صفحات من سيرتى الذاتية المسماة: "من كتاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد"
عن الشهر الظريف الذى قضيته فى بانجول عاصمة جامبيا صيف 1986
وعن الحسد والنق والنبر والقر والعين فى القرآن والسنة والتاريخ والمنطق
د. إبراهيم عوض



ونعود بعد هذه التطوافة إلى ما كنا فيه من الحديث عن مسيرتى ‏الفكرية فأقول إنه بالنسبة للسفر إلى خارج الديار بعد عودتى من البعثة ‏الأكسفوردية فقد سافرتُ إلى جامبيا فى صيف 1986م بفضل زميل ‏وصديق قديم كنا ندرس معا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قبل أن ‏أتركها بعد ثلاثة أيام لا غير، وهو الأستاذ فتحى عثمان، الذى كنا نلقبه: ‏‏"فوستوك" تندرا على ما كنا نظنه حذلقة فيه، لكنه كان طيب القلب ‏عملى النزعة جادا يعرف حقيقة الحياة أفضل منا لاضطراره إلى العمل ‏المبكر لكسب رزقه رغم أننا لم نكن أفضل منه ماديا، إلا أننا لم يكتب لنا ‏العمل مثله فى الإجازات الصيفية ونحن صبيان. لقد أهديته عن طريق ‏صديقنا المشترك أ. صلاح أبو النجا، الذى كان يراه كلما أتى إلى القاهرة ‏من المغرب حيث كان يعمل فى منظمة الإيسيسكو (منظمة الدول ‏الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة) كتابى: "مصدر القرآن"، فوجدت بعد ‏قليل رسالة تنتظرنى عقب عودتى من زورة من زوراتى للقرية مع أولادى ‏كانت موجودة تحت عقب باب الشقة فى حدائق القبة، وفيها يعرض أ. ‏فتحى عثمان، إذا كانت بى رغبة، أن أسافر إلى شمال غرب أفريقيا أو ‏الباكستان مشتركا فى دورة لتقوية مدرسى اللغة العربية والدين الإسلامى ‏ومفتشيهما، فوافقت على الفور لحبى للسفر والرحلات، قائلا: أهلا ‏وسهلا بالعرض حتى لو لم آخذ فلوسا فى المقابل. وآثرتُ جامبيا على ‏الباكستان، التى كان منتظرا أن أشترك فى مؤتمر الإعجاز العلمى للقرآن ‏والسنة فيها بعد قليل، إذ كانت الهيئة المشرفة على المؤتمر قد اختارت، ‏ضمن البحوث المقبولة من مئات البحوث المقدمة إليها، بحثى عن "موقف ‏القرآن الكريم والكتاب المقدس من العلم"، وكانت تذكرة السفر والإقامة ‏هناك على حساب المؤتمر. إلا أننى، لدن عودتى من القرية يوم الخميس ‏السابق على يوم السبت يوم السفر إلى جامبيا، نحيت جانبا المرور ‏بالكلية وقتئذ، مستبعدا أن يكون هناك ما يستحق أن أمر بها من أجله، ‏وبخاصة أننى كنت مرهقا بعد أن عُجْنَا على طنطا ودرنا فيها لبعض ‏الوقت واشترينا من السوق بعض الأغراض. وكانت غلطة سخيفة، إذ ‏كان هناك خطاب من مؤتمر الباكستان قد وصلنى على الكلية ذلك اليوم ‏ذاته لم أعلم به إلا بعد مرجعى بعد شهر من جامبيا تطلب منى فيه ‏إدارة المؤتمر أن أرسل إليهم ملخص البحث بالإنجليزية كى يتسنى لهم ‏إرسال تذكرة السفر. وكانوا قد ضربوا لذلك ميعادا أقصى انتهى أثناء ‏وجودى فى جامبيا. وبذلك ضاعت علىَّ فرصة السفر إلى الباكستان، ‏فأسفت لهذا أشد الأسف، إذ كانت فرصة طيبة لى للاطلاع على ‏الأوضاع فى بلد إسلامى مهم فى آسيا كما اطلعت على الأوضاع فى ‏بلد إسلامى فى أفريقيا على المحيط الأطلسى فى حضن السنغال. وقد ‏كتبت أكثر من مائة وستين صفحة عن الرحلة الجامبية وما شاهدته ‏وخبرته هناك من أحوال الناس والمناخ والطبيعة والطيور والغابة والعادات ‏والتقاليد وما إلى ذلك، وللأسف لم تتح لى فرصة نشر تلك الرحلة حتى ‏الآن. وأرجو ألا أموت قبل نشرها. آمين.‏
ومن طرائف جامبيا أن البُوم والفَرَاش هناك كبير ضخم، حتى إن ‏البومة تساوى بومتين أو بومة ونصفا من بُومنا، وحتى إن الفراشة ‏لتَضْعُف فراشاتنا عدة مرات، كما أن الإمساك بها أسهل من الإمساك ‏بالفراشة المصرية، وألوانها أنصع وأجمل. وكنت كلما مررت بالأولاد فى ‏قرية من القرى التى كنت أتجول فيها أيام الإجازات مع أحمد الشاب ‏الغينى الذى تعرفت إليه هناك، وكانت عربيته ممتازة، أجدهم يشيرون ‏إلىَّ فى استغراب كأنى هبطت عليهم من الفضاء الخارجى قائلين: تُوبَابْ ‏‏(بتفخيم الباء)، أى أبيض. وكنت أضحك ملء أشداقى وأقول لأحمد: ‏إذا كنت أنا "تُوبَابًا"، فماذا هم قائلون فى الأوربيين؟ ورأيت ذات مرة ‏صبيا فى نحو الثانية عشرة ومعه ولد صغير عمره حوالى سبع سنين ‏ميميين ناحية المحيط الأطلسى بينما كنت راجعا أنا من هناك قبيل ‏الغروب، فبدا لى أن أداعبهما، فقلت للصبى: هل يمكن أن تبيعنى هذا ‏الولد؟ فرد فورا، وبكل جدية: هذا الولد ليس ملكا لى (‏I am not ‎the owner!‎‏). فضحكت كما لم أضحك من قبل. كذلك أذكر من ‏وقائع تلك الرحلة أن موظفى الفندق الصغير اتصلوا بى فى غرفتى ليلة ‏من الليالى طالبين منى أن أنزل لأقابل سيدة جامبية تنتظرنى فى بهو ‏الفندق وتريد أن ترانى. فنزلت، وإذا بها تصارحنى بأنها معجبة بى. ‏لماذا يا ستى، كفى الله الشر؟ فتقول: لأننى أراك دائما من أمام منزلى ‏وأنت فى طريقك إلى المسجد. الله أكبر! هذه أول مرة أسمع أن امرأة ‏تعشق رجلا لأنها تراه ذاهبا إلى المسجد. إذن فهذا هو العشق الشرعى ‏على نفس نمط الشورت الشرعى الذى يتحدث عنه السلفيون ‏وأشباههم! لكن يا ستى، أنا متزوج، وزوجتى تنتظر عودتى فى مصر. ‏وماذا فى أن تتزوجنى إلى جانب امرأتك التى فى مصر؟ إن القرآن قد ‏أحل للرجل أربع زوجات. يا ستى، الله لا يسوؤك، أنا عاجز عن ‏التعامل مع زوجة واحدة، فأَنَّى لى بالنجاح مع أربع؟ لا تخف، سوف ‏تنجح. لكن زوجتى سوف تقتلنى إذا تزوجت عليها. أبدا لن تقتلك. ‏كيف تعرفين؟ إنها امرأتى أنا لا امرأتُكِ، وأنا أعرف طباعها النارية، ‏وسوف تكون نهايتى مهببة بهباب أسود لو أصختُ إلى مقترحك. ثم ‏من أين آتى بالمهر فى تلك البلاد، وأنا لا أملك فيها شيئا؟ لا تشغل بالك ‏بالمهر، فقد ذكر القرآن أنه يكفى أن يدفع الرجل لزوجته ربع دَلَسِى ‏‏(والدلسى هو الجنيه الجامبى). وهل فى القرآن ذكر لعملتكم المحلية ‏أيضا؟ نعم طبعا. بالله عليكم أيها القراء، ماذا أقول لهذه المرأة؟ أرجو ‏أن تدركونى وتنقذونى من طوفان حججها الغريبة هذه. ‏
وأخيرا فقد يهمكم أن تعرفوا أننى قضيت، مُذْ غادرتُ القاهرة ‏فى طائرة شركة آليطاليا حتى بلغت جامبيا، يوما كاملا مررت فيه ‏بروما، التى مكثتُ فى مطارها سبع ساعات التهمت فيها الإسباجتى ‏اللذيذة مع اللحم والمقبلات والحلويات بكميات كبيرة أكرمنى بها الطباخ ‏الإيطالى فى مطار ليوناردو دافنشى بحب ومودة، وصليت ونمت وقرأت ‏فى كتاب معى عن رحلات أحد المستكشفين الإنجليز الأوائل فى ‏أواسط أفريقيا، ثم هبطت الطائرة فى مطار محمد الخامس بالمغرب، ثم ‏فى مطار أكرا عاصمة السنغال، ثم مطار جامبيا، الذى ذكَّرنى بموقف ‏سيارت الأجرة فى بلدنا أيام كان موجودا عند المقابر، والذى ترك كبير ‏موظفيه أمور إدارته لدن عودتى عندما تأخرت الطائرة يوما كاملا تقريبا، ‏وأخذ يلعب الطاولة ويحدث هو وخصمه صخبا عاليا وطرقعات مصمة ‏بقشاطات اللعب، مما ذكرنى بقهوة عمى إبراهيم قنديل فى موقف ‏السيارات فى القرية، ولم يبق إلا أن أرى أبو الغَشَم وحَسَن سمنة ‏والشيخة عزيزة وبقية الوجوه الأليفة التى كنا نراها فى قديما هناك.‏
وقد قابلت فى بانجول عاصمة جامبيا، التى تقع فى حضن ‏السنغال على شاطئ الأطلسى، الشيخ حامولى مبعوث الأزهر فى تلك ‏البلاد، إذ فوجئت أول يوم فى المدرسة التى كان علينا أن نلقى بها ‏محاضراتنا على المدرسين والمفتشين الجامبيين المذكورين آنفا برجل ‏مصرى يدخل علىَّ ويعرفنى بنفسه. وبعد أخذ ورد لبعض الوقت تبين ‏لى أنه يعرفنى على السماع، إذ كان يعرف الشيخ الشوادفى الملاح أحد ‏أبناء قريتنا من جيلى، فهما زميلان يُدَرِّسان بمعهد طنطا الأزهرى، ‏وكان الشيخ الشوادفى يحدثه عن قرية كتامة ومن خرجتهم من رجال ‏العلم والأدب، ومنهم العبد لله، بغض النظر أيستحق العبد لله أن يُدْرَج ‏بين العلماء والأدباء أم لا، فدهشت من ترتيبات القضاء الإلهى، الذى ‏يجعل رجلا مصريا فى آخر الدنيا يعرف العبد لله رغم أنه لم يكن قد ‏سبق له أن رآه أو سمعه. يا لغرابة الأقدار! وكانت فرحة الشيخ ‏الحامولى بالعبد لله لما يحمله من عطر مصر لمتغرب مثله فى آخر بلاد ‏المسلمين طاغية حتى إنه حين حان رجوعى لمصر كان حزينا جدا. ‏والطريف أنه قد سمى ابنته التى كان زوجته حاملا بها آنئذ على اسم ‏بنتى: يمنى. وكان يدعونى على الطعام فى بيته بين الحين والحين، ‏وبخاصة يوم عيد الأضحى، الذى حل ونحن هناك، ويكرمنى إكراما ‏بالغا. بارك الله له فى أولاده وصحته وماله وأم عياله. كما عرفت ‏هناك الشيخ سعيد زميل الشيخ حامولى، الذى يختلف عنه أشد ‏الاختلاف فى الشخصية والطباع، وكان يسكن فى قرية قريبة من ‏العاصمة لا فى العاصمة ذاتها. وقد دعانى مرة إلى بيته وقدم لى بناء ‏على رغبتى خبزا بيتيا وفولا مدمسا وجبنا قريشا وما إلى ذلك. وكان ‏يقطن بيتا يؤجره "من بابه" له حديقة بنى فيها فرنا مصريا أعدَّ لنا فيه ‏‏"الخبز المرقرق" كما نسميه فى قريتنا. وأرجو أن أكون قد أدخلت على ‏هذين الرجلين السرور بمجيئى من مصر مضمَّخا برائحتها العبقة لا لفضل ‏فىَّ، بل الفضل كل الفضل فى أنى مقبل من مصر. وكنت أداعب ‏الأطفال فى البيتين المصريين، وأشعر بالسعادة حين ألاعبهم وأنفحهم بعض ‏الألطاف كما هو حالى مع أى طفل أجده بالبيت الذى أزوره.‏
ولإعجابى بذكاء أحمد الغينى وبراعته فى اللغة العربية ‏واستطاعته التحدث بالفصحى بسهولة كبيرة رغم أنه لم يزر أى بلد عربى ‏فقد أرسلت له بعض الكتب الخاصة بتعلم لسان الضاد على عنوانه فى ‏بانجول بعد عودتى إلى أرض ‏ الوطن حسبما وعدته. ثم علمت ‏أنه حصل على منحة دراسية من المملكة العربية السعودية، لتنقطع ‏أخباره تماما عنى بعد هذا. وأرجو من الله أن يكون صديقى الظريف ‏الذكى قد بلغ ما تؤهله له مواهبه، فهو يستحق الكثير لجده ولوذعيته ‏وظرفه وأدبه وكفاحه. لقد كان يبيع فى سوق بانجول لوازم النساء من ‏أدوات تجميل وما إلى ذلك. وقد أعجبنى هذا منه، وعلمت أن البلاد ‏الأفريقية فى تلك المنطقة منفتحة بعضها على بعض بحيث تجد فى ‏جامبيا كثيرا من الأفارقة المنتمين إلى الدول الأخرى لا يجدون فى ‏دخولها ولا فى الإقامة فيها أية صعوبة، بل ينتقلون من بلد إلى بلد وكأنهم ‏إنما ينتقلون من مدينة إلى أخرى داخل بلادهم. ولا شك أن هذه ‏سياسة موفقة، ويا ليت جميع الدول العربية تفعل ذلك، وبخاصة أن ‏روابطنا نحن العرب فيما بيننا أقوى من روابط الأفارقة، كما أننا كنا إلى ‏عهد قريب دولة واحدة، فجاء الاستعمار فمزقنا شر ممزق. وكان يمكن ‏أن تكون عقابيل هذا التمزيق أقل سوءا مما هى الآن لو لم تعش كل دولة ‏تقريبا فى انعزالية تامة عن سائر الدول العربية بحيث تقوم الحدود ‏الجغرافية فى وجه العرب الآخرين حاجزا صلبا لا يُخْتَرَق، فلا يستطيع ‏العربى فى كثير من الأحيان الدخول إلى أية دولة عربية أخرى إلا بتأشيرة ‏وتفتيش وتوجس، وكأنه لها عدو مبين.‏
ولنكتف الآن بالكلام عن جامبيا ونعود إلى مصر والجامعة ‏وطلابنا فيها. وأنا أحب أن يناقشنى الطلاب دائما ولا يكتفوا بالسماع، ‏وإلا صارت المحاضرة أثقل من الجبل على قلبى وطغى علىَّ الضيق ‏والملل. وهناك فى هذا الباب طرائف مضحكة، وبخاصة أننى أحب ‏مداعبة طلابى والتهكم على أى وضع سخيف لا منطق فيه. ومما دار ‏بينى وبين طلابى فى الجامعة من نقاش ما وقع ذات محاضرة فى ‏الثمانينات حيث أخذَنا الكلام إلى الجنة والنار، فقلت لهم إننى كلما ‏أردت تحميس ابنى الصغير إلى تأدية عمل طيب (وكان أيامها تلميذا فى ‏أول المرحلة الابتدائية) أقول له إن الله سوف يعطيك فى الجنة شيكولاتة، ‏فما كان منهم إلا أن قالوا فى نفس واحد كأنى قد كفرت بالذى خلقنى ‏من تراب فسوانى فعدلنى فجعلنى دكتورا، وإن لم يحسن صورتى كثيرا: ‏إن ذلك لم يرد فى القرآن! فضحكت وأردت أن أغيظهم وأثير فضولهم ‏فأكدت أن ذلك الأمر موجود فى كتاب الله. إلا أنهم أصروا على موقفهم ‏وإنكارهم مستغربين أن يكون القرآن قد ذكر الشيكولاتة بين أطعمة الجنة ‏وهم لا يعلمون رغم حفظهم له عن ظهر قلب. فعدت أقول لهم وأنا ‏أبتسم: إن ذلك موجود فى سورة "الزخرف". فمضوا فى الـحَرْد قائلين: ‏هذا لا يمكن أن يكون. قلت لهم وقد شعرت أن الأمر قد بلغ إناه، ومن ‏ثم لا بد أن أوضح لهم خطأ موقفهم: ألم تقرأوا قوله تعالى: "فيها ما ‏تشتهيه الأنفس، وتَلَذُّ الأعين"؟ فابنى تشتهى نفسه الشكولاتة، وعينه ‏تلتذ برؤيتَها. فما المشكلة فى ذلك؟ أم ترون أن الجنة لن يكون فيها إلا ‏الثريد وهُبَر اللحم؟ إن كل إنسان ممن كتب الله لهم دخول الجنة سوف ‏يحظى بكل ما يشتهيه من طعام وشراب وصداقات وحب وغير ذلك ‏من اللذائذ والسعادات، أم ترى الجنة إنما صُنِعَتْ على مزاج عرب القرن ‏السابع الميلادى وحدهم وعلى قدر عقولكم الضيقة الحرجة؟ فسكتوا ‏مغيظين لأنى استطعت الهروب من ثقوب الشبكة التى ظنوا أنها من ‏الضيق بحيث لا تسمح لمثلى بالنجاة. فالحمد لله على الإفلات من هذا ‏المأزق.‏
ثم حدث منذ سنتين أن أخبرنى أحد أصدقائى بأن صديقا ‏صحفيا شابا قد أتاه فى حالة نفسية يرثى لها: نعم يرثى لها بكل معانى ‏الكلمة، فقد كان يحب امرأة حبا جامحا جائحا قد ملك عليه كل ‏حياته، إلا أن أهله رفضوا زواجه منها لأنها تكبره بعدة سنوات، فضلا ‏عن أنها أرملة، ولها طفلان. وسر تعاسته التى كان عليها يوم جاء ‏صديقى منذ عامين هو أنها تزوجت من جديد وتركته يعانى غصص ‏الحب ولم تحترم وعدها له بألاتتزوج سواه. وقد فكر فى الذهاب إلى ‏بيت زوجها ليواجهها بخيانتها، وليكن ما يكون. وحاول صديقى أن ‏يهدئه موضحا له أن الأمر لا علاقة له بالخيانة، وأنها على العكس قد ‏تصرفت التصرف الصحيح الوحيد نظرا للظروف التى أحاطت بهما ‏والتى تمنعهما من الزواج، ودعا الله أن يخفف عنه ما يحسه من حرقات ‏وآلام مبرحة، فانتهز فرصة الدعاء والتمس منه أن يطلب من الله أن يدفع ‏زوجها إلى تطليقها حتى ترجع إليه. لم يعنفه صديقى، بل أفهمه بهدوء ‏أن هذا دعاء لا يصح لأن الرجل قد تزوجها على سنة الله ورسوله، ‏علاوة على أنه هو لن يستطيع الزواج بها حتى لو كانت بلا زوج: فأهله ‏يرفضون ذلك، وهو لا يملك شقة يعيشان فيها، بل إنه لا يستطيع تأجير ‏واحدة، فمرتبه رغم أنه يمكن أن يكفيهما نظريا لا يمكنه واقعيا ذلك ‏‏"لأنك يا صديقى طَفِسٌ، وهمك على بطنك: تريد أن تاكل طول النهار ‏والليل كبدة ولحما، ولا تقدر أن تعيش على الفول والفلافل كما أفعل أنا ‏مثلا"... إلى آخر ما يمكن أن يقال فى مثل ذلك الموقف. ‏
ثم قال له: إن الله قادر على أن يعوضك عن حرمانك منها فى ‏الدنيا بأن يجمع بينكما فى الجنة. فقال متحمسا: كيف؟ قال: بأن يجعل ‏لكل منكما، أنت والزوج، نسخة منها. فقال فى ألم العشاق واندفاعهم ‏وأنانيتهم: لا أريد أن يشاركنى فيها أحد. قال: إنه زوجها. ومع هذا ‏أتصور أن من الممكن ألا يشعر أو يدور بخَلَده بتاتا أن هناك من يملك ‏منها نسخة أخرى، بل يتصور أنها له خالصة. وكان منطلق صديقى فى ‏هذا التصور أن المرأة الواحدة كثيرا ما تتزوج أكثر من رجل، وكلهم يحبها، ‏وكلهم يرغب أن تكون زوجته فى الجنة (هذا طبعا إذا راح رائحة ‏الجنة! وليقابلنى إذا ورد على جنة!)، فما العمل؟ فقال له الصحفى ‏الشاب: وهل مرت هذه المسألة من قبل فى عهد النبى؟ قال له ‏ضاحكا، لكنه كان يقصد مع هذا كل كلمة نطق بها: فى عهد النبى لم ‏يكن هناك، يا صديقى، صحفى أرعن مثلك ومندفع أنانى، بل كان ‏الصحابة كلهم عاقلين حكماء. وما زال به يعالج همه ويضاحكه ويخفف ‏عنه ويفسح له فى طاقات الأمل والرجاء كلما تقابلا حتى هدأت ‏مشاعره وطاب قلبه، وانتسخت آلامه. وهو الآن يشكر الله أن أتاح ‏صديقى له ليقف إلى جانبه حتى عبر المحنة بدلا من أن يندفع فى سَوْرَة ‏حماقة من حماقاته فيتسبب فى فضيحة له ولحبيبته ولأهليهما جميعا. ‏هذا ما قاله لى صديقى العزيز الذى لا يكاد يفارقنى فى حل أو ترحال، ‏وبينى وبينكم لا بد لى من الإقرار بأننى لا أستطيع أن أحل هذه المشكلة ‏المعقدة بالبساطة التى حلها بها صديقى وصديق الصحفى الشاب ‏الولهان. كان الله فى عون المحبين العاشقين!‏
كذلك فبعض الطلاب يقصّرون سراويلهم على نحو لافت للنظر. ‏وأسأل، وأنا أعرف الجواب، عن سبب هذا التقصير الغريب، فيقولون: ‏سُنَّة عن رسول الله. فأسألهم: وهل كان النبى يلبس سروايل أصلا، ‏فضلا عن أن تكون سراويل قصيرة كهذه؟ فيرد بعضهم: إن من السنة ‏تقصير الإزار، والسروايل إزار. فلا أجد ما أجيب به على هذا الذكاء ‏الخارق. ثم أرى بين أبناء جيراننا شبانا يرتدون جلبابا قصيرا. وقبل أن ‏يقولوا إنهم يطبقون سنة رسول الله ألفت نظرهم إلى أنهم يلبسون تحت ‏الجلباب سراويل طويلة، وأحيانا ما تكون سراويل منامة، قائلا لهم: إذا ‏كان تقصير الثياب سنة، فلم تلبسون تحتها بيجاما طويلة الساقين؟ ولا ‏أسمع عادة جوابا. ثم أسألهم: وهل تظنون أن هذا التقصير الغريب ‏المخالف للذوق العام فى الملابس يرضاه الرسول؟ كيف لا تفهمون أن ‏المقصود بالتقصير هو النهى عن جر الإزار لما كان يعنيه هذا التصرف من ‏خيلاء وكبر وبطر ولما يترتب عليه من اتساخ ذيل الثوب؟ قال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثوبه خُيَلاءَ لم ينظر الله إليه يوم القيامة". ‏وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة ‏من كِبْر"، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله ‏حسنة. قال عليه السلام: "إن الله جميل يحب الجمال. الكِبْر بَطَر الحق ‏وغَمْط الناس". ثم لا ينبغى أن ننسى أن تطويل الإزار يمكن أن يؤدى إلى ‏نتائج لا تخطر على البال، كالذى وقع لجبلة بن الأيهم، وكان من سلالة ‏ملوك بنى غسان، إذ لما أسلم وخرج يحج وطئ رجل من بنى فزارة إزاره ‏المسبل على الأرض فحله، فلطم جبلةُ الرجلَ الفزارىَّ فهشم أنفه، فأراد ‏عمر رضى الله عنه أن يأخذ للفزارى بحقه بأن يمكنه من لطم جبلة كما ‏لطمه، إلا أن ابن الأيهم استكبر وهرب من البلاد ولحق بقيصر الروم، ‏الذى أكرم نزله، فتنصر جبلة عنده ومات مرتدا. ‏
وقد لاحظت أن عددا غير قليل من المسلمات المتدينات الآن ‏يحرصن على المغالاة فى تطويل الثياب، فتكون النتيجة أن تنجر على ‏الأرض وتتسخ اتساخا مزعجا دون داع. بل إننى ألاحظ فى الأزياء ‏الشائعة هذه الأيام بين النساء وجود رفارف تتدلى أو ترفرف يمينا ‏ويسارا مما يمكن أن يعرضهن لمشاكل هن فى غنى عنها، إذ قد تعلق ‏هذه الرفارف فى مسمار مثلا أو يغلق عليها باب المصعد، بل قد تنشب ‏فى خطاف سيارة نقل مارة إلى جانبهن فتجرهن إلى حتفهن، كالذى ‏قرأته مرة من أن أحد الشبان كان راكبا دراجته البخارية، وكان يلبس ‏سويترا مفتوحا يرفرف فى الهواء، وجاءت من الخلف سيارة مرت بجواره ‏وعَلِقَ طرف السويتر بخطاف من خطاطيفها، فجرته السيارة وأوقعته من ‏فوق الموتوسيكل ومات تحت عجلاتها. ومن هنا فكلما شاهدت امرأة ‏تركب وراء زوجها وترفرف ملابسها فى الهواء أخشى عليها من مثل ‏هذه المصائب، وأدعو الله أن يحميها، وهى ولا هى هنا. فنحن فى ‏مصر بلد العجائب حيث لا يفكر الناس فى العواقب أبدا. وما دمنا فى ‏سياق الحديث عن الخطاطيف والمسامير وما يمكن أن يترتب عليها من ‏مصائب فهناك حديث للرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "مرَّ رجلٌ في ‏المسجدِ ومعَه‎ ‎سهامٌ،‎ ‎فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمسِكْ ‏بنِصالِها" خوفا من أن تصيب نصالها أحدا من الناس فى ملابسه أو فى ‏جسده. وفى حديث آخر نسمعه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مرَّ ‏أحدُكم في مسجدِنا أو في سوقِنا، ومعه نَبلٌ، فَلْيُمْسِِكْ على‎ ‎نِصالِها‎ ‎بكفِّه ‏أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيءٍ. أو قال: لِيَقْبِضْ ‏على‎ ‎نِصالِها". والملاحظ أن كثيرا منا لا يلتفت إلى هذه الاعتبارات فتقع ‏الكوارث التى كان من الممكن جدا بشىء من الوعى واليقظة تداركها، ‏كوضع المقشة مثلا بحيث تكون يدها ناتئة فى الهواء لا مستريحة على ‏الجدار، مما يمكن فى حالة الظلام أو عدم التنبه إليها أن يصيب طَرَفُها ‏عينَ أحدنا.‏
إن المسألة ليست مجرد تحكم فى الأزياء، بل إن وراءها لحكمة لا ‏بد أن نتنبه إليها، وإلا كنا ممن يخرون على النصوص عميا وبكما وصما ‏دون فهم ودون تفكير وتدبر. ولنفترض أن النبى عليه الصلاة والسلام ‏قد أمر بذلك لمجرد الأمر، فهل ما يصلح للعرب فى جزيرتهم الحارة يصلح ‏مثلا لأهل الجزر البريطانية حين يصيرون مسلمين، ونرجو أن يكون قريبا، ‏وبلادهم شديدة البرودة؟ ودعونا من الإسكيمو، الذين لو جَرَوْا بعد ‏إسلامهم، ونرجو أن يكون قريبا أيضا، على هذه الطريقة فى اللُّبْس شتاءً ‏لتجمدت سيقانهم؟ ترى أين ذُهِبَ بعقول هؤلاء الذين يظنون أنهم إنما ‏يطبقون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النحو العجيب؟ ‏والغريب أن كثيرا من هؤلاء لا يقرأون عادة ولا يمسكون بكتاب ولا ‏يُضْبَطون متلبسين بالتفكير. أليس طلب العلم فريضة على كل مسلم ‏ومسلمة؟ أليسوا مسلمين؟ فلم لا يهتمون بالقراءة والكتاب، والقراءة ‏واجبة، بينما يهتمون كل هذا الاهتمام بنافلة من النوافل، إن كانت أصلا ‏نافلة أو لها أية علاقة بالدين إلا بالمعنى الذى شرحته، وأرجو ألا أكون ‏مخطئا؟ لقد لاحظت فى الفترة الأخيرة بوجه عام أن الطلبة، إذا حدثتهم ‏عن النظافة والنظام والجمال والذوق والاهتمام بالعمل والإتقان والتردد ‏على المكتبة وتحصيل العلم والحرص على الإبداع وتشغيل العقل، تلك ‏الهبة الإلهية التى لا تقدر بثمن والتى لا يفطن المسلمون بوجه عام إلى ‏أهميتها فى الفترة الحاليّة من تاريخهم، لا يبدون أى اهتمام أومبالاة، ‏بخلاف ما لو لمست مثلا موضع النقاب بالنسبة للنساء، أو اللحية أو ‏تقصير الثياب بالنسبة للرجال، أو الاستماع إلى الأغانى، فإنهم حينئذ ‏ينطقون مبدين تحمسهم للنقاب واللحية وتقصير الثوب وتحريم الأغانى ‏رغم أن معظمهم إن لم يكونوا كلهم يستمعون إليها، وتجدهم على استعداد ‏لإنفاق كل ما لديهم من وقت فى التدليل على ما يقولون، ويرددون الآيات ‏القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التى يظنون أنها تنصر فهمهم. ‏وعبثا أحاول أن أنبههم إلى أن الأمم إنما تتقدم بالعلم والإتقان والإبداع ‏والنظام والذوق الجميل، ولكن على من ترتل مزاميرك يا داود؟ ألم ‏يسمعوا الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقول: إن الله لا ينظر إلى ‏صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. التقوى هاهنا ‏‏(ويشير إلى صدره)؟ أم تراه قال: ولكن ينظر إلى لحاكم وذقونكم؟
فمثلا كنت أحاضر طلاب الدراسات العليا فى إحدى كليات ‏الجامعة منذ أيام، وجاءت سيرة الاعتقاد فى عَيْن الحسود، فانبرى طالب ‏ذاكرا قوله تعالى فى الآية الحادية والخمسين من سورة "القلم": "وإنْ يكاد ‏الذين كفروا ليُزْلِقونك بأبصارهم لما سمعوا الذِّكْر، ويقولون إنه لمجنون"، ‏فحكيت لهم تجربتى مع تفسير هذه الآية حين قرر سورتها علينا د. ‏شكرى عياد فى السنة الأولى بآداب القاهرة فى مادة التفسير فى العام ‏الجامعى 6- 1967م، وكيف أننى، حين قرأت ما قاله بعض المفسرين ‏القدماء عنها باعتباره إشارة إلى القدرة على الإصابة بالعين، لم أقتنع، بل ‏نظرت إليها على أنها تعبير مجازى عن مدى الكراهية التى كان المشركون ‏يكنونها لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نقول مثلا فى ‏تعبيراتنا اليومية إن عين فلان تصدر شَرَرًا، والمقصود أنه غاضب حاقد ‏على علان أو ترتان، ولا يعنى أبدا أن عينيه تصدران شررا تحرقانه به. ‏ومثله قولنا عمن ينظر بِوَلَهٍ إلى فتاة جميلة إنه سوف يأكلها بعينيه. ولا أكل ‏ولا يحزنون، بل هو مجاز. كما ورد فى حديث للنبى عليه الصلاة ‏والسلام قوله: "نظرُ المؤمنِ إلى محاسِنِ المرأةِ سَهمٌ من‎ ‎سِهامِ‎ ‎إبليسَ ‏مسمومٌ"، ونحن كثيرا ما ننظر إلى النساء فلا نرى سهاما ولا رماحا، بل ‏المقصود تصوير الأمر تصويرا بيانيا يجسد أمام أعيننا المعنى المراد، وهو ‏ما يترتب على كثرة التطلع إلى النساء والاشتغال بأجسادهن من أخطار ‏نفسية وخلقية واجتماعية. ولو كان الأمر أمر حسد بالمعنى الذى ‏يفهمونه من حيث الإصابة بالعين لكان أولى بالمشركين أن يحسدوه ويَعِينُوه ‏صلى الله عليه وسلم بسبب اختيار خديجة إياه زوجا لها دون رجال ‏قريش جميعا رغم أن كبار القوم وأغنياءهم حاولوا خطبتها بعد ترملها، ‏فردَّتهم ولم ترض واحدا منهم، وسعت هى بنفسها إلى لفت نظر هذا ‏الفتى الفقير عن طريق الوسيطات واتخاذها زوجا لها. فكان ينبغى، إذا ‏فكروا فى حسده وإزلاقه بعيونهم المؤذية الشريرة، أن يحسدوه على ‏زواجه بخديجة الغنية الأرستقراطية التى رفضتهم جميعا من قبل. أليس ‏هذا هو ما يقوله المنطق والعقل؟
ثم قلت لهم: المعروف أن الحاسد إنما يحسد الآخرين على ما هم ‏فيه من نعمة. وهذا يقتضى أن ينظر الحاسد إلى ما فيه الآخرون على ‏أنه نعمة تستحق الحسد لأنه محروم منها. فهل كان الكفار يحسدون النبى ‏على ما أسنده الله إليه من مسؤولية الرسالة والدعوة؟ لقد كانوا يكفرون ‏بما يدعوهم إليه ويسخرون منه ويتهمونه، كما تقول الآية، بالجنون. فأين ‏الحسد إذن؟ وكيف نقول إنهم كانوا يريدون إصابته بالعين حقدا منه ‏على ما يتمتع به دونهم من جنون؟ ثم إن الآية على كل حال تقول إنهم ‏يكادون أن يُزْلِقوه بأبصارهم لا إنهم أزلقوه فعلا، بما يدل على أن عيونهم ‏لم تؤثر فيه، فأين العين هنا؟ كما أنه عليه السلام لم يقع له يوما أن تعثر فى ‏مشيه، فضلا عن أن يكون هذا التعثر، أو الانزلاق كما تقول الآية، سببه ‏عيون الكفار. فكيف يفهم فاهم من الآية أنها تتحدث عن العين وما ‏كان الكفار يصيبون به الرسول بأبصارهم؟ بل إن اليهود أنفسهم، وكانوا ‏يحسدون النبى وقومه على النبوة لأنهم يعرفون قدرها وأبعادها، لم يَعِينُوا ‏النبى بل تمثل حسدهم له فى حقدهم عليه وجحودهم لدعوته، وهذا ‏كل ما هنالك. وهذا التفسير ورد فى حديث نبوى شريف: "كان حُيَيُّ ‏بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذ ‏خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهدين في رد الناس ‏عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: "وَدَّ كثير من أهل الكتاب لو ‏يردّونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تَبَيَّنَ ‏لهم الحقُّ". قال ابن عباس: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه ‏شيئا، ولكن‎ ‎الحسد‎ ‎حملهم على الجحود".‏
وبعد أن كتبت ما سبق بأكثر من أسبوعين بدا لى أن أنظر فى ‏كتاب "تلخيص البيان فى مجازات القرآن" للشريف الرضى، فألفيته يقول ‏فى الآية المذكورة إن العبارة المشار إليها "استعارة. والمراد بالإزلاق ‏هاهنا إزلال القدم حتى لا يستقر على الأرض. وذلك خارج على طريقة ‏للعرب معروفة. يقول القائل منهم: نظر إلىّ فلان نظرا يكاد يصرعنى به. ‏وذلك لا يكون إلا نظر المقت والإبغاض، وعند النزاع والخصام. وقال ‏الشاعر:‏
‏ يتقارضون إذا التقوا فى موقف نظرا يزيل مواقف ‏الأقدام
وقد أنكر بعض العلماء أن يكون المراد بقوله تعالى: "لَيُزْلِقُونَكَ ‏بِأَبْصارِهِمْ" الإصابة بالعين، لأن هذا من نظر السخط والعداوة، وذلك ‏من نظر الاستحسان والمحبّة". فحمدت الله على توافق رأيى فى هذه ‏النقطة مع رأى مثل ذلك العالم الأديب. ونفس الشىء وجدته فى ‏‏"تفسير كتاب الله العزيز" للهوارى الإباضى، إذ قال: "قال عز وجل: ‏‏"وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ" أي: لينفذونك "بِأَبْصَارِهِمْ" لشدة ‏نظرهم عداوة وبغضًا "لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ"، أي القرآن، بُغضًا له، "وَيَقُولُونَ ‏إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ". يعنون محمدًا عليه السلام".‏
هذا مجمل ما قلته لطلابى محاولا أن نجد طريقا لنا من خلال الآية، ‏مضيفا أننى، وأنا صغير، كنت أسمع عن أحد جيراننا بالقرية أنه حساد، ‏أى أن عينيه قادرتان على إيقاع الضرر بمن أو بما ينظر إليه، لكنى لا ‏أستطيع أن أتذكر ولو حادثة واحدة تثبت هذا الذى كان يقال عن ‏الرجل. كذلك لو كان ما يقال عن عين الرجل وأذاها صحيحا لما بقيت ‏بقرة ولا جاموسة ولا جمل ولا حمار فى الشارع على الأقل حيا، لأنهم ‏كانوا يتهمونه بحسد البهائم. ولو افترضنا، مجرد افتراض جدلى، أن ‏حيوانا فى الشارع تصادف موته عند أو عقب نظرة ذلك الرجل إليه ‏فهناك ملايين المرات التى نظر فيها ذلك الرجل إلى هذا الجمل أو تلك ‏الجاموسة أو تيك النعجة أو ذلك الجمل ولم يحدث أى ضرر. فلم ‏الإمساك بتلك المرة وإهمال المرات الملايين الأخرى؟ ثم لا تَنْسَوْا، يا ‏أبنائى، أن هذا الاعتقاد ليس له من معنى إلا اختفاء التفوق من على ‏وجه البسيطة. هكذا قلت لهم، شارحا. ذلك بأنه ما من إنسان ‏متفوق فى شىء إلا وهناك من يحسده على ما يتمتع به من تفوق. فإذا ‏كانت العين تضر بالمعنى الذى تفهمونه فالنتيجة الحتمية أن صاحب ‏النعمة لا بد أن تضره العيون المصوبة إليه طوال الوقت تحسده على ما هو ‏فيه، وتنزل به الأمراض أو الموت أو خراب الديار حتما مقضيا، لأنه لو ‏أفلت من عينِ عائنٍ فلن يفلت من عيون سائر العائنين، وما أكثرهم، ‏وبخاصة فى البلاد التى لا ينصرف الناس فيها إلى العمل بل يضيعون ‏وقتهم كله فى الحقد على الآخرين والاجتهاد فى تعويقهم وإيذائهم. أليس ‏كذلك؟ ‏
وظننت أن كلامى ومنطقى سوف يفعلان فعلهما ويدفعانهم على ‏الأقل إلى التروى والتفكير فيما أقدّمه من وجهة نظر. إلا أنهم لم يعيروا ما ‏قلته لهم أى انتباه، بل كانوا يرددون أن الحسد مذكور فى القرآن، وهو ما ‏لم أنفه، إذ الحسد فعلا آفة بشرية لا يخلو منها مجتمع، ولا يمكن عاقلا أن ‏ينكره حتى لو لم يتعرض له القرآن بالذكر. لكن المشكلة فى فهم الطريقة ‏التى يعبر بها الحاسد عن حسده: هل هى النظر الحاقد بالعين فيصاب ‏المنظر إليه فى جسده أو عقله أو نفسه أو ماله أو أولاده أو بيته، أو ‏طعامه إذا كان يأكل حين نظر إليه الحاسد فيتسمم الطعام وينقله أهله إلى ‏المستشفى ليدركه الأطباء قبل أن يموت؟ ثم أضحك فأقول: لكن ماذا ‏لو أن جرعة الحقد فى نظر الحاسد إلى الطعام كانت أضخم وأكثر ‏فعالية؟ هل يترتب عليها أن الأطباء لن يستطيعوا معالجة المتسمم، وأنه ‏سوف يموت لا محالة؟ إن تأثير الحسد فيما أفهم يتمثل فى تشويه الحاسد ‏صورة المحسود واتهامه بما هو منه براء أو الكيد له عند رؤسائه أو ‏الوقيعة بينه وبين أحبائه وأصدقائه أو وضع العراقيل فى طريقه أو التآمر ‏عليه للزج به فى السجن أو شكايته عند المسؤولين بأنه يريد بالدولة شرا ‏أو حرمانه من حقه فى ترقية مثلا أو الطعن فى عرضه أو الادعاء على ‏زوجته بأنها تخونه... وهكذا مما من شأنه أن يحول حياته إلى جحيم لا ‏يطاق. فهذا هو الشر الذى أفهم أن يجترحه الحاسد فى حق المحسود. ‏أما أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قد أقام كونه على نظرة تؤذى وكلمة ‏توقف أذى هذه النظرة، فهذا ما لا أفهمه أبدا. وأرجو أن يغفر الله لى ‏سواء كنت على صواب أو كنت مخطئا، فنحن فى حاجة ماسة إلى ‏غفرانه سبحانه وتعالى. ‏
ولقد تعرضت عائشة إلى محنة عاتية بل إلى أعتى المحن فى ‏حياتها حين انفجرت حادثة الإفك، إذ اتهمت فى عرضها وهى مَنْ ‏هى؟ إذ هى ابنة الصديق وزوجة خاتم الأنبياء والمرسلين وأحبهم إليه ‏وأحظاهم عنده بالمودة والإعزاز، فماذا كان تعليق أمها على تلك الواقعة ‏الكريهة التى لا يمكن أن يقع لامرأة عربية شىء أبشع وأبغض إلى القلب ‏منها؟ لقد بلغ عائشة أن الناس كانوا يخوضون فى سيرتها فسألت أمها: ‏‏"يا أمتاه، ماذا يَتَحَدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هوِّني عليك، ‏فواللهِ‎ ‎لقلَّما‎ ‎كانت‎ ‎امرأةٌ‎ ‎قطُّ وَضِيئَةً عندَ رجلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا ‏أكثرْنَ عليها. قالت: فقُلْتُ: سبحان الله، أوقد تحدَّثَ الناسُ بهذا؟". ‏وهذا كل ما قالته الأم وردت به عليها الابنة، فلا كلام عن العين ولا ‏يحزنون. ولو كان هناك إيمان بالعين لقالت أم رومان لابنتها: "يا حبيبة ‏قلب أمك يا أختى، يا حبة عينى، لقد حسدتك ضرائرك، قلع الله ‏عيونهن"، ولردت عليها عائشة بأن عيون ضرائها التى تندب فيها ‏رصاصة قد حسدتها، فكان ما كان من انتشار الشائعات التى تهدم ‏الأعراض وتدمر البيوت وتقضى على السعادات والمسرات. لكن شيئا ‏من ذلك لم يكن.‏‎ ‎
وخذ هذه عندك أيضا أيها القارئ الكريم الذى أحبه وأحب له ‏أن يقف عند ما أقول مفكرا فيه دون أن يخر عليه عَمًى وصممًا وبَكَمًا ‏من غير أن يفكر فيه ويُعْمِل حاسته النقدية فيقبله أو يرفضه بعد أن ‏يكون قد قلَّبه فى عقله ومحَّصه وأعطاه الوقت لينضج ويصل فيه إلى ما ‏يرتاح إليه صدره بعيدا عن أى تاثير خارجى ما دام قد قرأ كل وجهات ‏النظر وراجع النصوص ونظر فيما كتبه العبد لله بهدوء وتجرد وسكينة: ‏فقد روى أحد المسلمين قائلا: "قلتُ لابنِ عباسٍ: أرأيتَ هذا الرَّمَل ‏بالبيتِ ثلاثةَ أطوافٍ، ومَشْي أربعةِ أطوافٍ؟ أسُنَّةٌ هو؟ فإنَّ قومك ‏يزعمون أنه سُنَّةٌ. قال: فقال: صدَقوا، وكذبوا. قال: قلتُ: ما قولُك: ‏صدقوا وكذبوا؟ قال: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قَدِم مكةَ، ‏فقال المشركون: إنَّ محمدًا وأصحابَه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيتِ من ‏الهزلِ. وكانوا يحسدونَه. قال: فأمرهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ‏أن يَرمُلوا ثلاثًا، ويمشوا أربعًا. قال: قلتُ له: أخبِرْني عن الطوافِ بين ‏الصفا والمروةِ راكبًا، أسُنَّةٌ هو؟ فإنَّ قومك يزعمون أنه سُنَّةٌ. قال: ‏صدَقوا وكذَبوا. قال: قلتُ: وما قولُك: صدَقوا وكذَبوا؟ قال: إنَّ ‏رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كثُرَ عليه الناسُ، يقولون: هذا محمدٌ. ‏هذا محمدٌ. حتى خرج العواتقُ من البيوتِ. قال: وكان رسولُ اللهِ صلَّى ‏اللهُ عليهِ وسلَّمَ لا يضربُ الناسَ بين يديْهِ. فلما كثُرَ عليه رَكِبَ، والمشيُ ‏والسعيُ أفضلُ. وفي روايةٍ: نحوه. غيرَ أن قال: وكان أهلُ مكةَ ‏قوم‎ ‎حسدٍ. ولم يقل: يحسدونَه". ‏
والآن ها هو ذا ابن عباس يقول إن أهل مكة كانوا قوم حسد. ‏وهنا سيسارع الكثيرون قائلين: وماذا تريد بعد ذلك من دليل يا عم ‏إبراهيم؟ ولكن هل قلت لكم إنى أنكر الحسد؟ لقد قلت إن الحسد ‏موجود لا يمكن المشاحة فيه، إلا أننى أختلف مع معظم الناس بشأن ‏معناه وأثره. ولنعد إلى ابن عباس، فماذا قال؟ قال إن أهل مكة، بما ‏أنهم أهل حسد، قد اتهموا الرسول والمسلمين بأنهم ضعاف مهازيل لا ‏يقدرون على المشى، فمن ثم رَمِلَ الرسول ليريهم أنه ليس ضعيفا أبدا، ‏وأنه لا يقدر على المشى فقط بل على الجرى أيضا. ثم جرى وأراهم من ‏نفسه ومن نفوس المسلمين قوة. أليس هذا ما يقوله الحديث؟ أفلو كان ‏أهل مكة يَعِينون كما قال بعض المفسرين فى قوله تعالى: "وإن يكاد الين ‏كفروا ليزلقونك بأبصارهم..." أكانوا يقولون عن المسلمين إنهم ضعاف ‏مهازيل؟ لقد كان ينبغى أن يقولوا: الله يخرب بيتهم. إنهم لا يتأثرون ‏بشىء مما نفعله لهم، بل يزدادون قوة على قوتهم. وعندئذ يخر المسلمون ‏صرعى لا يستطيعون أن ينهضوا، فضلا عن أن يمشوا، فضلا عن أن ‏يجروا، ولكان رد فعل الرسول لِحَسَدِهم أن يأمر المسلمين بأن يتظاهروا ‏بالضعف والتهافت حتى لا تصيبهم عيون المشركين الحسادة أكثر مما ‏أصابتهم. هذا ما يقوله العقل والمطق، لكنْ أنا أعرف ماذا سيرد به علىَّ ‏معظم الناس، ألا هو: لكن الحسد مذكور فى القرآن. وعندئذ سأخرس ‏فلا أتكلم لأنه من الواضح أن الكلام واستخدام المنطق صار لا يجدى. ‏ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد!‏
وإليك، قارئى العزيز، هذا الحديث كذلك، فقد روى معاذ بن ‏جبل "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم جلس في بيت من بيوت أزواجه، ‏وعائشة عنده، فدخل عليه نفر من اليهود فقالوا: السام (أى الهلاك ‏والموت) عليك يا محمد. قال: وعليكم. فجلسوا فتحدثوا، وقد فهمت ‏عائشة تحيتهم التي حَيَّوْا بها النبي صلى الله عليه وسلم، فاستجمعت ‏غضبا وتصبرت، فلم تملك غيظها، فقالت: بل عليكم السام وغضب الله ‏ولعنته. بهذا تحيون نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم خرجوا، فقال ‏النبي صلى الله عليه وسلم: ما حَمَلَكِ على ما قلتِ؟ قالت: أولم تسمع ‏كيف حَيَّوْك يا رسول الله؟ والله ما ملكت نفسي حين سمعت تحيتهم ‏إياك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا جَرَمَ كيف رأيتِ رددتُ ‏عليهم. إن اليهود قوم سئموا دينهم، وهم قوم‎ ‎حُسَّد،‎ ‎ولم يحسدوا ‏المسلمين على أفضل من ثلاث: رد السلام، وإقامة الصفوف، وقولهم ‏خلف إمامهم في المكتوبة: آمين". فها هو ذا سيدنا رسول الله يقول إن ‏اليهود قوم حسادون، إلا أن الحديث لم يتركنا فى عماية من أمرنا، بل ‏وضح لنا أن حسدهم قد تجسد فى التحية الإجرامية التى حَيَّوْه بها ‏صلى الله عليه وسلم. ولو كان الحسد على ما يفهمه العامة وأشباههم ‏لكان اليهود قد نصبوا فى عيونهم صواريخ سام3 وأطلقوها على ‏المسلمين رشقة واحدة فخَرَّ هؤلاء على بكرة ابيهم يفرفرون كالدجاجة ‏المذبوحة. لكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا، بل لجأوا إلى التآمر والتطاول ‏والبذاءات، وهو ما يجرى مع فهمى للحسد وأفاعيله. ‏
وفى ذات الاتجاه يجرى الحديث التالى، إذ يذكر أبو أيوب الأنصارى ‏أنه بعد انتصار المسلمين المدوى فى بدر وقع فى يد المسلمين أسرى كثر ‏من مقاتلى المشركين، "فقتلنا وأسرنا، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول ‏الله، ما أرى أن تكون لك أسرى، فإنما نحن داعون مؤلفون. فقلنا، معشرَ ‏الأنصار: إنما يحمل عمرَ على ما قال‎ ‎حسدٌ‎ ‎لنا. فنام رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم ثم استيقظ، فقال: ادعوا لي عمر. فدُعِيَ له، فقال: إن ‏الله عز وجل قد أنزل عليَّ: ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتى يُثْخِنَ ‏في الأرض. تريدون عَرَضَ الدنيا، والله يريد الآخرة. والله عزيز ‏حكيم". وفى هذا الحديث أن الأنصار كانت تظن أن عمر إنما أشار ‏على الرسول بقتل الأسرى حسدا منه لهم لأنهم اختاروا الإبقاء على ‏الأسرى لمفاداتهم فيما بعد بالمال، فى الوقت الذى رأى عمر قتل هؤلاء ‏الأسرى لتخليص المسلمين من شرهم فلا يعودوا لمقاتلتهم مرة أخرى. أى ‏أن الأنصار، وهم مسلمون من الطراز الأول، يرمون عمر بن الخطاب ‏بالحسد. لكن الحسد، كما هو واضح، ليس أن يَعِينَهم عمرُ بعينه ‏الضارة، بل معناه أنه لا يريد أن يأخذ الرسول بالرأى الذى كان عليه باقى ‏المسلمين، ومنهم الأنصار. ثم، وهذا هو المهم، لقد نزل القرآن بما يوافق ‏رأى عمر المتهم من قِبَل الأنصار بالحسد. فما رأى قرائى الأفاضل؟ ‏
ثم هذا الحديث الذى رواه أبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفى: "كنا ‏عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه وفد بني تميم، ‏عليهم‎ ‎قيس‎ ‎بن‎ ‎عاصم وعمرو‎ ‎بن‎ ‎الأهتم‎ ‎والزبرقان‎ ‎بن‎ ‎بدر،‎ ‎فقال النبي ‏صلى الله عليه وسلم لعمرو بن الأهتم: ما تقول في الزبرقان بن بدر؟ ‏فقال: يا رسول الله، مطاع في أنديته، شديد العارضة، مانع لما وراء ‏ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر مما وصفني به، ‏ولكنه حسدني. فقال عمرو: والله يا رسول الله، إنه لَزَمِنُ المروءة، ‏ضيق العَطَن، لئيم الخال، أحمق الولد. والله يا رسول الله ما كذبت أولا، ‏ولقد صدقت آخرا، ولكني رَضِيتُ فقلت أحسن ما علمت، وغضبتُ ‏فقلت أقبح ما علمت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من ‏البيان لسحرا وإن من الشعر لحكما (أى حكمة)". فها هو ذا الزبرقان ‏بن بدر، وهو صحابى كما نرى، يفهم الحسد، الذى اتهم به عمر بن ‏الأهتم، على أنه إظهاره بمظهر القليل المناقب، مع أن الرجل لم يقصر فى ‏مدحه، وهو ما دعاه فى المرة الثانية التى تصدى فيها لوصفه بتشويه ‏صورته تماما، مبررا ذلك بأن كل شخص فيه وفيه، وأن العبرة بالحالة ‏النفسية التى يكون عليها الواصف: فإن كان راضيا أورد صادقا فضائل ‏الموصوف، وإن كان ساخطا عليه أورد صادقا أيضا رذائله. والمهم أن ‏الزبرقان لم يشتك من ضرر أوقعته به نظرات عين ابن الأهتم القاتلة. ‏
وهناك حديث ضعيف سأورده رغم ضعفه لأنه يتمشى مع ما ‏جاء فى القرآن الكريم عن ابنى آدم حين قرب كل منهما قربانا تقبل الله ‏أحدهما ورفض قربان الآخر، فما كان منه إلا أن قتل أخاه الذى تُقُبِّل ‏قربانه. ذلك أن قتله لأخيه إنما كان بسبب حسده إياه لرضا الله عنه ‏دونه. يقول الحديث الضعيف: "إيَّاكُم والكِبْرَ، فإنَّ إبليسَ حَمَلَهُ الكِبْرُ ‏على أن لا يَسْجُدَ لآدمَ. وإيَّاكُم والحِرْصَ، فإنَّ آدمَ حَمَلَهُ الحِرْصُ على أن ‏أكل من الشجرةِ. وإيَّاكُم والحَسَدَ، فإنَّ ابْنَيْ آدمَ إنما ‏قَتَلَ‎ ‎أحدُهما‎ ‎صاحبَه‎ ‎حَسَدًا، فهو أَصْلُ كلِّ خطيئةٍ". أأستمر فى هذا ‏الموضوع أم أكتفى بما سبق، وهو كافٍ جدا؟ ومع هذا كله فإنى أقترح ‏أن يَنْهَدَ عدد من العلماء من مختلف التخصصات التى لها صلة بالحسد ‏لدراسة هذا الموضوع حتى يشفوا صدورنا بالنتائج العلمية التى يتوصلون ‏إليها ويتقربوا إلى الله بما يفعلون، فهو سبحانه العليم والخبير، ويريد منا أن ‏نكون علماء خبراء. "ولله المثل الأعلى فى السماوات والأرض".‏
وهذا هو نفسه ما يقوله الشيخ محمد عبده فى كتابه: "تفسير ‏سورة عم" لدن تفسير قوله تعالى فى سورة"الفلق": "قل أعوذ برب الفلق ‏‏* ... * ومن شر حاسد إذا حسد". ونص كلامه فى هذا الشأن ‏هو: "الحاسد الذى يتمنى زوال نعمة محسوده، ولا يرضى أن تتجدد له ‏نعمة. وهو، إذا حسد، أى أنفذ حسده وحققه بالسعى والجد فى إزالة ‏نعمة من يحسده، من أشد خلق الله أذى، ومن أخفاهم حيلة، وأدقهم ‏وسيلة. وليس فى طاقة محسوده إرضاؤه بوجه ولا فى استطاعته ‏الوقوف على ما يدبره من المكايد، فلا ملجأ منه إلا إلى الله وحده، فهو ‏القادر على كف أذاه، وإحباط سعيه. وقانا الله شر الحاسدين، وكف ‏عنا كيد الكائدين. والله أعلم". فكما يرى القارئ ليس فى كلام الرجل ‏أى شىء عن العين والعائن والـمَعِين (الـمَعْيُون)، بل الكلام عن الأساليب ‏الطبيعية فى محاولة الحاسد الإضرار بالمحسود عن طريق التآمر والكيد ‏والتسلل فى نعومة كنعومة الحيات والثعابين ليضرب ضربته القاتلة فى ‏خفاء كخفاء الشياطين.‏
ثم تذكرت المونولوج الذى يغنّيه إسماعيل يس عن أصحاب العيون ‏المؤذية وحملته عليهم لما ينزلونه بالناس حولهم من ضرر لا يقاوم كانفجار ‏النجفة الجديدة الغالية التى فى الصالون بمجرد أن يبدى العائن إعجابه ‏بها أو موت معزة جدته أو مرضه هو وتطوحه وفقدانه الاتزان عقب قيام ‏صديقه الحَسَّاد بإطراء صحته وأحواله المادية... إلى آخر ما يقوله ‏المونولوجست صاحب الفم الكبير، الذى لا أدرى لماذا لم يمرض وتنكسر ‏رجلاه وتشتعل سيارته وينهدم بيته ويحترق مسرحه من كثرة ما صُوِّبَ ‏إليه من نظرات حاقدة بسبب نجاحه فى فنه واستيلائه على القلوب ‏أفلاما ومسرحيات ومونولوجات، أو على الأقل: بسبب كِبَر فمه الذى لا ‏يدانيه فى الاتساع فم آخر فى الدنيا والذى يستحق أن يدخل به بكل ‏جدارة موسوعة جينيس، فضلا عن ابنه ياسين، الذى كان متفوقا فى ‏دراسته حتى لقد دخل معنا كلية السياسة والاقتصاد سنة 1966م ‏حسبما قرأت فى كشوف الطلاب أوانذاك، وإن كان قد تركها إلى معهد ‏السينما بالقاهرة كما تركتها أنا أيضا إلى كلية الآداب، ثم تُوُفِّىَ عام ‏‏2008م بسبب السرطان، رحمه الله. وهذا نص المونولوج:‏
يا اللِّى َتَمِّلى تحسدْ غِيرَكْ، بَطَّلْ قَرّ‎
سَمِّى وْصَلِّى دى عْنِيكْ مُوشْ هَتْجِيبْها البَرّ‎
‏* * *‏‎
مَرَّة حَسُودِى‎
شَكْلُه قْرُودِى‎
شافْنى قالْ لى: إشّ امَّالْ!‏‎
نعمة عظيمه‎
وقِيمَة وسِيمَهْ‎
وعِزّ وْشُهْرَة وْمَالْ وِجَمَالْ‎
عَنْها وارَوَّح‎
كده باتْطَوَّح‎
زَىّ الفرخة الدايخة تمامْ‎
عينه الصافية‎
ما خَلِّتْ عافيهْ‎
ورُوشِتّاتْ ما اعرفش بْكَامْ‎
و لا جَهْ قال لى: بَسّ اشْ حالَكْ؟ بِعْدِ الشرّ!‏‎
يا اللِّى تَمَلِّى تحسدْ غيرك، بَطَّلْ قَرّ‎
‏* * *‏‎
واحد غِيرُهْ‎
كَتَّرْ خِيرُهْ‎
جانى بسرعة يْطُلّ عَلَيَّا‎
شافْ نجفتْنا‎
قالْ لى: دى فتنه‎
ده احْنا ولا فْ عِزّ الضُّهْرِيّه‎
تَمِّ الجملهْ‎
راحت عامله:‏‎
‏"بِي". يعنى ما لحقتْش تْبَاتْ‎
عينه الصافيه‎
راحت طافيه‎
النور، واتحرقوا اللَّمْباتْ‎
قلت له: خلى عندك ذُوقْ ولاَّ امشى انْجَرّ‎
يا اللى تملى تحسد غيرك، بطل قرّ‎
‏* * *‏‎
واللى هاوِسْنِى‎
وهَيِفْرِسْنِى‎
واحد غيرهم لُهْ كراماتْ‎
رِمْشُه صْغيَّرْ‎
نِنُّه يْطَيَّرْ‎
بيتْ بدورين وتلات عمارات‎
معزةْ ماما‎
هَبَدْها كرامهْ‎
طَقِّتْ ماتت فى دقيقتينْ‏‎
عينه الصافْيَه‎
تجيب الكافْيَه‎
و لا مدفعْ رشّاشْ برُوحِينْ‎
ولا بِيْجَلِّى. كل حياته يا‎ ‎شَرّ اشْتَرّ‎
يا اللى تملى تحسد غيرك، بَطَّلْ قَرّ
وأنا، كلما تذكرت هذا المونولوج الذى نظمه المرحوم ابن الليل أو ‏سمعته، تعجبت غاية التعجب من حملة مؤلفه ومغنيه على العائن، إذ ما ‏ذنبه، وهو قد خُلِقَ هكذا؟ اللهم إلا إذا كان المونولوج يتهكم بمن يعتقدون ‏فى مثل تلك الأمور أو يشنع على الحقود الذى لا يهدأ ولا يرتاح إلا إذا ‏أفسد على صاحب النعمة نعمته، لكن بطريقة كاريكاتورية مجازية لا ‏حقيقية. ولكن هل الأمر كذلك؟ وحتى لو كان هذا هو هدف الزجال ‏والمونولوجست فهل سوف تفهم الناس أن هذا هو هدفهما فعلا؟ ‏أحسب أن الناس سوف تتصور أن الفناَنْين، على العكس، إنما يؤكدان ‏هذا الاعتقاد ويعملان على تثبيته فى العقول والنفوس. ‏
وعلى نفس الشاكلة ينبغى ألا تكون هناك امرأة جميلة أنيقة إلا ‏ويتم تشويهها جراء الحسد الذى لا بد أن تحسدها إياه كل امرأة قبيحة، ‏وما أكثرهن والحمد لله، الذى لا يحمد على قبح سواه. ثم ألا يقع ‏الحسد من العميان رغم أنهم لا ينظرون إلى أحد لعدم وجود عيون لهم ‏أصلا؟ فما القول فى حالتهم؟ لكن لقد نسيت يا عم إبراهيم أن ‏هناك، إلى جانب العين، ما يسميه العامة بـ"القَرّ" و"النَّقّ" و"النَّبْر"، وهو ‏كلامٌ بالفم لا نظرٌ بالعين. أى أن حياتنا كلها ملغمة بالعيون والأفواه، ولا ‏مفر من ثم من الإصابة. فالحسد يشبه صواريخ سام3 فى أنه لا يمكنك ‏أن تهرب منه مثلما كانت الطائرات الإسرائيلية تعجز عن تجنب هذا ‏الضرب من الصواريخ، وينتهى أمرها دائما إلى السقوط. ‏
وأحيانا ما أقول ساخرا: إن الحسد هو سبب تخلفنا، وهو دليل ‏قاهر على أنه موجود بالمعنى الذى يعتقد فيه كثير من الناس فى ‏مجتمعاتنا. كيف؟ إننا ما دمنا أمةٌ حسّادة قرارة نقّاقة نبّارة ليس لنا من ‏شغلة ولا مشغلة طوال النهار والليل إلا تصويب العيون والأفواه إلى ما ‏يتمتع به الآخرون من نعم فإن النتيجة الحتمية هى أن يحسد بعضنا ‏بعضا، وبالتالى فكلنا مصابون مضرورن، وتكون النتيجة العامة هى ‏الحرمان من النعم بسبب العين والقر والنق والنبر. وهل التخلف إلا ‏الحرمان من النعم: نِعَم الغنى والنظافة والعلم والإبداع والنظام وراحة ‏البال؟ فكيف بالله عليكم يمكن أن نتقدم ونتحضر، وصواريخ سام3 ‏شغالة لا تكل ولا تمل؟ ‏
لكنى أعود فأقول: وعلى أى شىء نُحْسَد، ونحن متخلفون، ‏وحياتنا كلها مضطربة ولا شىء تقريبا سليم فيها، والفقر والقذارة ‏والمرض هو كلمة السر فى واقعنا؟ ثم أعود فأقول: وهل أنت فى مجتمع ‏يفكر أفراده بمنطقية وعقلانية؟ ترى لو أننا نعيش فى مجتمع منطقى عاقل ‏أكان بائع الروبابيكيا الجائع المريض البائس ذو الأسمال البالية الذى يدفع ‏أمامه عربة محطمة قذرة لا تحتوى إلا على أتفه الأشياء يكتب على ‏عربته: "يا ناس يا شَرّ، كفاية قر"؟ على رأى المثل: قالوا للقرد: سوف ‏نسخطك. قال: كيف تسخطوننى وأنا مسخوطٌ خِلْقَةً؟ وهناك ناحية ‏فى الاعتقاد بالعين لا أدرى كيف يمكن العقل هضمها، ألا وهى أن العين ‏فى هذا الميدان لا تعرف التخصص فى الأذى، فهى تمرض الشخص ‏وتكسر رجله وتهدم بيته وتحطم سيارته وتفشله فى الامتحان وتبغضه ‏فى زوجته التى كان يعشقها ويطير بها طيرانا وتصيبه بفيروس الكبد ‏الوبائى وتطلق المرأة من زوجها وتموّت الشحط الفحل الذى لو أطلقت ‏عليه مفعا رشاشا ما أثر فيه... إلخ إن كان لذلك من آخر. بل إنها ‏بالنسبة للمرض وحده لا تعرف أيضا أى تخصص، فهى تصيب ‏بالسرطان والعمى والحمى والنسيان والبرص والخناق وبقية الأمراض التى ‏تعرفها البشرية والتى تعرفها وسوف بمشيئة الله تعرفها ما دامت الدنيا لا ‏تخلو من صواريخ سام3. إن الله سبحانه قد أقام دنياه على التخصص، ‏إلا أن العين تشذ عن هذه السنة الكونية، وهو ما يضاعف الهم والغم، ‏إذ لا ندرى كيف نحمى أنفسنا أمام هذا الطوفان الذى لا ينتهى من ‏الأضرار والآذاء كالإنسان الذى تنهال عليه السهام من كل جانب. ‏
ومشكلة أخرى لا تقل عن هذه تعقيدا، وهى أن هذا الاعتقاد ‏يوقع العداوة والبغضاء بين الناس والجيران والأقارب. ولتوضيح ما أريد ‏قوله أذكر أن نجفة قد انفجرت مصابيحها ذات مرة فى بيت أحد ‏معارفى قبيل وصولى، فوجدتهم قد اجتمعوا وكأنهم مجلس حرب، ‏وأخذوا يضربون أخماسا لأسداس لمعرفة من يا ترى آخر واحد نظر إلى ‏النجفة فأصابها بعينه التى تستحق الخرم حتى لا يَدَعُوه يدخل بيتهم مرة ‏أخرى، وبعد عدة مداولات صاح أحدهم: وجدتها، وجدتها. فقالوا: ‏من؟ قال إن آخر شخص زارنا هى فلانة أمس، وقد لاحظتُ أنها ‏نظرت مرة إلى النجفة، فليس إلا هى. فعندئذ هدأت النفوس، واستقرت ‏الآراء على أنه لا ينبغى تركها تدخل الشقة ثانية حتى لو انطبقت السماء ‏على الأرض. وعبثا حاولت أن أقنعهم بسخف فهمهم وتعليلهم للأمر، ‏قائلا لهم: هل تظنون أن نظرة الست الطيبة الكريمة تلك ظلت منذ أمس ‏تدور فى أرجاء الغرفة لا تستطيع أن تصل إلى النجفة إلا قبيل مجيئى ‏إليكم بلحظات؟ ثم ألم تزركم هذه السيدة قبل ذلك عشرات المرات ولم ‏يحدث شىء لا للنجفة ولا للتلفاز ولا للأطفال، فكيف نسيتم هذا كله ‏ولم تتنبهوا إلا لهذه المصادفة التى لا تعنى شيئا؟ ثم أية نجفة هذه التى ‏تتهمونها بأن عينها الحسادة هى التى فجرتها، وأنتم تعلمون أن لديها بدل ‏نجفتكم الرخيصة هذه نجفا كثيرا غاليا؟ ألم تجد إلا نجفتكم هذه؟ يا ‏ناس، أين ذُهِبَ بعقولكم؟ لكن طبعا كنت كمن يؤذن فى مالطة. ثم ‏أضفت قائلا: ومن أدراكم أنها هى وليست شخصا آخر زاركم قبلها أو ‏ذكر نجفتكم من بعيد فظلت نظرته أو كلمته تدور حول نفسها لا تستطيع ‏أن تشق طريقها نحو الهدف المبتغَى إلا الآن؟ وواضح أن مثل ذلك ‏الاعتقاد يوقع الكراهية وسوء الظن بين الناس، ويجعل كل إنسان متربصا ‏بالآخر متهما له ولمشاعره. ‏
وقد ذكرنى هذا بدكتور يُعَدّ بمثابة تلميذ لى كنت عنده فى ‏الدوحة ذات صباح، وجاءت ابنته الوحيدة الصغرى تجلس معنا، وكنت ‏أستلطفها وأحب أن أدخل على قلبها البهجة بالألطاف التى يحبها ‏الأطفال، وبمداعبتها والثناء عليها. فجريًا على عادتى قلت لأبيها ‏أُسْمِعُها كى تفرح: "من أين أتيتم بهذه البنت الحلوة؟"، ظنا منى أن ذلك ‏سوف يسعده، إلا أننى فوجئت به ينتفض ويبسط كفه فى وجهى وهو ‏يقول: "ما هذا يا دكتور؟ قل: أعوذ برب الفلق". فنزلتْ علىَّ جرادل ‏الماء المثلج التى فى الدنيا كلها، وأردت أن أتداخل فى نفسى حتى لا ‏تفع علىَّ عين. لقد صرت فى لحظةٍ حَسّادًا نقَّاقًا قَرَّارًا نَبَّارًا. وخشيت ‏أن تصاب البنت بالمصادفة بأى شىء فى ذلك اليوم، أو ذلك الأسبوع، ‏أو ذلك الشهر، أو ذلك العام، أو ذلك القرن، أو ذلك الدهر، فتُنْسَب ‏إصابتها إلى تأثير عينى، التى تستحق أن يندبّ فيها رصاصة. أعوذ ‏بالله منك يا عم إبراهيم يا حقودى! ‏
كما ذكرنى بما كان الإنجليز رجالا ونساء يقولونه حين يَرَوْنَنا فى ‏أكسفورد ندفع بنتنا التى كانت ترضع فى تلك الأيام، وصارت الآن ‏أستاذة مساعدة بالجامعة، إذ كانوا يوقفوننا، فى الشارع أو فى المحلات ‏التى نرتادها لشراء ما نحتاجه من حاجيات الحياة، ملتمسين منا أن يلقوا ‏نظرة على البنت وهم يصيحون فى إعجاب (بالإنجليزية طبعا، خذوا ‏بالكم!): يا للعينين الجميلتين! يا للرموش الطويلة! (‏Look! ‎Beautiful eyes! Long eye-lashes‏). ولو لم أكن قد شكمتُ ‏زوجتى وشرحتُ لها منذ بداية تعارفنا قبل أن نسافر إلى بلاد الإنجليز ‏بسنوات أن مثل تلك الاعتقادات لا أساس لها من الصحة ولا من ‏الإعراب أو التصريف لأخذتِ البنتَ وعَدَتْ فى شوارع أكسفورد هربا ‏من كلام الإنجليز وأعينهم، وكأنْ قد أصابها مس أو خالطها رعب ‏كرعب بطل المقامة المضيرية، الذى كان الناس يجرون وراءه وهم ‏يصرخون: يا أبا الفتح، الـمَضِيرَة! فلا يزداد إلا جريا وهربا. المهم أن ‏بنتى حتى الآن لم يصبها بحمد الله شىء لا فى رموشها ولا فى عيونها. ‏اللهم إلا إذا قال متنطع: ومن أدراك أنها لن تصاب؟ فأردّ أنا عليه: لكن ‏يا أخى، لقد نَقَّ الإنجليز وقَرُّوا عليها منذ عشرات السنين. فيرد فى ‏تنطع أشد: وإِنِنْ! ولسوف نرى. ثم إنه لن يخيِّب ظنَّه تنطعُه حين يلحظ ‏أنها أصبحت ترتدى نظارة بعدما كانت تبصر رقم الحافلة اللندنية من ‏بعيد جدا وهى طفلة صغيرة، فيقول: وهل بعد النظارة من دليل على أن ‏العين والنَّقَّ والقَرَّ حق؟ فلا أجد أنا العبد الفقير من مفرٍّ أمام هذا ‏المنطق القاهر الجبار إلا أن أقول له: بارك الله فى عقلك‎ ‎الترللى يا أخى! ‏نسيت أن أقول إننى وزوجتى كنا نسعد عند سماع ذلك الإطراء الجميل، ‏ونشعر فى أعماقنا بالشكر لله على أَنْ مَنَحَنا بنتا جميلة، على الأقل: ‏فى عيون الإنجليز! ولم نفكر قط فى أن هذا الإطراء يمكن أن يصيب ‏البنت بشىء!‏
ويتعرض د. جواد على فى الفصل الرابع والثمانين من الجزء الثالث ‏من كتابه: "المفصل فى تاريخ العرب" لبعض الاعتقادات الجاهلية ‏المرتبطة بهذا الأمر فيتحدث عن "التمائم" قائلا إنها "عُوذَة على هيئة ‏قلادة من سيور تضم خرزا، وقد تكون من خرزة واحدة تستعمل ‏للصبيان والنساء في الغالب اتقاء النفس والعين، فاذا كبر الطفل انتزعت ‏التميمة منه. وقيل: التمائم خرزات كان الأعراب يعلقونها على أولادهم ‏يتقون بها النفس والعين بزعمهم، فأبطله الإسلام". ثم يضيف أنهم كانوا ‏يعتقدون انها تمام الدواء والشفاء، وأنه قد أشير اليها في الشعر ‏الجاهلي، وعدها بعض الصحابة من الشرك، لأنهم جعلوها واقية من ‏المقادير والموت وأرادوا دقع ذلك بها، وطلبوا دفع الذفى من غير الله.‏
كما تكلم عن العين فقال: "كان للجاهليين رأي وعقيدة في العين ‏وفي أثرها في الحياة، فهم يعتقدون بأثر العين وإصابتها. ولخطر هذه ‏الإصابة وأهميتها تفننوا في ابتداع وسائل الوقاية منها، وحماية أنفسهم من ‏أثرها. وقد زعموا أن عيون بعض الناس تصيب، وانها إن أصابت ‏شيئا أهلكته، فان العين لا تنتج الا شرا، وهي لا تكاد تكون في خير ‏مطلقا. ولذلك تجنبوا "العائن" وابتعدوا عنه. و"العائن" و "المعيان" و ‏‏"العَيُون" هو مَنْ تصيب عيونه. فكان أحدهم اذا ما اتصل بإنسان، ‏وصادف أن نظر ذلك الإنسان إلى شيء أعجبه، أو رأى شيئا لفت ‏نظره، ثم صادف أن وقع مكروه لمن نظر اليه أو إلى ما كان قد رآه ‏‏"العائن" نُسِب ذلك المكروه اليه، ورُمِيَِ باصبة العين". ومما قاله أيضا فى ‏هذا الصدد إن الإصابة بالعين "لا تقتصر على اصابة عيون الإنسان، ‏فقد تصيب عيون الحيوان كذلك" فـ"هناك حيوانات عديدة لها قدرة ‏على الاصابة بعينيها مثل الحيات والثعلب والطاووس". و"يعبر عن العين ‏التي تصيب الـمَعِين بـ"النفس". يقال: نفستُه بنفس، أي أصبتُه بعين، ‏وأصابت فلانا نفس، أي عين... وما أنفسه، أي ما أشد عينه... ‏وللحاسد نفس على المحسود، وقد يصل نفس الحاسد إلى حد الإهلاك. ‏والعائن ربما لا يتعمد الأذى، إنما عينه هي التي تصيب بمجرد المقابلة أو ‏وقوع النظرة على الشيء، ولذلك كان أذاه عند المقابلة ووقوع عين العائن ‏على المعيون.أما الحاسد فإنه يصيب في النية وفي الحضور، لأن عينه ‏تنفذ وتصل إلى المحسود، وإن كان غاضباً عن الحاسد. ولخطر الحسد ‏وشدة أذاه، اتخذت الوسائل الخاصة بمقاومةعيون الحسود...".‏
وقد حاولت أن أجد ذكرا للحسد والحاسد فى الشعر الجاهلى ‏فلم أظفر إلا بالبيت التالى لحاتم الطائى:‏
وَكِلْمَةِ حاسِدٍ مِن غَيْرِ جُرْمٍ سَمِعْتُ وَقُلْتُ: مُرّي فَانْقُذِيني
ومن الواضح أن حاتما إنما يتكلم عن الحقد والكراهية التى تدفع ‏صاحبها إلى التقول على من يحسدهم ومحاولة تشويههم وتحقيرهم بين ‏الناس وافتراء التهم الكاذبة عليهم. ومن الواضح أيضا أنه، بتلقائيته ‏عجيبة، لم يشغل نفسه بما يشاع زورا عنه، بل طوى كشحه وثنى عطفه ‏عنه غير مبالٍ أو مضيع وقته فى الرد عليه أو الاشتغال به. لقد نصح ‏ابن القيم المسلمين بعدم الانشغال بالحسود وعَيْنه، عادًّا هذا جزءا من ‏علاج العين والحسد. فها هو ذا حاتم الطائى، قبل أن يظهر ابن القيم ‏بقرون، ينفذ هذه النصيحة على نحو تلقائى حكيم. وهذا ما نريده من ‏الناس: ألا يصدقوا بهذا الاعتقاد أو ينشغلوا به وبمن يقال إن لديهم مقدرة ‏على الإصابة بالعين، اللهم إلا ثبت على نحو علمى على ما سوف نبسطه ‏بعد قليل أن العين تصيب فعلا وتؤذى. والمناسبة هناك شعر منسوب ‏لعنترة بن شداد يرد فيه كلام عن الحسد، لكن هذا الشعر غير صحيح ‏البتة كما بينت ذلك فى كتابى عن ذلك الشاعر، بخلاف شعره الحقيقى، ‏الذى يخلو تماما من الإشارة إلى الحسد والحاسدين. أما كلمة "العين" ‏بالمعنى الذى نحن فيه فلم أقع لها على شواهد شعربة جاهلية سوى قول ‏علقمة الفحل عن حصانه:‏
بَغُـــــــــوجٍ لَبَانُــــاهُ يُتَمُّ بَرِيمُـــــهُ عَلى نَفْثِ راقٍ خَشْيَةَ العَيْنِ ‏مُجْلِبِ
وبطبيعة الحال أنا لا أجهل أن هناك أحاديث منسوبة للنبى عليه ‏الصلاة والسلام تقول مثلا: "العين‎ ‎حق. ولو كان شيء سابق القدر ‏سبقته‎ ‎العين، وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغتسلوا". ولو ثبت أن رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم قد قال ذلك وحيا من السماء، وبالمعنى الذى يقصده من ‏يؤمنون بالعين، لما كان لى إلا أن أصدق ما قاله سيدنا رسول الله. لكن ‏لى عدة ملاحظات: هل قال النبى ذلك فعلا؟ الجواب هو أن كتب ‏الحديث تقول إن هذا حديث صحيح. إذن فمن حيث الرواية: الحديث ‏صحيح. لكن هل إذا كان الحديث صحيحا فى نظر أهل الحديث من ‏ناحية الإسناد أفلا بد أن يكون صحيحا بالضرورة؟ هل الأحاديث ‏مجرد رواية لا دخل لها بالتفكير المنطقى فى مضمونه ومعناه؟ ثم هل ‏قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل الوحى؟ أم هل كان ذلك مجرد ‏اجتهاد منه كاجتهاده فى مسألة تأبير النخل، الذى اتضح أن ما أشار به ‏فى هذا الخصوص كان فى غير موضعه ولم يكن هو الأسلوب السليم فى ‏عملية التلقيح؟ لكن هل يترك الله الأمر فى هذه الحالة دون أن يتم ‏تصحيح الخطإ على نحو أو على آخر كما حدث فى تأبير النخل؟ معنى ‏هذا أن يكون النبى قد قال ذلك أولا حتى يمكن أن يصحَّح ما يكون قد ‏وقع منه من سهو أو نسيان أو خطإ، فهل قاله فعلا؟ كذلك هل يمكن أن ‏يسبق شىءٌ القَدَر؟ إن القدر هو مشيئة الله عز شأنه، فهل يمكن أن ‏يخطر هذا المعنى على بال رسول الله صلى الله عليه وسلم وينطق به ‏فى حديث يظل يردده المسلمون طوال الحياة؟ ترى هل هناك شىء يقع ‏على الأرض أو فى السماء يمكن أن يكون بمشيئة غير مشيئته سبحانه، ‏بله أن تسبق تلك المشيئة مشيئته تعالى، بله أن يكون هذا الشىء هو ‏العين، التى يرى ابن القيم أنها قد تصيب، وقد تخيب، فضلا عن أنها ‏ليست بالقضية الهامة على الإطلاق، بل هى لا فى العير ولا فى النفير، ‏وبخاصة أن معظمنا لا يرى أثرا لها فى الواقع؟ أقول: "معظمنا" لمجاراة ‏الطرف الآخر من باب الحكم الافتراضى سدا لباب اللجاج ليس إلا. ‏فكيف يمكن أن نصدق أن الرسول عليه السلام يلجأ، فى الكلام عنها، ‏إلى هذا التعبير المتجاوز؟ الواقع أننى فى أشد الحيرة. ‏
ومن الأحاديث التى قررت ذلك الموضوع أيضا الحديثان التاليان: ‏‏"انطلق عامرُ بنُ ربيعةَ وسهلُ بنُ حُنَيفٍ يريدان الغسلَ. قال: فانطلَقا ‏يلتمِسانِ الخمرَ. قال: فوضع عامرٌ (كذا، والصواب سَهْلٌ) جُبَّةً كانت ‏عليه من صوفٍ، فنظرتُ إليه فأصبتُه بعينيَّ، فنزل الماءَ يغتسلُ. قال: ‏فسمعتُ له في الماءِ قرقعةً، فأتيتُه فناديتُه ثلاثًا، فلم يُجِبْني. فأتيتُ النبيَّ ‏صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأخبرْتُه فجاء يمشي فخاض الماءَ كأني أنظرُ إلى ‏بياضِ ساقَيْه. قال: فضرب صدَره بيدِه، ثم قال: اللهمَّ أذهِبْ عنه ‏حرَّها وبردَها ووصَبَها. قال: فقام. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ ‏وسلَّمَ: إذا رأى أحدُكم من أخيه ومن نفسِه ومن مالهِ ما يُعْجِبُه فلْيُبرِّكْهُ ‏فإنَّ العينَ‎ ‎حقٌّ". ففى هذا الحديث نجد أن الحاسد هو عامر بن ربيعة ‏طبقا لرواية ابنه عبد الله الراوى الأول للحديث، إلا أن راوى الحديث ‏الأخير يقول إن الصواب هو سهل بن حنيف، أما عامر فهو المحسود. أما ‏الحديث الثانى فمن رواية أبى أمامة بن سهل بن حنيف، والحاسد هو ‏عامر بن ربيعة، والمحسود هو سهل بن حنيف: "اغتسلَ سهلُ بنُ حُنَيْفٍ ‏بـ"الخَرَّارِ" فنزع جُبَّةً كانت عليه، وعامرُ بنُ ربيعةَ ينظرُ، وكان سهلُ رجلاً ‏أبيضَ حسنَ الجلدِ، قال: فقال له عامرُ بنُ ربيعةَ: ما رأيتُ كاليومِ ولا ‏جلدَ عذراءَ. قال: فوُعِكَ سهلٌ مكانَه، واشتدَّ وعَكُه، فأتى رسولَ اللهِ ‏صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فأخبر أنَّ سهلاً وُعِكَ، وأنه غيرُ رائحٍ معك يا ‏رسولَ اللهِ. فأتاه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فأخبر سهلٌ بالذي ‏كان من أمرِ عامرٍ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: علامَ يقتلُ ‏أحدُكم أخاهُ؟ ألا برَّكْتَ؟ إنَّ‎ ‎العينَ‎ ‎حقٌّ. تَوَضَّأ له. فتوضَّأ له عامرٌ، ‏فراح سهلٌ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليس به بأسٌ". ‏
والآن أى الحديثين هو الصحيح؟ إن هناك روايتين متناقضتين ‏للحدث تبعا للراوى الأول، فكل راو يذكر أن أباه هو المحسود، وأن ‏الطرف الآخر هو الحاسد. وكلا الحديثين موجود فى "السلسلة ‏الصحيحة" للألبانى. ثم هل كان المحسود، أيا كان، يحتاج إلى أن يخلع ‏ملابسه حتى يرى الحاسد لون بشرته؟ أليست بشرة الواحد منا تظهر ‏حتى وهو مرتدٍ ملابسه؟ أم كان الرجال فى ذلك الوقت يغطون كل بقعة ‏من أجسادهم؟ كذلك متى كان رجال العرب، فضلا عن المسلمين، ‏يتفاخرون بأن جلودهم تشبه جلود العذارى، كى يحسد بعضهم بعضا ‏على هذا؟ ثم إن هناك رواية ثالثة للحديث لم يذهب فيها الحاسد إلى ‏النبى يخبره بما وقع لزميله، بل اضطر الرسول لسؤال قوم المحسود عمن ‏يتهمونه، فقالوا له: فلان. فعندئذ أحضر فلانا هذا، ونهاه عن أن يَعِينَ ‏أخاه المسلم، آمرا إياه بدلا من ذلك بأن يباركه لدى الثناء عليه. ‏وواضح أنها رواية لا تتسق مع الروايتين الأخريين أبدا.‏
وهذا نص الرواية، وصاحبها هو المحسود نفسه: سهل بن حنيف، ‏إذ تقول إنه "خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا ‏كان‎ ‎بالخرّار‎ ‎دخل ماء يغتسل، وكان رجلا وضاء، فمر به عامر بن ربيعة ‏فقال: لم أر كاليوم حسن شيء ولا جلد مخبأة. فما لبث سهل أن لبط ‏به، فدعا له نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علام يقتل أحدكم ‏أخاه؟من تتهمونه به؟ قالوا: عامر بن ربيعة. فدعا عامرا ودعا بإناء ‏فيه ماء فأمر عامرا، فغسل وجهه في الماء وأطراف يديه وركبتيه ‏وأطراف قدميه، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم صيغي إزار عامر ‏وداخِلَتَه فغمرها في الماء ثم أفرغ الإناء على رأس سهل وأكفأ الإناء من ‏دبره، فأُطْلِقَ سهل لا بأس به".‏
وقد ورد ذكر "القرقعة" فى الحديث الأول، وهى صوت الحديد ‏عند اصطدامه بالحديد وما أشبه ذلك من الأصوات على ما جاء فى ‏‏"معجم اللغة العربية المعاصرة" للدكتور أحمد مختار عمر. وإنى لأتساءل: ‏ما دخل القرقعة هنا بالعين والإصابة بها؟ ثم كيف يترك الرجل زميله فى ‏هذا الوضع المفزع ويذهب لرسول الله كى يخبره بما حصل دون أن يحاول ‏مساعدته مع أن كل الشواهد تدل على أنه فى خطر عظيم إذ لم يستطع ‏الرد عليه حين ناداه ثلاث مرات لا مرة واحدة، وسمع الحاسد، بدلا من ‏ذلك، صوت قرقعة، وكأن هناك حديدا يصدم حديدا؟ ثم ماذا كان ‏يمكن أن يقع لو لم يكن هناك رسول الله؟ لقد كان الرجل فى كرب ‏عظيم، وكانت حياته فى حرج كما يفهم من سياق الرواية. أإلى هذا ‏الحد يكون خطر العيون، وتكون حياة الشخص الـمَعِين رهنا بالمصادفات ‏التى لا تجرى على قانون؟ أنا لا أكذِّب كلاما ثبت أن رسول الله قاله ‏فعلا، بل كل ما أبغيه هو محاولة إقامة مثل هذا الأمر على أسس علمية ‏صلبة بدلا من الاعتقاد فى شىء لا ندرى مدى مبلغه من الصحة. ولا ‏أظن الرسول عليه السلام يضيره أو يغضبه أن نحاول التحقق من أمر ‏أخبرنا به. إننا نحبه صلى الله عليه وسلم حبا جما، ونحب أن نتأكد مما ‏يُرْوَى عنه ومن صحته كى نصدق أنه قاله حقا. ذلك أن حبنا الحقيقى ‏له صلى الله عليه وسلم يقتضينا أن نلجأ إلى العلم للتحقق من صحة أى ‏شىء. أليس هو الذى نادى بفضل العلم والعلماء؟ أليس القرآن هو ‏الذى يدعو الكفار إلى الإتيان بأثارة من علم إن كانوا صادقين؟ ‏
ترى هل يغضب الرسول أو يجد فى الأمر مِسَاسًا برسالته إذا ما ‏أراد أحد الصحابة التحقق مثلا من أن عدم تأبير النخل لا يمنعه من ‏الإثمار؟ بل لقد حدث هذا فعلا، وقام الصحابة بتجربة ما قاله الرسول ‏فى هذا الشأن فترتب عليه أن النخيل لم يثمر ذلك العام، فراجعوه عليه ‏السلام، فما كان منه سوى أن قال بكل بساطة وتواضع ونزول على ‏مقتضى الحق والواقع: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، ولم يقل لهم فى غضب: ‏كيف تراجعوننى فى أمر أخبرتكم فيه برأيى؟ ففى الحديث "أنَّ النبيَّ ‏صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مرَّ بقومٍ يُلقِّحون، فقال: لو لم تفعلوا لصلَح. قال: ‏فخرج شِيصًا. فمرَّ بهم فقال: ما لنخلِكم؟ قالوا: قلتَ كذا وكذا. ‏قال:‏‎ ‎أنتم‎ ‎أعلمُ‎ ‎بأمرِ دنياكم". ثم لقد أوجب الرسول على ا لعائن أن ‏يغتسل ويعطى لمن أصابته عيناه ماء الغسل ليستحم به فيبرأ من ‏إصابته. فهل إذا أصابت عيانه الشريرتان عين أخيه المسلم فطارت مثلا ‏وصار أعور، هل يعيد الماء العين التى طارت إلى موضعها سليمة كأن ‏شيئا لم يكن؟ وهل إذا انكسرت ساق المعين سيعيدها الماء الذى نصبّه ‏عليها صحيحة كما كان حالها قبل الكسر بحيث يجرى صاحبها ‏كالرهوان مثلما كان يفعل قبل الإصابة؟ وهل إذا أصابت العين الشريرة ‏نجفة أو سيارة فدمرتها تدميرا هل يعيد ماءُ الغُسْل النجفة أو السيارة ‏إلى سابق عهدها؟ وماذا لو أن العائن كانت عينه من قوة الفولت بحيث ‏تهدم عمارة كاملة؟ هل إذا أتينا بهذا العائن وحممناه وأخذنا ماء ‏استحمامه ورششناه على أنقاض العمارة هل ستقوم العمارة وتنتصب ‏فى الفضاء وتعود كما كانت، ويعود الناس الذى انطمروا وماتوا تحت ‏أنقاضها إلى الحياة كرة أخرى قبل يوم القيامة؟ يقينا لتكونن هذه معجزة ‏المعجزات ويظل العالم بمؤمنيه ومشركيه وملحديه ومتشككيه يتحدثون ‏بها إلى يوم يبعثون. أرجو أن نحكم عقولنا قليلا، فديننا هو دين تحكيم ‏العقول! ‏