لا شكّ أن قيم الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان هي محور نضال الشعوب العربية والإسلامية فهي تعد من سمات الخطاب الناجح و تلك القيم التي يناضل المجتمع بأسره من أجل تكريسها وترسيخها، وعليه فإنّ الخطاب الديني الإسلامي، أيّا كانت وسيلة بثّه لا بدّ وأن يُؤسّس على هذه القيم و أن يعمل على نشرها وترسيخها حتى تصبح ثقافة وسلوكا شائعا، وبشكل ملموس في طريق بناء نظم ديمقراطية نبيلة، فلا يزال الخطاب الديني قاصراً على أفراده، سواءٌ أكان وعظاً أم إرشاداً أم إجابة عن أسئلة النّاس واستفساراتهم، مستخدما مفردات تراثية محضة تؤدّي في أحيان كثيرة إلى اللّبس والتّشويش، وتخلق صعوبات في الفهم وخلط في التّصورات لدى المستقبلين، لذا نحتاج إلى تحديد للمصطلحات ومفاهيمها، وإلى تجديد على مستوى الأسلوب والشكل في الخطاب، كما أنه غالبا ما يركز الخطاب التقليدي على قضايا الصراع الديني والمذهبي، ويجنح في كثير من الأحيان إلى ممارسة الدّور الدعائي لجهات وجماعات وشخصيّات دينية أو مذهبية، متجاهلا ما يحتاج إليه الجمهور من حقائق وأفكار ومعلومات وقيم معرفية وحضارية، ومتناسيا الطبيعة العالمية التي يتمتع بها الإسلام ممّا يحصر هذا الخطاب الديني الإسلامي في أطر ضيقة ومحدودة تعزله عن السّاحة الفكرية عزلا شبه تام ٍومن دون مسّوغ، تلك كانت رسالة وجهها الدكتور منير التليلي الوزير السابق للشؤون الدينية بالجمهورية التونسية إلى كل الأئمة والعلماء والدعاة في كل الأقطار العربية و الإسلامية ، مشيرا أن هذا النوع من الخطاب في حاجة اليوم إلى طرح قضايا مهمّة تخص الدّولة والمجتمع كالعدل والحرية، والمساواة، والمشاركة في صنع القرار، وتكريم الإنسان، وتقرير حقوقه الأساسية والتّعددّية والاجتهاد، ومراعاة مصلحة الجماعة، وضمان حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير، وذلك بما لا يتعارض مع حقوق الأمة ومبادئها العامة، و يرى الدكتور منير التليلي في تقرير صادر عن مركز دراسة الإسلام و الديمقراطية أن مسألة الديمقراطيّة التي تعني عموما ممارسة الحكم بموافقة حرّة من جانب أفراد الشّعب من القضايا المهمّة اليوم، فهي شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهّلين لوضع قوانين أو استحداثها ، والحديث عن نظم ديمقراطية حسب التليلي يعني ذلك النظام الذي تكون الحريّة فيه هي القيمة العظمى والأساسيّة، بما يحقّق السيادة الفعلية للشعب الذي يحكم نفسه بنفسه، من خلال التعدّدية السياسيّة التي تؤدي إلى التداول على السلطة، وتقوم على احترام كافة الحقوق في الفكر والتّنظيم والتّعبير عن الرأي، مع وجود مؤسسات سياسية فعّالة، على رأسها المؤسّسات التشريعية المنتخبة، والقضاء المستقل، والحكومة الخاضعة للمساءلة الدستورية والشعبية، والأحزاب السياسية بمختلف تنوعاتها الفكرية والأيديولوجية، كما تقتضي هذه الديمقراطية الحقيقية كفالة حريّة التّعبير بكافة صورها وأشكالها، وفي مقدّمتها حرية الصحافة ووسائل الإعلام السمعية والبصرية والإلكترونية، والاعتماد على الانتخابات الحرة، وبشكل دوري، لضمان تداول السلطة وحكم الشعب، وتحقيق أقصى قدر ممكن من اللامركزية التي تتيح للمجتمعات المحلية التعبير عن نفسها، وإطلاق طاقاتها الإبداعية في إطار خصوصياتها الثقافية التي تسهم عن طريقها في تحقيق التقدم الإنساني في جميع مجالاته، فهي إذن كما قال ليست مجرّد آليات ومؤسّسات، بل هي ثقافة يتربّى عليها النّاس في سلوكهم اليومي من خلال احترام الآخر، والقبول بالتنّوع والاختلاف وإدارة الحوار بالطرق السلمية. كما تنعكس في العلاقات الأسرية والاجتماعية، وتدبير تداول السلطة داخل المدرسة والجمعيات وفي العلاقات الدولية أيضا.
أما قضية المواطنة فهي في نظره قيمة إنسانيّة ودينّية ثابتة، أساسها الأصل الإنساني الواحد ، ولعلّ صحيفة المدينة التي تعدّ وثيقة دستورية سابقة لعصرها، خير برهان على حقيقة الإسلام كدين إنساني يجمع بين الأغيار المخالفين، ويكفل العيش المشترك والمصير الواحد للوطن الذي هو حقّ الجميع وتعميم حق المساواة والعدالة التي لا تقتصر على المسلمين، وإنّما تعمّ كل أبناء الوطن، المسلم وغير المسلم، يثبت فيه للجميع داخل هذا الوطن حق المساواة التشريعية والحقوقية وتطبيق العدالة أمام القانون والقضاء والاعتراف بالحرّية الدينّية وحقّ ممارسة الشعائر لغير المسلمين والتعاون معهم على التعاون والتناصح في الدّفاع عن الوطن؛ لأنّه الوسيلة الوحيدة إلى حفظ النّفوس وبقاء الدّين واستدامة وجود المجتمع وتنظيمه، و عن حقوق الإنسان في الإسلام يرى المتحدث أن الالتزام بها ناشئ بقوة الإيمان، وهو طابع يتركّز على ضمان معنى الإنسانية للإنسان، الذي سيبقى قادرا على التأثير في تطوير المبادئ القانونية التي تحكم قانون الإنسان في المجتمع الإنساني ومنها "حقّ الحياة، وحقّ الإرادة للإنسان، وحقّ حرّية الاعتقاد، وحقّ المساواة في الإنسانّية، وحق العدل، وحقّ الحماية للأسرة، فالإسلام لم يعرف في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه عموما، ما يُعْرف في الثقافات الأخرى بالدّولة الدّينية الكهنوتيّة التي تسلّطت على النّاس وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ، بل تركت للنّاس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحقّقة لمصالحهم، شريطة أن تكون مراعية للمبادئ الكليّة للشريعة الإسلامية، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في ما له صلة بأحوالهم الشخصيّة، و لذلك وجب صياغة خطاب ديني جديد يقدّم أطروحات أساسية متفق عليها في الجانب السياسي تعوض النّقص والاختلال الذي شهده الفكر والفقه الإسلامي خلال عهود التراجع الحضاري، والذي أسفر عن تضخّم في مجال العبادات، وفقر في المجال الدستوري والسّياسي، حيث أغفل العديد من القضايا الجوهرية في حياة الناس.
و قد وضع الوزير السابق للشؤون الدينية التونسي دعائم عديدة لنجاح هذا الخطاب، أولها أن يدعم الخطاب تأسيس الدّولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمّة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها الحاكمة، ويحدّد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكلّ الأفراد، كما ينبغي أن يعتمد الخطاب الديني الجديد على نظام ديمقراطي قائم على الانتخاب لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعدديّة ومن تداول سلمي على السلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسؤولين أمام ممثلي الشعب، و أن يلتزم بمنظومة الحرّيات الأساسية في الفكر والرأي، والتأكيد على مبدأ التعددّية واحترام الأديان السماوية واعتبار المواطنة مناط المسؤولية في المجتمع.
و الدعامة الخامسة أو الركيزة الخامسة هي إن يرسخ الخطاب الديني الجديد قيمة المواطنة والوحدة الوطنية، وحبّ الوطن، والدفاع عنه، والتأكيد على العزّة الوطنية، واحترام كرامة المواطنين، والمساواة بينهم بغض النظر عن الدّين أو العرق، و يعيد كذلك بناء المسلم المعاصر، ليكون إنسانا حضاريا فاعلا في مجتمعه ومنتجا وليس عالة على الآخرين، يفهم حقيقة الإسلام ومهمته، ينبذ العنف و يؤكد على قيمة الحوار وترسيخ أدب الاختلاف في الرأي؛ بحيث يتمّ تأكيد التمسّك بالطرق السلّمية في التغيير، والتحوّل من فكرة تفجير الجسد إلى تفجير طاقات العقل، واعتماد الحوار باعتباره منهج الحياة، و هذا يمكنه من أن ينهي حالة الفوضى في الخطاب الإسلامي النّاجمة بالأساس عن كثرة المتحدّثين باسم الإسلام، وعدم أهليّة غالبيّتهم لهذه المهمة، ومن هنا يقول الدكتور منير التليلي وجب التأسيس لخطاب إسلامي يؤصّل فكرة السلمية والإيمان بالتداول السلمي على السلطة ونبذ العنف، ليس لأنّ هذا أمرا طارئا أو جديدا على الفكر الإسلامي، وإنّما لأنّ حجم التشويه -من الداخل والخارج - يسهم إلى حد كبير في إذكاء نار الفتنة والفرقة والهدم.
علجية عيش