببساطة ليست من الأدب من بعيد أو قريب. إنها تدخل فى فن إخراج الكتاب مثلا، ولا صلة لها بالإبداع الأدبى، ومن ثم لا ينبغى الاهتمام بها. ولا يصح أن يقوَّم الكتاب فى ضوئها ولا أن يُمْدَح المؤلف أو يُنْتَقَد بشأنها. إنها ليست من اختصاصه الإبداعى فى قليل أو كثير. بل إن الحيادية لتوجب على القراء والنقاد أن يكونوا حريصين على ألا يتأثر رأيهم فى الكتاب بشىء خارج الكتاب.
أما أولئك النقاد فيذكّروننى بأولئك الطلاب ذوى العقلية الـ"بى دى إفـّ"يّة التى لا تحسن سوى حفظ المكتوب أمامها حفظا عميانيا دون تصرف أو محاولة للفهم. وما دام هناك ما يسمى بـ"عتبات النص" فلا بد لهم من وقفة أمام تلك العتبات، بالضبط كما يحرص الشيعى على الوقوف بالعتبات المقدسة بمدينة الكوفة. وهم يفعلون هذا بمشاعر باردة لا لشىء إلا لأن "الكِتَاب يقول ذلك"، وهم حريصون على التصرف كما يقول الكتاب.
ترى كيف يحاسَب المؤلف على ما صنعته يد مصمم الكتاب ومخرجه؟ ولنفترض أن المؤلف كان ضعيف الإمكانات المادية فلم يستطع أن يجد لكتابه دارا فخمة رفيعة المستوى فى التصميم والإخراج، فكيف نحمِّله من الناحية الفنية الأدبية نتيجة ضعف إمكاناته المالية؟ وما دخله فى اختيار الطابع لنوع الخط ومقياس الحروف وما إلى ذلك؟ كما أن هناك كتابا ضعافا لغويا وفنيا، لكنهم بارعون براعة عظيمة فى إيراد المقتبسات الجذابة من الكتب المشهورة للتغطية بها على ضحالة كتبهم. الحق أن النقد الأدبى يقتضى منا أن نبرئ الكاتب من تحمل مثل تلك التبعات. إنه أديب لا طابع ولا مصمم ولا ناشر. وحتى لو افترضنا أنه كان، إلى جانب كونه أديبا، صاحب مطبعة ودار نشر، فلا يصح أبدا أن ننتقد العمل الأدبى، بوصفه عملا أدبيا، لشىء من تلك الأمور، بل ننتقد جراءها القائمين على النشر وتصميم الكتاب ليس إلا.
فمثلا فى الرواية التى بين أيدينا نجد أن لون الغلاف الرمادى الشاحب لا يعجبنى كثيرا ولا نوع الخط الذى كتب به العنوان الرواية ذاتها ولا لونه الأحمر المطفأ ولا مقياس الحروف ولا حجم الكتاب نفسه المقارب فى صغره لحجم كتاب الجيب، فضلا عن بعض الأخطاء الطباعية، ومع هذا كله فقد فعلت كل ما فى طاقتى كيلا يؤثر شىء من ذلك فى موقفى نحو الرواية، إذ أعرف أن المؤلف لا ذنب له فى هذه الأمور فى كثير أو قليل. لقد كتب روايته، وينتظر منا أن نقول رأينا فيها. أما تلك الأمور الأخرى فهو غير مسؤول عنها، لأنه ليس هو الذى فعلها بل أشخاص آخرون. ومن هنا كان من السخف بل من الظلم أن نَعْصِبها برأسه. ولهذا حرصت كل الحرص على ألا يتسرب تأثير شىء من هذا إلى نقدى للرواية. وقد قرأتها واستمتعت بها وبما فيها من إبداع أدبى رغم كل تلك الملاحظات، فكأننى لم أتنبه لتلك الملاحظات البتة.
ليس ذلك فقط، بل هناك عنوان الرواية: "ربما يأتى القمر"، وهو ما لا يتبين لى وجه الحكمة فى اختياره. والعنوان أقوى آصرةً بالرواية من أى عتبة من عتباتها عند أهل العتبات "غير المقدسة". ومع هذا فلقد استمتعت بالرواية أشد الاستمتاع رغم ذلك. وإنى لأعرف أن كثيرا من عناوين الكتب تفتقر إلى ما يربطها بتلك الكتب، ومع هذا فإننا نقبل على تلك الكتب قارئين مستفيدين متلذذين. فعلى سبيل المثال ما العلاقة التى تصل بين عبارة "طوق الحمامة" التى اتخذها ابن حزم الأندلسى اسما لكتابه الشهير عن الحب وبين موضوع ذلك الكتاب؟ ومع هذا فإن ذلك الاختيار لم يقف فى وجه أحد ممن يحبون قراءة ابن حزم ولا فكَّر أحد فى العيب على الرجل بسببه. ومثله كتاب "مروج الذهب" للمسعودى، وهو كتاب فى التاريخ لا وشيجة ظاهرة بين عنوانه ومحتواه، بل لا وجود فى الواقع لمروج من الذهب على الإطلاق، إذ هو مجرد مجاز. ونحن هنا من ثم أمام مجازين.
وقد حاولت أن أصل إلى مغزى استعمال كاتبنا لعنوان كتابه المذكور. وبعد لأْىٍ قلت فى نفسى: ربما كان المقصود أن حياته صارت ظلاما دامسا، لكنه يأمل يوما أن تنقشع الظلمات الحالكة ويسفر القمر عن وجهه. ومع هذا فلا مناص أن أصرح بأنى لست مطمئنا لهذا التفسير، ولكنى توصلت إليه بشىء غير قليل من التعسف لرغبتى الحارقة فى اكتشاف سره ليس إلا. ورغم كل شىء فلم أقف إزاء ذلك العنوان، بل تركت نفسى أستمتع بالرواية التى لم تخيب ظنى وكانت ككل ما كتب المؤلف من روايات قرأتها له من قبل إمتاعا ولذاذة.
أما هو فقد فسر صلة العنوان بالرواية على النحو الذى رأينا حين قال: "أجفل بطلنا حين راوده خاطر أنه يبرر تصرفات زوجته المتأوربة، وبالتالى يلقى اللوم على نفسه وثقافته القروية، وطرد على الفور حلم يقظة راوده أن تأتى دينا (القمر) إليه لتعيش معه فى قريته كما تعيش القرويات". لكن هل يمكن أن تمثل دينا القمر بعد أن صارت حياته معها جحيما لا يطاق واستحال التفاهم بينهما وتشاتما وضربها واستدعت له الشرطة وحرمته ابنه الذى حملت به منه، وأغلقت كل الأبواب وأعلنت بكل قوة وحسم أنها لن تحيا حياة المسلمين فتقلع عن الخمر أو تصلى أو ترتدى ملابس محتشمة، بل ستعيش كما تعيش نساء برلين، وليفعل ما يشاء، فلن تطيعه ولن تغير أسلوب عيشها؟ ورغم هذا كله فقد استمتعت بالرواية أعظم الاستمتاع.
ويزداد الطين بِلَّةً حين نسمع من يقول ممن يحسبون خطأ وزورا على النقاد إن العمل الأدبى يكون مخبوءا فى العنوان، فالعنوان يلخص الكتاب كله، كما أن الكلمة الأولى فى العنوان تلخص العنوان كله وتختصره، والحرف الأول من تلك الكلمة يستكن فيه الكتاب كله. وهذا كلام بهلوانات لا نقاد، وإلا فما من حرف من حروف الألفباء إلا ويبتدئ به ما لا يحصى من العناوين، فهل كل تلك الكتب التى تجلّ عن الإحصاء وتبتدئ بالراء مثلا تستكنّ فيها نفس المضامين رغم اختلاف النوع الأدبى والعصر والمؤلف والجمهور والموضوع والمضمون. إلخ؟ فمثلا أول حرف فى عنوان الكتاب الذى بحوزتنا الآن هو الراء، وأول حرف فى اسم كل من "الرعد" و"الروم" و"الرحمن" هو الراء، وأول حرف فى رواية إدوار الخراط: "راما والتنين" هو الراء أيضا، وأول حرف فى رواية يوسف السباعى الشهيرة: "رُدَّ قلبى" هو الراء كذلك، وأول حرف من اسم كتاب جبران خليل جبران: "رمل وزبد" هو الراء، وأول حرف من اسم مسلسل محمود مرسى: "رحلة أبو العلا البشرى" هو الراء، وأول حرف من اسم مسلسل محمد صبحى: "رحلة المليون" هو الراء، وأول حرف من عنوان "رحلة الربيع والخريف" لطه حسين وتوفيق الحكيم هو الراء، وأول حرف من اسم أغنية "الربيع" التى يغنيها فريد الأطرش هو الراء، وأول حرف من أغنية "رِمْش عِينُه" لمحرم فؤاد هو الراء، وأول حرف من أغنية ليلى مراد: "رايْداكْ والنبى رايداك" هو الراء، وأول حرف من اسم أغنية "روَّق القنانى" لكل من محمد عبد المطلب وسعاد محمد والثلاثى المرح هو حرف الراء، وأول حرف من اسم أغنية "رُدُّوا السلام" لعفاف راضى هو الراء. وهناك الفلم المشهور: "رجب على صفيح ساخن"، ويبدأ بالراء كما نرى. فما العمل؟ وما أكثر الأمثال المشهورة التى تبدأ بكلمة "رُبَّ"، وأول حروفها الراء كما نرى، كقولهم: "رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمك"، وكقول أمير الشعراء: "ورُبَّ مستمعٍ، والقلبُ فى صممِ". ومن الأمثال الشهيرة التى تبتدئ بحرف الراء: "رميةٌ من غير رامٍ". بل إن عبد الحليم حافظ يغنى قصيدة جميلة عنوانها "ربما"، ولا شىء غير "ربما". أى أنها تشارك الرواية التى معنا لا فى حرف واحد هو أول حروف العنوان بل فى كلمة كاملة منه هى أولى الكلمات فيه. ومعنى هذا أن الاتفاق بين القصيدة والرواية لا بد أن يكون اتفاقا حميميا. ولكننا نعرف أن هذا كله كلام فارغ لا حقيقة له، ومجرد تفكير بهلوانى ليست له قيمة فى دنيا العقلاء الصادقين.







والغريب أن أهل العتبات "غير المقدسة" لا يهتمون رغم هذا باللغة مع أن اللغة هى أساس كل شىء فى العمل الأدبى: فلا تفكير ولا شعور ولا بنية ولا عبارة ولا صورة بدون اللغة. إنها هى القالب الذى يُصَبّ فيه هذا كله. ولكنك تنظر فيما يُكْتَب هذه الأيام من نقد فلا تجد اهتماما بتقييم اللغة وكأنها لا تمت للعمل الأدبى بأية صلة. وفى كثير جدا من الأحيان أشعر أن الناقد نفسه لا يعرف لغته، ومن ثم فهو يغلق هذا الباب حتى لا ينفضح. وهناك من النقاد من يظن أن الاهتمام باللغة أمر قد عفا عليه الزمن. وقرأت مرة لأحد الشبان أن "نحو النص" قد أزاح "نحو الجملة" وحل محله فلم يعد لـ"نحو الجملة" مكان فى العملية النقدية الحديثة. وهو كلام مضحك، فإن "نحو النص" إنما يهتم بتماسك النص ككل ولا علاقة له بصواب استعمال لغوى أو خطئه. إنه يكمّل "نحو الجملة" ولا يأخذ مكانه، وهو يبدأ من حيث ينتهى هذا النحو.
وقد لوحظ فى الكتابات المعاصرة فى العقود الأخيرة انتشار الأخطاء النحوية والصرفية مما لم يكن موجودا من قبل بوجه عام. ولن أتكلم عن كتابنا القدامى الكبار بل عن كتاب عصرنا، ولم يكن الواحد منهم يخطئ فى تلك الأمور. ومنهم فى مصر وحدها البارودى وعائشة التيمورية وشوقى وحافظ إبراهيم ويعقوب صروف والرافعى والعقاد والمازنى وشكرى وملك حفنى ناصف ومى زيادة وناجى ومحمود تيمور ومحمود طاهر لاشين ويحيى حقى والسحرتى وباكثير والسحار وتوفيق الحكيم وصالح جودت ووديع فلسطين وعبد الرحمن الشرقاوى ونجيب محفوظ، ولم يتخرج أى من هؤلاء من أقسام اللغة العربية، بل إن بعضهم لم يكمل تعليمه الرسمى وترك المدرسة مبكرا جدا.
وكاتبنا واحد من أبناء المراحل الأخيرة ممن يقعون فى الأخطاء اللغوية رغم تبريزه فى فن الرواية: فمثلا نراه يقول: "صاحب الطاولة لا تفوته حركة، ولا تخطىء عيناه يد أو تعبير توشى به الوجوه الفاتنة" (ص46)، وصوابها: "لا تخطئ عيناه يدا أو تعبيرا تشى به الوجوه الفاتنة" بنصب "يدا أو تعبيرا" على المفعولية، وحذف الواو من "توشى" لأن الفعل ثلاثى مجرد لا مزيد بهمزة، فهو "وَشَى يَشِى"، وليس "أَوْشَى يُوشِى". ومثل ذلك الوهم يقع كثيرا من الكتاب هذه الأيام.
ويقول أيضا: "تسبح فى تلك العينين الجميلتين" (ص54) مستخدما اسم الإشارة المفرد للعينين الجميتلين، والمفروض أن يكون الكلام: "تسبح فى تَيْنِك العينين الجميلتين"، إذ "تانِك/ تَيْنِك" هى صيغة اسم الإشارة للمثنى المؤنث البعيد. أى أن "تانِكَ/ تَيْنِكَ" هى مثنى "تلك". كذلك فعوضا عن "فلْأَهِمْ فى شوارع المدينة" يقول: "فلأهيم فى شوارع المدينة" (ص72) رغم أن اللام هنا هى لام الأمر لا لام التعليل. أى أنها تجزم، ومن ثم تُحْذَف الياء مع تسكين الميم، وإلا كان الفعل منصوبا، وكأن اللام هى لام النصب.
أما فى المثال التالى فالأمر بالعكس، إذ تعامل الكاتب مع "لا" النافية وكأنها ناهيةٌ تجزم: "فلماذا لا ترضَ بقَدَرٍ لا مفرّ منه؟" (ص90). وفى ص 122 تقول دينا لزوجها عن رجل كانت تجلس معه: "هو ليس أجنبى"، وكان حقها أن تنصب "أجنبى" لأنه خبر "ليس". وفى ص 128 يقول أحد الوزراء المصريين لصبحى: "أن هناك أمل يبدو فى الأفق"، وكان حق "أمل" أن تنصب وتصبح "أملا" لأنها اسم "إن" المتأخر، فضلا عن وضع الهمزة فوق "إن" رغم مجيئها بعد القول كما فى سائر مواضع الرواية. وفى ص140 نجد "قبلاتًا ساخنةً" بفتح التاء من "قبلات" على أساس أنها منصوبة مع ما هو معروف من أن نصب جمع المؤنث السالم والملحق به إنما يكون بالكسر لا بالفتح: "قبلاتٍ ساخنةً".
وبعد ذلك بأربع صفحات نقرأ: "ما رأيت جائعا ولا عار" بدلا من "مارأيت جائعا ولا عاريا". ثم بعد هذا بعشر صفحات نجد "أُقْسِم أنك لن تخرجين به"، والصواب هو "لن تخرجى" بحذف النون على النصب بسبب "لن". كما يقول على لسان دينا زوجته موجهة الكلام إليه: "لن آتِ إليك" (ص180)، والصواب "لن آتِىَ إليك"، فحرف "لن" لا يجزم بل ينصب، وعلى هذا لا يصح حذف الياء التى فى آخر الفعل المضارع بل ينبغى إثباتها ووضع فتحة عليها. كما لاحظت أن حرف "إن" بعد القول دائما تقريبا تكون همزته فوق الألف لا تحتها كما سلف القول. وقد يكون الطابع هو السبب، فقد ساحت الأمور وتداخلت بل تمازجت، ولم يعد سهلا فى كثير من الأحيان أن نحدد المسؤول عن مثل تلك الأخطاء. وهناك استعمال "ليال" بدون ياء حتى فى حالة الإضافة وحالة النصب: "الظلام الذى كان يغرق ليال قرية" (ص20. وصحتها "ليالىَ قرية")، و"معظم ليال الأسبوع" (ص130. وصوابها "معظم ليالى الأسبوع").
على أن ليس معنى هذا أن أسلوب الكاتب ضعيف أو مهلهل. لا، فبناء الجمل والفقرات عنده بوجه عام محكم وقوى، واختياراته لمفرداته ينبئ عن غنى لغوى إلى حد ملحوظ، لكن المشكلة تكمن فى الإعراب وتصريف الأفعال أحيانا. وبالمناسبة فقد لاحظت أنه يميل إلى التخلص من واوالاستئناف وبدء الجمل الجديدة دون رابط لفطى يربطها بما قبلها. ورأيى أن الكاتب، أى كاتب، يستطيع أن يقبض على زمام القواعد النحوية والصرفية لو كرس بعض جهده لمراجعة النحو والصرف فى أى كتاب مبسط. وأغلب الظن أن كتب المرحلة الإعدادية وحدها كافية لإبلاغ الكاتب بر الأمان والسلامة لو صحت لديه العزيمة ووضع فى دماغه أن يحسن لغته، مع الرجوع دائما إلى المعاجم يستفتيها. لكن المشكلة تكمن فى أن الكتاب استسلموا لوضعهم ولا يحبون أن يبذلوا جهودهم، وبخاصة أنه قد شاع وذاع شيوعا وذيوعا آثما أن العربية لغة صعبة، وأن الإبداع الأدبى خارج الشعر لا يستلزم معرفة النحو والصرف. ويعزز هذا فى النفوس أنك قلما تلقى ناقدا قصصيا يهتم بالصحة اللغوية. وعلى هذا يترك الكتاب أنفسهم نحويا على الوضع الذى تخرجوا عليه من المدارس، متصورين أنه ليس عليهم حرج فى أن يظلوا بهذا المستوى.
وقد كان يوسف السباعى، فيما أذكر، يرد على عديله عباس حسن أستاذ النحو بدار العلوم سابقا وصاحب "النحو الوافى" إذا ما لفت نظره إلى وجوب صحة الأسلوب لغويا بأن المهم إفهام القراء، وما دام قراؤه يفهمون عنه ما يقول فلا تثريب عليه بعد ذلك. وفاته أن الصحة اللغوية، إضافة إلى هذا، قيمة فى ذاتها: قيمة جمالية وقيمة أخلاقية، وإلا فلِمَ يهتم بأن تكون ملابسه أنيقة ما دام المهم أن تغطى الملابس عورته وتحميه من الحر والبرد، ودمتم؟ ولِمَ يهتم بأن يأكل فى أطباق جميلة وبترتيب مخصوص على المائدة ويستعمل أدوات جذابة للأكل ما دامت العبرة توافر الطعام الذى يملأ البطن، والسلام؟ أما إن لم يستطع إلزام نفسه إحسان اللغة العربية فليعهد الكاتب بعمله إلى مراجع لغوى يصحح له الأخطاء، ويقوّم له المنآد. المهم أن يخرج العمل سليما لا تشوه وجهَه البثورُ والنُّدَب.














وقد عن لى، وأنا أفحص لغة الكاتب، أن أتقرَّى ما فى الرواية من "التناص"، أى الخيوط المأخوذة من مؤلفين آخرين سواء كانت ألفاظا أو صيغا أو تراكيب أو صورا أو أبنية أو أفكارا أو مشاعر أو مواقف، أو يغلب على الظن أنها مأخوذة منهم، أو فى أقل القليل: تشبه ما عندهم. إلخ. وليس المقصود اتهام الكاتب بالسرقة من الآخرين أو حتى القول بالاقتباس منهم، إذ الواقع أنه ما من شىء نؤلفه إلا ويستند إلى ما عند الكتاب والمتحدثين السابقين والمعاصرين. فذهن الإنسان عبارة عن حصالة لغوية وعلمية، وكلما كنتَ حريصا على أن تودع حصالتك ما يقع لك فى طريقك من كلام مقروء أو مسموع ألفيتَها جاهزة ممتلئة بما تحتاج إليه حين يكون عليك أن تكتب، وإلا وقفتَ حائرا بائرا لا تستطيع حِوَلا. ولا يشذ أى إنسان عن هذا الوضع. وأحيانا ما يكون سهلا على الناقد أن يضع يده على مواطن التناصّ، وأحيانا ما يكون الأمر صعبا. بل إن الكاتب فى الغالب لا يستطيع أن يحدد مِمَّ أخذ هذا اللفظ أو مِمَّ استلهم ذاك الرأى مثلا، إذ إن معظم العملية الإبداعية إنما تتم بعيدا عن العقل الواعى.
ومما لفت نظرى فى الرواية من تناص عبارة "جنة العبيط" فى قول الراوى مستغربا سعادة أحد معارفه بزوجته واطمئنانه التام لها ولسلوكها وأخلاقها رغم ما هو ظاهر من سيرها على حل شعرها كما يقال: "أهى جنة العبيط يا حسن؟" (ص21). ولست أستطيع أن أرجع بهذه العبارة إلى أبعد من عنوان الكتاب الذى خصصه د. زكى نجيب محمود لتوضيح مفهوم المقال الأدبى توضيحا تطبيقيا والذى قرأته وأنا طالب بالجامعة فى أواخر ستينات القرن البائد. والمقصود بتلك الجنة شعور السعادة الذى يعيش فيه بعض الناس على الدوام جراء سذاجة عقولهم ونفوسهم وسطحية تفكيرهم ومشاعرهم وعدم قدرتهم على سبر أغوار الحياة بتعقيداتها وتشابكاتها.
وهناك قول البطل عن نفسه: "ولُمْتُ نفسى الأمّارةَ بالسُّوء" (ص24)، وهو يذكرنا بقوله تعالى فى سورة "يوسف": "وما أُبَرِّئُ نفسى. إن النفسَ لأمَّارةٌ بالسوءِ إلا ما رَحِمَ ربى". وعلى الناحية المقابلة نسمع الشيخ صبحى إمام المسجد يقول للبطل: "هروبك من هذه الشيطانة يعنى أن لك نفسًا لوَّامة" (ص76)، وهذا يحيلنا إلى "النفس اللوامة" فى سورة "القيامة". ولدينا كذلك عبارة "لا يبكون على اللبن المسكوب" (ص26)، إشارة إلى أنه ليس من الحكمة فى قليل أو كثير البكاء على شىء قد وقع وانتهى الأمر، لأن البكاء لا يرد فائتا. وهى ترجمة للعبارة الإنجليزية المشهورة: "Don't cry over spilled milk". وقد تَعَقَّبَ قاموس أكسفورد التاريخى أصل هذه العبارة إلى القرن السادس عشر الميلادى. وفى القرآن الكريم "لكيلا تَأْسَوْا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم".
وحين تؤود سامى بعد عودته إلى قريته بمصر ذكرياتُه مع دينا فى برلين ولا يعود قادرا على تحمل الآلام التى تجلبها تلك الذكريات يقول: "ضاق بى المكان والقرية، فهُرِعْتُ إلى الحقول، لكنى لم أتخيل دينا قادمة بين الماء والخضرة، وما كانت أبدا مكملة الصورة الحلوة، ودعوت الله مخلصا أن تُمْسَح من ذهنى كل ذكرى لها: حلوة كانت أو مريرة، أن تخلص ذاكرتى تماما من كل ما يشير إلى رحلتى إلى الغرب. تمنيت أن أهب نصف عمرى مقابل أن أعود ذلك الشاب الذى كان قبل تلك الرحلة القاسية" (ص25).
ويهمنى من هذا النص سطراه الأخيران، فهما يذكراننى أنا على الأقل بما يقوله صلاح عبد الصبور فى قصيدته: "أحلام الفارس القديم". يقول الشاعر:
"يا من يدلُّ خطوتى على طريقِ الدمعةِ البريئه!
يا من يدلُّ خطوتى على طريقِ الضحكةِ البريئه!
لكَ السلامْ
لكَ السلامْ
أُعْطِيكَ ما أعطتنى الدنيا من التجريب والمهاره
لقاءَ يومٍ واحدٍ من البكاره"
أما قول البطل عن أمه وكيف تُغْدِق حنانَها على كل واحد من أبنائها: "كل فرد فى الأسرة العريضة له مكان تحت جناحيها، جناحَى الرحمة" (ص34) فيذكّرنا، ولكن بالعكس، بقوله تعالى آمرا الإنسان أن يخفض لوالديه جناح الذل من الرحمة. ذلك أن جناح الرحمة هنا إنما هو جناح رحمة الأم لا جناح رحمة الابن، والأم فقط لا الأبوين جميعا. كما أنهما جناحان لا جناح واحد. وفوق ذلك لا موضع للذل مع هذين الجناحين بل الرحمة الخالصة وحدها. وقد وقف د. زكى نجيب محمود، فى الكتاب الذى عرَّبه لتشارلتون عن "فنون الأدب" من الإنجليزية، عند الآية الكريمة محاولا تحليلها ومؤكدا أن ما يُوَشِّى الصورةَ فيها من إبهام هو مبعث جمالها وفتنتها، إذ يرى فى الربط بين الذل والرحمة والجناح إبهاما قُصِد به إضفاءُ السحر على الكلام.
وثم أيضا موقف فى الرواية يذكرنا بموقف مشابه بعض الشىء فى فلم "النمر الأسود" حيث أتى بطل الفلم من القاهرة وهو لا يعرف من الألمانية شيئا، ما عدا بضع كلمات كتبت له بالعربية فى قصاصات ورقية، وكان يحفظها كيفما اتفق وينطقها نطقا مضحكا. فهنا أيضا نسمع بطل الرواية يتحدث عن محاولته حفظ بعض الألفاظ والعبارات الألمانية، وإن تم الحفظ من كتاب خاص بتعلم تلك اللغة لا من قصاصات كما فى حالة بطل الفلم المذكور. وأغلب الظن أن المؤلف شاهَدَ الفلم، فهو فلم شهير جدا، ومواقف البطل فى بدايته أيام عجزه عن التعامل مع الألمانية لا تنسى:
"وقفت أمام أحد المطاعم أفكر: كيف يمكننى السؤال عن عمل غسل الأطباق؟ لم يكن لى بد من استخدام لغة الاشارة مع نطق أية كلمة بالإنجليزية أو العربية حتى لا يظن بأننى أخرس. وجدت رجلا منهمكا فى تنظيف وترتيب الأشياء. لم يظهر أى اهتمام بى، لكن كان على أن أنجز المهمة. وقفت أمامه ولسانى يتلعثم، ويداى ثقيلتا الحركة، بطيئتا التعبير. بوجه جامد نطق بكلمة النفى واستمر فى عمله. تسمرت فى مكانى لبرهة ثم اتجهت خارجا، وأعماقى تدمى. لم تكن المقابلة فى المطعم الثانى الذى دخلته بأفضل من الأولى. بالتأكيد كثيرون من أمثالى يقتحمون المطاعم لنفس السبب. فى المطعم الثالث كان وجه من قابلته باشا. ما فهمته منه أنه ليس لديه الآن عمل. ربما بعد ذلك. حاولت اقتحام المطعم الرابع، لكنى افتقدت الشجاعة.
سرت كثيرا على غير هدى، وجدت أن أستثمر الوقت فى تعلم بعض العبارات السهلة من الكتاب البسيط لتعلم الألمانية الذى اشتريته قبل أيام. يمكننى أن ألتهم أربع أو خمس عبارات التهاما، وسوف أسأل صلاح عن نطقها الصحيح. بالطبع يعرف نطق تلك العبارات البسيطة. شعرت ببعض النشاط، فهناك ما يجب علىَّ عمله.
توجهت إلى الغرفة شبه المظلمة وأمسكت بالكتاب سيئ الطباعة وانتقيت بعض العبارات التى يمكن بها إنجاز مهمتى فى البحث عن عمل. نُطْقُها بالألمانية مكتوب بالأحرف العربية. كنت على يقين أنى أنطقها نطقا مضحكا. أنتظر استيقاظ صلاح. انتقيت عبارات أخرى. كم كانت قدرتى على الحفظ هائلة. ما عهدتُ هذا فى نفسى من قبل، ولم أعرف قبل هذا أنى أمتلك هذه القدرة العجيبة. فى اليوم التالى دخلتُ مطاعم عديدة أكثر جرأة وأقل خجلا أسأل عن عمل. ساعدتنى العبارات التى حفظتُها أكثر مما أتصور. عدت ثانية إلى الحجرة الظلماء بخُفَّىْ حنين، لكنى كنت أكثر تفاؤلا وإقبالا على الحياة" (ص36- 37).
ويمكن أن يمثل غسل الأطباق أيضا موضوعا من موضوعات التناص، إذ ذهب بطل الرواية إلى ألمانيا ليعمل فى غسل الأطباق. وكلنا يعرف الكتاب الذى ألفه الصحفى المصرى حسين قدرى فى هذا الموضوع قبل ذلك ببضعة عقود (فى سبعينات القرن الماضى ونشرته دار المعارف فى سلسلة "اقرأ"، ثم أعيد طبعه مرات)، حين كان السفر إلى أوربا فى الصيف لغسل الأطباق وجمع بعض المال من هذا الطريق حلما من أحلام الشباب المصرى وموضوعا جديدا على ساحة الكتابة. واسم الكتاب "مذكرات شاب مصرى يغسل الأطباق فى لندن". وحسين قدرى صحفى مصرى اشتهر بالكتابة عن رحلات الشباب إلى الغرب للعمل فى مِهَنٍ متواضعةٍ كمهنة غسل الأطباق فى المطاعم فى مقابل أحاديث السابقين عن الفنادق الفخمة التى ينزلها عليه القوم والآثار الشهيرة التى يصفونها من متاحف ومسارح وقلاع مثلا.
ومن الغريب أن يكون غسل الأطباق فى مطاعم أوربا حلما من أحلام الشباب المصرى على ما فيه من مهانة وانعدام طموح، فضلا عن أن غاية الشاب المصرى آنذاك من هذا العمل هو جمع بعض المال والعودة سريعا إلى قواعده سالما. وهو طموح متدن جدا. وفى كتاب حسين قدرى تصوير مخز للاستماتة التى كان يبديها الشبان المصريون كى يستطيعوا دخول بريطانيا بغية الحصول على تلك المهنة التى لا تشرف أحدا، ويقبلون فى سبيلها كثيرا من الإهانات والمتاعب، وكأنهم سيفوزون بالفردوس الأعلى. وبالإضافة إلى هناك كانت هناك مكاتب بالقاهرة تنصب على الطلاب الراغبين فى السفر لغسل الأطباق وتخدعهم موهمةً إياهم أن لها وكلاء فى لندن سوف يسهلون لهم العمل حالما يصلون إلى هناك. وتتقاضى تلك المكاتب من الشبان مبالغ مالية كبيرة مقابل ذلك.
ولكنْ هذا هو حالنا منذ زمن غير قصير، على حين أن الأوربيين، حين فكروا فى البلاد الأخرى، جابوا العالم يكتشفونه ويضعون أيديهم على دوله يحتلونها، وعلى خيراته يكسحونها إلى أوطانهم ليعيشوا ويعيش أولادهم وأحفادهم من بعدهم عيش المنعَّمين المُتْرَفين. وكانوا فى كل مرة يخترعون الدعايات الشيطانية تسويغا لأفاعيلهم الإجرامية: فمرة هم ذاهبون إلى بلاد الشام وفلسطين كى يضعوا حدا لعدوان المسلمين الكفرة على الحجاج النصارى ومنعهم إياهم من زيارة قبر المسيح هناك. وهذه دعاية الحروب الصليبية المجرمة. ومرة يزعمون أنهم إنما خرجوا من بلادهم لينشروا التمدن والحضارة بين الشعوب المتخلفة، ويسمون هذا: "رسالة الرجل الأبيض" (The white man’s burden- Le Fardeau de l'homme blanc). ويشرح قاموس أكسفورد ذلك قائلا إن هذه العبارة قد استعملت أول ما استعملت فى القرن التاسع عشر، وإنها مأخوذة من عنوان قصيدة لرديارد كبلنج الشاعر البريطانى الاستعمارى المشهور: "a phrase that was used mainly in the 19th century to express the idea that European countries had a duty to run the countries and organizations of people in other parts of the world with less money, education or technology than the Europeans. The phrase was first used in a poem by Rudyard Kipling"، مع أن هذا الرجل الأبيض كان قبل العصر الحديث مثال التوحش والتخلف والقذارة والجهل فى الوقت الذى كان المسلمون قمة فى التحضر والنظافة والعلم والدأب. كما اخترع الألمان النظريات الكاذبة التى تدعى أن الجنس الجرمانى هو أفضل الأجناس البشرية طُرًّا، وأنه إنما خُلِق للسلطان والسيادة. كما قضى الغربيون على أمتين كاملتين فى أمريكا الشمالية وفى أستراليا وخطفوا القارتين لأنفسهم وعاشوا فيهما عيش الملوك، واستلبوا معظم فلسطين من أهلها العرب والمسلمين وأَعْطَوْه غنيمة باردة لليهود. وهكذا.
أما نحن فبعد أن كان أجدادنا يفتحون البلاد نشرا لدين التوحيد وانتشالا للأمم الضالة من مستنقع الوثنية وقيمها المنحطة وأخذا بأيديها إلى قيم الإسلام الرفيعة ومبادئه الكريمة صار كل هم أحفادهم هو التغرب عن الأوطان فى أوربا لغسل الصحون التى يُقَدَّم فيها لحم الخنزير، والكؤوس التى يُشْرَب فيها الخمر، بُغْيَةَ جمع شىء من المال يحفظ على الإنسان حياته فى أقل مستوياتها أو أعلى قليلا.
وفى ص58 يصف البطل دينا حينما قابلها أول مرة وأخذت ذراعه فى ذراعها والتصقت به وقبّلته فحاول أن يصلى ويقرأ القرآن، لكنه لم يستطع التركيز ولا الشعور بشىء من السكينة، فقال إن عليه الإقلاع عن ذنبه كى يتوب الله عليه، ثم أضاف أن "دينا هى ذنبه، فهل أستطيع الإقلاع عنها؟"، وهو يشبه ما قاله كامل الشناوى فى قصيدة "لاتكذبى" عند مخاطبته لحبيبته، التى يتهمها بالخيانة والغدر قائلا:
ورأيتُ أنكِ كنتِ لى ذنبًا سألتُ الله ألا يغفره
فغَفَرْتِهِ
وإن كان الشناوى لا يريد غفران الذنب، لكن حبيبته هجرته وغدرت به وتركته وحيدا، فكأنها قد غفرت ذنبه، إذ ابتعدت عنه فخلصته من الذنب الذى كان يقترفه باتصاله بها، بينما سامى يريد التبرؤ من دينا ذنبه، لكن عبثا، إذ كان أضعف من أن يتركها ويمضى بعيدا عنها.
وبعد ذلك بقليل نراه مع عماد صديقه الذى يبيع إكسسورات زينة النساء فى الشارع ويغازلهن ويقبلهن ترويجا لبضاعته، فيحكى له عن شعوره الحاد بالإثم، فإذا به يباغته قائلا إن "دينا امرأة كالقشدة، تحتاج إلى خدمة شاقة" (ص60). وهى عبارة مأخوذة من دنيا الطاقة، إذ توصف الآلة القوية التى تتحمل العمل وقتا طويلا دون حاجة إلى تجديد الشحن أو الراحة بأنها "خدمة شاقة". أى تستطيع القيام بأشق الخدمات بكل قوة ودون توقف. والعبارة ترجمة لقولهم بالإنجليزية: "Heavy duty". والمقصود أن دينا بارعة الجمال عنيفة الإثارة لا يُمَلّ منها ولا يُزْهَد فيها، كما أنها لا تشبع بسهولة، ومن ثم فهى بحاجة إلى رجل قوى عفىّ يستطيع المواصلة معها، وليس أى رجل.
وحين تقدِّم دينا لسامى كأسا من الخمر فى شقتها وقد تهيأت له فيُجْفِل ويفزع تلح عليه أن يتناولها منها ويشاركها الشراب، مؤكدة له أنه إن كان ذنبا فإنها سوف تتحمله عنه: "اشرب، وسأتحمل أنا الذنب عنك" (ص64). وهو يذكِّر بقول الكفار للمؤمنين حسبما جاء فى سورة "العنكبوت": "اتَّبِعوا سبيلَنا، ولْنَحْمِل خطاياكم". ويعلق القرآن على هذا الكلام بقوله: "وما هم بحاملين من خطاياهم من شىء. إنهم لكاذبون * ولَيَحْمِلُنَّ أثقالَهم وأثقالا مع أثقالهم، وليُسْأَلُنَّ يومَ القيامة عما كانوا يفترون". نفس المنطق، ونفس الإغراء، ونفس التدليس.
وقد يكون الشك فى الرواية موضوعا من موضوعات التناص فيها كذلك. أقصد شك البطل فى زوجته فى أواخرها حين استحكمت الخلافات بينهما استحكاما شديدا وتصور أنها تخونه مع آخرين. وقد استمكن منه هذا الشعور وكاد يقتله وأوقعه فى مآزق بالغة الصعوبة، ولم يستطع أن يصل إلى ما يريح قلبه. وكان هذا الشك هو آخر فصول الرواية، وانتهى أمر سامى مع دينا بعدها ولم يتراجعا، فقد انفصل عنها وعاد إلى مصر تاركا ولده لها حسبما تقضى قوانين البلاد.
وهذا الشك يذكِّر بشك العقاد فى روايته: "سارة"، الذى أطلقت عليه د. سهير القلماوى اسم "عبقرية الشك"، إشارة منها إلى أن العقاد هو الذى خلق الشك خلقا وكان يستزيد منه استزادة وأنه لو وجد ما يدل على أنه شك فى غير محله لظل متمسكا به، وهو ما لا أتفق معها فيه، إذ كانت شكوك همام فى رواية العقاد شكوكا فى محلها تماما، كل ما فى الأمر أن البطل حاول أن يجد لعشيقته منفذا يمكن أن يعفيها من شكه فيها، لكنه انتهى بالتيقن من استحقاقها للشك وأنها قد صارت تخونه فعلا، فتركها غير آسف عليها، وإن ظل رسيس عشقه لها باقيا فى أعماق الفؤاد، لكن بلا أنياب.
فشكوك سامى فى"ربما يأتى القمر" تذكرنا بشكوك همام وحيرته المعذبة وعجزه عن التوصل إلى رأى نهائى فى دينا وهل تخونه أو لا، وذلك لعدم توافر دليل قاطع على ما يدور فى ذهنه، وإن كانت شواهد الحال تقول بخيانتها. ولكن من يدرى؟ ربما تعمدت هى الظهور له بمظهر من تخونه حتى تعذبه وتتلاعب بأعصابه وتدمره. وكما أن بطل العقاد ظل فى أعماقه يحاول أن يجد لسارة شيئا من العذر ألفينا سامى بعد عودته إلى مصر يحاول أن يجد عذرا لدينا. والطريف أن كلتا ا لبطلتين غربية فى كل شىء رغم أن سارة كانت تعيش فى القاهرة فى عشرينات القرن الماضى، ودينا فى برلين فى القرن الحادى والعشرين. إلا أن كلا منهما معجبة بالغرب وتعيش حياتها بأسلوب الغربيات ولا تستطيع أن تقبل بديلا لهذا الأسلوب. وكلتاهما قد تزوجت قبل ذلك وفشلت فى الزواج، ولم تجد من الزوج الأول تفهما وحنانا كانا كفيلين، لو توافرا، بأن يعدلا حياتهما. كما أن كلا منهما كانت متحررة مقتحمة لا تعرف سوى الحب والمتعة ولا تفكر فى حرام أو حلال أو منكر أو معروف. إنها تريد أن تعيش حياتها وتستمتع بها، والسلام.
ومع هذا فما أبعد الشُّقَّة بين سامى وهمام: فالأول شاب متدين عفيف يصلى ويصوم ويتجنب الخمر تماما، وإن كان قد قارف الزنا والخمر وترك الصلاة فترة أثناء علاقته بدينا ثم عاد إليها وابتعد عن الفاحشة، ليرجع مرة أخرى فتضطرب خطاه تحت تأثير دينا الرهيب الذى لم يكن فى معظم الأحوال قادرا على الانعتاق منه إلا ريثما يرجع كرة أخرى إليها، إلى أن صَحَّ منه العزمُ أخيرا بعد تردد وحيرة وقلق مزهق للأنفاس على تركها نهائيا ومغادرة ألمانيا والعودة إلى مصر إلى الأبد ضاربا بكل شىء فى بلاد الجرمان عُرْضَ الحائط بما فى ذلك ابنه علىّ.
أما همام فلم يكن الدين، حسبما نرى فى الرواية، يجرى له على خاطر، كما كان كاتبا وصحفيا مشهورا يعيش فى بلده ويعرفه الناس وليس متغربا فى بلاد أوربا يبحث عن لقمة العيش من خلال العمل فى غسل الأطباق. وفوق ذلك فإن شكوك سامى فى دينا كانت شكوك زوج فى زوجته بخلاف همام، الذى لم يكن متزوجا بسارة. صحيح أنه لم يكن هناك كلام صريح حول طبيعة العلاقة بينهما، لكن كان مفهوما أنها علاقة محرمة، على عكس الصلة التى كانت تربط سامى بدينا، فقد كانا زوجين آنذاك رغم أنه سبق أن عاشا فى الحرام أول تعارفهما، واستطاعت دينا أن تغريه باحتساء الخمر معها وأن تعيده إلى شربها بعدما كان قد تاب عنها وأناب منها.
كذلك لم يكن هناك فى "سارة" أولاد، أما فى روايتنا هذه فلدينا علىّ، الذى أراد سامى أن يجهض دينا فيه، لكن دينا أصرت وقاومت ورفضت، وكان لها ما أرادت. بل إنها اكتفت بالخروج بعلىٍّ من علاقتها بسامى، أما هو فما دام لا يريد أن يعيش معها على النحو الذى لا تقبل غيره، وهو أسلوب الحياة الغربية، فالباب يفوّت جملا، ولن تبكى عليه أبدا، وذلك بعدما كانت تتمسك به بكل قواها وتظهر له تدلهها فى هواه وحرصها عليه ورغبتها العارمة فى البقاء إلى جانبه، وتؤكد أنها قد اختارته من بين كل الرجال الذين تعرفهم، وكان باستطاعتها أن تعرف رجلا آخر، وما أكثر الرجال حولها.
ومن التناص فى الرواية قول سامى حين قر عزمه على أن يقف موقف الحزم مع دينا حين رآها تتأخر بالخارج دون أن يعرف أين كانت ولا ماذا تفعل، وصارت تهمل ابنها ولا تهتم بشأنه تاركة إياه مع جليسةالأطفال البريطانية التى استأجرتها لتعنى بدلا منها بأمره: "ظللت ساهرا أبحث عن مخرج، أحاول أن أحدد الخطوة الأولى. لابد من مواجهتها. لابد أن تعرف حقوقى عليها. لن أتنازل عن حق واحد إلا متحيزا لهدنة بيننا، منتظرا الوقت المناسب. وسأبدأ فور عودتها من العمل"(ص159). فقوله: "إلا متحيزا إلى هدنة" مأخوذ من قوله عز شأنه فى سورة "الأنفال" يخاطب المؤمنين ويحثهم على الصمود فى معاركهم مع الكفار: "يا أيها الذين آمنوا، إذا لقِيتُم الذين كفروا زحْفًا فلا تُوَلُّوهم الأدبار * ومَنْ يُوَلِّهم يومئذ دُبُرَه إلا مُتَحَرِّفًا لقتال أو متحيِّزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنمُ. وبئس المصير". فغير مقبول من المسلمين أن يفروا أمام الأعداء إلا تنفيذا لخطة يعودون بها إلى الهجوم عليهم كرة أخرى بعد إصلاح ما تشعث من أمرهم.

ومما يميز أسلوب الكاتب فى الرواية أنه كثيرا ما يلجأ فى وصف المواقف والأشياء إلى التصوير المجازى المُوحِى عوضا عن التفصيلات الواقعية. فعلى سبيل المثال يقول عن حياته فى الشهور الأولى له فى برلين: "ستة أشهر كاملة مرت سخاءً رخاءً، من نجاح إلى نجاح، نبتت فيها الآمال، مدت سيقانها وازدهرت أوراقها وتفتحت أزهارها. دفعة جديدة من المال أرسلتها إلى والدى. رغم أنها ضعف الدفعة الأولى فقد كانت فرحتى بالدفعة البكر هى الأكبر. آن لوالدى وإخوتى وأخواتى أن يعرفوا التنعم كما أعرف، وأن تنبت الآمال فى نفوسهم كما نبتت فى نفسى، أن يتغير مظهرهم كما تغير مظهرى”(ص50).
وفى وصف الوقت الذى قضاه هو ودينا فى شقتها يقطفان ثمار الحب المحرم بعد أن تخفف ضميره مما كان يقاسيه من عناء الإثم قبل ذلك يقول: "شربنا وتهنا معا فى عوالم مُخْمَلِيَّة آخذة" (ص68). ويصف دينا حين كان يعود إليها كل يوم من العمل مَشُوقًا إلى فتنتها: "ما أن ينتهى يوم العمل حتى أعود إلى عشى الجديد طائرا مشوقا، فأجد دينا فى مظهر مختلف، كأنها امرأة تتجدد كل يوم، كأن لها ألف وجه وألف صورة. بحر من فتنة لا تهدأ موجاته ولا تنتهى. حديقة مختلفة الثمار والأزهار والأريج ألتهم ثمارها، وأقطف أزهارها، ويذهلنى العبير. أنعم بالحضارة على أبهى صورة، برخائها ووفرتها وسخائها، بالحرية التى كفلتها، وتسهر عليها" (ص69).
ويلاحظ أيضا، ضمن ما نلاحظه على أسلوب الكاتب، أن الحوار بين أشخاص الرواية يجرى بالفصحى، ولا يحس القارئ أن ثم قلقا فى استخدام المستوى الفصيح فى الأحاديث التى تدور بين الشخصيات، بل يبدو الأمر عاديا جدا. وقد كان الحوار طوال الماضى كله منذ الجاهلية حتى العصر الحديث يُكْتَب فى أى نص عربى بالفصحى، سواء كان شعرا أو قصصا أو سيرة أو رحلة أو وصفا. ولم يكن هناك ما يبعث على الاستغراب أو الشعور بأن هذا خروج على الواقعية. فالواقعية لا تتحقق بالعامية فى الحوار، بل بصحة الوصف ودقة التعبير والمقدرة على الإيماء والإيحاء والإقناع بأن هذا هو ما يتصرفه أو يفكر فيه أو يشعر به هذا الشخص أو ذاك فى هذا الموقف أو ذاك، وأن تكون أفكاره ومشاعره متناغمة مع مستواه الثقافى والاجتماعى والنفسى والخلقى. وهكذا. وأستطيع أن أؤكد أن روائينا قد نجح نجاحا كبيرا فى إقناعنا بواقعية أشخاصه وأقوالهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم ومواقفهم. إلخ.
ويتجلى هذا، ضمن ما يتجلى، فى رصده للمواقف والآراء والمشاعر المختلفة لكل شخصية، وبالذات شخصية سامى وشخصية دينا، وما اعترى كلا منهما من تطور فى الأفكار والأحاسيس والمواقف تبعا لمرور الزمن وتغير الظروف. ويتابع القارئ بكل تشوُّقٍ ما أصاب كلا منهما فى البداية من انبهار بالآخر وافتتان به ثم ما اعتراه من قلق ثم ملل ثم نفور وابتعاد ثم عودة مرة أخرى إلى ما كان قد زهد فيه، ثم حبور ثم ضيق ثم عزوف ثم رجوع من جديد إلى نقطة البداية ثم خلاف وخصام ثم صلح ثم اتساع فى الخلاف ثم شكوك من جانبه ثم اتهامات لها ثم تبادل للسباب معها ثم عراك بينهما ثم استدعاء منها للشرطة. كما يتابع بكاء سامى لذنبه ثم توبته إلى الله مما كان يقترفه من حرام، ثم ارتكاسه من جديد فى الحرام ثم تحوله من العلاقة الجنسية الحرة إلى الزواج ثم شعوره بالراحة بعدئذ لبعض الوقت ليرجع القلق والخوف كرة أخرى، ثم تنامى ريبته فى زوجته وتأرجحه الدائم بين الشك والاطمئنان. إلخ.
فمثلا كان سامى قد اتخذ قرارا بالابتعاد عن دينا وعما كان يمارسه من إثم معها، إذ كانا يعيشان كزوجين لكن بدون زواج، وكان الأمر يؤود ضميره رغم ما كان يجده فى تلك العلاقة من لذة شامخة فى البداية: "مر يومان على هروبى من سجنٍ سجانته جميلة، حاولت خلالهما جاهدا أن أصل ما انقطع بينى وبين ما كنت عليه، أن أعود ذلك الإنسان البسيط، الذى حدد هدفا متواضعا، بخطة أكثر تواضعا، يعود بعدها إلى قريته ليعيش حياته دون أدنى تعقيد.
ذهبت إلى درس صبحى. انفردت به، وفى عبارات مقتضبة خجلة ومفككة شرحت له قصتى. أنصت الرجل باهتمام. لم يسألنى عن أية تفاصيل. بطبيعة الحال القصة متكررة. وقائعها تكاد تكون واحدة. انبرى صبحى يقيّم الوضع، يشرح وينصح:
خيرا فعلت يا بنى. هروبك من هذه الشيطانة يعنى أن لك نفسا لوامة، ومازال للخير فيها مكان. لتستغفرْ لذنبك، ولْتَبْكِ على خطيئتك، ولْتعلم أن الله يفرح بتوبة عبده، وأن الله يغفر الذنوب جميعا. "إن الله لا يغفر أن يُشْرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". إن صحت توبتك فسيبدل الله سيئاتك حسنات. ولْتعلم أنك الآن فى امتحان أصعب، فشياطين الغواية لا تستسلم بسهولة. لها أساليبها وطرقها الخبيثة. قد خبرت طريق الغواية وتعرف جاذبيته، وكيف تزينه الشياطين. الأمر ليس سهلا يا بنى، لكنه ممكن، وممكن جدا. إنه مرتبط بمدى صدق توبتك، وقوة إرادتك. فإذا صدقت توبتك وقويت إرادتك فيد الله معك، وتوفيقه حليفك. ابتعدْ عن كل شخص أو مكان يذكرك بما كان، فإن وجدت فى نفسك ضعفا وأنك لابد منجرف إلى الطريق إياه فلتعد إلى قريتك غير آسف ولا وجل، فإنك إن انزلقت إلى طريق الغواية لن تخسر آخرتك فقط، بل ودنياك أيضا. يا بنى، توبتك إن شاء الله مقبولة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
كم استرحتُ لكلمات صبحى وشفيت نفسى. ما يقرب من أسبوع وأنا أستميت لأجمع أوصالى، أبحث عن صفاء فقدته وافتقدته، لكن فراغا رهيبا يمتد ويمتد يكاد يأكلنى، تضيق غرفتى بى، وتضيق نفسى، ويضيق العالم، بالطبع هو الفراغ الهائل الذى خلَّفه هروبى من الشيطانة الجميلة. أشغل أوقاتى بقراءة لا تغنى، وتفكير يتقطع، لكنى كنت أقاوم عازما على التخلى عن ذلك الإدمان الذى عايشته شهورا ثلاثة. أغرق نفسى فى العمل، أسيح فى جنبات برلين مبتعدا عن عماد. زرت بشارة مرات عديدة، والشقة الظلماء بكل من فيها، والفراغ يزيد، وأنا أقاوم.
أتأهب للخروج من باب المطعم متوجها إلى غرفتى. مفاجأة بعثرتنى، أحاول التماسك بلا جدوى، إنها دينا بشحمها ولحمها بكامل زينتها، وفوح عطرها.
- أهلا يا دينا.
- أما زلت تذكر اسمي؟
- مثلك لا يُنْسَى.
- شكرا. ماذا فعلت لك حتى تتركنى هكذا؟
- لنجلسْ فى أى مُقْهًى لأشرح لكِ الأمر، أنتِ تتكلمين بعصبية. أرجو أن يكون حديثا هادئا عقلانيا.
- عقل! وهل تركت لى عقلا؟ أقسم أننا لن نجلس إلا فى شقتنا، أقصد شقتنا سابقا.
- لا داعى لوجودنا فى الشقة. قدرنا أن نفترق، وأنتِ قادرة على التحمل.
- لن أكمل حديثى إلا فى شقتنا سابقا. لا تجعل صوتى يعلو أكثر. نحن فى الشارع. لن آكلك، لن أغتصبك. ماذا بك؟
- الأفضل أن نجلس فى مكان عام. صدقينى. الأفضل أن نفترق.
هدأ صوتها، وسقطت بعض دموعها، وقالت بتأثر عميق:
أرجوك. لا تهدر كرامتى أكثر. هذا آخر طلب أطلبه منك.
وانسابت دموعها. جذبتنى من ذراعى تجرنى جرا حتى لفتت بعض الأنظار. تلومنى هذه النظرات، تشفق على الأنوثة المجروحة، على تلك الدموع المتساقطة. يبدو أن دموع النساء لا تسقط على الأرض ولو كانت دموع تماسيح. ساقتنى النظرات اللائمة، وكلمات أصحابها الخرساء، واستجداء دينا المهين، والدموع.
دخلنا إلى العش السابق. أغلقتِ الباب، وانقضتْ على تحضننى وتمطرنى بوابل من القبلات، وسيل من الدموع وأنا كلوح من ثلج لا أحرك ساكنا. تركتنى، وبكت هيستيريا كما بكت بعد أول لقاء لى بها. رحت أهدئها فارتمت على صدرى، تضغط عليه كأنها تحتمى به، وقالت وبكاؤها يفتت كلماتها:
- لجأت إليك لأبدأ حياة جديدة، ووهبتك نفسى، حياتى وقلبى. تصورتك المنقذ فهربت منى وهدمتنى. حرام عليك، والله حرام.
واستمرت فى بكاء يقطع القلوب. وشرعت تحكى حكايتها بصوت أجهز عليه البكاء. رجوتها أن ترجيء الكلام بدعوى أنها مرهقة الأعصاب. سيأتى الوقت المناسب. الغريب أنها لم تذكر شيئا عن حياتها فى أشهرنا معا، وما سألتها، وما عنّ لها أن تحكى. وعدتها أنى سأظل معها حتى تهدأ، وأن سألتقيها على المقهى إياه أشرح لها أسباب ما أقدمت عليه. سيطرت على صوتها وقالت:
- أنت الآن ضيفى، وأنا كما تعلم لست بخيلة، أعلم أنك خارج من عملك، أعددت الطعام قبل أن آتى إليك لنأكل معا خبزا وملحا كما تقولون فى مصر.
- عفوا يا دينا، أنا فى عجلة.
- ماذا وراءك؟ ما بالك تمسح بكرامتى الأرض؟
- لكن.
قاطعتنى قائلة:
دخول الحمام ليس كالخروج منه. أما تقولون ذلك فى أفلامكم وكلامكم؟ سنأكل معا، وسنسهر سويا. اقبل دعوتى بحق أجمل أيام عمري.
وقامت من فورها نشطة كأنها لم تنتحب، وأتت بالطعام والشراب. أكلنا وشربنا، وأسرفت فى تدليلى. ثم أتت بالخمر اللعين، فنفرتُ كما نفرت أول مرة. أخذت تلح وتلح وتتحايل. شربنا. وشربنا. أشرق الصباح وأنا بجانبها. انتكست انتكاسة مريض أشرف على الشفاء. أحسست أن المرض تمكن منى، وأصبح الأقوى، أن الضربة أعنف. شعرت بوهن المدمنين أمام مخدر أدمنوه، ويلعنونه فى اليوم ألف مرة.
تركت التصاريف للأحداث والظروف. لبست دينا ثياب الخروج وخرجت قبلى إلى عملها، وتركت مفتاح شقتها معى. وخرجتُ بعدها. عند انتهائى من العمل وجدتها أمامى. كانت وجهتنا واحدة!" (ص76 وما بعدها).
وبعد الزواج حاول أن يخرجها من عالمها القديم ويصيّرها مسلمة تصلى وتعرف ربها وتحتشم فى ملابسها: "ويتوالى مرور الشهر تلو الآخر، وأنا أتحين الفرصة لأعلّم دينا الوضوء والصلاة. الفرصة التى لا تأتى عن عمد لا تأتى. يعود كلانا من العمل مرهقا، فنستريح قليلا بشكل من الأشكال، ثم تدخل هى إلى مطبخها، وأفرغ إلى صلاتى، نتناول عشاءنا، ونشرب شاينا أو قهوتنا أمام الجهاز السحرى الذى لا تنقضى عجائبه: من فيلم إلى برنامج، إلى أغنية. والتليفزيون طوع بنانها. محدثة لبقة، تلتقط الطرائف وتجيد عرضها، وتعرف كيف تدير الوقت حسبما تريد حتى يحين موعد النوم. عطلة نهاية الأسبوع محجوزة سلفا لحبنا. لاشك فى ذكائها، كما لا أشك فى أنها تبعد بكل حذر عن استدراجها إلى حيز التدين. تضيق بصلاتى، وتقطع الوقت القليل الذى أستقطعه أحيانا لقراءة القرآن الكريم، وتعلن عن استيائها إذا أهملت لحيتى. قبل أن أنصحها نصحتنى: شبابنا فرصة عمرنا، زهرة حياتنا، وعلينا اقتناص الفرصة حتى لا تضيع، العمر ممتد أمامنا، فرصة التدين قادمة فلماذا تتعجل؟ من يذهب إلى الكنائس هنا غير المسنين؟ الناس فى هذا البلد يفهمون الحياة أكثر، فهم لا يفرطون فى ساعة واحدة من ساعات الشباب، أكثر من عجوز هنا نصحتنى بكل الحب أن أستمتع بالشباب، وهنّ اللائى يعرفن معنى الشباب. ماذا علينا إذا استمتعنا ما لم نضر أحدا؟ الحياة سخية تعطى لمن يطلبها لكنها تدير ظهرها لمن يرغب عنها.
أنا أؤمن بالله مثلما تؤمن تماما، واثقة أن الله الرحيم لن يعذبنا ما لم نظلم أحدا. أكثر الألمان يؤمنون بوجود الله ويثقون فى رحمته، ويديرون حياتهم كما يشتهون. هيا يا حبيبى لننعم معا بسهرة سعيدة. سأريك شعبا يعشق الحياة كما يعشقها الألمان لكن على طريقته الخاصة. يسيّرون حياتهم على ما يشتهون، ينهلون من متعها نهلا. سترى ما يلبسون، وكيف ينفقون. السعادة ناطقة على وجوههم. حقا إنهم يفهمون الحياة. حفل زواج لبنانى. سترى كيف نحتفل بأفراحنا. هناك أحدث الأزياء وأغلى المجوهرات، الرقص والغناء، المأكولات والمشروبات.
تعللتُ بأنى متعب، ولست فى حالة مزاجية مناسبة. جذبتنى من يدى وكلها إشراق، تود أن تخرجنى من حالتى، وأن أتعرف على شعبها، ويتعرفون على، وادعت أنها تريد أن تفخر بى، وتزهو. أى فخر وأى زهو؟! وأنها لن تذهب إلا بصحبتى وأن الحفل فرصة لا يجب أن تضيع، وأنى سأدمن بعد أفراحهم، وأتوق إليها.
قمت متكاسلا. ارتديت ما رأيته مناسبا، وأسرفت هى فى زينتها كأنها هى العروس، وأنا أتفتق ولا أنطق بكلمة. انتظرتنى أن أثنى على جمالها وذوقها، وطال انتظارها فأعربت هى أنى سأكون أسعد الناس حينما أدرك أنها أجمل زهرة فى الحفل على ما فيه من الجميلات الفاتنات. لم أنطق وتمنيت أن يؤجل الحفل أو يلغى. أتوقع أن أعينا ستتفحصنى من قدمى إلى رأسى، وأن أعينا وقحة ستتفحص وتعيد كل ما فيها، وأن همسات ستُتَدَاوَل عنى وعنها. توقعت أن أرى بشارة هناك فهدأت قليلا.
سرت معها لا أستبشر خيرا بينما هى فى غاية السعادة. ركبنا مترو الأنفاق. أخذتنى الخواطر والهواجس والتخيلات حتى غيبتنى. أفقت من غيبوبتى هذه مروعا: دينا تداعب كلبا تصحبه إحدى الراكبات وتترك يدها ليلعقها، تربت باليد الأخرى على ظهر الكلب. صرخت فيها صرخة عظيمة لفتت انتباه كل ركاب العربة أستنكر بشدة ما فعلتْ. كم استاء منى ركاب العربة، ووصفتنى نظراتهم بالتخلف والهمجية. قمت من مكانى وتحركت نحو باب العربة وقفت لا أدرى ما أنا فاعل لحقت بى دينا، ونظرات البراءة فى عينيها، تعاتبنى هامسة، وتسأل بدهشة عما حدث حتى أصرخ، كاظمة غيظا عنيفا. دفعتُ يدها التى لعقها الكلب عنى. بعناء شديد تحكمت فى طبقة صوتى: أوتفعلين هذا دوما يا دينا وتعدين الطعام بيد لعقها كلب؟ لعاب كلب غطى يدك؟ لعاب كلب؟
قالت باستجداء: أرجوك. اهدأ. الناس يرقبوننا. اطمئن هذه أول مرة يلعق كلب يدى. الكلب حيوان جميل، موجود فى معظم البيوت. أكثر الحيوانات حظوة عند الألمان. لو كان لعابه خطرا ما اقتناه الألمان.
كدت أصرخ: مالى والألمان؟ لعاب الكلب نجاسة مغلظة.
- أرجوك. اهدأ. أنا آسفة. دع الحديث حتى نغادر المترو.
التزمنا صمتا مريبا. ترى كم مرة لعق كلب يدها ثم تعاملت معى دون غسلها أو حتى بعد غسلها؟ بالتأكيد هى كاذبة وليست المرة الأولى، داعبت الكلب بيد مدربة وتفاعل معها الكلب على الفور، وأبدت حبا للكلاب لا شك فيه. تقلصت ملامحى، وسرت إلى جانبها كتمثال متحرك. تحاول بدأبٍ استرضائى. تكلمتْ كثيرا، وداعبتنى متحملة جفائى. حمدت الله ثم قالت:
اليوم كنت سأفاجئك بمفاجأة ظننتها سعيدة: أوشكت على شراء كلب يملأ علينا حياتنا، وعدلتُ فى اللحظة الأخيرة. أنت إنسان رقيق لا أتصور أن تكره الكلاب هذه الكراهية.
- أنا لا أكره الكلاب ولا أحبها. هى مخلوقات كسائر المخلوقات، لكن أكره أن تشارك الناس بيوتهم يعلو لهاثهم فيها ليل نهار وتطغى رائحتهم على كل رائحة، ويغطى لعابهم كل شيء. مكان الكلاب ليس بيوتنا وفراشنا. أرى تربيتهم أسوأ العادات. أنفرمن كل من يقتنى أو تقتنى كلبا. اشترى أحد أصدقائى سيارة مستعملة حاول بكل الطرق التخلص من رائحة كلب بائعها ولم ينجح فباعها. بالإضافة إلى النجاسة المغلظة، باعتبارنا مسلمين تنقل الكلاب إلى البشر أمراضا عديدة.
- ألا تدرى كم يحب الألمان الكلاب؟ لا يمكن أن يكون كل هذا الحب بلا دواعى. قد يمرضون لمرض كلبهم، يتألمون لألمه، ينفقون على علاجه بسخاء، يقصون شعره فى صالونات خاصة بالكلاب، كثيرا ما تدور أحاديثهم حول الكلاب، وقد تعقد الصداقات من أجل الكلاب.
قلت بضيق بالغ:
أعرف كل هذا يا دينا. لكل شعب عاداته، ليست كل العادات بالضرورة صحيحة، وحتى إن كانت صحيحة فقد تصلح لشعب دون شعب. أنت لا تأكلين الخنزير يا دينا، وتعرفين مدى ولع الألمان وغيرهم بلحم الخنزير ومنتجاته.
- أنا أحب الكلاب، وأرجو أن تعذرنى. لكن من أجلك لن أقتنى كلبا، ولن ألاعب كلبا بعد اليوم. سأغسل يدى عشر مرات وبكل المنظفات الصناعية، وليس سبعا. المهم أن يعتدل مزاجك ولندخل الحفل معا بكل سعادة.
الصدور نافرة عارية كاسية، والوجوه فاتنة، والأجساد متوقدة، والملابس ثمينة مراوغة، والأطعمة والمشروبات تكفى ضعف الحشد الهائل وتزيد. الحفل أسطورى مبهر لكنى أحسست بغربتى عن المكان ومن فيه وما فيه. تبحث عيونى عن بشارة أستأنس بوجوده. لم يكن هناك. جلست أتأمل المكان وما يدور فيه، وغرقت دينا فى أحضان وقبلات صديقاتها الكثيرات. غابت بينهن. تركتها لما هى فيه، وتبادلت حديثا عارضا مع من كان بجانبى، سألته عن بشارة فعلمت أنه ترك برلين إلى إحدى مدن غرب ألمانيا. شُغِلْتُ بما يدور حولى، وما يعتمل بين جوانحى قليلا أو كثيرا: لا أدرى. الموسيقى صاخبة، وحلبة الرقص مستعرَة. اتجهت عيناى صوبها، فطار فؤادى. كاد يتحرك من مكانه، وكدت أهرول أدوس الخلق لأطرح دينا أرضا، وأدوسها بقدمى، وأترك الحفل. لكنى وقفت لا أدرى كم وقفت تحرقنى النار، ثم اندفعت إلى حلبة الرقص منتزعا دينا، وعدلت عن لكمها فى آخر لحظة، موجها لها أقذع السباب، والبراءة إياها فى عينيها تكاد تقبل قدمى أن أنتهى ولأقتلها خارج المكان إن أردت. استوقف المشهد الكثيرين وعلت الهمهمات، لكن الأمر لم يتعد الهمهمة.
أَىُّ حظ ألقى بكِ فى طريقى يا بنت الأفاعى؟ أسمع دقات قلبى عنيفة متسارعة، يكاد الدم يفجر عروقى، تلهث أنفاسى، بعنف تهتز أوصالى، وتفور خلاياى. رأيتها تراقص شابا أقرب إلى الخنوثة منه إلى الرجولة، يمسك بيديها، صدرها يمس صدره أو يكاد، شفتيه فى أذنها يهمس بكلمات فتضحك وهما منهمكان فى الرقص يرفع يدها فتدور دورة كاملة حوله، ويعيد الكرة.
وقف مراقصها مشدوها يرقبنا بتوتر، والبراءة اللعينة إياها فى عينيه، وهى تستجدى وتستجدى أن أملك زمام نفسى. اندفعت خارجا، فتعلقت بى التفت إليها قليلا، فلمحتها توميء برأسها مودعة شبه المخنث، فصفعتها على وجهها بعنف. سارعتْ باحتضانى وسحبى خارج المكان
- اقتلنى، احرقنى لكن بعد أن تسمعني.
- ماذا تقولين يا بنت الحرباء؟ تراقصينه؟ يكاد يأكلك وتأكلينه ثم تودعينه لتطمأنينه؟
- ما ظنك يا سامى؟ هذا ربيبى، ابن أعز صديقة لى، عمره لا يتعدى السابعة عشر، وهو كالبنت العذراء لا خوف منه حتى لو حبس مع أجمل البنات لأعوام. راقصته أمامك وأمام الخلق، ويعرف الناس من هو، ومن أنا. صدقنى: هو موضوع سخرية البنات والنساء فى كل حفل.
- فلتذهبى إلى الجحيم، اغربى عن وجهي.
- اضربنى. اذبحنى. أقسم لك أنى صادقة، وأقسم أنى لن أراقص أحدا بعد اليوم، لو علمت أن ما حدث سيسبب لك أى ألم ما فعلته.
تعلقتْ بأهدابى واستماتت. تحتضننى، وأنا أدافعها. تبكى وتعتذر، وتقسم أنها تحبنى وأنها ستعوضنى عن كل ما حدث.
أى تعويض يا بنت الحرباء؟ ما ظننت أن أتعرض أبدا لما تعرضت له. مالى وهذه الزيجة النكدة؟ أى طالع سوء لهذه الليلة؟ استماتت فى محاولاتها، تبكى، وتقسم، وتقسم وتبكى، وتعتذر، وتعتذر. عدت مثخنا بجراح عميقة لا أدرى إن كانت للأيام القدرة على شفائها!" (ص107 وما يليها). وهكذا يمضى المؤلف فى تحليل مواقف الشخصيات وأفكارها ومشاعرها ومتابعة دقائق ما تفعله أمام الآخرين وما يجرى فى داخلها من أحاسيس، كل ذلك فى براعة وإحكام وإقناع وواقعية.













وهناك عدد من القضايا الهامة تعرضت لها الرواية، وعلى رأسها قضية الحكم على الحضارة الغربية المعاصرة. وكانت دينا بعد زواجها من سامى قد حملت منه على غير رغبته، وحاول مرارا وبكل الوسائل والإغراءات والتهديدات أن تتخلص من الجنين، لكنه فشل فاضطر إلى الرضا فى آخر المطاف، لكن دون أن يشعر بالراحة والاطمئنان إلى مستقبل الطفل القادم. لقد كانت الحضارة الغربية فى نظره كلها رجس وفساد وانحراف عن سواء الفطرة، وكان يتخيل ابنته أو ابنه القادم وقد صار كبقية أولاد تلك الحضارة شذوذا وانحرافا بل انجرافا عن الصراط المستقيم. وفى النص التالى يذكر سامى ما حدث له مع دينا فى تلك الليلة التى انتهى أمره معها بالرضا، وإن كان رضا مؤقتا بالحمل وترك الجنين يأخذ فرصته فى المجىء إلى الحياة. وهذا النص هو الفصل السادس والعشرون:
"شحوب اعترى وجه دينا، له ملاحة الأعين المسبلة وحزنا أضاف الجلال إلى جمالها. نقص وزنها قليلا فتألق قوامها أكثر. حركتها أقل. ما رأيتها قبلا شاحبة أو حزينة أو قليلة الحركة. داخلتنى بعض الشفقة عليها. بهدوء شديد أحضرتْ كأسين وملأتْهما بخمرها. ناولتنى كأسا، تنهدت بحرقة وطفقت تفرغ لهيبها:
- أَهُنْتُ عليك، وهانت أيامى؟ بهذه السهولة تتركنى وتنسانى؟ لَمْ تتركنى هذه المرة وحدى، تركتنى وبعض منك فى أحشائى. أتدرى لماذا حملتُ عامدة؟ لأنى لا أستطيع تخيل حياتى بدونك، لأنى خشيت أن تتركنى بمثل هذه السهولة وبلا سبب إلا تخيلاتك وأوهامك. أردت أن أربطك بى ـ أُمّ نضال صديقتى المصرية المتزوجة من لبنانى نصحتنى قائلة: المصريون لا يرمون أبناءهم. أحرص الناس على نسلهم. لو أردتِ الاحتفاظ بسامى إلى الأبد لن يربطه بكِ إلا الإنجاب. الإنجاب سيجبره قسرا ورغم أنفه على الارتباط بك: حبا فيكِ، ورغبة فى طفل أو طفلة منكِ، نتوحد به أو بها معا وإلى الأبد. تعمدت الحمل. ظننت أنك ستطير فرحا، وستعتبر ذلك أجمل المفاجآت، ظننتك ستحملنى وترفعنى عن الأرض، وتضمنى وتقبلنى، وتضعنى حانيا على سريرى، وتأمرنى ألا أتحرك: تطعمنى وتسقينى بيديك، فإذا بك تصدنى بقسوة، وترمينى بلا رحمة كأنك تقتلنى بسكين بارد وبتشفٍّ. تأكدت أنك لا تحبنى ولا ترغب على الإطلاق فى الإنجاب منى الآن أو بعد عامين أو بعد عشرة أعوام. لذا قررت الاحتفاظ بالحمل ذكرى حبى الأول والأخير. انتظرت يوما، أياما أن تطرق بابى، أن يرق قلبك، ولا فائدة. أعرف أنى سيئة الحظ، وأن سعادتى لن تكمل أبدا.
أعرف أن موقفك من حملى لن يتغير. لتعلمْ أن احتفاظى بحملى هو احتفاظى بك. لو أنى أكرهك لتخلصت من حملى فى الحال. أقسمم أنى أحبك حتى وإن لم يعرف الحب قلبك. اختارك قلبى دون كل الرجال، ألا يكفيك هذا؟ جميلة، حنونة، مخلصة، وتحبك. ماذا تريد بعد ذلك؟
أراك قلقا كأنك تجلس على أشواك. تريد أن تتركنى وتترك ما أودعت فى أحشائى. إذا استراح ضميرك وعقلك وقلبك لذلك فلتذهب، وسأتحمل قدرى. أراك لم تمسّ كأسك. اطمئن: لم أضع فيه ما يخدرك أو يضيرك. لتذهبْ إن أردت.
وبكت بقوة. ينتفض جسدها، وتفيض دموعها غزيرة كالمطر. رق لها قلبى بشدة. اقتربت منها، أجفف دموعها، وأهدهدها بحنان، وقبلت جبهتها، ومسحت على شعرها. أيقنت تماما أنها لن تفرط فى حملها مهما كان، وأن المسألة مسألة وقت ليخرج مولودنا إلى الحياة، سواء تركتها أم لم أتركها.
- أعتذر لكِ يا دينا. كل ما فى الأمر أنكِ قررت وحيدة، وهذا ما لم نتفق عليه. أخطأتِ فى هذا، وأنا سامحتك. هيا لنحتفل الليلة معا بالوافد الجديد.
فى لحظات انقلب حزنها فرحا، وهبت لتحتضننى وتقبلنى بجنون. تسقط دموعها بغزارة لكنها لم تكن دموعا للحزن. تهزنى وتسألنى أكثر من مرة: أحقا تعنى ما تقول؟ وخرجنا للسهر معا، وعدنا لنكمل سهرتنا وقد زال شحوبها وحزنها، وعادت إليها حيويتها، وفاضت أنوثتها دافئة ومعطاءة، سخية وحالمة. عادت لأيامى معها بعضُ بهجتها، فهى كعادتها تظهر فى الليل على أجمل صورة، تبدو كعاشقة ولهانة: المكياج الحاذق، الملابس الأكثر إثارة، العطور المحفزة، تعبيرات الوجه الحالمة، والجو الأسطورى يلف كل هذا بعبقرية ساحرة. استمتاعى بكل هذا لم يكن فى الغالب كاملا قبل الزواج لاعتبارات عدم الشرعية، بعد الزواج وما قبل الحمل لخوفى من استمرار ثقافتها الغربية، وبعد الحمل لخوفى أن يكون ما تحمله أنثى: ابنةً تربيها دينا، وفى برلين!
كنت أسير فى الشارع الرئيس، خصوصا فى أيام العطلات والاحتفالات حيث يظهر الشارع كمعرض للفتنة، كلٌّ تعرض فتنتها على طريقتها وبلا حدود. كل أنثى هُرِعَتْ إلى الشارع الرئيس تستمتع بعرض مفاتنها وتمتع الناظرين. التى خرجت بصيدها، والتى تقصد أن تصيد أو تصطاد. البنطلونات الضيقة تجلو مواضع الفتنة وتضيف. الشعور الملونة بكل ألوان الطيف، وأشكال لا نهائية معلقة عليها تجذب الأنظار. قصات جميلة غريبة وعجيبة، وشعور قد أزيلت إلى فروة الرأس واستبدل الشعر بألوان مجنونة. رسوم التاتو على كل أجزاء الجسد: على الذراعين، على الصدر، على الفخذين، تظهر من فتق فى بنطلون أو شورت على المؤخرات. النهود فائرة، متصلبة أو مصلوبة شبه عارية. الشورتات الساخنة. فتحات الفساتين المتوغلة تُظْهِر وتُخْفِى مع كل خطوة. بعض الشاذات ينتحين جانبا فى الشارع الفوار وتفور أجسادهن، قبلاتا ساخنة وأحضانا نارية وهياما مغيب. النظرات الفاجرة للجالسات على المقاهى تتبعها القبلات المفترسة للمرافقين. الواقفات أمام دور السينما الإباحية يتفحصن إعلاناتها ليتخذن القرار. الزائرات للبوتيكات الجنسية التى تعرض فيما تعرض نماذج مختلفة الأشكال والأحجام للعضو الذكرى. طوال سيرى فى الشارع الكبير أرى حواء هى الأكثر شبقا وجموحا وكسرا للحدود. يا ويلى!ما الذى يمنع أن تكون ابنتى من دينا على نهج اللائى أرى بأم عينى؟ من العاريات صدورهن تماما لا يرتدين إلا كورقة شجر فى المسابح، والحدائق العامة يستقبلن الشمس، من المتزلجات على الجليد فى صالاته يظهر نصفهن الأسفل شبه كامل، من المتسابقات للقب ملكة الجمال يعرضن أجسامهن كاملة للمحكَّمين والمحكَّمات، من لاعبات الكرة الطائرة بالمينى شورت، من لاعبات الكرة الطائرة الشاطئية بالبكينى؟ ربما كانت دينا أحرص أن تكون ابنتها فى مقدمة هؤلاء. يا ويلى! من ألقى بى إلى عش الدبابير اللاسعة الهائجة؟
وماذا لو كان المولود ذكرا؟ أيعجبنى منظر هؤلاء الذكور، والوشم على أجسادهم، مثقوبة آذانهم، أزياؤهم عجيبة، تسير سفنهم حثيثا نحو الأنوثة، والمخنثون تتزايد أعدادهم يوما بعد يوم، وتتزايد بالتالى نواديهم وصحفهم ومجلاتهم وأفلامهم، تعرض عمليات بتر رجولتهم على شاشات التليفزيون وفى مختلف وسائل إعلامهم، يفخرون بخنوثتهم، ولا يستهجنهم أحد؟ كارثة حقيقية إن لم تتغير دينا. قادمة حتما إن بقيت على صورتها. ملعونة أم الحضارة، وكل حضارة يكون هؤلاء الشباب والشابات نتاجها.
أذكر محاضرة ألقاها صبحى، يوم أن كان المسجد مسجده، عن الحضارة الغربية. يومها كان أكثر تألقا وانفعالا: انتفخت عروق رقبته، واحمر وجهه، وارتفع صوته. وصف الحضارة الغربية بأنها حضارة الجنس، والخمور، والمخدرات، ولحم الخنزير، والزنا، والقمار، والكلاب، والشواذ والشاذات، وتغيير خلق الله، ومحاربة الفطرة التى فطر الله الناس عليها. الحضارة التى حولت الناس إلى قطيع بهيمى يأكل كما تأكل الأنعام، ويمارس الجنس على المشاع كما تمارسه الحيوانات. هنا زادت انفعالاته وتلا قول الله تعالى: "إنْ هُمْ إلا كالأنعام بل هم أضلّ". ثم قال: الحيوانات لا تعتاد الشذوذ أيها الأخوة. الحيوانات لا تقتل من أجل القتل. الذئب لا يفترس ذئبا. الحيوانات لا يستعبد بعضها بعضا من أجل نفط أو مواد خام أو سوق تباع فيه منتجاتها. الحيوانات لا تكذب وتروج لكذبها. لا تلقى بالحبوب فى البحر حتى ترتفع أثمانها. لا تغتال كل من يحاول النهوض ببلده من قادة العالم الثالث.
صحيح أن تلك الحضارة غزت القمر، وتسعى إلى غزو الكون كله، صحيح أنها حققت تقدما علميا يفوق الأحلام، صحيح أنها أنتجت من وسائل الترف ما جعل المواطن العادى يتمتع بما لم يتمتع به ملوك عصر سابق، لكن تلك المنجزات كالمال الوفير فى يد أرعن، كالقوة القاهرة ملك يمين أحمق. سحقت هذه الحضارة الانسانية فى الانسان. من يستطيع أن ينكر أن نفس البدوى أقوى من نفس ابن تلك الحضارة.
تصوروا أن كانت تلك الحضارة نتاجا للمسلمين. لو كانت كذلك ما رأيت جائعا ولا عار، ولعم الأمن والسلام والرخاء، ما رأيت شعوبا تباد لتسلب ثرواتها، أو أقلية تسحق تطهيرا لعرقها، ما رأيت النساء أشباه رجال، والرجال أشباه نساء، ما رأيت تلك التجارة المهينة بلحوم النساء، لرأيت الأرض أشبه بجنة النعيم. يا اخوتى خسر العالم كثيرا بانحطاط المسلمين.
لك الله يا صبحى فقد خسرنا أيضا كثيرا بانهيارك!".
وأول شىء أحب أن ألفت نظر سامى إليه لو قدر له أن يكون شخصا حقيقيا لا ورقيا هو أن بناتنا ونساءنا فى معظم البلاد العربية فى ستينات القرن البائد وسبعيناته كن يلبسن المينى جيب والمايكرو جيب فى الشوارع والجامعات. وإذا كان الغرب هو الذى اخترع تلك الملابس فذنبنا أشد وأفدح من ذنبه، إذ قد انحططنا إلى مستوى القرود المقلدة دون فهم لأن ديننا وتقاليدنا لا تتسامح مع هذا أو ترضى عنه أبدا. فكلام سامى عن ملابس الألمانيات فى الشوارع إذن هو كلام من لايدرى أننا كنا نعرف هذه الملابس طوال سنين غير قليلة.
والثانى هو أن سامى يركز على عيوب الحضارة الغربية تركيزا شديدا مخلا. فالحضارة الغربية ليست زنا فقط ولواطا وخنوثة وخمورا وما إلى ذلك رغم أن فيها عيوبا أخرى أفدح من هذه لا أنكرها، وأعرف أنها ستكون مع تراخى الزمن وبالا على أهلها، ومنها الكبر والغطرسة التى تسول لهم أنهم الجنس الوحيد المؤهل للحضارة إنجازا وعيشا وممارسة، ومنها القسوة مع الشعوب الأخرى التى يعاملها الغربيون وكأنها حيوانات بل أدنى من الحيوانات، ومنها إنكار الألوهية والعالم الآخر، ومنها، ومنها. لكن هل الحضارة الغربية هى هذا فقط؟ لا بكل تأكيد، بل هى إلى جانب هذا وقبل هذا هى النظام والنشاط والحيوية والتخطيط والعلم والحرية والجمال والنظافة والثقافة والفنون وارتفاع مستوى المعيشة واستحالة بلادهم جنانا وارفة الظلال يجد فيها المواطن المسكن اللائق بالآدميين والطعام المتنوع الكافى والمفيد والعلاج والدواء والغنى والأمن، فى مقابل ما يسود بلادنا من فقر وقذارة وقبح وخطر وفوضى واستبداد وبلادة وكسل ولامبالاة وقلق وخوف وكراهية للعلم والعمل والنظام والتخطيط والإتقان. إلخ.
وعلى هذا لست أفهم تماما قلق سامى على مستقبل ابنه فى بلاد الغرب خوفا عليه أن يصير حين يكبر شابا مخنثا مثلا، وكأن هذا هو المصير الذى ينتظر كل شاب يعيش فى تلك البلاد، وكأنه أيضا لو أخذه من أمه وعاد به إلى بلده سوف يجد الجنة فى انتظاره. لا أظن الألمان كلهم يصيرون مع الأيام مخنثين، وإلا ما عاشت حضارتهم يوما واحدا واقفة على قدميها. لا شك فى انتشار الخنوثة بين بعض الشباب هناك، لكن القول بأن هذا هو ما ينتظر الشباب جميعا مغالاة مقيتة. كما أن التصور المعاكس الذى يخيِّل لسامى أن مستوى الأخلاق فى بلادنا راق هو تصور ساذج وسخيف، وبخاصة أن الأخلاق عندنا بوجه عام تنحصر فى الجنس، وكأن الكذب والرشوة والغش والاختلاس وخُلْف المواعيد والتنبلة والبلادة وانتشار الزبالة والقبح فى كل مكان وكراهية العمل وسلقه سلقا إن أديناه مضطرين، والنفور من تشغيل العقل، والاستبداد الضارب أطنابه فى أنحاء مجتمعاتنا والاعتقالات لكل عاشق للحرية والكرامة، كأن كل هذا ليس خروجا على الأخلاق. إنه ضيق أفق غليظ. وبالمناسبة فقد جعل نجيب محفوظ مسلمى بلاد الحلبة التى ترمز إلى دول العالم الرأسمالى فى روايته: "رحلة ابن فطومة" يشتركون فى التظاهرات المنادية بحرية الشذوذ الجنسى، وجعل إمام المسجد هناك يباركها. فما رأى بطلنا، بل ما رأى مؤلف روايتنا، فى هذا؟
ترى كيف عميت عينا سامى عن كل ما فى ألمانيا وبلاد الغرب عموما من نظافة ونظام وجمال وأناقة وشبع ورى واطمئنان وشعور بالكرامة والعزة والأمان وانصراف كل شخص هناك إلى العمل الجاد وإتقان ما يُعْهَد إليه به من شغل وصرف الوقت فى تحصيل العلم والازدياد من الثقافة والعكوف على الإبداع العلمى والفنى والطموح إلى المعالى والتسابق فى تحصيل الخيرات وخدمة الوطن والمجتمع والاستكثار من المال، الذى هو عصب الحياة، وحرص الأغنياء على التبرع بشطر كبير من ثرواتهم لمعاهد العلم ومراكز البحث والاختراع وما إلى ذلك؟ نعم فى الغرب عيوب، وعيوب شنيعة، لكن محاسنه وإيجابياته تخفف من بشاعة هذه العيوب وتحاصر ثمارها المرة السامة. ونعم سوف يكون لكل تلك العيوب نتائجها الضارة عندما تتراخى بها الأيام، لكن ذلك سوف يأخذ وقتا.
ولو كنا مسلمين حقا ونمارس ديننا ونلتزم قيمه ومبادئه فعلا لوقفنا فى وجه الغرب وصدمناه صدمة كفيلة برَجّ بنيانه ومسارعة انهياره. لكننا للأسف بوجه عام لا فى العير ولا فى النفير، وهو ما يؤخر انهيار الغرب. ألم يسأل سامى نفسه: ترى لم لا يهاجر الغربيون إلى بلادنا، بينما طموح الكثيرين من شبابنا ورجالنا هو ترك بلادهم والسفر إلى الغرب هربا من الأجواء الصعبة والاختناق هنا، وطلبا للعيش الكريم والاستمتاع بأطايب الحياة هناك؟ وأنا حين أقول هذا لا أنتقد الكاتب، فقد صور الكاتب أوضاعنا وفهمنا للحياة فى بلادنا وفى الغربة تصويرا جيدا يشكر عليه. فهو هنا واقعى مخلص يرينا الحياة كما هى فى الحقيقة دون تزويق أو تجميل.
أما نفى سامى وجود اعتداء من ذئب على ذئب مثله فلا أشاركه إياه، إذ ما أكثر الذئاب والكلاب والقطط والأسود التى تتعارك فيما بينها لسبب أو لآخر. ولنفترض أن هذا لا يحدث، وهو بكل تأكيد يحدث، فمن الممكن الرد بأن الحيوانات ذوات النوع الواحد إن لم تتعارك فيما بينها فإن الحيوانات التى تنتمى إلى نوعين مختلفين تتعارك وتتقاتل.
وأما أن الحيوانات لا تعرف الشذوذ الجنسى فقد كنت إلى وقت قريب أتصور صحة ذلك ولا أتخيل العكس، إلى أن قرأت منذ عدة سنوات مقالا فى "الويكيبيديا" الإنجليزية بعنوان "Homosexual behavior in animals" يؤكد أن الطيور والحيوانات المفترسة وغير المفترسة تعرف الشذوذ الجنسى بين ذكورها وإناثها كما يعرفه البشر، وعدت إلى مطالعتها الآن كرة أخرى، وإن لم يقابلنى مقال خاص بذلك الموضوع فى "Encyclopaedia Britannica" مثلا. لا أقول ذلك إعرابا عن تصديقى لما قرأت ولا دفاعا عن الشذوذ، فهو سلوك مقرف ومقزز ولا يقبله ذو فطرة سليمة، بل أقوله إبراء للذمة العلمية ليس إلا، فهو شىء قرأته وشعرت أنه تنبغى مصارحة القراء به، وإن كنت لا أستبعد أن يكون هذا الكلام مجرد مزاعم يرددها بعض من يتعاطفون مع الشواذ والشذوذ أو بعض المصابين به بين الباحثين والعلماء.
وإذا كان هناك من يتعاطف مع الشواذ فليتعاطف معهم على أساس أنهم مرضى ينبغى معالجتهم من هذا الانحراف المقيِّئ لا على أنهم أصحاب حق فى ممارسة هذه القاذورات والنجاسات. ومرة أخرى أقول إن ما يحفظ على الحضارة الغربية قوتها رغم هذه العوامل التدميرية التى تنخرها من الداخل هو أنها ذات حسنات كثيرة رغم ذلك، فضلا عن أنها لا تواجهها حضارات أخرى فى نفس قوتها وفى ذات الوقت تخلو من عيوبها القاتلة. ويوم يكون المسلمون على مستوى التحدى لتلك الحضارة فلسوف تسرع إلى الانهيار بمعدَّل أكبر كثيرا من معدَّلها الحالى أو ربما استطاعت الحضارة الإسلامية أن تضربها بالقاضية.
وعلى هذا فقد كنت أرى أن يبقى سامى فى ألمانيا ويبدأ من جديد بعدما ترك دينا خلف ظهره وطلقها. وليست دينا هى المرأة الوحيدة فى الدنيا ولا فى ألمانيا ولا حتى فى برلين، فهناك ديناتٌ لا حصر لهن، وتختلف الكثيرات منهن عنها فى كل شىء أو على الأقل: فى الأشياء التى كرهها سامى فيها. ومن الممكن جدا أيضا أن يجد فى مصر واحدة مثل دينا سوءا أو تزيد عليها، علاوة على أنه لن يجد فى مصر ما يوجد فى ألمانيا من نظافة واستقامة فى التعامل وصدق فى القول واحترام للمواعيد ودأب فى العمل وإحسان فى تأدية الشغل وسعى وراء العلم والمعرفة. ثم لقد صار الآن خبيرا فى إعداد الأكلات والأطباق، ويمكنه من ثم العثور بغاية السهولة على عمل يدر عليه دخلا واسعا يستطيع به أن يُعِين أهله فى مصر ويبنى له أسرة فى برلين، وبخاصة وقد صار يحسن الألمانية إلى حد معقول بعد الذى قضاه من وقت فى بلادها. ولسوف يكون حينئذ قريبا من ابنه يتابع نشأته ويبلّ شوقه إليه ويقابله كلما أراد. أما ما فعله فهو تصرف عدمى لا أستطيع أن أجد له وصفا سوى أنه انتقام ذاتى، وكأنه يعاقب نفسه كى يغيظ دينا.
إن فى برلين خيرا كثيرا، وكنت أريده أن يبقى ليحصد هذا الخير. وإذا كان ينفر من العمل فى المطاعم لما فيها من لحم خنزير وخمور كما قال فليبحث له عن عمل آخر لا صلة بينه وبين الخنزير والخمر، بل بعيدا عن المطاعم والأكل تماما. ولسوف يجد بكل تأكيد بعدما عرف البلاد وعرف دهاليزها. وقد ينتهى به المطاف إلى أن يتزوج مصرية أو عربية أو ألمانية أو أورربية أو أمريكية ويكوّن معها أسرة ناجحة موفقة سعيدة. وهذا ليس مطلبا مستحيلا، بل هو أمر ممكن التحقيق جدا، وبمنتهى السهولة. وقد ذكرت الرواية ذاتها أن ثم عربا كثيرين تزوجوا من ألمانيات ويعيشون معهن عيشة إسلامية وناجحين وموفقين غاية التوفيق. والمعروف أن الإسلام، رغم أحوال المسلمين السيئة بوجه عام فى بلاده، يشهد تقدما وازدهارا فى أوربا وينجح فى حالات كثيرة فى التصدى للدعايات المضادة التى تفترى عليه الأكاذيب والأباطيل، وفى غزو العقول والقلوب على جميع الأصعدة وفى كل الطبقات والأوساط. والمسلم لا ينهار ويستسلم لليأس من أول صدمة، بل يحدوه الأمل دائما، إذ هو يستمده من خالق الأمل ذاته، وهو الله سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى لا تغيض عنده ينابيع الأمل والثقة فى المستقبل والرزق الوفير. ورسولنا الكريم يقول: "عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ: إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ. إن أصابَهُ ما يحبُّ حَمِدَ اللَّهَ وكان له خيرٌ، وإن أصابهُ ما يَكْرَهُ فصَبَرَ كان له خيرٌ، وليس كلُّ أحدٍ أَمْرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلا المؤمنُ".
أقول هذا اعتمادا على ما يؤمن به بطل الرواية من أن "الضربة التى لا تقصم ظهرك تقويك" (ص11 أول عبارة فى الرواية)، وما قاله من أن كثيرين قد سبقوه إلى خوض تجربته تلك، ولم يكن لديهم أفضل مما لديه، ونجح معظمهم (ص30). صحيح أنه يعزو الزواج إلى القدر. فالإنسان، كما يقول، لا يدرى متى ولا كيف يتزوج ولا ممن (نفس الصفحة)، بيد أنه لا ينفى دور الشخص فى الأمر، وإن كان فيما يبدو يجعل دور القدر هو الأقوى والأغلب. وما دام للإنسان دوره الذى ينهض به فى تلك الدراما، بل وما دام بطلنا لا يزال ينتظر فى الخيال دينا زوجته اللبنانية المتألمنة وقد أتت إلى مصر ومعها ابنهما راغبة أن تعيش معه فى قريته وتنتهج أسلوب حياة أهل الريف المصريين، فلماذا لم يحاول أن يبدأ الطريق فى برلين من جديد؟
ثم لا ينبغى أبدا أن ننسى المعاناة القاسية التى تجرعها بطل الرواية حتى استطاع الحصول على تأشيرة ألمانيا، والآمال العِرَاض التى كانت تملأ قلبه وهو مقبل على السفر إلى ألمانيا. قال يصف مشاعره ليلة السفر: "صورة أوروبا الوردية، الحياة بجدها وجديدها وضجيجها، والحرية مولودها العفى، وأيادى علومها القوية تكتب الاحلام واقعا وتزيد، صورة تشد العقل والقلب بجاذبية قاهرة، لكن للمجهول دائما مخاوفه. فالحياة فى أوروبا لم أعهدها بعد. فى أوروبا أكثر الناس ناجحون، وهناك أيضا فاشلون بل ومتسولون!بالطبع فرص النجاح هناك هى الأكثر والأفضل، ألست شابا أملك قوة الشباب، وطموح الشباب، وروح المغامرة، وقوة التحمل والإرادة؟ غدا سأبدأ رحلة الكفاح، وإن كنت قد بدأتها فعلا، إذ ذقت الأمرين من الوقوف على أبواب السفارات الأجنبية، وقوفا أقرب إلى التسول. موظفو الاستقبال مصريون. للأسف كانت معاملاتهم لى ولأمثالى هى الأكثر سوءا، وعجرفةً، وغباءً. الأغرب أن صديقا لى قد حصل على التأشيرة عن طريق أحدهم بعد أن دفع المطلوب".
كما أفهمه بشارة اللبنانى الذى وقف إلى جانبه أول وصوله لألمانيا أن طريق النجاح مفتوح أمامه إلى الغنى والعمل الكريم بل وإلى تملك مطعم خاص به يمكن أن يتحول بدوره إلى سلسلة مطاعم ما دام عنده الطموح والجِدّ (ص37- 38). ثم إنه سرعان ما تعلم بكل سهولة صناعة البيتزا وسائر ألوان الأكل التى يقدمها المطعم، وصار مرتبه أكبر كثيرا (ص41). فكيف نَسِىَ كل هذا بعد خلافه مع دينا وتطليقه لها ورفعه الراية البيضاء للإحباط والفشل وعودته لمصر دون أن يحقق إنجازا يكافئ ما لَقِيَه من معاناة وما كان يشعر به من أمل؟ ألم يترك مصر إلى ألمانيا لينقذ والده ووالدته وإخوته وأخواته من سياط الفقر القاسية وأنيابه الحادة (ص35)؟ ألم يبدأ بإرسال مبلغ شهرى يساوى ما كان أبوه يكسبه فى عام كامل (ص41)؟ ألم تكن أوربا هى الباب الوحيد للهرب من ظروفٍ تنهشه نهشا كما قال؟ ألم يكن حصوله على التأشيرة إلى ألمانيا هى بمثابة القفز إلى قارب النجاة هربا من موت محقق حسب تعبيره (ص45)؟ فلماذا لم يثابر ويستمر فى طريق النجاح إذن ويزداد غنى وقوة، والمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ولَخَيْرٌ للمسلم أن يترك ورثته أغنياء من أن يتركهم عالةً يتكففون الناس كما قال الرسول الكريم؟
تعال نرى ماذا يقول فى هذا الموضوع بعدما انتهت وقائع حكايته فى برلين وترك الجمل بما حمل وعاد إلى قريته فى مصر بدون دينا وابنه: "الضربة التى لا تقصم ظهرك تقويك. تيار الحياة جارف لا يوقفه شيء. حياتنا سلسلة من المتاعب لكن تستحق أن نعيشها. قد يتلكأ زمننا الخاص أمام حدث بعينه، لكن سيره حتمى، وعليه فإن كل النوائب تبدو محتملة.
أعزى نفسى مستلقيا على ظهرى فى البيت الذى شهد مولدى. أحيانا تفقد كلمات العزاء معناها كاملا، وقد تفقد جزءا منه صغر أو كبر، وقد تصبح باهتة باردة، لكنها على أية حال أفضل من لا شيء. أغمض عينى فتتراءى لى صور للعزاء واحدة تلو الأخرى:
ذابت خجلا، وقبل أن يتكلم صديقى سبقتْه لتقول أنها تؤمن الآن تماما بصحة ما يعتقده: أن الزواج قدرى كالموت. فأنت لا تعرف من ستتزوج ولا متى ولا كيف. قد يهيم المرء حبا بامرأة لسنوات طويلة تبادله نفس المشاعر، ويعدان معا كل ما يلزم للزواج إلى ما قبل اللحظة الأخيرة، ثم ينتهى كل شيء. قد تطاردك الجميلات فتعزف عنهن، وتتزوج ممن ينقصها كل الجمال لسبب غريب وتافه. الزواج قدرى، فثمرته أطفال فى الغالب الأعم، وقد كتبت أسماؤهم فى اللوح المحفوظ مقرونة بالطبع بأسماء الآباء والأمهات.
كانت السيدة المحنكة الظريفة قد تندرت مداعبة صديقى ابن أخيها يوم عرسه متسائلة: أخلت الدنيا من الجميلات أو نصف الجميلات حتى تتزوج هذه؟! ثم أردفت: سأريك زوجة ابنى. سيكون وجهها كالبدر فى تمامه، واسعة العينين، حمراء الخدين، دقيقة الأنف، صغيرة الفم، عذبة الصوت، نحيلة الخصر، رشيقة القوام، ملفوفة الساقين، ولون كعبيها فى لون التفاح. فى عرس ابنها كانت العروس خالية تماما من الجمال. زوجة صديقى أجمل منها بكثير!
* * *
مؤذن مسجدنا الورع تزوج من مشبوهة لها تجاربها الفاجرة مع الكثيرين وبعض الأصدقاء. يوم دخوله بها قامت القرية ولم تقعد، والدهشة فى عيون الجميع. سقته الشقية المر بألوانه، والإهانات بكل شكل. صبره عليها يغيظ. يقول ببلاهة قول أحد السابقين: "أخشى أن أطلقها فيُبْتَلَى بها غيري!". قصصا كثيرة اختلقها الناس عن هذه الزيجة عن علاقات مشبوهة بينها وبينه قبل الزواج تسهل للناس ابتلاع الزيجة، والآخرون يَعْزُون الأمر للقدر.
* * *
نجار متجول جاء إلى قريتنا للعمل بضعة أيام، فتزوج سريعا من إحدى النساء واتخذ من القرية موطنا، قيل أنه ترك فى قريته زوجة وأطفالا وكذلك فى قرى كثيرة، والأمر فى أذهان الناس قدر مقدور، وكأننا لعبة فى كف القدر يتسلى بنا، يلون أيامنا بدمائنا وأعصابنا.
لطالما جلدتُ ذاتى أقتل النفس لوما أنْ تزوجتُ دينا. إذا كنت قد تزوجتها بسلطة القدر فلماذا اللوم وجلد الذات؟ أخذت أقلب ظروف زواجى من دينا على كل وجه. كثيرا ما كنت أبدأ من الصفر لأصل ثانية إليه بعد سهد طويل وعذابات قاسية، ثم أبدأ من جديد فى دائرة شيطانية! أجد أن عشرات العوامل قد تكاتفت معا وتكاثف وطؤها فى أقل زمن ممكن لو تخلف عامل واحد منها، أو امتد الزمن يوما أو بعض يوم، لما حدثت هذه الزيجة. ماذا أسمى هذا إن لم أسمه: لعبة القدر؟ لا أستطيع تبرئة نفسى، فليس القدر وحده المسئول، ولست وحدى أيضا!
هل نفضتُ دينا عن رأسى، وطردتُها من حياتى بعد طلاقها وعودتى من برلين إلى قريتى؟ لا أظن. أتخيلها قادمة بحسنها الخلاب، وعطرها الفواح من بلاد الغرب، فيرقص القلب، وتسترد كل أوصالى عافيتها، وتتبخر على الفور ذكرى كل مشكلة وجدت بينى وبينها وتترسخ كل ذكرى جميلة، وكل دفء أسطورى فى حنايا القلب.
أتخيلها وهى ترتدى أزياء نسائنا فيزيد جمالها ولا ينقص، وتفيض بهجتى فيضان الأنهار. حينها قد تصبح أزياء نسائنا عالمية تلهث وراءها أعرق بيوت الأزياء. أى وقع على القلب سيكون لو رأيتها تحمل على رأسها مأكلا ومشربا تمشى إلى حقلنا الأخضر حيث أعمل تتبختر، وفى يدها ابننا الجميل، فلذة الكبد، وبهجة القلب؟ قد تكون الحقيقة أحيانا أكثر جموحا وأبعد مدى من كل خيال. ربما تدق بيديها الجميلتين هذا الباب يوما! مثلها لا ينسى، لكن حياتى معها على ما كانت عليه ما كان ينبغى لها أبدا أن تدوم أو تطول يوما واحدا".
لقد كنت أتوقع من بطل الرواية إذن أن يكون أقوى من ذلك وأصبر على لأولاء الحياة وأقدر على تحمل ضرباتها الموجعة كما قال. لكنه لشديد الأسف لم يفعل، وعاد دون أن يحقق شيئا كبيرا يساوى ما كان يعلقه على رحلته تلك من رجاء عظيم، تاركا ذيول قصة الحب والزواج تفعل به الأفاعيل. كذلك من الواضح أنه يضع القدر فى مواجهة الإرادة البشرية. والقدر هو مشيئة الله سبحانه. ومشيئته سبحانه تشمل كل شىء بما فيها مشيئتنا البشرية. لقد شاءت مشيئة الله أن تكون لنا مشيئة، لكن المشيئة البشرية ليست كل شىء. إنها مشيئة نسبية محدودة وليست مشيئة مطلقة. إنها عامل من العوامل الكثيرة التى لا تنتهى والتى توجه الأحداث هذه الناحية أو تلك. وقد يكون دور هذه المشيئة البشرية رغم هذا أقوى العوامل فى وقوع الحدث. وكم من زيجة تمت على ما يشاء صاحبها ويهوى، وإن لم يمنع هذا من الندم أحيانا والتطلع إلى ما لم تَطُلْه يدانا أو إلى ما فى أيدى الآخرين. والمهم أن يبذل الإنسان جهده فى الوصول إلى ما يريد فى الحياة من عمل أو مسكن أو زواج أو سفر. إلخ لا يألوجهدا فى هذا، ثم لْيترك الأمر بين يدى الله ما دام قد استفرغ وسعه. وقد يكون عليه مراجعة الأمر والخروج منه إلى أمر آخر إذا ما تبين له أنه أخطأ الاختيار أو أن اختيارا جديدا قد ظهر، وعليه استغلاله تطلعا إلى ما هو أفضل أو أكرم أو أقل سوءا. فالزواج إذن قدرىٌّ ككل شىء فى الحياة، بمعنى أن مشيئة الله وراء كل شىء، لكن هذا لا يلغى دور الإرادة الفردية. إن لها دورا، لكنه ليس كل شىء، وإن أمكن أن يكون فى كثير من الأحيان هو العامل الأقوى. ومن هنا كنت أحب لو لم يستسلم البطل لِمَا وقع وينهار على هذا النحو.
وهو نفسه حين يفكر فى صبحى الشاب المصرى الذى كان يدرس للحصول على الدكتورية فى برلين وكان يخطب فى المسجد ويعظ الناس ويبصّرهم بأمور دينهم وحياتهم ويقارن بين الإسلام والحضارة الغربية ويكشف ما فيها من عيوب جوهرية، حين يفكر فى صبحى وما أصابه من انهيار بائس بعد تعرضه لتجربة بشعة فى مصر يقول معلقا: "ربما كنتُ أسعد حظا من صبحى. بالطبع أنا أسعد منه حظا. كلى يقين ولأسباب مجهولة أنه مهما كانت الظروف، ومهما تربصت بى أحداث الحياة، فلن أكون "صبحى آخر".
كأن صبحى قد مورست عليه بمنهجية شيطانية كل أساليب معتقلات النازى، وجحيم سلخانات الستالينية بالاتحاد السوفييتى، وجهنم الحمراء فى سراديب العالم الثالث. كأنه قد أخضع لتجارب أساليب تعذيبية جديدة جادت بها قرائح الشياطين فأصبح على صورته الأخيرة، صورته التى حفرت فى عمق ذاكرتى: العينان الكسيرتان المرتبكتان لا تستقران على شيء، اللهم إلا النظر إلى مواقع الأقدام، وكانتا مقتحمتين ، متوقدتين بالحيوية والذكاء، والإقدام.
ما ظننت أن رأسه يمكن أن تنحنى يوما، أو تعرف الاستسلام، فها هى منحنية دوما، مستسلمة تماما. يمناه التى كانت فى حركة مسرحية دائبة تساند كلماته، تشرحها، وتجسدها، تساعدها يسراه. كأن شللا قد أصابها! صبحى الذى كان لا يستقر به مكان مهما كانت سعته، يكفيه الآن متر مربع من الأرض، ويزيد. كأن عضلاته قد فقدت كل ماء ودماء، وتفككت أوصاله عن آخرها. وجهه الذى كان منمقا رغم ذقنه المعفاة، أصبح كقطعة أرض هجرها الزراع فاحتلتها النباتات الشيطانية!
على هذه الشاكلة تكون ملابس صبحى، وقد كان أنيقا فى جلال. أهكذا تنطق ملابسه بالاهمال، وتجهر باللامبالاة، وتنتشر عليها البقع بمختلف الأشكال والأحجام كبثرات قميئة؟!
كنت ملاذى "يا صبحى”من هجير الأيام، أستمد من كلماتك الروح، والأمل، أشرب نصائحك تباعا وأخرج من بين يديك كأنى خلق جديد.
أيمكن أن نتبادل الأدوار فتستمع الآن لنصحي؟ أظن أن أذنيك قد فقدتا السمع، وعقلك فى غياب. هجرت دنيانا، وإن كان قلبك مازال يضخ الدماء إلى أنسجتك! أين تأثير كلماتك التى كنت تضخها ضخًّا كأنك تَمْتَح من نبع لا يغيض؟
كنت تمنحنا القدرة على مواجهة المتاعب، فأين قدرتك؟
ألم تقل مرارا أن الإيمان قوة قاهرة، وسلاح بتار لا يقف أمامه خَطْب؟ لو تسترجع كلماتك يا صبحى، لو يصحو إيمانك من سباته، لتغيرت صورتك تماما لترجع صبحى الذى نعرف. أوقن بصدق ما سمعته منك. أعرف إخلاصك لما كنت تدعو إليه، وكَمّ التضحيات من وقت وجهد من أجل الدعوة. حسبناك من المؤمنين الأقوياء المخلصين، وها أنت تهدم على هذه الصورة المؤسفة بسرعة وتنسحب من دورك فى الدعوة إلى الله والحياة. تترك المتن وتعيش فى الهوامش!
لن أكون مثلك يا صبحى، أبدا لن أنهار انهيارك. ما زالت تنير لى الطريق نصائحك وكلماتك، فقد قيل: رُبَّ سامعٍ أوعى من قائل! كثيرا ما انتابتنى لحظات ضعف خطيرة تمنيت على أثرها الخلاص من الحياة كلها بالموت مرات ومرات. ما أبعد فكرة الانتحار عنى إلا الوازع الدينى تغذيه كلماتك. حين سلطت على الغيرة أسلحتها الفتاكة أحالتنى إلى مجنون لا يستقر بى مكان ولا تسعنى أرض. لا أستطيع حتى الجلوس، وهرب منى النوم، وأخذت عيناى لون الدم، ودُكَّت رأسى بمطارق الشكوك الثقيلة المتواصلة لا تعرف الرحمة. ربما كان عندى الحق، بعضه أو كله، فكل تصرفات دينا كانت تكرس كل شك، لكن الشكوك أبدا لم تتحول إلى يقين. لو كان لدى اليقين لانتهت العذابات. يقولون أن وقوع الشر أسهل ألف مرة من انتظاره". هذا ما يقوله بطل الرواية، ولهذا كنت أتوقع منه، أو على الأقل: أرجو له، ألا ينهزم على هذا النحو فيعود إلى قريته قبل أن يحقق إنجازا أكبر وأعظم، بل أن يبقى فى برلين وينجح ويكتسب الجنسية الألمانية ويصير شيئا يشار إليه بالبنان كما يقال.
والآن إذا ما نظرنا إلى الظروف التى تم فيها زواج بطلنا من دينا لاستطعنا أن نبصر المصادفة أول شىء. لقد أراد سامى أن يحلق شعره، فاتصل هاتفيا بصالون الحلاقة ليفاجأ بأن من ستحلق له فتاة فى غاية الجمال والأناقة، وفوق ذلك جريئة ومتكلمة لبقة، لم تضيع وقتا وبادأته الحديث حين شعرت من شكله وتصرفاته أنه عربى مثلها، فهى من لبنان، وإن كانت قد تربت فى ألمانيا وصارت غربية العقل والمشاعر والسلوك والأخلاق، ثم لم تتركه يلتقط أنفاسه بل دعته إلى لقاء ومشروب فى إحدى القَهْوَشِيّات (ج. "قهوشيّة" كما يقول أنيس منصور فى ترجمة كلمة "الكافتريا": نَحْتًا من "القهوة والشاى" كما هو الحال فى الكلمة الأوربية). لقد كانت المباغتة قوية لم تترك له من أبراج عقله إلا القليل. لقد كان شابا متدينا قبل أن يأتى إلى برلين، وظل متمسكا بالصلاة والخلق الكريم حتى ذلك الحين. لكن جمال الفتاة اللبنانية المتألمنة وأناقتها وبراعتها وجرأتها وصراحتها وثقتها بنفسها طوحت بكل شىء. وكان ينبغى أن يستمسك، أو أن يبطّئ إيقاع تعارفه بها بعض التبطئة حتى يستطيع السيطرة على نفسه وأمره.
وحتى بعدما انجرَّت رجلاه ومارس الفاحشة مع تلك الفتاة التى لا تبالى بحلال أو حرام بل تعيش كما تعيش أية فتاة غربية لا تفكر فى شىء وراء حياتها الأرضية، كان يمكنه أن يتوب ويخلع نفسه من حياتها ويبتعد. بيد أن المتعة التى ذاقها معها كانت أقوى من مشاعره الدينية. ولقد أتيحت له الفرصة مرارا للرجوع عن هذا الطريق، لكنه كان يعود فيضعف تاركا نفسه للتيار ليجرفه سريعا حتى لو تفلفص قليلا جراء حلاوة الروح. بل إنه، بعدما عاد إلى قريته وصارت ألمانيا ودينا فى عالم آخر بعيد، ظل يفكر فيها ولا يستطيع التخلص من ذكراها: لقد كانت إحدى عينيه فى الجنة، والعين الأخرى؟ فى الجنة أيضا.
ثم فلنترك هذا كله ونركز على ما انتهى إليه أمره معها، وهو الطلاق. ترى هل كان طلاقه لها يستوجب العودة إلى مصر يجر أذيال الفشل؟ وأين التوبة؟ وأين البدء من جديد؟ أَوَلا بد أن يكسب الإنسان كل شىء أو يخسر كل شىء؟ إن الإسلام لا يغلق باب التوبة والإنابة أبدا، وإن الإنسان إذا ما ارتكس فى الذنب مائة مرة فى اليوم الواحد فليتب إلى ربه مائة مرة دون يأس أو إحباط. فالله سبحانه يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفورالرحيم. لكنْ للأسف نجد كثيرا جدا من المسلمين يفكرون على النحو الذى يفكر به سامى.
ثم هل بعودة بطلنا إلى مصر يكون قد عاد إلى أرض الملائكة الأبرار؟ إنه، حين يفكر فى الأخلاق، لا يفكر للأسف إلا فى الجنس والزنا غير متنبه إلى أن حياتنا فى بلادنا تفيض بألوان الذنوب البائسة الشنيعة دون أن نتنبه إلى بؤسها وشناعتها بل دون أن نتنبه فى كثير من الأحيان إلى أنها ذنوب أصلا، وهذا إن كانت أخلاقنا الجنسية نظيفة حقا. فنحن نكذب ونخلف الوعد ونهرب من أداء العمل، ولا نفكر فى إتقانه فتترتب عليه كوارث بشعة فى كثير من الحالات، ولا نستذكر دروسنا، ونغش فى الامتحانات ونتلقى الرشاوَى وننافق، ولا نحب العلم ولا التفكير ولا القراءة ولا يخطر على بالنا أن نمارس الإبداع فى أى شىء، ونتعايش بسلاسة عجيبة نُحْسَد عليها مع أكوام الزبالة والحفر والمطبات فى الشوارع والحوارى والضجيج المصم للآذان ومظاهر القبح المنتشرة فى كل مكان. وهلم جرا. إننى لا ألوم الكاتب لأن كثيرا منا يفكر ويتصرف على نحو ما تصرف سامى فعلا، ولا يعدو الكاتب أن يكون قد صور الأمور كما هى فى الواقع. وهذا مما يحسب له.
كانت ستة أشهر قد مضت عليه وهو فى برلين، وكان قد وجد عملا فى أحد المطاعم: بسيطا أول الأمر، إذ كان يغسل الأطباق، ثم أصبح عامل بيتزا وارتفع أجره جراء ذلك، وصار يشترى الملابس الغالية الأنيقة، وأصبح شكله أوسم، لكن شعره قد طال على نحو مزعج، ففكر أن يحلق، فاتصل بالصالون وحجز ميعادا ثم ذهب للحلاقة. وهذا وصفه للصالون وما جرى فيه آنئذ:
"بالطبع الصالون فى غاية النظافة ككل شيء فى المدينة الرائعة، تعمل فيه ثلاث عاملات أقلهن جمالا أجمل بكثير من معظم ممثلات السينما المصرية. وجاء دورى. الفتاة التى ستقوم بالعمل تعكس صورتها المرايا المتعددة المحيطة بمقعدى: شعر ذهبى طويل وناعم، قوام ممشوق لدن، عيون زرقاء واسعة مشعة، وشفتان رقيقتان شهيتان، وجبين فى بياض الثلج، وخدود حبيبة الاحمرار، لا أدرى إن كان احمرارها طبيعيا أم صنعته يد إنسان، الظن أنه طبيعى، رشيقة خفيفة الحركة، نموذج رائع لفتاة أوروبية أنيقة تعرف كيف تبرز جمالها، وتظهر مكامن أنوثتها. اليدان الناعمتان تحيطان رقبتى بورق نظيف لاصق، تغسلان شعرى ببراعة ورقة، تتداولان خصلاته بمقصها بحركات سلسة متناغمة وواثقة. فى المرآة التقت عينى بالعينين الجميلتين. ابتسمتْ ابتسامة حالمة ثم قالت:
- الأخ عربي؟
- لابد أنى أحلم. إنها تنطق العربية خالية من أية لكنة أجنبية، صعب جدا أن تكون عربية. كدت أجزم أنها أوروبية فرنسية، قليلات من الألمانيات من لهن هذه الرقة والتناغم الحركى. قد يكنَّ جميلات مثلها. صعب أن يكنّ بهذا السحر وهذه الرقة. استغرقتنى الدهشة، أدركت أنها تنتظر الإجابة، وإن لم تتعجلنى، فأسرعتُ بالقول:
- أنا عربى مصرى. من أنت؟
- عربية مثلك تماما.
- غير معقول!
- عربية. لما رأيتك تأكدت أنك عربى، وراهنت على أنك مصرى، لذا كلمتك بالعربية مباشرة. أعشق مصر، وأتمنى أن أرى الأهرامات، وأبو الهول، والنيل، وكل شيء فى مصر.
إنها إذا عربية، مازلت فى ذهولى. كل ما فيها يؤكد أنها غربية، بل وممعنة فى غربيتها.
- أنا لبنانية مسلمة، واسمى دينا. ما اسمك؟
- سامي.
- من أية مدينة فى مصر؟
- من المنصورة.
- بلد أم كلثوم وفاتن حمامة. أكيد إنك فنان.
- فنان؟ أنا انسان بسيط ألقت به الظروف إلى هنا.
- أنا أحب مصر: أغانيها، أفلامها، شعبها، روح الشعب المصرى، لهجته، نكاته. ليتنى أسمع منك نكتة.
- أشكرك على شعورك. نحن نحب كل العرب. لا تحضرنى الآن نكتة. من يراكِ ينسى كل شيء.
- شكرا على المجاملة. اسمع آخر نكتة. أرجو أن تكون فى مستوى نكاتكم: فضولى قالوا له: سنعطيك نصف الدنيا على ألا تتدخل فيما لا يعنيك. فقال مسرعا: والنصف الآخر لمن ستعطونه؟!
كلامها يقطر عسلا، وطريقتها ساحرة، وصوتها الفتنة ذاتها. ضحكتُ من كل قلبى، واهتز جسدى، فأصبحتْ غير قادرة على قص شعرى، فضحكتْ، وتثنت. ما كل هذه الفتنة؟!
فكت نكتتها عقدا كثيرة، وأدخلتنى سريعا إلى عالمها، فتذكرت نكتة بسيطة، سريعة:
قال لصديقه: سمعتك تضاحك زوجتك وتداعبها، وتطاردها حين مررتُ على بيتك ليلة أمس. فرد الصديق: والله ما كنت أنا!
ضحك جسدها ببلاغة، واحمر وجهها فزاد فتنة على فتنة، استقر صوت الضحك الرقيق فى قلبى، ولا أعذب، فغرقتُ إلى أذنى فى بحر الفتنة لا أكاد أشعر بزمان أو مكان. أكثر من نصف ساعة تحلق لى شعرى، توالت خلال موجات أنوثتها تغمرنى موجة بعد موجة، يزيد تركيز أنوثتها فى كل لحظة، وحواسى مفتوحة عن آخرها. تقترب أنفاسها الحارة تلفحنى بلهيب لم أعهده. تهت فى عوالمها السحرية كأنى مغيب. ربما انتظرتْ أن أقول شيئا، أن أمسك زمام المبادرة وما لى عهد بمثل هذا الزمام، فقالت:
أشعر أنى أعرفك منذ سنين، أتكلم معك رغما عنى. ماذا حدث لي؟
- أكبر مفاجأة لى أنك عربية. كأنى لا أصدق. أنتِ هائلة!
- بصراحة يسعدنى أن أتعرف عليك أكثر. انتظرت أن تقول أنت هذه الجملة.
- سَبَقْتِنى. كنت أريد أن أقولها.
- المهم أنها قيلت. دعنا نختصر المسافات. هل تقبل دعوتى غدا بعد انتهاء عملى لنشرب معا فنجانا من القهوة على أى مقهى؟ للأسف عندى اليوم ما يشغلني.
- سأنتظر موعدك من الآن ساهرا لن أنام!
كأن الأرض فقدت جاذبيتها، كأنى لا ألمسها بقدمى، كأنى لا أدرى من أنا، كأن العالم غير العالم، والناس غير الناس. ذهبتُ إلى عملى حالما هائما لا أشعر بمن حولى. أخطأت أكثر من مرة فى تنفيذ المأكولات المطلوبة منى. بالكاد كنت أصلح الخطأ قبل أن يشكو أحد. سؤلت عما بى من صاحب العمل وزملاء المطبخ، لكنى انتهيت من عملى دون حدوث أخطاء جسيمة. هُرِعْتُ إلى غرفتى وما فى مخيلتى غير صورة دينا، حركاتها، صوتها، دلالها، كل ما صدر عنها، موعدها غدا. ترى ماذا سيدور بيننا؟ وما هى توابعه؟
وماذا بعد؟ هذا السؤال الذى ثبته الشيخ مليجى فى قلبى وعقلى. ذكر أنه لب طريقة أحد أقطاب المتصوفة، كان لا يقوم بأى عمل صغر أو كبر ولو كان وقوفه من مقعده إلا إذا سأل نفسه هذا السؤال واطمأن للإجابة. فإذا اطمأن أقبل على عمله بحماسة، وإذا لم يطمئن حسم الأمر ولم يفعل.
وماذا بعد؟ هل أريدها صديقة؟ ما هى صورة تلك الصداقة؟ أهى حياة زوجية كاملة تنقصها الشرعية أم أية صداقة؟ صداقة تتيح لك أن تقابلها، تجالسها، تسيح معها فى المدينة، شوارعها، ميادينها، وملاهيها، تحكى لها وتحكى لك، تسامرها وتسامرك، تسبح فى تلك العينين الجميلتين والوجه النضر، ثم تقبلها قبلة خفيفة، وتفترقان؟ أيمكن أن يقف الأمر عند هذا الحد؟ هل هذا ما تريده هى؟ وهل يستريح لك قلب بعد ذلك؟ الإشارات كلها حمراء. إشارات كل حياتى، ثقافتى، دينى كلها حمراء!
هل أريدها زوجة؟ انتفضت لهذا السؤال. لا وألف لا. أنا قروى مسلم يتمنى أن تكون زوجته على شاكلة أمه، يغبط والديه على حياتهما الزوجية السعيدة رغم شظف العيش وكثرة الشواغل والهموم، ودينا من ألفها إلى يائها غربية. لا، ليست كمعظم الغربيات، إنها من أكثرهن شططا. ليتها تشبه فى كثير أو قليل زميلاتى فى الجامعة، أو حتى أكثرهن جموحا! وماذا بعد؟ يوجب على الاقتداء بهذا المتصوف ألا أذهب لهذا الموعد، أن أنساه تماماَ كأنه لم يكن، أن أحسم الأمر ابتداءا، أن أقتله فى مهده. داعبت صورتها خيالى. كيف يمكننى أن أنسى موعدها أو أتجاهله؟ قمت من مكانى أجوب غرفتى على غير هدى. لست مستريحا أبدا لهذا اللقاء، وما لى قدرة على تجاهله. كأن سفينتى فقدت الاتجاة فى بحر هائج لا أستطيع تمييز الأفق من الماء. ظللت أفكر وأفكر وكأنى أفكر فى اللاشيء يائسا من قرار صائب! فلأذهب للقاء دينا، وليكن ما يكون!".
وواضح أن لقاءها به كان مدفعية ثقيلة دمرت كل حصونه حتى لو بدا الأمر وكأنه لا يزال عنده فرصة للمراجعة والتفكير والتدبير. لقد كان كل ذلك أمرا شكليا، إذ ما إن انتهى من تذكر ما قاله له الشيخ مليجى وغير الشيخ مليجى حتى كان قد عزم أمره وقرر الذهاب للقائها، وليكن ما يكون. وجملة "وليكن ما يكون" تختصر الموقف كله. لقد كان لقاؤها هو الغاية والهدف والمصير، أما أى شىء آخر فلا قيمة له ولا اعتبار ولا حساب. لقد كانت فتنة دينا من العنف والجموح بحيث لم يبق لدى سامى قدرة على التراجع أو التماسك أو التحفظ أو التباطؤ فى الاستجابة. وقد كان، ووقع سامى فى المصيدة.
ثم زاد الطين بلة حين تقابلا، إذ كان أول شىء فعلته أنها طبعت قبلة على شفتيه وشبكت ذراعها فى ذراعه وأمطرته بكلمات الغزل العجيب، وكانت تناديه بـ"يا حبيبى"، وتستشهد على الكلمة ببعض الأغانى المصرية المشهورة. وبعد أن قضيا وقتا عظيما فى المشرب قاما حتى أوصلها إلى بيتها، وعند الافتراق شفعت القبلة الأولى بأخرى لا تقل عنها حلاوة ولا حرارة، مما طير أبراج عقله كلها دفعة واحدة. ثم انصرف عائدا إلى بيته بلا عقل: يصلى لكنه لا يركز فى الصلاة. ينام لكنه نوم قلق. يذهب ثانى يوم إلى العمل لكنه كان مجهدا ولا رغبة له فيه. وبعد العمل ذهب إلى الشيخ صبحى خطيب المسجد المفوه وطالب الدكتوراه المصرى، فنصحه بالابتعاد عنها. وحين ترك الشيخَ صبحى كان لا يزال يراوح مكانه الذى كان فيه قبل الذهاب إليه. لقد شَلَّتْ ملكاته كما قال هو نفسه. وفكر فى استشارة عماد، وهو مصرى مخضرم يعيش فى ألمانيا منذ وقت طويل ويبيع البضائع النسائية الصغيرة فى الشارع، فغبطه عماد على ضربة الحظ الذى واتاه منذ أول وهلة مثنيا على جمال دينا وفتنتها. ولما أفهمه أنه يبغى زواجا لا تضييع وقت انهال عليه تقريعا واتهاما بأنه فلاح متخلف، ناصحا إياه أن يأخذ منها ما يستطيع من متعة ثم لْيبحث له عن امرأة أخرى بعد ذلك. وهكذا دواليك. فالحب فى برلين إنما يكون على هذا النحو، وليس على نحو آخر.
ولنتابع ما قاله سامى: "لم أجد رغبة فى مواصلة الحديث معه. إنه يتكلم من موقع آخر، لا يفهم ما بداخلى، ولا يدخل فى حساباته أيامى السالفة. انسحبت من أمامه بينما عيناه تتابعان موجات الفتنة، ولسانه يعابث. ذهبت إلى غرفتى كسيفا. ارتميت على سريرى بملابس كاملة أعيد التفكير!
* * *
ما بين ما قاله صبحى وما قاله عماد أتأرجح، والموعد غدا. تفكيرى معطل، والضغط يتعاظم على أعصابى، يبدو أنى لن أنام ليلى. قصدت الغرفة الظلماء عَلِّى ألتقى صلاح، لم يكن هناك، أعتقد أن الآخرين غير مؤهلين للاستشارة. مشيت كثيرا فى الشوارع العامرة لا أشعر بأحد من الخلق. عدت إلى غرفتى، وتفكيرى يتحرك حركة بندول الساعة لا يثبت يمينا أو يسارا ولا يشير إلى شيء. تأكدت أنى لن أصل إلى قرار حاسم مهما طال الوقت، فحاولت النوم جاهدا، أصبحت على هيئة اليوم السابق، وكان أدائى فى العمل كأمسه، وصاحب العمل يضرب كفيه!
كأنى منوم مغناطيسيا ذهبت إلى الموعد لم أتأخر دقيقة واحدة.
بسمة ساحرة على وجه الفتنة دغدغت قلبى الحائر. سلام حميم، وقبلة عذبة:
كنت متأكدة أنك فى انتظارى. مؤكد أنك لم تر النوم.
- متأكدة؟
طبعا. لأنى لم أذق النوم. صورتك لم تفارق خيالى. كنت معى دائما. حدثنى قلبى أنى كنت معك، وقلبى لا يكذب.
- لم أذق النوم، كدت أجن، لكنك لم تعرفى أسباب أرقي.
- لأنك أحببتني.
- لندع الحب جانبا، أفكر فى مستقبل علاقتنا. إلى أين؟!
- إلى السعادة الحقيقية.
- لماذا اخترتِنى، وهناك بالطبع من هم أفضل وأنسب مني؟!
- أنت الذى اختاره قلبى. ما بيدى حيلة. صدقنى: لم أعرف مثل هذا الحب فى حياتى، ولن أعرف. أنت حبى الوحيد.
- دعينا نتكلم بواقعية. الأمر خطير.
- الواقع أنى أحببتك بكل جوارحى. أحببت سمرة النيل على جبينك، صوتك فى أعماقى، كلماتك الهادئة الرقيقة القليلة. أعشق كل ما فيك.
واندفعتْ هياما وغراما حتى أطاحت بترددى وقضت عليه: تغمض عينيها، وتفتحهما بدلال مدرب، تغنى بعض الجمل بسحر لا يقاوم حتى بادلتُها عبارات الغرام، ومددت يدى إلى يدها أعصرها، وعينى إلى وجهها ألتهم جماله. أخذتنى تماما، لم أشعر إلا بها كأن المُقْهَى خالٍ من رواده، كأن يد ساحر لمستنى فحولتنى إلى إنسان آخر يعيش اللحظة فقط لا يأبه بغيرها. وقفتْ بإغراء ومدت يدها لأنهض من مكانى وقالت:
لنذهب لمكان أنسب، لم يعد المكان هنا مناسبا.
- إلى أين؟
قالت بثبات ووضوح:
إلى شقتى يا حبيبى. أقصد إلى شقتنا. لن نفترق بعد اليوم. يكفى ما عانيناه فى اليومين السابقين. ما خُلِقْنا لنتعذب. لا يتعذب إلا الأغبياء.
استوقفت دينا تاكسى، وأخبرته بعنوانها، وأحاطتنى بذراعها فأحطتها بذراعى. بضع دقائق وانتهت رحلة التاكسى، فهبطت معها إلى الدنيا الجديدة، أحاول حبس الماضى فى قمقم عتيد. شقة متسقة تماما مع دينا، فاخرة ومؤثثة ببذخ وروعة وجمال. كل ما فيها ينطق بالذوق وحسن الاختيار: البيت بيتك!
تخلصت دينا بسرعة من معطفها، وغابت لدقيقة ثم عادت وفى يديها كأسان من النبيذ تناولنى أحدهما. كأنها تمسك بثعبان يشرع فى عضى. تراجعتُ هرعا ووردتْ إلى خاطرى على الفور قصة الناسك الذى شرب الخمر فضاجع العاهرة وقتل الطفل، فقلت مضطربا: لا لا. لا أشرب.
- نعم، نعم؟ لا يمكن أن أشرب وحدى. عيب أن تتركنى أشرب وحيدة.
- إلا الخمر!
- أنسيتَ أنك مع حبيبتك؟ أنك فى برلين، تعيش عصرك. خذ كأسك، وارفعه وقل: فى صحة الحب.
- لا يمكن. إلا الخمر. هذه أم الكبائر!
- عم تتكلم يا حبيبى؟ نحن الآن خارج الزمان والمكان. نحن الآن فى عالم الحب، وعالم الحب بلا كبائر. اشرب، وسأتحمل أنا الذنب عنك.
رجوتها ألا تهدم كل شيء، فادعت أنها لا تهدمنى، بل أنها تعيد بنائى على شاكلة عصرية، على ما يجب أن أكون عليه، أنها الأخبر بالحياة العصرية، فلأترك لها إذا هذه المسألة، أنها لا يمكن أن تشرب وحدها. أن تشرب وحدك يعنى أنك تهرب من الدنيا. أن تشرب مع حبيبك يعنى أنك تشرب عسل الدنيا الصافى. كررتُ رفض الخمر، فأعربت أن هذا يعذبها عذابا لا تستحقه. تريد أن تأخذنى إلى المتعة، وأنا أصر على عذابها. ثم طلبت أن أشرب ولو جرعة واحدة من أجل حبنا، من أجلها. أمسكتْ بالكأس وقربتْه من شفتى ومسحت رأسى بحنان، ثم قبلتنى. لمست الكأس بشفتى مرتعشا كأنى أقرب السم، وهممت بالبصق. جلست على فخذى وطوقتنى بذراع، والكأس فى اليد الأخرى وقالت: جرعة أخرى من أجلي.
ثم جرعة ثالثة ورابعة. تلح بشدة، وبإصرار عجيب، وملأت الكأس ثانية، وثالثة. لعبت الخمر سريعا برأسى، وأحسست أن نيرانا تأكل أحشائى أسرعت إلى الحمام أفرغ ما فى بطنى. كانت إلى جانبى، وهدأتْ من روعى. جلست تلاطفنى، وقدمت إلىَّ كوبا من اللبن. هدأت أمعائى. انقضت على شفتى وأمعنت فى تقبيلى، بادلتها حرارة بحرارة. أطفأت الأضواء ثم أشعلت ضوء أباجورة بلون النيران الحامية!
* * *
أصبح الصباح. استيقظت دينا نشطة، مرحة، سعيدة. أخذت تقبلنى وتهدهدنى حتى استيقظت. الصداع يطحن رأسى، أبدو مريضا. بادرتنى قائلة: لا تنهض يا حبيبى. حالا سأحضر الإفطار.
أومأتُ برأسى موافقا، والوهن والحزن يحتلان أعمق أعماقى. يُسْمَع غناؤها وأصداء حركاتها النشطة فى المطبخ. تدور رأسي: ماذا فعلت يا سامى؟ ماذا حدث لك؟ بهذه السرعة يتهاوى بناؤك، تتوارى ثقافتك فزعة، ويهرب تدينك، تتبخر وصايا والديك، ويتوقف عمل دعائهما. جلساتك بين يدى الشيخ الطيب وأمام صبحى، صلواتك وصيامك طوال عمرك، قراءاتك المديدة فى الدين وأخلاقياته، حواراتك العديدة حول الدين، والأخلاق، ومواريث الشرق، قناعاتك الكاملة غير المنقوصة بدينك، وقيمه، وثقافته، وما رُبِّيتَ عليه من تقاليد راسخة؟ ما الفرق بينك وبين زكى وأمثاله؟ مسألة وقت فقط وتجلس مثلهم فى غرفة ظلماء تجرع سموم الكحول، وتلعن الظروف والأيام، وتبكى على الماضى إن تذكرته. وانهمرتُ فى بكاء مرير حاولت أن يكون صامتا، ولم أستطع. ارتفع نحيبى فى صورة هيستيرية.
هُرِعَتْ إلىَّ دينا هلعة: ما بك يا حبيبى؟ أأتصل بطبيب الطواريء أم أصحبك إلى المستشفى؟
استمر بكائى الانتحارى. تحاول جاهدة معرفة السبب. أخذتنى إلى صدرها، تسكب حنانها، تهديء من روعى، تسألنى برقة عن السبب.
- أنتِ هدمتِنى، حطمتِ حياتي.
ابتسمت ابتسامة ماكرة، واطمأنت تماما، وصبتْ على قبلاتها وأحضانها وقالت: اهدأ يا طفلى العزيز. لا بأس يا صغيرى. قم إلى الحمام وسينتهى كل شيء. لن أذهب اليوم إلى عملى. سأظل بجانبك. سأعتذر لصاحبة العمل، وإن لم تقبل اعتذارى فلتفصلنى. أنت أهم شيء فى حياتى. لابد أن تعتذر اليوم عن العمل، لن أتركك تذهب أبدا على حالتك.
انسحبتُ إلى الحمام أتحاشى النظر إلى وجهها. انسابت دموعى صامتة، وسرى الإعياء مصحوبا بالبرودة إلى أطرافى، والصداع يطرق بمطارقه القاسية رأسى. تركتُ الماء ينساب كثيرا على أجزائى. أأتطهر الآن بهذا الماء؟ أيمكن أن أصلى فى هذا المسكن بعد تطهرى؟ كيف ستكون وقفتى أمام الله فى صلاتى؟ خرجت من الحمام إلى سريرى. خجلت أن أصلي".
وكان لا بد أن يسقط سامى. لقد كانت دينا ذات جمال وفتنة وسحر لا يمكن الوقوف فى وجهه. لا بل كانت هى الجمال والفتنة والسحر مجسدا فى امرأة. لقد كانت إعصارا بل تسوناميا جرف سامى جرفا، والحمد لله أنه لم يهلك وبقى حيا. نعم لقد كان سامى متدينا، لكن من الواضح أن تدينه لم يكن يصلح للمجتمع البرلينى رغم أنه قد ساعده على الاحتفاظ بعفته فى مصر. لكن أين نحن من مصر؟ وأين مصر منا هنا؟ وكانت دينا، رغم عربيتها وانتمائها للإسلام، غربية الشخصية والميول والمبادئ والتصرفات والاعتقادات والمثل والقيم، ولم يكن هناك أى فرق عندها بين العيش مع سامى بزواج أو بغير زواج. لقد بدأت علاقتهما خارج إطار الزواج، وحين لذعه ضميره وأبدى لها سخطه على نفسه لانجرافه إلى ما انجرف إليه اقترحت عليه الزواج، لا لاقتناعها بأن الزواج هو المفروض أو حتى بأنه أفضل من العلاقة الحرة بل لأن هذا من شأنه أن يريح سامى ويبقيه لها. وهذا كل ما هنالك.
وهى من ناحيتها لم يك يهمهما إسلام أو غيره، بل كل ما يهمها أن تعيش حياتها بالطول والعرض وتستمتع بكل لحظة من لحظاتها منتهزة فرصة أنها شابة وجميلة وأنيقة ولبقة ومرنة وأنها مرام كثير من الرجال وأنها صاحبة مهنة تدر عليها ما يكفل لها العيش المطمئن وزيادة، ولها شقة جميلة واسعة بديعة تحتوى على كل ما يحتاج إليه الإنسان العصرى، وأنها فى برلين حيث بمستطاع كل إنسان أن يفعل ما يحلو له دون أن يجد من ينكر عليه بل دون أن يعلق أحد على تصرفه بكلمة. فماذا تريد أكثر من ذلك؟ ليس أمامها سوى الانغماس فى المتعة والسعادة قبل أن يمر الزمن وتكبر وتشيخ وتضيع منها الفرصة.
يقول سامى: "أخذتُ أجلد ذاتى. كأنى أجلد جثة هامدة! أتقوقع، ويزداد تقوقعى. بدأت أزهد فى كل شيء: فى العمل، فى الخروج، فى المأكل والمشرب، حتى فى فتنة دينا. أزهد فى أنفاس الحياة. تمر أيامى كضيف ثقيل أود لو يتزحزح. لكنى أخشى من فراغ رهيب، فراغ دينا. أجد نفسى بين قطبى رحى يدوران فيدمرانى: ثقافتى المتجذرة، والفتنة الساحقة! كأنى أدفن رأسى فقط فى الرمال ظن الهرب.
بالطبع تقرأ دينا ما يدور فى أعماقى. تلحظ كل تغير يطرأ على وجهى، وكل جديد فى سلوكى. أتحفت مائدتها بالطعام والشراب، واستحضرت ابتسامة ساحرة. أطعمتنى، وسقتنى بيدها عطفا وحنانا، وربما شفقة. جلستْ على فخذى، تداعب شعرى بحنان أم، وطفقتْ بصوتها الآسر محملا بعبق أنوثتها الفواح تحاول غسل همومي:
- لا تعذب نفسك هكذا. أشعر بعذابك، وأتعذب من أجلك. أحاول إسعادك بكل الطرق. واضح أنى فشلت، وهذا أكبر فشل فى حياتى. لماذا لا تفتح لى قلبك، وأنا أعطيتك قلبى، نفسى، وكل شيء؟ أفديك بروحى راضية، لا أتأخر لحظة. دعنى أشاركك همومك، أحملها عنك، أو أحملها معك.
- نعيش معا بلا زواج؟ ضميرى يعذبنى. نحن مختلفان تماما. قبل أن ألقاك وطيلة عمرى كنت متمسكا بدينى. أعيش معك كمن لا دين له؟ أنتِ غربية حتى النخاع، وأنا شرقى من أصابع قدمى حتى رأسي.
- لا تعرف شيئا عنى، لم تعرف حكايتى. أنا أتعس مما تتخيل. قُتِل أبى أمامى وأنا طفلة صغيرة. اغتالته رصاصات الغدر فى بيروت، وماتت أمى حزنا عليه بعد عام واحد. رُبِّيتُ كقطط الشوارع. أخدم فى بيوت من لا يرحمون، أعانى من ذئاب الرجال، وطيش الصبية وغيرة النساء فى بيوت المخدومين. أطرد من بيت إلى بيت، كل بيت على شاكلة سابقه ولاحقه، حتى كرهت حياتى وفكرت فى الانتحار لأكثر من مرة، إلى أن التقطنى من تزوجنى، أحرقه الله. أتى بى إلى هنا. عاملنى ككومة من لحم أبيض لا مشاعر لها ولا حقوق. كل لقاء بينى وبينه كان بمثابة اغتصاب لى، أبكى بعده دما. ضربنى بلا رحمة. حبسنى داخل جدران أربعة. يغلق الباب بالمفتاح إلى أن يعود، ولا يعود إلا آخر الليل. اقتنصت أول فرصة للهروب لا أدرى إلى أين، أجرى فى شوارع برلين وأبكى كالمجنونة. الموت أفضل من عودتى إليه، وبرد برلين أرحم ألف مرة من دفء سجنه. أخذتنى الشرطة الألمانية، عرفوا حكايتى من خلال مترجم عربى، أحضروه، وقفوا إلى جانبى. أسكنونى بغرفة خاصة، وتولت الهيئات المختصة أمر تعليمى اللغة، ثم تدريبى على الحرفة التى اخترتُها. أبى كان مسلما سنيا: هذا ما هو مكتوب فى أوراقه رحمه الله، وأمى كذلك، والملعون الذى تزوجنى، لكن ما علمنى أحد شيئا من الدين، ولا ربيت فى أسرة مستقرة ألتقط عاداتها وتقاليدها. أصحاب الفضل على بحق هم الألمان، بمعاملتهم معى شعرت بأنى إنسانة، وبتعليمهم لى أصبح لى كيان. كل الرجال الموكلون بمساعدتى لم أر منهم نظرة الذئاب، وكنت أراها فى عين كل مخدوم فى بيروت. أشعر بالامتنان لهذا البلد.
حينما رأيتك تصورت أنك الفارس الذى سيعبر بى بر الأمان. أحببتك كما لم أحب أحدا من قبلك، ولا أتصور أبدا أن أحب أحدا بعدك، فإذا بك تهرب منى. أصعب ما يمكن تخيله أن تكون أنت ذئبا كالذئاب. قلت أنى غربية حتى النخاع. هذا صحيح، لكن من علمنى شيئا له الحق أن يسألنى. أنا عجينة طيعة بين يديك. شَكِّلْنى كما تريد. عشت معى أيها الشرقى بلا زواج. عشت معى كأنك غربى، وتلومنى ولا تلوم نفسك؟
لم تكن حكايتها على قلبى بردا وسلاما، بل أثارت شفقتى عليها، وتعاطفى معها، وأسفى على ما حدث لها، وأيضا مشاعر الحذر، فقلت أتحسس كلماتى.
- أعتبر حياتى معك بلا زواج أكبر خطيئة فى حياتى. سامحينى وحاولى أن تفهمينى. شعورى بهذه الخطيئة ينهشنى كما ترين. أما أنتِ فلا تشعرين بأى ذنب، هذا هو الفرق بينى وبينك. الفرق الذى يمكن أن يساعدنى على تجاوز الخطيئة. تعرفين أيضا أنه من الصعب أن يرفض الرجل امرأة تهبه نفسها، لكن سهل جدا أن ترفض المرأة رجلا يرغبها.
- أتحسبنى داعرة أهب نفسى لأى رجل؟
- لم أتلفظ بذلك، لكنى أقول بأنك غربية، ولم تنكرى ذلك. والغربية تهب نفسها لأى رجل ترغبه ولا تعتبر ذلك نقيصة أو عيبا.
- رغم ذلك تجرون وراء الأوروبيات، وتغفرون لهن. وقد تنسون كرامتكم بغية الزواج من إحداهن. اعتبرنى أوروبية أحببتك.
- ليس الأمر بهذه البساطة. على الأقل بالنسبة لي.
- إشرح لى ما فى الأمر من تعقيد!
وجدت من الأفضل أن يقف الحديث عند هذا الحد. رأيت الدموع فى عينيها. أحسبها دموعا صادقة. سقط بعضها فى أعماقى. قبلتها قبلات خفيفة. طمأنتها ووعدتها أنى لن أتخذ قرارا منفصلا، سنتداول أمورنا معا، يدلى كل منا بدلوه، وأن القرار سيكون قرارنا معا".













لقد تربت دينا على القيم والمبادئ الغربية، وهى تَدِين لتلك الحضارة بأنها انتشلتها من يتمها وشقائها مع زوجها القاسى المتحجر القلب ونشأتها وعلمتها اللغة، وعلمتها مع اللغة مهنة تغل لها دخلا كريما. وهى لم تر منذ طفولتها الأولى شيئا إسلاميا يجعلها تتمسك بدينها. لقد كان الإسلام بالنسبة لها مجرد كلمة. تنتمى إليه وإلى أهل السنة، لكن على مستوى الكلام ليس غير. وكانت تشعر بالفرص التى أتاحتها لها الدنيا من جمال وأناقة وتحرر ودخل مضمون أكثر من الكافى واهتمام شديد من الرجال بها وترامٍ عليها، ولم يكن فى خاطرها يوما أن تهمل أيا من تلك الفرص لأنها تعرف أن ذلك كله سوف يزول عندما يحين الحين، وهى لا تؤمن إلا بالدنيا، فلا آخرة عندها ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب.
وحين يشدد سامى بعد الاقتران بها على أنهما يجب أن يتركا الخمر تبدى ترحيبها بذلك على أن يكسرا هذه القاعدة فى عطلة الأسبوع فقط غير واجدة فى ذلك شيئا، ومستغربة أن يضيق عفو الله عن شرب الخمر يوما فى الأسبوع، وهى التى تركتها من أجله طوال الأيام الستة الأخرى. فهكذا تفهم الدين. وكانت ترى أن الله لم يشأ لها بعدُ أن تتحجب حسبما يريدها سامى، وإن لم تستطع مع هذا أن تخفى نفورها من النسوة المتدينات اللاتى يذهبن إلى المسجد فى خيام قبيحة مترهلات غبيات كما تصفهن. ومن البَيِّن أن الدين عندها ليس أكثر من انتماء لفظى لا يلزمها بشىء تقريبا، فضلا عن أنها لم تكن تفهم كيف يعاقبها الله على عدم الصلاة وعدم التحجب أو على علاقتها بسامى خارج الزواج ما دامت لا تؤذى أحدا بسلوكها هذا الذى تجد فيه المتعة والسعادة.
ولنقرأ هذا الحوار العجيب بين سامى ودينا حين قرر أن تنتقل علاقتهما من الحرام إلى الحلال، ففيه أشياء كثيرة مما يلقى ضوءا قويا على شخصيتها من جهة، وعلى ضعف سامى وتراميه عليها وانسحاقه أمام جبروت فتنتها من جهة أخرى:
"ذهبتُ إلى دينا محملا بالأثقال، مشتت الأفكار، زائغ النظرات. ألقيت بنفسى على أحد المقاعد صامتا جامدا. كثيرا ما عدت إليها مهدوما كسيرا. يبدو أن حالتى هذه المرة كانت الأكثر سوءا. أسرعتْ إلى لتعرف ما الخَطْب، أوضحتُ لها أنها سحابة سوداء تعاود أفقى حينا بعد حين لا تلبث أن تزول، فقالت: إن لم تشاركنى همومك فمن تشارك؟لا تكذب على، ولا تُخْفِ عنى شيئا. بربك صارحنى أيا كان الأمر!
أمام إلحاحها المستميت وإصرارها الصلب قلت: ذهبت إلى الشيخ أستشيره فى الزواج منك، فرفض بشدة.
سقطت على تحتضننى وتمطرنى بالقبلات، تطير بها الفرحة. أخذتنى الدهشة. هزتنى بسعادة قائلة: الآن تأكدت أنك تحبنى. ما حاجتك لاستشارة مثل هذا الانسان المعقد؟ مثله لا يعرف الحب. من يفهمنا، ويفهم أمورنا أكثر منا؟ طلبت منك الزواج قبلا فهربت. على ما تحب. المهم أن نكون معا، وها نحن معا ما يقرب من العام ونحن أسعد الناس. أعتبر نفسى زوجة لك. ماذا ينقصنا؟ عقد الزواج؟ تلك الورقة التى لا قيمة لها؟ يعرف كل الخلق أننا معا. نحن زوجان حقيقيان، زواج عرفى للمجتمع الذى نحن فيه، أشبه بالزواج العرفى فى أوطاننا. إن كان يريحك عقد زواج رسمى فافعل ما تشاء، أو لا تفعل. كما تهوى. ما يهمنى أن أكون معك
- لكن يا دينا لى بعض الشروط قبل عقد زواجنا.
- موافقة على كل شيء مسبقا. لا داعى لذكر الشروط. اشترط فى نفسك ما تشترط. موافقة. فقد وكلتك عنى توكيلا شاملا .
- اسمعينى: يجب أن نتفق لتكون لنا مرجعية. أريد ألا ننجب أطفالا هنا وأن نعمل معا جاهدين ثم نعود معا لنكمل حياتنا فى مصر، نعيش هناك كما يعيش أبى وأمى حياة بسيطة هادئة سعيدة. يجب أن تصلين وتصومين، وتمتنعين عن الخمر، وترتدين الحجاب.
- موافقة ومتشوقة. أعشق حياة البسطاء، عايشتهم على أطراف بيروت فى بيوت من الصفيح. رغم فقرهم يعرفون طعم السعادة الحقيقية خلال أسر متماسكة يربطها الحب. كم أشتاق لرؤية والديك، ولهذه الحياة البسيطة.
- وأرجو أن تصلى، ولنترك الخمر.
- قلت لك أنى موافقة، ولنشرب الخمر فقط فى نهاية الأسبوع وفى المناسبات السعيدة.
- لا، لنتركه كلية.
- لا تتعجل. العالم لم يخلق فى يوم واحد. اطمئن. سيكون كل شيء على ما تحب، لكن "واحدة واحدة" كما تقولون.
- دينا، قررت الزواج منك، وليكن ما يكون!"(ص99- 100).
والسؤال هو: هل كانت دينا تحب سامى؟ الواقع أن شواهد الحال تقول بأنها كانت، على الأقل: قبل أن تحتدم الخلافات بينهما ويتشاتما ويضربها، تحبه حبا شديدا، وكان كل مناها أن تعيش معه سواء بالزواج أو بغير زواج، وأعلنت مرارا أنها ترضى بشروطه، وإن لم تكن فكرة الشروط واضحة فى ذهنها، كما رأينا، مثلما هى فى ذهنه. وهذا راجع إلى فكرتها عن الدين. إنها ترى مثلا أنه ما دامت لا تؤذى أحدا فلا ضير من فعل ما تريد وأنها متى ما توقفت عن شرب الخمر طوال الأسبوع فما الذى يضر إذا ما تخففت من هذا الامتناع فى آخره؟ لقد امتنعت من أجل الله طوال أيام الأسبوع، ولن تضيق رحمته عن شربها الخمر فى آخره لقاء ذلك. أما الملابس فإنها تظهر مفاتنها، وهذه المفاتن نعمة أنعم بها الله عليها، فلِمَ التحجب وإخفاء الجمال والأناقة والتحول إلى خيمة منفرة؟ هكذا كانت تفكر، وهكذا كانت تفهم الدين وأوامره ونواهيه. والواقع أن شيئا من هذا لم يكن ليشغل بالها ولو لثوانٍ لولا أن سامى قد فتح الموضوع معها وأفهمها أنه يريدها أن تراعيه.
ومع هذا كان سامى بعد الزواج يضبطها وقد خرجت على ما اتفقا عليه، فيشد شعره، فتستغرب هى طبيعة رد فعله، وتشرح له أنها لم تكن تظن أن هذا داخل فى الأمر الذى أمرها بمراعاته: فمثلا يجدها فى إحدى المرات تجلس فى غيابه مع رجل ألمانى فى قهوشية، فيكاد يجن، لكنها تشرح له أنه صاحب عمل يريدها أن تشتغل عنده بمرتب أضخم مما تحصل عليه فى عملها الحالى. ومرة أخرى يجدها ترقص فى غيابه مع أحد الشبان، فيهينها أمام الناس، فتنصاع له وتخرج معه وهى تنظر نحو الشاب كأنها تخفف عنه ما حدث، فيشتعل سامى غيرة وغيظا ويصفعها، إلا أنها تفهمه أن الشاب مجرد ابن لإحدى صديقاتها، وأنه يحتاج إلى من يعطف عليه، وهذا كل ما هنالك. ويفكر سامى فى الأمر على ضوء ما تقوله له دينا، فيجد فعلا أن شرحها للأمر مقبول ويمكن أن يكون صحيحا.
ومع هذا لم تفكر يوما فى هجره أو طرده من شقتها. بل إنها حين حملت منه ورأى هو أنها قد خرجت على اتفاقهما بأنها لا ينبغى أن تحمل إلا برضاه وعلمه، وصار يطالبها بإجهاض نفسها، رفضت وظلت تفهمه أنها حريصة على استبقاء الجنين لأنه سيكون ابنه، وسيكون أمارة حبهما وارتباطهما، وأنها لولا حبها له لفرطت فيه وأسقطته. وحين ضربها ذات مساء بالبيت واستدعت له الشرطة عادت فقالت لرجال البوليس إن الأمر لا يتجاوز أن يكون سوء تفاهم. حتى حين تعقدت الأمور وبان أنها النهاية أعطته مهلة شهر إن عاد خلالها فلسوف تفتح له الباب ليعودا زوجين كما كانا، وإلا فسوف تكون النهاية، وليذهب كل منهما فى سبيله. ولو كانت تكرهه لما فتحت له الباب لمدة شهر يأخذ قراره خلاله على راحته.
كذلك لو لم تكن تحبه لأجهضت نفسها وعاشت معه للمتعة واللذة والشهوة ليس إلا، وليذهب الحمل إلى الجحيم. والعجيب أنها بعد الولادة لم تشأ أن ترضع الطفل من لبنها خوفا على ثدييها من الترهل. وعبثا حاول سامى إقناعها بأن الرضاعة الطبيعية أنجع للطفل والأم، إذ كانت كعادتها كلما احتدم بينهما الخلاف فى أسلوب العيش الذى يريد هو أن يلزمها به ولا ترى هى سببا لالتزامه أجابته بأنها تفعل كما يفعل الألمان المتحضرون، وأنه لو كان ما تفعله خطأ ما فعله الألمان. وهنا يثور الخلاف ويحتدم: هو يريدها أن تعيش كما يعيش الناس فى بلاد المسلمين، وهى ترى أن الغربيين هم المثال الأعلى فى التصرف والسلوك.
صحيح أنها فى الفترة الأخيرة من علاقتهما قبل الانفصال والطلاق كانت تخلو بنفسها وهاتِفها وتتحدث من خلاله فى غرفتها التى تغلقها عليها جيدا بصوت خفيض بينما هو بالخارج ينتظر على جمر اللهيب وقد ركبته عفاريت الدنيا كلها، فيأخذ الهاتف منها بعد خروجها فيجد أنها قد مسحت الرقم، فيزداد غضبا واشتعالا فى حين تبدى هى استهجانها لحرصه على التجسس على حياتها الخاصة. لقد كان يظن أنها تتصل بعشاقها. لكنه لم يستطع إثبات ذلك. وقد ذكر أكثر من مرة أنها كانت تدفن نفسها فى الخمر حين ينفجر الخلاف بينهما دون أن يكون هناك ما يؤذن بأن ثمة نهاية لهذا كله. فلو كانت تخونه ما لجأت إلى الخمر. كما أنه من الممكن أن تكون قد لجأت إلى تلك الحيل كى تشعل غيرته. الواقع أن الرواية قد انتهت دون أن يصل الزوج المسكين إلى بر اليقين. ولهذا ظل حتى بعد عودته إلى مصر يتخيلها أحيانا وقد عادت إليه وفى يدها ابنهما وعاشت معه فى القرية كما تعيش النساء المصريات فى ريف مصر.
لكن يبقى سؤال لم أستطع أن أجد له إجابة. وهو: لماذا وقعت فى حبه فى المقام الأول، وهى الفتاة الجميلة الأنيقة الجريئة التى تعشق أسلوب الحياة الغربية ولا تبصر فيه أدنى عيب وتراه المثال الأعلى لأساليب العيش، والتى لو أرادت للهث وراءها كثير من الرجال؟ لقد سبق أن سمعناها تؤكد له أنه هو الرجل الذى شعرت أنه سيسعدها وأن سُمْرَته العربية قد أعجبتها. لكن العرب السمر فى برلين كثيرون، فلماذا هذا بالذات؟ يقينا لم يكن هو أول من مر عليها منهم. أما نحن فكنا نريد أن نعرف السبب الذى أوقعها فعلا فى غرامه من أول لقاء بل من أول نظرة حسبما شاهدنا. لكن الرواية للأسف لم تتطرق إلى أغوار هذا الموضوع.
ولقد كان دائما فى غمرة غيظه منها يسميها: الحرباء. بيد أننى لا أستطيع مشاركته هذه التسمية، إذ لم ألاحظ أنها كانت تتلاعب به أو تريد منه شيئا لا يمكنها الحصول عليه من خلال رجل آخر. كما أنها، كما قلت، كانت تحبه فعلا وتريد العيش معه على أى نحو من الأنحاء ما عدا أن تلتزم بأوامر الدين حسب فهمه للدين. لكنها، لما تكرر منه شتمها وضربها وإهانتها واتهامها بالخيانة، عالنته بالتحدى وصارت تسخر منه ومن فهمه للحياة والدين وتعبر له صراحة عن اشمئزازها من التحجب وما يتعلق به. ثم تطور الأمر إلى أن أوضحت له أنها لن تتغير، فإما قَبِلها كما هى وإما تركها ومضى لِطِيَّته وترك لها ابنه. وهو ما انتهت إليه الأمور، إذ إنه حين فاض به الكيل ولم ير معها بصيصا للأمل ألقى عليها كلمة الطلاق وانطلق ليعود بعدها إلى مصر، لكن دون أن ينساها أو يفقد الأمل فى أن تأتى يوما إليه. صحيح أن المقدمات لم تكن تبشر بأن شيئا من هذا يمكن أن يحدث، لكن هذه الخيالات من ناحية أخرى تشير إلى مدى تمكنها من قلبه وتغلغل حبه لها وهيامه بها فى أطواء كيانه كله.













وهناك أمر هام يميز هذه الرواية، ألا وهو بروز الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فيها. لقد قرأت مرة لعلاء الدين وحيد، فيما أذكر، أن ثم روائيين يصلّون لكنهم حريصون على ألا يظهر الإسلام فى رواياتهم كيلا يتهموا بالرجعية. أما السعيد نجم فلم يضع هذا الاعتبار فى ذهنه كما هو واضح. إن الإسلام ونصوصه ومبادئه وأوامره ونواهيه حاضر بقوة فى رواية "ربما يأتى القمر". والبطل، رغم سقوطه فى الحرام وممارسته الزنا وشرب الخمر، يظل فى أعماقه مشغولا بالإسلام حريصا على أن يعود إليه مهما ارتكس وانتكس، وتظل فكرة الالتزام بالشرع هاجسا قويا فى نفسه. إنه، رغم ممارسته الجنس مع دينا فى البداية دون زواج ورغم معاقرته معها أم الخبائث، يظل يلهج بأن هذا وذاك حرام، ويظل ضميره يلذعه ويزعجه ولا يجعله يهنأ بما توفره له علاقته بها من لذة. ولست أفهم ولا أقبل تجاهل الروائى المسلم المتمسك بدينه هذا الدين فى أعماله، فمثل هذا التجاهل لون من الكذب الإبداعى، إذ المفروض أن يتناول الكاتب الصادق فى إبداعاته القضايا التى تشغله وتؤرق ضميره، وإلا استحال أدبه افتعالا وتصنعا وصار لا معنى له ولا وظيفة يؤديها بل ملء صفحات، والسلام.
لقد كان الكتاب اليساريون مثلا يتناولون فى رواياتهم قيمهم الاشتراكية ويدعون إليها، وجاء يوم على النقد القصصى كان معظم من يمارسونه من اليساريين، وكانت كتاباتهم النقدية أشبه بالمانيفوستوهات السياسية. بل كان كثيرٌ منها دعاياتٍ فِجَّةً لا تلطُّف فيها ولا فن ولا نقد، بل شعارات زاعقة حتى لقد سخر بعضهم من تلك الكتابات قائلا إنهم لا يريدون أدبا هادفا بل أدبا هاتفا. أى أنهم يريدون الصراخ والزعيق خدمة للشيوعية والاشتراكية. وكان هناك صراع عالمى فى ميدان الأدب والنقد بين الفكر اليسارى والفكر الليبرالى، وكان هذا الصراع جزءا من الحرب الباردة بين الكتلتين قبل انهيار الاتحاد السوفييتى واختفاء الكتلة الشيوعية.
ولا يمكن أن ننسى مثلا روايتى جورج أورويل اللتين وضعهما محاربة للشيوعية وتشنيعا عليها: "Animal Farm" و"1984". وفى مصر كان هناك مثلا عصام الدين حفنى ناصف، الذى وضع فى أواخر ثلاثينات القرن المنصرم رواية يسارية عنيفة اسمها: "عاصفة فوق مصر"، أو عبد الرحمن الشرقاوى وروايتيه: "الأرض" و"الفلاح"، وكانت ثانيتهما زاعقة ومتكلَّفة تكلفا شديدا أفسد ما فيها من فن بحيث إنك تشعر طوال الوقت أن الفلاحَ بطلَ الرواية لا يتحرك ولا يفكر من تلقاء ذاته بل بخيوط أمسك بها الكاتب أمام عيوننا وأخذ يشد أعضاءه بها محركا إياها على النحو الذى يريد ومنطقا لسانه بالكلام الذى يضعه فى فمه دون أية محاولة من جانبه لإخفاء خيوطه ويده. وظهرت منذ سنوات فى مصر طبعة لرواية "وليمة لأعشاب البحر"، التى هاجم فيها صاحبها حيدر حيدر الإسلام ونبيه وشريعته ودعا إلى وجوب تحرر الفتاة العربية من القيم الرجعية المتمثلة فى العفة والخشية من الله والحرص على طهارة عِرْضها وشرف أهلها، وسخر من الله سبحانه.
كما لا نستطيع تجاهل ذكر الرواية الأمريكية: "The Jewel of Medina"، التى ظهرت منذ عشر سنوات تقريبا عن عائشة زوج النبى عليه السلام واتهمت أم المؤمنين بالخيانة والشغب والميل إلى التمرد وافترت عليها الأكاذيب وزيفت التاريخ تزييفا دنسا وملأت عملها بأحداث ما أنزل الله بها من سلطان، والتى ألفتها الكاتبة والصحفية والسياسية الأمريكية شيرى جونز.
فما الذى يخشاه الروائى المسلم فيمنعه من وضع روايات تعكس رؤيته للعالم وتجسد ما يعتنقه من مبادئ ومثل ما دامت لا تخرج على أصول الفن وتستحيل هتافا صارخا مصما للآذان مزعجا للأذهان بدلا من أن تكون نورا يبدد ظلمات الحيارى ويهديهم صراط الله المستقيم؟ ولا أستطيع أن أنسى فى هذا السياق الرواية الرائعة التى وضعها على أحمد باكثير ردا على انتشار الدعوة الشيوعية فى البلاد الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى، وهى رواية "الثائر الأحمر"، التى تناولت تاريخ القرامطة وخروجهم على الإسلام ومسؤولية الأوضاع السيئة التى كانت سائدة فى بلاد المسلمين آنذاك عن هذا الانتشار.
















هذا، وتعالج رواية "ربما يأتى القمر" قضية العلاقة بين الإسلام والغرب، وإن دارت المعالجة فى نطاق العلاقة بين سامى، وهو شاب مسلم هاجر إلى ألمانيا للعمل هناك وجمع بعض المال الذى يساعد به أهله فى مصر ويمكّنه حين العودة إلى البلاد من بدء عمل يدر عليه دخلا يؤمِّن له حياة طيبة، وبين دينا الشابة اللبنانية المسلمة التى تعيش منذ طفولتها فى برلين وتشربت الحياة الغربية تشربا تاما واقتنعت بكل شىء فيها ولا تستطيع أن ترى فيها عيبا، ولكنها مع هذا تقع فى غرام سامى وتعمل على إرضائه حتى لا تفقده، وإن لم تكن على استعداد للتحجب والصلاة كما يريد منها رغم أنها لم تقطع فى البداية أمله فى أن تستجيب يوما لهذا. ومع ذلك فقد انتهى بها الأمر إلى أن أعلنت دون مواربة لسامى، حين كثر الجدال العنيف والتشاتم الحاد بينهما حول هذه الأمور وضربها أكثر من مرة، أنها لن تنفذ شيئا مما يريده منها وأنها مقتنعة بأسلوب الحياة الغربية تمام الاقتناع، وأنه إن قبلها على ما هى عليه فبها ونعمت، ويمكنهما آنئذ أن يعيشا معا سعيدين، أما لو تمسك بما فى ذهنه فله طريقه، ولها طريقها. وأعطته مهلة شهر يقلب فيها الأمر فى دماغه على راحته ويتخذ قراره فى هدوء وحرية كاملة.
فالمواجهة فى الرواية، كما نرى، ليست بين الإسلام والغرب، إذ لم يحدث شىء ينغص على سامى حياته أو إقامته فى ألمانيا من جانب أى غربى. بل المشكلة كلها بينه وبين دينا العربية المسلمة، التى تتعصب لنمط الحياة الغربية تعصبا عنيفا ولا تستطيع أن تبصر فيه عيبا أو تقتنع أن هناك نمطا آخر يمكنه أن يقدم ما يوفره من صحة وراحة بال ومتعة وسعادة. إذن فالمواجهة ليست بين الإسلام والغرب، بل بين لونين من فهم الإسلام وموقفيهما من الغرب: فهم سامى، وفهم دينا.
ودينا فتاة متغربة متحررة، لكن لا ثقافة تُذْكَر عندها ولا اهتمام بشىء سوى جمالها وأناقتها وشعورها باستقلاليتها، ولا يشغلها دين ولا عقيدة ولا شىء من ذلك، بل كل ما يشغلها هو أن تعيش حياتها بلذة واستمتاع ودون أية منغصات أو مزعجات. ولجسدها عندها اعتبار كبير حتى إنها لتمتنع عن إرضاع ابنها من صدرها مفضلة أن تشترى له لبنا صناعيا خوفا على ثديها من الترهل والتغضن. ولا أظن الإسلام يوجب على الأم إرضاع ابنها رضاعة طبيعية، بل على الأب أن يدبر الأمر عند ذاك ولو من خلال استئجار مرضعة للطفل. صحيح أن الأطباء يوصون بالرضاعة الطبيعية، والرضاعةُ الطبيعية أفضل فعلا من الناحية النفسية والبيولوجية، لكن لا ينبغى أن يتحول الأمر إلى إلزام رغم ما قرأته من أن الرضاعة الطبيعية تساعد أيضا فى حماية ثدى الأم من الإصابة بالسرطان. وهناك أزواج يؤثرون الرضاعة الصناعية أو استئجار مرضعة لأبنائهم رغبة فى أن تحتفظ زوجاتهم بنضارة أجسادهن ولا تترهل صدورهن حتى لا تتطلع عيونهم إلى غيرهن.
لكن إذا كانت دينا لا تهتم بالثقافة العميقة فإننا لم نلحظ لسامى اهتماما بها غير اعتيادى أيضا. لقد كان يقرأ القرآن ويصلى، وأشار إلى أنه حين ينفرد بغرفة خاصة به سوف يمكنه قراءة الكتب، لكنه لم يتوسع فى الكلام على هذا الجانب من حياته بما يفهم منه أن قراءته لم تكن واسعة ولا متعمقة. كما أن قراءته للقرآن هى فى الغالب مجرد قراءة صوتية ليس فيها تدبر عميق ولا محاولة للتغلغل فى أغواره. وهكذا فإن الدين عند سامى هو دين ضيق المجال.
إن تدين سامى هو تدين ناقص رغم ما يتصور المسلمون الآن بوجه عام أن مثل هذا التدين تدين سليم وأن صاحبه مسلم ملتزم، إذ الواقع أن الإسلام لا يظهر تميزه على غيره من الأديان إلا خارج نطاق العبادات الرسمية من صلاة وزكاة وصيام وحج. ذلك أن الأديان كلها تعرف العبادات الرسمية، لكن الإسلام وحده ينفرد بالحث على العلم والمعرفة وتشغيل العقل والتأمل فى الكون والحياة والمجتمعات والتاريخ، والإبداع فى كل المجالات والميادين. إلا أننا إذا ما استحضرنا ظروف سامى والأسباب التى حملته على الهجرة إلى ألمانيا فهمنا وضعه وعرفنا أنه مسلم عادى لا يتميز بشىء فى تدينه، بل يظن أن التدين الحقيقى ينحصر فى الحجاب والصلاة وما إلى ذلك. ونسى أن المسلمين فى المدن فى معظم البلاد العربية كانوا إلى وقت قريب متزوجين من نساء غير محجبات، إذ كانت النساء يلبسن المينى جيب والميكرو جيب مما لا يختلف عن ملابس النساء فى ألمانيا آنئذ، بل ربما عُدَّتْ ملابس النساء فى ألمانيا بالنسبة إليها أكثر احتشاما. ولم يكن أحد يشغل باله بلفت زوجته إلى وجوب تحجبها. بل كانت معظم النساء لا يصلين، وهو نفسه قد أشار إلى هذا (ص43). ورغم ذلك كانت الأمور بين الزوجين تمضى دون مشاكل.
وأغلب الظن أنه لو كان سامى فى مصر وعثر على فتاة غير محجبة أو لا تصلى وأراد تزوجها ما عَنَّى نفسه كثيرا بأن تلتزم فتاته بالحجاب والصلاة بهذا التشدد الذى أراد أن يأخذ به دينا. كما أن لكثير منا أقارب يشربون الخمر، ومع هذا لا يفكرون فى مقاطعتهم. لكننا، فيما لاحظت، ننهج مع الأجانب الذين يعتنقون الإسلام حديثا نهجا صارما. ولقد كانت دينا أجنبية عن الإسلام بمعنى من المعانى. ولم يشأ سامى أخذها بالتدريج بل أراد أن تغير أسلوب حياتها مرة واحدة. ومن ناحية أخرى لم تبد دينا حرصا واضحا على تغيير نمط حياتها الغربى تغييرا حقيقيا.
والغريب أنه قارف الحرام معها، ورغم ذلك لم يجد فى تشدده معها بعد ذلك أية غرابة. وكان منطقه أنه، وإن ساواها فى ارتكاب الحرام، كان فى أعماقه يشعر بالإثم، أما هى فلا، مع أن هذا يمكن أن يكون فى صالحها، إذ لم تكن تفهم الدين بالطريقة التى يفهمه بها، ومن ثم كان ينبغى أن يكون الأمر بالنسبة له أشد إلحاحا ما دام يؤمن بما لا تؤمن هى به، ولا ترى الأمر بنفس المنظار الذى كان ينظر هو من خلاله.
وإذا كانت هى تنظر إلى الزواج على أنه اثنان يعيشان معا ويعرف الناس من حولهما أنهما مرتبطان ارتباط الأزواج لكن بغير ورق فإن الزواج فى المجتعمات الإسلامية قديما كانت تنظر بنفس العين إلى الزواج. والمهم أن يكون هناك مهر ولو رمزيا. وعلى ذلك كان بمكنة سامى أن يؤجل وقوعه فى أحضان دينا إلى أن يعلنا ارتباطهما بالزواج على الملإ. ومن الواضح أنها كانت تحبه ولا تريد أن تفرط فيه حتى بعدما شعر بأن لهفته نحوها قد خفت قليلا. ولست أظنها كانت لتخونه لو أنه اطمأن إليها ووثق فيها، وبخاصة أنها يمكن أن تتركه دون خوف أو تعقيدات متى ما شعرت أنها لم تعد تحبه. إلا أن نظرتها إلى شرب الخمر كانت تخيفه.
ومع هذا كله أرانى بحاجة إلى أن أعيد ما قلته قبلا من أننى لا أوافقه على وجوب الهرب من وجه دينا وترك الجمل بما حمل لها. لقد كان ينبغى أن يبقى فى ألمانيا ويبدأ سبيلا جديدة ويضع فى ذهنه هذه المرة منذ البداية أن يبحث لنفسه عن فتاة من أهل البلاد مثلا تناسبه ويرى أنها تكفل له السعادة والطمأنينة، ويتزوجها ويأخذها بالتدريج ولا يفرض عليها أسلوب حياة مختلفا تمام الاختلاف فى الحال، ويبنى معها أسرة مسلمة تضاف إلى الأسر المسلمة فى تلك البلاد. أو إذا عثر على فتاة عربية مسلمة توافق مشاربه فليتوكل على الله ويقترن بها. أو إذا أمكنه الصبر حتى يعود إلى مصر فليصبر ويتزوج واحدة من بنات بلده بعد رجوعه إلى أرض الوطن. إننى لا أنتقد المؤلف بل أنتقد سامى لأن مثل سامى كثيرون. فهم لا يفهمون من الدين إلا ما فهمه هو، وعلى هذا لا يكسب الدين بهم مكسبا كبيرا.







ونأتى إلى بناء الرواية. وأول ما نفتح الرواية يطالعنا البطل وقد عاد إلى قريته بمصر وأخذ يستعيد ما وقع ويحاول أن يخرج منه بشىء. وقد استغرق هذا أربعة فصول بدءا من الصفحة الحادية عشرة، وهى أول شىء فى الرواية بعد مقدمتيها اللتين كتبهما د. جلال أمين ود. عزت الحاوى، إلى نهاية الصفحة السادسة والعشرين. وفى هذه الفصول الأربعة يسترجع سامى بطل الرواية ما وقع له فى برلين وتسبب أخيرا فى عودته إلى قريته، ويحاول الوصول إلى شىء يقينى بالنسبة إلى دينا دون جدوى ويقارن بين حكايته معها وبين حكايات من يعرفهم فى مصر، وينتهى من هذا كله إلى أن الشك فى سلوك دينا وأخلاقها هو الذى دفعه إلى تطليقها وتركها رغم أنه لا يستطيع أن يجزم بأنها كانت تخونه، إذ لم يحدث أن وضع يده على ما يدينها إدانة قاطعة لا لبس فيها، فقد كانت تحكى له الأمر فى كل مرة بما يبين أن شكوكه قد تكون فى غير موضعها. وهو نفسه يقول ذلك:
"كثيرا ما انتابتنى لحظات ضعف خطيرة تمنيت على أثرها الخلاص من الحياة كلها بالموت مرات ومرات. ما أبعد فكرة الانتحار عنى إلا الوازع الدينى تغذيه كلماتك.
حين سلطت على الغيرة أسلحتها الفتاكة أحالتنى إلى مجنون لا يستقر بى مكان ولا تسعنى أرض. لا أستطيع حتى الجلوس، وهرب منى النوم، وأخذت عيناى لون الدم، ودكت رأسى بمطارق الشكوك الثقيلة المتواصلة لا تعرف الرحمة. ربما كان عندى الحق بعضه أو كله، فكل تصرفات دينا كانت تكرس كل شك، لكن الشكوك أبدا لم تتحول إلى يقين. لو كان لدى اليقين لانتهت العذابات.
فى نوبة من نوبات الغيرة المجنونة التى اعترتنى حاولت دينا التخفيف عنى ومراجعتى ونصحى: غيرتك هذه يا حبيبى محض تخيلات، أوهام سببها الرئيس ثقافتك الشرقية التى تعنى اختلاء أى ذكر بأنثى نتيجتة الحتمية وقوع الجريمة المرعبة. يجب أن تفهم المجتمع الجديد الذى تعيش فيه وتعرف ثقافته. الأمر هنا مختلف تماما، وقد اختليتَ أنت بأكثر من أنثى خلال عملك، فهل وقع المحظور؟ ثق تماما أنه مهما راقب الرجل زوجته، وضيق عليها حتى كتم الأنفاس، أنها لو أرادت خيانته لكان لها ما أرادت. المسألة مسألة ثقة: أولا بالنفس، ثم بالطرف الآخر. إن لم يثق الرجل بزوجته فالأفضل لهما أن يتفرقا. أحبك يا مجنون. لا أريد رجلا غيرك. لو اختلى بى كل رجال العالم رجلا وراء رجل لما نال منى أحد شيئا" (ص16- 17).
ومن الواضح أنه كان لا يزال يحبها، كما كان يتخيل أحيانا أن فكرها قد تغير وأن رشدها قد عاد إليها ولحقت به فى مصر وعاشت معه فى القرية كأية امرأة ريفية حوله: "مَنْ تدانيك جمالا يا دينا فى قريتى كلها على اتساعها؟ كثيرا ما أضيق بالقرية كلها، ويلفنى القلق لفا، فأخرج إلى الحقول الخضراء محاولا استرجاع ما بينى وبينها. أتفقد أشجارا بعينها، وجداول ماء. ماء، وخضرة، ينقصها وجهك الحسن يا دينا، فتكتمل الصورة.
أتخيلك معى وسط هذه الروعة فيهيم القلب، ويثور الخيال، ثم أصطدم بالواقع الصلب فأفيق، ويتمكن الضيق، فأغادر المكان والقرية كلها ذاهبا بلا هدف محدد إلى مدينة المنصورة. أتجول شريدا فى شارعها الرئيس الشهير، أريد الخروج من حالتى. مئات الوجوه لحسناوات مثيلاتهن كن يزلزلن قلبى، ما بالهن اليوم لا يحركن فى نفسى شيئا؟
كأنك استأثرت بالجمال يا دينا رغما عن نساء مدينة اشتهرت بجمال قواريرها بين المدن المصرية. يأخذنى وجه من الوجوه الفاتنة فأجد فى القوام ما يعيب. يتصادف أن أرى من هى جميلة الوجه والقد، لكن تنقصها إشعاعات وجهك الحلو.
المقارنات دائما فى صالحك يا دينا. أصابنى زلزالك، وها هى توابعه: قلق معذب. لا تجد قدماى أرضا ثابتة، وأفكارى تذهب كل مذهب. لا تستقر ولا أجنى منها غير صداع عنيد يدك رأسى دكا، وأمنيات هشة أن أجد من تملأ الفراغات الشاسعة لافتقادك.
أخشى أن تعيش ذكراك ما حييتُ فتُحِيل حياتى إلى جحيم فوق قدرتى احتماله. ليتنى أستطيع أن أمحوك كلية من ذاكرتى. ليت كل لحظة قضيتها معك ما كانت أيتها الشيطانة الجميلة. كأنى ألتمس لك الأعذار يا دينا!" (ص19- 20).
وهو يخرج بما يلى من المقارنات التى يعقدها فى ذهنه بين حالته وحالات بعض من يعرفهم ممن تتلاعب بهم زوجاتهم بينما هم راضون بوضعهم البائس أو غافلون عما تصنعه زوجاتهم متصورين أنهن مثال الإخلاص والوفاء: "تستغرقنى تلك الصور متتابعة ومثيلاتها، وكأنى ألتمس لدينا الأعذار ومن طَرْفٍ خفى أدين نفسى، ثقافتى الريفية، وبنائى القروى، كأنى أحملها مسئولية هروبى من دينا وغربها، لكنى انتفضت واقفا كأنى أدافع عدوا. وتوارد الدم إلى رأسى حارا دفاقا:
لا لا. لست أنا السبب بل الشيطانة الناعمة العابثة النزقة التى لم تشرب ثقافة الشرق، ولم تعرف من ثقافة الغرب غير القشور والفاسد فيها والعطن. ليست لها هوية، فلا هى شرقية ولا هى غربية ولا هى متوسط حسابى بين الثقافتين.
ولعنتُ الظروف التى ألقت بها فى طريقى صخرة الصخور، ولمت نفسى الأمارة بالسوء. ضاق بى المكان والقرية، فهرعت إلى الحقول، لكنى لم أتخيل دينا قادمة بين الماء والخضرة، وما كانت أبدا مكملة الصورة الحلوة، ودعوت الله مخلصا أن تُمْسَح من ذهنى كل ذكرى لها: حلوة كانت أو مريرة، أن تخلص ذاكرتى تماما من كل ما يشير إلى رحلتى إلى الغرب. تمنيت أن أهب نصف عمرى مقابل أن أعود ذلك الشاب الذى كان قبل تلك الرحلة القاسية"(ص23- 24).
ثم تبدأ الرواية منذ اليوم السابق على سفره إلى ألمانيا، وتظل الأحداث تتلاحق إلى أن تنتهى حكايته مع دينا: عِشْقًا فزواجًا فشكوكًا فخلافًا فعراكًا فانفصالا فطلاقًا فعودةً إلى مصر. أى أن الرواية تأخذ شكلا دائريا: تبدأ من النهاية، ويحاول البطل أن يلقى نظرة شاملة على كل ما مر لعله يخرج بشىء من هذا الزلزال الذى أفسد حياته ودمرها، ثم يستعيد ما حدث منذ غادر قريته إلى أن عاد كرة أخرى إليها، فتتم الدائرة. وهذا البناء يذكرنا برواية "دعاء الكروان"، رغم أن أحداث "دعاء الكروان" لم تكن قد انتهت حين بدأت البطلة تستعيد بعض ما مر بها، بل كانت هناك بقية هامة لم تقع بعد، وهو ما أخذته عليها عند تحليلى لها فى كتابى: "فصول من النقد القصصى".
وقد شوقنا الراوى بكلامه وإشاراته فى بداية الرواية إلى معرفة ما حدث، لكنه مضى فى التشويق فاكتفى بكلام عام وإشارات شديدة الإيجاز وحكاياتٍ فَهِمْنا من السياق أنها حكايات مشابهة لحكايته، ولم ينس نفسه فأخذ يفلسف الأمور متحدثا عن القدر ودوره فى أمور الزواج، حتى إذا ما اطمأن إلى أن القراء قد طابُوا واستوَوْا قال فى نفسه: هذا يكفى، ولنبدأ على بركة الله فى حكاية روايتى. وقد كان. ثم شرع يقص علينا ما قابله فى برلين أول وصوله، فتكلم عن بعض المصريين هناك وقص شيئا من حياة كل منهم بحيث أعطانا صورة كروكية عن أوضاعهم فى المدينة التى حط رحاله فيها. وبعد ذلك أخذَنا فى عدة جولات سريعة مر بنا خلالها على بعض المطاعم ومحلات تجهيز الأكل وهو يعرض نفسه على أصحابها وكيف استقبله كل منهم، إلى أن وجد لنفسه شغلا فى أحدها غاسل أطباق، ثم كيف ارتقى من غسل الأطباق بعد مدة إلى صانع فطائر البيتزا وتضاعف مرتبه، وهو ما أسعده وأسعدنا معه بنفس القوة.
إلا أنه لم يشأ أن يقف بنا عند هذا الحد بل أخذنا على الفور إلى صالون الحلاقة حيث قابل سامى دينا، التى سيكون له معها قصص ومسرحيات وملاحم، إذ دخلت حياته كالعاصفة بل كالتسونامى، ولم تغادره أو بالأحرى: لم يغادرها إلا وقد دمرته تدميرا. ومع ذلك فقد ظل، رغم انفصاله عنها وتطليقه إياها، يحبها ولا يستطيع لها سلوانا. بل ظل، رغم عودته إلى مصر واستقراره فى قريته على نفس الوضع الذى كان عليه قبل مغادرته إياها، يفكر فيها ويتمنى متخيلا أن تفاجئه بالحضور مع ابنهما إلى هناك لتعيش معه على الحلوة والمرة، وإن لم ينس جمالها الشاهق فتصور أنها، إذا عادت وعاشت كما تعيش القرويات ولبست كما يلبسن، سوف تصيِّر ملابسهن أزياء عالمية يلهث وراءها نساء الغرب لهاثا بوصفها المانيكان الفاتنة البديعة التى سوف تسوّق تلك الملابس على نطاق العالم كله بارتدائها إياها وإضفاء جمالها عليها.
وما إن تعرَّف إلى دينا فى صالون الحلاقة حتى تغيرت حياته تماما: لقد وجد أمامه فتاة رائعة الجمال جريئة خفيفة الروح والظل لبقة أنيقة مقدامة تأخذ زمام المبادرة وتقدم نفسها إليه وتواعده وتهبه كل ما تملك من جمال وأنوثة وجسد وروح مستعدة دائما لإرضائه لأنها، كما قالت له، تحبه حبا جما. وقد اجتاحته اجتياحا فلم يستطع المقاومة أو الممانعة، وانهارت فى لحظة كل الحصون التى كان يتخندق داخلها، فمارس معها الجنس وشرب معها الخمر، وكلما حاول التفلفص دفعتْه برفق فلم يصمد، وانزلق معها أعمق وأعمق. وحينما استطاع أن يلتقط أنفاسه وصارحها بآلام ضميره هونت عليه الأمر مبدية استعدادها لصنع كل ما يريد، ومعلنة أنها على استعداد لأن تحول علاقتها به إلى زواج ما دام هذا يريحه ويعفيه من آلام الضمير. وكانت قد وعدته ألا تحمل قبل أن يوافق هو على الحمل، لكنها تركت نفسها تحمل وفاجأته بالأمر، فاستشاط غضبا، وتحولت العلاقة بينهما منذ ذلك اليوم إلى خلاف وعراك إلى أن انفصلا ورمى عليها يمين الطلاق، ثم عاد بعدها إلى مصر.
وقد برع الكاتب فى تحليل نفسية سامى واقتناص مشاعره المتباينة والمضطربة وتأرجحه بين عشقه الطاغى لدينا وتحرج ضميره وانتهاء هذا التأرجح دائما بالانغماس أكثر وأكثر فى عشقها والتعلق بها وتنازله عن مبادئه مبررا الأمر فى كل مرة بهذا السبب أو ذاك رغم تحذيرات من حوله، فالعشق أعمى لا يبصر.
لنأخذ هذا النص الذى يصور مشاعر سامى بعد انصرام ثلاثة أشهر على علاقته بدينا: "ثلاثة أشهر مرت سريعة كأنها اختُطِفَت من عمرى اختطافا. لم أختلِ بنفسى ولو للحظة واحدة. أُسْرِع إلى عش دينا فأجدها تُعِدّ كل شيء وتنتظر. ألقاها بكل شوق، وتلقانى بكل لهفة. رويدا رويدا بدأت أتلكأ فى العودة، وتتلكأ هى أيضا كأنا على اتفاق. هدأت موجات أنوثتها الجامحة. تتباعد الفترات بين الموجة والأخرى وتتباعد. أصبح لقاؤنا أشبه بلقاء روتينى فقدت طقوسه حرارتها ، وكثيرا من بريقها. استأذنت دينا لزيارة إحدى صديقاتها، فاختليت بنفسى كأن السؤال المعذب: "وماذا بعد؟" ينتظر الفرصة، ففرض نفسه على ساحتى. حاولت تجاهله فما نجحت محاولتى. خرجت على الفور إلى الشارع أخشى عذابه، لكنه تردد مجلجلا فى أعماقى. هرعت إلى الشارع الرئيس حيث يقف عماد عله يتوه منى هناك، فظل كالضيف السمج لا يتزحزح. عماد يمارس برنامجه الذى لا يتغير. لم أكن رأيته منذ هجرت غرفتى. حينما لمحنى صاح بصوت جَهْوَرِى لفت نظر الكثيرين:
- أنت سامى؟ غير معقول. أصبحنا فوق. "علمناكم الشحاتة سبقتونا عالبيبان".
ابتسمتُ بسمة ضحلة قصيرة وقلت:
كيف حالك يا عماد؟
- كما ترى. دعك منى. كيف حالك أنت؟
- لست على ما يرام.
- لا تكن مرتدا. لو فكرت ثانية فى حياة الفلاحين لأصبحت مرتدا وكافرا بالحياة هنا. أحذرك: لا تكن مرتدا. من يفكر فى كفر العبيط أو كفر أبو شنب أو عزبة النملة وهو فى برلين؟
- وما نهاية ما أنا فيه؟
- أنت فى الجنة يا بنى. فى الجنة لا يسأل الإنسان هذا السؤال. أنت تلميذى، وأنا راض عنك، فلا تخيب ظنى فيك.
- أية جنة؟
- بُصّ لوجهك فى المرآة. ألم تر نفسك؟ أين كنت من مظهرك هذا؟ دنيا حظوظ، وحظوظ الدنيا! أسرِعْ يا بنىّ. القشدة فى انتظارك. دنيا.
كسائر لقاءاتى معه كان اللقاء قصيرا وصاخبا. لم أسترح للقاء عماد. ما زال السؤال المعذِّب يدور فى رأسى، لا أستطيع الوقوف أمامه، فلأهيم فى شوارع المدينة قليلا أو كثيرا عله يذهب عنى. ليته يختفى إلى الأبد. لم أجد فى الشوارع ما كنت أجده فيها وكأنها أعطتنى ظهرها تخفى عنى بريق وجهها وثرائه. ذُعِرْتُ عندما خطر لى أن أزور صبحى. على أية صورة ألقاه؟ وماذا هو قائل؟ لم أجد فى نفسى أية رغبة للقاء صبحى، فانزوى الخاطر على الفور كأن لم يكن.
عدت إلى عش دينا. وجهى يفصح عما بداخلى، فسألتْنى على الفور عما بى. ادعيت أن لاشيء بى على الإطلاق. هو الاجهاد لا أكثر. فجرتنى معها إلى المطبخ بدلال لم يحتفظ بتأثيره السابق. نظرتْ إلى وجهى مرة أخرى ثم قالت: لست متعبا يا سامى. إنى أفهمك، أستطيع أن أقرأ وجهك بوضوح. كما أن قلبى حدثنى بما أنت فيه.
- دعكِ من لغة القلوب يا دينا. مهموم بكنه علاقتنا ومستقبلها.
تركت ما بيدها، وتوارد الدم إلى وجهها وقالت: علاقة حب. أعظم علاقة فى الدنيا. ألسنا من أسعد الناس؟ ماذا جرى؟ ازداد توترها حينما سألتها: وماذا يقول مجتمعنا عن هذه العلاقة؟ سبَّتْ كل من يذكر هذه العلاقة بسوء. لأول مرة أسمع من لسانها سبابا، ثم كررت قولها أن العلاقة علاقة حب، وأننا أسعد المخلوقات، وشددتْ على ألا نكون أغبياء نهدم بأيدينا أجمل ما بنيناه ويمكن أن نبنيه. وسالت كلماتها سيلا: أن الحب قدر، وأجمل الأقدار، أن السعادة تنبع من داخلنا إذا تعهدناها بالرعاية لا يضيرها اجتماع العالم كله عليها. تركتُ كلماتها تفيض، فلما توقفتْ سألتُها: كيف سنواجه مجتمعنا بهذه العلاقة؟
فألقت فى وجهى هذه الكلمة: نتزوج.
انتفضتُ بشدة كأنى هوجمتُ على غرة، وسرت كهرباء فى جفونى، وتلعثم لسانى. نتزوج. نتزوج!! فرمقتْنى بنظرة حادة مقطّبة جبينا لم أره قبل مقطبا، وما ظننت أن يمكنه التشكل هكذا، وقالت: ألا أستحق هذا الشرف، أنا التى لو أرادت لتزوجت كل يوم برجل له كيانه؟
قلت محاولا امتصاص حدتها: هذا موضوع كبير، وأنا مرهق الآن. لنرجئ الحديث فيه إلى وقت آخر.
فارتفع صوتها متخليا تماما عن نعومته: لا، لابد أن نحسم هذا الموضوع الآن. تصنعتُ الغضب، ورفعت صوتى أيضا، وتركت المطبخ إلى غرفة الصالون قائلا: أنا متعب، ولا أستطيع الكلام، وحياتنا لم تنته، لنناقش هذا الموضوع بعد.
تركتنى تكمل طهيها، لكنى لم أسمع صوت غنائها، وحل السكون الكئيب إلا صوت ارتطام أدواتها.
نتزوج؟ تكون زوجتى على شاكلتك يا بنت الأفعى؟ تكونين أما لأطفالى؟ تعيشين معى كأنك زوجة لا تستبقين شيئا، بلا أدنى شعور بالذنب، بل بكل سعادة وتلقائية؟ سحبتِنى إلى هنا وأنا كالحمل الوديع. غازلتِنى كثيرا قبل أن أتفوه لك بجملة غزل واحدة، وما كنت لأجرؤ. ترى كم مارستِ هذه اللعبة القذرة قبلى؟ أنت شيطانة مريدة عميقة الأغوار تصل إلى هدفها من أقصر طريق، وبالضربة الأولى.
إن كنتِ شيطانة، فهل أنا ملاك؟ شاركتُك لعبتكِ القذرة، وقاسمتُك الحياة الآثمة، ولم يتحرك لى ضمير، ولم أشعر بذنب. ربما كنت أكثر منك جرما أنا الذى كنت أحرص الناس على صلواتى الخمس، وأغوص فى فهم دينى، وجالست الشيخ الكبير وغيره، وتناسيت ماضيا بطول عمرى إلى أن التقيتك. ألست إذا أكثر منك جرما؟!
نعم أخطأت، بل أجرمت. يومان كاملان كانا أمامى قبل أن أساق إلى هنا كحيوان أليف لجأتُ خلالهما إلى صبحى، فنصحنى بالفرار كمن يفر من أسد، ثم إلى عماد لعنة الله على كل عماد. وماذا بعد؟ أسلمتُ قيادى، وغيبت ضميرى، وبصقت على حياتى السالفة كاملة، ونسِيتُ ما جئت إليه أنفق كل ما أكسبه، وأحتاج المزيد، وبدأت أكره العمل ومكان العمل. تتراكم الثلوج بينى وبين صاحبه.
لم تضع تلك الشيطانة مسدسا فى رأسى لتأسرنى هنا، ولم تأخذنى قسرا للحظتها. يومان كاملان شاهدا إثبات على. لا يجب أن ألوم إلا نفسى، وإلا سأصبح زكى آخر يبحث عن ركن نتن فى شقة عفنة يعتصر شمطاء فقدت عصارتها تلقى إليه بفتات مالها، وزبالة أنوثة ملفوظة!
تمالكت نفسى وأخذت القرار. وقفت على الفور وأسرعت إلى الباب تاركا ما ورائى لا أبغى منه شيئا. لا أدرى إن كنت قد سمعت صوتا للحرباء أم لم أسمع. توجهت إلى غرفتى. حمدت الله أنها مازالت فى حوزتى، وقد كنت أفكر فى تركها. دخلتها كأنها وطني!
أخذت نفسا عميقا، وشعرت بالحرية، وأحسست أن عبئا هائلا تبخر عن صدرى، وأن تلك الغرفة المتواضعة أفضل بكثير من الشقة الفخمة. عادت خصوصيتى المفقودة. أجوب أعماقى. أغمضت عينى، فنمت طويلا. صحوت من نومى. توضأت، ووقفت لأصلى والخجل ينكس رأسى. استغفرت ربى الغفور كثيرا، ودعوته خالص الدعاء أن يقبل توبتى ويثبت إيمانى. أمسكت بالقرآن الكريم أقرأ بعض آياته. أستجدى دموعى علها تغسلنى. لا أدرى لماذا تحجرت.
نظرت إلى صورتى التى أصبحت عليها. كم كرهتها وتمنيت من كل قلبى أن تعود صورتى قبل لقائى بدينا. أبدو شابا أرعن يعيش لِذَاته ولَذّاته . عزمت على تغيير تلك الصورة، على تغيير تسريحة شعرى وشكل ملابسى، أن أعود للتفكير فى غدى، وأمامى ما أهدف إليه" (ص71- 75).
هذا عندما كانت العلاقة فى أوائلها. لكن انظر إلى النص التالى الذى يرينا صفحة أخرى من تلك العلاقة بعدما تطورت وتعقدت واضطربت: "السادسة مساءً موعد عودتها من عملها. السابعة لم تأت، الثامنة ولم تعلن عن قدومها. الساعة تشير إلى التاسعة. ترى أين هى؟ ثلاث ساعات يمكن للمرء أن يتجاوز فيها قارة أوروبا إلى غيرها. ثلاث ساعات ومكياجها صارخ، وعطرها نفاذ، وفستانها يكشف أكثر بكثير مما يستر. تستطيع هى أن تقتنص رجلا فى لحظات. ربما اصطادت رجلا كان تحت يدها تحلق شعره. أوقفنى الضيق، تلهبنى الظنون. الزمن ثقيل ثقل الجبال، الدقيقة زمن لا يحتمل. يعلو صوت بكاء على. طرقت باب غرفته ودخلت. الخجل يرتسم على وجه الانجليزية تهدهد على بحدب أم. شكرت لها. شعرت بيتم ابنى رغم أن سقفا واحدا يظلله وأمه. أمه تأتى من شواغلها تداعبه قليلا كطفل لإحدى صديقاتها ثم تتركه لشأنها. خرجت من غرفة على آمنا عليه. أنظر إلى ساعة الحائط كل دقيقة. يكاد صدرى يتفتق. تُسْمَع دقات قلبى عنيفة مضطربة. تواردت إلى خاطرى أسئلة سخيفة: ألم أُرْضِ دينا جنسيا؟ ألم أشبعها عاطفيا؟ أهى ترغب فى المزيد؟ لا يرضيها رجل واحد أم يقتلها الفضول إلى رجال آخرين؟ أليس انحرافها إلى رجل آخر طعنا فى رجولتى؟ ألست مسئولا عن إشباعها إن كانت لم تشبع؟
دافعت الأسئلة السخيفة. كأنها تتحيز لفرصة لتقف أمامى ثانية وثالثة وأكثر. حوالى العاشرة وفتح الباب، وألقت تحيتها. لم أرد التحية وأسرعتُ بسؤالها: أين كنتِ؟
- عند صديقتي.
- لم تستأذنى، ولم تخبرينى تليفونيا أين أنتِ.
- أنا لست قاصرة، ولن يأكلنى أحد، ولن أتوه فى شوارع المدينة.
- من حقى أن آذَنَ لكِ أو أرفض.
- اخرج أنت أيضا دون أن تخبرنى. أى إذن؟ وأى رفض؟ أنت فى برلين!
- نحن مسلمون وعرب، لسنا ألمان.
- سئمتُ هذه العبارة. نحن فى برلين، ولسنا فى قريتك.
كدت ألعن برلين صارخا:
من هى صديقتك؟ اعطينى رقم تليفونها.
- أأنت مجنون؟ ألا تثق بى؟ اطمئن. لم أكن عند رجل.
- جعلتِنى مجنونا. متى تفهمين أنك زوجة مسلم عربي؟
- ومتى تفهم أنك تعيش فى برلين، وأن زوجتك لها حريتها الشخصية كاملة؟
- أنت مجنونة تلعب بالنار.
- مازلتَ تعيش فى قريتك لا فى برلين. هذه هى مشكلتك سبب مشاكلنا. اخرج إلى مراقص برلين، حانات برلين، ونساء برلين، وجمال برلين. عش فى برلين لا على هامش برلين.
ارتفع صوتها، وزادت حدته، كأنها على الحق، وكأنها مظلومة تدافع عن حقوقها المسلوبة. بدت مَغِيظة وقلقة. أحضرت لنفسها طعاما بسيطا سريعا، ولم تسألنى إن كنت تناولت عشائى أم أنتظرها لنأكل كالعادة سويا. أخذت تمضغ طعامها بلا شهية. لأول مرة منذ عرفتها تأكل وحيدة، ولأول مرة لم تسرع بتغيير ملابسها. أكلت صامتة بضع لقيمات ثم قالت باقتضاب:
أريد أن أخرج.
قلت وأنا فى غاية الدهشة:
لم تلتقطى أنفاسك بعد، والوقت متأخر. طوال النهار وثلث الليل وأنت خارج بيتك. ألا يكفى هذا؟
كررت نفس العبارة بحسم. ضربت كفا بكف ثم قلت: وحق بيتك؟ وحق علي؟
ردت بضيق شديد: البيت أصبح يخنقنى، وعلى لديه من تعتنى به.
- وإذا لم تكن لى رغبة فى الخروج؟
- سأخرج وحيدة.
لم تك فى حالة مناسبة للنقاش، ولا أدرى سبب ما هى فيه. امرأة تخرج وحيدة فى مثل هذا الوقت تتسكع لا أدرى إلى أين تذهب، أو تذهب إلى مقهى فتجلس وحيدة، أو إلى حانة، أو فى أحد المطاعم أيضا وحيدة، لهى صيد مهيأ جدا لكل صياد. سمكة تتلكأ حول الطعم. امرأة تثير فضول الفضوليين، وتستثير جرأة المجترئين! زوجتى تريد الخروج فى مثل هذا الوقت وحيدة!
قلت مرغما: سأخرج معك، فلتستريحى قليلا.
- من قال أنى متعبة؟ أرجوك. لا تضايقني.
- أى ضيق يا بنت المجنونة؟ وماذا حدث لكِ؟
وابتسمتُ محاولا تخفيف حدتها، فقالت: أتعرف الدورة الشهرية؟ هناك أيضا دورات نفسية تأتى بلا أسباب معروفة، وفى أى وقت. أفهمت؟
خرجت معها. أتمنى الخروج من حياتها كلها، وأيقنت أنى أسير معها فى طريق مسدود، وفقدت الأمل تماما فى أن تكون على الصورة التى أريدها، أو قريبة منها. الأمومة لم تحرك فيها شيئا. لم تأت بجديد، أى جديد.
سرت كحارس خاص يضيق بوقت حراسته وبمن يحرس، وأخذنى التفكير فى مخرج. كل الطرق أراها وعرة موحشة ومظلمة. أصررت على أن أضع النقاط على الحروف فى أقرب فرصة ممكنة، فالوقت أبدا ليس فى صالحى. السيدة التى تنصح زوجها بزيارة المراقص والمسابح والحانات ومختلف الصالات حتى صالات القمار وتدفعه من طرف خفى إلى التعرف على النساء أى خير يرجى منها؟ التى أعيش معها منذ ما يقرب من عامين ولم تظهر لى علامة واحدة على الوفاء بوعودٍ قطعتها على نفسها، التى لا ترى فى الوجود غير نفسها، أى خير يرجى منها؟ لولا شلل إرادتى وترددى وتجاهلى للنصائح الواضحة ما كنت الآن فى هذا الوضع المزرى: حارس خاص لامرأة نزقة لا تعرف معنى كونها زوجة لمسلم عربى، وأم لطفل يحتاجها كل لحظة. أستحق الضرب بالحذاء، وكان الأجدر بى أن أخصى نفسى بيدى كما قال فلاح محافظة الشرقية غاسل الأطباق، واضح الرؤية، وقوى الإرادة.
بقينا ما بقينا. تسكعنا فى الشوارع. جلسنا فى مقهى وقد أصابنا الخرس والوجوم ثم عدنا إلى المنزل. لم أشاركها خمرها، اجترعتْ أكثر من كأس دون دعوتى إلى الشرب معها، وراحت لنومها. لم أسأل ماذا حدث لها، فقد قالت أنها دورة نفسية تأتى كالأعاصير ثم تزول. تزول أو لا تزول: لا يهم. ظللت ساهرا أبحث عن مخرج، أحاول أن أحدد الخطوة الأولى. لابد من مواجهتها. لابد أن تعرف حقوقى عليها. لن أتنازل عن حق واحد إلا متحيزا لهدنة بيننا، منتظرا الوقت المناسب. وسأبدأ فور عودتها من العمل.
فى اليوم التالى قصدت البيت فور خروجى من العمل عازما على بداية جديدة، أنتظر دينا، أرتب أفكارى: الأهم فالمهم. السادسة موعدها. الساعة تشير إلى السابعة. السابعة والنصف. حوالى الثامنة سمعت مفتاحها يدور فى قفل الباب. ألقت تحية جامدة مقتضبة وأسرعت إلى غرفتها. هرولتُ وراءها وشددت ذراعها بقوة غاضبا وسألتها لم تأخرتْ. صرختْ: أهو تحقيق يومى؟ أتنقصنى متاعبك؟ ألا يكفينى ما أعانيه فى العمل وصاحبة العمل والدنيا كلها؟
- قلت لكِ: لا تعملى، واعتنِ بطفلك. لماذا تأخرتِ؟
- سأعمل. وأنا حرة ، ولست جاريتك. سأفعل ما أحب.
- أنت زوجة وأم.
- غيِّرْ هذا الموال السخيف. ألا تملّ؟
- أنتِ زوجتى، وسألقنكِ كيف تكونين زوجتى. لن تذهبى إلى العمل غدا، وسألقى بكل أثوابك فى القمامة. لن تلبسى بعد اليوم إلا الملابس المحتشمة، ولن أسمح لكِ بالخروج من المنزل دقيقة واحدة دون إذني.
- النجوم أقرب لك. أتظننى متخلفة من نساء قريتك؟
- أقل واحدة منهن أفضل وأشرف منكِ.
- قريتك كلها لا تساوى حذائي.
- سافلة، ساقطة!
وهويت بكفى صاعقا خدها، وصفعة أخرى فثالثة، وخرجت إلى الصالون تتبعنى شتائمها وتصرخ. كل الشتائم كانت إلى حد ما محتملة إلى أن سبت أبوىَّ، فاندفعت بجنون لأحطم رأسها، وأدوسها بقدمى ثم أبصق عليها، لكنها كانت الأسرع. أغلقت الباب بالمفتاح وهى تطفح بسخائمها: تضربنى أيها المتخلف؟ سأوريك.
أغلى أمام الباب، أحترق. ربما فتكتُ بها تماما لو لم تغلق الباب سريعا. الانتقام منها، والانتقام فقط هو كل خياراتى. خمس دقائق أو أقل، وجرس الباب يدق بضجر. فتحت الباب على ثلاثة شرطيين: رجلين، وامرأة. سمعتهم دينا ففتحت بابها وقالت:
أنا التى اتصلت بكم، صفعنى زوجى هذا وأراد أن يفتك بى، فهربتُ منه وأغلقت الباب واتصلت بكم.
الشرطية انتحت بدينا بعيدا لا أدرى ماذا دار بينهما. سألنى الشرطيان عما دار فقلت: سوء تفاهم، وانتهى الأمر.
انتهت الشرطية من محادثة دينا فجاءت إلى وقالت: لو سمحت. حَضِّرْ حقيبتك لتغادر الشقة. يمكننا استضافتك هذه الليلة إذا رغبت.
قلت: أشكركم، لدى سقف يؤيني.
بينما أستعد للخروج ارتفع صوت بكاء على. الانجليزية كانت قد ألقت نظرة سريعة على ما يحدث كأنها كانت نائمة، ثم أغلقت بابها. طلبت الشرطية أن أنتظر للحظات. انفردت ثانية بدينا ثم عادت، وقالت: زوجتك رفضت أن تحرر محضرا، وادعت أن ما حدث سوء تفاهم لا أكثر. يمكنك أن تبيت هنا. لكن أرجو الهدوء. إن أصررتَ على الخروج فسنحرر محضرا.
- اطمئنى حضرتك. كل شيء قد انتهى.
تمنى الثلاثة لنا نوما هادئا، وانصرفوا بعد أن أخذوا منى تعهدا بعدم الاعتداء. ظللت ساهرا أقلب الأمر على كل وجه. أأذهب إلى غرفتى المهجورة مخلفا تلك الحرباء وابنى الذى فتت بكاؤه قلبى أم أظل هنا إلى إشعارٍ آخر؟ هدنى التفكير حتى غلبنى النوم، أفقت من نومى لأهرول إلى عملى. كانت دينا قد سبقتنى إلى عملها" (ص155- 161).














وهنا أود التريث شيئا أمام ضرب سامى لدينا ومحاولته السيطرة عليها بحيث لا تخرج من المنزل إلا بإذنه وشتمها إياه حين ضربها واستنجادها بأفراد الشرطة، الذين لولا تراجعها فى كلامها وتأكيدها لهم أن الأمر لا يزيد عن سوء تفاهم لوجد سامى نفسه أمام قضية تنظرها المحكمة.
لقد كان رأى دينا أن كلا من الزوج والزوجة يستطيع أن يفعل ما يشاء دون الرجوع إلى الطرف الآخر. وكما أن الزوج يمكنه الخروج فى أى وقت من غير أن تسأله الزوجه إلى أين هو ذاهب، بَلْهَ أن يستأذنها مقدما، فكذلك يمكنها هى أيضا أن تصنع الشىء ذاته دون استئذان من جانبها أو اعتراض من جانبه. ويذكرنى حديث دينا عن الحرية الجنسية بين الزوجين بقول حسين قدرى فى "مذكرات شاب مصرى يغسل الأطباق فى لندن": "زميلتى الإنجليزية فى الفندق التى جاءت ذات ليلة إلى مكتبى تسألنى عن خطابات لها، ثم يتصل بنا الحديث فتحكى لى حدوتة طويلة عن صديقها أو الـ"بوى فريند" بتاعها الذى طردته من حياتها مؤخرا لأن أمه كانت غير راضية عن علاقتهما وكانت ترد عليها فى التليفون بجفاء حين تطلبه. لذا فقد أنهت علاقتها به. وهى الآن، يا عينى، بدون "بوى فريند". والفتاة الأوربية إذا قالت: "بوى فريند" فهى تعنى عشيقها، لكن بتعبير مهذب. سألتها: هل كنت تحبينه؟ قالت: طبعا. قلت: إذن كيف تستطيعين أن تتزوجى غيره؟ قالت بدهشة عظيمة: أتزوج غيره؟ كيف أتزوجه هو أو غيره وأنا متزوجة فعلا وأحب زوجى؟" (دار المعارف/ سلسلة "اقرأ"/ العدد 383/ 1974م/ 104).
ومثل هذه القصة القصة التالية التى أنقلها من كتب عبد الستار الطويلة: "الإنسان الأوربى فى الجد واللعب" (دار المعارف/ القاهرة/ سلسلة"اقرأ"/ العدد 321/ سبتمبر 1969م/ 100- 101) والتى وقعت أبكر من قصة حسين قدرى بعدة أعوام، وكلتاهما وقعت قبل حكاية سامى ودينا بعقود، أى قبل أن تتهتك العلاقات الأسرية فى أوربا إلى الحد الذى نعرفه الآن. قال الطويلة عن رجل ضائع مثله بلا مأوى التقاه ليلا فى محطة القطارات بجنيف: "إلى جانبى وقف رجل يغمز لى بعينيه ويبتسم.تحدثت مه. قص علىَّ قصة غريبة: لقد قدم من باريس فى قطار عند الظهر متتبعا زوجته، التى هربت منه مع عيشيقها إلى جنيف. وعندما ذهب إلى البيت طرده العشيق ولكمه فى وجهه! وتطور الأمر بينهما إلى أن الزوج "رجا" العشيق أن يسمح له بقضاء الليل فى الشقة معهما لأنه لا مكان له يقيم فيه، لا نقود معه، لكن العشيق، والزوجة تطل من خلفه، رفضا وطرداه.
- لماذا لم تبلغ البوليس؟
- البوليس؟ لماذا؟ النتيجة هى الطلاق إذا أردتُ.
- ألا تريد الطلاق؟
- وما فائدته؟
- وما فائدة الزواج بهذا الشكل؟
- لا فائدة ولا ضرر!
كان صاحبنا يتفلسف، وأثارنى حديثه، وفهمت أنه لا يعمل عملا محددا: أحيانا يشتغل شيالا فى سوق الهال بباريس، وأحيانا فى موانى نهر السين، وأحيانا لا شىء. وقال لى فرناند بصراحة إنه ينوى قضاء الليل فى المحطة، ثم يتجه إلى منزل عشيق زوجته فى الصباح ليجدد المحاولة قانعا بالحصول على أجر العودة إلى باريس هذه المرة".
لكن هذا يصطدم فى ضمير المسلم بما يقوله القرآن من أن للأزواج على الزوجات درجة، وأن لهم القوامة عليهن. والواقع أننى، كمسلم، يصعب علىَّ جدا أن أتصور البيت بلا ضابط ولا رابط ولا قيادة للرجل. صحيح أن الزوج والزوجة متساويان فى كل أمورهما، لكن تبقى القوامة من حق الزوج، وإلا اختل الميزان واضطربت أحوال البيوت، إذ ما من مؤسسة فى الدنيا إلا ولها رئيس.
وأما الضرب ففى القرآن نقرأ قوله تعالى من سورة "النساء": "واللاتى تخافون نشوزَهنّ فعظوهنّ واهجروهن فى المضاجع واضربوهنّ. فإن أَطَعْنَكم فلا تَبْغُوا عليهن سبيلا". وهناك من الزوجات صنف يصعب التعامل معه بالحسنى دائما، فلا وعظ يصلح معه ولا هجر فى المضجع، ولا بد من خطوة أخرى قد تُصْلِح ما عجز عنه الوعظ والهجر. قد يقال إن الرسول عاب الرجل الذى يجلد زوجته كما يجلد العبد ثم يقبل عليها ليلا فيجامعها وكأن شيئا لم يكن. وفعلا هناك رجال سيئون يستغلون هذا السماح بالضرب فيستعملونه أبشع استعمال ولا يراعون الله ولا العدل ولا الرحمة والإنسانية فى زوجاتهم. ولهؤلاء قال الرسول هذا الكلام. لكن هذا لا يمنع، على الناحية الأخرى، من وجود زوجات يطيرن من عقل الزوج أبراجه جميعا دفعة واحدة، ولا يمكن أرحمَ الرحماء وأَوْدَعَهم طبعًا وأرقَّهم حاشيةً أن يمنع نفسه تمام المنع من اللجوء إلى هذا ا لخيار الصعب غير المحبوب، وإن كان الإسلام يرفض ضرب الإهانة والتحقير ويكتفى بأن يضرب الزوج زوجته ضربا رمزيا تعبيرا عن رفضه لسلوكها النكد وتمردها على واجبات الزوجة نحو زوجها وعصيانها له بلا سبب.
ولقد أثيرت هذه المسألة بآخرةٍ فى المجتمعات الإسلامية فى الغرب، وظهر تيار يفسر قوله تعالى بجواز الضرب حين تنسد كل الآفاق فى وجه الحلول الأخرى بأن المعنى لا أن يضرب الرجل المرأة العاصية المتمردة بل أن يترك لها المنزل ويضرب فى الأرض مبتعدا، اعتمادا على قوله تعالى: "ضَرَبْتم فى الأرض"، "يَضْرِبون فى الأرض". فالضرب لدى هؤلاء هو الضرب فى الأرض ليس إلا. وأشهر من قالت به لالا باختيار الإيرانية الأمريكية، والكاثوليكية الشيعية، المولودة لأبوين مختلفى الديانة، ومترجمة القرآن إلى الإنجليزية رغم ضعفها الشائن فى اللغة العربية. وهو تفسير خاطئ ومتكلف أو جاهل. فهناك ألوان مختلفة من الضرب، ولكل منها سياقه الذى لا يصلح له سواه. فالضَّرْب فى الأرض معناه السفر، وضَرَب الموعد معناه حدد وقتا للقاء، وضَرَب العُمْلة معناه سَكَّها، وضَرَب طريقا معناه شَقَّه. وهكذا. ومن هنا لا يصح أن يُوضَع لون من الضرب فى غير موضعه فيقال مثلا إن ضرب الزوج لزوجته معناه خروجه من البيت وانطلاقه بعيدا فى أرض الله. فالضرب فى الأرض غير ضرب الشخص. وهذا من الوضوح بمكان. على ألا يسارع الرجل، شعورا منه بقوته البدنية ورقة بنيان زوجته، إلى ضربها ظلما وعدوانا.
أما إن رفضت الزوجة النكدة الناشز أن يضربها زوجها بعد استنفاده كل الوسائل السلمية فأمامها إما تغيير سلوكها والعمل على العيش مع الزوج فى وفاق ومودة وسلام وإما خلع نفسها منه ورد هداياه وعطاياه إليه والانسحاب من حياته. وهنا أحب أن أذكّر بأن ضرب الزوجات موجود بل منتشر فى المجتمعات الغربية، وكثيرا ما يكون ضربا مبرحا وتترتب عليه عاهات مستديمة. بل قد يصل الأمر إلى حد قتل الرجل زوجته. لكنهم، كعادتهم، يبالغون لدى الكلام عن الإسلام ويخافتون من أصواتهم لدى تناولهم أمورهم هم. كذلك فقوله تعالى: "واضربوهن" لا يعنى الأمر بضرب النساء على سبيل الوجوب، بل معناه جوازه حين يكون هناك اضطرار إليه. ومن حق الزوج ألا يأخذ به رغم كل شىء.












وأخيرا مع هذا النص الذى انتهت فيه العلاقة بين بطلى الرواية، فهو يمثل الصفحة الأخيرة فى قصتهما. وهو يبدأ بمخاطبة سامى لابنه الرضيع فى دخيلة نفسه: "أنت مصرى حتى النخاع يا على. سمرة النيل على جبينك. نفس ملامحى، صورتى بكل تفاصيلها قبل ثلاثين عاما. لا أثر لدينا يُرَى على تكوينك، فهل تذيبك أوروبا لتصبح خيطا فى نسيجها؟ أميل إلى الإيمان بقول عماد أنك ستبحث عنى بحثا عن جذورك. لابد أن جيناتك تحمل حضارة سبعة آلاف عام. المصريون لاينسون أبناءهم، فهل ينسى المصريون آباءهم؟ لو أستطيع خطفك ما ترددت لحظة. لو ساومتنى دينا عليك لرضخت تماما لما تريد. من أجلك ما زلت أسكن تحت سقف واحد مع تلك الشيطانة، أتلكأ فى العودة إلى غرفتى المهجورة أو إلى وطنى. قد تغفر لى جريمتى الكبرى فى حقك أَنْ كانت هذه أمك. إنه القدر يا على، لكنى لا أعفى نفسى بل أجلدها كل لحظة. من أجلك أتردد فى قرار الانفصال ألف مرة. لا أكاد أتصور فراقك ولا تركك لهذه المستغربة أو التى لا هوية لها. خيرتْنى بين العيش معها وترك الحبل على الغارب لها أو الانفصال عنها فى هدوء، فكيف يحتوينى معها سقف واحد؟ أترضى لوالدك أن تداس كرامته ليل نهار؟ أن يعيش مع هذه الرعناء كحيوان أليف؟
كرهت العمل بالمطاعم، وكرهت كل رائحة للقلى أو الشواء، فماذا أعمل إذا إذا كانت لى رغبة فى العمل أو قدرة عليه؟ أأعمل فى شركة من شركات النظافة أو حارسا ليليا فى شركات الحراسة؟ إنها أعمال قليلة الأجر إلى حد بعيد كما أنها مرهقة ومملة. إن حاولتُ إعادة تأهيلى لعمل آخر فلابد لى من التدريب ما يقرب من الثلاثة أعوام أتقاضى خلالها منحا مالية تسد رَمَقى بالكاد. كل هذا لا يهم. لا أحتمل أن أرى دينا تصطحب رجلا آخر: زوجا كان أو ما يسمونه بـ"الصديق" ليعيش معها وعلى تحت سقف واحد.
يمكننى نحت الصخر فى بلدى، وربما السفر إلى بلد عربى بترولى لتحقيق ما عجزتُ عن تحقيقه فى هذه البلاد الظالم أهلها.
لأجلك يا على سأعيد المحاولة مع دينا.
كأن اللعينة تحاول بكل ما تستطيع إثارة شكوكى: تعود دوما متأخرة فى عمق الليل والسعادة تطفر من عينيها. اشترت من الملابس الأكثر إثارة. تكثر من المكالمات التليفونية الهامسة لا تعلو فيها إلا ضحكاتها، وتحرص على محو أرقام مكالماتها! مرغما رحت أناقشها فيما يدور. عبس وجهها، وتقلصت ملامحها وقالت مختصرة: لست قاصرة، ولست ولى أمرى. أنا حرة أفعل ما أشاء، ولك الحرية أن تفعل ما تشاء. أنا لا أتدخل فى شئونك، فلماذا تتدخل فى شئونى؟
- أنت زوجة مسلم وأم.
- يا إلهى!نفس العبارة المملة لا تتغير. انظر إلى كل الأسر الألمانية، إلى كل زوجين ألمانيين، وتعلَّمْ كيف يعيش هؤلاء السعداء المتحضرون.
- أهذه أسر حقيقية؟ وهؤلاء الناس سعداء؟
- بالطبع سعداء. زميلتى الألمانية إذا تركت زوجها فى نهاية الأسبوع لسبب من الأسباب تتمنى له حظا سعيدا. يبادلها نفس الأمنية.
- حظا سعيدا مع طرف آخر؟
- ليس بالضرورة مع طرف آخر، لكن لا يضير إن كان كذلك. كل واحد منهما يملك جسده. لا يملك أحد أحدا. المهم أن يحافظ كل منهما على العيش معا.
- وما رأيك فى ذلك؟
- قمة الفهم والتحضر والثقة بالنفس واحترام الآخر.
- تريدين أن أتمنى لكِ نهاية أسبوع سعيدة.
- إن كنت تثق فى نفسك وتثق بى ستقولها مطمئنا سعيدا ورائقا.
- وإن أخطأتِ؟
- اطمئن. سأعترف لك إن أخطأت ثم أطلب الغفران. أغفر لك مقدما ً أية مغامرات.
- أنتِ عاهرة.
- وأنت متخلف.
بجهد جهيد سيطرت على انفعالاتى. كدت أشطر رأسها بكوب كان بيدى. لكن وماذا بعد؟ قلت:
أتعنين حقا ما تقولين؟ أأنتِ فى كامل قواكِ العقلية؟
- أعنى كل حرف، ولم أشرب بعد قطرة خمر.
- إذا قررتِ الانفصال. أتذكرين وعودكِ لى قبل الزواج؟
- افهم على طريقتك. سحبتُ كل وعودي.
- وعَلِىّ؟
- علىٌّ فى حضانتى، وأمامك القضاء.
- سأذهب من فورى إلى غرفتى. تعرفينها. إن عاد إليكِ رشدك، وفكرتِ جيدا فى مستقبل على، فأنا فى انتظارك.
- لن آتِ إليك أبدا. أما إذا غيرت أفكارك العتيقة، وأردت العيش معى كما يعيش الناس يمكنك أن تحضر للتفاهم، وقد أقبل من أجل على. أمامك شهر واحد بعده لن أفتح لك بابا.
ألقيتُ إليها بالمفاتيح، وشرعت ألملم أشيائى، بينما هى وبلامبالاة عجيبة تجرع خمرها. طرقت الباب على الإنجليزية فسمحت لى بالدخول. أخذت عليًّا بين أحضانى أقبّله وأعيد، وتفيض دموعى غزيرة. دمعت عينا الانجليزية، لكنها لم تنبس بحرف. ذهبت إلى غرفتى أجرجر أحزان العالم. حزينة غرفتى كحزنى، كل ما فيها يأسى لحالى. أستعيد شريط أيامى فى برلين، لا تغيب منه لقطة، يتخلله شريط أيامى فى قريتى، فيمتلكنى أسى لا نظير له، وتظهر دنياى كلها فى ملابس حدادٍ مقبضة. حزينة صلواتى، حزينة قراءاتى، نظراتى، خطواتى. هكذا يمكن أن تنتهى حياتى.
لجأت إلى القرآن الكريم أستلهم منه الشفاء كما كان ينصحنا الشيخ مليجى رحمه الله: "ونُنَزِّلُ من القرآن ما هو شفاء". ظللت أقرأ وأقرأ لا يصل إلى قلبى شيء إلى أن وقفت أمام قوله سبحانه: "لكيلا تَأْسَوْا على ما فاتَكم". وماذا يفيد الأسى، وما فات قد فات؟ وماذا يجدى لو قتلتُ نفسى حزنا وأسى أو بأى طريقة أخرى؟ أذنبتُ، وباب التوبة مفتوح دائما، ورحمة الله واسعة.
داخلتنى بعض الحيوية، ووجدت بعض نشاط. قمت إلى حمامى كأننى أغسل أدرانى. صليت بخشوع افتقدته طويلا. أطيل السجود وتسقط دموعى. أحسست أن يد الله الحانية قد مست شغاف قلبى، فاطمأنت نفسى. خرجت إلى الشارع هادئا. جميلة برلين. رائعة. مبانيها عفية نظيفة ورائقة، بعضها كأنه منحوت بيد فنان عبقرى، لكنها على ما أظن لا تحوى بين جدرانها إلا أسرا منخورة. إن كانت دافئة فهى تفتقد الدفء الأسرى على النحو الصحيح. إن كانت نظيفة فإن الكلاب الأليفة تقضى على نظافتها. إن كانت تحتوى على مطابخ رائعة واسعة وكاملة التجهيز فمعظم الألمانيات لا يجدن الطهى ولا يحببنه.
زاد حبى لبيتنا البسيط فى قريتى. لهو أفضل فى عينى وعقلى وقلبى من كل هذه المبانى الباذخة. عدت إلى سابق عهدى أيام الشيخ مليجى رحمه الله حيا أو ميتا، أجتهد فى العبادة وأُكْثِر من الدعاء والاستغفار وقراءة القرآن. ما كان لى أن أبحث عن عمل فى أى مطعم، فكلهم يقدمون لحم الخنزير والخمور. إن كنت مضطرا قبل ذلك للعمل فى المطاعم فلست الآن مقسورا عليه.
انقشعت ضبابات كثيرة عن سحنتى وتفكيرى. تدبرت أمرى، وصليت صلاة الاستخارة، فآثرت العودة إلى مصر. كان شهر المهلة التى منحتنى إياه قد فات، ولم تأت دينا، ولم تحاول الاتصال بى بأية وسيلة. أحسست براحة عظيمة بقرارى، واطمأننت إليه. حمدت الله أن بيدى ما يغطى نفقات السفر، وما يمكن أن تتيسر به بعض أمورى فى مصر.
خسرت معركة، لكنى لم أخسر الحرب. المهم أنى لم أخسر نفسى. مازالت لدى القدرة على اقتحام ميادين الحياة.
موعد الرحيل بعد ساعات، واليوم الأحد يعنى أن دينا فى عطلة. كلمتها تليفونيا لأودّع فلذة كبدى. لم تمانع ولم تعلق بكلمة واحدة عن رحيلى. أخذت عليًّا بين أحضانى. أشعر بدقات قلبه كـأنها دقات قلبى. حرك ذراعيه وقدميه تعبيرا عن فرحه، وبسمة ملهوفة حبيبة نقشت فى قلبى. فاضت دموعى أمطارا غزيرة. لا أتمالك مشاعرى. أعطيته ظهرى مرغما كأنى تركت قلبى ورائي.
كتبت عنوانى ترتعش يدى، تبلل دموعى الورقة وقلت لدينا: هذا عنوانى فى مصر إن عنَّ لك زيارتى، وأردتِ بداية جديدة.
كانت باردة المشاعر كلوح ثلجى. سلمت عليها فأحسستُ ببرودة يدها. قالت: مع السلامة. أتمنى لك حظا سعيدا!
أمسكت بالباب ثم قلت: دينا. أنتِ طالق.
خرجت وأغلقت الباب. يبدو أنها لم تحرك ساكنا. أسرعت إلى غرفتى يتملكنى بكاء لم أعرفه حتى جف دمعى. بضع ساعات تبقت عن موعد السفر. خرجت إلى شوارع المدينة قاصدا كل مكان شهد أحداث وجودى. ذهبت إلى أول مسكن عرفته فى برلين. زكى على حاله مُلْقًى على ظهره كأنها المرة التى رأيته فيها. ودعته، فنهض واحتضننى وبكى كثيرا. أوصانى بالسلام على ما فى مصر ومن فيها. خرجت آسفا عليه وعلى أمثاله. أحمد الله على أنى لم أزد عددهم واحدا" (ص177- 182).
وأخيرا فإن هذه الرواية تصور جانبا من المأساة الإنسانية، فها هو ذا سامى قد ترك بلاده وسافر إلى ألمانيا آملا أن يجد عملا يرتزق منه رزقا واسعا فيساعد أسرته ويوفر ما يمكن أن يتزوج به وينشئ مشروعا يتعيش منه حين يعود إلى مصر، ثم ها هو ذا قد نجح فى العثور على عمل يدر عليه رزقا كافيا وشرع يرسل لأسرته فى مصر ما يحتاجونه من مال وزيادة، ثم ها هو ذا يقابل فتاة غاية فى الجمال والأناقة واللباقة والجرأة والتفتح والرغبة فى الاستمتاع بالحياة بكل سبيل مع الحيلولة بين هذه المتعة وأى شىء يمكنه تعكيرها، وهذه الفتاة تقبل عليه وتغازله وتواعده وتصارحه بحبها وتهبه نفسها، فيغرق فى بحور هباتها والاستمتاع بها مبهورا محبورا، لكنه يشعر بعد فترة بالملل وبلذع الضمير وبالخوف من عذاب الله لأنه انجرف معها إلى الحرام والخمر، وتَعْرِض هى أن يتزوجا كى تجنبه آلام ضميره، لكن المشاكل تبدأ معه من جديد، إذ كيف يتزوج مثلها ويقبل أن تكون هذه التى عاشرها فى الحرام وتشرب الخمر أُمًّا لابنه أو ابنته؟ ناسيا أنها إذا كانت قد عاشت معه فى الحرام فهو قد فعل نفس الشىء، وإذا كانت تشرب الخمر فقد شاركها هو أيضا معاقرة أم الخبائث. بيد أن النفس الإنسانية لها أحيانا منطقها الذى لا يتمشى مع المنطق العادل.
ثم هناك الاختلاف فى الدين أو فى فهم الدين، وهناك تعارض العادات والتقاليد والخلفيات الاجتماعية، وهناك الشكوك والرغبة فى الاستحواذ على المحبوب، وهناك التسامح مع النفس والتشدد فى ذات الوقت فى محاسبة الغير، وهناك التضارب بين عقلية الرجل وعقلية المرأة، وكذلك بين أولويات كل منهما وأولويات الآخر. وهكذا وهكذا مما من شأنه إفساد السعادة وتعكير صفوها بل وتسميمها أحيانا. ودائما ما أستشهد فى مثل تلك الأحوال بقوله تعالى: "لقد خَلَقْنا الإنسانَ فى كَبَدٍ"، وبقوله جل شأنه: "قال: اهبطا منها جميعا، بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ"، وبقوله سبحانه: "إنّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم، فاحذروهم". كذلك دائما ما أشير إلى اضطراب حياة كثير من أهل الفن حيث يكون الفنان الذى يُضْرَب به المثل فى الوسامة والأناقة والشهرة وهيام النساء به متزوجا من فنانة تعد مثالا أعلى للجمال والدلال والفتنة والذوق الراقى فى اختيار الملابس التى تجرى على أحدث طراز، ومع ذلك فسرعان ما يختلفان ويتقاضيان فى المحاكم ويتبادلان الاتهامات المخزية ويعرف بفضيحتهما العالم أجمع قاصيه ودانيه رغم قصة الحب العظيمة التى كانت تربط بينهما وتُوِّجَت بالزواج فى زفة أسطورية ليس مثلها زفة ولا شهر عسل. وإذا جاز لنا أن ننسى هذا كله فلن ننسى أن ثمة شيئا اسمه الملل والرغبة فى التغيير والتجديد، وأن الممنوع مرغوب، والمبذول مزهود، وأن للنفس تشوقا للطارف ونفورا من التَّلِيد.