العِـلْم فى الإسلام
د. إبراهيم عوض

العلم أحد عناصر الحضارة الرئيسية، وبدون العلم لا يمكن قيام حضارة. ذلك أنه ما من شىء تنجزه البشرية إلا ووراءه العلم: انظر إلى الطب والأدوية مثلا، فهل يمكن صناعة دواء أو آلة من آلات الكشف والعلاج أو أسلوب من أساليب إجراء العمليات الجرحية دون علم؟ بل إننا لو اقتصرنا على العلاجات الشعبية فهى أيضا علم، وإن كانت علما بدائيا. لكنها رغم ذلك علم. وانظر إلى الكاتوب أيضا، فهل يمكن إنتاج ذلك الجهاز وما يحتاجه من أقراص دون الاستعانة بالعلم؟ وهل يمكن صنع القطار أو الباخرة أو السيارة أو الطيارة أو سفينة الفضاء أو الصاروخ دن علم وعلماء؟ وقل مثل ذلك فى كل ما تشاهده حولك أو تسمع به أو تقرأ عنه من أدوات الحضارة واكتشافاتها. إننا لا نستطيع أن ننام أو نصحو أو نأكل أو نشرب أو نرفه عن أنفسنا أو نمشى أو نستريح أو نسافر أو نعود أو نقرأ أو نتحدث إلا بالعلم، ومن خلال العلم. ولا ريب أن الحضارة قد بدأت حين "تنبه الإنسان إلى أن له عقلا"، أى "قدرة على إدراك الأشياء وفهمها والربط بين الظواهر بعضها ببعض" (د. حسين مؤنس/ الحضارة/ 15). ولولا العقل لظل الإنسان على فطرته الأولى أبد الدهر لا يتغير مثلما لا يتغير الحيوان فى أساليبه وطريقة عيشه مهما مرت عليه الحقب والدهور، إذ يخضع فى تلك الحالة لغرائزه، والغرائز ثابتة لا يعتريها تطور، ومن ثم لا تنشئ حضارة، لأن الحضارة هى التوثب على طريق الحياة نحو الأفق البعيد، ذلك الأفق الذى لا يمكن بلوغه أبدا رغم كل شىء. وهذا التوثب يستلزم الحركة والاسكتشاف والمرونة والتطور والبحث عن حلول للمشاكل التى تقابل الإنسان فى رحلته هذه. وكل ذلك لا بد له من عقل وعلم.
ولقد كانت حاجة البشر إلى العلم موجودة على الدوام منذ فتح آدم عينيه على الدنيا وسار فوقها أولى خطواته. كل ما هنالك أن الناس تظن أن العلم لا بد أن يكون مسجلا فى الكتب، وإلا لم يكن علما. صحيح أن هذا هو الحادث الآن، لكنه لم يكن موجودا فى بدايات التاريخ حيث كان العلم يحصَّل فطريا دون مدارس أو كتب، بل من خلال الملاحظة الشخصية وتناقُلها شفويا، وتشرُّبها عمليا. لكن العلم الآن قد أصبح معقدا غاية التعقيد، ويحتاج إلى أن يفنى الإنسان عمره فى تحصيل بعض من قطراته. وتزداد المسألة صعوبة حين ننظر فنرى أن الغرب قد سبقَنا بأشواطٍ جِدِّ طويلة، وأننا ما زلنا نحبو فى هذاالميدان. وتَشْنُع الأمور عندما نعى أننا لم نعد نهتم بالعلم اهتماما حقيقيا، فى الوقت الذى يضربنا فيه الغرب بالأسلحة النووية، والأسلحة النووية علم ويخطط لتقسيم بلادنا ومحو ديننا وانتزاع الدنيا من أيدينا بالعلم. بل لقد انتقل من مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ. وكثير من الناس حول العالم يظنون أن الإسلام لا صلة بينه وبين العلم، إن لم يظنوا أنه يعادى العلم ويؤثر الجهل... إلى آخر تلك الأخطاء السخيفة التى أرى أننا نحن المسؤولون عنها بكراهيتنا الحالية للتحصيل العلمى ونفورنا من أن يكون لنا أى دور فى ميدان الاختراعات والإبداعات، هذا النفور وتلك الكراهية اللذين يدينهما الإسلام قبل غيره.
والواقع أننا لو ذهبنا نتتبع آيات القرآن وأحاديث الرسول فى هذا الصدد فسوف نجد عجبا: ففى القرآن الكريم إلحاح على أن العلم نعمة إلهية أفاضها الله على البشر كما فى قوله تعالى فى أول نزول القرآن: "عَلَّم الإنسانَ ما لم يَعْلَم" (العَلَق/ ٥)، وقوله سبحانه عن آدم عليه السلام: "وعَلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها" (البقرة/ ٣١)، وقوله عن يوسف عليه السلام: "وإنه لَذُو عِلْمٍ لـِمَا عَلَّمْناه" (يوسف/ ٦٨)، وقوله سبحانه عن العبد الصالح في قصة موسى عليه السلام: "وعَلَّمْناه مِنْ لَدُنَّا علما" (الكهف/ ٦٥)، وقوله جل شأنه عن داود عليه السلام:" وعلّمناه صنعةَ لَبُوسٍ لكم" (الأنبياء/ ٨٠)، وقوله جَلَّ وتبارك عن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه: "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلّمك ما لم تكن تَعْلَم" (النساء/ ١١٣)، وقوله عز شأنه في خطاب المؤمنين: "واتقوا الله، ويعلّمكم الله". وهو ما يعنى أن العلم نعمة من الله سبحانه أنعم بها على عباده من البشر. كذلك يعلى القرآن الكريم من شأن الحكمة ويعدّها خيرا كثيرا: "يُؤْتِي الحكمةَ من يشاء. ومن يُؤْتَ الحكمةَ فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا" (البقرة/ ٢٦٩)، ولا يسوّي بين العلماء والذين لا يعلمون: "قل: هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُون والذين لا يَعْلَمُون؟" (البقرة/ ٢٦٩). والله سبحانه يرفع المؤمنين الذين أوتوا العِلْمَ درجات عالية لا يرقى إليها غيرهم: "يَرْفَعِ اللهُ الذين آمنوا منكم والذين أُوتُوا العِلْمَ درجاتٍ" (المجادلة/ ١١).
وعلى سبيل المقارنة التى من شانها إبراز مزايا الشىء بوضوح نحب أن نقف فى الكتاب المقدس أمام النصوص الآتية: ففى سفر"الجامعة" مثلا أن معرفة الحكمة، مثلها مثل معرفة الحماقة والجهل، هي قبض الريح، وأن "في كثرة الحكمة كثرة الغم. والذي يزيد علما يزيد حزنا". ومن هنا فإن "الدرس الكثير تعب للجسد". كذلك يؤكد بولس أن الله "مُرْجِع الحكماء إلى الوراء ومجهِّل معرفتهم"، وأنه قد جهَّل "حكمة هذا العالم"، وأنه قد"اختار... جُهّال العالم ليُخْزِي الحكماء" (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس/ ١/ ٢٠، ٢٧)، وأن "حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله"، "وأيضا الرب يَعْلَم أفكار الحكماء باطلة". وعلى هذا فـ"إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فَلْيَصِرْ جاهلا لكي يصير حكيما" (رسالة يوحنا الأولى / ٢/ ٢٠، ٢٧).
ولا يقف الأمر بالنسبة إلى العلم فى الإسلام عند هذا الحد، بل له أبعاد أخرى: ففى القرآن، حين يبدى الملائكة استغرابهم لما قاله سبحانه لهم من أنه سوف يجعل فى الأرض خليفة هو الإنسان، إذ أدهشهم أن يخلق الله خليفة سوف يفسد فى الأرض ويسفك الدماء فى الوقت الذى يسبحون هم بحمد الله ويقدسون له، نجده سبحانه يلفت نظرهم إلى جانب آخر من تكوين الجنس البشرى لم يتنبه له الملائكة. وهذا الجانب هو العقل والمقدرة على تحصيل العلم، وهو ما لا تستطيعه الملائكة، إذ لم يخلقهم الله قابلين للتطور والاجتهاد وتحصيل المعرفة، بل يقوم كيانهم على توجيه الله لكل منهم نحو ناحية معينة منذ الأزل لا يخرج عنها.
يقول عز شأنه: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ" (البقرة/ 30- 33). وليس معنى تعليم الله آدم الأسماء كلها أنه سبحانه قد أطلعه على الإجابة، فى حين أخفاها عن الملائكة، وإلا كان هذا تحيزا وظلما تعالى الله عنه علوا كبيرا، بل المعنى، حسبما أفهم، هو أن الجنس البشرى، أو إن شئت فقل: آدم، مخلوق يتسم بالمرونة والمقدرة على التطور والترقى من حال إلى حال واكتساب ما كان يجهله من معرفة. أما الملائكة فقد خُلِقَتْ على نحو لا يقبل التطور من حال إلى حال، بل أُسْنِدَتْ إلى كل منهم منذ الأزل مهمة يؤديها على نحو مخصوص لا تغير فيه، ولا يؤدى سواها، ولا يُتَصَوَّر أن يهملها أبدا: "لا يَعْصُون اللهَ ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤْمَرون" (التحريم/ 6)، "لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون" (الأنبياء/ 27).
ولعلنا نجد فى الحديث التالى ما يشير إلى ذلك. قال أنس بن مالك: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في الحلقة، إذ جاء رجل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم والقوم فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فلما جلس الرجل قال: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا أن يُحْمَد وينبغي له. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فردّ عليه كما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها عشرة أملاكٍ كلهم حريص على أن يكتبها، فما دَرَوْا كيف يكتبونها حتى رفعوها إلى ذي العزة، فقال: اكتبوها كما قال عبدي". فمن الممكن أن تكون هذه إشارة إلى ما قلناه من أن الملائكة تم توجيه كل منها إلى مهمة معينة لا يعدوها. وعلى هذا فحين قال الرجل شيئا لم يكن يقال فى هذا الموقف تحير الملائكة فلم يعرفوا كيف يكتبون العبارة، إلى أن أمرهم الله عز وجل أن يكتبوها كما هى، وليتركوا الأمر له سبحانه يقدّره كما يشاء.
فالله سبحانه حين لفت انتباه الملائكة إلى تعلم آدم الأسماء كلها إنما أراد أن يباهى ملائكته بالجنس البشرى، ذلك الجنس الذى زوده عز شأنه بمواهب ليست موجودة لديهم. ومن الواضح أن الملائكة قد وعت الدرس، فها هى ذى تضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع طبقا لما جاء فى الحديث الشريف التالى: "مَنْ سَلَكَ طريقا يطلب فيه علما سَلَكَ الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالِم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارا ولا درهما، إنما ورَّثوا العلم، فمَنْ أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ".
فإذا نظرنا فى العهد القديم لنرى موقف السماء من مقدرة الجنس البشرى على اكتساب المعرفة وجدنا فى الإصحاحين الثانى والثالث من سِفْر "التكوين" أنه سبحانه وتعالى قد اغتاظ حين رأى آدم يعرف الخير من الشر وحَقَدَ عليه وعاقبه بطرده من الجنة. أى أنه قد عاقبه على ما يحبه إله الإسلام من البشر ويجازيه عليهم الجنة. يقول كاتب سفر "التكوين": "15وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا. 16وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، 17وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ». 18وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ». 19وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا. 20فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ. 21فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. 22وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. 23فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ». 24لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. 25وَكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ، آدَمُ وَامْرَأَتُهُ، وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ.
1وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» 2فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، 3وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا». 4فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! 5بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ». 6فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ. 7فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ.
8وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. 9فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». 10فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ». 11فَقَالَ: «مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟» 12فَقَالَ آدَمُ: «الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ». 13فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْمَرْأَةِ: «مَا هذَا الَّذِي فَعَلْتِ؟» فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: «الْحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ». 14فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. 15وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ». 16وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ». 17وَقَالَ لآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. 18وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. 19بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ».20وَدَعَا آدَمُ اسْمَ امْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ. 21وَصَنَعَ الرَّبُّ الإِلهُ لآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا. 22وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». 23فَأَخْرَجَهُ الرّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا. 24فَطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ".
وبالإضافة إلى ذلك توجد فى رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس (1/ 25) إشارة إلى "جهالة الله" و"ضعف الله"، إذ يؤكد أن "جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ!". كما يخلو الكتاب المقدس من الدعوة إلى التفكير واستخدام العقل والتأمل في أحوال الأمم ومظاهر الطبيعة والتثبت من كل رأي أو فكرة قبل اعتناقها، وذلك على عكس الإسلام، الذي يذكر جورج تاوسند مؤلف كتاب "Christ et Bahá’u’llah" أن من بين خصائصه التي تميزه "حرية الفكر والتوافق بين الدين والعلم"، مؤكدا أن العرب كانوا سادة الدنيا في وقتهم في العلوم التجريبية (George Townshend, Christ et Bahâ’ullâh, Maison d’Editions Bahâ’ies, Bruxelles, 1968, P. 41, 59).
ولأهمية العلم والمعرفة فى الإسلام نجد القرآن يشدد على عقاب من يرتكب الإثم عالما أنه إثم، وليس عن ضعف طارئ لم يستطع أن يتحاشاه. لقد ذم اليهودَ مثلا ذما شديدا لإقدامهم على تحريف الوحي مع علمهم أن هذا إثم فاحش، إذ "كان فريقٌ منهم يَسْمَعُون كلامَ الله ثم يحرِّفونه من بعد ما عَقَلوه وهم يَعْلَمُون" (البقرة/ ٧٥)، وينذرهم قائلا:"لا تَلْبِسُوا الحقَّ بالباطل وتَكْتُمُوا الحقَّ وأنتم تعلمون" (البقرة/ ٤٢). كما نجده يحذر المؤمنين من الإشراك بالله بعدما علموا أن التوحيد حق: "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون" (البقرة/ ٢٢)، ويخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام على سبيل ضرب المثل قائلا: "لئن اتبعتَ أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير"( البقرة/ ١٢٠) و"لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذًا لمن الظالمين" (البقرة/ ١٤٥).
وقد فهم المرحوم الشيخ شلتوت من قوله تعالى: "ومن يُشَاقِقِ الرسولَ من بعد ما تبيَّن له الهدى ويَتَّبِعْ غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تَوَلَّى ونُصْلِه جَهَنَّمَ. وساءت مصيرا" (النساء/١١٥) أن من لن يعلم بالحق بمعنى أنه لم يَبْلُغْه أو بَلَغه وعَلِم به ولكن على نحو محرَّف، أو علم به على وجهه الصحيح ولكنه لم يستطع الاقتناع به رغم أنه لم يقصِّر في ذلك على مدى عمره فهذا لا يناله الوعيد الإلهي بالإصلاء في جنهم (انظر الشيخ محمود شلتوت/ تفسير القرآن الكريم- الأجزاء العشرة الأولى/ ط2/ دار القلم/ القاهرة/ ٢٣٦- ٢٣٧). ومثله قول الشيخ محمد عبده إن الإسلام يجعل من النظر العقلي وسيلة الإيمان الصحيح حتى لقد قال قائلون من أهل السنة: "إن الذي يستقصى جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبًا غير واقف عند الظن فهو ناج" (الشيخ محمد عبده/ الإسلام بين العلم والمدنية/ كتاب الهلال / عدد ٣٨٥/ يناير ١٩٨٣/ ١١٨-١١٩. وانظر أيضا كتابه: "رسالة التوحيد"/ كتاب الهلال/ عدد ٣٥٥/ يولية ١٩٨٠/ ١٨- ١٩). ومن هذا كله نرى أن العلم هو أساس المسؤولية، وأنه لا مسؤولية بلا علم، على أن يكون مفهوما طبعا أن العلم والسعي إليه هو واجب كل مسلم ومسلمة.
ولكن قبل أن نبحث عن الآيات المتصلة بهذا الموضوع علينا أن نعرف معنى "التفكير العلمي" ونُلِمّ بخصائصه إلماما سريعا لنرى إلى أى مدى يحرص القرآن على العلم ويعمل على أن يربى أتباعه على النظرة العلمية. يقول د. توفيق الطويل: "يُنْسَب التفكير العلمي إلى المشتغلين بالعلم الطبيعي. ويراد اليوم بالعلم الطبيعي كل دراسة تصطنعُ منهج الملاحظةَ الحسية، والتجربةَ العلمية إن كانت ممكنة، وتتناولُ الظواهر الجزئية في عالم الحس، وتستهدفُ وضع قوانين لتفسيرها بالكشف عن العلاقات التي تربط بينها وبين غيرها من الظواهر وصياغة هذه القوانين في رموز رياضية، وذلك للسيطرة على الطبيعة والإفادة من مواردها وتسخيرها ظواهرها لخدمة الإنسان في حياته الدنيا" (د. توفيق الطويل/ في تراثنا العربي والإسلامي/ عالم المعرفة/ عدد ٨٧/ مارس ١٩٨/ ٧- ٨).
ويتناول د. توفيق الطويل القول في خصائص التفكير العلمي، التي يمكن تلخيصها على النحو التالي:
١-البدء بتطهير العقل من معلوماته السابقة.
2-الملاحظة الحسية كمصدر وحيد للحقائق.
٣-نزوع العلم الحديث إلى التكميم.
٤، ٥-موضوعية البحث ونزاهة الباحث.
٦-الاعتقاد في مبدأ الحتمية.
٧-توافر الثقافة الواسعة للعلماء (المرجع السابق/ 9، 14، 42، 47، 52).
ولا يخرج عن ذلك ما قاله د. أحمد زكي من أن "العلم مؤسس على التجربة يجريها العالم ويَرْقُم نتائجها، وعلى الملاحظة يأتيها ويرصد نتائجها، ثم هو يعمل عقله في هذه النتائج من بعد ذلك" (د. أحمد زكي/ مع الله في السماء/ كتاب الهلال/ عدد ٣١١/ نوفمبر ١٩٧/ ١٩). ويشير همايون كبير إلى أهمية الإيمان باتساق الطبيعة واطراد قوانينها والإيمان بقيمة الوحدات الفردية وأهمية ملاحظتها في مجال العلم وتطوره (همايون كبير/ العلم والديمقراطية والإسلام/ ترجمة عثمان نويه/ دار الهلال/ ٩- ١٣، ١٩- ٢٠). وهكذا يتبين لنا أن المنهج العلمي يقوم على الإيمان بأن العلم محيط لا ساحل له، وأن وسائل الإنسان إلى تحصيل العلم هي حواسه وعقله، التي ينبغي أن تكون مفتوحة ويقظة دائما للطبيعة وظواهرها من حوله كي يتسنى له استخلاص القوانين التي تحكمها بعد التثبت من كل ما يلاحظه ويستنبطه.
وفى القرآن آيات كثيرة تبرز سعة آفاق العلم وعدم انتهائها عند حد، كقوله تعالى: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تُنْبِت الأرضُ ومن أنفسهم ومما لا يعلمون" (يس/ ٣٦)، "والخيلَ والبغالَ والحميرَ لتركبوها وزينةً، ويخلق ما لا تعلمون" (النحل/ ٨)، "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" (الإسراء/ ٨٥)، "وفوق كل ذي علم عليم" (يوسف / ٧٦.)، ثم هذه الآية التي يأمر فيها العليم الحكيم رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام أنْ "قل: رب، زدني علما" (طه/ 114). إن هذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يأمر فيها الله رسوله أن يستزيد من شيء. ولنلاحظ أن المأمور بذلك هو محمد، الذي كان يتنزل عليه الوحي صباح مساء. وعندنا كذلك هذه الآية التي يسوي فيها القرآن بين الجهاد في سبيل الله وطلب العلم، إذ يسمي كلا منهما: "نَفْرًا"، والتي يحض فيها المؤمنين أن يبقى من كل فرقة منهم طائفة مع الرسول في المدينة حين لا يخرج للغزو مع الجيش من أجل أن تتفقه هذه الطائفة في الدين: "وما كان المؤمنون ليَنْفِروا كافة. فلولا نَفَرَ من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يَحْذَرون" (التوبة/ ١٢٢). صحيح أن العلم هنا هو العلم الديني، بيد أنه ينبغي ألا يفوتنا أن هذا هو المجال العلمي الوحيد الذي كان يتتابع فيه ظهور الجديد كل يوم، وأحيانا كثيرة في مدى زمني أقصر من ذلك، على عكس ما يسمى الآن بالعلوم التجريبية، التي كانت معارف العرب فيها في ذلك الحين مجرد شظايا بدائية ساكنة لا يلحقها تطور أو تجديد. والعبرة على كل حال بمبدإ التخصص وتهيئة الدولة المناخ المناسب لعكوف العالم على علمه وتشجيعه بل حثه على ذلك.
كذلك ما أكثر الآيات القرآنية التي تتحدث عن نعم السمع والبصر والعقل وتمن بها على العباد بما يدل على جلالة وظيفتها: "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" (النحل/ ٧٨)، "وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة" (المؤمنون/ ٧٨)، "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. قليلا ما تشكرون" (السجدة/ ٩، والمُلْك/ ٢٣)، "وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة" (الأحقاف/ ٢٦). وما أكثر أيضا الآيات التي تحض على النظر والتأمل في الملكوت ووقائع التاريخ: "فلْينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صَبًّا * ثم شققنا الأرض شَقًّا * فأنبتنا فيها حَبًّا * وعنبا وقَضْبًا * وزيتونا ونخلاً * وحدائقَ غُلْبًا * وفاكهةً وأَبًّا * متاعًا لكم ولأنعامكم" ( عَبَسَ/ ٢٤- ٣١)، "فلينظر الإنسان مِمَّ خُلِق * خُلِقَ من ماء دافق * يخرج من بين الصُّلْب والترائب * إنه على رَجْعِه لَقَادِر" (الطارق/ ٥- ٨)، "أفلم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض؟" (الأعراف/ ١٨٥)، "أو لم يسيروا في الأرض فينظروا: كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة" (الروم/ ٩)، "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم: كيف بنيناها وزيناها وما لها من فُرُوج * والأرضَ مَدَدْناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوجٍ بهيج؟" (ق/ ٦- ٧)، "أفلا ينظرون إلى الإبل: كيف خُلِقَتْ * وإلى السماء كيف رُفِعَتْ * وإلى الجبال كيف نُصِبَتْ؟ * وإلى الأرض كيف سُطِحَتْ؟" (الغاشية/ ١٧- ٢٠)، "قل: سيروا في الأرض فانظروا: كيف بَدَأَ الخلقُ. ثم اللهُ يُنْشِيُء النشأةَ الآخرة" (العنكبوت/ ٢٠).
وهناك مواضع أخرى يعنّف فيها القرآن من لا يستخدمون حواسهم وعقولهم تعنيفا شديدا لدرجة أنه يهبط بهم إلى ما دون مرتبة العجماوات. قال تعالي: "لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام، بل هم أضلّ" (الأعراف/ ١٧٩)، "إن شر الدواب عند الله الصُّمّ البُكْم الذين لا يَعْقِلون" (الأنفال/ ٢٢)، "أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها؟ فإنها لا تَعْمَى الأبصار، ولكن تَعْمَى القلوبُ التي في الصدور" (الحج/ ٤٦).
والإنسان في القرآن مطالب بالتفكير قبل أن يؤمن أو يكفر حتى يكون إيمانه أو كفره عن بينة: "قل إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مَثْنَى وفُرَادَى ثم تتفكروا" (سبأ/ ٤٦)، "أو لم يتفكروا؟ ما بصاحبهم من جِنّةٍ" (الأعراف/ ١٨٤)، "أو لم يتفكروا في أنفسهم؟" (الروم/ ٣٠)، ومطالب كذلك بالتفكير بعد الإيمان، إذ من صفات المؤمنين أنهم هم"الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض" (آل عمران/ ١٩١). وفي مجال التثبت نجد القرآن يحذر دائما من الوقوف عند الظن، إذ لا بد من العلم اليقيني: "وما لهم بذلك من علم. إنْ هم إلا يظنون" (الجاثية/ ٢٤)، "إن يتّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس" (النجم/ ٢٣)، "إنْ يتَّبِعُون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا" (النجم/ ٢٨). بل يبلغ موقف القرآن من الظن وعدم الاعتداد به الحد الذي يدعو عنده إلى اجتناب الكثير من الظن لأن بعضه إثم، فهو حَذَرَ الوقوع في القليل غير المتعين ينبذ الكثير: "يا أيها الذين آمنوا، اجتنبوا كثيرا من الظن. إن بعض الظن إثم" (الحجرات/ ١٨). ولا يقف التثبت في القرآن عند اطِّراح الظن، بل لا بد من البرهان: "فقلنا (أي قال المولى سبحانه): هاتوا برهانكم" (القصص/ ٧٥)، "إنْ عندكم من سلطان (أي برهان قاطع) بهذا" (يونس/ ٦٨)، "قل: هل عندكم من علم فتُخْرِجوه لنا؟" (الأنعام/ ١٤٨)، "اِيتُوني بكتابٍ من قَبْل هذا أو أَثَارَةٍ من علم إن كنتم صادقين" (الأحقاف/ ٤).
وعلى الإنسان أن يرجع فيما يجهله إلى أهل الاختصاص: "ولو رَدُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَه الذين يستنبطونه منهم" (النساء/ ٨٣)، "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (النحل/ ٤٣، والأنبياء/ ٧). ولا يصح في مجال العلم الاعتداد بالآراء المتوارَثة لمجرد شيوعها وترديد الأجيال لها. ومن هنا كانت حملة القرآن شعواء على المقلدين لأسلافهم: "قالوا: بل نتَّبِع ما ألفينا عليه آباءنا" (البقرة/ ١٧٠)، "قالوا: حَسْبُنا ما وجدنا عليه آباءنا" (المائدة/ ١٠٤)، "وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا" (الأعراف/ ٢٨)، "قالوا: أجئتنا لتلفتنا عما وَجَدْنا عليه آباءنا؟" (يونس / ٧٨)، "قالوا: بل نتّبع ما وجدْنا عليه آباءنا" (لقمان/ ٢١)، "قالوا: إنا وجدْنا آباءنا على أُمّة، وإنا على آثارهم مهتدون" (الزخرف/ ٢٢)، "قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون" (الزخرف/ ٢٣). وكما يقول الشيخ محمود شلتوت فـ"قد ارتفع القرآن بالعقل وسجل أن إهماله فى الدنيا سيكون سببا فى عذاب الآخرة، فقال حكايةً لما يجرى على ألسنة الذين ضلوا ولم يستعملوا عقولهم فى معرفة الحق والعمل به: "لو كنا نسمعُ أو نَعْقِلُ ما كنا فى أصحاب السَّعِير (الملك/ 10)" (محمود شلتوت/ من توجيهات الإسلام/ ط8/ دار الشروق/ 1424هـ- 2004م/ 116).
وبالنسبة للنظام الكوني وما يجري عليه من قوانين مطردة هناك هذه الآيات التي تتحدث عن السُّنّة والتقدير والقَدَر والوَزْن والميزان، وهي كلها ألفاظ تعني ما يعنيه مصطلح "قوانين الطبيعة" أو "القوانين الكونية". ففي مجال التاريخ والحضارة وطباع البشر وانهيار الأمم نقرأ هذه الآيات: "وإن يعودوا (أي الكفار لكفرهم وإجرامهم) فقد مضت سُنّة الأولين" (الأنفال/ ٣٨)، "سُنَّةَ مَنْ قد أرسلْنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلا" (الإسراء/ ٧٧)، "سُنَّةَ الله في الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قدرا مقدورا" (الأحزاب/ ٣٨)، "ولن تجد لسنتنا تبديلا" (الأحزاب/ ٦٢، والفتح/ ٢٣)، "فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا" (فاطر/ ٤٣)، "قد خلت مِنْ قَبْلِكم سُنَنٌ" (آل عمران/ ١٣٧)، "يريد الله ليبيِّن لكم ويَهْدِيَكم سُنَن الذين مِنْ قبلكم" (النساء/ ٢٦).
أما الآيات التالية فهي تتحدث عن القانون في مجال الظواهر الطبيعية: "والقمرَ قدَّرناه منازل" (يس/ ٣٩)، "هو الذي جعل الشمسَ ضياءً، والقمرَ نورا، وقَدَّرَه منازلَ" (يونس/ ٥)، "وخَلَق كلّ شيء فقدَّره تقديرا" (الفرقان/ ٢)، "وكلُّ شيء عنده بمقدار" (الرعد/ ٨)، "وإنْ مِنْ شيءٍ إلا عندنا خزائنُه. وما ننزِّله إلا بقَدَرٍ معلوم" (الحِجْر/ ٢١)، "وأنزلنا من السماء ماء بقَدَرٍ" (المؤمنون/ ١٨)، "فجعلناه (أي ماء الإنسان) في قرارٍ مكين * إلى قَدَرٍ معلوم" (المرسَلات/ ٢١- ٢٢)، "وجعلنا فيها رواسِيَ، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون" (الحِجْر/ ١٩)، "والسماءَ رفعها ووَضَع الميزان * ألا تَطْغَوْا في الميزان" (الرحمن/ ٧- ٨).
كذلك ينبغى التنبه إلى أن معظم الآيات والأحاديث التى تحض على العلم وترفع من شأنه لا تحصره فى ميدان العلم الدينى، بل تطلق القول إطلاقا مما يدل على أن العلم فى الإسلام لا يقتصر على العلم الدينى وحده. ويؤكد هذا ما أشار إليه الأمير شكيب أرسلان من أن فى القرآن آيات متعددة تحث على السير فى الأرض والنظر والتأمل فى السحاب والجبال وما إلى هذا، وهو ما يشير إلى أن الأمر مفتوح المصاريع، وليس خاصا بلون واحد من ألوان العلم. كما أن قوله صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا العلم ولو فى الصين" يقطع بأن العلم هنا هو العلم الدنيوى لأن أهل الصين فى ذلك الوقت كانوا وثنيين، ومن ثم فليس من المعقول أن يجعلهم النبى عليه السلام مرجعا فى العلم الدينى (انظر شكيب أرسلان/ لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟/ تقديم محمد رشيد رضا/ دار البشير/ القاهرة/ 1985م/ 136- 137).
بعد هذا كله يستغرب الإنسان كيف يجرؤ جورج مارشال مؤلف "Promotion de l’Islam" على الزعم بأن الحضارة الإسلامية هي نتاج غير طبيعي لشخصية محمد وطبيعة الإسلام، لأن الرسول (كما يقول) كان أميا، والإسلام (في نظر ذلك المستشرق) لا يهتم إلا بالحياة الآخرة، فكيف تكون النتيجة إذن هي هذه الحضارة الإسلامية المزدهرة التي تعلمت منها أوربا؟ والإجابة عنده هي أن الإسلام قد ورث ثقافة الإغريق والبيزنطيين والفُرْس (Georges Marchal, Promotion de l’Islam, Berget Leuault, Paris, 1957, pp. 40- 41, 50- 51). وهو يتهم الإسلام بفقدان قُوَى الأصالة والإبداع التي يتطلبها قيام الحضارة (المرجع السابق/ ٤١، ٥٢)، ويؤكد أن من بين ما يحتاجه من الغرب اقتباس المنهج التجريبي والروح التحليلية والعقلية الناقدة (السابق/ ٥٦). ولكن سرعان ما يزول استغراب الإنسان لهذه المزاعم حين يعرف أن صاحبها رجل دين، فرجال الدين من المستشرقين هم أسخفهم عقلا وأعماهم تعصبا وأضيقهم أفقا وأجرؤهم على الكذب إلا قليلا منهم. والسؤال هو: ترى لو أن القرآن والرسول لم يحضا على المجد والتفوق في الدنيا وطلب العلم واتباع مبادئ المنهج العلمي المؤسسة على اليقين والتثبت والتساؤل وتقليب النظر والملاحظة واستقراء القانون أكانت هذه الثقافات التي ورثها المسلمون تؤدي في أيديهم إلى شيء؟ لقد كان هذا التراث بين أيدي الأوربيين في ذات الوقت، فكيف لم يستفيدوا منه مجرد استفادة، ولا أقول: ينتقدوه ويضيفوا إليه ويطوروه ويصبغوه بشخصيتهم وعبقريتهم كما فعل المسلمون؟
ولو نظرنا فى سيرة النبى عليه الصلاة والسلام لنرى موقفه العملى من العلم فلسوف نقف ذاهلين أمام ما صنعه، وهو الأُمِّىّ، عقب الانتصار فى غزوة بدر مثلا حين وقع فى يد المسلمين عشرات الأسرى من كفار قريش، إذ عرض عليهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق سراح كل من يقوم منهم بتعليم عشرة من صبيان المسلمين فى المدينة القراءة والكتابة. وقد كان هذا الصنيع نقطة الانطلاق إلى نشر التعليم بين المسلمين، إذ كان عدد القارئين والكاتبين فى المجتمع الجاهلى جِدَّ ضئيلٍ كما هو معروف. وجدير بنا أن نتوقف نحن بدورنا إزاء هذا العمل العبقرى من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ذلك العمل الذى كان وراء انتشار حركة التعليم بين أفراد الأمة الناشئة، فضلا عن إلحاحه صلى الله عليه وسلم على أن طلب العلم فريضة على كل مسلمة ومسلمة، وهو ما يتميز به عن سائر الأنبياء.
ووجه العبرة فى هذا أن العرب، رغم انتشار الأمية بينهم فى الجاهلية انتشارا واسعا، سرعان ما تخلصوا منها وقَضَوْا عليها وأَضْحَوُا الأمة الأولى للعلم والثقافة والفكر فى العالم أوانذاك رغم ضعف الإمكانات. إنه، عليه الصلاة والسلام، لم يؤلف اللجان ولم يخصص الميزانيات ولم يستكثر من بناء المدارس والجامعات لهذا الغرض، إذ كان ذلك صعب التنفيذ فى تلك الظروف إن لم يكن مستحيله، بل اكتفى بالمتاح بين يديه، وهو أقل من القليل. ومع ذلك فإن هذا القليل الذى يكاد يقرب من حد العدم قد أتى بتلك الثمار المدهشة، وهى ثمار لا يمكن المقارنة بينها وبين ما تحقق من نتائج فى ذلك الميدان بطول البلاد العربية وعرضها منذ عصر النهضة الحديثة التى بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمان مع توفر الإمكانات الهائلة التى لم يكن الصحابة يحلمون بواحد على المليون منها. لقد كانوا يتلقَّوْن تعليمهم مثلا فى المسجد، والمساجد لا تكلف الدولة شيئا يذكر. ولم يستقدم عليه الصلاة والسلام لصبيان المدينة خبراء تربويين ولا مدرسين من الخارج بالعملة الصعبة، بل اعتمد على الأسرى الذين لو كان قد استبقاهم عنده دون عمل لكلفوه "شيئا وشويّات". لكنه بثاقب نظره وإلهامه العظيم افترع هذا الحل العبقرى الذى أتى بأعظم النتائج دون أن يدفع فيه شيئا على الإطلاق.
ولقد قرأت فى لندن عام 1982م كتابا بعنوان "Muhammad and Learning" للبروفسير ن. ستيفن (Prof. N. Stephen) تحدث فيه بأسلوب مشدوه عن دور الرسول الكريم فى مجال التعليم، مستغربا أن يتنبه رجل مثله يعتزى إلى أمةٍ باديةٍ أُمِّيّةٍ تعيش فى القرن السابع الميلادى إلى هذا الجانب من جوانب الحياة وأن يكون له تلك الآراء التقدمية والمواقف المذهلة التى تعكسها آيات القرآن والأحاديث الشريفة، وبخاصة أن الأديان الأخرى كانت تضع التعلم تحت الرقابة وتجعله حكرا على الكهنة والطبقة الحاكمة ليس إلا، إن لم تعاقب على إفشاء العلم بين العامّة، فضلا عن إحراق الكتب، الذى يؤكد أنه سيظل إلى الأبد وصمة عار فى جبين من اجترحوه، وكذلك فى جبين الكنيسة لارتضائها ومباركتها هذا العمل المخزى، على عكس محمد، الذى دعا البشر جميعا على اختلاف طبقاتهم ومهنهم وظروفهم إلى السعى حثيثا فى طلب العلم رجالا ونساء من المهد إلى اللحد، بل أوجبه عليهم غير مكتفٍ بجعله حقا من حقوقهم يمكنهم أن يأخذوه أو يهملوه، وجَعَله بابا إلى الجنة، وساواه فى الفضل بالاستشهاد فى سبيل الله، بل فضّل العلماء على العبّاد المنعزلين عن تيار الحياة وميادين الجهاد بمثل ما يَفْضُل به البدرُ سائرَ الكواكب. وفى ضوء هذا يمكننا أن نقدر صنيع العقاد حق قدره حين أكد أن "التفكير فريضة إسلامية"، بل جعل هذه العبارة عنوانا لواحد من أهم كتبه فى مجال الدراسات الإسلامية. وإذا كنت نادما الآن على شىء فعلى أنى لم أصور الكتاب وأترجمه. لقد عَهِدْتُ إلى زوجتى أن تقوم بترجمته، ولم تكذّب خبرا فترجمتْ فصلين أو ثلاثة، لكنها توقفت، إذ كنا نستعد للعودة إلى مصر بعد حصولى على الدكتورية من جامعة أوكسفورد أوانذاك، ثم ضاع ما كانت قد ترجمتْه لا أدرى أين، ولا كيف! إلا أن الله سبحانه قد وضع يدى، وأنا أكتب هذه السطور، على صفحاتٍ من ذلك الكتاب متاحةٍ فى كتاب آخر وجدته على المشباك عنوانه: "Glimpses from the Life of the Prophet Muhammad" لبعض العلماء البارزين (Eminent Scholars, Glimpses from the Life of the Prophet Muhammad, England, PP. 102- 112). فله سبحانه وتعالى الحمدُ والمنَّةُ كفاءَ هذه النعمة الجليلة.
وننتقل الآن إلى الحديث الشريف، ونسوق منه النصوص التالية، وهى كلها نصوص عجيبة فريدة لا نظير لها فى أى دين أو مذهب أو فلسفة:
"ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رِضًا بما يصنع".
"من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع".
"طلب العلم فريضة على كل مسلم".
"منهومان لا يقضي أحدهما نهمته: منهوم في طلب العلم لا يقضي نهمته، ومنهوم في طلب المال لا يقضي نهمته".
"اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم".
"طلب العلم فريضة على كل مسلم. وإنّ طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر".
"إن الله عز وجل أوحى إليَّ أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة".
"من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما. ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
"فضل العالم على العابد سبعون درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض".
"خيار أمتي علماؤها، وخيار علمائها رحماؤها. ألا وإن الله تعالى ليغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل ذنبا واحدا. ألا وإن العالم الرحيم ليجيء يوم القيامة وإن لنوره ضوءا يمشي فيه ما بين المشرق والمغرب".
"ذُكِر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليُصَلُّون على معلِّم الناس الخير".
"فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب".
"إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر".
"من كانت له جارية فأحسن أدبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران اثنان".
ليس ذلك فقط، بل إن الإسلام كان حريصا تمام الحرص فى ذات الوقت على القضاء على منابع الخرافة والدجل والأساطير، فقد حرّم السحر تحريما قاطعا ولم يتساهل فيه أى قدر من التساهل، وكان حربا شعواء على الكهانة والعيافة والزجر وما شابه ذلك من ضروب الانحراف الفكرى والعقيدى. وفى القرآن نفىٌ قاطعٌ لما كان المشركون يزعمونه بالكذب والباطل عن الرسول عليه السلام من أنه كاهن. ذلك أن الكهانة خرافة وانحطاط فكرى وحضارى، أما نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فدعوة إلى اليقظة العقلية والإبداعات العلمية والعمل على إحراز المجد فى الدنيا عن طريق العلم وإكرام العلماء والاستعانة بأفكارهم واجتهاداتهم. وأين الكهانة من هذا؟ إنها هى التخلف ذاته، إذ هى الجهل مجسدا. يقول المولى جل جلاله: "فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ" (الطور/ 29)، "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الحاقة/ 40- 43).
وها هى ذى بعض النصوص الحديثية التى تناولت هذا الموضوع. وهى، كما سيرى القارئ، تتشدد فى هذاالموضوع تشددا قد يبدو غريبا عند من لا يتنبه إلى الموضع البارز الذى يحتله العلم فى دين محمد، وأن الإسلام هو دين العقل والعلم ويكره الخرافة والجهل كراهية رهيبة:
"العيافة والطَّرْق والطِّيَرة من الجِبْت". والعيافة: زجر الطير. والطرق: الخط يُخَطّ في الأرض. والجبت: الشيطان.
"من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تُقْبَل له صلاة أربعين ليلة".
"من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِل على محمد".
"أكبر الكبائر عند الله يومَ القيامة الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير الحق، والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورَمْي المحصَنة، وتعلُّم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم".
على أن الأمر لا يقف عند هذه النقطة، بل إن الإسلام ليربط بين الفتن المبيرة وبين الجهل حتى ليقول الرسول عليه الصلاة والسلام مثلا: "إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويُرْفَع فيها العلم، ويكثر فيها الهَرْج". والهرج: القتل. كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أن العمل مع الجهل ليس له جدوى مهما كثر، على العكس مما لو كان العمل قليلا، والعلم كثيرا: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: "العلم بالله عز وجل". قال: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: "العلم بالله". قال: يا رسول الله، أسألك عن العمل، وتخبرني عن العلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قليل العمل ينفع مع العلم، وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل".
ومن أقواله صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث العجيب الذى يعكس معرفة تامة بأبعاد العلم والجهل والثمار الخطيرة التى تترتب على كل منهما. قال عليه السلام: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسُئِلوا فأَفْتَوْا بغير علم، فضلوا وأضلوا". ومن المهم جدا أن ننبه إلى أن العلم هنا ليس مقصورا على الفقه والتوحيد وما شابه، بل هو مطلق، فالرسول الكريم لم يحدده بل تركه مفتوح الأبواب. صحيح أن كلمة "أَفْتَوْا" ترتبط فى أذهان كثير من المسلمين بالفتيا فى الدين، إلا أن هذا بدوره تضييق دون أى داع. فالفتيا فى الأصل هى إصدار حكم أو رأى فى مسألة ما. ولعل الحديث التالى يصح أن يكون شاهدا على ما أقول، فالعلم فيه مضاف إلى الدنيا، والجهل منسوب إلى الآخرة، مما يدل على أن العلم والجهل مفتوحان فى الإسلام: فقد يكونان للدنيا، وقد يكونان للآخرة، ولا تخصص لأى منهما بأى منهما. وهذا هو الحديث: "إن الله يبغض كل جعظريٍّ جواظ سخّاب في الأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا جاهل بالآخرة".
وهذا الذى أقوله عن انفتاح العلم فى الإسلام وعدم اقتصاره على الفقه والعقيدة وما أشبه ليس رأيى وحدى، بل يقوله كبار علماء الدين أمثال الشيخ محمود شلتوت رضى الله عنه، الذى أكد، فى كتابه: "من توجيهات الإسلام"، أن القرآن يطلب من المسلم القراءة فى كل المجالات دون التقيد بعلم معين، مثلما يطلب منه السعى وراء تحصيل العلم بإطلاق دون تخصيصه بعلم الشرائع والأحكام من حلال وحرام كما قد يظن الناس، إذ العلم فى نظر الإسلام "هو كل إدراك يفيد الإنسان توفيقا فى القيام بمهمته العظمى التى ألقيت على كاهله منذ قُدِّر خَلْقُه وجُعِل خليفةً فى الأرض، وهى عمارتها واستخراج كنوزها وإظهار أسرار الله فيها". ولهذا فالعلم فى القرآن يشمل مثلا علوم النبات والحيوان والاقتصاد والصناعة والطب والحرب... إلخ. أى أن العلم فى الإسلام هو العلم الشامل المطلق الذى يغطى كل ميدان من ميادين الحياة (انظر محمود شلتوت/ من توجيهات الإسلام/ 121- 122).
ومعنى الحديث النبوى السابق أن الدنيا لا تستقيم مع الجهل، إذ إن القرارات التى يصدرها الجهال والحلول التى يضعونها للمشاكل سوف تؤدى إلى الاضطراب والضرر، وتقود إلى مزيد من الخطإ والضلال والعنت وتراكم المشاكل بدلا من الحل والتيسير والتنوير. كذلك يشير الحديث بكل وضوح إلى أن الخط الذى يتخذه العلم صعودا وهبوطا، وتقدما وتراجعا، هو خط طبيعى يتبع النواميس التى تحكم عملية التحضر والتخلف. ألا وهو التدرج. فالمجتمع الجاهل لا يهبط عليه العلم من الهواء، بل عليه أن يشق طريقه نحو العلم قليلا قليلا بالسهر والتعب والتجربة والخطإ والتحصيل حتى يصير مجتمعا عالما عن طريق التراكم المعرفى الذى ينجزه كل يوم بل كل ساعة. وكذلك الحال مع المجتمع العلمى الذى ينحدر فيجد نفسه متمرغا فى حمأة الجهل. إنه أيضا يصل إلى ذلك بالتدريج، إذ الله لا ينزع من هذا المجتمع العلم انتزاعا بحيث يقوم أفراده من نومه ذات صباح فلا يحدون ما كان فى أيديهم من علم، بل ينقشع علمهم قليلا قليلا مثلما تراكم من قَبْلُ قليلا قليلا حتى يجدوا أنفسهم فى نهاية المطاف مثلما وجد المسلمون أنفسهم فى آخر الأمر جُهّالاً بلهاءَ بعدما كانوا هم سادة العالم فى ميدان العلم والمعرفة واليقظة العقلية. فانظر رؤية الإسلام للعلم حتى فى ذهابه. إنه لا ينسى أبدا القانون الطبيعى الذى تعرفه المجتمعات فى تحضرها وتخلفها. ومن كلام أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه: "لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعوز من العقل، ولا وحدة أوحش من العُجْب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حَسَب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف، ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء والصبر".
بقى نصان أحب أن أقف إزاءهما قليلا لأهميتهما رغم أنهما لا يتحدثان عن العلم ولا يذكران اسمه، وإن كانا يتصلان بالعلم اتصالا شديد الوثاقة: فأماالنص الأول فقرآنى، وهو قوله تعالى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ" (المائدة/ 27- 31). فهذا النص يشير إلى إحدى الطرق التى يتعلم بوساطتها الإنسان ما كان يجهله قبلا، ألا وهى تقليد ما يقع فى الطبيعة من حوله. فهذا هو ابن آدم حين قتل أخاه لم يستطع أن يجد طريقة لمواراة جئته، إلى أن رأى غرابا يحفر الأرض، فعندئذ أشرقت فى عقله فكرة حفر الأرض ودفن جئة أخيه. ولقد تعلم الإنسان الكثير من الحيوانات والطيور واستلهم الكثير أيضا من مظاهر الطبيعة فى اختراعاته وإنجازاته على ما هو معروف. ففى الآية تنبيه للعقل الإنسانى إلى هذا، وعلى المسلم إذن أن يكون يقظ العقل سريع الخاطر لا تفوته مثل تلك الملاحظات التى يمكن أن تعود عليه وعلى بنى جنسه بالنفع والفائدة.
وأما النص الثانى فقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنزل الله داءً إلا قد أنزل له شفاءً: عَلِمَه مَنْ عَلِمَه، وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه". لقد أذكرنى هذا الحديث العجيب بما كان يثور فى ذهنى أيام الصبا، إذ كنت أظن أن الاختراعات والاكتشافات التى تحل مشاكل البشر إنما هى ثمرة المصادفة، فكنت أستغرب كيف توصل العلماء إليها وسط هذه الشبكة المعقدة من الأشياء والأوضاع غير المتناهية. ويزداد استغرابى إذا توصل العلماء إلى حل آخر لذات المشكلة أو اخترعوا اختراعا آخر يؤدى نفس المهمة التى كانوا قد حلوها من قبل على نحو مغاير، فأقول: كيف استطاعوا هذا وسط هذه التعقيدات المستحيلة؟ ثم لما اتسعت تجاربى وخبراتى وفهمت شيئا من أحوال الحياة تيقنت أنه ما من مشكلة إلا وقد جعل الله لها حلا بل حلولا، وأن الإنسان إذا ما شمر عن ساعد الجد فلا بد أن يتوصل إلى هذا الحل فيُنْسَب إليه وتزين اسمَه هالاتُ المجد. وها هو ذا الرسول يلفت نظرنا إلى ما لم أتبينه إلا بعد تفكير طويل على مدى سنوات وسنوات، واستغراب أطول. إنه، عليه الصلاة والسلام، يقرر فى هدوء عذب أنه ما من مرض فى الدنيا إلا وقد خلق الله له علاجا مكنونا فى زاوية من زوايا الكون. والمهم التشمير عن ساعد الجد حتى نستطيع العثور على هذا الدواء. فانطر إلى هذه البساطة البديعة، وتلك النظرة العلمية المتقدمة على عصرها بل على كل العصور!
وعند تعداد بعض إنجازات الحضارة العربية الإسلامية فى ميدان المعرفة والعلم تقول "الموسوعة العربية العالمية" فى مادة "الحضارة" ما ننقله هنا بشىء من التصرف: "حققت الحضارة الإسلامية العربية في فترة ازدهارها الكثير من الانجازات في ميادين المعرفة المختلفة، خصوصًا في مجالات الرياضيات والفلك والطب والعمارة والجغرافيا والفيزياء والهندسة: في الرياضيات اخترع الخوارزمي، أحد منجمي المأمون، علم الجبر وانتشر العلم بفضله في العالم. وأخذت أوروبا في الرياضيات عن العرب مفهوم "الصِّفْر" ونظام التقويم والنظام العشري، الذي دفع بعلم الرياضيات خطوات إلى الأمام، والأرقام العربية، التي هي اليوم أوسع الأرقام انتشارًا في العالم.
وشهد علم الفلك ظهور الأسطرلاب العربي، الذي أوجده العلماء المسلمون لتحديد أوقات الفجر والمغرب والصوم، ثم طوّروه فاكتشفوا خطوط الطول والعرض وسرعة الصوت والضوء حتى أصبح ذلك مرجعًا لعلماء الغرب. وتمكن البيروني من اكتشاف دوران الأرض حول الشمس، وهو ما أثبته جاليليو بعد ستة قرون. وترجم الفلكيون العرب: الزرقالي والفرغاني والفزاري مؤلفات بطليموس في الفلك وأضافوا إليها ما بات مرجعًا بعدهم للفلكيين الغربيين.
وفي الطب تفوق العرب في فنون الشفاء التي كانت معروفة في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين. وكانت مؤلفات الرازي المتقدمة في الطب مرجعًا للأوربيين حتى وقت متأخر من القرن السادس عشر الميلادي. كما ظل الأوروبيون حتى القرن السابع عشر يتعلمون من نظريات ابن سينا الطبية. وكان ابن سينا أول من أشار إلى الطب العقلي، وهو ما أصبح فيما بعد أساسًا لعلم النفس. واشتهر عند العرب أيضًا أمر التداوي بالأعشاب والمواد الطبيعية من ثوم ومُرٍّ وعصير جُلاّب وماء زهر... إلخ، فكانت تزخر بها صيدلياتهم، ومنها انتشرت إلى الشرق الأوسط فأوروبا.
وفي الملاحة والجغرافيا كان للعرب تأثير كبير على الغرب. وقد أخذ العرب من الكنعانيين أسياد البحر ومن قدامى المصريين ما أعانهم على تطوير البوصلة. وبرع الإدريسي في القرن الثاني عشر الميلادي بابتكاراته ومكتشفاته، إذ وضع أول أطلس في العالم حاويًا سبعين خريطة بعضها لمناطق لم تكن معروفة من قبل. وكانت رحلات ابن بطوطة وتدويناته خير معين للأوروبيين على معرفة مناطقَ جغرافيةٍ لم يكونوا يعرفونها. وفي القرن السادس عشر تمكن حسن الوزان (المعروف عند الغربيين بـ"ليون الأفريقي") من كشف مجاهل إفريقيا، وهو ما يدين له الغرب به. وفي رحلات فاسكو دي جاما الشهيرة كان الملاح العربي أحمد بن ماجد هو البحار الرئيسي في القيادة. ويقال إن كريستوفر كولمبوس كان يتَّكِل على بحار عربي في توجيه حملته البحرية التي أدت إلى اكتشاف أمريكا.
كذلك أفاد الأوروبيون، من ناحية أخرى، في مجال الفيزياء، وتحديدًا حقل البصر والبصريات، من مؤلفات الكندي وابن الهيثم. وفي الفلسفة نقل المفكرون العرب أهم مصادر الفلسفة المشرقية واليونانية القديمة ترجمة وتطويرًا، فاشتهر الكندي بتطوير فلسفة أفلاطون وأرسطو، والفارابي بفكرة المدينة الفاضلة، وابن سينا بفلسفته العقلية، وابن خلدون بنظرياته الاجتماعية التي لاتزال حتى اليوم أصل مؤلفات الكثيرين من الفلاسفة الاجتماعيين الغربيين. وبرز ابن رشد بفلسفته التي ارتكز عليها بعده فلاسفة غربيون كبار.
وفى الأندلس ازدهر علم الطب، خاصة في القرنين الخامس والسادس الهجريين (الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين)، وبرع أطباء الأندلس في الجراحة وتحضير العقاقير، وأُنْشِئت المستشفيات، ووُضعت عشرات المؤلَّفات الطبِّية مثل كتاب" الأدوية المُفْرَدَة" للكتَّاني المُتَوفى سنة 420هـ، و"التعريف لمن عجز عن التأليف" للزهراوي المتوفى سنة 403هـ. أما علم الرياضيات فتُعَدّ المدرسة التي ظهرت على يد الفلكي مسلمة المجريطي المتوفى سنة 394هـ من أولى مدارسه في الأندلس. وقد أدى تلاميذه من بعده خدمةً جليلة لهذا العلم. وفي ميدان الفلك ظهر ابن برغوث (433هـ) وأبو إبراهيم بن يحيى الزرقالي القرطبي وغيرهما.
هكذا نجد أن المسلمين ساهموا في إعلاء الحضارة العالمية وتقدمها وتطورها بفضل أعلامهم في العلوم والفنون والتربية والفلسفة والشعر والموسيقى. وفي مكتبات العالم اليوم آلاف الوثائق التي تشهد بالفضل للمنجزات الحضارية الإسلامية في حقول الفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة والجغرافيا والعمارة والموسيقى، وما كان لهم من تأثير في تصنيع النسيج والورق والدهان والصابون والحبر والشمع والسكر والنشاء والزيوت النباتية والعطور والبارود، وكذلك في اكتشاف أو تطوير الميزان ورقاص الساعة والساعة المائية والطاحونة المائية والهوائية والآلات الفلكية وأجهزة سكب المعادن وصك النقود والمعدات الحربية والأدوات الطبية والجراحية، وكذلك بناء الجسور والقنوات المكشوفة وجر المياه والتدفئة والتبريد وأنظمة الري والحمامات العامة وأبراج المراقبة والتحصينات العسكرية، وسواها من المنشآت والابتكارات والاكتشافات التي يعترف الغرب اليوم بفضلها للعرب وحضارتهم". ومن يرد أن يتوسع بعض التوسع فى معرفة الأفضال العلمية للحضارة الإسلامية على العالم فليرجع إلى مادة "العلوم عند العرب والمسلمين" فى هذه الموسوعة ذاتها، وهى تبلغ مائتى صفحة تقريبا، وإن لم تُغَطِّ من الموضوع إلا القشور والخطوط العامة رغم هذا.
وأهم من هذا كله بلورة المسلمين للمنهج العلمى التجريبى، الذى يمكن تشبيهه بجن الفانوس السحرى، إذ بفضل تلك النعمة الإلهية استطاعت البشرية أن تنجز ما يشبه المعجزات. وكان للمسلمين الفضل الأكبر فى بلورة هذا المنهج. يقول بريفو (Briffault) مؤلف كتاب "The Making of Humanity" إن "روجر بيكون درَس اللغةَ العربية والعلمَ العربي في مدرسة أكسفورد على يد خلفاء معلمي العرب في الأندلس. وليس لروجر بيكون ولا لسميِّه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبِي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلامي التجريبِي إلى أوروبا المسيحية". نعم لقد كان العلماء المسلمون روادَ المناهج التجريبية العملية في كثيرٍ من المجالات العلمية، وجعلوا التجربة العملية شرطًا للوصول إلى الحقيقة العلمية: فمثلا يقول جابر بن حيَّان، رائد الكيمياء الحديثة (721- 815م) في كتابه عن نتائج تجاربه العملية: "يجبُ أن تعلم أننا نذكر في هذه الكتب خواصّ ما رأيناه فقط دون ما سمعناه، أو ما قيل لنا وقرأناه بعد أن امتحناه وجرَّبناه: فما صحَّ أوردناه، وما بطل رفضناه". وفي كتاب "سر الأسرار" الذي ألَّفه أبو بكر الرازي الطبيب، الذي يُعتبر مؤسِّسَ علم الكيمياء الحديثة في الشرق والغرب، والمولود سنة 854م، تبيانٌ واضح لطريقة إجراء التجارب الكيميائية، فهو يصف المواد المستخدمة، والأدوات والآلات التي يستعملها، وبعد ذلك يصف طريقة تحضير كل مادة، مبينًا نتائجَ التجربة. وعلى هذا النحو وصف ما يزيد على 20 جهازًا بعضها زجاجي، والبعض الآخر معدني، على غرار المستخدم الآن في معامل الكيمياء الحديثة. وكان الرازي بعد ذلك يشرح كيفية تركيب الجهاز، ويدعم شرحه بالتعليمات الواضحة الجلية (انظر مقال "تطور المنهج العلمي التجريبي عند علماء المسلمين" للدكتور سعد الدين خرفان فى موقع "altareekh.com").
وكعادتى مع النصوص الهامة هأنذا أنقل هنا، فى صورته الكاملة، النص الأصلى الذى كتبه بريفو فى كتابه السالف الذكر عن ريادة المسلمين فى اكتشاف المنهج التجريبى، أو فى بلورته على الأقل. وهو موجود فى ص200- 201 منه (Robert Briffault, The Making of Humanity, George Allen & Unwin Ltd., London, 1919):
"Neither Roger Bacon nor his later namesake has any title to be credited with having introduced the experimental method. Roger Bacon was no more than one of the apostles of Muslim science and method to Christian Europe ; and he never wearied of declaring that a knowledge of Arabic and Arabian science was for his contemporaries the only way to true knowledge. Discussions as to who was the originator of the experimental method, like the fostering of every Arab discovery or invention on the first European who happens to mention it, such as the invention of the compass to a fabulous Flavio Gioja of Amalfi, of alcohol to Arnold of Villeneuve, of lenses and gunpowder to Bacon or Schwartz, are part of the colossal misrepresentation of the origins of European civilization. The experimental method of the Arabs was by Bacon's time widespread and eagerly cultivated throughout Europe; it had been proclaimed by Adelhard of Bath, by Alexander pf Neckam, by Vincent of Beauvais, by Arnold of Villeneuve, by Bernard Silvestris, who entitles his manual Experimentarius, by Thomas of Cantimpre, by Albertus Magnus".