آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: تساخفات محمد على عبد الجليل فى مقاله: "أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية- قراءة تفكيكية"

مشاهدة المواضيع

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي تساخفات محمد على عبد الجليل فى مقاله: "أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية- قراءة تفكيكية"

    تساخفات محمد على عبد الجليل فى مقاله:
    "أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية- قراءة تفكيكية" (1- 1)

    د. إبراهيم عوض



    مكتبة الشيخ أحمد
    منشية الصدر – العباسية – خلف جامعة عين شمس
    القاهرة

    1439هـ - 2018م




    (محمد على عبد الجليل (و1973م) كاتب سورى يرفض الإسلام ويهاجم الرسول بل وينكر وجوده، ويلح على أن القرآن من تأليف جماعة من البشر وليس وحيا سماويا. وهو يعيش الآن فى فرنسا ويعمل باحثا فى معهد البحوث والدراسات حول العالَم العربى والإسلامى (IREMAM) بالعاصمة الفرنسية. ونتاجه الفكرى قليل، وأفكاره تتسم بانفلاتها من قيود المنطق إلى فوضى التخيلات الوهمية السخيفة. وله مقال عنوانه: "أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية: قراءة تفكيكية" منشور بموقع "الحوار المتمدن" (العدد 4447- 8/ 5/ 2014م)، وفيه يطنطن بأن فى القرآن أخطاء لغوية وإنشائية، عارضا بكل بجاحةٍ الطريقةَ التى ينبغى إصلاح هذه الأخطاء بها وإعادتها إلى سواء السبيل مع أن فى لغته العربية غلطات نحوية لا تليق. وفى هذه الدراسة سوف أرد على ما جاء فى هذا المقال، مُورِدا إياه قطعة قطعة ومُتْبِعا كل قطعة بتعليقى عليها تفصيلا. وسوف ألوّن خلفية كلامه باللون الأخضر، وخلفية ردودى عليه باللون الوردى واضعا كلا من كلامى وكلامه بين قوسين، ومنهيا إياه بشرطة يعقبها اسم صاحبه- إبراهيم عوض).
    (لن نتطرَّقَ إلى الأخطاء العِلمية الكثيرة فى القرآن لأنَّ وجودها أمرٌ طبيعى فى نص كُتِبَ فى القرن السابع الميلادى، بالإضافة إلى أنه ليس نصا علميا بل نص دينى أدبى يعكِسُ المستوى المعرفى لواضعيه وعلومَ عصرِهم. بل سنحاولُ قراءةَ أخطائه اللغوية والإنشائية قراءةً تفكيكية، بحسب النظرية التفكيكية لجاك دريدا Jacques Derrida (1930 - 2004)- محمد عبد الجليل).
    (الكاتب هنا يجعل القرآن من تأليف البشر. ويتحدث عن أخطاء القرآن العلمية التى يصفها بـ"الكثيرة" كأنها أمر مسلم به ولا خلاف عليها بين أحد. والنبوة عنده لا تزال مفتوحة الأبواب وستظل إلى أبد الآبدين، وأى فرد يمكن أن يكون نبيا ما توافرت فيه بعض الصفات، وليست النبوة وحيا ينزله الله على من اختاره سبحانه. ويوضح هذا قوله فى مقال له آخر بعنوان "حقيقة النبى" منشور فى موقع "الحوار المتمدن" (العدد: 3941 – 14/ 12/ 2012): "استنادًا إلى "التقسيم" السباعى الثيوصوفى التوضيحى للكائن الإنسانى، تكون النبوةُ هى تواصلَ الرباعيةِ الدنيا للإنسان (أو نفسه الدنيا الفانية) مع الثلاثية العليا فيه (النفس العليا الخالدة) بحيث لا تقِفُ الرغباتُ والانفعالاتُ عائقًا يشوِّش صفاءَ هذا التواصل. فالنبوةُ هى استعداد الأجسام الدنيا فى الإنسان لِتَلَقِّى الإشارات من الإله الباطن (أو الشعلة الإلهية الكامنة فى الإنسان والمتصلة بالوعى الكونى) والقدرة على عكسِها. فالنبوةُ حالةُ وعى عاليةٌ لا تأبهُ بالصورة الاجتماعية المكوَّنةِ عنها وليست حكرًا على أحد دون أحد. فأى إنسانٍ يمكنُه أنْ يختبرَ حالةَ النبوة، ويمكنُه أنْ يَتَّخِـذَ الإلهَ الباطنَ الذى فيه (الشعلة الإلهية الداخلية الكامنة) مُــعَــلِّـمًا له. فعلى قَـدْر استعداد المريد أو التلميذ يكون المعلِّمُ. وعلى قدْر تحمُّـلِ الإنسان وطاقتِه تتنزَّلُ الإشاراتُ ("على قَدْرِ أهلِ العزمِ تأتى العزائمُ"). لقد وردَ عن محمد قوله: "أشدّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثل". وكذلك تكون قُدْرةُ التيار الكهربائى على قَدْرِ تحمّلِ الجهاز الذى يسرى فيه هذا التيارُ، وإلا أحرقَه. ولذلك "لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا".
    وهكذا تكون النبوةُ حالةَ وعى فرديةً بحتةً واختبارًا فرديا خالصا لا علاقة له بانفعالات الجماعات وردود أفعالها القطيعية. النبوةُ حالةُ وعى داخليةٌ تتأتَّى بالمجاهَدة والاختبار والبلاء والقدرة على التحمل، وربما على مرِّ تجسُّدات عديدة، ولا تمنحها الألوهةُ بالمجان وبصورة اعتباطية لأى فردٍ كان، بدليلِ أن الألوهةَ لا تمنح هذه الحالةَ للأشرار. أما الرسالةُ فهى التعبير عن حالة النبوة. لقد اعتبرَ ابنُ عربى أن منزلة النبى أعلى بقليل من منزلة الرسول وأدنى من منزلة الولىّ ("- مقامُ النبوَّةِ فى برزخٍ / فُوَيقَ الرسولِ ودونَ الولى").
    أمَّا عبارةُ "خاتَـمُ النبيين" فلا تعنى بتاتًا "آخرَ الأنبياء"، بل تعنى "مصدِّقَ الأنبياء الذين أتوا قبله". وأما عبارةُ "لا نبىَّ بعدى" بمعناها المتداول فإما أن محمدًا قد قالها وكان يريد بالفعل إغلاقَ بابَىِ النبوة والتشريعِ معًا. وبهذا يكون قد ضيقَ كثيرًا. ولذلك قال المتصوِّفُ عبد الحق بن سبعين (1216/1217– 1269/1271): "لقد زرَّبَ [ضيَّقَ] ابنُ آمنة (لقد حَجَّرَ واسعًا) بقوله: لا نبى بعدى". وإما أنه قالها لأسبابٍ سياسيةٍ بحتةٍ وكان يقصد أن بِـيَدِه وحدَه السلطةَ التشريعيةَ، بمعنى أنه إذا كان هناك إنسانٌ بعده وصلَ إلى حالة النبوة فلا يحق له أنْ يستخدمَها كسلطة تشريعية، أى أنه أغلَقَ بابَ التشريع فقط بهدف توحيد مراكز السلطة فى مجتمعه مِن أجلِ بناء دولته. وإمَّا أنه لم يقلْ هذه العبارةَ بل نُسِبَت إليه، أى أن الساسةَ ورجالَ الدين قد قوَّلوه ما لم يقلْ لخدمة مصالحهم. وإما أن محمدًا قد قال العبارة بمعنى آخر ولكن الذين أتوا بعده فَهِموها عن قصدٍ أو جهلٍ بغير المعنى الذى كان محمدٌ يقصده.
    فمن وجهة نظر إسلامية هناك تعارُضٌ بين إغلاق الإسلام لِبَابِ النبوة وبين إقراره بوجوب وجود نذير فى كل شعب. فاعتبرَ القرآنُ أن محمدًا ليس سوى بشيرٍ ونذيرٍ وأن لكلِّ قوم نذيرًا: "إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ." فإنْ قال فقهاءُ الإسلام بأن النذير لا يُشْتَرَطُ فيه أنْ يكون نبيا فالسؤال هو: ما الذى يمنع النذيرَ من أنْ يكون نبيا؟ إذا أنجبَت أمةُ العرب فى عصر من العصور وفى بقعة من الأرض شخصيةً أقر المؤمنون بها بِـنُبُوَّتِها فما الذى يمنع منطقيا وروحيا وسوسيولوجيا من أنْ تُنْجِبَ أممٌ أخرى شخصياتٍ تُــقِــر هذه الأممُ بنُبُوَّتهم؟ فمِن غيرِ المعقولِ أنْ يكونَ هناك أنبياءٌ فى عصر محدد ومكان محدد ولا يكون هناك أنبياء فى عصرنا هذا. النبى من الناحية الروحية هو من حقَّقَ حالةَ تواصل مع الأتما (الإله الباطن). فإذا بلغَها أناسٌ فى عصور سابقة فلا بد أنْ يتمكنَ أناسٌ فى عصرنا مِن بلوغها. أما النبى من الناحية الاجتماعية فهو مَنْ تعترفُ جماعتُه بنبوَّتِه. ومعروفٌ أنَّ كلَّ دِين ينفى عمومًا نبوّةَ نبى الدين اللاحق. فالأديانُ السابقة للإسلام لم تعترف بأنّ محمدًا نبيًّا أو بتعبير أدقّ نبيًّا صادقًا. وكذلك الإسلامُ رفضَ نبوةَ أنبياءِ الأديانِ اللاحقة (مِن مورمون وقاديانية وغيرهم) فى حين أن مجتمعاتِهم أقرت بنبوّتِهم. وهكذا تكون مسألةُ الاعتراف بالنبى مسألةً اجتماعية سياسيةً معقدة. فليس كل مَن حقَّقَ حالةَ نبوةٍ يُصَنَّفُ على أنه نبى. النبىُّ المعترَفُ به اجتماعيا هو من صناعة المجتمع. فإذا كان هناك إنسانٌ وصلَ إلى مرتبة النبوة وكان مجتمعه يحتاج إلى صورة النبى فإن هذا المجتمعَ يُـؤَسْطِـرُ صورةَ ذلك النبى ويعدِّل فيها بحيثُ تصبح قابلةً للتداول ومعبِّـرةً عن ثقافة المجتمع وتخدم فى الوقت نفسه الطبقةَ الحاكمة. أى أنَّ النبى الذى تصنعه الجماعةُ يختلف عن حالة النبوة الفردية التى يحققها النبى، إذْ إن الطبقةَ الحاكمةَ تستولى على صورة النبى لخدمة مصالحها وإحكام السيطرة على المجتمع. فالجماعة اللغوية والعرقية والدينية هى التى تصنع النبى على صورتها ومثالها. ولذلك لم نَـرَ فى ثقافاتنا الذكورية صورةً لِنَبِيّة. فإذا كانت هذه الثقافاتُ قد رَسمَت الألوهةَ فى صورةٍ ذكورية فمن الطبيعى أنْ ترسمَ النبوةَ فى صور ذكورية أيضًا".
    وواضح أن كلامه كله لا يستند لا إلى التاريخ ولا إلى المنطق ولا إلى الإسلام: فأما التاريخ فيخبرنا أن المجتمعات التى ظهر فيها الأنبياء قد قاومتهم بوجه عام بمنتهى العنف ووقفت منهم موقف الرفض والكراهية والاتهام بل والقتل أيضا فى بعض الأحيان على نقيض ما يقول الكاتب، ولم تؤمن بهم إلا بعد اللتيا والتى وبعد عداوات وإيذاءات منهم له، وربما بعد حروب بين الطرفين أيضا. وأما المتنبئ القاديانى والمتنبئ البهائى فلم يؤمن بأى منهما مجتمعه بل قسم ضيق جدا من هذا المجتمع، علاوة على أن تنبؤهم هو ثمرة تخطيطات بعض الدول الكبرى ومؤمراتها الرامية إلى التشويش على الإسلام وإفساد أمره وتشكيك المسلمين فى إيمانهم وتشتيت انتباهم وتمزيق ولائهم. وما محمد على عبد الجليل وأمثاله ممن تكاثروا كالسرطان فى الفترة الأخيرة إلا ثمرة أخرى، ولكن صغيرة وحقيرة، من ثمار هذه التخطيطات والتآمرات الغربية. بل إن عيسى نفسه عليه السلام لم يؤمن به من بنى إسرائيل إلا عدد جد صغير وهامشى، وبقيت أغلبية اليهود يهودا كما كانوا ولم يعترفوا بنبوته. وبخلاف ذلك نجد المجتمع العربى كله قد انتهى إلى الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام. كما يقول لنا التاريخ: ليس كل نبى قد نفى أن تكون هناك نبوة بعده. ففى التوراة كلام عن مجىء المسيح، وفى الإنجيل تبشير بمجىء محمد، أما الإسلام فقد أكد بصريح العبارة أن باب النبوة قد أُغْلِق بمجيئه. كما أن احتجاج الكاتب بقوله تعالى: "وإنْ من أمةٍ إلا خلا فيها نذير" لا يقوم على أساس، فهو غير منسحب على المستقبل الذى يأتى بعد محمد بل محصور، كما هو جلىٌّ بيِّنٌ من الآية الكريمة، فيما مضى.
    ويعضد ذلك قوله تعالى فى سورة "الأحزاب": "ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم، ولكنْ رسولَ الله وخاتَمَ النبيين"، وهو ما وضحه وفصله الرسول فى حديثه الشريف بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلِى ومثلُ الأنبياءِ من قبلِى كمَثَلِ رجلٍ بَنَى بنيانًا فأحسنَهُ وأجملَهُ إلا موضعَ لبنةٍ من زاويةٍ من زواياه. فجعلَ النَّاسُ يطوفونَ به ويَعْجَبونَ له ويقولون: هلا وُضِعَتْ هذه اللَّبِنةُ؟ قال: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتَمُ النَّبيِّينَ". وعن أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيلَ تسوسهم الأنبياءُ: كلما هلك نبى خَلَفَه نبى. وإنه لا نبى بعدى، وسيكون خلفاءُ فيَكْثُرون". وقال صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ، ونُصِرْتُ بالرُّعبِ، وأُحِلَّتْ لى الغنائمُ، وجُعِلَت لى الأرضُ طَهُورًا ومَسجِدًا، وأُرْسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافَّةً، وخُتِم بى النَّبِيُّون".
    بيد أن الكاتب يترك هذا كله ويذهب إلى ابن ستين فى سبعين وعبارته السافلة: "ابن آمنة". ولم يسق حجة واحدة ولا حتى شبهة يعضد بها كلامه ولو على سبيل التكلف، بل أخذ يتخيل ويخال وينسب إلى النبى محمد عليه الصلاة والسلام نيات لا أدرى كيف عرفها يزعم فيها أنه إنما أغلق باب النبوة لكذا وكيت من الأسباب. وكلها خبطات عشواء تقوم على الكذب الوقح الذى ليس له رجلان! ولم لا، ومحمد على عبد الجليل فيما هو واضح، إنما أتى لينفذ أجندة معدَّة له سلفا وموضوعة أمامه ينقل عنها نقل مسطرة فى لغة بذيئة فى حق النبى الكريم المختار دون أن يترك له مشغِّلوه الحق فى التساؤل أو الخروج على النص؟ وهناك كثيرون من أذناب الغرب ممن ينتمون إلينا ظاهرا يعملون عمل صاحبنا، وينفذون ما يراد منهم كالقرود، ويرددونه كالببغاوات، لقاء جعل معلوم. والغاية من ذلك كله إرباك المشهد وطمس المفاهيم الصحيحة وإحلال مفاهيم أخرى شيطانية مكانها. فالنبى، فى رأيه الكليل، لا يختاره الله اعتباطا (هكذا قال)، بل أى شخص يمكن أن يكون نبيا ما دام قد جاهد وبلغ المحطة التى تؤهل صاحبها لأن يكون نبيا. وفى هذا السياق نراه، وهو الذى يخطّئ محمدا فى كل شىء ويهاجمه ويهاجم دينه وكل ما أتى به، يستشهد بكلام له يظن أنه نافعه فى هذا الخبص العجيب. لكن من قال إن الله سبحانه يختار أنبياءه اعتباطا دون أن يكونوا مؤهلين لهذا نفسيا وخلقيا وعقليا؟ إن محمد على عبد الجليل ينفى النبوة التى نعرفها والتى تقوم على اصطفاء الله سبحانه لبعض عباده لينهضوا بهذه المهمة الصعبة ثم يستدير من ناحية أخرى ويزعم أن باب النبوة مفتوح لكل إنسان ما دام قد حاز الصفات المطلوبة، وكأن النبوة وظيفة يعلنون عنها فى الجرائد، ومعها الشروط التى لا بد من توافرها فيمن يريد الحصول على الوظيفة.
    وهو هنا يجرى فى خطا القاديانيين والبهائيين وكل من يحطب فى حبل المستعمرين ليفسدوا أمر المسلمين ويَلْبِِسُوا عليهم دينهم. ومعنى هذا أنه يرفض النبوة بضوابط إلهية، ويقول بانفتاح بابها أمام كل عميل كذاب. ثم هو يستعين بجهاز مصطلحاتى غامض ملتو استقاه من ميدانى التصوف والأساطير. أى أنه فى الوقت الذى يرفض فيه أنبياء الله ورسله الذين اختارهم الله على عينه يقيم مكانهم أنبياء ورسلا منحرفين شيطانيين. والمهم أن الجماعة الذين ظهر فيهم أولئك الرسل قد قبلوهم وآمنوا بهم. أى أنه ليس المهم أن يكون النبى مؤهلا حقيقة للقيام بهذا الدور الشامخ الصعب النبيل الذى هيأه الله سبحانه له واختاره الله له اختيارا بل أن يقبله قومه. إنها النبوة فى طبعتها المحمدية العلوية العبجليلية الجديدة. ولم لا؟ إننا فى سويقة لبيع الجبن والسمن والخبز والسمك والدجاج والخضراوات والليمون، ولسنا فى عالم الأنبياء والمرسلين. وأرجو ألا ينسى القراء الكرام ما بينتُه قبل قليل من أن أولئك الأنبياء لم يحظَوْا رغم ذلك كله بقبول مجتمعاتهم لهم، بل بجزء منها صغير ليس غير.
    بل إنه ينفى أن يكون للنبى محمد وجود تاريخى. وهذا جنون مطبق أخذه جاهزا من كلام بعض رقعاء المستشرقين بأخرة. فهو، كما قلت، مجرد أجير ينفذ ما يطلبونه منه بالحرف، وفى فمه جزمة قديمة. وهو يمضى مثرثرا ومنتجا كلاما هلواسيا يقدمه إلى القارئ على أنه هو الحق الذى لا يأتيه الباطل أبدا، إذ يقول مثلا فى مقالة له أخرى بنفس الموقع السابق تحت عنوان "دور محمد فى تأليف القرآن" (العدد 4322- 31/ 12/ 2013م): "لا تُــقدِّم لنا المصادرُ التاريخيةُ معلوماتٍ صريحةً ومباشرة عن دور محمَّد نبى الإسلام فى تأليف القرآن. لا بدَّ إذًا، لِفَهْم دَوْر محمَّد، من قراءة ما بين السطور والبحث عن المؤشرات غير المباشرة. إنَّ تضارُبَ الرويات التاريخية يشكِّك فى وجود محمَّد نفسه. فقد أشارَ المؤرِّخ محمد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس اليعمرى الربعى (ت. 734 هـ) فى كتابه "عيون الأثر"، وكذلك ابنُ كثير فى "السيرة النبوية" (ج 1، ص 197)، إلى عدة رجال حملوا اسمَ محمَّد فى وقت ظهور ما يسمَّى بالنبى محمَّد، وهم: (1) مُحَمَّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ بْنُ الجَلاحِ الأَوْسِى (2) ومُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الأَنصارِى (3) ومُحَمَّدُ بْنُ بَراءٍ البَكْرِى (4) ومُحَمَّدُ بْنُ سُفْيانَ بْن مُجاشِعٍ (5) ومُحَمَّدُ بْنُ حُمْرانَ الجُعْفِى (6) ومُحَمَّدُ بْنُ خُزاعِىّ السُّلَمِيُّ.
    فهل كان محمَّد الذى قدَّمه لنا المؤرِّخون والمحدِّثون والمفسِّرون والفقهاء شخصيةً تركيبيةً توفيقيةً لا تشير إلى شخص بذاته بل إلى عِدَّة أشخاص يحملِون طابعا معيَّنا مميَّزا؟ ألا يمكن أنْ تكون شخصيةُ محمَّد كشخصية "ليلى" وكشخصية "الذئب" فى حكاية "ذات الرداء الأحمر" (Le Petit Chaperon rouge ذات القبَّعة الحمراء)، من حيثُ أنها لا تدلُّ على شخص معيَّن؟ بل إنَّ شخصية "محمَّد" أقربُ إلى شخصية "الذئب" من حيث أنَّ الشخصيتين محمَّدٍ والذئبِ تَرمُزانِ إلى الذكورة والشهوة الغريزية. إنَّ شخصية "ليلى" لا تشيرُ إلى طفلةٍ بعينِها اسمُها "ليلى"، كما لا تشير شخصيةُ "الذئب" إلى حيوان بعينه اسمه "الذئب". بل تشير الشخصيتان إلى نموذج بدئى أو شخصية نموذجية معيارية. هذا فضلا عن أنَّ شخصيتَىْ "ليلى" و"الذئبِ" ليستا محورَ الحكايةِ بل إحدى أدواتِها، لأنَّ قلب الحكاية وهدفها هو معالجة موضوع الجنس (بحسب تحليل إريك فروم وفرويد). وينبغى، لِفَهْمِ مغزى الحكاية، قراءةُ رموزها وفكُّها. (للتوسُّع: مراجعة مقال: "ذات القبَّعة الحمراء والخبرة الجنسية"، دارين أحمد، موقع "معابر")...
    من الضرورى إذًا التمييزُ فى محمد بين شخصيتين: شخصية محمد التاريخية الحقيقية المجهولة وبين شخصية محمد الإيمانية الرمزية الأسطورية المركَّبة. وقد أشرتُ إلى ذلك فى مقالَىَّ "حقيقة النبى" و"كيف نقرأ قصص الأنبياء؟" حيث يأخذ الرواةُ والمؤرخون بعضَ عناصر من الشخصية الواقعية ليبنوا الشخصيةَ السردية الأسطورية مثلما يفعل الروائى الواقعى حين ينطلق من شخص حقيقى واقعى ليبنى شخصيتَه الروائية التى تعكسُ ذاتَه وبيئتَه أكثرَ بكثيرٍ مما تعكسُ الشخصيةَ التى انطلقَ منها. ما فعلَه كُتَّابُ السيرة يشبه تماما ما يفعله الروائى. إنَّ ما يربط شخصية محمَّد الخيالية المختلَقة المذكورة فى كتب السيرة بالشخصية التاريخية الحقيقية هو خيط رفيع يشبه الخيط الذى يربط شخصيةَ بابا نويل الخيالية بالشخصية التاريخية الحقيقية للقديس نقولا أسقف ميرا الذى قيل عنه إنه كان يوزِّعُ المالَ على المحتاجين وهو مُتَخَفٍّ. وبالتالى فعندما يقوم أحدٌ بانتقاد محمَّد فإنما ينتقد فى الواقع الصورةَ التى رسمَها الكُتَّابُ عن شخص محمَّد والتى لا تعكسُ شخصَ محمَّد بل تعكِسُ الوسط الثقافى والدينى والاجتماعى لكاتب السيرة. عندما أنتقدَ محمَّدا فإننى أنتقدُ الوصفَ الذى قدَّمه لى واضعو السيرةِ عن محمَّد والذى يُعبِّر عن بيئتهم والذى لا يصلحُ بتاتا لأنْ يكونَ نموذجا يُقْتَدى به لإنسان هذا العصر، مع التحفُّظ أساسا على مبدأ القدوة...
    يَجِبُ التنويه أولا أنه من البديهى أن القرآن من إنتاج بشر، كأى كتاب آخر، بحسب ما تقوله لنا التجربة والواقع والعِلْم. ففكرةُ أنْ يأتى ملاكٌ من السماء السابعة حاملا وحيا أو متأبِّطا كتابا إلى شخص قائلا له: "اقرأْ" هى فكرة روائية ميثولوجية تتناقض مع الواقع والبديهة والعِلم (إلا إذا اعتبرنا التأليف وحيا) شأنُها كشأن فكرة ولادة المسيح من عذراء بلا أب (إلا إذا أخذْنا كلمة "عذراء" بمعنى "أم عازبة" وكلمة "بلا أب" بمعنى "بلا أب شرعى”). ففكرة الوحى الإلهى للأنبياء بحسب المنظور الإبراهيمى عامةً والإسلامى خاصةً، وفكرةُ حمْلِ امرأةٍ من دون اتِّصال جنسى مع رجُلٍ، هما فكرتان لا معنى لهما واقعيا. وينبغى قراءةُ "الوحى" و"الحبَل بلا دنَس" قراءةً رمزيةً. ربما تشير فكرةُ الوحى الإلهى إلى تعظيم الكتابة، وقد تشير فكرةُ "الحبَل بدون رجُلٍ" إلى تحقير الجنس فى عصر ظهورهما".
    وواضح أن الرجل يسير فى واد، والإسلام والعقل والفهم السليم المستقيم فى واد آخر مختلف تماما عن وادى التيه والضلال الذى يسير فيه. وهو لا يستخدم المنطق العاقل بل يردد كالببغاء بعض كلام علماء النفس بالتواءاته وتعقيداته وفروضه العجيبة وخروجه على كل معقول متجاهلا أن هذا الكلام يتغير من وقت إلى وقت ولا يستقر، وأن علماء النفس كثيرا ما يتضاربون وينسف بعضهم كلام بعض. وسبب ذلك هو رغبته العنيفة فى تجنب الوضوح والمنطق حتى لا ينكشف جهله وعواره، فتراه يتمسح فى كلام هؤلاء الناس وكأنهم آلهة، وما يقولونه وحى لا يعرف الخطأ، ومن ثم يهاجم الإسلام خلف دريئة كلامهم لائكا المصطلحات والعبارات المهومة التى لا يمكن العقلاء أن يمسكوا بشىء منها. فالأمر كله مجرد فقاعات ما إن تطير فى الهواء الطلق حتى تنفجر فلا تخرج منها بشىء.
    وأظرف ما قال وأبعثه على الإضحاك أن التاريخ والواقع والعلم تثبت أنه لا يوجد شىء اسمه الوحى. وكنت أريد أن يبين لنا كيف أثبت التاريخ والواقع والعلم ذلك. هل أخذ مشركو قريش النبى محمدا إلى أحد المعامل المكية وأَجْرَوْا عليه التجارب العلمية وكشفوا عليه بجهاز الكذب وصوروه وهو يتلقى الوحى فبان تماما أنه لا جبريل ولا وحى ولا يحزنون، وإنما هى هلاوس وتخيلات؟ أم ترى صاحبنا يشتط فى الفجور فيزعم أنه قد أجرى ذلك على سيدنا محمد من باريس، التى يعيش صاحبنا الكذاب المدلس فيها منغنغا فى عناية الفرنسيس، على تنائى الديار وتباعد الزمان، واتضح له زيف كل ما جاء فى الحديث والقرآن والسيرة والتاريخ؟ كذلك فقوله إن فكرة الوحى الإلهى تشير إلى تعظيم الكتابة هو كلام رقيع، فهل كان الأمر يستأهل عذابات ثلاث وعشرين سنة وصداماتها وآلامها ومعاركها للوصول إلى هذه الفكرة وتفهيمها للناس؟ وهل كان العرب يكرهون الكتابة؟ إن قصائدهم مملوءة بما يشير إلى إجلالهم للقلم والخط والصحيفة. كما أنهم لم يكونوا كلهم أميين، وإن غلبت الأمية عليهم. ثم إن القرآن مفعم بموضوعات لا تكاد تنتهى إلى جانب الكلام عن الكتابة. بل إن الكتابة لا تشكل موضوعا بارزا بين موضوعاته.
    وظريف أيضا نفيه وجود النبى تاريخيا لمجرد أنه كان هناك فى الجاهلية من اسمه محمد. أرأيتم رقاعة كهذه الرقاعة؟ بسيطة، فهناك من أسماؤهم محمد الآن بعشرات الملايين، ومن أسماؤهم محمد عبد الجليل بالملايين، فهل يصح اتخاذ هذا تكأة لإنكار وجودك، وإن كان وجودك لا قيمة له؟ وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد كان المستشرقون يلحون على أن سيرة النبى محمد من الوضوح بمكان على عكس حياة السيد المسيح عليهما السلام، وكان قرودنا التابعون للفكر الاستشراقى لا يجرؤون على الشك ولو لحظة واحدة فى صحة وجوده التاريخى. أما من يوم أن ظهر فريق من المستشرقين يشكك فى هذه الحقيقة فقد رأينا عددا من قرودنا يرددون هذا الإنكار لوجوده صلى الله عليه وسلم. وهل يستطيع القرد غير هذا؟ لو استطاع ما كان قردا ولا بقى قردا!
    ولعل القارئ قد لاحظ أن محمد عبد الجليل لم يجد فى الأساطير ليشبِّه به النبى عليه السلام إلا ليلى والذئب، وبخاصة الذئب لما يرمز إليه من الذكورة والشهوة الغريزية كما ذكر، فضلا عن تأكيده أنه صلى الله عليه وسلم لا يصلح أن يكون قدوة لنا الآن، إن كان هناك شىء اسمه قدوة حسبما يقول. وهو تشبيه وراءه ما وراءه. إنه أسلوب فى الإساءة والتحقير لُقِّنَه على أيدى خبراء غربيين شياطين بحيث يشوه صورة النبى فى نفوس المسلمين مرة فى إثر مرة، ومع التكرار والتراكم يخرج النبى صلى الله عليه وسلم من عقول المسلمين ويصير شخصا عاديا بل شخصا مقيتا كما نَمْقُتُ الذئب، ويرتبط اسم نبينا العظيم بالشهوة الغريزية كما يرتبط بها الذئب طبقا لكلام قردنا الذى يشبه الخراء.
    وعودا إلى كلام هذا المضطرب العقل والفكر عن أخطاء الكتاب المجيد وخلوه من أية حقائق علمية نقول إن القرآن، بعكس ما قال، يذكر فى بساطة تامة معلومات علمية صحيحة غاية فى الأهمية والخطورة لم تكن معروفة إلى وقت قريب. فعلى سبيل التمثيل نقرأ فى الآية الثانية عشرة من سورة "فاطر" قوله تعالى: "وما يستوى البحران: هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ. ومِنْ كُلٍّ تأكلون لحما طريا وتستخرجون حِلْيَةً تلبَسونها..."، وهو ما فهمه المفسرون القدامى على غير وجهه، إذ حسبوا أن فى الآية استعمالا مجازيا قُصِد به التغليب على أساس أن الحلىّ إنما تستخرَج من البحر الملح وحده، لكن التعبير القرآنى غلَّب البحرَ الملح على البحر العذب وألحق هذا بذاك وأعطاه حكمه، مع أن تركيب الكلام فى الآية لا يسمح بهذا، إذ يقول: "ومِنْ كُلٍّ... تستخرجون حِلْيَةً تلبَسونها"، ولم يقل مثلا: "ومنهما تستخرجون حلية...". فـ"مِنْ كُلٍّ" إنما تعنى أن الحلية كما تستخرج من البحر الملح فكذلك تستخرج من البحر الحلو. أى أنها موجودة فى الأنهار مثلما هى موجودة فى البحار.
    وهناك أيضا قوله عز شأنه فى سورة "النحل" عن النحل والعسل: "يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانُه..."، الذى قال عنه علماء المسلمين القدامى إن النحل إنما ينقل العسل من الأزهار بفمه إلى خلاياه، ولا يخرج شىء من بطونه لأنه لا شىء يدخل بطنه أصلا حتى يخرج منها، وإنما الكلام على المجاز باعتبار أن ما كان خارجا من الفم فهو خارج من جهة البطن ما دام الفم والبطن فى ناحية واحدة من الجسم. نجد ذلك فى كتاب الشريف المرتضى: "تلخيص البيان فى مجازات القرآن". والحق أن العسل إنما يخرج من بطون النحل بعد أن ترتشف رحيق الأزهار ويتحول فى بطونها إلى عسل تمجه بعد ذلك من فمها.
    ولقد كنت وأنا شاب صغير، كلما قرأت ما جاء فى سورة "الفجر" عن
    "إِرَم ذاتِ العماد * التى لم يُخْلَق مثلها فى البلاد"، أَمُرّ عليها وفى نفسى حيرة، لأنى لا أستطيع أن أتصور ما يقوله القرآن عنها وعن عمادها التى لم يُخْلَق مثلها فى البلاد، وأتساءل بينى وبين نفسى: كيف لم يُخْلَق أعمدة مثل أعمدة عادٍ فى البلاد؟ وبأية وسيلة استطاعت قبيلة عربية تعيش فى قلب الصحراء قبل الإسلام بقرون أن يكون لها عِمَاد ليس لها نظير فى البلاد؟ وظل الأمر يرهق عقلى عسرا إلى أن سمعت منذ بضعة عقود فى إحدى الحلقات التلفازية عن الإعجاز فى القرآن الكريم التى كان يقدمها د. زغلول النجار أن هناك كشوفا أثرية تَمَّتْ عن طريق التقاط صور من الفضاء الخارجى من قِبَل علماءَ أمريكانٍ لأبنية تحت الأرض فى الربع الخالى من الجزيرة العربية ذات أعمدة هائلة الضخامة والطول، فارتاح فضولى، لكنى أردت أن أحصل على اسم المجلة الأجنبية التى أوردت هذا الخبر. وظللت أتتبع الموضوع حتى قرأت الفقرات التالية من مقال كبير للدكتور زغلول عنوانه: "الكشف الحديث عن إرم ذات العماد" بجريدة "الأهرام" المصرية بتاريخ 7/ 10/ 2002م:
    ‏*‏ فى سنة ‏1984‏م زُوِّد احد مكوكات الفضاء بجهاز رادار له القدرة على اختراق التربة الجافة الى عمق عدة أمتار يعرف باسم جهاز رادار اختراق سطح الأرض (Ground Penetrating Radar Or GPR) فكشف عن العديد من المجارى المائية الجافة مدفونة تحت رمال الحزام الصحراوى الممتد من موريتانيا غربا الى أواسط آسيا شرقا‏. وبمجرد نشر نتائج تحليل الصور المأخوذة بواسطة هذا الجهاز تقدم أحد هواة دراسة الآثار الأمريكان، واسمه نيكولاس كلاب Nicholas Clapp، إلى مؤسسة بحوث الفضاء الأمريكية المعروفة باسم "ناسا: NASA" بطلب للصور التى أُخِذَتْ بتلك الواسطة لجنوب الجزيرة العربية‏، وبدراستها اتضح وجود آثار مدقات للطرق القديمة المؤدية الى عدد من أبنية مدفونة تحت الرمال السافية التى تملأ حوض الربع الخالى، وعدد من أودية الأنهار القديمة والبحيرات الجافة التى يزيد قطر بعضها عن عدة كيلو مترات‏. وقد احتار الدارسون فى معرفة حقيقة تلك الآثار‏، فلجأوا الى الكتابات القديمة الموجودة فى إحدى المكتبات المتخصصة فى ولاية كاليفورنيا، وتعرف باسم "مكتبة هنتنجتون: ‏Huntington Library "، وإلى عدد من المتخصصين فى تاريخ شبه الجزيرة العربية القديم، وفى مقدمتهم الأمريكى جوريس زارينز Zarins Juris والبريطانى رانولف فينيس ‏Ranulph Fiennes. وبعد دراسة مستفيضة أجمعوا على أنها هى آثار عاصمة ملك عاد التى ذكر القرآن الكريم أن اسمها‏ "إِرَم‏" كما جاء فى سورة “ الفجر‏ “، والتى قُدِّر عمرها بالفترة من ‏3000‏ ق‏. ‏م‏. إلى أن نزل بها عقاب ربها فطمرتها عاصفة رملية غير عادية‏. وعلى الفور قام معمل الدفع النفاث بكاليفورنيا‏ "‏معهد كاليفورنيا للتقنية‏:‏ The Jet Propulsion Laboratories California Institute of Technology, J. P. L" بإعداد تقرير مطول يضم نتائج الدراسة‏، ويدعو رجال الأعمال والحكومات العربية الى التبرع بسخاء للكشف عن تلك الآثار التى تملأ فراغا فى تاريخ البشرية‏، وكان عنوان التقرير هو‏:‏ "البعثة عبر الجزيرة:‏ The Trans - Arabia Expedition "، وتحت العنوان مباشرة جاءت الآيتان الكريمتان رقما ‏7- 8‏ من سورة "الفجر"، وقد أُرْسِل لى التقرير لدراسته‏. وقد قمت بذلك فعلا وقدمت رأيى فيه كتابة الى المسئولين بالمملكة العربية السعودية‏. وقد ذكر التقرير أن اثنين من العلماء القدامى قد سبق لهما زيارة مملكة عاد فى أواخر حكمها‏، وكانت المنطقة لا تزال عامرة بحضارة زاهرة‏، والأنهار فيها متدفقة بالماء‏، والبحيرات زاخرة بالحياة‏، والأرض مكسوة بالخضرة‏، وقوم عاد مستكبرون فى الأرض‏، ويشكلون الحضارة السائدة فيها‏، وذلك قبل أن يهلكهم الله‏ تعالى مباشرة‏. وكان أحد هؤلاء هو بلينى الكبير من علماء الحضارة الرومانية‏، والذى عاش فى الفترة من‏23‏م إلى 79‏م‏، والآخر كان هو الفلكى والجغرافى بطليموس الإسكندرى، الذى كان أمينا لمكتبة الإسكندرية‏، ‏وعاش فى الفترة من‏100‏م إلي‏170‏م تقريبا‏، وقام برسم خريطة للمنطقة بأنهارها المتدفقة‏ وطرقاتها المتشعبة، والتى تلتقى حول منطقة واسعة سماها باسم‏ "‏سوق عمان". ووصف بلينى الكبير حضارة عاد الأولى بأنها لم يكن يدانيها فى زمانها حضارة أخرى على وجه الأرض‏، وذلك فى ثرائها‏‏ ووفرة خيراتها‏ وقوتها‏ حيث كانت على مفترق طرق التجارة بين كل من الصين والهند من جهة، وبلاد الشام وأوروبا من جهة أخرى‏، والتى كانت تصدر إليها البَخُور والعُطُور والأخشاب‏ والفواكه المجففة‏ والذهب والحرير وغيرها‏. وقد علق كثير من المتأخرين على كتابات كل من بلينى الكبير وبطليموس الإسكندرى بأنها ضرب من الخرافات والأساطير‏، كما يتشكك فيها بعض مدعى العلم فى زماننا ممن لم يستطيعوا تصور الربع الخالى، وهو من أكثر أجزاء الأرض قحولة وجفافا اليوم‏، مليئا فى يوم من الأيام بالأنهار والبحيرات والعمران‏. ولكن صور المكوك الفضائى جاءت مطابقة لخريطة بطليموس الإسكندرى، ومؤكدة ما قد كتبه من قبل كل منه ومن بلينى الكبير كما جاء فى تقرير معهد الدفع النفاث‏".
    كذلك لا ينبغى أن ننسى الإشارات المتكررة فى القرآن الكريم إلى البيوت الفارهة التى كانت ثمود تنحتها من الجبال. وكنت أتصورها مجرد كهوف وغيران يعيشون فيها كما تعيش الوحوش فى مثل تلك المواضع إلى أن رأيت على المشباك (الإنترنت) صورا لقصور رائعة الجمال والتصميم بارعة الهندسة والزخرفة نحتها الثموديون فى واجهات الجبال، فقلت فى نفسى: سبحان الله. وفهمتُ تلك الآيات من يومها الفهم اللائق بها، وعرفت مدى دقة القرآن وابتعاده عن إطلاق القول دون أساس وأن منتقديه ليسوا إلا مجموعة من الأوباش الضالين.
    وأمر آخر هو أن الكاتب السطحى الفكر والتفكير ينبئنا أنه سيطبق، على أخطاء القرآن ولغته، النظرية التفكيكية التى أتى بها جاك ديريدا. و"التفكيكية" فى الأدب، كما يقول طارق فايز العجاوى فى مقال له بالعدد 3859 من "الحوار المتمدن" بتاريخ 23 سبتمبر 2012م، "من المذاهب النقدية الجامحة والمتطرفة المعاصرة، وهدفها التشكيك فى أن يكون للنص الادبى معنى ثابت. ولقد أسس هذا المذهب جاك دريدا، الذى حاول أن يبرهن أن هناك عناصر كافية فى النص الادبى تمنع تمركزه او استقراره حول معنى محدد. وبذلك يكون قد تحدى البنيوية المعهودة.
    والثابت أن الرأى عند دريدا أن تفسير النص يعرض لما هو مكبوت فيه من احتمالات لامتناهية ومن لعبة المعانى التى تضيع عبر مصادر النص أو ما اصطُلِح على تسميته بـ"التناصية". على كل الأحوال يرى هذا المذهب أن سيكولوجية الإنسان تعيش تحت رحمة الجزء اللاواعى من شخصيته والذى يصعب ضبطه أو تحديده بشكل دقيق. ومن وجهة أخرى فإن القيم الإنسانية غير ثابتة، وهى عرضة للتغيير حسب الظروف المحيطة بها صغيرها وكبيرها. ومن جهة ثالثة فإن اللغة التى نستخدمها تتطور باستمرار حسب السياق والموقف والنواحى البراغماتية التى تلف النص وتحيط به. وهى اعتباطية كما أكد اللغوى الشهير سوسير، ولا يوجد علاقة حتمية أو منطقية بين المعنى واللفظ. وبناء على ذلك فإن عملية الترميز تتغير لأن اللغة بطبيعتها بلاغية. وهذه المدرسة تذهب إلى أن هناك ذاتية خاصة بين القارىء والكاتب يصعب أيضا تحديدها. وهى من أنصار القراءات المتعددة للنص الواحد".
    ثم يمضى قائلا: "ومن وراء هذه النزعة التفكيكية ليس غريبا باعتقادى تصور مفهوم عبثية الحياة فى كل شىء. وهنا تكمن بعض صور الخطورة. فإذا كانت حياتنا بلا معنى فيصعب تحديد أى هدف ضمنها. وعليه لا يخفى على أحد أن دعاة هذه المدرسة أسسوا مذهبهم كردة فعل ضد البنيويين، الذين يصرون على أن للنص الادبى بنية متراصة ومتكاملة دون الاعتماد على أى عنصر خارجى. وبدورنا نسأل: كيف يتصدى أدبنا العربى لهذه التيارات النقدية الحديثة المستوردة من الحضارة الغربية والتى بلغت حد الترف الفنى بإصرارها على إثارة تساؤلات قد تبدو غريبة علينا وعلى العالم الشرقى بشكل عام؟ والثابت أيها السادة أنه فى أدبنا العربى نوع من الثقة والإيمان بأن الصحيح صحيح، والخطأ خطأ، وأن الدين من عند الله جلت قدرته مصدر القيم الثابتة والمطلقة".
    ومن الواضح أن محمد على عبد الجليل يُجْلِب على قرائه كما تصنع الفرق الموسيقية الشعبية، بضجيجها المزعج للآذان والنفوس جميعا، فى شوارع الأحياء الفقيرة وحاراتها حين يكون هناك عرس، إذ يستخدم مصطلح "التفكيكية" رغم أنه لا يدرك معناه. وهو فى أحسن الأحوال، إذا أحسنا الظن به مخادَعةً لأنفسنا، ربما قصد أنه سيفكك النص القرآنى إلى عناصر صغيرة يتناولها عنصرا عنصرا. وهو إذن يقصد التفكيك بالمعنى العام لا التفكيكية كمصطلح فلسفى ونقدى، وإلا فلم يحاول الوصول إلى معنى فى النص القرآنى يستند إلى المنطق على حين أن التفكيكية ترى أن المعانى اعتباطية وأن كل قارئ يفهم النص بطريقته، فليس هناك معنى للنص إذن هو المعنى الصواب، وما عداه خطأ. إذن فهو رجل فقير الذهن غليظ الفهم، ومع هذا يحاول أن يبدو لنا غنيا فاحش الثراء العلمى. وبالمناسبة فديريدا يهودى الدين، وكان يعانى من الشذوذ الجنسى. ولسوف يُظْهِر الكاتب بعد قليل احتفاءه بسامى الديب النصرانى الفلسطينى المتعصب الفظ البذىء. وبالمثل سوف يرى القراء أنه فى هذا المقال قد تصدى لما لا يملك أدوات التصدى له. إنه حالة بائسة تبعث على الغثيان- إبراهيم عوض).
    ‏ (فى ما يتعلَّق بالأخطاء الواردة فى القرآن، يقدِّم المسلِمُ المؤدلَج أحكامًا مسبقة لا أساسَ لها من الصحة لا لغويا ولا تاريخيا. ولو أنه قرأَ القرآنَ بحيادية كقراءته لكتاب غير مقدَّس فسوفَ يرى الأخطاءَ بوضوح لأنَّ علاقة القارئ بالنص هى أحد أهم محدِّدات القراءة. ومن بين هذه الأفكار الجاهزة الخاطئة التى يقتنع بها (المسلمون) مِن دُونِ تفكير قولُهم إنَّ "القرآن نزلَ بين قومٍ أَكْفاء، ولو اكتشفوا أخطاءً لما سكتوا عليها" وأنه كان "محفوظًا فى الصدور"... فهُـمْ يتخيَّلون المجتمعَ الذى ظهرَ فيه القرآنُ فى الجزيرة العربية فى القرن السابع الميلادى مجتمعًا ديمقراطيا مثاليا متناسين ما نقلَــتْه المصادرُ التاريخيةُ العربيةُ والإسلاميةُ عن الجدل الكبير الذى أُثيرَ عند جمعِ القرآن (وقد أثار هذه القضية مؤخَّرًا الدكتور محمد عابد الجابرى)، ذلك الجدلِ الذى يشير إلى عدم اتفاق الصحابة على النسخة الذى نشرها عثمانُ. فابنُ مسعود مثلا رفضَ إدراجَ الفاتحة والمعوِّذتين فى القرآن، مما اضطرَّ عثمانُ، من أجل توحيد القرآن، إلى إحراق باقى المصاحف كمصحف ابن مسعود ومصحف ابن عباس ومصحف عائشة، مما جعلَ بعضُ الصحابة، وعلى رأسهم عائشة، يُـكَـفِّرون عثمان ويطالبون بقتله ويرفضون دفنه فى مقابر المسلمين.
    كما يتناسون أنَّ عوامَّ العرب آنذاك لم يكونوا أَكْفاءً (جمع: "كُفء") بل أَكِــفَّاء (جمع: "كفيف") لا يرون إلا ما تريد السلطةُ الزمنيةُ آنذاكَ أنْ تُرِيَهم إياه وأنَّ عربَ الجزيرة لم يكنْ يهمُّهم لا أخطاءُ القرآن ولا القرآنُ نفسه بل كانت تهمُّهم مصالحهم الاقتصادية ولقمة عيشهم وأنَّ كثيرًا من القبائل ارتدَّت عن الإسلام فورَ وفاة محمد- محمد عبد الجليل).
    (يقول المتنطع إن المسلِم المؤدلَج يصدر أحكامًا مسبقة لا أساسَ لها من الصحة لا لغويا ولا تاريخيا، وإنه لو قرأَ القرآنَ بحيادية كقراءته لكتاب غير مقدَّس لرَأَى أخطاءه بوضوح لأنَّ علاقة القارئ بالنص هى أحد أهم محدِّدات القراءة، وإنه من بين هذه الأفكار الجاهزة الخاطئة التى يقتنع بها المسلمون مِن دُونِ تفكير قولُهم إنَّ القرآن نزلَ بين قومٍ أَكْفاء، ولو كانوا قد اكتشفوا أخطاءً لما سكتوا عليها، وإنه كان محفوظًا فى الصدور... هذا ما قاله المتنطع! وبنفس المنطق، وعلى أساس من نفس المبدإ نقول إن الملحد كاره الإسلام والناعق بما يُلْقَى إليه من أفكار وآراء لا يمكنه التفكير بحيادية أبدا. وكيف يمكن أن يفكر بحيادية وتجرد، وهو يعرف أنه لو فعل ذلك لطُرِد طردة الكلاب الجُرْب إلى حيث الزمهرير وصرير الأسنان والضياع والفقر وعدم المقدرة على شراء أم الخبائث؟
    ويقول المتنطع أيضا إن المجتمع العربى أوانذاك لم يكن مجتمعا ديمقراطيا بل دكتاتوريا، أى أن الخليفة يتحكم فى كل أمور الرعية، ولا يستطيع أحد أن يخالف عن أمره فى دقيق أو جليل، ليعود فيقول عقب ذلك على الفور إن من المسلمين من اعترضوا أشد الاعتراض على عثمان بسبب جمعه الرعية على مصحف واحد، وكفَّروه ورفضوا دفنه فى مقابر المسلمين. فهل الجو الاستبدادى يسمح بمخالفة الحاكم على هذا النحو المطلق الحرية، فضلا عن تكفيره وتحريض الناس على قتله حتى ليقتلونه فعلا؟ إن لم تكن هذه قمة الديمقراطية، فما الديمقراطية إذن أيها الغبى؟
    أما بالنسبة إلى مسألة "المعوذتين" فتعال نحسبها بالعقل: الصحابة جميعا يرون أن المعوذتين قرآن، على حين أن فلانا وفلانا وفلانا وحدهم من الصحابة لا يَرَوْن ذلك، فبأى الرأيين نأخذ؟ من السهل أن نحكم على ثلاثة من بين الأمة كلها بالسهو أو النسيان أو الخطإ، لكن من الصعب جِدّ الصعب أن نتهم بالخطإ الأمة كلها بكبارها وأهل العلم والسياسة فيها. ترى لو كان الجو جو استبداد كما يزعم هذا المُهَلْوِس أكان يجرؤ ثلاثة على تحدى رأى باقى الأمة بما فيهم الخليفة ذاته ومساعدوه وكبار رجال الدولة؟
    ثم كيف يزعم الأفاق أن العرب لم تكن تهتم بالقرآن أدنى اهتمام بل كان كل ما يهمهم آنئذ هو مصالحهم الاقتصادية ولقمة عيشهم، وهو نفسه الذى يقول إن المسلمين قد انقسموا فريقين بسبب ما فعله عثمان من جمع المسلمين على مصحف واحد، وإن الأمر قد انتهى جراء ذلك إلى قتل الخليفة ورفض طائفة من الناس دفنه فى مقابر المسلمين؟ أهذا صنيع قوم لا يبالون بالقرآن البتة؟ يا أخا الضلال، ما دمت كذوبا فكن ذكورا حتى لا تفضح نفسك بنفسك! الحق إنك لسخيف بالغ الحمق والسفاهة! لقد حاول الكفار بكل سبيل أن يقللوا من شأن القرآن الكريم، وكانوا يقولون: "لو نشاء لقلنا مثل هذا"، وزعموا أنه ليس شيئا آخر غير أساطير الأولين، واتهموا الرسول بأنه ساحر وكاهن وكذاب ومجنون. فهل هذا موقف ناس لا يهتمون بالقرآن؟ ثم أين كانت الدكتاتورية الإسلامية من القرشيين حين كان النبى لا يزال بمكة، وكان هو الطرف الأضعف الذى ينزل به الأذى والضر وتلاحقه الشتائم والاتهامات وقذائف الأحجار والدعايات المزعجة؟ كذلك أين كانت الدكتاتورية الإسلامية من القرشيين بعد هجرته صلى الله عليه وسلم وحوارييه إلى يثرب؟ إنهم فى الحالتين لم يكونوا يخضعون لسلطانه، بل هم الذين ألجأوه إلى مغادرة بلده وترك الجمل لهم بما حمل. أى أنه لم يكن هناك شىء يجعلهم يخشونه ويمنعهم من انتقاد أخطاء القرآن "لو" كانت به أخطاء. ومع هذا لم يحدث أن خطأوه البتة.
    وإذا كان الكاتب التافه يعيب العرب حينذاك بأنهم لم يكونوا ذوى ثقافة واسعة فالرد هو أن الثقافة الواسعة شىء، والمقدرة اللغوية على إدراك ما فى القرآن من أخطاء أسلوبية شىء آخر. ذلك أنهم كانوا يعرفون لغتهم معرفة واسعة عميقة، وفيهم الشعراء والخطباء والكهان والسياسيون، فكيف وسعهم أن يسكتوا على أخطاء القرآن اللغوية لو كانت فيه أخطاء لغوية حسبما يزعم هذا الأفاك؟ وإذا كان العرب المشركون قد وسعهم الصمت رغم ذلك كله، وهو أمر غير متصور بل مستحيل، فكيف وسع الصمت اليهود والنصارى، وقد كان بين كل من الفريقين وبين الرسول خلافات وخصومات من شأنها أن تدفعهم دفعا إلى العمل على تخطئته وتخطئه الكتاب الذى أتى به قائلا إنه وحى من عند رب العالمين؟
    لقد انتقد نصارى نجران مثلا ما جاء فى القرآن المجيد من أن مريم هى أخت هارون، كما كان اليهود فى يثرب يسخرون من الأذان والصلاة واصفين نداء المؤذن بنهاق الحمير. فكيف يزعم السخيف العقل أن العرب كانوا يخشون دكتاتورية الدولة المسلمة؟ وقبل أن يمسك هذا السفيه بـ"مريم أخت هارون" هذه ويعمل منها قصة مدعيا هو أيضا أن القرآن قد أخطأ خطأ تاريخيا لأن بين مريم أم عيسى وبين هارون أزمنة طوالا هأنذا أستبق الأحداث وأقول له إن استعمالات الكتاب المقدس للأخوّة فى المعانى المجازية كثيرة. وفى عدد غير قليل من هذه الاستعمالات المجازية للأخوّة فى الكتاب المقدس تدخل "مريم أخت هارون" بكل سهولة ويسر. وقد قال الرسول عليه السلام ردا على اعتراض بعض من كبار نصارى نجران على هذه التسمية إن بنى إسرائيل كانوا يسمون بأسماء صالحيهم، وهو ما تعضده "دائرة المعارف الكتابية" فى مادتى "أخ" و"أخت".
    عن المغيرة بن شعبة: "بعثَنى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إلى نجرانَ، فقالوا لى: ألستُمْ تقرأونَ: "يَاأُخْتَ هَارُون"، وقد كانَ بينَ موسى وعيسى ما كانَ؟ فلم أدرِ ما أُجِيبُهُم. فرجعتُ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فأخبرتُه، فقالَ: ألا أخبرتَهُم أنَّهم كانوا يُسمُّونَ بأنبيائِهِم والصَّالحينَ قبلَهُم؟". فإذا كان الأمر كذلك فأين الدكتاتورية التى تمنع العرب من انتقاد القرآن لو كانت فيه أخطاء لغوية؟ ولقد كانت بين مشركى مكة ومسلمى المدينة نقائض شعرية عنيفة ردد المشركون خلالها كل ما يمكن تصوره من الاتهامات للنبى ودينه ورجاله، ومع هذا لا نجد فى هذه الأشعار القرشية أى شىء يمس القرآن من الناحية اللغوية. ثم لو كان الأمر قائما على الدكتاتورية كما يزعم هذا الكيذبان فلماذا يا ترى لم يهمل المسلمون تلك الأشعار فكأنها لم تكن، بدلا من روايتها والحفاظ عليها حتى لتصير مادة أدبية وعلمية تدرَّس فى المدارس والجامعات وتؤلَّف فيها الدراسات والكتب؟ على أن القرآن ليس هو الذى سماها: "أخت هارون" بل اليهود حين جاءتهم تحمل الصغير عيسى دون أن تكون قد تزوجت. ولقد سمع اليهود فى المدينة بـ"مريم أخت هارون"، وأن أسلافهم هم الذين أطلقوا عليها تلك التسمية. وكان حريا بهم أن يعترضوا ويسخروا من هذا الذى يحكيه القرآن فيقولوا إن أسلافنا لم يقولوا ذلك. لكنهم سكتوا، والسكوت علامة الرضى، وبخاصة من اليهود ذوى الألسنة الوقحة المغرمة باختراع البهتان وترويجه.
    وهذا ما قالته "دائرة المعارف الكتابية" عن استعمالات "أخ" و"أخت" فى الكتاب المقدس: فـ"الأخت تستخدم كثيرا فى العهد القديم، وهى فى العبرية "أبوت"، للإشارة إلى:
    1- أخت شقيقة من نفس الأبوين.
    2- أخت من أحد الأبوين (تك 20: 12 ، لا 18: 9).
    3- امرأة من نفس العائلة أو العشيرة (تك 24: 60، أى 42: 11).
    4- امرأة من نفس البلد أو الناحية (عدد 25: 28).
    5- يقال مجازيا عن مملكتى إسرائيل ويهوذا إنهما أختان (حز 23: 4).
    6- تعتبر المدن المتحالفة أخوات (حز 16: 45).
    7- تستخدم نفس الكلمة العبرية لوصف أشياء ذات شقين أو أشياء مزدوجة، مثل الستائر أو الشقق التى يقال عنها "بعضها موصــول ببعض" ( وفى العبرية "موصول بأخته" - خر 26: 3 و6)، كما تطلق أيضا على أزواج الأجنحة (حز 1: 9، 3: 13).
    8- لوصف بعض الفضائل المرتبطة بالشخص مثل "قل للحكمة: أنت أختى" (أم 7: 4، أى 17: 14).
    9- لوصف العلاقة بين محب وعروسه كتعبير عن الإعزاز (نش 4: 9، 5: 1، 8: 8).
    وفى العهد الجديد تستخدم الكلمة اليونانية "أيلف" (أخت) فى المعانى الآتية:
    (1) لوصف القرابة بالجسد أو بالدم (مت 12: 5، 13: 56، 19: 29، لو 10: 39، لو 14: 26، يو 11: 1، 19: 25، أع 23: 16).
    (2) أخت فى المسيح: "أختنا فيبى" (رو 16: 1، انظر أيضا 1 كو 7: 15، 1 تى 5: 1، يع 2: 15).
    (3) قد تشير إلى كنيسة: "أختك المختارة" (2 يو 13)".
    و"يطلق لفظ الأخ على:
    1- الابن فى علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تك 4: 8، 42: 4، مت 10: 2).
    2- الابن لنفس الأب فقط دون الأم (تك 20: 12، 42: 3) أو لنفس الأم فقط دون الأب (قض 8: 19).
    3- على قريب من الأسرة الواحدة، كابن الأخ مثلا. فقد قال أبرام عن لوط ابن أخيه إنه "أخوه" (تك 14: 12 و16).
    4- على أفراد السبط الواحد (2 صم 19: 12).
    5- أطلق اسم "إخوة" على الأفراد من الشعب الواحد (خر 2: 11، أع 3: 22، عب 7: 5).
    6- على حليف أو أحد أفراد شعب حليف (عدد 20: 14، تث 23: 7، عاموس 1: 9).
    7- على شخص يشابه شخصا آخر فى صفة من الصفات (أم 18: 9).
    8- على الأصدقاء (أيوب 6: 15).
    9- على شخص يماثل شخصا آخر فى المرتبة أو المكانة (1 مل 9: 13).
    10- على شخص من نفس العقيدة الواحدة (أع 11: 29، 1 كو 5: 11).
    11- تستخدم مجازيا للدلالة على المشابهة كما يقول أيوب: "صرت أخا للذئاب" (أيوب 30: 29).
    12- على زميل فى العمل أو فى الخدمة (عزرا 3: 2).
    13- أى إنسان من الجنس البشرى للدلالة على الأخوة البشرية (مت 7: 3 - 5، أع 17: 26، عب 8: 11، 1 يو 2: 9، 4: 20).
    14- للدلالة على القرابة الروحية (مت 12: 50).
    15- قال الرب للتلاميذ: "أنتم جميعا إخوة" (مت 23: 8). كما استخدم الرسلُ والتلاميذُ لفظَ "إخوة" للتعبير عن بنوتهم المشتركة لله وأن كلا منهم أخ للآخر فى المسيح (أع 9: 17، 15: 1 … إلخ)، فالمؤمنون جميعا إخوة لأنهم صاروا "رعية مع القديسين وأهل بيت الله" (أف 2: 9). وقد كان الربيون اليهود يفرقون بين "أخ" و"قريب" فيستخدمون لفظة "أخ" لمن يجرى فى عروقهم الدم الإسرائيلى، أما لفــظ "قريب" فيطلقونه على الدخلاء، ولكنهم لم يكونوا يطلقون أى لفظ من اللفظين على الأمم. أما الرب يسوع والرسل فقد أطلقوا لفظة "أخ" على كل المؤمنين، ولفظة "قريب" على كل البشر (1 كو 5: 11، لو 10: 29). وكل المجهودات الكرازية وأعمال الخير إنما هى من منطلق هذا المفهوم المسيحى لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
    16- للدلالة على المحبة القوية المتبادلة (2 صم 1: 26، كو 4: 7 و9 و15 و2 بط 3: 15)"- إبراهيم عوض).
    (ثم إنَّ عمليةَ كشْفِ أخطاءِ القرآن فى بداية ظهوره لم تكنْ ممكنةً لأنه كان محصورًا فى نطاقٍ ضَيِّـق، ولم يكنْ قد انتشرَ. ولذلك لم يؤبَه به فى بداية الأمر. وعندما انتصرَ المسلمون وانتشرَ قرآنُهم أصبحَت عمليةُ كشْفِ أخطاء القرآن أصعبَ بكثيرٍ بل غيْرَ ممكنةٍ اجتماعيا ولا سياسيا. فإذا كنا فى عصرِنا الحالى عصرِ حرية التواصل نجد كثيرًا من المسلمين يحاولون بشتى الطرق إغلاق صفحة "أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية" التى أنشأها الأخ الباحثُ والمترجِمُ سامى الذيب على شبكة التواصل "فيس بوك" فكيف كانت الحالُ فى القرون الوسطى فى الجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام؟ وكيف كان سيُسْمَح لمنتقدٍ أنْ يبيِّنَ الأخطاءَ اللغوية إذا كان لا يُسْمَح أساسًا إلا لمسلمٍ أو منافقٍ أنْ يعيش فى الجزيرة العربية؟ ولو أنَّ أحدًا تجرَّأَ وأظهرَ خطأً فى القرآن فمن سيروى عنه؟ أين مؤلفات ابن الراوندى النقدية على سبيل المثال؟
    إنَّ عدم وجودِ مصادرَ تاريخيةٍ تُشِير إلى كشف معاصرى القرآن لأخطاء القرآن لا يعنى أبدًا عدمَ وجودِ أخطاءٍ فيه ولا يعنى أنَّ خصومَ القرآن لم يكتشفوا أخطاءه، بل يعنى عدمَ وجودِ حُرِّيةٍ كانت تسمح بانتقاد القرآن وكشفِ عيوبِه أو تسمح بالحفاظ على الآثار النقدية للقرآن إنْ وُجِدَت. فإذا كان عثمانُ نفسُه قد أحرقَ جميعَ المصاحف الأخرى وأسكَتَ بالعنف جميعَ الأصوات المعارِضة، ووظَّفَ مؤيدوه أساليبَ بلاغيةً وفقهيةً لتبرير أخطاء القرآن وتناقضاتِه (مثل أسلوب "الالتفات" [الذى يَندُرُ فى شِعرِ ما قبلَ الإسلام ويكثرُ جدًا فى القرآن] و"التقديم والتأخير" و"الاعتراض" و"الحذف والتقدير" وأحكام "الناسخ والمنسوخ" وبعض القراءات وبعض التبريرات النحوية الإعرابية وكثير من الأحاديث وكثير من التفاسير) فكيف بأتباعه الذين تحجَّرَتْ عقولُهم بفعلِ القرآنِ عبْرَ العصورِ أنْ يسمحوا لأحد أنْ يبيِّنَ لهم أخطاءه؟- محمد عبد الجليل).
    (كالعادة يقول الكاتب الشىء ونقيضه، فيزعم أن العرب فى بداية أمر القرآن لم يكونوا يأبهون به، ولهذا لم يهتموا بتبيين ما فيه من أخطاء، ثم يستدير من الناحية الأخرى فيقول إنهم قد خَطَّأوه لكن المسلمين قد استبدوا بهم واضطروهم للسكوت. فكيف نوفق بين هذا وذاك، وهما نقيضان لا يمكن التوفيق بينهما؟ أما كتب ابن الراوندى فكثير مما كانت تتضمنه موجود فى كتب من ردوا عليه. بل إنها كانت موجودة حتى عصر ابن الجوزى على الأقل، إذ ذكر فى كتابه: "المنتظم"، الذى نقل خلاله كثيرا من هجومه على الإسلام والرسول وفَنَّد صبيانياته فى الاعتراض على القرآن، أنه قد اطلع عليها بنفسه: "كنت أسمع عنه العظائم حتى رأيت في كتبه ما يخطر على قلب أن يقوله عاقل، فمن كتبه: "كتاب نعت الحكمة"، و"كتاب قضب الذهب"، و"كتاب الزمرد"...". ومع هذا لم نسمع أن أحدا لا من العلماء ولا من العوام ولا من أصحاب السلطة قد تعرض له بسوء.
    بل إن ابن خلكان قد أثنى عليه وجعله من فضلاء عصره وترحم عليه: "أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الرواندى العالم المشهور. له مقالة فى علم الكلام، وكان من الفضلاء فى عصره، وله من الكتب المصنفة نحو من مائة وأربعة عشر كتابا منها كتاب "فضيحة المعتزل وكتاب التاج وكتاب الزمرد وكتاب القصب" وغير ذلك. وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها أهل الكلام عنه فى كتبهم. توفى سنة خمس وأربعين ومائتين برحبة مالك بن طوق التغلبى، وقيل: ببغداد، وتقدير عمره أربعون سنة، وذكر فى البيتان أنه توفى سنة خمسين، والله أعلم، رحمه الله تعالى".
    وفى"البداية والنهاية" لابن كثير نقرأ ما يلى: "أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين بن الراوندى، نسبة إلى قرية راوند ببلاد قاشان ثم نشأ ببغداد، كان بها يصف الكتب فى الزندقة، وكانت لديه فضيلة، ولكنه استعملها فيما يضره ولا ينفعه فى الدنيا ولا فى الآخرة. وقد ذكرنا له ترجمة مطولة حسبما ذكرها ابن الجوزى فى سنة ثمان وتسعين ومائتين، وإنما ذكرناه ههنا لأن ابن خلكان ذكر أنه توفى فى هذه السنة، وقد قلس عليه، ولم يجرحه بل مدحه فقال: هو: أبو الحسين أحمد بن إسحاق الراوندى العالم المشهور، له مقالة فى علم الكلام. وكان من الفضلاء فى عصره، وله من الكتب المصنفة نحو مائة وأربعة عشر كتابا منها "فضيحة المعتزلة، وكتاب التاج، وكتاب الزمردة، وكتاب القصب" وغير ذلك. وله محاسن ومحاضرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها عنه أهل الكتاب. توفى سنة خمس وأربعين ومائتين، برحبة مالك بن طوق التغلبى، وقيل: ببغداد".
    وفى "الوافى بالوفَيَات" لصلاح الدين الصفدى ضمن ترجمته لابن الراوندى: "وقال محمد ابن إسحاق النديم: قال البلخى فى كتاب "محاسن خراسان": أبو الحسين أحمد ابن الراوندى من أهل مرو الرّوذ من المتكلمين. ولم يكن فى زمانه فى نظرائه أحذق منه بالكلام ولا أعرف بدقيقه وجليله منه. وكان فى أول أمره حسن السيرة جميل المذهب كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك كلّه لأسباب عرضت له ولأن علمه كان أكثر من عقله... قال: وقد حُكِىَ عن جماعة أنه تاب عند موته مما كان منه وأظهر الندم واعترف بأنه إنما صار إليه حميّةً وأنفةً من جفاء أصحابه وتنحيتهم إيّاه من مجالسهم...
    وقال السيد أبو الحسين محمد بن الحسين بن محمد الآملى: سمعت والدى يقول قلت لأبى الحسين ابن الراوندى المتكلّم: أنت أحذق الناس بالكلام، غير أنك تَلْحَن. فلو اختلفتَ معنا إلى أبى العباس المبرد لكان أحسن. فقال: نِعْمَ ما قلت. نبهتَنى لما أحتاج إليه. قال: فكان مِنْ بَعْدُ يختلف إلى أبى العباس المبرّد. قال: فسمعت المبرّد يقول لنا: أبو الحسين ابن الراوندى يختلف إلىَّ منذ شهر، ولو اختلف سنةً احتجتُ أن أقوم من مجلسى هذا وأُقْعِده فيه".
    ومن بين اعتراضات ابن الراوندى على القرآن تساؤله التهكمى عن قوله تعالى: "إن كيد الشيطان كان ضعيفا": أَىُّ ضعفٍ له، وقد أخرج آدمَ وأَزَلَّ خَلْقًا؟ وقد رد ابن الجوزى قائلا: هذا تغفُّلٌ منه لأن كيد إبليس تسويلٌ بلا حجة، والحجج تردُّه، ولهذا كان ضعيفا، فلما مالت الطباع إليه أثر وفعل. هذا ما قاله ابن الجوزى، ويمكن أن نضيف إليه أن الشيطان ضعيف بالنسبة إلى الله تعالى، الذى خلقه، وأقدره على إثارة شهوات البشر، فيستجيب له الضعفاء الخائرو العزيمة، ويصده وينتصر عليه المؤمنون ذوو الهمم العالية. وكل المخلوقات بما فيها الشيطان هم فى الحقيقة لاشىء إلا بما أقدرهم عليه ربهم. والإنسان قادر على أن يغلب الشيطان بوعيه وإيمانه وخشيته من ربه وحرصه على كرامته وسمعته، فيكون الشيطان أمامه ضعيفا عاجزا عن فعل شىء. وهناك حديث يتكلم فيه النبى عن النساء وقدرتهن على الذهاب بلب الحليم مع ما هن عليه فى الحقيقة من ضعف. كما حذر عليه الصلاة والسلام من فتنتهن رغم تسميته لهن فى ذات الوقت بـ"القوارير"، أى الكائنات الهشة. وكم من ضعيف غلب قويا، وكم هزمت المرأة الرجل بدموع عينيها، التى هى عنوان الضعف والانكسار والمذلة! وكم تغلبت عليه بنظراتها الذابلة الواهنة مما أفاض فيه الشعراء وفضحوا أنفسهم به متلذذين بتلك الفضائح مستعذبين لها! وما أكثر ما تخسر فرق الكرة العملاقة أمام فريق ضعيف لا يساويها فى شىء، لكنه أمامها يستبسل ويستقتل، فى الوقت الذى تغتر هى وتستهين به متصورة أنها تستطيع فى أية لحظة من المباراة أن تسحقه كما تريد، إلى أن يمر الوقت ويفلت منها الزمام دون أن تشعر، فيفوز الفريق الضعيف أو يخرج على الأقل متعادلا معها بينما تنهار الفرق القوية أمامها بسهولة شديدة.
    كذلك لا يصح أن ننسى أن الله سبحانه يقف مع عباده المؤمنين يطمئنهم ويبشرهم أنه غفور رحيم وأنهم مهما اقترفوا من السيئات يمكنهم محوها من صحائف أعمالهم إذا ما ندموا ورجعوا عن غيهم ولم ييأسوا فيُسْلِموا للشيطان مقادتهم. فهم إذن أقوياء بغفران ربهم لهم. كما أن انتصار الشيطان على العبد ليس ضربة لازب، إذ هو مجرد موسوِس: والعبد هو الذى يقرر أينصاع له أم لا. وحتى لو تصادف أن كان العبد، عند وسوسة الشيطان له، فى لحظة سهو أو غفلة أو ضعف فلم يستطع الصمود أمامه لأن الإغراء كان عنيفا، والحمل باهظا، فإن الله سبحانه برحمته لا يعاقبه لأن الأمر كان فوق استطاعته، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وكل هذا يجعل الشيطان ضعيفا إزاء المؤمن. وهذا معنى أن كيد الشيطان كان ضعيفا. كذلك كان هناك من يعبد الشيطان متصورا أنه إلهٌ مَثَلُه مَثَلُ الله سبحانه وتعالى سواء بسواء، وأن الأمر هو أمر صراع بين إلهين. فأراد الله سبحانه أن يبين أبعاد طبيعة الشيطان، وأنه ضعيف: "وقال الله: لا تتخِذوا إلهين اثنين. إنما هو إلهٌ واحدٌ. فإياى فارهبون"، وأنه مجرد مخلوق كالإنسان حسبما أقر هو بنفسه إذ قال مخاطبا ربه مقارنا بين نفسه وبين آدم: "خلقتَنى من نار، وخلقتَه من طين".
    ومن بين ما قاله ابن الراوندى أيضا وردَّ عليه ابن الجوزى تعليقه على قوله عز شأنه لآدم عند خلقه وإسكانه الجنة الأولى: "إن لك ألا تجوعَ فيها ولا تَعْرَى"، إذ عقّب على ذلك ساخرا: "وقد جاع وعَرِىَ"، متهما الله سبحانه بأنه لم يحفظ وعده لآدم، فقال ابن الجوزى: وهذا المغفل الملعون ما فَهِمَ أن الأمر مشروط بالوفاء بما عُوهِد عليه من قوله: "ولا تَقْرَبا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين". ويمكن أن نفصِّل الكلام أكثر فنقول إن الله قد وعده ألا يجوع أو يعرى وألا يظمأ أو يَضْحَى ما دام باقيا فى تلك الجنة. ولم يتخلف هذا الوعد قط، إذ لم يجع آدم وحواء أو يَعْرَيَا أو يظمآ أو يَضْحَيَا فيها. إنما حدث كل ذلك لهما بعد خروجهما من الجنة ونزولهما إلى الأرض أُمِّ الأحزان والمتاعب عندما فشلا فى الامتحان واستطاع الشيطان تضليلهما فى غمرة من نسيان أبينا آدم وضياع عزيمته.
    ومما غلَّط فيه ابن الراوندى القرآنَ كذلك قولُه سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا، لا تسألوا عن أشياءَ إن تُبْدَ لكم تَسُؤْكم"، إذ قال مستنكِرا متهِما: وإنما يكره السؤالَ ردىءُ السلعة لئلا تقع عليها عين التاجر فيفتضح. فكان جواب ابن الجوزى على ذلك: فانظروا إلى عامية هذا الأحمق الملعون وجهله. أتراه قال: لا تسألوا عن الدليل على صحة قولى؟ إنما كانوا يسألون فيقول قائلهم: مَنْ أَبِى؟ فقال: "لا تسألوا عن أشياء"، يعنى: من هذا الجنس، فربما قيل للرجل: "أبوك فلان"، وهو غير أبيه الذى يعرف فيفتضح. يقصد ابن الجوزى أن هناك أولادا جاؤوا من الزنا، وبخاصة فى الجاهلية، والناس لا تعرف هذا، والطبق مستور لا داعى لإزاحة الغطاء عنه وكشف ما فيه. لكن بعضهم أراد أن يعرف من الرسول عن طريق الوحى: مَنْ أبوه؟ فنهاهم القرآن عن ذلك. ونحن نعرف أن جدران البيوت تخفى وراءها أسرارا كثيرة وخطيرة. والله أمر بالستر، ولا داعى لإثارة الفضائح. ويجرى هذا المجرى ما حدث من أحد المسلمين حين أتى الرسولَ عليه السلام ينبئه بأنه قد رأى فلانا وفلانة وهما يزنيان، وظن أن الرسول سوف يفرح بانكشاف أمر هذين الخاطئين الخارجين على تعاليم العفة والطهارة. فما كان من الرسول الكريم إلا أن قال له على غير ما يتوقع منه: هلا سترتَهما بثوبك؟ لكن ابن الراوندى لم يفهم الكلام، أو قل: إنه فهم، لكنه أراد أن يشغب على القرآن بغير حق، بالضبط كما يفعل محمد على عبد الجليل. فهم ذريةٌ بعضها من بعض، والله سميعٌ عليمٌ.
    وبعدما رأينا مستوى ذوق ابن الراوندى المنحط فى فهم الآيات القرآنية الكريمة كيف يريدنا محمد على عبد الجليل السائر على دربه والمتبع خطاه أن نأخذ بكلامه ونترك فطاحل الأدب شعره ونثره، وكبار العلماء اللغويين والنقاد والبلاغيين ومفسرى القرآن؟ ومن ذلك مثلا قول المعرى فى "رسالة الغفران" يحقر من شأنه ويتهكم به وبكتابه: "الدامغ"، الذى ألفه فى الحط من مكانة القرآن: "فما أخاله دَمَغَ إلاّ مَنْ ألَّفَه، وبسوء الخلافة خلفه… إن هذا الكتاب الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتابٌ بَهَرَ بالإعجاز، ولَقِىَ عدوَّه بالإرجاز، ما حُذِىَ على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون ولا الرجز من سهلٍ أو حُزُون، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكَهَنة ذوى الأَرَب، وجاء كالشمس اللائحة للمـسرّة والبائحة. لو فهمه الهضب الرّاكد لتصدَّع، أو الوعول المُعْصِمة لراق الفادرة والصدّع. وتلك الأمثال نضربها للنّاس لعلهم يتفكرون. وإنّ الآية منه أو بعض الآية لتعترض فى أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشَّهاب المتلألئ فى جنح غَسَق، والزّهرة البادية فى جُدُوبٍ ذات نَسَق. فتبارك الله أحسن الخالقين". ثم أين ذائقتنا نحن الأدبية التى تؤكد تأكيدا تاما أن أسلوب القرآن أسلوب فحل جليل وليس كأساليب البشر، بالإضافة إلى الروح السارية فيه من "الفاتحة" إلى "المعوّذتين"، تلك الروح الجليلة السامقة الشاهقة التى لا تشبه الروح البشرية بأية حال؟
    وكيف يزعم محمد على عبد الجليل أن القرآن فى بداية أمره كان محصورا فى نطاق ضيق؟ أوقد جاء الرسول بدعوته لزوجته وأصدقائه ليس إلا؟ نعم لقد كان يخص بها القريبين منه فى البداية الأولى، وتلك طبيعة الأشياء، فكل شىء يبدأ صغيرا ثم يكبر ويتسع. لكن هذا الوضع لم يستمر طويلا، وصار عليه السلام بعد ذلك يغادى بقرآنه القرشيين ويماسيهم، وكثيرا ما تحداهم أن يأتوا بمثله، ولم يحدث أن خَطَّأ أحدهم القرآن رغم هذا، وإنما كان أقصى ما قالوه ردا على هذا التحدى المخزى لهم هو: "لو نشاء لقلنا مثل هذا". وإذا كانوا صادقين فلماذا لم يبدعوا مثل القرآن حتى يُسْكِتوا محمدا فلا يعود إلى إيلامهم بهذا التحدى الفاضح؟
    ثم إن الكاتب المتهافت الفكر يشير إلى سامى الديب النصرانى الفلسطينى السطحى الفكر وكأنه عالم نحرير لا يشق له غبار. وأنا حين أقول هذا فمن معرفتى به منذ أكثر من عقد من الزمان من خلال منتديات "واتا". كما درست ترجمته لسورة "مريم" كمثال لترجمته التافهة للقرآن كله، وبينت ما فيها من خلل شديد وسطحية مضحكة وأخطاء تدل على أن صاحبها جاهل فى هذا الميدان. ولغته العربية فوق هذا لغة ركيكة لا تخول لصاحبها الاقتراب من كتاب الله، بله تخطئته والتشنيع عليه، علاوة على لسانه الذَّفِر فى الحديث عن القرآن والنبى الكريم، ذلك اللسان الذى يستحق أن يقطع بسكينٍ ذَفِرٍ مثله، فما بالنا باللغة الفرنسية التى تَرْجَم إليها القرآن؟
    وكالعادة يتناقض كاتبنا الأهوج فيقول إن عثمان قد أحرقَ جميعَ المصاحف الأخرى وأسكَتَ بالعنف جميعَ الأصوات المعارِضة، ووظَّفَ مؤيدوه أساليبَ بلاغيةً وفقهيةً لتبرير أخطاء القرآن وتناقضاتِه، مع أنه قد أشار من قبل إلى تكفير طائفة من المسلمين لعثمان وقتلهم إياه ورفضهم دفنه فى مقابر المسلمين؟ فكيف كان عثمان مستبدا مع خصومه، وموقفُهم هذا منه يدل أقوى دلالة على أنه لم يكن هناك استبداد ولا يحزنون؟ كذلك يعد الكاتب المختل أسلوب "الالتفات" و"التقديم والتأخير" و"الاعتراض" و"الحذف والتقدير" من أعراض الضعف اللغوى والأسلوبى فى القرآن، مع أن كل آداب العالم تعرف تلك الأساليب البلاغية وتتفنن فيها، وتعد ذلك من سمات الروعة البيانية.
    وأخيرا فدعواه بأن المعترضين على أسلوب القرآن ما كان يمكنهم توصيل أصواتهم إلينا لأن المسلمين لم يكونوا ليرووا هذه التخطئات التى تمس كتابهم، تبرهن أنه كذاب كبير، إذ المسلمون لا يعرفون طمس الآراء المخالفة لدينهم. وكتب التاريخ والأدب والسيرة والحديث تعج بأقوال المنافقين والملاحدة والشكاك فى القرآن دون أية مبالاة بأى شىء. بل إن القرآن العظيم ليحتوى على كل ما وجه إليه من تهكمات من قِبَل المشركين والمنافقين واليهود. فإذا كان صفحات القرآن ذاته قد اتسعت لتقييد تهجمات أعدائه عليه فكيف يدور فى خَلَدنا أن المسلمين يمكن أن يمحوا ما قاله مخطئو القرآن ولا يأتوا على سيرته أبدا؟ وسوف نرى أن كتب ابن الراوندى قد بقيت بضعة قرون على الأقل، كما بقيت آراؤه متاحة لنا حتى الآن من خلال من ردوا عليه، إذ كانوا يوردون نص أقاويله ثم يكرّون عليها تفنيدا وتفتيتا. ولا أستبعد أن تظهر هذه الكتب كلها أو بعضها فى يوم من الأيام، فما زالت هناك آثار فكرية إسلامية كثيرة جدا مختفية، ثم تفاجئنا الأيام والليالى بين الحين والحين بطفو بعضها على السطح بعدما كنا يائسين من العثور عليها- إبراهيم عوض).
    (إنَّ أهمَّ أهدافِ التفاسير وكتب النحو ليس شرْحَ آياتِ القرآن فحسْبٌ بل تبريرُ تناقضاتِه وأخطائه وتغطية عيوبه. فكانت التفاسيرُ تقوم بعملياتِ تجميلٍ لهذا الكِتابِ- الهُوِيّة. وقد أكملَتْ ترجماتُ القرآن ما بدأَتْه التفاسيرُ فصلَّحَت ما أَمْكَنَ تصليحُه من عيوبٍ ورمَّـمَتْ ما أمْكَنَ ترميمُه من فجواتٍ وتفكُّكٍ وتناقضات. ويحاولُ عبثًا مروِّجو سرابِ الإعجاز العلمى أنْ يَلْوُوا عُنُقَ النص القرآنى ليبدوَ منسجمًا مع العِلْم ويحاولون بغبار التوفيقية concordisme أنْ يردموا البحرَ المحيطَ الفاصلَ بين النص الذى يقدِّسونه وبين العِلم.
    إنَّ كثيرًا من الأخطاء التى حصلَتْ عند جمعِ القرآن وكذلك عند تنقيطه لا علاقةَ لها بفصاحة العرب المسلمين بل بعدمِ معرفتهم بسياق القرآن وبخفايا وَضْعِه وبمصادره أولا، وبكونهم يعتبرون القرآنَ مقدَّسًا ثانيًا، مما جَعَلَهم لا يجرؤون على مجرَّد التفكير بكشف أخطائه ولا على تصحيحها فيما لو كشفوها. فإذا كان بعضُ معاصرى القرآن من المقرَّبين لمحمَّد وربما لمؤلفى القرآن وممن لا يُشَــكُّ فى معرفتِهم الواسعة بالعربية وببيئة القرآن (كعُمَرَ وأبى بكر وابن عباس) لم يفهموا معانى بعضِ الكلمات فيه (كمعنى "الأَبّ" [عبسَ، 31] و"الغِسْلين" [الحاقَّة، 36] و"حنانًا" [مريم، 13] و"أَوَّاه" [التوبة، 114] و"الرَّقِيم" [الكهف، 9]) بحسب السيوطى فكيف بالمتأخرين؟ (راجع "الألفاظ الأعجمية فى القرآن ودلالتها والتحدِّى ومعناه"، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=342785)- محمد عبد الجليل).
    (من يقرأ هذا الكلام ولا يعرف القرآن سوف يظن أن كتب التفسير مملوءة بالمحاولات العابثة لتغطية عيوب القرآن وأغاليطه اللغوية والأسلوبية. وهو تصور مضحك. ولو كان فى القرآن تلك الأغاليط التى يبدئ ذلك السخيف فيها ويعيد لما سكت المشركون ولا اليهود ولا النصارى ولا المنافقون. وإذا كان المنافقون قد وصفوا النبى عليه السلام بأنه "أُذُن"، أى ساذج غُفْل ينضحك عليه بسهولة ويُصَدِّق كل ما يقال له دون تحقيق أو تمييز ثم لم يفعل الرسول لهم شيئا أىّ شىء، بل سجل القرآن تلك الشتيمة فى صفحاته بحيث صارت قراءتها مع سائر النص الكريم عبادة يؤجر صاحبها عليها، إذا كان الأمر كذلك فكيف نصدق أن أحدا لم يكن يجرؤ على الإشارة إلى أغلاط القرآن اللغوية؟ لقد قال المشركون فى مكة ما هو أدهى من ذلك، إذ قالوا إن بعض البشر هم الذين علموا محمدا القرآن. فما الذى فى الكلام عن أخطاء اللغة فى القرآن من خطورة تخيف القائلين بها وتمنعهم من إعلانها؟ وعلى كل فإن المفسرين إنما يتعلمون من القرآن لسد النقص والثغرات فى لغتهم وعلمهم لا العكس كما يقول هذا التافه. وفى القرآن كنوز لغوية لا توجد فى أى نص آخر شعرى أو نثرى، وتقوم كتب التفسير باستخراج الجواهر النفيسة من تلك الكنوز العظيمة. ونحن جميعا مدينون بغنى لغتنا للقرآن الكريم، الذى دلتنا على جواهره كتب التفسير. وقد حللت أسلوب طه حسين، فألفيته متأثرا تأثرا واسعا وعميقا بأسلوب القرآن المجيد رغم ما اشتهر به الدكتور طه من تمرد على كتاب الله فى أوليات حياته التأليفية. يجد القارئ هذا فى كتابى: "دراسات فى النثر العربى الحديث" فى الفصل الخاص بمجموعة "المعذبون فى الأرض". وإذا كان القرآن قد غلب د. طه رغم تمرده عليه فما بالنا بغير د.طه؟
    أما كلام سخيفنا السورى عن ترجمات القرآن الكريم ودورها فى التغطية على عيوبه وطمسها فهو كلام فى الهجايص. ذلك أن ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى لا يقوم بها المسلمون وحدهم بل يَشْرَكهم فيها بل سبقهم إليها المستشرقون وأعداء الإسلام كما هو معروف. كذلك فكلام هذا المدلس يوهم الجهلاء بأن القرآن قد تغير كثيرا بسبب ترجماته. ومعنى هذا أن القرآن يتغير كل يوم مبتعدا عن أصله الأول. فكيف هذا يا ترى؟ ولماذا لم يتقدم مدلسنا أو أى مدلس آخر فيشير إلى ما صححته الترجمات القرآنية من أغلاط لغوية فيه؟ قالوا: الجمل صعد النخلة. قلنا: هذا الجمل، وهذه النخلة، فأَرُونا كيف صعدها.
    وبعكس ما يزعم الكاتب المتساخف نرى المترجمين المستشرقين للقرآن يقعون فى أخطاء رهيبة تدل على جهل مبين. وأضرب على هذا بعض الشواهد السريعة من ترجمة المستشرق الفرنسى المعروف سافارى التى صدرت طبعتها الأولى سنة 1782م بباريس، إذ نجده مثلا يترجم قوله تعالى فى الآية 282 من سورة "البقرة": "فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا" بما معناه: "مريضا أو جاهلا"، ويترجم قوله عز شأنه عن عيسى عليه السلام فى الآية 45 من "آل عمران" إنه "من المقربين" بـ"le confident du Très- Haut"، وكأن الله ملك من ملوك البشر الذين يُفْضُون إلى بعض وزرائهم بما عندهم من الأسرار، ويجعلونهم موضع ثقتهم، فضلا عما تشير إليه العبارة الفرنسية من أن عيسى عليه السلام هو وحده الذى يتمتع بهذا الامتياز مع أن الآية الكريمة تقول: "من المقربين" بما يدل على أنه سيكون واحدا منهم وليس المقرب الوحيد. وعند أمره تعالى للملائكة بالسجود لآدم يترجم سافارى الكلام إلى ما معناه: "اعبدوا آدم"، أستغفر الله. ولدن قوله تعالى فى آخر سورة "التوبة": "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم..." نراه يترجمه بما يفيد أنه عليه السلام يحمل عنهم أوزارهم: "chargé de vos fautes"، وهو ما يصادم العقيدة الإسلامية مصادمة شديدة. أما عبارة "وغرابيب سود" من قوله جل شأنه فى الآية 27 من سورة "فاطر": "ومن الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مختلفٌ ألوانها وغرابيبُ سُودٌ" فيترجمها بـ"le corbeau est noir"، أى أن "الغراب أسود". يا للعبقرية!
    بل إنه لا يستطيع نطق الكلمات العربية أصلا: ومن ذلك أن كلمة "الفاتحة"، وهى اسم السورة الأولى فى المصحف، تتحول على يديه المباركتين إلى "Fatahat". أما "اللات والعزى ومناة" فهى عنده: "Lat, Aza, Menat"، و"الزمخشرى" يصبح "زَمْسَشْكَر"، و"ذو الكِفْل" يصير "ذو الكَفِل"، و"العِشَاء" تتحول إلى "Aché"، و"أبو بكر" إلى "أبو بِكْر"، أى أبو العذراء... إى والله! وهذه مجرد عينة من أخطاء واحد فقط من المستشرقين ليس إلا. ومع هذا فلا تسأل عن دعاوى سافارى العريضة بشأن القرآن والجرأة الجاهلة الحمقاء عنده على المسارعة إلى تخطئته ومهاجمة عقائده التوحيدية الكريمة.
    أما عدم معرفة بعض الصحابة المعنى الدقيق لهذه اللفظة أو تلك فما المشكلة فى هذا إذا صحت الرواية؟ إننا جميعا نجهل أشياء غزيرة فى لغتنا، وما من إنسان يمكنه الزعم بأنه قد أحاط باللغة مهما يكن علمه وتدقيقه وحفظه. بل إنه سيكون أسعد السعداء وأحظّ المحظوظين لو كان ما يعرفه من لغة قومه عشرة على الألف منها. وقد أدخل القرآن الكريم صيغا وألفاظا وعبارات وصورا وتراكيب جديدة فى لغة العرب. فمن الطبيعى أن يجهل بعض الصحابة بعض هذه الألفاظ. وعلى كل حال إذا كان هذا الصحابى أو ذاك يجهل لفظة هنا أو لفظة هناك، إذا صحت الرواية، فغيره من الصحابة يعرفونهما. وقلما يوجد نص يخلو من ألفاظ لا يعرفها فلان أو علان. وهذا أمر طبيعى تماما. وفى كثير من القصائد الشعرية نرى النقاد والعلماء يقفون أمام بعض ألفاظها أو تراكيبها أو عباراتها أو صورها ويتجادلون ويتخاصمون بل قد يتعاركون حول المعنى الصحيح أو الأصح لها. هذا أمر معروف لكل من درس الأدب شعرا أو نثرا. وأذكر أننى، وأنا طالب بالتوجيهية، قد سألت أستاذى الكبير سيد أحمد أبو رية عن معنى قول نزار قبانى فى قصيدته التى كانت نجاة تغنيها له تلك الأيام:
    ماذا أقول إذا راحت أصابعه * تلملم الليل عن شَعْرِى وترعاه؟
    فأجاب: "تلملم شعرى الذى هو كالليل"، ومع هذا ظللت حائرا أمام هذا البيت. وأحيانا ما أقول لنفسى: "ألا يمكن أن يكون معنى الكلام أن يد حبيبها تنشر النور فى حياتها وتضىء شعرها الأسود كالليل؟". ومع هذا فلست مطمئنا حتى الآن رغم كل تلك السنين إلى ذلك التفسير مع أن شعر نزار شعر عصرى بلغ الغاية فى السهولة والسلاسة. وقد ظللت أعواما طوالا من حياتى أتصور أن "القيثارة" هى الصفارة مع أننى من القارئين المكثرين والمستعملين للمعاجم منذ وقت مبكر. كما لاحظت أن طه حسين مثلا يستعمل كلمتى "النَّحْل والانتحال" بمعنى واحد فى كتابه: "فى الشعر الجاهلى". وبالمثل وجدته يستخدم كثيرا فى كتبه صيغة "آوَى" فى محل "أَوَى". ولا أدرى حتى الآن السر فى هذين الخطأين الأبلقين.
    ورغم كل ما سبق فمن يرجع إلى السيوطى فى"الإتقان" سوف يجده قد أورد عن ابن عباس مثلا قائمة طويلة عريضة بهذه الكلمات كلها تقريبا ضمن عشرات الكلمات القرآنية مع تفسير ابن عباس لكل كلمة منها تحت العنوان التالى: "النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه". وعلى أية حال من يا ترى فسر لنا غريب القرآن؟ أليسوا هم الصحابة؟ لقد فسروها ونقلها عنهم التابعون لينقلها عن التابعين تابعو التابعين... وهلم جرا حتى وصلت إلينا. فلا يصح إذن أن يأتى متنطع جهول ليعمل من تلك الحبة قبة. الأمر أهون من ذلك، لكن هذا القرد يظن أنه، بتنطعه الممقوت، قادر على الإساءة إلى كتاب الله الكريم. وهيات، فرؤيته حلمة أذنه أسهل عليه وأهون.
    ويتبقى كلام صاحبنا النزق عن رعب الناس من تخطئة القرآن مع أن هناك كتبا تعالج الشبهات الخاصة بتخطئة القرآن وترد عليها ككتاب ابن قتيبة مثلا: "تأويل مشكل القرآن"، وهو ما يعنى أنه لم يكن هناك هذا الرعب الذى يبدئ فيه ويعيد. ثم منذ متى منع الاستبداد أن يكون هناك أشخاص وجماعات تضحى براحة بالها ومالها وحريتها بل بحياتها متحدية الطغاة ومؤثرة القتل على الحياة الساكنة الذليلة؟ والتراث الإسلامى مملوء بالكتابات المتمردة على كل شىء شعرا ونثرا، ولم يتعرض لأصحابها أحد إلا فى الندرة.
    وحتى لو غلب عليهم الخوف فإنهم فى هذه الحالة يكتبون ما يدور فى نفوسهم ويكتمونه فلا يخرجونه عن الدائرة التى يتحركون فيها معتمدين على أن المستقبل كفيل بإخراج ما كتبوه إلى النور يوما ما. كما أن بلاد الله مفتوحة لمن يشاء، فيستطيع من يخطئون القرآن أن يهربوا من بلاد الإسلام ويلتحقوا بأعدائه ويعلنوا هناك ما يريدون. ولسوف يجدون هناك الصدر الواسع الرحيب والملجأ الدافئ الحنون كما هو حال محمد على عبد الجليل وغيره، وإن كان المهاجمون للقرآن والإسلام فى بلاد الإسلام ذاتها أكثر من الهم على القلب. وكثيرا ما يُصْدِر المستشرقون ومقلدوهم من المسلمين تقليد القردة خارج بلاد الإسلام كتبا تهاجم القرآن وتخطئه، ونقرأ نحن تلك الكتب حين تصل إلينا ونرد عليها. أى أن هناك مندوحة واسعة جدا لمن يريد تخطئة القرآن ولا يستطيع أن ينشر كلامه داخل المجتمعات المسلمة. ومنذ بضع عشرة سنة وقع فى يدى كتاب بعنوان "هل القرآن معصوم" ألفه شخص يسمى نفسه على الغلاف: عبد الفادى، وهو مطبوع وصادر فى النمسا، ومملوء بالتخطئات اللغوية والتاريخية والعلمية للقرآن المجيد، وكثير منه موجود فى كتبنا القديمة ورَدَّ عليه العلماء. وقد كنت من الذين ردوا على كتاب عبد الفادى هذا ردا مفصلا فى كتابى: "عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين".
    أما بالنسبة لما قاله متساخفنا عن التفسير العلمى للقرآن الكريم فهو كلام سطحى وتافه وليس وراءه شىء من العلم، إذ العلماء والمفسرون عندنا مثلا لا يتفقون فى هذه القضية على عكس ما زعم من أنهم جميعا ينهجون هذا النهج لإنقاذ القرآن: فبعضهم يحبّذه ويرحّب به، وبعضهم يضيق به صدرًا ويدعو إلى الابتعاد عنه خشية توريط القرآن فيما لا تحمد عقباه حين يعمل المفسر العلمى على إنطاق النص القرآنى عَنْوَةً وكَرْهًا بما يعضّد نظرية من النظريات ثم يثبت بطلانها فيما بعد، مما ينسحب على القرآن ذاته ويوقع فى رُوع القراء أن الخطأ إنما يكمن فى النص نفسه لا فى المفسر. ومن الذين وافقوا من علمائنا القدامى على هذا اللون من التفسير الإمام الغزالى والإمام السيوطى. أما المعارضون فمنهم الشاطبى، الذى كان يعارض بمنتهى القوة أى اتجاه لتفسير القرآن فى ضوء المعارف العلمية التى لم يكن العرب، وهم الذين نزل عليهم القرآن واتجه بخطابه إليهم، يعرفون عنها شيئا كما جاء فى كتاب "الموافقات".
    نعم إن القرآن كتاب هداية كما يقول المعترضون على الربط بين القرآن والعلوم الطبيعية والرياضية، لكن لم ينبغى أن نقصر هذه الهداية على هداية العقيدة والخلق والسلوك فحسب، والهداية أوسع من ذلك وأعم وأشمل: فهناك هداية فكرية، وهداية سياسية، وهداية اجتماعية، وهداية اقتصادية، وهداية ذوقية، وهداية صحية، وهداية إدارية... وهلم جرا؟ ومن هداية الفكر ما يلفتنا إليه القرآن من ظواهر الكون وحقائق العلم. والقرآن مفعم بالآيات التى تدعو إلى تشغيل العقول والنظر فى الآفاق والاستزادة من المعرفة واتباع المنهج العلمى الصحيح فى التفكير والاستدلال، فليس كل كتاب الله إذن مخصصا للهداية العقيدية والأخلاقية والسلوكية دون غيرها من الهدايات. ثم إن فى القرآن آيات كثيرة تتعلق بالمعارف العلمية الطبيعية والرياضية والإنسانية، فماذا نصنع إزاءها؟ وكيف يستطيع المفسر التقليدى الذى ليس له من بضاعة إلا بضاعة اللغة والفقه والبلاغة وما إلى ذلك أن يتناولها تناولا يشفى ويريح العقل المعاصر؟ وما معنى التخصص إذن؟ أم ترى القرآن كتابا ساذجا لا يستحق أن نستعين فى فهمه بألوان العلوم والفنون المختلفة؟ أفلا نخصص إذن لهذا الجانب العلمى فى القرآن بعض جهدنا فى الفهم والتفسير؟ ثم هل يمكن أن تتم هداية المسلم، وهو ضعيف علميا؟ فماذا نصنع بقوله تعالى: "قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟
    ونفس الشىء يقال عن العصر الحديث، إذ هناك من يوافق على التفسير العلمى لآيات القرآن، وهناك من يرفض ذلك. وممن رحب بهذا وتحمس له من المصريين فقط عبد الله (باشا) فكرى وزير المعارف فى القرن التاسع عشر، ومصطفى صادق الرافعى وعبد العزيز (باشا) إسماعيل ود. توفيق صدقى ود. محمد أحمد الغمراوى والأستاذ حنفى أحمد والأستاذ عبد الرازق نوفل والأستاذ عبد العزيز سيد الأهل والأستاذ على عبد العظيم ود. السيد الجميلى ود. مصطفى محمود ود. محمد أحمد الشهاوى ود. منصور حسب النبى ود. زغلول النجار. ولكل واحد من هؤلاء تقريبا مساهمة فى هذا المجال. وهناك مواقع متعددة خاصة بتفسير الآيات التى تتصل بالعلوم الطبيعية والرياضية والنفسية وما إلى هذا منشورة على المِشْبَاك، وفيها بحوث ودراسات يعمل أصحابها على أن يتناولوا كل شىء من ذلك فى كتاب الله بالبحث والدرس.
    ومن المعارضين الشيخ محمود شلتوت رحمه الله، الذي أنكر في مقدمة تفسيره على طائفة من المثقفين أخذوا بطرف من العلم الحديث وانتقَوْا أو تلقفوا شيئا من النظريات العلمية والفلسفية وغيرها، وأخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة ويفسرون آيات القرآن على مقتضاها. ورأيه أن الله لم يُنْزِل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف، فالعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العالم ما يصبح غدًا من الخرافات. فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرّضناه للتقلب معها وتَحَمّل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفا حرجا في الدفاع عنه. أما ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة فإنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر ليزداد الناس إيمانا مع إيمانهم. وحسبنا أن القرآن لم يصادم الفطرة، ولم يصادم ولن يصادم حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول... إلى آخر ما قال.
    ومن المعارضين أيضا الشيخ أمين الخولى في بحثه: "التفسير: معالم حياته، منهجه اليوم"، الذى نقل فيه رأي الشاطبي واعتراضه على الذين أرادوا أن يخرجوا بالقرآن عن نهجه في مخاطبة العرب بما يفهمون وفي إطار ما يعهدون من علوم ومعارف، وردّ على الذين زعموا أن في القرآن علوم الأولين والآخرين: دينية ودنيوية، شرعية وعقلية. وهو رأي الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأسبق أيضا، قاله في تقديمه لكتاب عبد العزيز (باشا) إسماعيل: "الإسلام والطب الحديث". ومثله د.عبد الحليم محمود والشيخ عبد الله المشد والشيخ أبو بكر ذكري، وقد أعلنوه في مقدمة تفسيرهم الموجز للقرآن، الذي كان ينشر في مجلة "نور الإسلام".
    أما كاتب هذه السطور فليس مع الرافضين للتفسير العلمى مع شدة احترامه لهم وإكباره لما كتبوه. وما دام التفسير العلمى لا يصادم الآية فى لغتها ولا يلويها عن سياقها أو عن معناها الذى يحكم به العقل السليم فأهلا به وسهلا ومرحبا. أما القول بأن القرآن إنما نزل يخاطب العرب المعاصرين للرسول وحدهم فهذا غير صحيح، إذ هو يخاطب من خلالهم البشرية كلها منذ عصرهم إلى أبد الآبدين. وما دام العلم يتقدم كل يوم ويقفز بخطاه الجبارة فلا بد أن نستعين به فى فهم هذا النص الإلهى المعجز. والله سبحانه وتعالى ليس عربيا ولا هو ينتمى إلى عصر المبعث، بل هو سبحانه فوق الزمان والمكان والأجناس والأعراق والثقافات، وكلامه أزلى أبدى. والذى أومن به أن النص القرآنى قد صيغ صياغة تسمح بفهمه فهما متجددا وسليما فى كل عصر. ونحن نعرف أن للحقيقة وجوها مختلفة، وإذا لم يكن فى كلام الله تلك الشمولية ففى أى كلام يا ترى تكون؟ ولقد سبق أن ضربت أمثلة على ضرورة الاستعانة بالعلوم الطبيعية والفلسفية والرياضية فى فهم نصوص قرآنية لا يمكن فهمها من قِبَل العقل الحديث بدونها. كما أن الـمُحْدَثين والمعاصرين قد استحدثوا من الدراسات القرآنية ما لم يكن يخطر على بال أحد. وبالنسبة لى لن يحجزنى أنى مؤلف كتاب "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" عن التنبيه إلى ما فيه من لون جديد من الدراسات القرآنية فأسكت عن القول بأن هذه أول مرة يفصَّل القول أسلوبيا وإحصائيا وتحليليا فى المقارنة بين لغة القرآن ولغة الرسول عليه السلام. ولا ريب فى أن هذا الإنجاز ما كان ليتم فى العصور السابقة لأنه ابن عصره. كما استطعت أيضا فى كتبى عن سور "المائدة" و"يوسف" و"الرعد" و"طه" و"النجم" و"الرحمن" رَصْد عشرات الفروق الأسلوبية بين النصوص المكية والمدنية فى كتاب الله مما يعد جديدا تمام الجدة، إذ لم يتوصل القدماء طوال الأربعة عشر قرنا الماضية إلا إلى بضعة فروق قليلة من هذا اللون يجدها القارئ مكررة فى كتب علوم القرآن هنا وهناك دون زيادة أو نقصان. ومن المؤكد أن هناك دراسات أخرى ظهرت فى عصرنا هذا، فكيف يهوَّن من شأن هذا العصر والجهود التى تُبْذَل فيه لخدمة كتاب الله بحجة أن القدماء كانوا أفصح منا وأبلغ، وأقدر على فهم القرآن من كل نواحيه فهما لا يمكننا نحن الـمُحْدَثين بلوغ شىء منه؟
    والمهم، كما سبق القول، ألا يفتئت المفسر العلمى على كتاب الله فيلويه عن وجهه، أو يقوّله ما لم يقل، أو يهجم على ما ليس واضحا له ولا عقله مطمئن إليه، أو يعجل بشرحه على ما لم يتأكد بعد من أقوال العلماء واجتهاداتهم التى لا تزال فى طور التحقق والتمحيص رغبة منه فى الإتيان بشىء جديد لإبهار الناس وطلبا للشهرة وحسن السمعة. وأيا ما يكن الأمر فما زال هذان الموقفان المتعارضان قائمين حتى الآن. وقد كتب الدكتور زغلول النجار مقالا فى هذا الموضوع (فى "أهرام" الاثنين 18/ 9/ 2006م) بعنوان "ضوابط التفسير العلمى للقرآن الكريم" نبه فيه إلى عدة احتياطات ينبغى أن يلتزم بها من يتصدى لتفسير القرآن تفسيرا علميا، إذ لا بد له أن يتعمق فى اللغة والبلاغة وعلوم القرآن، وألا يجرى وراء النظريات العلمية التى لم تتحول إلى حقائق بعد. كما ينبغى أن يبتعد بوجه عام عن التفاصيل العلمية الدقيقة التى لا تخدم غرض التفسير العلمى كالمعادلات الرياضية المعقدة والرموز الكيميائية الدقيقة مثلا. كذلك لا يصحّ له القول بأن هذا الذى توصل له هو معنى الآية، بل عليه التأكيد بأن هذا ليس سوى فهمه هو الذى يمكن أن يخطئ، ويمكن أن يصيب. وبالمثل عليه الابتعاد تماما عن الغيبيات التى لا تدخل فى إطار العلم البشرى كذات الله والروح والملائكة والجن والبرزخ وما إلى ذلك.
    وهذا كلام معقول جد معقول، وكل جهد بشرى عرضة لمغامسة الخطإ مهما اتخذ صاحبه من الاحتياطات ووجوه الحذر، فلا يصح اتخاذ احتمال وقوع المفسر العلمى فى الخطإ تكأة لإغلاق بابه تماما، وإلا فلن تتقدم البشرية خطوة، لأنها معرضة فى كل خطوة تخطوها إلى السقوط فى الغلط كما قلنا، بل لا بد من التقدم والمغامرة ما دام السائر قد اتخذ كل ما يستطيع من احتياطات. وعلى الله قصد السبيل. أقول هذا رغم ما لاحظته من أن الدكتور النجار أحيانا ما يغلو ويحمّل النص القرآنى فوق طاقته ويسبغ عليه من المعنى ما لا تتقبله اللغة التى صِيغَ بها ولا السياق الذى ورد فيه. والمعروف أن كلّ متخصص فى علم أو فن أو صنعة فإنه يتحمس لها تحمسا شديدا ويكاد يراها فى كل شىء. وهذا أمر يوشك أن يكون فطريا يجرى فى العروق، ولولاه لهمدت القرائح وتبلدت، فإن التمركز حول الذات وما يتصل بها هو أحد الدوافع التى تبعث البشر على النشاط والعمل والإبداع، والمهم ألا تتجاوز تلك الحماسة حدودها المقبولة، وأن يقيم الإنسان من نفسه رقيبا على تجاوزاته، وإلا فهناك عين المجتمع التى لا تكف عن المراقبة والمراجعة والانتقاد شئنا أم أبينا. كذلك فكل بنى آدم خطاء كما يقول الرسول، فلا خوف إذن من العمل والتقدم إلى الأمام، فلن يكون ذلك نهاية العالم. وعلينا التحرك والعمل والإبداع، أما الوسوسة الزائدة قبل الإقدام على عمل أى شىء والانتهاء إلى ألا يتخذ الإنسان أية خطوة فى اتجاه الهدف خشية الخيبة والفشل فهو الشلل القاتل، والعياذ بالله"- إبراهيم عوض).
    (لِيتخيَّلِ المسلمون أنَّ حاكمًا عربيًّا طاغيةً نشرَ كِتابًا يتضمَّنُ أقوالَه، وكان هذا الكِتابُ يحتوى على أخطاءٍ مطبعيةٍ errata وأخطاءٍ أسلوبيةٍ ولغويةٍ سببُها ضَعْفُ جامعى الكِتاب ومؤلِّفى هذه الأقوال، فهل سيجرؤ أحدٌ داخلَ مملكة الطاغية أنْ يخرجَ على الملأ ويُعلِنَ عن أخطاءِ كِتاب الطاغية؟ وإنْ حدثَ مثلُ هذا، وقد يحدُث، فهل سيُـبْقِى حاشيةُ الطاغية وزبانيتُه ومؤيِّدوه أى أثرٍ لذلك المنتقِد ولأفكاره؟ وإنْ نجَتْ بعضُ الأفكار النقدية القليلة وبَقِيَتْ بعدَ زوالِ حُكْم الطاغية فسيقول أتباعُه فيما بعدُ إنَّ هذه الآثارَ النقدية لا يُـعْتَدُّ بها لقلَّتِـها ولن يعترِفوا بأنَّ السببَ فى قلَّتها هو عدمُ قبولِهم للنقد وعنفُهم فى مكافحته وضعفُهم أمام الردِّ العقلانى عليه. إنَّ العصور الإسلامية (الراشدى والأموى والعباسى) كانت أكثرَ دكتاتوريةً من العصر الحديث بما لا يقارَن. كان العنفُ هو ما يميِّز عصورَ الإسلام حيثُ بلغَ بين المسلمين الــ"رُحَماء فيما بينهم" (بحسب وصف القرآن لهم فى سورة الفتح، 29) حدًّا أدَّى إلى اقتتالهم فيما بينَهم اقتتالا شديدًا ما زلنا نرى آثارَه إلى الآن بين سُنَّةٍ وشيعةٍ أو بين التيارات الإسلامية الرسمية (الأرثوذكسية: سُنَّة وشيعة) والتيارات المخالفة [غير الرسمية] (من دُرْزية ونُصَيْرية وإسماعيلية وأحمدية وبهائية وغيرها)- محمد عبد الجليل).
    (نعم لن تخلو الساحة فى بلد الطاغية من ناس ينتقدونه شفويا سرا، ويتناقل الباقون هذه الانتقادات فيما بينهم، وقد يطبعونها كتابة ويتداولونها فى الخفاء، بالإضافة إلى تسريبها خارج الحدود. ثم إن الطاغية لن يعيش إلى الأبد بل لا بد أن يموت يوما، فينتهى الرعب منه وتنطلق الألسن والأيدى التى لا يوافقه أصحابها على ما يقول. ثم إن فى البلاد الأخرى من يستطيعون أن ينتقدوه ويخسفوا به الأرض فى حياته وعز سلطانه دون خوف أو محاسبة، وبخاصة إذا كان بين حكام تلك الدول وبينه تنافسات وصراعات، وهو أمر طبيعى جدا فى مثل تلك الأحوال. وهذا كله ينطبق على كتاب "الميثاق"، الذى يقال زورا إن مؤلفه هو عبد الناصر، فقد كان الميثاق يملأ أرجاء مصر بدويّه وسلطانه، ولكن ما إن انهزم عبد الناصر فى 1967م حتى نسى الناس الميثاق. ثم ما إن مات حتى هبت الأقلام التى كانت ترتعب منه فانتقدته وانتقدت كتابه بل انتقدت حكمه كله. وما "عودة الوعى" لتوفيق الحكيم وحكايته بالتى يجهلها أحد. والحكيم مجرد مثال.
    كذلك رأينا القذافى يفاخر بـ"الكتاب الأخضر"، وفَرَضَه على الليبيين فرضا وامتلأت وسائل الإعلام التى يغرقها بأمواله خارج ليبيا بالطنطنة حول الكتاب وعبقرية صاحبه إن كان القذافى فعلا هو مؤلفه. لكن من ناحية ثانية كانت التهكمات والتحقيرات من شأن الكتاب جارية على قدم وساق فى البلاد العربية الأخرى. وما أكثر ما نشرته الصحف المصرية مثلا من رسوم كاريكاتيرية ومقالات تهزأ بالرجل وكتابه الأخضر وتسخر منه سخرية رهيبة وتجعل منهما مسخة ومضغة فى الأفواه. وهو نفس ما حدث أيضا لمجموعته القصصية: "الأرض الأرض". ومن بين من هاجمها وهاجمه ومسح بكرامتهما الأرض الزميل د. جابر قميحة رحمه الله. هذا، ولا أظن القراء الكرام قد فاتهم مغزى استعمال كلمة "الطاغية" مرارا فى كلام الكاتب النزق. إنه يقصد بها الإيماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
    ويتبقى قوله: "كان العنفُ هو ما يميِّز عصورَ الإسلام حيثُ بلغَ بين المسلمين الــ"رُحماء فيما بينهم" (بحسب وصف القرآن لهم في سورة الفتح، 29) حدا أدَّى إلى اقتتالهم فيما بينَهم اقتتالا شديدًا ما زلنا نرى آثارَه إلى الآن بين سُنَّةٍ وشيعةٍ أو بين التيارات الإسلامية الرسمية (الأرثوذكسية: سُنَّة وشيعة) والتيارات المخالفة [غير الرسمية] (من دُرْزيّة ونُصَيْرية وإسماعيلية وأحمدية وبهائية وغيرها)".
    والرد على ذلك الفهم الساذج هو أن العنف لا يميز عصور الإسلام عن غيرها بل يصبغ تواريخ الأمم والأديان والمذاهب والفلسفات جميعا. والمسلمون بشر فى نهاية المطاف. كما أن الآية التاسعة والعشرين من سورة "الفتح" التى يشير إليها ساخرا شامتا تقول: "محمد رسولُ الله والذين معه أشِدّاء على الكفار رحماء بينهم"، فالكلام فى الآية الكريمة عن الذين "مع" الرسول عليه السلام لا عن المسلمين فى كل العصور، إذ لا أحد يبقى على حاله طوال الوقت، ولا أمة تبقى على نفس الوضع فى كل أدوار تاريخها. هذا ضد طبيعة الأشياء. وقد كان الرسول صمام الأمن بالنسبة للمسلمين، أما بعده فقد أخذت الأوضاع تتغير وتزداد الشقة بينها وبين ما كان آنذاك اتساعا حتى انتهى الأمر بالمسلمين إلى ما نرى. وكل الأمم تخضع لهذا التغير والتطور لا يشذ منها أحد. وفى القرآن نفسه نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: "ألم يَأْنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتابَ من قبل فطال عليهم الأمد، فقَسَتْ قلوبهم، وكثير منهم فاسقون؟". وفى القرآن أيضا: "وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خَلَتْ من قبلِه الرسل. أفإن مات أو قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلبْ على عقبيه فلن يضرَّ اللهَ شيئا".
    وفى "سنن أبى داود" يطالعنا الحديث التالى: "افترَقَتِ اليهودُ على إحدى أو ثِنْتَيْنِ وسبعينَ فِرْقةً، وتفرَّقَتِ النَّصارى على إحدى أو ثِنْتَيْنِ وسبعينَ فِرْقةً، وتفترِقُ أُمَّتى على ثلاثٍ وسبعينَ فِرْقةً". وعن جرير بن عبد الله: "قال لى النبى صلى الله عليه وسلم فى حَجِّةِ الوداعِ: اسْتَنْصِتِ الناسَ! لا ترجعوا بعدى كفارًا يَضرِبْ بعضُكم رقابَ بعضٍ" .فحذرهم التنابذ والتفرق والخلاف الذى يصل لحد الاقتتال، وسمى ذلك كفرا، أى كفرا بنعمة الإسلام وقيمة الأخوة الإيمانية والتعاون على الخير والبر والتقوى. وهو تعبير استفزازى يكبح جماح نوازع الفتنة فى قلوبهم، ويستحث طاقاتهم ويدفعهم إلى بذل أقصى جهودهم فى سبيل التعاون والتحاب ونبذ الشقاق والخصام.
    وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنى مُمْسِكٌ بحُجَزِكم عن النَّارِ: هَلُمَّ عن النارِ، وتغلبونَنى تَقَاحَمون فيه تقاحُمَ الفراشِ أو الجنادِبِ، فأُوشِك أن أُرْسِلَ بحُجَزِكم. وأنا فَرَطَُكُم على الحوضِ، فترِدُون علىَّ معًا وأشتاتًا، فأعرفُكم بسِيماكم وأسمائِكم كما يَعرِف الرجلُ الغريبةَ من الإبلِ في إبلِه، ويُذْهَبُ بكم ذاتَ الشِّمالِ، وأناشدُ فيكم ربَّ العالمين فأقول: أى ربِّ، أُمَّتى! فيقول: يا محمدُ، إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدَك. إنهم كانوا يمشون بعدَك القَهْقَرى على أعقابهم. فلا أعرفنَّ أحدَكم يومَ القيامةِ يحمل شاةً لها ثُغاءٌ فينادى: يا محمدُ، يا محمدُ! فأقول: لا أملِكُ لك شيئًا. قد بلَّغتُك. فلا أعرفنَّ أحدَكم يأتى يومَ القيامةِ يحمل بعيرًا له رُغَاءٌ فينادى: يا محمدُ، يا محمدُ! فأقول: لا أملِك لك شيئًا. قد بلَّغتُك. فلا أعرفنَّ أحدَكم يأتى يومَ القيامةِ يحمل فرسًا له حَمْحَمَةٌ فينادى: يا محمدُ، يا محمدُ! فأقول: لا أملكُ لك شيئًا. قد بلَّغْتُك. فلا أعرفنَّ أحدَكم يومَ القيامةِ يحمل سِقَاءً من أَدَمٍ ينادى: يا محمدُ، يا محمدُ! فأقول: لا أملِكُ لك شيئًا. قد بلَّغتُكَ". بالله أهذا نبى كذاب؟ أهذا كلام الكذابين يا محمد على عبد الجليل؟ خيبة الله عليك وعلى من وظَّفوك هذه الوظيفة، وظيفة إثارة الشبهات والهجوم على دين هذا الرجل العظيم الكريم النبيل الصادق الأمين.
    والسذج وحدهم من يظنون أن البشر يمكن أن يتحولوا إلى ملائكة لا يخطئون ولا تفتر طاقاتهم وحماساتهم ويظلون طول الحياة يمشون على العجين لا يلخبطونه دون شعور بالضيق أو الاضطراب أو الملل أو الرغبة فى التغيير. كما أن من سنن الحياة أن كل كيان لا بد من انشقاقه مع الأيام إلى كيانات صغيرة سواء فى حياة المجتمعات أو فى حياة الجمادات والأفكار والمذاهب. ومن ثم فانقسام المسلمين الأوائل بعد وفاة النبى صمام الأمن بين سنة وشيعة وخوارج ومعتزلة ومتصوفة وباطنية وما إلى هذه هو أمر طبيعى. وقد حدث هذا لليهويدة والنصرانية، فكان عندنا مذاهب وفرق فى الديانتين كل منها تحسب أنها هى الفرقة الناجية، والباقى ذاهب فى ستين داهية.
    وفى عصرنا هذا وجدنا الشيوعية تنقسم على نفسها فيكون عندنا شيوعية روسية وشيوعية صينية وشيوعية يوغسلافية وشيوعية ألبانية وشيوعية كورية. وانقسم البعثيون إلى بعث سورى وبعث عراقى، وكان بينهما ما طرق الحداد رغم أن كلا منهما يزعم أنه يعمل من أجل الحرية والوحدة والاشتراكية. وبالمثل فالديمقراطيات أنواع وأشكال. كما أن الأسر التى تظل متماسكة كيانا واحدا فى حياة مؤسسها سرعان ما تنشق وتصير عدة أسر، كل أسرة تسكن بيتا مستقلا بعدما كانوا جميعا يقطنون مسكنا واحدا يضمهم كلهم. ثم تنقسم مع الأيام كل أسرة من هذه الأسر بدورها لتصير عدة أسر... وهكذا دواليك.
    فملاحظة صاحبنا، كما نرى، ملاحظة ساذجة تدل على عدم فهمه للحياة وطبيعتها. وليست هذه دعوة إلى الرضا بالتمزق والتشتت، بل فهما لطبيعة الأمور. والمهم أن يكون هناك تفاهم بين هذه الكيانات المنشقة واتفاق وحرص على التمسك بالجوهر والأساسيات، والتعاون على الخير والبر والتقوى، ثم فلتختلف تلك الكيانات بعد هذا فى التفاصيل والصغائر وكل ما هو غير أساسى. وبهذا نكون قد جمعنا فى نظرتنا وموقفنا بين المثالية والواقعية. على ألا ننسى أبدا أن البشر هم البشر فى كل الأحوال، وأن لهم سقفا فى الاستطاعة والإنجاز لا يمكنهم أن يتجاوزوه ويعلوا عليه مهما حاولوا واجتهدوا وأرهقوا أنفسهم- إبراهيم عوض).
    (يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع رئيسية من الأخطاء فى القرآن:
    1- النوع الأول: الأخطاء الإملائية غير المقصودة أو أخطاء السهو أو الجهل من الناسخ. وهذه الأخطاء على قسمين بحسب تاريخ حدوثها: القسم الأول: أخطاء حَصَلَتْ فى وقت تدوين القرآن وتبدو قليلةً فى القرآن، ومنها الأخطاء الواضحة (اللحن) التى سُئلَِت عنها عائشةُ بحسبِ عدة مصادرَ مِنها تفسيرُ الطبرى: ("حدثنا ابن حميد قال: حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه أنه سأل عائشة عن قوله: "إنَّ هذانِ لساحران" [طه، 63]، فقالت: يا ابن أختى، هذا عمل الكُـتَّاب أخطأوا فى الكِتاب" (عِلْمًا أنَّ قراءةَ الجمهور كنافع وحمزة والكسائى وأبو جعفر هى: "إنَّ هذانِ" وقراءةَ حفصٍ هى: "إنْ هذانِ"). إنَّ مجرَّد ذِكْرِ مثلِ هذه الأحاديث فى كتاب معتبَر كالطبرى يوحى بأنَّ فكرة خطأ الناسخ فى القرآن لم تكنْ مستهجَنة- محمد عبد الجليل).
    (من فمك أدينك أيها المدلس. لقد صدعتَ أدمغتنا بسخف مزاعمك أن العرب والمسلمين فى ذلك الزمان لم يكونوا يهتمون بأمر القرآن ولا بما فيه من أخطاء لغوية. كما أزعجتنا بتفاهة قولك إن المسلمين لم يكونوا يجرؤون على تخطئة القرآن. ولكن ها أنت ذا تقول إنهم كانوا يهتمون بأمر القرآن وما فيه من ملاحظات لغوية، وإنهم كانوا لا يتحرجون ولا يخشَوْن أحدا أو شيئا من التعبير عما يرونه فى القرآن من ثغرات. أى أن كل دعاواك هى دعاوى فارغة.
    ومع هذا فمن المستحيل أن تقول عائشة ما هو منسوب إليها من أن نُسَّاخ القرآن قد أخطأوا فيه، وإلا لسمعناها تُقَرِّع النساخَ وتدعو المسلمين إلى العودة إلى أصل النص. ولا ينبغى قبل ذلك أن ننسى ولو للحظة واحدة أن عائشة رضى الله عنها كانت زوجة النبى، ولا يمكن أن تنسى أن القرآن محفوظ من العبث والخطإ، فكيف يصدر عنها هذا الكلام الذى من شأنه تكذيب الوحى الذى تقوم عليه نبوة زوجها؟ بل إننا لو افترضنا المستحيل وقلنا إنها لم تكن فى أعماقها تؤمن بزوجها نبيا لقد كانت مصلحتها تقتضى اقتضاء ألا تظهر شيئا من ذلك عن القرآن، وإلا لاتُّهِمَتْ بأنها كانت ترافئ زوجها على الكذب والتزوير والادعاء بأن الكلام الذى يؤلفه ويلفقه هو وحى من السماء. بل لقد كان ينبغى أن يعبر عروة فى الحال عن استغرابه الحاد من هذا الرد الغريب. ولكن لو أن عائشة كانت لا تعتقد فى نبوة زوجها فلم نزلت مثلا على حكم القرآن الذى حرَّم عليها إلى الأبد، وهى فى عز شبابها ونضارتها وإقبالها على الحياة، أن تتزوج بعد موت ذلك الزوج؟ لقد كان المنطقى أن تهرب من بلاد المسلمين وتلجأ إلى الروم مثلا وتعيش على ما تحب وتهوى وما يطلبه شبابها. خيبة الله على السخفاء المتنطعين. على أن ورود هذه الرواية فى تفسير الطبرى، إن كانت قد وردت، لا تعنى أنه يصدِّق بها، فهو يورد كل ما سمعه ثم يبدى رأيه فيه بالموافقة أو بالاعتراض فى غالب الأحيان. وهو ما لم يحدث هنا لأنه لم يورد هذه الرواية أصلا فى تفسيره. فالكاتب إذن يكذب ويخترع وينسب ما يخترعه إلى من لم يقولوه. ليس ذلك فحسب، بل إن الطبرى لا يجد فى إعراب "هذان" بالألف بعد "إنَّ" شيئا حتى يبحث لها عن مبرر، إذ كان من العرب القدماء، كما هو معروف لكل مَنْ دَرَس النحو العربى بشىء من التفصيل، من يلتزمون الألف فى المثنى فى كل حالاته الإعرابية: رفعا ونصبا وخفضا كما فى الأبيات التالية:
    إنَّ أباها وأبا أباها * قد بلغا فى المجد غايتاها
    * * *
    فأَطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجَاعِ، وَلَوْ رَأىَ * مَسَاغًا لِنَابـَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّـما
    * * *
    تزوَّد منا بين أذناه ضربةً * دَعَتْه إلى هابى الترابِ عقيم
    وأرجو أن ألفت النظر إلى أن فى العرب القدماء من كانوا يعربون الأسماء الستة أيضا بالألف فى كل الأحوال. ويجد القارئ فى البيت الأول من هذه الأبيات الثلاثة مثالا على ذلك- إبراهيم عوض).
    (ومن هذه الأخطاء الإملائية التى حَصَلَتْ أثناء التدوين يمكنُ أيضًا ذِكرُ الخطأ الوارد فى الآية 55 من سورة الحج ("أو يأتيَهم عذابُ يومٍ عقيم"). والصوابُ الذى أقترحُه هو أنْ يقال: ("أو يأتيَهم عذابُ يوم عظيم")، وذلك لأنَّ القرآن يستخدم دائمًا صفةَ "عظيم" لوصف "يوم"، كما فى الآية 37 من سورة مريم ("فويلٌ للَّذينَ كَفروا من مَشْهدِ يومٍ عظيم") والآية 135 من سورة الشعراء ("إنِّى أخافُ عليكم عذابَ يومٍ عظيم") والآية 13 من سورة الزُّمَر ("قلْ إنِّى أخافُ إنْ عصيتُ ربِّى عذابَ يومٍ عظيم"). إنَّ وصف اليوم بــ"العظيم" منطقى أكثر من وصفه بــ"العقيم"، وينسجم أكثر مع منطق القرآن. وربما كان استخدام كلمة "عقيم" (بدلا من "عظيم") فى الآية 55 من سورة الحج يعود إلى خطأ أو سهو من الناسخ لأنَّ الفرق الإملائى بين كلمة "عظيم" وكلمة "عقيم" فرق بسيط جدا- محمد عبد الجليل.
    (كعادة هذا الثخين الجلد يضع نفسه فى مآزق ليس على مستواها. سنفترض أن الأمر كان نتيجة غلطة نسخية، فأين جماهير المسلمين الذين يحفظون القرآن ويعرفون أنها "يوم عظيم" لا "يوم عقيم"؟ أمن المعقول أن يخطئ أحد النساخ فينزل المسلمون جميعا على خطئه ويهجروا الصواب على الفور دون أن نسمع منهم نأمة استغراب أو اعتراض، بل دون أن تقوم خصومات ونزاعات، بل يمضى الأمر فى هدوء وسكينة، ويتغير النص القرآنى فى الحال دون أية مشاكل؟ خيبة الله على عقلك! إن هذا لهو المستحيل بعينه. ثم أَنَّى له بخطإ وصف اليوم بالعقم؟ إن وصف اليوم بالعقيم معناه أنه لا ينجلى عن أى خير ولا يخفَّف فيه العذاب أبدا. فما وجه الاعتراض على ذلك؟ وهل يحرم أن ينوع القرآن فى أساليبه؟ كثيرا ما يقع هذا فى كتاب الله، وهو أمر معروف للمحتكِّين بالكتاب المجيد. ولدينا فى هذا السياق أوصاف أخرى ليوم العذاب، وهى: "عذاب يومٍ كبيرٍ" (هود/ 3)، "عذاب يوم أليم" (هود/ 26)، "عذاب يومٍ مُحِيطٍ" (هود/ 84). وهناك أيضا "يومٌ عصيبٌ"، وهو الوصف الذى وصف به لوط اليوم الذى زارته فيه الملائكة وخرج قومه يحاولون الاعتداء عليهم مثلما يفعلون مع الغلمان (هود/ 77). فهل نلغيها هى أيضا، ونستبدل بكل منها شيئا آخر؟ وهل مثل تلك الأمور تعالج بالافتراضات الوهمية التى لا تدور إلا فى عقول المهووسين؟ هل كلما طَقَّتْ فى دماغ أى جهول فكرة سخيفة طرحها علينا بوصفها إبداعا ليس له نظير؟ وهناك أيضا "يومٌ مجموعٌ له الناس" و"يومٌ مشهودٌ" و"يوم معلوم"، وهو يوم مواجهة موسى بالسحرة فى مصر أيام فرعون، و"يوم عاصف"، و"يومٌ عَسِرٌ"، و"يومٌ عسيرٌ"، و"يومٍ ذى مَسْغَبَة"، و"يوم لا بيعٌ فيه ولا خِلالٌ"، و"يومٌ لا مردَّ له من الله"، و"يوم كان مقداره ألف سنة"، و"يوم كان مقداره خمسين الف سنة".
    وبالمناسبة فهناك تنويع فى وصف العذاب أيضا ما بين "عذاب أليم" و"عذاب شديد" و"عذاب غليظ" و"عذاب عظيم" و"عذاب مهين" و"عذاب واصب" و"عذاب مقيم" و"عذاب مستقرّ". كما يتنوع العذاب الأخروى أيضا من خلال تنوع المضاف إليه، فهناك "عذاب السعير"، و"عذاب النار"، و"عذاب الجحيم"، و"عذاب الآخرة"، و"عذاب جهنم"، و"عذاب الهُون"، و"عذاب السَّمُوم"، و"عذاب الحريق". ثم لماذا لم يتنبه النساخ إلى خطإ "يوم عقيم"، وهم أدرى بالقرآن من أى حمار جهول؟- إبراهيم عوض).
    (القسم الثانى: أخطاء حصلَت بعدَ تدوين القرآن وذلك أثناء تنقيطه فأخطأوا فى وضع النقاط على بعض الحروف. وقد أشار كريستوف لوكسنبرغ إلى بعضِها من خلال قراءته للقرآن على ضوء الآرامية. فمثلا، الآية 64 من سورة الإسراء ("واستفزِزْ مَنِ استطَعْتَ منهم بصوتِكَ وأَجْلِبْ عليهم بِخَيْلكَ ورَجِلِكَ وشارِكْهم فى الأموالِ والأولادِ وعِدْهُم وما يَعِدُهُمُ الشيطانُ إلا غُرُورًا") قرأها لُكْسنبرغ هكذا: ("واستفزِزْ مَنِ استطَعْتَ منهم بصوتِكَ وأَخْلِـبْ عليهم [اخدعهم] بِحِيَلِك ودجَلِكَ وشَرِّكْهم [أوقعهم فى الشِّراك: أغْرِهِم] الأموالِ والأولادِ وعِدْهُم وما يَعِدُهُمُ الشيطانُ إلاَّ غُرورًا"). مثالٌ آخر على أخطاء التنقيط هو الآية: "وهو الذى أَنشأَ جَنَّاتٍ مَعْروشاتٍ وغَيْرَ مَعْروشاتٍ" (الأنعام، 141) حيثُ أوردَ القرطبى فى تفسيره أنَّ عليًّا قرأها بِالْغَيْنِ المُعْجَمة والسين المُهْمَلة هكذا: ("مغروسات وغير مغروسات"). مثال ثالث على الخطأ الإملائى فى التنقيط ما اقترحَـه (أحمد الجابرى) أحدُ المشارِكين فى صفحة "أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية"، إِذِ اقترحَ قراءةَ كلمةِ "المُصَلِّين" بالضاد المعجَمة هكذا:"المُضِـلِّين"، لينسجمَ معنى الآية التالية مع المنطق القرآنى: ("فويل "للمُـضِلِّينَ" الَّذينَ هُم عن صلاتهم ساهون" [الماعون، 4 و5])، ذلك لأنَّ المُصَــلِّين لا يمكنهم أنْ يسهوا عن صلاتِهم، وإلا لما كانوا مُصَــلِّين- محمد عبد الجليل).
    (أولا الفعل: "أَخْلَبَ" هو فعلٌ لازمٌ لا مُتَعَدٍّ كما يستعمله الغبى الجاهل. و"أَخْلَبَ الماءُ: كان ذا حمأة، وهى القطعة من الطين الأسود المنتن"، ولا علاقة له بالخداع كما ترى. كما أن كلمة "أجلب"، أى أحدث الجلبة والضجة، تتسق مع "الصوت" فى قوله تعالى: "واستفزِزْ من استطعتَ منهم بصوتك" لأن الجلبة صوت من الأصوات. فانظر إلى رقاعة الكاتب الجهول وتعجب كما يحلو لك. وبالمثل فالفعل: "شَرَّكَ" لا علاقة له بإيقاع أحد فى الشَّرَك بتاتا، بل يقال: "شَرَّك بين القوم" أى جعلهم شركاء، و"شَرَّكَ النعلَ" أى ركَّب لها سيورا (على ظاهر القدم) كما فى بعض الصنادل والشباشب الآن. ثم إن كلمة "الدَّجَل" كلمة غير قرآنية، بل لم ترد فى كلام الرسول أيضا رغم ورود كلمة "الدجال" فى بعض الأحاديث.
    وقائل هذا الكلام هو المدعو: كرستوفر لوكسنبرج، ذلك الذى لا يعرف أحد اسمه أو هويته على وجه التحقيق، وإن كان هناك من يقول إنه سورى. وهو صاحب القول بسريانية كثير من آيات القرآن إذ يزعم عن غير علم أو منطق أو برهان أن فى القرآن أشياء كثيرة لا يمكن فهمها بدون الرجوع إلى اللغة السريانية لأنها مأخوذة من تلك اللغة لفظا ومضمونا، فقد كان لمحمد معاونون سريان يساعدونه على تأليف القرآن وشَحْنه بالكنوز الدينية السريانية كما يقول، مع أنه لم يكن هناك أى سريان فى مكة، ولا كان حوله عليه السلام سريان فى أى مكان أو زمان أو كان يعرف سريانا، وإلا فمن هم أولئك السريان؟ ومتى وأين كان يلتقيهم؟ ومن ذا الذى رآهم أو سمع بهم يا ترى؟
    والغريب أن لوكسنبرج نفسه قد قال إن السريانية آنذاك كانت موجودة فقط فى الشام والعراق. فإذا كان موطن السريانية على هذا البعد الشاسع من مكة حيث ظهر محمد والقرآن فكيف يا ترى تأثر القرآن بها؟ وأين الدليل على ذلك التأثر؟ ومن كان الوسيط أو الوسطاء الذين أخذ محمد السريانية عنهم وأدخلها قرآنه؟ وفى أية ظروف كان ذلك؟ ولماذا سكت معلموه أو معاونوه عن ذكر دورهم، وبخاصة حين خدعهم وجعل من نفسه نبيا وتركهم يقشِّرون بصلا وفاز هو بالغنيمة وصار اسمه يدوى كالطبل: أولا فى بلاد العرب، ثم فى بلاد الدنيا كلها بعد ذلك، فى الوقت الذى لا يذكرهم ولا يبالى بهم ولا يعرفهم أحد، وقبعوا فى الظلام والخفاء ونسجت عليهم العنكبوت بيتها إلى الأبد؟ بل لماذا خرس سائر سريان الشام كلهم طوال تلك القرون فلم يحاولوا فضح هذه اللعبة المحمدية؟
    ثم إن القرآن يكرر فى كل المناسبات أنه قرآن عربى نزل بلسان عربى. فلو كان القرآن سريانيا لهب أهل مكة والعرب جميعا، وعلى رأسهم اليهود والنصارى والمنافقون، يصرخون فى وجه النبى عليه السلام متهميه بالكذب الصراح قائلين: كيف تجرؤ على أن تنكر الحقائق الساطعة سطوع الشمس فى وضح النهار وتقول إن القرآن الذى أتيتنا به قرآن عربى فى حين أنه سريانىٌّ؟ ثم هل تظن أننا نائمون على صماخ آذاننا فلا نعرف أن فلانا وفلانا وفلانا من السريان يعينونك فى تأليف قرآنك؟ ألا إنها لجرأة بلغت المدى فى السماجة وجمود الوجه! الحق أن لوكسنبرج لا يستعمل هنا عقله بل حوافره، فالأبعد حمار عريق فى الحمارية!
    وحتى يتيقن القارئ من أن لوكسنبرج مزيف كبير نسوق إليه مثالا مما قاله فى تفسير القرآن بالاستعانة بالسريانية، التى يكذب مدعيا أن نصوصا من القرآن قد نزلت بها. فقد ورد فى تصديه لتفسير سورة النجم تحت عنوان "تحليل فيلولوجى لكلّ آية على حدة": "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى:... إنّ ما يصفه نولدكه بخصوص النّحو السريانى، والذى كثيرا ما يُحَيِّر المختصّين فى العربيّة، نجده أيضا جليّا فى الجملة التى تأتى فى مقدّمة السورة التى نحن بصددها. فوحدة الجملة، التى انكسرت بفعل إدخال الفاصلة الخاطئة (بعد "هَوَى")، لم يهْتدِ إليها المفسِّرون والمترجمون. فى الحقيقة تحتوى الآيتان الافتتاحيتان على جملة مركَّبة من شرط (آية 1) وجواب شرط (آية 2). وهكذا فإنّ التركيب النحوى للجملة يكون كالتّالى: الكلمة الأولى: "والنَّجْمِ" ليست الفاعل فى الآية 1 بل هى قَسَمٌ لا دور آخر له سوى تقديم الجملة التى تأتى لاحقا. وبناء على هذا فإنّ الجملة (الآية) كلّها تكون: "وَالنَّجْمِ"، وليس "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى"... زمن الجملة التى تأتى بعدها "إِذَا هَوَى" زمن شرطى، والفاعل هو الشخص المذكور فى جواب الشرط فى الآية 2: "صَاحِبُكُمْ". يجب إذن أن نفهم الجملة على النحو التالى: "إِذَا هُوَ (صَاحِبُكُم) هَوَى". جواب الشّرط (جواب القسم) يأتى منطِقيًّا فى الآية 2: "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى". عندما يُترجِم بل (Bell) هذه الآية هكذا: " Your comrade has not gone astray, nor has he erred "، فهو لا يرى بوضوحٍ كافٍ ما تشير إليه، أى المَسّ الشيطانى الذى يُعْتَقَد أنّ الذى يُصَاب به يخرج عن الطريق المستقيم وينتابه الهذيان. فلهذا السّبب إذن يؤكِّد القرآن أنّ النَّبى (صَاحِبكُمْ) لم يَحِدْ عن الحقّ ولا زال عنه، ولم يُصَب بالهذيان. فتصبح ترجمة الآية الأقرب إلى الصواب كالتّالى: "Your companion has not gone astray, nor has he become delirious".
    وأول شىء ألفت الانتباه إليه هو قول المستشرق إن القرآن ينسب المرض المقدس (أى الجنون) إلى الأنبياء الآخرين. وهذا كذب وافتراء، فلم يحدث قط أن نسب القرآن الجنون إلى أى نبى أو رسول كائنا من كان، وإلا كان هذا منه تكذيبا لهم. كل ما فعل هو ذِكْرُ اتهامَ أقوام النبيين والمرسلين لهم بالجنون مفندا اتهاماتهم ومسخفا عقولهم ومتوعدا إياهم بأسوإ مصير. وشتان هذا وذاك. كذلك فزعم المستشرق أن الآيات الأولى من سورة "النجم" إنما تتحدث عن اتهام المشركين له صلى الله عليه وسلم بالجنون والهذيان هو زعم جاهل. فالآيات تذكر الضلال والهوى والغواية، وهذه أمور أخلاقية. ولو كانت تريد أن تنفى عنه الجنون لذكرت الهذيان لأنه أمر عصبى يرتبط بالجنون. وهذا من الوضوح بمكان مكين، ومن ثم فكل ما قاله الرجل فى هذا الموضوع سخف فى سخف.
    أما قوله إن المفسرين، ومن ثم المترجمون، قد أخطأوا فهم التركيب الموجود فى الآيات الثلاث الأولى من السورة بسبب جريها على النحو السريانى فلا أدرى أى جنون سول له هذا الهذيان. أىّ نحو سريانى؟ وأى بطيخ؟ إن معنى الآيتين واضح تماما، وهو القَسَم بالنجم عند هُوِيِّه بأن الرسول لم يضلَّ ولم يَغْو ولم ينطق عن الهوى. فما المشكلة فى ذلك؟ أهى فى الفصل بين القسم وجوابه ووجود هذا فى آية، وذاك فى آية أخرى؟ لكن ذلك يتكرر كثيرا فى القرآن. وحتى لو سرنا على دربه الملتوى الخبيث وقلنا: إن المعنى هو "والنجم إن صاحبكم إذا هوى ما كان ضالا ولا غاويا ولا ناطقا عن الهوى" لظل الفصل قائما بين الشرط وجوابه كما هو واضح، إذ إن فعل الشرط موجود فى الآية الأولى، وجوابه موجود فى الآية الثانية. وهذا يعنى أن اعتراضه لا يخرج عن أن يكون زوبعة فى كستبان. أما الطنطنة بالنحو السريانى وإنجاده لنا فى فهم هذه الآية التى يزعم أبو جهل غموضها، وما هى بغامضة إلا على لسان الكذاب الدجال، فهى طنطنة لا معنى لها ولا محصَّل من ورائها لأنه لا يوجد هنا نحو سريانى البتة. إن هى إلا شعوذة يحاول لوكسنبرج التأثير بها على السطحيين من أمثاله.
    والآن أحب أن أنبه القراء إلى أننا لو فصلنا "والنجم" عن "إذا هوى" وجعلنا "إذا" شرطية (وليست ظرفية بمعنى "حين يهوى") لوجدنا أنفسنا إزاء تركيب لا وجود له فى القرآن قط. فالقرآن، حين يستخدم واو القسم مع شىء كالنجم، يرفد المُقْسَم به إما بـ"إذا" الظرفية وإما بنعت أو عطف مثلا، أو يفعل الأمرين جميعا: "والقرآن ذى الذِّكْر * بل الذين كفروا فى عِزّةٍ وشقاق"، "والكتابِ المُبِين * إنا جعلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون"، "والكتابِ المُبِين * إنا أنزلناه فى ليلةٍ مباركةٍ. إنا كنا منذِرين"، "والقرآنِ المجيد * بل عجبوا أنْ جاءهم منذرٌ منهم، فقال الكافرون: هذا شىء عجيب"، و"الذاريات ذَرْوا * فالحاملات وِقْرا * فالجاريات يُسْرا * فالمقسِّمات أمرا * إن ما تُوعَدون لَصَادِق"، "والطُّور * وكتابٍ مسطور * فى رَقٍّ منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور * إن عذاب ربك لواقع"، "والسماءِ ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهِدٍ ومشهود * قُتِل أصحابُ الأخدود"، "والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق؟ * النَّجْمُ الثاقب * إنْ كلُّ نفسٍ لـمَّا عليها حافظ"، "والشمسِ وضُحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جَلاها * والليل إذا يغشاها *... ونفسٍ وما سوّاها * فألهمها فجورَها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دسّاها"، "والليلِ إذا يَغْشَى * والنهار إذا تجلَّى * وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى * إنّ سَعْيَكم لَشَتَّى"، "والضُّحَى * والليل إذا سَجَا * ما ودَّعك ربك وما قَلَى"، "والتينِ والزيتون * وطُورِ سِينِين * وهذا البلدِ الأمين * لقد خلقنا الإنسانَ فى أحسن تقويم"...
    وبالمثل سوف يكون عندنا تركيب لا يعرفه القرآن بل ولا تعرفه اللغة العربية. ذلك أن تركيب الآيتين الأُولَيَينْ طبقا لتوجيه ذلك الغبى سوف يكون كالآتى: "والنجم: إذا هوى لم يضل صاحبكم" بمعنى أن صاحبكم إذا هوى لم يضل. أى أنه إذا كان قد هوى من الصَّرْع فإنه لم يضل. والآن هل لاحظتم أن فاعل "هوى" ضمير يعود على متأخر لفظا ورتبة، وهو "صاحبكم" (فاعل فعل جواب الشرط)؟ ومعروف أن جواب الشرط يلى فعل الشرط قاعدةً وحكمًا، وهو يليه هنا واقعًا متحققا. وهذا لا تعرفه اللغة العربية ولا يعرفه القرآن. ثم متى يقول العربى: "إن فلانا قد هوى" هكذا بإطلاق دون أى تحديد أو توضيح، ويكون المقصود أنه قد سقط مصروعا؟
    بل من قال أصلا إن محمدا كان يصيبه الصَّرْع؟ إن ذلك الشيطان يحاول بخبث، لكنه مفضوح، أن يمرر فى هدوءٍ الزعمَ بأن النبى عليه الصلاة والسلام كان مصابا بالصَّرْع، وكان يسقط دائما أمام المشركين فى الشارع كلما جاءته نوبة الوحى. يريد أن يقول إن وحى القرآن لم يكن وحيا سماويا بل أثرا من آثار الصَّرْع. ولكن منذ متى كان الصَّرْع يثمر شيئا مثل القرآن أو يثمر أى فكر أصلا؟ إن الصَّرْع حالة يفقد معها الإنسان حسه وشعوره وعقله وتفكيره. فكيف يتسق هذا وذاك؟ وكيف، عندما ينهض محمد من نوبة الصَّرْع، يكون جاهزا بنص قرآنى بلغ القمة فى روعة الأسلوب وفى رقى مضمونه العقيدى والأخلاقى والاجتماعى والاقتصادى والنفسى والسياسى والعسكرى حسب النص الموحى به، خصوصا أن الوحى فى كثير من الحالات كان ردا فوريا على سؤال من هذا الشخص أو ذاك بما يدل على أنه لم يكن أمام الرسول فرصة للتفكير فى الجواب؟ ولقد سبق أن تناولت تلك التهمة الغبية فى الفصل الثالث من الباب الأول فى كتابى: "مصدر القرآن"، وبينت من خلال ما كتبه الأطباء عن أعراض الصَّرْع أن أعراض الوحى شىء آخر مختلف تماما عن هذا المرض وعن أى مرض غيره. ثم لو كان محمد مريضا بالصَّرْع ويسقط فى شوارع مكة دائما أكان المشركون يؤمنون به حتى لو انطبقت السماء على الأرض؟ وهل المصروع يمكن أن يكون قائدا سياسيا وعسكريا ومشرِّعا وزوجا وصديقا وأبا وحَمًا وقاضيا يبعث على الإجلال والتبجيل بين أتباعه، بل وبين الخصوم الكارهين له؟ وقبل ذلك كله هل حدث أن اتهمه قومه بأنه مصروع؟ الواقع أن ذلك لم يحدث قط. ألا إن ما يقوله كرستوف لوكسنبرج لكلام ساذج مفضوح.
    كذلك يقول الكاتب إن "الهوى" فى الآية الثالثة هى الصَّرْع. فهل يمكن أن يقول العربى إن فلانا لم ينطق ما نطقه عن الصرع؟ يمكننا أن نقول إن فلانا ينطق عن علم أو عن جهل أو عن كبر أو عن فرط سذاجة مثلا، أما أن يقول إنه ينطق (بمعنى "يأتى بأفكار ومبادئ وعقائد وأخلاق") عن صرع فلا. ذلك أن الصرع غياب عن الوعى والإدراك والتفكير والتقدير، وليس حالة يمكن أن يصدر عنها أى شىء من هذا القبيل. أما استشهاده بقوله تعالى عن خمر الجنة: "لا يُصّدَّعون عنها ولا يُنْزِفون" فهو استشهاد فى غير محله، إذ التصديع (أى الإصابة بالصداع) هو نتيجة لشرب الخمر، أما التفكير والتقدير فليسا نتيجة للصرع. وهذا يريك كيف يخبط الرجل خبط عشواء! ألم نقل إنه حمار عريق فى الحمارية؟
    وهنا أود اهتبال الفرصة السانحة لسَوْق بعضٍ من كلامه فى تحليل الألفاظ العربية وانتقالها المزعوم من السريانية إلى العربية كى يلمس القارئ بنفسه أنه أمام كلام غير مفهوم. يقول ذلك الأعجمى المتساخف مخطِّئا القرآن بعد أربعة عشر قرنا لم يستطع أن يدرك خطأه خلالها عمالقة الشعراء والخطباء والبلغاء من مشركين ويهود ونصارى معاصرين للنبى ولا متعصبة اليهودية والنصرانية الذين كانوا يعملون طوال الوقت على تصيد العورات للإسلام فلم يفلحوا حتى هل هلال لوكسنبرج فالتقطت عيناه فى الحال تلك الأخطاء:
    "القراءة التقليديّة: "يُنْزِفُونَ" قراءة خاطئة. والتعديل المُقْتَرَح هنا يُبَرِّره الفعل السّريانى "اتْرَفِّى” ("استرخى")، وما الصيغة القرآنيّة إلا ترجمة له. أنظر:
    R. Smith, Thesaurus Syriacus, vol. I, Oxford 1879, vol. 2, 1901.
    مثلا: "رَفِّيُوتا" و "مرَفِّيُوتا" وما يقابلهما بالعربيّة، حسب بار على وبار بهلول: "رَخَاوَة"، "ارْتِخَاء"، اسْتِرْخَاء". أن يكون الجذر السريانى "رْ فَ ا" هو نفسه صيغة مُشتقَّة من "رْ/فَ/ح" بحذف الحاء فذلك ما تبرهن عليه دلالة هذا اللّفظ الذى يقابِله منّا (Manna) فى العربيّة بكلمة "رَخَفَ" (وهو تبادل صوتمى لكلمة "رَفَحَ"، فالحرف العربى "خَ" هو صوتم آرامى منبثق عن حرف "حَ"، ويؤكّد هذا عديد اللّهجات الآراميّة البابليّة بما فيها اللّهجات الآراميّة الجديدة التى تُعْرَف بالآشوريّة فى بلاد ما بين النهرين) ثمّ "اسْتَرْخى" بالمعنى المادّى للكلمة (مثل العجين بالنّظر إلى طبيعته غير المتماسكة).
    إن هذا الاستشهاد الأخير يُظهر لنا أنّ الجذر العربى "رَ/خَ/ا" هو اشتقاق تطوّر من حذف حرف النهاية: "ف" للفظة "رَخَفَ" (مثلا فى اللّهجة الحلبيّة المعاصرة فإنّ لفظة "ب-أَعْرِفْ" تُنْطَق "ب-أَعْرَا). وهذه الأخيرة هى بدورها نطق مشتق من الجذر السريانى الآرامى "ر ح ى ف" الذى يُنْطَق بدوره من خلال تخفيف الحرف الوسطى "ح"، والفعل العربى المشتق "رَأَفَ/رَؤُفَ"، ومنه اللّفظ السريانى "رَاحُوفَا" الذى يعطى اللّفظ العربى "رَئِيف". وهذا يمكن مقارنته بالجذر "رْ/حِ/يـ/مْ"، بالعربيّة "رَ/حِ/ي/مْ". أخيرا، نلاحظ أنّ "لسان العرب" يستشهد عند تعرّضه للجذر "رَ/فَ/حَ" بحديث عمر لمّا تزوّج أمّ كلثوم بنت على، إذ قال: "رَفِّحُونِى”. أى قولوا لى ما يُقال للمُتزوِّج، بمعنى "تَفْرَحُ" (وهذه العبارة ما زالت تُقال إلى يومنا هذا قبل أو عند الزّواج)، وكذلك فإنّ عبارة "فَرَحْ" تُطلق على حفلة الزفاف فى مصر مثلا، (وكذلك فى تونس). وهذا يُفسِّر لنا أن الصيغة المشتقّة من الفعل العربى "فَرِحَ" هى تبادل صوتمى للجذر السريانى الآرامى "ر/ف/ح" (أمّا الصيغة العربية الأخرى "رَ/قَ/حَ" التى ذكرها "لسان العرب" على أنّها تؤدّى نفس المعنى هى بوضوح نتيجة للتّنقيط الخاطئ الذى أفرز "ق" عوضا عن "ف"). نودّ أيضا أن نجلب الانتباه إلى صيغة أخرى للإشتقاق العربى لنفس الجذر التى هى نتيجة لقلب "الحاء" إلى "هاء" لكى تعطى: "رَفَهَ/رَفُهَ"، تَرَفَّهَ، والأسماء المشتقّة مثل "رَفَاهَة" و"رَفَاهِيَّة"... إلخ".
    أما "شديد القوى" فإن لوكسنبرج يرى أنه هو الله وأن معنى "ذو مِرَّة": "الذى هو مارا"، أى الرب. وأما جملة "وهو بالأفق الأعلى" فالواو فيها استئنافية لا حالية، وتعنى أن الله يسكن فى الأعالى، أى أن مسكنه فى السماء، وأن "دنا فتدلى" معناها أنه سبحانه قد تواضع فنزل من عليائه ليكون فى مستوى عبده تحببا إليه وتنازلا حتى لا يكسر خاطره. أما من أين أتى التواضع هذا فمن كلمة "استوى"، التى أوصلها لوكسنبرج ببهلوانياته وشقلباظاته إلى أن معناها: "تواضَعَ". أى أن الله قد نزل من عليائه نزولا ماديا.
    والآن إلى التفاصيل. فهو، بكل وضوح، لا يتصور أو لا يريدنا أن نتصور، أن صفة "القوة" لا يمكن أن يوصف بها أحد سوى الله، مع أن هذه الصفة قد تكررت فى القرآن كثيرا نعتا للمخلوقين كما فى قوله تعالى: "إنى عليه لقوى أمين"، "إنّ خَيْرَ مَنِ استأجرتَ القوىُّ الأمين"، "اللهُ الذى خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة"، "مَنْ أشدُّ منا قوةً وأكثرُ جمعا؟"، "كانوا أشدَّ منهم قوة". بل إن قوله تعالى فى سورة "النجم": "شديد القوى" قد وُصِف به جبريل فى سورة "التكوير" فى الحديث عن نفس الموقف: "وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِنْدَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثََمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ". فـ"شديد القُوَى" فى "النجم" هو ذاته الموصوف هنا بـ"ذى قوة عند ذى العرش مكين". وهناك رأى محمد جبريل "بالأفق الأعلى"، وهنا رآه "بالأفق المبين". وأرجو أن يتنبه معى القارئ إلى أننا هنا، كما هو الحال مع سورة "النجم" أيضا، إزاء قَسَمٍ متلوٍّ بـ"إذا" الظرفية، مع فصل القسم عن جوابه أيضا.
    ومعروف فى الإسلام وفى العقل وفى المنطق أن الله لا يُرَى لنا، على الأقل: فى الدنيا وفى ظل إمكاناتنا الإدراكية الحالية. وقد سبق موسى أنْ طلب من الله رؤيته، فكان جوابه سبحانه عليه: "لن ترانى. ولكن انظر إلى الجبل. فإن استقرَّ مكانَه فسوف ترانى". ثم إنه سبحانه تجلَّى للجبل فاندكّ، وخَرَّ موسى صَعِقًا، واعتذر حين أفاق قائلا: "سبحانك! تبتُ إليك، وأنا أول المؤمنين". وقد نفت عائشة أن يكون الرسول رأى ربه البتة. والإسلام لا يعرف التجسيد كالنصرانية، ومن ثم فرؤية الله مستحيلة فى دنيانا هذه إلى أن ننتقل إلى الآخرة، فيصير لكل حادث حديث لا نريد استباقه قبل الأوان.
    وهذا هو الحديث الخاص بكلام عائشة فى إنكار رؤية النبى ربه، فعن مسروق أنها رضى الله عنها قالت له: "يا أبا عائشةَ، ثلاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بواحِدةٍ منهنَّ فقد أعظمَ على اللهِ الفِرْيةَ: مَنْ زَعمَ أنَّ محمَّدًا رأى ربَّهُ فقَد أعظمَ الفِرْيةَ على الله. والله يقول: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ"، "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ"... فقلتُ: يا أمَّ المؤمنينَ، أَنْظِرينى ولا تُعْجِلِينى. أليسَ اللهُ تَعالى يقول: "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى"، "وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ"؟ قالَت: أنا واللهِ أوَّلُ مَن سألَ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عَن هذا. قالَ: "إنَّما ذلك جبريلُ. وما رأيتُهُ فى الصُّورةِ التى خُلِقَ فيها غيرَ هاتينِ المرَّتينِ. رأيتُهُ منهبِطًا منَ السَّماءِ سادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بينَ السَّماءِ والأرضِ". ومن زعمَ أنَّ محمَّدًا كَتَمَ شيئًا مِمَّا أنزلَ الله عليهِ فقَد أعظمَ الفِرْيةَ على اللهِ. يقولُ الله: "يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ". ومَنْ زعمَ أنَّهُ يعلَمُ ما فى غدٍ فقد أعظمَ الفريةَ على اللَّهِ، واللَّهُ يقولُ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إلا اللَّهُ".
    ومن ثم فكل ما قاله لوكسنبرج هو من ثمار التفكير بالحوافر لا مَعْدَى لنا عن وصفه بذلك. والعجيب أن لوكسنبرج يحسب نفسه خفيف الدم فيقول إن "ذو" فى "ذو مِرّة"، ليس معناها "ذو قوة" بل معناها "الذى هو الرب" لأن "مِرّة" هى فى السريانية "مارا"، أى الرب. وعلى ذلك فمعنى الكلام هو "علّمه شديد القوى الذى هو الرب". وهو يستعين بما يقال فى كتب النحو من أن بعض القبائل العربية تستخدم "ذو" لا بمعنى "صاحب" بل بمعنى "الذى/ التى" كما فى قول الشاعر: "وبئرى ذو حفرْتُ وذو طويتُ"، أى "بئرى التى حفرتها والتى بطَّنتها بالحجارة". لكن فاته أن "ذو" (عندما تكون اسما موصولا) تحتاج إلى جملة صلة. وهنا لا توجد جملة صلة. فهل يمكن أن يقول العرب: "شديد القوى الذى الله"؟ هذا ليس كلاما عربيا بل خواجاتيا سخيفا تافها. والعجيب أنه يحاول استغفالنا فى الزحمة فيقول فى عجلة ولهوجة إن "ذو" معناها: "الذى هو"، أى "الذى هو مِرَّة" أى مارا، بمعنى "الذى هو الرب"، وذلك حتى تستقيم له الجملة. وشتان! فـ"ذو" معناها "الذى" فقط دون "هو". ورؤيته حلمة أذنه أقرب إليه من بلوغ غايته من خلال هذه البهلوانية. أما كيف تحولت، على يديه الخفيفتين كأيدى اللصوص، كلمة "مِرَّة" إلى "مارا"، أى الرب فى السريانية كما يقول، فمن خلال الزعم بأن هناك خطأ فى قراءة كلمة "مارا" أدى إلى نطقها وكتابتها: "مِرَّة".
    إن صنيع هذا المدلس ونظرائه إنما يستهدف وضع المسلمين دائما تحت ضغط التشكيك فى دينهم وكتابهم ونبيهم وإرباك ذهنهم وعقولهم وإشعارهم أن كل شىء فى القرآن مؤلف تأليفا وليس نازلا من السماء وأنه لا فرق بينه وبين الكتاب المقدس، الذى انهار تحت معاول البحث والتحقيق بعدما ثبت أنه من صنع بشر. وبهذا لا يكون أحد أحسن من أحد. ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإسلام هو الحصن الحصين المتين للمسلمين. به فتحوا العالم وسادوا الدنيا، وظل الغرب يرهبه ويرهب أتباعه قرونا. وهم موقنون أن المسلمين بدون الإسلام لا شىء: فبه قوتهم، ومنه عزتهم وكرامتهم، وبمبادئه وقيمه العظيمة يمكنهم أن يستعيدوا مجدهم الدابر الغابر وتصبح لهم مكانة عظيمة. فالذى يفعله المستشرقون وصبيانهم هو ضربات استباقية حتى لا يفيق المسلمون من سكرتهم وخُمَارهم ويظلوا فى رقدة الوخم والوهن بل رقدة العدم التى هم فيها. واستدامة تلك الرقدة القاتلة إنما تكون بالتشكيك فى مصدر القرآن، والإلحاح على أنه إنجاز محمدى. وما دام القرآن صناعة بشرية فلن يعود له ذلك السحر الآسر الذى يستولى به على العقول والقلوب. وبالمناسبة فقول لوكسنبرج إن قوله جل جلاله: "وأجلب عليهم بخيلك ورجلك" هو فى الحقيقة "بحيلك ودجلك" يذكرنا بالنكتة التى تقول إن أحد العوام الجهلاء قد رأى لافتة مكتوبة بخط متداخل كما يفعل الخطاطون أحيانا لبعض الأسباب الفنية والزخرفية فقرأها على أنها اسم شخص يُدْعَى: "سُنْقُرْ بِكْ فلانْس"، ولم يفهم لأنه جاهل وعامى أنها قوله تعالى من سورة "الأعلى": "سنُقْرِئُكَ فلا تَنْسَى".
    أما الخطأ الإملائى المزعوم الذى ذكر محمد على عبد الجليل أن المحروس أحمد الجابرى قد اكتشفه فى قوله تعالى: "فويل للمصلين" واقترح تحويله إلى "فويل للمُضِلِّين" لينسجمَ، حسب كلامه، معنى الآية التالية مع المنطق القرآنى: "فويل "للمُضِلِّينَ * الَّذينَ هُم عن صلاتهم ساهون" لأنَّ المُصَلِّين لا يمكنهم أنْ يسهوا عن صلاتِهم، وإلا لما كانوا مُصَــلِّين، أما ذلك الخطأ الإملائى المزعوم فيدل على جهل القائل به وغبائه الغليظ، إذ المقصود وصف صنف من المصلين يؤدون الصلاة أمام الناس لكنهم بينهم وبين أنفسهم ساهون عما يصنعون لأنهم لايصلون من قلوبهم بل يؤدون الصلاة رياءً يخفون حقيقة حالهم بها، فهم يقومون ويركعون ويسجدون ويجلسون دون أن يعوا شيئا مما يفعلونه ودون أن يعتقدوا شيئا مما يرددونه. ومعروف أن المصلين أصناف: فمُصَلُّون مركِّزون، ومصلون غافلون، ومصلون عابثون، ومصلون منافقون، ومصلون يضيعون وقتهم، ومصلون غير طاهرين، ومصلون غير مسلمين أصلا... وهكذا. والمصلون المقصودون فى السورة هم الذين عن صلاتهم ساهون. فهم يصلون رياء ونفاقا، ولهذا قال عنهم القرآن عقب ذلك: "الذين هم يراؤون". ولأن صلاتهم ليست نابعة عن إيمان فتراهم يمنعون الماعون ولا يساعدون أحدا.أى أن الصلاة لم تؤثر فيهم، وبقيت قلوبهم جاسية لا تلين- إبراهيم عوض).
    (النوع الثانى: الأخطاء اللغوية أو الإنشائية المقصودة لحاجة ترجمية أو موسيقية: وهى عيوب أكثر منها أخطاء. وبعض هذه الأخطاء فى الألفاظ أو فى ترتيب الكلمات داخل الجملة ناتجٌ على الأرجح عن تأثير النصوص غير العربية التى كانت مَصْدَرَ القرآن. ومن هذه الأخطاء تغييرُ التذكير والتأنيث للكلمة كاستخدام الكلمة المؤنَّثة بصيغة المذكَّر لإضفاء معنى إضافى عليها يؤدِّى معنى الكلمة الأصلية فى اللغات الأجنبية (الآرامية أو العِبرية أو غيرها) التى نُقِلَ منها القرآنُ بتصرُّف شديد. مثلا، استخدمَ القرآنُ 24 مرةً بصيغة المذكَّر كلمةَ "عاقبة" المؤنثةَ (مثال: "فانْظُرْ كَيفَ كانَ عاقِبةُ المُنْذَرِين" [الصافات، 73])، وهذا خطأ. ويبدو أنه خطأ مقصود لحاجة ترجمية لأنه من المستبعَد أنْ يُخطِئَ سهوًا واضعو القرآنِ أو جامعوه أربعًا وعشرين مرةً فى تذكير كلمة مؤنثة. وأُرَجِّح أنَّ الكلمةَ العربية المؤنثة "عاقبة" هى ترجمة لكلمة عِبْرية مذكَّرة ربما هى الكلمة العِبْرية المذكَّرة עקב[eqev] التى تعنى: عَقِب القَدَم، مآل، نتيجة، تتمَّة، جزاء. ويبدو أنَّ واضعى القرآنِ استخدموا كلمةَ "عاقبة" بصيغة المذكَّر لكى يضيفوا بُعدًا دلاليًا آخر غيرَ موجودٍ وقتَـئذٍ فى الحقل الدلالى للكلمة العربية. ويُرَجَّح أنَّ كلمة "عاقبة" المؤنَّثة كانت فى وقت كتابة القرآن تعنى: الذُّرِّيَّة والولد. ["وكُلُّ من خَلَفَ بَعدَ شىء فهو عاقِبَةٌ" (تاج العروس)." والعاقِبةُ ولَدُ الرجلِ ووَلَدُ ولَدِه الباقونَ بعده" (لسان العرب)]. وبالتالى فقد كان استخدامُ هذه الكلمة العربية المؤنثة بصيغة المذكَّر فى القرآن (طِبقًا للكلمة العِبرية الأصل فى النص العِبرى المنقول عنه كالتوراة والتلمود وغيرهما) يهدف ربما إلى إعطاء معنى الجزاء والعِقاب.
    نلاحظ مثلا فى هاتين الآيتين فى المزامير (לָמָּה אִירָא, בִּימֵי רָע--עֲו‍ֹן עֲקֵבַי יְסוּבֵּנִי.) ["لماذا أخافُ فى أيَّامَ الشرِّ عندما يُحيطُ بى إثْمُ مُتََعَقِّبى"] (مزمور، 49: 5) و(ז יָגוּרוּ, יצפינו (יִצְפּוֹנוּ—(הֵמָּה, עֲקֵבַי יִשְׁמֹרוּ: כַּאֲשֶׁר, קִוּוּ נַפְשִׁי.) ["يجتمعون يختفون يلاحظون خطواتى عندما ترصَّدوا نفسي."] (مزمور 56: 7) أنَّ الكلمة العِبرية (עֲקֵבַי) ("آثارى" أو "تعقُّباتى")، التى تشترك فى الجذر مع الكلمة العربية المؤنثة "عاقبة"، هى كلمة مذكَّرة فى صيغة الجمع مع لاحقة الملكية العائدة على المتكلِّم المفرد- محمد عبد الجليل).
    (الواقع أنه يكفى فى نسف هذا الكلام العفن كلمة واحدة: أين يا ترى تلك الغاية الترجمية أو الموسيقية التى سولت للرسول أو للمسلمين من بعده استخدام الفعل: "كان" لـ"عاقبة" عوضا عن "كانت"؟ لا يوجد، لأن كلمة "كان" موجودة فى أول الجملة بكل الشواهد، وليست هى الفاصلة. ثم فلتكن فى العبرية ما تكون فما دخل ذلك بتذكير الفعل المستخدم معها فى العربية؟ وهل كان الرسول أو مساعدوه أو العابثون فى القرآن يعرفون العبرية وقواعدها النحوية والصرفية؟ نحن لم نكد ننتهى من أمر السريانية حتى طلعت علينا العبرية أيضا! لكأنهم قد تخرجوا من جميع أقسام اللغات السامية بكلية الألسن. أليس هذا بالله عليكم هو التنطع بحَوْبَرِه وزَوْبَرِه؟ ثم إن النصوص القرآنية الكذا والعشرين التى وردت فيها كلمة "عاقبة" مذكَّرةً تنتمى كلها، خلا ثلاثة منها فقط (هى 137 آل عمران، و10 محمد، و9 الطلاق، إلى الفترة المكية وليس فى المدينة حيث اصطبح الرسول والمسلمون هناك بوجه اليهود الحليسى أصحاب اللغة العبرية كى يقال مثلا إنهم قد استعاروها منهم أو راعَوْا أن يكلموهم بلغتهم ولو على سبيل التظاهر بمعرفة اللغات الأجنبية كما يصنع الشاعرون بالنقص من بيننا الآن حين يطعِّمون حديثهم دون أى داع ببعض الألفاظ الأجنبية التى لا يعرفون سواها بغية لفت النظر وإيهام المخاطَب بأنهم ذوو ثقافة واسعة ومعرفة بلغات المتحضرين. ومن ثم فكل ما قاله ذلك المتنطع ثقيل الظل هو هباء فى هباء.
    كذلك فهذا الجاهل لا يعرف أن العربية تجيز تذكير الأفعال المسندة إلى المؤنث المجازى، أى المؤنث الذى ليس له فَرْج. ومن شواهد هذا فى القرآن: "ولا يُقْبَل منها شفاعةٌ" بدل "ولا تُقْبَل منها شفاعة"، "لئلا يكون للناس عليكم حُجَّة" بدل "لئلا تكون للناس عليكم حجة"، "قد كان لكم آيةٌ فى فئتين" بدل "قد كانت لكم آية"، "فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسُنا إلا أن قالوا: إنا كناظالمين"، "وقالوا: لولا نُزِّل عليه آيةٌ من ربه" بدل "نُزِّلَتْ عليه آية"، "وما كان صلاتُهم عند البيتِ إلا مُكَاءً وتَصْدِيَةً" بدل "وما كانت صلاتهم"، "لقد كان لسبإٍ فى مسكنهم آيةٌ" بدل "كانت لسبإ فى مسكنهم آية"، "تدارَكَه نعمةٌ من ربه" بدل "تداركته نعمةٌ من ربه"، "حَقَّ عليه كلمةُ العذاب" بدل "حقَّتْ عليه كلمةُ العذاب"، "حَقَّ عليهم الضلالةُ" بدل "حَقَّتْ عليهم الضلالةُ". بل إن العربية لتجيز تأنيث الفعل المسند إلى مؤنث حقيقى التأنيث متى فُصِل بينه وبين ذلك المؤنث كقولنا مثلا: "تخصَّص فى الطب سميرةُ". ومع هذا كله فقد أُنِّّثَ الفعل المسند إلى "عاقبة" فى قوله سبحانه: "فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ"، "ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبةُ الدار". وهناك توجيه آخر مقبول جدا، وهو أن "عاقبة" معناها أيضا "الولد والنسل"، فرُوعِىَ فى تذكيرها ذلك، إذ كل من الولد والنسل مذكر. وعلى هذا يكون معنى "فكان عاقبة أمرها خسرا" مثلا أنها نسلت نسلا خاسرا ضارا.
    وثالثا كيف يتصور هذا المعتوه أن العبث بالقرآن يمكن أن يتم دون أن تشتعل الدنيا وتقوم المعارك وتؤلف الكتب وتُتَبَادَل التكفيرات؟ هذا رجل أحمق يظن أن ذلك الكلام الأخطل سوف يجوز على العقول. إن هذا الملعون يريد أن يوهمنا بأنه كان بين جامعى القرآن من يعرفون العبرية والسريانية وغيرهما معرفة واسعة عميقة بدقائقهما النحوية والصرفية والمعجمية، وأنهم كانوا يعقدون اجتماعات يتبادلون فيها الآراء ويطرحون الاقتراحات إلى أن يستقروا على "عبث معقول" فيأخذوا به ثم يذهبوا فيجمعوا المصاحف ويحرقوها ويوزعوا بدلا منها مصاحف ملعوبا فيها مع بعض الحلوى لإسكات المتحرجين المعارضين على أساس من قاعدة "أطعم الفم تستح العين". وأخيرا فكيف سكت أصحاب تلك اللغات فلم يفضحوا الملعوب المضحك، ويجعلوا من المسلمين وقرآنهم ضُحْكَة كل ضاحك، ويضربوا دين محمد فى مقتل؟ هل من المعقول أن يوجد ناس على هذه الشاكلة من الخطل والهطل؟ صحيح: من يَعِشْ يَشُفْ.
    وبالمناسبة كنت صغيرا أخطِّئ من يقول: "البنات تلعبن" متصورا أن الصواب هو "يلعبن" فقط، لكن لما كبرت عرفت أن الصورتين جائزتان، وإن كانت الثانية هى الأشيع. كذلك قرأت أنه يمكنك أن تقول مثلا: "البنتان يأكلان"، وإن كانت صيغة "تأكلان" هى الأصل. وهناك باب واسع لتذكير الفعل وتأنيثه من يطالعه، وبخاصة فى الكتب المبسوطة، يجد العجب. فالمفروض ألا يسارع الواحد منا إلى التخطئة اعتمادا على معلوماته القليلة أو اعتدادا بجهله الفادح الغليظ، بل عليه مراجعة الكتب الموسعة حتى لا يَضِلّ ويُضِلّ. ومنذ عشرين عاما تقريبا كنت أهاتف أحد الصحفيين الشبان، فعَرَّج الكلام إلى قول البعض: "جاء ترتيب الطالب الفلانى الواحد والعشرين على فرقته"، فأنكر الصحفى ذلك إنكارا شديدا قائلا: الصواب هو "جاء ترتيبه الحادى والعشرين". فقلت له إن "الواحد" هى الأصل، و"الحادى" منقلبة عنها. فأصر على كلامه، فأردت التحقق من الأمر ونظرت فى بعض كتب القواعد القديمة الموسعة فوجدت أن هذا صحيح، بل صحيح أيضا أن تقول: "جاء ترتيبه الواحد عشر"، وأن تقول أيضا: "عندى واحدَ عشرَ كتابا" بدلا من "أحد عشر كتابا". فعرفت أن علمنا قليل جدا بجانب ما نجهله.
    إن كثيرا من الجهلة المتسرعين يحاكمون لغة القرآن إلى كتب القواعد التى يدرسها التلاميذ الآن فى المرحلة الإعدادية والثانوية، جاهلين أن هذه القواعد، وإن ناسبت عقول الصبيان المعاصرين، أضيق كثيرا وأخصر وأفقر وأبسط من كتب النحو فى العصور القديمة. صحيح أن من يجرى على قواعدنا الحالية يسلم، لكن ينبغى أن يعرف أن الميدان أوسع مما يظن، وأن النصوص القديمة لها وضع آخر. وكثيرا ما يقول عباس حسن فى كتابه: "النحو الوافى" إن الاستعمال الفلانى صواب، لكنه لا ينصح باستخدامه فى عصرنا، بل يذكره فقط للمساعدة فى فهم النصوص القديمة. ونقوله نحن أيضا لطلابنا قبل وبعد اطلاعنا على ما قاله النحوى الكبير- إبراهيم عوض).
    (وهناك خطأ لحاجة موسيقية سجعية (من أجل الفاصلة القرآنية أو القافية) كحذف ياء المتكلِّم فى نهاية الآية (فى أحدَ عشرَ كلمةً، مثل: "فكيفَ كان نَكيرِ [الأصل: نكيري]" [الحج، 44] و"لكم دِينُكم ولِى دِينِ [الأصل: ديني]" [الكافرون، 6]) وكاستخدام الفعل الناقص "كان" فى بعض المواضع، مثل: "إنَّ اللهَ كان على كُلِّ شىء شهيدًا" (الأحزاب، 55، والنساء، 33). والخطأ هو استخدام الفعل "كان" فهو زائد لا يضيف على المعنى شيئًا بدليل أنَّ القرآن استخدمَ الجملةَ نفسَها وبالمعنى نفسِه مِن دُونِ الفعل "كان"، وذلك فى سورة الحج: "إنَّ اللهَ على كُلِّ شىء شهِيد" (الحج، 17). وهذا الخطأ يبدو مقصودًا للحصول على كلمة منصوبة تتماشى مع نهايات الآيات (الفواصل) فى السورة. فهو خطأ دلالى للحصول على تأثير موسيقى. ونظرًا لكون القرآن كتابًا ترتيليًّا تجويديًّا تعبُّديًّا ليتورجيًّا فإنه من الطبيعى أنْ يُعْطِى أهميةً كبيرة للفاصلة، أى للكلمة التى تقع فى نهاية الآية (السجع). فالفواصلُ فى القرآن هى بمنزلة القوافى فى الشعر. فالقرآنُ كلام مسجوع (كلام مــنثور مُقَفًّى له فواصِلُ)- محمد عبد الجليل).
    (المشكلة بل الطامة أن هذا الجاهل الحقود يتصدى لما لا يحسن. هذا الجاهل الحقود لا يعرف ولا يفهم أن فى اللغة إمكانات كثيرة، وإنْ جَهِلها هو، فجهله لها إذن لا يقدم ولا يؤخر، لكنه يدينه ويجعل منه هُزْءَة لكل هازئ. وقد بحثت هذا الموضوع الذى يتصدى له هذا الجاهل الحقود فى كتابى: "السجع فى القرآن"، الذى ترجمتُ فيه عن الإنجليزية بحث ديفين ستيوارت المعنون بهذا العنوان، وأعقبت الترجمة ببحث طويل ناقشت فيه آراء المؤلف وفندت بعض أوهامه. ومن بين ما رددت عليه وَخْزَته السخيفة فى قوله: ألم يكن الله قادرا على الجمع بين السجع واحترام القاعدة؟ ذلك أنه كان يظن، كما يظن كاتبنا الحالى، وإن لم يكن بهذه الحماقة التى يتمتع بها كاتبنا، أن السجع القرآنى يكون فى بعض الأحيان على حساب القاعدة النحوية والصرفية فلا يتحقق إلا بكسر هذه القاعدة. وبينت بالشواهد المتعددة أن الفاصلة القرآنية لا تخرج على القاعدة إلا فى نظر السطحيين غير الملمين بالعربية إلماما جيدا.
    إن جاهلنا الحقود لا يعرف أن حذف هذه الياء قد وقع فى عدد من الآيات فى درج الكلام لا فى نهايته، ومن ثم لا يمكن الزعم بأن السجعة قد أجبرت الآية على هذا الحذف. إنه استعمال عربى صميم وسليم مائة فى المائة، فمن العرب من كان يحذف ياء الاسم المنقوص حتى بعد تعريفه بـ"أل"، ويحذف ياء المتكلم مع الاكتفاء بالكسرة التى قبلها. وهو ما نجده فى كثير من آيات القرآن العظيم: "فإنى قريبٌ أجيبُ دعوة الداعِ إذا دعانِ"، "يا قومِ، لقد أبلغتكم رسالة ربى"،، "لإِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذريته إلا قليلا"، "وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ"، "وقل: عسى أن يَهْدِيَنِ ربى لأَقْرَبَ من هذا رَشَدًا"، "إنْ تَرَنِ أنا أقلَّ منك مالا وولدًا * فعسى ربى أن يُؤْتِيَنِ خيرا من جنتك"، "قال: ذلك ما كنا نَبْغِ. فارتدّا على آثارهما قَصَصًا"، "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَـاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم"، "ٍقال: ربِّ، إن هؤلاء قومٌ مجرمون"، "يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَـارِيبَ وَتَمَـاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَـاتٍ"، "ومن آياته الجَوَارِ فى البحر كالأعلام"، "يَا عِبَادِ، فَاتَّقُونِ"، "يا عبادِ، لا خوفٌ عليكم اليوم"، "واسْتَمِعْ يوم ينادى المُنَادِ من مكانٍ قريبٍ"، "يومَ يدعو الداعِ إلى شىءٍ نُكُرٍ"، "مُهْطِعين إلى الداعِ يقول الكافرون: هذا يومٌ عَسِرٌ".
    بل إن هناك من يقف على آخر المنقوص النكرة المرفوع أو المخفوض بإثبات يائه، فيقول مثلا: "جاء قاضى، ومررت بقاضى..."، وهكذا. ليس ذلك فحسب، إذ هناك شواهد شعرية متعددة على إثبات الضمة والكسرة على ياء الاسم المنقوص والفعل الناقص كما فى الأمثلة التالية:
    وَيَوْمًا يُوافينَ الهوَى غَيرَ ماضِىٍ * ويَوْمًا تَرَى منهنَّ غُولا تَغَوَّلُ
    * * *
    كَذَبْتُمْ وَبيتِ اللهِ نُبْزَى محمَّدًا * وَلَمْ تُخْتَضَبْ سُمْرُ العَوالِىِ بالدَّمِ
    * * *
    ما إنْ رأيتُ ولا أرى فى مُدَّتى * كَجَوارِىٍ يَلْعَبْنَ بالصَّحْرَاءِ
    * * *
    فَلَوْ كنتَ حُرًّا ذَا وَفاءٍ جَعَلْتَنا * لعينيكَ من دُون الغَوَانِىِ مَقْنَعا
    * * *
    لا باركَ اللهُ فى الغوانِىِ هَلْ * يُصْبِحْنَ إلاَّ لهنَّ مُطَّلَبُ
    * * *
    لعَمْرُكَ ما تَدْرِى متى أنتَ جائِىٌ * ولكنَّ أقصى مُدَّةِ العُمْرِ عاجِلُ
    * * *
    تَرَاهُ، وقد فاتَ الرُّماةَ، كأنَّهُ، * أمامَ الكلابِ، مُصْغِىُ الخَدِّ أَصْلَمُ
    * * *
    وكأنَّ بُلْقَ الخيلِ فى حافَاتِهِ * تُرْمَى بهنَّ دَوَالِىُ الزُّرَّاعِ
    * * *
    وعِرْقُ الفَرَزْدَقِ شَرُّ العُرُوقِ * خبيثُ الثَّرَى كابِىُ الأَزْنُدِ
    * * *
    إذا قُلْتُ عَلَّ القَلْبَ يَسْلُوُ قُيِّضَتْ
    * * *
    تُسَاوِىُ عِندى غيرَ خمسِ دَّراهِمِ
    وقد كان هذا كله وغيره حريا أن يكفّ من غَرْب الكاتب الجهول المتغطرس بحمق وضلال. لكن متى كان الجاهل يفهم ويعقل ويراعى حدوده ويلتزم الأدب والذوق؟ إنه لو صنع ذلك ما كان جاهلا. فما بالنا لو كان جاهلا جهولا مجهالا جَهِلا جَهِيلا جُهَلَة؟- إبراهيم عوض)
    (نلاحظ أنَّ الفاصلة الغالبة فى سورة "الأحزاب" هى كلمة منصوبة، بينما الفاصلة الغالبة فى سورة "الحج" هى كلمة مرفوعة أو مجرورة. وبالتالى نستنتج من ذلك أنَّ القرآن استخدمَ "كان" فى تلك الآية من سورة الأحزاب ("إنَّ اللهَ كان على كُلِّ شىء شهيدًا") فقط للحصول على كلمة منصوبة ("شهيدًا") ليتوافقَ سجعُ الآية مع سجع باقى الآيات فى السورة، بينما لم يكنْ بحاجة إلى قافية منصوبة فى سورة "الحج" فلم يستخدم الفعل "كان" فى الجملة نفسها: ("إنَّ اللهَ على كُلِّ شىء شهِيد").
    وهناك أمثلة أخرى كثيرة تؤكِّد على أنَّ الهدف من استخدام القرآن للفعل "كان" فى كثير من الجُمَل ذات القافية المنصوبة هو الحصول على الفاصلة المناسبة للآية، مقابل استخدامه للجُـمَـل نفسِها مِن دون الفعل "كان" فى سُوَر أخرى قافيتُها مرفوعة أو مجرورة. ومن هذه الأمثلة:
    1- "إنَّ اللهَ كان علِيًّا كبيرًا" (النساء، 34)؛ مقابل: "وأنَّ اللهَ هو العَلِى الكبير" (الحج، 62).
    2- "فإنَّ اللهَ كان غفورًا رحيمًا" (النساء، 129)، "إنَّ اللهَ كان غفورًا رحيمًا" (الأحزاب، 24)؛ مقابل: "إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم" (المائدة، 39، والأنفال، 69).
    3- "وكان اللهُ غفورًا رحيمًا" (الأحزاب، 5 و50 و59 و73)؛ مقابل: "واللهُ غفورٌ رحيم" (المائدة، 74، والتوبة، 27).
    4- "وكان اللهُ غنيًّا حميدًا" (النساء، 131)؛ مقابل: "فإنَّ اللهَ غنى حميد" (لقمان، 12).
    5- "وكان اللهُ على كلِّ شىء قديرًا" (الأحزاب، 27، والفتح، 21) مقابل: "إنَّ اللهَ على كُلِّ شىءٍ قدير" (البقرة، 20 و 109 و148، وآل عمران، 165، وفاطر، 1، والعنكبوت، 20، والنحل، 77، والنور، 45).
    6- "وكان اللهُ سميعًا بصيرًا" (النساء، 134) مقابل: "إنَّ اللهَ سميعٌ بصير" (الحج، 75، ولقمان 28، والمجادلة، 1).
    7- "وكان ذلك على الله يسيرًا" (النساء، 169) مقابل: "إنَّ ذلك على الله يسير" (الحج، 70).
    8- "إنَّ اللهَ كان عليمًا حكيمًا" (الأحزاب، 1)؛ مقابل: "إنَّ اللهَ عليمٌ حكيم" (التوبة، 29).
    9- "إنَّ اللهَ كان بما تَعْمَلون خبيرًا" (الأحزاب، 2) مقابل: "واللهُ بما تَعْمَلون خبير" (آل عمران، 180)، "وأنَّ اللهَ بما تَعْمَلون خبير" (لقمان، 29).
    10- "وكان اللهُ قويًّا عزيزًا" (الأحزاب، 25) مقابل "إنَّ اللهَ قوى عزيز" (المجادلة، 21، والحديد 25)، "إنَّ اللهَ لَقوى عزيز" (الحج، 74).
    11- "إنَّ اللهَ كان لطيفًا خبيرًا" (الأحزاب، 34) مقابل: "إنَّ اللهَ لطيفٌ خبير" (الحج، 63، ولقمان 16).
    12- "وكان اللهُ بكُلِّ شىء عليمًا" (الأحزاب، 40، والفتح، 26)، "فإنَّ اللهَ كان بكُلِّ شىء عليمًا" (الأحزاب، 59) مقابل: "إنَّ اللهَ بكُلِّ شىء عليم" (العنكبوت، 62، والتوبة، 115، والأنفال، 75، والمجادلة، 7)، "واللهُ بكُلِّ شىء عليم" (الحُجُرات، 16، والتغابن، 11، والنور، 35).
    ولكنَّ النحويين اخترعوا معنى جديدًا للفعل "كان"، وهو معنى "الأزل والأبد"، لتبرير استخدام القرآن لهذا الفعل. ولكن لو أرادَ حقا مؤلِّفو القرآنِ تسليطَ الضوء على معنى "الأزل والأبد" لاستخدموا الجملةَ من دُونِ الفعل "كان" أو مع الحرف المشبَّه بالفعل "إنَّ" أو مع أية كلمة تُــعَــبِّر عن الديمومة. كما أنَّ الشواهدَ الشعرية التبريرية التى قدَّمَـها بعضُ النُّحاة للفعل "كان" لا تفيد معنى "الأزل والأبد" إذا ما دقَّقنا فيها جيدًا، بل تفيد معنى الحال أو ربما العادة الماضية. ومن هذه الشواهد قولُ المُتَلَمِّس:
    وكُـنَّــا إذا الجَـبَّارُ صَعَّرَ خَــدَّه * أقَـمْنا له مِن ميلِه فتَــقَــوَّما
    وقولُ قيس بن الخطيم:
    وكُنتُ امرءًا لا أسمع الدهرَ سَــبَّةً * أُسَبُّ بها إلا كشفتُ غطاءها
    وقولُ أبى جندب الهذلى:
    وكنتُ إذا جارى دعا لمضوفةٍ * أُشَمِّرُ حتى يُــنْصِفَ الساق مِئْزَرى
    - محمد عبد الجليل).
    (فات هذا الجهول أن لكل من الاستعمالين مغزاه: فاستعمال "إنّ" للتأكيد، واستعمال "كان" للإشارة إلى الأزلية والديمومة. وقد يجمع القرآن الكريم بين الاستعمالين كما فى الشواهد التالية التى أوردها الجاهل، لكن لأنه جاهل لم يلتفت إليها: "إنَّ اللهَ كان عليمًا حكيمًا"، "إنَّ اللهَ كان بما تَعْمَلون خبيرًا"، "إنَّ اللهَ كان لطيفًا خبيرًا". وفى القرآن مثلها كثير جدا: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىء عَلِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىء شَهِيدًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىء حَسِيبًا، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا...". ولو كان الأمر كما يقول جاهلنا لاستخدم القرآن كل تركيب من التركيبين وحده فى موضعه ولما جمع بينهما أبدا.
    كذلك يجهل هذا الأحمق أن القرآن الكريم دائما ما ينوّع الفواصل ولا يلتزم فاصلة واحدة طوال أية سورة اللهم إلا فى بعض السور القصيرة كـ"العصر والكوثر والإخلاص والناس والقمر". ولنأخذ مثلا سورة "القارعة"، التى رغم صغرها تحتوى على عدة فواصل: "الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)". فما بالنا بطوال السور؟ أريد أن أقول إن القرآن لم يكن مضطرا إلى مراعاة الفاصلة، ومن ثم لم يكن مجبرا على استخدام "هذا" الاستعمال فى السورة ذات الفاصلة المطلقة الألف، و"ذاك" فى السورة التى ليست كذلك.
    والآن إلى مثال قرآنى تطبيقى على ورود جملة "إن الله..." منتهية بفاصلة مختلفة عن الفواصل التى حولها، وذلك فى قوله تعالى من أوائل سورة "البقرة": "أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىء قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)". وإذن لقد كان هناك مندوحة فى استعمال تركيب "إن الله..." بدلا من "وكان الله..." لو كان هذا التركيب الأخير خاطئا فى العربية كما يزعم صاحبنا. لكنه جاهل لا يفقه الموضوع الذى زج بنفسه فيه على غير بصيرة ولا ذوق، بل اندفع ينفذ ما أمروه به أمرا حتى تحظى بضاعته عندهم بالنَّفَاق.
    أما دعوى الجهول بأن الشواهد التالية:
    وكُـنَّا إذا الجَـبَّارُ صَـعَّــرَ خَــدَّه * أقَـمْنا له مِنْ مَيْلِه فتَــقَــوَّما
    وقول قيس بن الخطيم:
    وكُنتُ امرءًا لا أسمع الدهرَ سَــبَّةً * أُسَبُّ بها إلا كشفتُ غطاءها
    وقول أبى جندب الهذلى:
    وكنتُ إذا جارِى دعا لمضوفةٍ * أُشَمِّرُ حتى يُنْصِفَ الساقَ مِئزري
    لا تفيد أزلية فقد غاب عنه، لأنه جاهل، أنها بالنسبة للبشر لن تفيد أزلية لأن البشر مخلوقون، فلا علاقة لهم بالأزل، لكنها بالنسبة إلى الله تفيد ذلك. والمهم أنها تفيد الاستدامة والاتصال ولا تعرف الانقطاع رغم أن لها بداية ونهاية بالنسبة للبشر، أما الاستدامة والاتصال بغير بداية ولا انتهاء فمعناها الأزلية الأبدية. ومعلوم أن الصفات المشتركة بين الله وعباده تدل فى حالة كل من الطرفين على ما يناسبه ويليق به: ففلان رحيم، والله رحيم، لكن شتان بين رحمة العبد ورحمة الرب. وفلان كريم، والله كريم، ولكن هل الكرم المطلق الشامل العميم مثل الكرم الموهوب المحدود الناقص؟ وهناك كذلك علم الله وعلم البشر، لكن أهذا مثل ذاك؟ هل علم البشر القليل النسبى الذى كان بعد أن لم يكن، وتراكم شيئا فشيئا، ويظل دائما ناقصا، كعلم الله الذى لا يند عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء، والذى هو هكذا منذ الأزل إلى الأبد؟
    وعلى هذا الأساس ينبغى أن ننظر فى الأمثلة التالية التى يستخدم فيها الماضى فى موضع الحاضر المستمر، وكلها من الشعر الجاهلى تجنبا لتنطع صاحبنا الجهول، الذى أتصور أنه سوف يقول عن شواهد ما بعد الإسلام لو كنا قد استعنا بها إن أصحابها إنما أرادوا تعضيد كلام النحاة عن "كان" حين تنسب إلى الله. قال الأسعر الجعفى:
    وَسِرُّكَ ما كانَ فى واحِدٍ وَسِرُّ الثَلاثَةِ غَيْرُ الخَفي
    وقال البَرّاق:
    أَأَنْزِلُ بَينَهُم إِن كانَ يُسْرٌ * وَأَرْحَلُ إِنْ أَلَمَّ بِهِم عَسيرُ؟
    وقال الحارث المَذْحِجِىّ:
    بَنِىَّ، اهْتَدُوا فيما اهْتَدَيتُ سَبيلَهُ فَأَكْرَمُ هذا الناس مَنْ كانَ هادِيا
    وقال المتلمس الضبعى:
    وَمَن كانَ ذا عِرْضٍ كَريمٍ فَلَمْ يَصُنْ * لَهُ حَسَبًا كانَ اللئيمَ المُذَمَّما
    وقال ذو الإصبع العداونى:
    وَلِى ابنُ عَمٍّ عَلَى ما كانَ من خُلُقٍ * مُخْتَلِفانِ، فَأَقْلِيهِ وَيَقْلِيني
    وقال زهير:
    إِنَّ البَخِيلَ مَلُومٌ حَيثُ كانَ، وَلَـــــــــــــــــــــكِنَّ الجَوَادَ عَلَى عِلاتِهِ هَرِمُ
    وقال عدىّ بن زيد:
    وفى الخَلْقِ إذلالٌ لِمَنْ كانَ باخِلا * ضَنِينًا. وَمَن يَبْخَلْ يَذِلَّ وَيُزْهَدِ
    وقال عروة بن الورد:
    فَيَلحَقُ بِالخَيْراتِ مَنْ كانَ أَهلَها * وَتَعْلَمُ عَبسٌ رأس مَنْ يَتَصَوَّب
    وقال عمرو بن قميئة:
    يا راكِبًا، بَلِّغ ذَوِى حِلْفِنا * مَنْ كانَ من كِنْدَةَ أو وائِلِ
    وقال عمرو بن كلثوم:
    نَؤُمُّ بِها بِلادَ بَنِى أَبِينا * عَلَى ما كانَ مِن نَسَبٍ وَصِهْرِ
    وقال أمية بن أبى الصلت:
    أَلا كُلّ شَىء هالِكٌ غَيْرَ رَبِّنا * وَلِلَّهِ مِيراثُ الذى كان فانِيا
    وأخيرا لقد كان بإمكان القرآن أن يستعمل "إنّ" فى سياق الآيات ذات الفواصل المنتهية بألف فيقول: "إن الله غفورا رحيما"، "إن الله سميعا عليما"، "إن الله عزيزا حكيما"... وبهذا يتجنب استخدام "كان"، ويسلم من لسان جاهلنا. ذلك أنه كان من العرب آنئذ من ينصبون اسم "إن وأخواتها" وخبرها جميعا. وهذا لو كان اعتراض أحمقنا على"كان" وزعمه دون أهل العلم جميعا أنها لا تكون للأزلية صحيحا.
    ومن الشواهد على مجىء اسم "إن" وخبرها منصوبين الحديث الشريف الذى يقول: "إن قعر جهنم سبعين خريفا"، وقول عبد الله بن مسلم بن جندب:
    كأنه شاقَهُ أنْ قيل: ذا رجبٌ * يا ليت عِدَّةَ حولٍ كله رَجَبَا
    وقول العجاج:
    يا ليت أيام الصبا رواجعا
    وقول عمر بن أبى ربيعة:
    إذا اسودَّ جنْح الليل فَلْتَأْتِ، ولتكن * خُطَاك خِفَافًا. إنّ أصحابَنا أُسْدَا
    وقول بشار:
    حتام تُجْشِمنى الصبا وتشفّنى؟ * بل ليت غيرَك يا فؤاد فؤادَا
    وقول ابن المعتزّ:
    مَرَّتْ بنا سَحَرًا طيرٌ، فقلت لها: * طُوبَاكِ، يا ليتنى إياك، طوباكِ
    ثم الشواهد التالية، وهى من "همع الهوامع" للسيوطى:
    إنَّ العجوز خِبّةً جَرُوزَا

    * * *
    كأنَّ أُذْنَيْه إذا تشَوَّفا
    قادمةً
    أوْ قَلَمًا مُحرَّفَا
    * * *
    ألا يا لَيْتني حجرًا بوَادٍ
    * * *
    وسُمِع: "لعل زيدا أخانا"
    وفى باب "اللام مع الياء" فى "المستقصى من أمثال العرب" للزمخشرى "ليت القِسِىَّ كلها أرجلا". كما تكرر فى "الرسالة" للشافعى هذا الاستعمال عدة مرات.
    وقد تحدث عن هذه النقطة على سبيل المثال ابن سلام فى مقدمة كتابه: "طبقات الشعراء"، إذ قال إنها لغة لقوم العجاج الراجز المشهور، مضيفا: "سمعت أبا عون الحرمازى يقول: "ليت أباك منطلقا، وليت زيدا قاعدا". وأخبرنى أبو يعلى أن منشأها بلاد العجاج، فأخذها عنهم". وذكرها أيضا ابن هشام فى "مغنى اللبيب" فى الباب الذى خصصه لـ"إنّ"، والشيخ شاكر عند تعليقه على هذا الاستعمال لدى الشافعى فى "الرسالة"، وعباس حسن فى "النحو الوافى" فى باب "إن وأخواتها". وفى "الجَنَى الدانى فى حروف المعانى" لابن أم قاسم لدن الكلام عن "إنّ": "وأجاز بعض الكوفيين نصب الاسم والخبر معا بـ"إنّ وأخواتها"، وأجازه الفراء فى "ليت" خاصة. ونقل ابن أصبغ عنه أنه أجازه فى "لعل" أيضا. قال ابن عصفور: وممن ذهب إلى جواز ذلك فى "إن وأخواتها" ابن سلام فى طبقات الشعراء، وزَعَمَ أنها لغة رؤبة وقومه. وقال ابن السيد: نصب خبر "إن" وأخواتها لغة قوم من العرب. وإلى ذلك ذهب ابن الطراوة"- إبراهيم عوض).
    (النوع الثالث: الأخطاء الإنشائية المتعلِّقة بترتيب الكلمات داخل الآيات أو بترتيب الآيات داخل السور (البلبلة والاضطراب والاختلال فى ترتيب الآيات): وهذه الأخطاء منها ما هو مقصود لإضاعة الخيط الموجِّه للمعنى الكلى للنص بحيث لا يتمكَّن من إدراكه العوامُّ فتوجِّهُهم السلطةُ الزمنية بحسب مصالحها. ومنها ما هو غيرُ مقصودٍ مردُّه إلى السهو أو إلى جهل جامعى القرآن بمصادر القرآن وسياقه وباللغات السامية السائدة وقتَ ظهورِ القرآن. فلو أَعطَينا شخصًا مُـــنَــضِّدًا لا يعرِف الفرنسيةَ ولا الفلسفةَ مَـقاطِعَ أو فقراتٍ أو جُـمَــلا متفرِّقةً مترجمةً (من الفرنسية إلى العربية) ومخطوطةً بخط اليد مأخوذةً من عدة كتب للفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل Simone Weil فمن الطبيعى أنْ يحتوى النصُّ الرقمىُّ المنضَّدُ على أخطاء تنضيدية ليست بالقليلة. فكيف سيكون حجمُ الأخطاءِ إذا كان النصُّ المخطوطُ لا يحتوى على تنقيط، وإذا كان قد جُمِعَ بعد سنوات من تأليفه وطُبِعَ بعد مئات السنوات، وإذا لم يكنْ فى حوزتنا أى مخطوط أصلى للنص؟ وهو ما ينطبق على القرآن- محمد عبد الجليل).
    (المتنطع يتحدث عن القرآن على أساس أن النبى محمدا كانت عنده مكتبة فيها معاجم لغات العالم، وبخاصة لغات المنطقة التى تحيط ببلاد العرب، وكُتُب قواعدها ونصوصها وأهم مصادرها ومراجعها، وكان يقضى سحابة يومه وليله فيها يقلب الكتب ويتتبع النصوص التى يمكن أن تنفعه فى تلفيق الإسلام وتأليف القرآن، وكان حوله طائفة من المساعدين ينسخون له ما يعينه لهم ويبيضون مسوداته ويراجعون ما يقع فيه من سهو وخطإ. ثم إن الصحابة الكرام ما إن انتقل عليه السلام إلى الرفيق الأعلى حتى تركوا ما فى أيديهم وفرَّغوا أنفسهم لمزيد من التلفيق فى القرآن، فكانوا إذا وجدوا شيئا مفهوما أعادوا صياغته وأشاعوا الاضطراب فيه حتى لا يخرج منه المسلمون العاديون بشىء نافع. وهو ما يعنى أن القرآن كان كتابا نافعا، أى أن محمدا قد جاء بدين طيب، لكن منهم لله الصحابة، فهم الذين أفسدوا كل شىء. وتتساءل: من أين لهذا الأفاق كل تلك الحكايات؟ فلا تجد جوابا لأنها كلها من بنيات عقله المختل. وهل على المجنون حرج أو تبعة؟ إن كل مَنْ كتب من النصارى المعاصرين لبدايات الإسلام عن النبى والدين الذى أتى به لم يقولوا شيئا من هذا، أما محمد على عبد الجليل ففاجر تركبه السمادير الشيطانية فيريد أن يقنعنا بأنها هى حق اليقين، دون أن يطرف له جفن أو يرتبك له ضمير. ذلك لأنه فاجر كما قلت. وهل الفاجر لديه ضمير أو إحساس؟ لو كان لديه هذا أو ذاك ما كان فاجرا. إن ذلك المتنطع يحسب أن كل الناس مثله، وأنه لا أحد شريف فى هذه الدنيا، وأن النبى الكريم العظيم وأصحابه يشبهونه هو ومن على شاكلته ممن تجندهم مؤسسات التخابر فى الدول الأجنبية التى تعادى الإسلام والمسلمين ليقوموا لها بوظيفة الكبش الذى يكسر بيبان القلاع المطلوب اقتحامها.
    وتعالوا ننظر فى المثال الذى أورده للتشكيك فى القرآن والادعاء بأن نصه قد خضع لإفساد كبير. قال خيبه الله: "لو أَعطَينا شخصًا مُـــنَــضِّدًا لا يعرِف الفرنسيةَ ولا الفلسفةَ مَقاطِعَ أو فقراتٍ أو جُمَلا متفرِّقةً مترجمةً (من الفرنسية إلى العربية) ومخطوطةً بخط اليد مأخوذةً من عدة كتب للفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل Simone Weil فمن الطبيعى أنْ يحتوى النصُّ الرقمى المنضَّدُ على أخطاء تنضيدية ليست بالقليلة. فكيف سيكون حجمُ الأخطاءِ إذا كان النصُّ المخطوطُ لا يحتوى على تنقيط، وإذا كان قد جُمِعَ بعد سنوات من تأليفه وطُبِعَ بعد مئات السنوات، وإذا لم يكنْ فى حوزتنا أى مخطوط أصلى للنص؟ وهو ما ينطبق على القرآن".
    فهو هنا يتخيل بمخيلته المريضة أن القرآن مترجم عن اللغات الأجنبية، وأن مَنْ نسخوه وراجعوه يشبهون رجلا يكتب على الكاتوب كتابا لا يعرف فيه شيئا لا عن موضوعه ولا عن لغته ولا حتى عن حروف تلك اللغة. فهل من راجعوا القرآن كانوا كذلك؟ وهل كان القرآن مترجما كله أو بعضه عن لغة أجنبية غير معروفة عند العرب لا فى مكة ولا فى خارج مكة؟ ترى لو كان الأمر كذلك فكيف انفرد محمد وحده بمعرفة تلك اللغة التى ترجم منها الألفاظ والعبارات المشار إليها؟ إن المستشرقين عادة ما يصفون النبى عليه السلام، على سبيل الاتهام لا المدح، بالدهاء وعمق فهم الحياة وبالمقدرة على التخطيط المذهل. ومثل هذا الشخص لا يمكن أن يرتكب تلك الغلطة البلقاء الحمقاء. نعم لم يا ترى يترجم محمد كلاما من لغة أجنبية ويضمنها قرآنه، وهو لا يعرفها؟ فإذا كان هو لا يعرف لغة أجنبية، وكان أتباعه كما يصورهم هذا النص لا يعرفون تلك اللغة ولا الأفكار التى استمدها محمد زعمًا من كتب تلك اللغة، فلم قام فى ذهنه أن يجترح هذا العمل العبثى؟ وأين تلك الألفاظ التى مثلت مشكلة لجامعى القرآن؟
    ولقد فات هذا الأحمق الكذاب الذى يزايد على اتهام الرسول والقرآن بكل تهمة سخيفة لامنطقية حتى يظل رائجا عند أسياده الذين فتحوا بلادهم وخزائنهم له ولأمثاله، لقد فاته أن القرآن لم يكن مكتوبا بلغة يجهلها جامعوه، بل كان مكتوبا بالعربية من أوله لآخره. ثم إنهم لم يكونوا يراجعون نصا مجهولا لديهم، بل نصا يقرأونه صباح مساء ويعرفونه كما يعرفون ظهور أكفهم حسب التعبير الإنجليزى، أو كما يعرفون أبناءهم كما جاء فى القرآن المجيد: يقرأونه فى الصلوات، ويقرأونه تعبدا لربهم من صدورهم مباشرة أو مستعينين مع ذاكرتهم بالمصاحف التى كانت تحت أيدى الكتبة منهم، ويقرأونه لكيلا يتفلت من ذاكرتهم بعد أن حفظوه قربى إلى الله سبحانه وتبركا به وسعيا وراء الاطمئنان الروحى. ثم هل كان القرآن بالنسبة للمسلمين فى ذلك الحين، وهو الذى يعالج قضاياهم الحية وينزل أمامهم من السماء على رسولهم جوابا على أسئلتهم أو حلا لمشاكلهم أو حكما فى الوقائع التى شهدوها وكانوا جزءا من مشهدها، هل كان القرآن يشبه كتب الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل بالنسبة للرجل الأجنبى عن الفرنسية والفلسفة جميعا، تلك الكاتبة التى أظن أن الرجل قد أورد اسمها هنا على سبيل التفاخر بأنه "فلفوس" كبير يقرأ كتب الفلسفة ويفهمها، وأنه بعدما انتهى من قراءة ديكارت وفولتير وروسو وأضرابهم من الفلاسفة الكبار تحول إلى فايل ومن يشبهها من فلاسفة وفيلسوفات آخر زمن؟
    فانظر إلى ما قاله ذلك الأفاك وما نقوله نحن أيها القارئ الكريم، وهو الصدق الذى نعرفه من أخبار التاريخ ومن واقعنا الآن أيضا إذ نحن نحفظ القرآن فى صغرنا على أيدى فقيه الكتاب عن ظهر قلب، ونظل نتلوه حتى لا ننساه: نتلوه سردا من الذاكرة أو مطالعة فى المصحف. ورغم أن الشيخ الذى نحفظ القرآن على يديه يكون فى كثير من الأحيان أعمى أو أميا فإن عملية التحفيظ تتم بكل دقة وحساسية بحيث لا ينطق الحافظ أو يحفظ حرفا واحدا على غير ما ينبغى. ولقد بلغ اهتمام المسلمين بالقرآن حتى فى عصرنا هذا الذى نحتل فيه قاع التخلف الحضارى والثقافى مع المتخلفين من أمثالنا أن كثيرا جدا من المسلمين غير العرب فى أفريقيا وآسيا يحفظون القرآن حفظا عجيبا لا يخرمون منه حرفا، بل ويجوّده بعضهم ويتغنى فى ترتيله ككبار القراء فى البلاد العربية، رغم أنهم لا يفهمون منه شيئا. فإذا كان هذا الإعجاز يحدث أمام أعيننا وعلى مسمع منا فما بالنا بالصحابة فى عصر الرسول وعقب موته حين كان الإسلام فى عنفوان حيويته، والتحمس له قد بلغ الغاية التى لا غاية بعدها لمستزيد؟ إن هؤلاء الصحابة قد فتحوا العالم رغم إمكاناتهم الصفرية وكسروا ظهر القوى العالمية الكبرى التى كانت تسيطر على المنطقة آنذاك، وتمثِّل الحضارةَ فى أقوى مظاهرها، فهل يصح أن نظن مع هذا المتنطع ثقيل الظل أنهم يعجزون عن القيام بتلك المهمة الصغيرة؟
    ثم هل كان المسلمون يا ترى يعيشون فى قمقم بعيدين عن سمع العالم وبصره وأنفه حتى إنهم ليصنعون كل تلك المصائب فى كتابهم دون أن يعرف بذلك الآخرون المتربصون بهم داخليا وخارجيا من يهود ومجوس ونصارى ومنافقين وشعوبيين وملاحدة وزنادقة والذين بلغ بهم الحقد ضدهم أن يفتروا عليهم الكذب فى كل شىء وألفوا الكتب فى ذلك؟ وهل كان ذلك الصنيع ليتم بهذه البساطة دون أن تشتعل الخصومات وتنشب المعارك بين المسلمين؟ أترون الآن مدى سخف هذ الرجل ووقاحته التى تسول له تخيل أبأس الأحداث وأسمجها وأبعدها عن المنطق والتاريخ وقوانين المجتمعات، ثم يزيد فيريد منا أن نخر على هذا الذى يقول عميا وبكما وصما؟- إبراهيم عوض).
    (مثال على تلك الأخطاء الإنشائية المتعلِّقة بفوضى الترتيب هو الآيات المتفرقة التى تشير إلى مفهوم التقمص (العَوْد للتجسد réincarnation) بحيث أنَّ تَـناثُـرَها وتَبَعْثُرَها فى القرآن يُضيعُ القارئَ ويُـفْقِـدُه الخيطَ المنطقى الذى يربط الجُـمَـلَ ببعضها فينصرِفُ عن التفكير فى إعادة تركيب قِطَعِ البَـزْل puzzle القرآنية إلى الترتيل والتجويد والترديد الببغائى للنص. وهذه الوظيفةُ الترتيليةُ التعبُّديةُ الليتورجيةُ هى أهمُّ وظائف القرآن ("ورَتِّـــلِ القُرآنَ تَرتيلا" [المُــزَّمِّـــل، 4]- محمد عبد الجليل).
    (واضح أن الكاتب كان قد ثقّل العيار أزيد من اللازم وهو يحتسى أم الخبائث، فلم يكن يدرى ماذا يقول. ولننظر إلى فجوره فى الزعم بأن القرآن، بعد العبث المتعمد الذى خضع له (ممن؟ ومتى؟ وأين؟ وفى أية ظروف؟ لا أدرى)، أضحى غير قابل للفهم والتدبر، ولم يعد يصلح إلا للقراءة الببغائية التى لا يريد منها صاحبها شيئا غير مجرد القراءة. طيب، إذا كان الأمر كذلك فكيف شذذت أنت يا عبقرى زمانك فى مقدرتك على الفهم بل فى مقدرتك على إعادة الأمر فى هذا العبث إلى نصابه؟ وماذا تقول يا متخلف المتخلفين فى مئات المفسرين من كل شكل ولون وفى كل عصر ومصر الذين تناولوا شرح القرآن كلمة كلمة، وعبارة عبارة، وتركيبا تركيبا، وصورة صورة، وبعضهم تناوله فقهيا، وبعضهم عقيديا، وبعضهم عقليا، وبعضهم ذوقيا، وبعضهم علميا، وبعضهم لغويا وبلاغيا، وبعضهم نفسيا، وبعضهم سياسيا، وبعضهم اقتصاديا، وبعضهم اجتماعيا، وبعضهم فلسفيا، وبعضهم تربويا، وبعضهم تناوله آية آية، وبعضهم تناوله طائفة بعد طائفة من الآيات التى تعالج كل منها موضوعا واحدا فى السورة الواحدة، وبعضهم تناوله قضية قضية على مدار القرآن كله، وغير ذلك من طرق ومناهج واتجاهات على ما بينت تفصيلا فى كتابى:"مسير التفسير"؟ وأرجو أن يأخذ القارئ باله من كراهيته لكلمة "الآخرة" واستبدال كلمتى "التقمص" و"العود للتجسد" بها. لعل القارئ الآن يدرك جيدا لم وصفت هذا الكاتب بالفجور- إبراهيم عوض)
    (وتندرج ضِمْنَ هذه الأخطاءِ الإنشائيةِ النواقصُ والزياداتُ المقصودةُ وغيرُ المقصودة التى تزيد من تعدُّد معانى القرآن polysémie. فالقرآنُ ضاع منه الكثير كما تشير بعضُ المصادر كالإتقان للسيوطى (عن ابن عمر قال: "لا يقولَنَّ أحدُكم: قد أخذْتُ القرآنَ كلَّه. وما يدريه ما كلُّه؟ قد ذَهبَ مِنه قرآنٌ كثير. ولكنْ لِيَقُلْ: قد أخذْتُ منه ما ظَهَرَ"). فالكلمةُ المفقودةُ مثلا فى هذه الآية: "وما جَعلَ عليكم فى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [...] مِلَّةَ أبيكم إبراهيمَ" (الحج، 78) قد يكونُ تقديرُها "فالزموا" (فرْض: "فاتَّبِعوا") أو "كاف التشبيه" (وصْف وإخبار). والمفعولُ به الناقصُ فى هذه الآية "مَنْ كانَ يَـظُـنُّ أَنْ لن يَنْصُرَهُ اللهُ فى الدُّنيا والآخِرةِ فَـلْـيَمْدُدْ بِسببٍ إلى السَّماءِ ثُـمَّ لِيَقْطَعْ [...] فَلْيَنْظُرْ هل يُذْهِبَنَّ كَـيْدُهُ ما يَـغِيظُ" (الحج، 15) قد يكونُ تقديرُه: "الحبْل"، أو "أصل الوحى"، أو "النصر"، أو "نصر "النبى" مُحمَّد"، أو "الرزق"، أو "رِزْق "النبى" مُحمَّد"، أو "المنكَرات"، أو "الماضى"، أو غير ذلك- محمد عبد الجليل).
    (وهنا يزعم الفاجر أن القرآن قد ضاع منه الكثير كما جاء فى "الإتقان" مثلا، إذ نقرأ فيه: "عن ابن عمر قال: "لا يقولَنَّ أحدُكم: قد أخذْتُ القرآنَ كلَّه. وما يدريه ما كلُّه؟ قد ذَهبَ مِنه قرآنٌ كثير. ولكنْ لِيَقُلْ: قد أخذْتُ منه ما ظَهرَ". ترى هل ورود هذه العبارة فى السيوطى معناه أنها عبارة صحيحة؟ فلم يا ترى لم يذكر ابن عمر، ما دام يعرف ما لم يعرفه غيره عن ضياع نصوص كثيرة من القرآن، تلك النصوص ويريح ويستريح؟ إن كل ما يقال عن امحاء شىء من القرآن ينحصر بوجه عام فى أشياء قليلة مثل آية "والشيخ والشيخة"، وما يسمى بسورة "النورين أو الولاية" التى يدعى بعض الشيعة لا كلهم أنها كانت تمثل جزءا من القرآن لكن أعداء علىٍّ حذفوها حتى يطمسوا حقه فى تولى الخلافة بعد الرسول وتولى ذريته لها من بعد على إلى يوم يبعثون، وكذلك النص الذى يقرؤه بعض المصلين بعد التشهد الأخير وقبل التسليم والخروج من الصلاة، ويسميه مُدَّعو قرآنيته: "سورة الخلْع".
    ولسوف أقف هنا أمام نص "والشيخ والشيخ" كمثال ليس إلا. وكان د. على جمعة قد ظهر فى برنامج "والله أعلم" التلفازى منذ عدة أشهر وأكد أن أكل الماعز إحدى أوراق المصحف لا ينقص القرآن فى شىء، وذلك خلال تناوله الحديث الذى ورد عن بعض الصحابة بشأن ضياع آية الرجم وإرضاع الكبير جراء أكل الشاة إحدى أوراق المصحف لدن وفاة النبى عليه السلام. ولكن هناك طائفة من الأسئلة لا بد من إثارتها والرد عليها هنا كى ينجلى الموضوع على حقيقته.
    ونبدأ فنقول: كيف يقال إن القرآن لم ينقص منه شىء بينما تقول الرواية إنه كان يتضمن آية الرجم وعدد الرضعات التى تحرم زواج الراضعين من ثدى واحد، وهو الآن خال من هذا وذاك؟ كذلك كيف يقال إن النص قد ضاع، وها هو ذا النص بين أيدينا: "الشيخ والشيخة...إلخ"؟ هذا كلام متناقض مضطرب لا يقبله عقل ولا منطق. على كل حال هاتان هما الروايتان اللتان تتناولان هذا الموضوع، والمتحدثة فيهما هى عائشة رضى الله عنها: فعن محمد بن إسحاق: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ، وَرَضَعَاتُ الْكَبِيرِ عَشْرٌ، فَكَانَتْ فِى وَرَقَةٍ تَحْتَ سَرِيرٍ فِى بَيْتِى، فَلَمَّا اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَاغَلْنَا بِأَمْرِهِ، وَدَخَلَتْ دُوَيْبَةٌ لَنَا فَأَكَلَتْهَا". وروى الإمام أحمد فى "المسند" (43/343) وابن ماجة فى "السنن" (رقم/1944)، ولفظه: "فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ دَخَلَ دَاجِنٌ فَأَكَلَهَا". ولكن إذا كانت الداجن قد أكلت الورقة فهل أكلت أمخاخ حفاظ القرآن آنذاك أيضا؟ طبعا لا. فلماذا لم يعيدوا كتابتها وتنتهى المشكلة؟ وهذا لو كانت تلك الورقة هى النسخة الوحيدة من ذلك النص القرآنى الكريم؟ ولكن متى كان الرسول يضع أشياءه تحت السرير؟ هذه أول وآخر مرة نسمع فيها بذلك الأمر. وهذا إن كان هناك سرير بالمعنى الذى نعرفه الآن، أى يرتفع عن الأرض بما يسمح للداجن أن تدس رأسها على الأقل تحته وتسحب الورقة وتأكلها. لكن السرير هنا هو مجرد فراش يوضع على الأرض مباشرة، وهو ما لا يسمح للداجن بسحب الورقة. وحتى لا يظن أحد أننا نلوى عنق النص إلى الناحية التى نريد أود أن أقول إن من معانى "السرير": "المضطجَع" بإطلاق كما جاء فى "لسان العرب".
    والآن كيف تأكل الداجن شيئا تحت فراش مبسوط على الأرض؟ هل تستطيع الداجن أن ترفع الفراش أولا بيديها كما يفعل الإنسان ثم تمد فمها فتأكل ورق المصحف؟ طبعا لا. ثم هل كان القرآن مكتوبا على ورق مما يمكن أن تأكله الداجن؟ فماذا نصنع بما يقوله علماء القرآن ومؤرخوه عن اللخاف وسعف النخيل وما إلى ذلك مما كان يكتب عليه القرآن أوانذاك؟ ثم إن الرواية تقول على لسان أم المؤمنين إن النبى كان مريضا فانشغلوا عنه فلم يتنبهوا لما صنعته الداجن. فكيف عرفوا إذن أن الداجن هى التى أكلته؟ أما إذا كانوا قد رأوها فلماذا لم يحاولوا استخلاص الورقة منها؟ وإذا كانوا قد حاولوا فلماذا لم تقل عائشة ذلك؟ ثم كيف تدخل الداجن إلى غرفة نوم عائشة بهذه البساطة؟ تقول الرواية إنهم كانوا مشغولين بمرض النبى أو بموته. لكننا نعرف أن عائشة لم يكن لها سوى غرفة واحدة صغيرة مثلها مثل سائر زوجات الرسول، كما نعرف أيضا أنه كان يمرَّض فى غرفتها، فكيف يكون النبى مريضا بما يعنى أنه نائم فى سريره وبجواره عائشة على الأقل تمرضه وتعنى به فى غرفة صغيرة كهذه، ثم تدخل الداجن وتنتش الورقة من تحت الفراش (رغم صعوبة ذلك بل استحالته كما رأينا) دون أن تتنبه عائشة أو النبى عليه السلام؟
    كذلك فإن آية الرجم المزعومة التى تشير إليها الرواية تقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". ومعنى هذا أن الرجم خاص بالشيخ والشيخة وحدهما بحيث إذا زنى كهل أو رجل أو شاب فلا رجم عليه. أليس كذلك؟ فكيف يتخذ القائلون برجم الزانى المحصن من هذا النص الخاص بالشيخ والشيخ مستندا لوجوب رجم الزانى من كل الفئات العمرية المكلَّفة: شيخا كان أو كهلا أو رجلا أو شابا؟ ودعونا من حكاية الإحصان التى لم يتطرق إليها النص المزعوم. ثم كيف يضيع من القرآن نص فى حكم خطير كهذا ثم يبقى الحكم؟ حاشا لله سبحانه وتعالى أن يضع عباده فى موقف مربك كهذا.
    أيضا ليس من أسلوب القرآن استخدام كلمة "شيخة" للمرأة المتقدمة فى السن بل كلمة "عجوز" رغم أن كلمة "شيخ" تستخدم فيه للرجل: فسارة زوجة الخليل إبراهيم تقول حين بُشِّرَتْ بأنها سوف تلد إسحاق رغم طعنها فى السن: "قالت: يا ويلتا! أألد وأنا عجوز، وهذا بعلى شيخا؟"، والفتاتان اللتان قابلهما موسى فى مدين عند الماء وساعدهما فى سقى مواشيهما: "قالتا: لا نسقى حتى يُصْدِر الرعاء، وأبونا شيخ كبير"، وإخوة يوسف يقولون لعزيز مصر حين قال لهم إنه سوف يستبقى أخاهم الصغير معه: "يا أيها العزيز، إن له أبا شيخا كبيرا، فخذ أحدنا مكانه". فالرجل المتقدم فى العمر يقال له فى القرآن: "شيخ"، أما المرأة المتقدمة فى العمر فـ"عجوز": يقول القرآن عن رد فعل سارة حين بشرتها الملائكة بأنها ستلد إسحاق، وكانت قد طعنت فى السن: "يا ويلتا! أَأَلِدُ وأنا عجوز، وهذا بَعْلِى شيخا؟ إن هذا لشىء عجيب". وفى موضع آخر: "فصَكَّتْ وجهها وقالت: عجوزٌ عقيمٌ". ويقول الكتاب الكريم عن لوط عليه السلام: "فنجّيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين"، "إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين".
    ليس ذلك فقط بل عندنا هنا كلمة "البتة"، وهى ليست من المعجم القرآنى أبدا. وفوق هذا وذاك فإن تركيب جملة "والشيخ والشيخ إذا زنيا فارجموهما" (على ما جاء فى بعض الأحاديث) ليس أسلوبا قرآنيا، إذ فى الموضعين اللذين يشبهان هذا الموضع لا نجد أثرا لتعليق إيقاع العقاب على تحقق الشرط: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نَكَالا من الله"، "الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة"، ومن ثم فلا وجود لـ"إذا" فى النصين. وإضافة إلى هذا فالنص الأخير هنا لا يحدد عمر الزانيين بل يكتفى بوصفهما بالزنا، وكان الله يحب المحسنين. وهذا من الفروق الأسلوبية بين النص المزعوم بقرآنيته وسقوطه من القرآن وبين النص الموجود فى القرآن عن الزانيين.
    ثم إن الرجم فى القرآن لا يُهَدَّد به من البشر إلا الناس الصالحون: فقوم شعيب عليه السلام يهددونه قائلين: "ولولا رَهْطُك لرجمناك"، وفتية الكهف يخشَوْن، إن اطَّلَع على أمرهم قومهم، أن يرجموهم أو يُعِيدوهم إلى وثنيتهم: "إنهم إِنْ يَظْهَروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى مِلَّتهم"، وأبو إبراهيم يهدده بأنه إذا لم يكفَّ عن مهاجمة أوثانه فلسوف يرجمه: "قال: أراغبٌ أنت عن آلهتى يا إبراهيم؟ لإِنْ لم تنتهِ لأرجمنَّك"، وموسى عليه السلام يقول لقوم فرعون: "وإنى عُذْتُ بربِّى وربِّكم أن تَرْجُمونِ"، وأصحاب القرية يهددون المرسلين الثلاثة إليهم بأنهم ينبغى أن يسكتوا فلا ينتقدوا عبادتهم لغير الله، وإلا فإنهم راجموهم: "قالوا: لإِنْ لم تنتهوا لنرجمنَّكم ولَيَمَسَّنََّكم منا عذاب أليم".
    ثم هل تظن، عزيزى القارئ، أن مثل هذا الأمر الجلل يمكن أن يقع دون أن يثير ما يستحقه من ضجة هائلة بين المسلمين فى ذلك الوقت؟ هل يعقل أن تكون غيرة المسلمين تجاه كتاب ربهم وقت نزل الوحى معدومة على هذا النحو بحيث لا يهتم أحد بما جرى ولو بتساؤل بسيط أو استغراب عابر؟ وهناك رواية يقول فيها عمر قبل مقتله بفترة وجيزة: "قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده. ولولا أن يقولوا: كتب عمر ما ليس فى كتاب الله لكتبته. قد قرأنا فى كتاب الله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم". ولكن هل يعقل أن عمر لو كان مقتنعا بأن هذا النص آية قرآنية أكان يحجم عن إثباتها فى كتاب الله؟ ليس هذا هو عمر الذى نعرفه أبدا. بل أين كانت ذاكرة عمر طوال حياته فلم يتذكر ويهتم بهذا الموضوع إلا فى آخرها؟ على أن هناك رواية أخرى فى هذا الموضوع تقول عن عمر ذاته أيضا: " كان ابنُ العاصِ وزيدُ بنُ ثابتٍ يكتُبانِ المصاحفَ فمرَّا على هذه الآيةِ، فقال زيدٌ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: الشَّيْخُ وَالشَّيخَةُ فارجُمُوهُما الْبَتَّةَ. فقال عمر:ُ لما أُنْزِلَتْ أتيتُ النبى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقلتُ: أَكْتِبْنيها. فكأنه كره ذلك. قال: فقال عمرُ: ألا ترى أنَّ الشيخَ إذا زنى وقد أُحْصِنَ جُلِدَ ورُجِمَ، وإذا لم يُحْصَنْ جُلِدَ، وأنَّ الشابَّ إذا زنى وقد أُحْصِنَ رُجِمَ؟". لكن هل يمكن أن ينزل قرآن ويرفض النبى عليه السلام كتابته؟ لعل تفسير الأمر أن النبى عليه السلام كان يرجم فى البداية دون نص قرآنى، ثم نزلت آية "النور" بعقوبة الجلد فقط. وعلى الناحية الأخرى هل كان المنافقون وأهل الكتاب ليسكتوا فلا يتخذوا من هذه الواقعة مادة للسخرية من الإسلام والقرآن والتشكيك فى حفظ كتاب الله من العبث والضياع والنسيان؟
    وهكذا نرى معا أن ما جاء فى الروايات الخاصة بذلك الموضوع لا يثبت على محك العقل والمنطق. أما قول الشيخ على جمعة فى حديثه المشار إليه: "وفيها إيه لما تاكل المعزة ورقة من المصحف؟ كانت جعانة وأكلته" فهو كلام عجيب جدا. أما دراستاى عن سورة "الخلع" وعن سورة "النورين أو الولاية" فهو طويل وشديد التفصيل وكثير التشعبات ومملوء بالتحليلات المضمونية والسياقية والأسلوبية الكثيرة المرهقة، ويستطيع القارئ أن يقرأ ما كتبته عن سورة "الخلع" فى كتابى: "مسير التفسير"، وما كتبته عن سورة "الولاية أو النورين" فى كتاب خاص بذلك الموضوع عنوانه: "سورة النورين التى يزعم فريق من الشيعة أنها من القرآن- دراسة تحليلية".
    أما كلمة "مِلَّة" فى قوله عز من قائل: "مِلَّةَ أبيكم إبراهيم" فليست فيها أية مشكلة، إذ هى تمييز منصوب. ويمكنك أن ترى فيها إغراء بالتزام ملة إبراهيم عليه السلام، كقولنا مثلا حين نكون فى انتظار الطعام ثم نراه محمولا على الصوانى فوق رؤوس الخدم، فنقول فى لهفة وفرحة: "الطعامَ"، أو "الطعام الطعام" بمعنى "هيا إلى الطعام لنأكل ونسكت عصافير بطوننا". وكونه جاهلا لا يعرف هذا ليس حجة على الآية، بل خزيا له وهوانا وإرغاما لأنفه فى التراب. وبالنسبة لكلمة "ليقطعْ" وعدم وجود مفعول لها ظاهر أفلا نقول: "عندك على المائدة لحم وخضار وتفاح وعصائر فكل واشرب براحتك" بدلا من "فكل اللحم والخضار والتفاح، واشرب العصائر"؟ وهذا إن كان الفعل: "يقطع" هنا متعديا، إذ يمكن أن يكون معناه: "ثم ليختنقْ" فيكون فعلا لازما لا يستدعى مفعولا به- إبراهيم عوض).

    التعديل الأخير تم بواسطة إبراهيم عوض ; 24/02/2018 الساعة 01:22 PM

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •