النظام السياسي الدولي
الدكتور عادل عامر
أولا ـ العلاقات الدولية ودراساتها.
الدراسة العقلانية للعلاقات الدولية تظهر الإشكالية المنهجية العامة التي يعرفها”علم السياسة” في كليته أو في مجمله. حيث طرائقه أو مناهجه هي انتقائية اختيارية، تعددية و فيها غموض و إبهام.

ـ انتقائية اختيارية : لأنها تستعير من مختلف العلوم، التاريخ،القانون،الجغرافية،وحتى العلوم التجريبية.



ـ تعددية : لأنها متنوعة و على علاقة أو صلة بموضوع الدراسة و كأنها مراجع لها، لا بل ترتبط بالوسط الثقافي التي تنشأ عنه أو تولد فيه؛ ولها تحليلات متعددة مع نتائج متعددة، لها شمولية عالمية تختلط مع الإقليمي والمحلي.

ـ غامضة و مبهمة : لأن هذه التحليلات هي دائما خاضعة لمراجعة و لضمانات معينة، لا نستطيع دائما تقديمها، وقواعدها ليست دائما عقلانية كاملة؛ فهي تدمج أو تمزج بشكل افتراضي، القيم،المراجع الإيديولوجية؛ وهي تابعة دائما للموضوعية التي يحملها الملاحظ أو المراقب هذه الموضوعية هي بدورها خاضعة للمعرفة التي نمتلكها.



فما نستطيع البحث عنه ليس، لا التوقع، ولا بعض الدوافع القطعية الواضحة أو المخفية المختبئة. إنه فقط معقولية أو وضوح العلاقات الدولية بالنسبة لمقاربة معينة و معرفة.

1ـ النظرات الأولى للعلاقات الدولية.

النظرات الأولى هي بشكل كبير متعارضة. إذا هذه العلاقات تظهر وكأنها تتغلغل أكثر فأكثر في الحياة اليومية للأفراد و الجماعات، كما تشهد بذلك مصطلحات مثل العولمة، أو العالمية، فإن التعارض بين المجتمع الدولي و المجتمع الداخلي الذي نعيش فيه ليس بأقل حساسية من ذلك.

أـ الحضور المباشر للمجتمع الدولي.
نلاحظ هذا الحضور على مستوى الفرد والجماعية كما تأثيره في عملية نمو مستمر.
ففي الجانب الفردي والجانب الجماعي : التبادلات الدولية تدمج الأفراد و العلاقات الخاصة تصبح مكثفة، مثل السياحة،الهجرة،الانتقال والمرور، للأفكار والبضائع و الأشخاص، الصور،التكنولوجيا، كل هذا أصبح جزءا من حياتنا اليومية.



وعلى صعيد الجماعة، تأثير هذا المجتمع و العلاقات التي تجسده واضح جدا. حيث هناك قرارات كبرى للتوجهات الاقتصادية أو السياسية تِخذ ضمن نطاق عالمي، الكوارث و الصراعات الخارجية أصبحت تعرف من قبل الجميع، كل هذا يسجل ضمن الوعي الجماعي، ثم يحدث نقاشات و ردات فعل داخلية. باختصار، في الأفضل وفي الأسوأ، التعبير الشهير الذي هو ” القرية الكونية” الذي وضعه ( ماك لوهان) هو موجود، على الأقل في عقولنا.

في جانب النمو المستمر: هذا الحضور المباشر هو في الواقع ثمرة لتطور بعيد عن الوصول إلى نهايته، وهو مختلف وفق القارات كما هو وفق داخل البلدان، ويعود أيضا لأسباب ثقافية و مستوى في الحياة و المعيشة. ونريد القول هنا أن العلاقات بين الدول لا تستطيع اختصار العلاقات الدولية.



ب ـ التعارض بين المجتمع الدولي و المجتمع الداخلي.
هناك في الواقع خلاف في طبيعة كلا المجتمعين. المجتمع الداخلي بشكل عام هو متجانس، خاضع لقانون واحد، متماسك من خلال الانتماء المشترك، وهو في مكان يستطيع الإجابة على حاجات أعضائه. المجتمع الدولي هو أساس متغاير متباين، ومشكل من كيانات مستقلة أو من أعضاء هذه الكيانات. التغاير هنا له جذوره المختلفة و المتراكمة، جغرافية،تاريخية،ثقافية،سياسية،اقتصادية.

يمكن أن نرى بشكل واضح عملية “المجانسة” المتنامية لهذا المجتمع، بالارتباط مع تكثيف التبادل وتفوق نماذج معينة ثقافية أو سياسية. هذه الحركة من التقارب، والتي تقود إلى التعاون، تشكل وسطا أكثر تضامنية وقوة حيث في داخله الاتصال بين الأفراد، الشعوب والدول هو فوري وسريع.

ج ـ الدولة كحد مشترك بين المجتمعين.
في قلب هذه الاختلافات لا بد من إيجاد جسم سياسي والذي هو في نفس الوقت نطاق للتنظيم القانوني. ضمن هذا المعنى هو ينتمي للمجتمع الدولي بنفس الدرجة التي ينتمي بها إلى المجتمع الداخلي، إنه المفتاح و العنصر الأساسي المنظم. هو مكون من صفات متناقضة ووفق الزاوية التي نراه منها.

على الصعيد الداخلي: الدولة هي التعبير عن الجماعة التي تقوم هذه الدولة بتأطيرها. فهي الترجمة لمبدأ الهوية، ولكن أيضا أداة للهيمنة و لتحقيق السلام في نفس الوقت.احتكار العنف القانوني التي تمتلكه، وهو عند البعض تعريف لها، يسمح لها و يفرض عليها تأمين وضمان السلام الأهلي في القضاء الجغرافي التي تسيطر عليه الدولة.



الدولة هي المنتج بمبدأ الشرعية، مهما كان المحتوى، والمصدر لنظام قانوني يسمح لها بإقامة قوانينها الخاصة. و هذا ما نسميه السيادة الداخلية للدولة، قدرتها على الإدارة و الحكم الذاتي، احتكار الوضعية التي تمتلكها تجاه شعبها و إقليمها. وفي هذا المعنى أيضا، الدولة هي محيط لممارسة الحرية. إنها تبقى المحيط الأساسي والجوهري لتنظيم الحريات العامة، الفردية أو الجماعية.

الفاعل الفوري و المباشر: الدولة هي في علاقة مع دول أخرى، ضمن نطاق محدد من العلاقات. إذا هنا الدولة في مواجهة دول أخرى لها سيادتها. والسيادة الدولية في الواقع لديها صفات أخرى غير السيادة الداخلية.

هنا المجتمع العائد لعدة دول هو مجتمع لوجود مشترك بين الدول صاحبة السيادة. وتطور المنظمات الدولية، التقنيات المؤسساتية للتعاون بين الدول، لا تغير هذه المعطيات الأساسية.

العلاقات التي يتم وضعها أو ربطها ضمن نطاق “ما بين الدول” هي قائمة على قواعد القانون الدولي العام الذي يمتد أيضا لتنظيم التعايش المشترك بين الدول، وليس لتجاوز هذه القواعد. وإنها العلاقات بين الأشخاص القانونيين، تلك التي تربك بشكل مجسد وفعلي بين الأجهزة السياسية و الإدارية التي تتحدث أو تتصرف باسم دولها ذات السيادة.

ثانيا ـ النظرية و العلاقات الدولية.
اعتبار العلاقات الدولية بأنها علم اجتماعي ليس اختراعا أو إنتاجا من غير برهان. ليس فقط لأن العلاقات الدولية، على صورة علم السياسة، علم الاجتماع، العلوم الاقتصادية، تنتمي من جانب إلى عالم خطابات وأحاديث العلماء، و من جانب آخر، تنتمي إلى ممارسات وتطبيقات سياسية، والتي بشكل دائم تأتي في نفس الوقت لإغناء وإعاقة التحليل العلمي، كما الواقع الحالي و المعاصر، من سقوط جدار برلين إلى 11 سبتمبر 2001، هذا الواقع الذي يقود بدوره للاستفهام عن جميع النظريات الموجودة. وهنا يكون السؤال: إذا كل علم اجتماعي له موضوع للدراسة محدد و خطوة علمية معروفة، إلا أن العلاقات الدولية حتى الآن لم تستطع الحصول بالإجماع على هاتين الخطوتين ؟



فبالنسبة لتحديد موضوع الدراسة في العلاقات الدولية، فمصطلح “الدولية” international يطرح على هذه العلاقات وحده فقط مشاكل كبيرة وقاسية. ” فالدولية أو الدولي” هنا، هي صفة مشتقة من صفة

” national” : فكيف لا يتم إسقاط أو استنتاج ما يربط من علاقات بين الأمم، والدول، على العلاقات القائمة ” في داخل” أمة أو دولة معينة ؟

هذا الموقف و السؤال يتبناه كلا من ” Yale ferguson” و ” Richard Mansbach” من جامعة “ثاوث كارولينا”، اللذان لا يترددان وبعد معاينة لطبيعة الاشتقاق “الدولية” international للاستنتاج بعدم إمكانية وجود علم أو حقل للعلاقات الدولية مستقل أو كامل الاستقلالية. ففي كتابهما ( The Elusive Quest. Theory and International relations) ـ البحث “التحقيق” المحير، و نظرية العلاقات الدولية ـ يقول كلاهما :” المفهوم نفسه international لا يمكن أن يفهم إلا بمقارنته مع كل ما هو غير national أو interne. نفس الشيء بالنسبة لمصطلح transnational أو مصطلح inter state أو بالفرنسية interétatique ، ولا ننسى مصطلح آخر هو السياسة “الخارجية”. إذا هذا حقل أو مجال ،والذي مفاهيمه لا يمكن أن تعرف بشكل دقيق، لا يمكن الادعاء بأنه علم خاص و مستقل”.

طبعا هذا الموقف منهما يستحق المناقشة و المراجعة. فإذا أقمنا علاقة بين المرادفات أو المفردات أي بين الفعالية النظرية و المفهوم، بمعنى الخطوة النظرية تصبح كالعلوم الطبيعية، فإن ” Yale ferguson” و ” Richard Mansbach” ينسيان أنه يوجد على الأقل مفهومين هما نظرية في العلوم الاجتماعية و بالتالي في العلاقات الدولية. وعملية إيضاح لمفهوم النظرية يفرض إذا، ويلحق بتجربة لتحديد إيجابي لحقل أو مجال تغطيه العلاقات الدولية، هذه التوضيح المفهومي conceptuelle سيسمح بتبيين أن نظرية العلاقات الدولية ليس فقط موجودة، بل لها قوة في هذا الوجود.

في فرنسا مثلا، صفة international دخلت في عام 1801، ولكن تم التطرق لها من خلال الفيلسوف النفعي البريطاني ” جيرمي بونتام” ( من ” المدرسة النفعية” utilitarisme)، وذلك في مؤلفه ” Introduction to the principles of Morals and Legislation” ـ مدخل إلى مبادئ الأخلاق و التشريع ـ و المنشور في عام 1789.” بونتام” كتب أنه ووفق النوعية السياسية التي يحملها الأشخاص حيث القانون هو من يضبط عملية قيادتهم، لا بد من التمييز بين القانون الوطني و القانون الدولي. لقد كان أول من اعترف بهذا التمييز.



ثالثا ـ النظام السياسي الدولي.
ملاحظة : ( فيما يتعلق بتعريف هذا النظام و إطاره النظري يمكن العودة إلى الكتاب الذي بحوزتكم و الذي يحمل عنوان ” النظام السياسي الدولي، دراسة في الأصول النظرية والخصائص المعاصر”، للدكتور عبد القادر محمد فهمي).

بما أن النظام السياسي الدولي هو إنتاج لدخول العديد من المؤسسات في علاقات متشابكة و علاقات من المصالح، فإنه علينا وقبل معرفة طبيعة هذا المنتج، علينا العودة إلى الآلات و اليد العاملة التي تصنعه، فإذا عرفنا ماهيتها و استطعنا تحليلها، فسيهل علينا تحليل هذا المنتج ومعرفته بتفاصيله ودقائقه.

أولى هذه الآلات المنتجة لسلعة نسميها النظام الدولي هي “الدولة”، فالدولة هي أساس كل العمليات التي تجري على الساحة العالمية، هذه العمليات التي تنهي لتشكيل النظام الدولي بسلبياته وإيجابياته.

1ـ فما هي الدولة كمؤسسة دولية ؟
عندما نفكر بالدولة كمؤسسة دولية، هذا يعني أنها تشكل نظرة أخرى غير التي نعرفها عنها أي أنها تقوم بدور على الصعيد الداخلي. ولكن في الحالتين تربط الدولة أو تجمع بين صفات قانونية و أخرى ذات جوهر مادي.

ـ من الزاوية الداخلية: الدولة تعرّف بشكل أساسي بالنسبة لوضعها نفسه، أي كسلطة مطلقة ضمن نطاق من التنظيم العام لمجتمع معين متمركز فوق إقليم محدد. هنا بالمعنى القانوني أو “الصفات القانونية” هي بناء إرادي أو مصطنع، يرتكز على مفهوم السيادة. إنها تضم بنية عضوية، ارتباط مع إقليم و ناس خاضعين.

الكل هذا يعرّف ويوحد من خلال نظام قانوني خاص بهذه الكل. و بالمعنى المادي، هي جسم سياسي مجمع تحت سلطة مشتركة ضمن نطاق إقليمي محدد ومع سكان محددين. هوية هذا الجسم السياسي تعرّف من خلال نفسه ومن أجله نفسه، وذلك حول مبدأ من الشرعية و الذي يقود المحتوى و أشكال ونماذج ممارسة السيادة.

فالدولة هي المؤسسة السياسية الوحيدة المنظمة انطلاقا من هذا المبدأ من الشرعية، وهذا ما يمنحها طابعا وحيدا متفردا. فهي الوحيدة التي تستطيع الحصول على أفراد يموتون من أجلها و باسمها، من أجل الدفاع عن وجودها و مصالحها. إنها تمتلك حقا في الموت والحياة بالنسبة لمواطنيها. إنها في نفس الوقت من غير منافس ولا يساويها أحد ضمن من نسميه دائرة سيادتها.



ـ من الزاوية الدولية : الدولة لديها المنافس ولديها ما يعادلها أو يساويها. فعليها الوجود المشترك مع دول أخرى والتي بدورها تمثل نفس الصفات كما هي تماما. المجتمع الدولي ينتج بشكل جليّ من هذه التعددية. دولة ومجتمع دولي هما كائنان متعايشان متشاركان، بحيث أن الدولة هي القاعدة في التمييز بين الداخلي و الدولي. فالمجتمع و العلاقات الدولية لا يمكنهما الوجود ولا يمكن التفكير بهما من غير الدولة. هذه العلاقات تخضع لمبدأ قانوني من المساواة بين الدول، وهذا ما يعطي السيادة معنى آخر أو بعدا آخرا : فالسيادة هنا ليست سلطة مطلقة، كما هو حال الدولة من الزاوية الداخلية.

إن الدولة كمؤسسة دولية تشكل طابعا أصليا غير مسبوق. إنها أولى المؤسسات الدولية، بالمعنى التاريخي والمعنى التراتبي. فهي الأكثر غنى و الأكثر تعقيدا. لا يوجد مؤسسة أخرى تمتلك كما الدولة نفس الكمالية في الجدارة والأهلية، ولا يوجد مثل الدولة من يشكل نطاقا عاما لتنظيم الحياة الاجتماعية و للقيام بالوظائف التي تتحمل الدولة مسؤوليتها.

هذه الوظائف تتعلق باستقرار الدولة الخاص، هذا الاستقرار بدوره يشترط وجود المجتمع الدولي أو النظام الدولي بكليته، و من الاستقرار أيضا يأتي تنظيم وضبط الاتصالات والتبادلات والتي هي السكة الحديدة التي تسر عليها العلاقات الدولية.

إن نموذج الدولة حقق نتائج و نجاحات تاريخية كبيرة وهي لا تتوقف حتى اليوم. الدولة استطاعت التعايش وتبني مختلف الحالات الداخلية والدولية الأكثر تغيرا و اختلافا.لقد استطاعت و عرفت خلال قرون طويلة تطوير نفسها و إضافة أبعاد أحرى لها مثل الأبعاد الثقافية،السياسية و الاقتصادية والاجتماعية أيضا. وفي نفس الوقت حافظت على صفاتها الأصلية.

بالمقابل، يمكننا أن نلاحظ أيضا استمرارية الدور العالمي للدولة، و الذي يتطابق مع صفات و وظائف مشتركة. فصفة الاستمرارية و الديمومة هي تعريفات ممكنة للمؤسسة، أو ربما التعريف الأفضل من بين جميع التعريفات، لأن المؤسسة هي خلق إنساني وجد من أجل أن يستمر. ولكن أيضا من جهة أخرى، وجود الدول يمكن أن يكون متحركا.

فالتقلبات التاريخية التي يمر بها المجتمع الدولي تحدث تشكيل أو تكوين دول أخرى، أو التحول إلى دول أخرى،وأحيانا اختفاء دول بكاملها. إن استمرارية الدور العالمي للدولة يسير بشكل متناظر مع حياة أو موت الدول.

2ـ استمرارية الدور العالمي أو الدولي للدولة.
من خلال وجودها نفسه، الدولة تقوم بالعديد من الوظائف، في العادة هي موجهة لاستقرار المجتمع الدولي. هذه الوظائف مرتبطة بمكونات الدولة،الإقليمية، الإنسانية والسياسية. مع ذلك دور الدولة يبقى فيه الكثير من الغموض. ضعفها الداخلي، وعدم الاستقرار الذي يمكن أن تحدثه، أو عدم قرتها على القيام بمسؤولياتها، كل هذا يشكل قلقا موضوعيا للنظام الدولي. ( الصومال،لبنان،يوغسلافيا).

إذا الدولة فقط من خلال وجودها يمكن أن تقوم في المجتمع الدولي بدورين، إما تساعد على الاستقرار عندما تسير بشكل عادي، أو على الاضطراب عندما تتعرض لصعوبات لا تستطيع التخلص منها بوسائلها الخاصة. هذا الدور المزدوج يوجد و يتفكك وفق مختلف العناصر التي تشكله وتركبه ووفق حالته بناء على حالة عناصره. هذه المركبات الداخلية هي إلى درجة كبيرة لها وظائف دولية. فمع عنصر الإقليم، الدولة هي موزع أو مقسم لفضاء معين، ومع السكان هي التعبير عن مجموع، ومن خلال سلطتها السياسية، تنظم عمل الجماعة أو العمل الجماعي.

أولاـ الدولة كمقسم لفضاء أو مكان.
الفضاءات تأخذ دورها و معناها وفقا للدول. فالدول هي التي تعرّف وضعها وطريقة استعمالها. ولكن التحليل أو التمييز الأساسي يعارض الأماكن الخاضعة لسيادة الدولة أو ما نسميه الفضاء”الدولاتي” مع الأماكن “الغير دولاتية”.

1ـ ما هي الأماكن “الدولاتية” ؟
تتركب من مجموعة عناصر وفق وظيفتها. فالإقليم البري أو ” الأراضي البرية” انطلاقا منها يمكن تنظيم الأقاليم أو الأماكن الأخرى و التي هي البحري والجوي التابعان للدولة.
بالنسبة للأرض البرية : الدولة هي الطريقة الأكيدة في شغل المكان بشكل دائم،ثابت ومحدد. وهذا يختلف مع المجتمعات البدوية مثلا.

فالأرض البرية هي بامتياز تشكل سيادة الدولة. قوة هذا العنصر المادية متغيرة جدا وفق الحالات التي القائمة أو المجسدة ،و تشكل عنصرا هاما للاختلاف بين الدول.أيضا هذه القوة كانت موضوعا لتغيرات تاريخية أدت إما لفقدان أرض أو الحصول على أخرى.

قوة الفضاء البري على الصعيد القانوني: الإقليم البري للدولة خاضع للسيادة الكاملة لها حيث تمارس عليه موقعها كدولة. وعلى الصعيد المادي : قوة هذا الإقليم البري تضم الأنهار،البحيرات و الأرض..الخ.

أما بالنسبة للحدود البرية : فهي تفصل بين سيادتين من الأرض أو البر، لهما حدود و إقليم محدد. إنها فصل، ولكن إنها توحد أيضا: الحدود دائما شكلت هذه الصفة المزدوجة، أي أن تكون نقطة نهائية أو نقطة للعبور. و المفهوم المعاصر للحدود، هي خط متصل، محدد بالقانون وهو من الناحية المادية موجود على الأرض وفق تأشيرات أو علامات واضحة.

الفضاء الجوي : مشكلة الوضع الجوي لم تطرح بشكل واقعي مجسد إلا بعد التطور للطيران في القرن العشرين. في نهاية الحرب العالمية الأولى التي كانت فيها بدايات الطيران العسكري، تم الاعتراف بشكل عام بأن الفضاء الجوي الذي يقع فوق إقليم الدولة هو جزء من سيادتها. إذا مسألة الحدود العمودية ليست إلا منتجا للحدود البرية أو البحرية.المنفعة من الفضاء الجوي ترتكز على طريقة استعمالاته. فمعظم الحدود الجوية لها علاقة بالأرض، بمعنى آخر الاستخدام العسكري،التجاري أو غيره.
الأماكن البحرية.

يوجد إقليم بحري خاضع لسيادة الدولة، أو المياه الداخلية و المياه الإقليمية.
المياه الداخلية : تتبع بشكل تام وترتبط بقوة بالإقليم البري، كما هو حال الحدود الجوية.
المياه الإقليمية : تتبع أيضا لإقليم الدولة مع الاحتفاظ بحق المرور السلمي للسفن الخارجية، ومنها السفن الحربية.

المقصود بذلك، قانون للعبور أو النقل و ليس قانون للوقوف. هذه الحالة تترجم تسوية بين متطلبات الأمن للدولة التي لها شواطئ و حرية استخدام الإقليم البحري . في الواقع، المسألة الأمنية كانت السبب الأول وراء وجود الحدود البحرية، الهدف هو حماية الدولة من أي هجوم من البحر. طبعا اتساع الحدود البحرية مبدئيا تم تثبيته على 3 آلاف ميل بحري.

ملاحظة : ( بالنسبة للفضاءات غير “الدولاتية” سنتجاوزها بسبب الوقت المخصص للمحاضرة).
3ـ الجوانب القانونية/السياسية في موضوع الجنسية.
ـ يعود للدولة وحدها تحديد وبشكل سيادي ظروف الحصول على جنسيتها، هذه الجنسية التي هي علاقة من الخضوع. حيث بهذا الصدد يمكن للدولة أن تختار السياسة التي ترغب بها، أكثر أو أقل انفتاحا، ويتم هذا من خلال تشريعاتها الداخلية. ويعود لها أيضا شروط استقبال و إقامة من لا يحملون جنسيتها، وذلك باسم السيادة التي تمارسها على أراضيها. ولكن أهليتها السيادية يمكن أن تحد منها بعض القوانين أو التشريعات الدولية.

4 ـ السياسة الخارجية للدولة و سياقها أو صيرورتها.
نميز هنا السياق الداخلي عن السياق الدولي.

ـ على الصعيد الداخلي : الدولة تمتلك حرية تصرف كبيرة في العمل فيما يتعلق بسياساتها العامة، مع الأخذ بعين الاعتبار الرأي العام لشعبها وهذا في الدول الديمقراطية. السياسة الخارجية ليست بشكل كبير موضوع للنقاش العام وليس دائما موضوع للعبة الانتخابية. ولكن عندما تكون مصالح الدولة في خطر، تلجأ الكثير من المجموعات الداخلية للتدخل وتفرض ثقلا معينا يؤثر على القرارات المتعلقة بالدولة.

على الصعيد الدولي : المعطى المهم هو الشكل الذي فيه سياسة ما يتم فهمها أو إدراكها من قبل أولئك الذي ينظرون فيها أو يمارسونها.

5ـ الوضع القانوني الدولي للدولة.

الدولة ككيان قانوني دولي، يتم التعامل معها كمستقلة عن أي تمزقات أو انقسامات، حيث تجسد قالبا واحدا. بالإضافة للشخصية القانونية للدولة، هناك السيادة و المساواة حيث يلعبان بالنسبة للدول الأخرى أو يضمنان الحماية لاستقلاليتها ومشاركتها الفعالة في المجتمع الدولي.

أولاـ الشخصية : يقصد بها الشخصية المعنية للقانون الدولي و الذي يجب ألا تختلط مع الشخصية الداخلية للدولة. ومفهوم هذه الشخصية يوضح من خلال تحليل ثلاث مصطلحات قانونية و التي تعرفها.

1ـ الشخصية تعني أن الدولة هي كيان قانوني قبل لممارسة الحقوق والواجبات.
2ـ الطابع المعنوي للشخصية يشير إلى أن الدولة بناء قانوني مجرد، وهي مفهوم أيضا.
3ـ يقصد بالدولة كشخصية، أي أنها شخصية ضمن القانون الدولي، والتي تلد مع الدولة نفسها وتحتفظ بها طيلة وجودها.

أما وحدة الشخصية الدولية يتعارض في الواقع مع وضعها الداخلي. فعلى الصعيد الداخلي،وإلى جانب الشخصية الخاصة للدولة كمؤسسة مركزية، يوجد العديد من الشخصيات العامة،المؤسسات العامة،مجموعات لا مركزية، أو كيانات فيدرالية. يمكن تركها تمارس حاجاتها. بالمقابل، على الصعيد الدولي، لا يظهر إلا الدولة حيث الشخصية تبدو وكأنها تلف أو تغطي وتحتوي كل الشخصيات العامة الداخلية.

أما تحييد الشخصية الدولية للدولة يسمح للعديد من الشخصيات العامة في المشاركة من خلالها في الحياة الدولية، ثم قيادة اتصالاتهم الخاصة والوصول للعديد من الاتفاقيات.

ثانياـ السيادة.
هذا المفهوم هو من أكثر المفاهيم المتنازع والمجادل فيها في القانون الدولي. كما مفهوم الدولة نفسه.

وفي الواقع، وعلى الصعيد الدولي، هذه المنازعات هي في جزء منها تعود بفقه القانون الدولي: فطيف نصالح سيادة الدولة مع واجباتها الدولية؟

ألا يوجد هنا تناقض حيث لا نستطيع الخروج من هذه المشكلة من غير التضحية بالسيادة أو بالقانون الدولي؟ أما الجزء الثاني من المنازعات فيعود لأسباب سياسية: تعدد مصادر السيادة في الدول يقود إلى الفوضى و إلى العنف، ويصبح من المستحيل الوصول إلى علاج لمسالة مصالح الدولة ( الحالة العراقية الكردية الآن).

ما هي السيادة الدولية و السيادة الداخلية ؟
السيادة الداخلية: تعود أساسا إلى النظرية السياسية كما أنها تعود أيضا للقانون الدستوري الحديث. ففي المادة الثالثة مثلا من الدستور الفرنسي لعام 1958:” السيادة الوطنية تعود للشعب الذي يمارسها من خلال ممثليه أو عن طريق الاستفتاء”. فالسيادة هنا يمكن النظر إليها من خلال جوانب متعددة.

إنها بداية العنصر المكون للجماعة و الذي يحقق وحدتها،أيضا هي مبدأ شرعية السلطة وهي هنا مطلقة، ثم في النهاية توصف من خلال النماذج المتعددة للممارسة السياسية.

السيادة الدولية:
ليست مطلقة وإنما نسبية، حيث عليها أن تتركب مع سيادة أو سيادات أخرى معادلة لها.فالسيادة هنا ترتكز على التعددية، المساواة و الاستقلالية.

ما هو محتوى السيادة الدولية ؟
يمكن أن نجمع الأجزاء التي تتركب منها حول مفهومي : الاستقلالية،و تمامية أو كمالية أهليتها أو جدارتها الدولية.

ـ الاستقلالية، تتطابق مع الجانب الحمائي للسيادة. أي حماية السيادة. وهذه هي المقاربة الدولية للسيادة الداخلية. على هذا الصعيد ، الدولة تمتلك ” الجدارة أو الأهلية” وهي حق مطلق لها. القانون الدولي يضم قواعد عامة تجبر على احترام هذه الاستقلالية.

ـ الكمالية في الأهلية الدولية، وتضم عدة جوانب. إنها تعني بداية أن الدولة تجد مقام أهليتها أو جدارتها الدولية التي تمارس في سيادتها، وهي ليس بحاجة لقدرات أو جدارة خاصة كي تمتلك هذه السيادة. أيضا،في ممارستها الواقعية هي تتجزأ إلى عناصر مختلفة يعرّفها التحليل القانوني.

ثالثاـ المساواة
يطبق هذا المفهوم على الدولة، باعتبارها كيانات قانونية مستقلة. حيث تمتلك الدولة نفس القدرة في الحقوق والواجبات ضمن القانون الدولي.

أبعاد التعاون الدولي

أولا ـ العلاقات بين الدول.



مدخل:
التعاون يفترض فعلا مشتركا، وشراكة منتظمة بين شركاء مستقلين، كل منهم يتفاعل أو يتصرف من أجل مصالحه ولكن ضمن عمليات محدودة. التعاون يختلف عن الاندماج الذي يسعى لتوحيد الشركاء من خلال خضوعهم لغايات مشتركة.

في التعاون، نحن نتعاون من خلال أن كل جانب يحتفظ بأهدافه و مصالحه الشخصية، ولكن التعاون مع أطراف أخرى يؤدي إلى تناغم للمصالح مع الآخرين. في الواقع هذا هو الشكل العادي للعلاقات الدولية، هذه العلاقات التي تتأطر وتخضع لشكل من العلاقات بين الدول.

الاندماج يفترض عكس ذلك، مع الوقت يصبح هناك تقارب يغير في الشراكة و الشركاء أنفسهم، و الذي يأملون قيام شكل جديد للتجمع أو الوصل إلى شكل واحد مندمج، من الممكن أن يتم التخلي في هذا الشكل الجديد عن سيادة الدولة. أما في التعاون فهناك ارتباط عام للدول بسيادتها. إن التعاون هو الحد الأدنى للعلاقات بين الدول. ولكن هذا الحد الأدنى يؤكد أيضا دور القوة، قوة الدولة.

فهل هي متماسكة فيما يتعلق بوحدتها الداخلية أم لا. لأنه ضمن هذا المعنى للتماسك تظهر حدود الدولة على الصعيد الدولي. أما على الصعيد الداخلي للدولة نفسها، القوة يجب أن توجد بشكل كاف حتى تسيطر الدولة على نفسها. فالعديد من المفاهيم مثل : سيادة الدولة، مبدأ الشرعية،تنظيم واستقلال السلطات، دولة القانون هي تظهر بشكل مختلف من دولة إلى أخرى ولكنها لا بد أن تكون موجودة بشكل متناظر في الدول التي تريد تحقيق التعاون فيما بينها.

التعاون بين الدول ؟
إنه يشكل الرحم الذي يخرج منه كل نماذج التعاون الدولي وأشكاله. مضمونه و أشكاله تعتمد تطور العلاقات الدولية نفسها. ولكن هذا التطور ليس مرتبطا دائما باعتبارات عقلانية أو موضوعية. بمعنى آخر،لا يكفي أن تكون مشكله كبيرة أو هامة حتى تستدعي حلولا دولية. على العكس من ذلك، مشكلة ما لا توجد على الصعيد الدولي إلا ضمن مقاييس محددة حيث بنية التعاون بين الدول في المجتمع الدولي تسمح بطرحها.

هذا الأخذ بالحسبان لمشكلة ما على صعيد دولي يؤدي على أن القضايا الكبرى ذات الأهمية تصبح قضايا إجرائية، إذا هنا كيف سيتم التعاون من أجلها ؟الإجراءات ليس حيادية. فاختيارها يعكس إمكانية التصرف وفق إطار ومعطيات معينة. وهذا يتبع أيضا مستوى وطبيعة علاقات القوة القائمة. وحتى نلخص هذا التحولات المتعاقبة في قضية ما، نستطيع القول أن القضايا الكبيرة تصبح قضايا إجرائية، والقضايا الإجرائية تصبح قضايا تتعلق بالقوة.

عمليا، أية مشكلة ستأخذ بعين الاعتبار دوليا يجب أن تكون محط اهتمام من قبل الدول أو تمس مصالحها وأهدافها، وبالطبع علاقات القوة القائمة بين هذه الدول. علاقات القوة هذه بين الدول هي التي تحدد أولا التراتبية بين الدول التي بدورها تشكل الإطار العام للتعاون بين الدول، نموذج وطريقة توسيعه.

فما هي إذا هذه التراتبية بين الدول ؟
مبدئيا يمكن القول أن لكل دول الحق في أن تصبح قوية و ذات قدرات كبيرة. هذه هو المنطق الليبرالي.هذا المنطق عمليا ليس متناقضا في داخله إذا اشترط التساوي في السيادة ووضع بحماية القانون.إنه يسمح بترتيب الدول على قاعدة من المعايير التي تحدد قدرتها، وفي نفس الوقت أشكال قوتها التي تظهر فيها والتي تدير أو تحكم علاقاتها.

في عملية الترتيب للدول، نميز أو نفرق بين القوى التالية : القوى العالمية،القوى الكبرى،القوى الإقليمية والقوى الصغيرة.

1ـ معايير التصنيف.
علينا القول هنا أن أي تصنيف هو مصطنع قابل للتغيير كما أنه نسبي. فالترتيب أو التصنيف يقودنا لوضع وفي فئة واحدة مجموعة من الكيانات أو الأوضاع والتي في كل واحدة منها متفردة (السعودية وفنزويلا). إن قيمة تصنيف معين لا يمكن أن تكون أعلى من المعايير نفسها التي تحددها والتي من خلالها تأخذ معناها. للوهلة الأولى، المعايير الديناميكية هي الأكثر جذبا لأنها تتطابق مع المعيار التي عليها شرحه وتبيينه. ضمن هذا المعيار “الديناميكي”، هناك نموذجان للتصنيف : الأول، القوى الصاعدة في مواجهة القوة المنحدرة أو في حالة انحطاط. الثاني، القوى الساكنة في مواجه القوى المتحركة أو غي الساكنة.

في النموذج الأول، ( قوى صاعدة وأخرى هابطة)، ديناميكية القوة هي التي تدفعنا هنا للتصنيف والترتيب، وهذا عمليا، عنصر متماسك في تصنيف الدول.

ضمن ديناميكية القوة هذه نتحدث عن دول كبيرة وأخرى صغيرة، و القوة على النمو والتطور، ثم النمو السريع على كافة الأصعدة. إن هذا المعيار هو من أهم المعايير التي تحدد الوضع المستقبلي للدولة.

في النموذج الثاني ( قوى ساكنة وأخرى متحركة)،فإنه يرتكز على توجه أو توجيه القوة. ثم يرتبط بمواقف الدول من النظام القائم. وبينما الأولى ( الساكنة) في حالة رضا، فإن الثانية (المتحركة) تأمل في تغيير نفسها و ظروفها التي تعتبرها أنها لا تلبي مصالحها وأهدافها التي ترغب في تحقيقها.

2ـ القوى العالمية :
وهي معروفة في وسائل الإعلام تحت اسم “القوى العظمى”.يقصد بها الدول التي لها قدرة كبيرة ومصالح شاملة في شتى أنحاء العالم، لا يمكن حل أية قضية دولية من غير الرجوع أو من غير موافقتها.

بالنسبة لمعيار القدرة : عليها أن تكون في وضع يسمح لها بفرض ثقلها في جميع الظروف والحالات الدولية”الاقتصادية،العسكرية،الدبلوماسية،الثقافية و الإيديولوجية، مدعومة بمساحتها الكبيرة وعدد سكانها الضخم، ثم استقرار وضعها الاجتماعي و السياسي. لا تتحمل مسؤولية وضعها الداخلي فقط وبكل أبعاده بل لديها القدرة على المساعدة في دول أخرى. وبالنسبة للمعيار السياسي: يجب أن تكون لديها نظرة منتظمة للنظام الدولي، ثم سلوكها و تصرفاتها يجب أن تتجاوز المصالح الشخصية.

3ـ القوى الكبرى:
هذا التعبير والحقيقة التي يعطيها أصبح في غاية التعقيد.فالهجمة الجديدة للقوى العالمية يجعل من أهمية القوى الكبرى أهمية نسبية من غير أن يجعلها تختفي. بالنسبة لتركيبها : يجب التوقف قليلا حول المصطلح. فنحن نتحدث دائما عن “القوى المتوسطة” حتى ندرك اختلافها وتأخرها عن القوى العالمية. القوى الكبرى هي أقل قوة و قدرة من القوى العالمية. فتأثيرها ليس على مستوى القارات، وهي لا تستطيع أن تكون حاضرة في حل جميع القضايا الدولية العالقة. ( فرنسا نموذجا).

4ـ القوى الإقليمية :
المصطلح يشير إلى مناخ من التأثير على فضاء محدد ومعين،ومؤسس على منطق من التجاور و القرب الجغرافي. ( الصين والهند، باكستان،إسرائيل،مصر، الأرجنتين).

وعمليا القوى الإقليمية تختلف في قوتها وموقعها الإقليمي وفق أشياء متعددة منها : الجغرافية،التاريخ،الثقافة والسياسة.

هذه القوة الإقليمية تطمح لتصبح قوى كبرى، ولكنها تفتقر للعديد من المقومات الجوهرية وأهمها الازدهار الاقتصادي والتصنيع، وأحيانا القدر على امتلاك قوى عسكرية يمكن استخدامها خارج الحدود، أو دولة مستقرة وقوية بشكل كاف. هذه القوى الإقليمية تمارس تأثيرا مسبقا على قضايا إقليمية لا يمكن حلها إلا بمشاركتها، مصر و إسرائيل،الهند وباكستان، الأرجنتين والبرازيل. وهي بهذه الحالة يكون أمامها مجموعة من الخيارات:

ـ دور إيجابي يساهم في الاستقرار. ينسجم مع مصالحها لأنها لا تستطيع النمو و التطور إلا من خلال محيط مسالم ومستقر. ـ يمكن أن تحاول الظهور والتغاير بسبب طموحها بممارسة هيمنة لا تقتسمها مع الآخرين، وهذه المحاولات في العادة ينتج عنها عدم الاستقرار الإقليمي والنزعات المتعددة.

ـ نرى في العديد من الأحيان وضمن نفس الإقليم قوى متنافسة بل متصارعة. تدخل القوى الكبرى فيما بينها يمكن أن يؤدي لإضعاف بعض الأطراف لحساب أطراف أخرى، أو تدخل يضعف جميع الأطراف.

5ـ القوى الصغيرة:
هذه الفئة تضم العديد من الدول. لديها مشاكل مشتركة يمكن حلها بطرق مختلفة. ولكن لها مكانة خاصة ويمكن أن نسمي هذه الدول في بعض الحالات ” الميكروـ دول”( وهي كيانات مستقلة تمتلك شكل ووضع الدولة مع جغرافية ضيقة جدا، وعدد سكان محدود ووسائل للوجود قليلة الاستقلالية). هذه الدول لها هواجس تتعلق بالأمن، وضعها الإقليمي،الجغرافي والسكاني، ثم ضعفها العسكرية، وهي في الغالب دول تابع لدول أخرى في معظم شؤونها.( سويسرا، فنلندا).

هذا بالنسبة لتصنيف الدول أو ترتيبها. أما بالنسبة لهيئتها أو الشكل الذي تظهر فيه يمكننا أيضا تقسيمها إلى أشكال أخرى. هذه الأشكال يمكن أن نضعها تحت عنوان عريض نسميه “بعلاقات القوة”.

1ـ القوة المهيمنة.
إن نماذج الهيمنة يمكن أن تكون مختلفة جدا.فالقوة المهيمنة تمتلك قدرات للتحرك و التصرف في مجال واسع جدا هو أكبر من المجتمع الدولي نفسه. عليها الحفاظ على السلام أو التدخل بشكل قاطع في الصراعات. القوة المهيمنة هي قوة ليس لها شركاء تتعامل معهم على قدم المساواة بل إما أعداء أو زبائن.هيمنتها يجب أن يكون معترف بها أو مقبول، أو على الأقل يأخذ الآخرون لها عدة حسابات.

ولكن هذه المسؤوليات الكبيرة تدين هذه القوة المهيمنة. فالتفرد هو عبء أكثر منه امتياز.وهذه المهمات تقود لزيادة الثقل على هذه الدولة وتنقص الكثير من وسائلها. ولكن بالمقابل عليها التوسع والتمدد من أجل الحفاظ على هيمنتها. بمعنى آخر الهيمنة و السيطرة هنا لا تعني الوحدة.ولكن التبدلات والتقلبات في العالم الخارجي تمتص وتنهك طموحاتها وتضعف من قدراتها.

نأخذ هنا مثالين حتى تتوضح الصورة بشكل أفضل : بريطانيا ثم الولايات المتحدة هما مثالان متعارضان لهذا الظهور للقوة المهيمنة، وحتى لو الولايات المتحدة أخذت بالتوسع على حساب الإرث التاريخي لبريطانيا، مجسدة استمرار وديمومة الهيمنة الأنكلو ـ سكسونية، إلا أنها أي الولايات المتحدة أسست سيطرتها على قواعد مختلفة وبطرق أخرى.

بريطانيا وصلت إلى قوى عظمى وقوت إقليمية مهيمنة بأعلى تعبير يمكن أن نستخدمه بهذا الصدد،سيطرت على البحار وعلى كل المنافذ التجارية العالمية. لقد فرضت نفسها (كقوة إمبريالية عالمية و قوة قارية) في أوربا. الثانية سمحت بالأولى، وذلك من خلال تحييد أو إضعاف المنافسين الذين يمكن لهم منافستها ولاسيما فرنسا.

صدرت سكانها إلى الأقاليم البعيدة التي تسيطر عليها. لم تدخل في الصراعات إلا بحذر كبير، وكان لها إدارة فعالة للاقتصاد خارج أرضها.

الولايات المتحدة، فرضت نفسها بشكل كبير بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. هيمنتها نصفها “بالهيمنة العظمى” وفي أعلى مراحلها. أنها ترتكز على وحدة أو تجانس غير إقليمي، على السيطرة السياسية،العسكرية و دور الدولار الكبير، القدرة على التجدد التكنولوجي، ولكن أيضا قوة الثقافة وديناميكية المجتمع المدني.

على الصعيد العالمي تبحث الولايات المتحدة لإحداث توازن بين مختلف الشركاء، مطبقة طرق مختلفة عن بريطانيا العظمة سابقا ،عبر (الهيمنة القارية والتوازن العالمي). في نفس الوقت هي تتدخل بشكل مباشر ، ومن خلال شبكة من التحالفات،و قدرة في إقامتها و إدارتها،ثم قدرة على التدخل العسكري،وإرادة سحق الخصم باستخدام وسائل مختلفة. المجتمع المدني الأمريكي يشارك أيضا في هذه الهيمنة. من خلال ممارسة للحرية،الازدهار والحداثة. بلد جديد لا يصدر سكانه بل يستورد السكان من مختلف جهات العالم.

2ـ نموذج القوتان المهيمنتان.
في السابق عاش العالم طويلا مع هذا النموذج أيام ( الاتحاد السوفييتي/الولايات المتحدة).وقد تخلل هذا النموذج الكثير من النزعات والتسويات،المؤامرات ..الخ.

3ـ نموذج القوى الثلاثة.
في الواقع هذا النموذج عرفه العالم في السنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية. وقد تكون من الديمقراطيات في أوربا الغربية ( فرنسا وبريطانيا وأتباعها) و ديكتاتوريات أوربا الوسطى( إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية وأتباعها). هذه الأطراف كانت في حالة عداء.

4ـ ” البونتارشي”. أو التحالف الخماسي.
هذا التعبير هو من أصل يوناني، يشير إلى ممارسة السيطرة من قبل خمسة قوى. من بين الأمثلة على هذا النموذج نأخذ :

أولا ـ المحيط الأوربي في القرن التاسع عشر. النمسا ثم النمسا ـ هنغاريا، فرنسا، بروسيا ثم ألمانيا، بريطانيا وروسيا. كانت هذه القوى تسيطر على أوربا وتوافقها كان ضروريا من أجل تنظيم الحياة في هذه القارة، ولكن هذا لا يعني غياب الصراع والتنافس فيما بينها.

الثاني ـ في عالمنا اليوم هناك ” بونتارشي” قانونية تتواجد في قلب الأمم المتحدة وهي مجلس الأمن الدولي المكون من خمسة أعضاء دائمين. وهي تشبه المثال السابق من حيث انتظام العالم وفقا للتناغم فيما بينها، رغم أن الكثير من الصراع يتخلل هذا التناغم. يمكننا أيضا تخيل “بونتارشي” آخر من الممكن حصوله وهو ( أمريكا الشمالية،أوربا الغربية،روسيا،اليابان والصين).

5ـ نموذج التعددية القطبية.
علينا في البادية التمييز بين معناها القانوني و معناها السياسي. قانونيا : التعددية القطبية هي حالة القانون المشترك، والذي يتطابق أو يتوافق مع المساواة في السيادة بين الدول ومع قدرتها القانونية،مشاركتها في المنظمات الدولية وفي المفاوضات التي تجري هنا وهناك في العالم. سياسيا :بسبب التعدد الكبير والاختلاف بين الدول، وجود الأقطاب المتعددة والمستقلة يقود إلى عدم الانتظام، وعلى عدم إمكانية تعريف ووضع قواعد مشتركة وإدارتها للعلاقات الدولية.

بالمقابل يمكننا تخيل النموذج الإيجابي للتعددية القطبية.إنها تفترض مجموعة من أشكال التنظيم، والتي يمكنها الانتشار وفق مخطط إقليمي. ( أوربا مثلا).

إن عقلنة التعددية القطبية تتطلب تمييزا بين مخطط إقليمي و آخر عالمي والعديد من تنظيم الأمور بينهما. ثم يمكن قيامها من خلال المنظمات الدولية والإقليمية والتي يمكن أن تعطيه نطاق أو محيطا مستقرا.