لقد بات ضروريا طرح السؤال التالي: لماذا حالة الاغتراب داخل الحزب و قادته متفرقون؟ ، و منهم من مُنع من دخول مقر الحزب و المشاركة في مؤتمراته و في صنع القرار فخروج المجاهد العقيد محمد الصالح يحياوي عن صمته ليدوّن "مذكراته" كانت مفاجأة للجميع، و لطالما انتظروها، هي في الحقيقة شهادة حية لمواقف رجلٍ آمن بالنضال و الكفاح مذ كان في صفوف الثورة التحريرية، إلى أن أصبح مسؤولا تنفيذيا في الحزب، فنحن نلمس في كتاب محمد الصالح يحياوي نوعا من المؤانسة، إذ الكتاب يرسم لوحة للإنسان الحميم، لأنه لا يحمل أعراف اللغة المستبدة الطاغية و لا عصا القاضي الذي يقسم البشر إلى شياطين و ملائكة



الكتاب حمل عنوان: "رحلة في زمن الحزب الواحد"، صدر عن دار الأوطان في السداسي الأول من سنة 2018 أهداه العقيد إلى رفاق الكفاح المسلح و إلى جميع الأصدقاء الذين جمع بينه و بينهم حب الوطن و الإخلاص له، كما أهداه لوالديه لاسيما والده الشيخ عيسى احد جنود الحركة الإصلاحية، ، و هو شبيه إلى حد ما بـ: "المذكرات"، حيث جمع فيه خطبه و أظهر فيه مواقفه و آراءه إزاء العديد من القضايا، مذ توليه مسؤولا تنفيذيا للحزب و شرع في ترميم الحزب و إصلاحه، و بلا شك أن هذه المذكرات ستبقى نافذة للأجيال القادمة يطلون من خلالها على تاريخ بلادهم و ما صنعه أبناؤها الأبطال، خاصة و أن الرجل وضع معايير خاصة و هو يجري مسحة تاريخية للحزب و ذكر الحقائق كما حصلت في الواقع، و كأنه اراد القول أن العمل الحزبي يتطلب وجود كادر مناسب، و لذا فالحديث عن هذه الرحلة التاريخية و السياسية في آن واحد و تركيزنا عليها، لا يجوز أن يحجب عنّا ما تعاني منه البلاد من مشاكل في غاية الأهمية، لم يفلح المسؤولون في إيجاد الحلول لها مثل مشاكل التنمية الاقتصادية و العدالة الاجتماعية و الحقوق الإنسانية، و الديمقراطية، والحكم الراشد.
و إن كانت المسؤولية جماعية، فهي تقع بالدرجة الأولى على حزب جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم في البلاد، و قد يطرح البعض السؤال التالي: و لماذا الأفلان وحده من يتحمل المسؤولية طالما الجزائر تعيش التعددية السياسية؟ و الجواب سيكون بـ: " نعم" ..، الأفلان وحده مسؤول عن وضع البلاد، لأن الحزب كانت له رؤية استشرافية و إستراتيجية لمستقبل البلاد سياسيا و اقتصاديا، في تلك الفترة، أيام كان العقيد محمد الصالح يحياوي مسؤولا تنفيذيا، و لو عين خليفة للرئيس الراحل هواري بومدين كما يقول بعض من عايشوه، لما كانت البلاد على ما هي عليه، وضعٌ سيئ مسّ صميم الوطن و المواطن على حد سواء، و الأمثلة كثيرة، و عدم الإقرار بالوضع السيئ للبلاد يعني القصور في استيعاب احتمالات مستقبل هذه المسيرة و ما تحمله من تحديات، فقد أراد العقيد محمد الصالح يحياوي و هو يؤرخ رحلته في زمن الحزب الواحد أن يعرض مواقفه و آراءه، ليؤكد أن الوطن في عالم اليوم ليس مجرد حفنة من تراب أو راية ترنو إليها العين أو صورة لزعيم تعلق في كل مؤسسة، بل الوطن أكثر من هذا كله، إنه شعور آخر، شعور بالإنتماء.. انتماء يدعو للإعتزاز و الثقة، فالوطن و المواطن توأمان، فلا حرية و لا أمن و لا تقدم لأحدهما على حساب الآخر، و هذا ما كان يدعو إليه العقيد محمد الصالح يحياوي الذي كان واضحا في كل خطاباته السياسية و لغته النضالية، و المتتبع لخطاباته من القادة التاريخيين الذين ما زالوا على قيد الحياة يدرك أن الرجل لم يكن يحمل في فكره الثقافة الإنقلابية أو استراتيجية إلغاء الآخر، بل كان ضحية مؤامرة لإبعاده من الساحة.
و لعل خطاب العقيد محمد الصالح يحياوي في المؤتمر الرابع للحزب قد ترك صدى كبيرا لدى الجماهير، حيث وضع أصبعه على الجرح كما يقال ، سلّط فيه الضوء على كل المشكلات التي ما تزال عصية أو ربما تفاقمت، و المتتبع للقضايا التي تناقش اليوم في قبة البرلمان، يلاحظ أنها قديمة، فقد تطرق إليها العقيد محمد الصالح يحياوي بشيئ من التفصيل، و أبدى منها مواقفه ، و نشير هنا بالذات قضية "الديمقراطية التشاركية" أو ديمقراطية المشاركة التي أراد من خلالها بناء الحياة وفق حاجات العصر، و قد عبّر عنها يوما بديمقراطية المشاركة لا ديمقراطية الموافقة، و الحقيقة كانت للعقيد مواقف عديدة إزاء بعض القضايا، لاسيما ما تعلق بالإشتراكية التي ربطها بعض خصومه بالماركسية أو بالتناقض مع الإسلام، رغم أن مواقفه كانت واضحة عندما قال في إحدى حواراته: "الإشتراكية بالنسبة لنا مرفوضة في غير إطار الإنتماء الحضاري العربي الإسلامي" مثلما جاء في الصفحة 105 من الكتاب.
لقد كانت للعقيد رؤية مستقبلية لعصر في أعماقه صوت يعلو، يرفض و يبحث عن المعنى، فقد كان يرى أن هذا البناء ينطلق من القاعدة التي تمثل أساس كل بناء سليم، بدل حصر السلطة في القمّة و عزل القاعدة ، طبعا مثل هذه المواقف لا ترضي من يمكن تسميتهم بالمراهقين السياسيين، الذين همهم البقاء في الحكم على حساب الشعب، لا يسعنا طبعا أن نذكر ما جاء في الكتاب الذي يحوي 380 صفحة، لكن الملاحظ أن العقيد محمد الصالح يحياوي كان حاملا مشروع بناء الإنسان، ففي خطابه يقول: " إن تشييد هياكل الدولة و تنظيمها على أسس عصرية لا يحقق نتائجه المرجوة إلا إذا استكمل ببناء الإنسان الذي هو هدف كل تقدم و تنمية"، قد يقول قائل أنها مجرد أحلام رومانسية، و لكنها في الواقع هي نظرة فيلسوف للحياة، إذا قلنا أن هذه النظرة كانت نظرة الأنبياء في بناء الإنسان و المجتمع الصالح و آفاق المستقبل، و إن كان العقيد يرى أنه ليس من الحكمة التوقف عن مجرد استنطاق الماضي و سرد حوادث تخطاها الزمن ، لكن مهم جدا تذكرها حتى تُصَحَّحَ الأخطاء و إصلاح ما يمكن إصلاحه، و هذا الإصلاح ينبغي أن يشمل جبهة التحرير الوطني أولا، و لعل الانطلاقة كما جاء في الكتاب تكون بالتخلص من الأجهزة البيروقراطية، و وضع حد للتصرفات اللامسؤولة لبعض المسؤولين التي هزت ثقة الجماهير في الجبهة و في مؤسسات الدولة.

من وراء مخطط اغتيال العقيد محمد الصالح يحياوي؟

تلك هي الحقيقة المرة التي لم يستسغها خصومه، الذين أبعدوه عن الحكم ،عندما نادى بالتغيير الديمقراطي باعتباره ممارسة ديمقراطية حقيقية ومسؤولة، فرضتها مستجدات موضوعية عرفتها الساحة السياسية الوطنية و الخارجية معا، و ربما أحرجهم أكثر عندما تحدث عن "الزعامة " و قال أن الزعامات لا يصنعها إلا النضال المستميت و يزكيها المناضلون الشرفاء و ليس الأبواق المأجورة، و الجميع طبعا على علم بالمؤامرة التي حيكت ضد العقيد محمد الصالح يحياوي، و من حبكها و خيّطها، لإسقاطه من غربال الخلافة، و تعيين في مكانه خليفة لبومدين، و هو السؤال الذي ما زال يشكل لغزا، لدرجة أنه يتعرض لمحاولة اغتيال، و قد كشف العقيد محمد الصالح يحياوي تفاصيل مخطط الاغتيال في الصفحة 219 من الكتاب، عندما جاءه الرائد قاصدي مرباح، و يعلنه بان الرئيس يبلغ له رسالة مضمونها أن يأخذ حذره و يحتاط لأنه معرض لعملية اغتيال، و قد عين له مجموعة من حرسه لحراسته و حمايته، و لعل مخطط الاغتيال تم بعد رفض وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة أن يكون المرشح للرئاسة، و كان من الضروري اختيار العقيد محمد الصالح يحياوي باعتباره الرجل الثاني بعد بومدين، خاصة و أن هذا الأخير لقي تجاوبا كبيرا من طرف الأغلبية ليكون الرئيس القادم، لكن قرار خلافة الرئيس بومدين كان بيد جهاز المخابرات التي كان على رأسها الرائد قاصدي مرباح نفسه، حيث جيئ بالشاذلي بن جديد، و كان قاصدي مرباح قد أعطى تعليمات بعدم الوقوف ضد قرارات المخابرات، بدليل أن رابح بيطاط أطلع العقيد محمد الصالح يحياوي أنه تلقى تعليمات و أوامر من قاصدي مرباح في مرحلة البحث عن حاكم بديل في قصر المرادية، و هذه تطرح عدة تساؤلات لمعرفة من وراء مخطط اغتيال العقيد محمد الصالح يحياوي، هل هي المخابرات أم أطراف أخرى؟ فقد تحدث العقيد محمد الصالح يحياوي كيف تمت خلافة بومدين، و يفهم من خلال تصريحه أن الشاذلي بن جديد أراد أن يختار العقيد محمد الصالح يحياوي، عندما فاتحه في قضية الخلافة و قال له ( أي الشاذلي ليحياوي) " هل أنت مستعد لشغل هذا المنصب؟ ، و لنقف أيضا على شهادة الدكتور محي الدين عميمور في الصفحة 333 من الكتاب عندما قال أن يحياوي أصبح الرجل الثاني في الجزائر بعد انتقال الرئيس بومدين إلى جوار ربه، و هذا يؤكد أن العقيد كان من المفروض أن يكون الخليفة الشرعي للرئيس هواري بومدين بعد وفاته.

أول فعل للنقد إسقاط الحصانة على "المُقَدَّسِ"

حسب شهادة محي الدين عميمور كانت بداية الثمانينيات بداية انزلاق النظام و انهيار حزب جبهة التحرير الوطني، الذي فقد مضمونه الديمقراطي، ذلك في التصفيات التي عرفها في المؤتمر الخامس في ديسمبر 1983 ، تم فيها التخلص نهائيا من يحياوي و بوتفليقة و عبد السلام بلعيد، و أشار في الصفحة رقم 154 من الكتاب أن التخلص من يحياوي على وجه الخصوص خطيئة سيدفع النظام ثمنها غاليا فيما بعد، يدفعنا هذا التصريح إلى التساؤل من جديد لماذا تخلت جبهة التحرير الوطني عن أعظم قادتها؟ كان على الجيش أن يرشح العقيد محمد الصالح يحياوي في 1999، بصفته كان رئيس الأكاديمية العسكرية بشرشال و لأنه كان عسكريا، و مسؤولا تنفيذيا للحزب بمباركة الرئيس هواري بومدين، و جيئ برجل من خارج الحزب، كان في الأصل غائبا عن الجزائر، و كان على حزب جبهة التحرير الوطني أن يتذكر عطاءات هذا الرجل، رحل لم يشارك الشعب مأساته كسلة العشرية السوداء و حتى قبلها، و من الجرأة السياسية أن نقرأ عن مواقف العقيد محمد الصالح يحياوي تجاه رفيق دربه عبد العزيز بوتفليقة، و هو يطبق المقولة الشهيرة: "أول فعل للنقد هو إسقاط الحصانة على المقدس"، حينما أعلن معارضته لبعض سياسات و مواقف بوتفليقة غير المنسجمة مع مبادئ و تضحيات الشعب، خاصة ما تعلق باللغة العربية التي تكاد أن تمحى غيب المحررات الإدارية، و تكاد أن تختفي تماما في الخطاب السياسي الوطني و الرسمي، و نقف إلى موقف العقيد بأن التخلي عن لغة الضاد في جزائر العروبة يعد استهتار بلغة القرآن و بهوية الشعب الجزائري.
و لعل هذا التقزيم لثورة الشهداء المجيدة كان دافعا قويا في تأجيج المعارضة و المطالبة بوضع الحزب العتيد في المتحف، و كان على الأفلان و من باب الحفاظ على الحقوق النضالية أن يعمل بنصيحة العقيد محمد الصالح يحياوي و الشروع في تصحيح الأخطاء و عدم الإستمرار في استنساخ الأساليب و الأخطاء السابقة التي وقعت في المؤتمر الثامن للحزب و ما قبله ذلك باحترام ما تقرره الأغلبية، ثم الأخطاء التي ارتكبت في ملفات عديدة و التي هي مستمرة إلى اليوم، و منها ملف المنظومة التربوية الوطنية، و ملف التشبيب، و مسايرة الجبهة لقانون المحروقات، و التحالف الرئاسي، كان موقف قيادة الجبهة موقفا سلبيا و كارثيا ، اختفت معها المرجعيات الوطنية و الحزبية، و الدليل ما يحدث داخل جبهة التحرير الوطني من صراعات، تحولت إلى ساحة ساخنة للمناورات و المؤامرات، و كما قال هو أصبح الحزب عبارة عن بندقية خاوية ( الصفحة 161) بعد تبني بلخادم لكل المشاريع التي طرحها بوتفليقة و المتماشية مع أطروحات رئيس الحكومة أحمد أويحي، و يفهم من هذا أن التجمع الوطني الديمقراطي هو من يقود الأفلان و ليس الأفلان هو القائد، و نقف عند أهم كلام للعقيد محمد الصالح يحياوي عندما أكد أن أزمة "الوطنية " في الجزائر هي أم الأزمات، و استعادتها بالنسبة لحزب جبهة التحرير الوطني هي أقدس الرهانات حاضرا و مستقبلا، و أخيرا ماذا يمكن أن نقول في هذا الرجل في حسه الإنساني العميق، سوى أن هذا الرجل يأبى أن تنزع القدسية عن تاريخ الجزائر و عن جبهة التحرير الوطني، و لذا كان هدفه هو إقامة مشروع سياسي تحرري ينقذ الدولة من كل أشكال التبعية و تكرسها و هذا بغية التطلع إلى دولة وطنية حرة و حديثة، هي رسالة أراد من خلالها العقيد محمد الصالح يحياوي أن يقول : إننا في جبهة التحرير الوطني نتعلم ألف باء الوطنية و نذرك حقيقتها الجوهرية، و ذلك عبر الممارسة العملية و النضال المبني على العطاء و التضحية ، و ليس الجبهة التي تأكل أبناءها، أو الجبهة التي تتصادم فيها الطروحات، لأن أساليب القيادة و العمل الإرتجالية و الفوضوية و العشائرية أعاقت إلى حد كبير قيام الحزب بدوره، فأصابه ضعف شديد في العمل الفكري و الإيديولوجي.
قراءة علجية عيش بتصرف