لم يخرج المشهد التشريعي في الجزائر و لا مرة واحدة من دائرة الصراعات و الإنشقاقات بين النواب، و في ظل هذه الصراعات غيبت إرادة الشعب في التعبير عن صوته و حقه في المشاركة، و هذا لأن البرلمان ظل حكرا على جماعة معينة، تُسَوِّقُ ما تريده و ما يخدم مصالحها، دون احترام رأي المعارضة أو استشارتها، أو تمرير قوانين دون مناقشتها في الأطر الديمقراطية، ما جعل المجلس الشعبي الوطني يفقد حيويته و شرعيته في كل دوراته، الأزمة ازدادت حدتها بفعل حالة المد و الجزر التي تعرفها الساحة السياسية و اقتراب المواعيد الانتخابية
ما يحدث الآن داخل الغرفة السفلى للمجلس الشعبي الوطني أثار ضجة كبيرة على كل المستويات، إذ لم يعد الحديث داخل الغرفة السفلى للمجلس الشعبي الوطني إلا عن الإطاحة برئيسها المجاهد السعيد بوحجة، و إبعاده عن الساحة السياسية، بأمر من القيادة الحزبية التي اعتادت التخلي عن قادتها، و هي التي اختارتهم لهذه المسؤولية، لا يهم إن كانت المسألة هنا تتعلق بالتعيين أو الانتخاب، طالما الأغلبية اختارت السعيد بوحجة لترأس المجلس، لما يتمتع به من حنكة سياسية، و هو المحسوب على رجال الثورة التحريرية، طبعا هي "حرب" من أجل التموقع، تحضيرا للاستحقاقات القادمة و في مقدمتها الإنتخابات الرئاسية في أفريل 2019، ما جعل المؤسسة التشريعية في الجزائر موضع سخرية أمام الرأي العام و عبر مواقع التواصل الإجتماعي، خاصة و أن الصراع الذي تابعته وسائل إعلام عربية، الممثل الرئيسي فيه هو حزب جبهة التحرير الوطني، بدليل أن الأحزاب الأخرى ( المعارضة) تبرأت مما يحدث داخل قبة البرلمان و قالت أن الصراع داخلي، و أنه لا يوجد أي خلاف بينها و بين السعيد بوحجة، كما أنه لا يوجد نص قانوني يسمح بتنحية رئيس المجلس من منصبه، ثم أن مبادرة سحب الثقة منه جاءت بدعوة من الحزب العتيد.
الأزمة داخل البرلمان قديمة ، بل تمتد جذورها إلى العهدات السابقة، يمكن القول أنها تعود إلى أيام رابح بيطاط، يوم تم الضغط عليه لتقديم استقالته، و استبداله بعبد العزيز بلخادم، الذي ظل يترأس المجلس إلى حين تم حله في 1992 ، و تشكل قضية سحب الثقة من القيادي في الحزب العتيد السعيد بوحجة من منصبه كرئيس للغرفة السفلى للبرلمان لغزا كبيرا، كون الرجل كان و لا يزال من الموالين لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، و عرف بانتمائه للحركة التصحيحية، التي قادت الإنقلاب على الأمين العام الأسبق لحزب جبهة التحرير الوطني علي بن فليس في انتخابات 2004 ، كما يتمتع بتجربة كبيرة في نجال تسيير المجالس، بحكم عضويته السابقة في المجلس الشعبي الوطني الذي شغل فيه منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان، كما أنه كان ناطقا رسميا لحزب جبهة التحرير الوطني من طرف الأمين العام السابق عبد العزيز بلخادم، قبل أن تتم تنحيته من طرف عمار سعداني، لكن بوحجة و هو يترأس البرلمان تجرد من القبعة الحزبية ، عندما قرر فتح ملفات، و بات وشيكا أن تكشف بعض الأمور التي كان يجهلها الشعب، أمام الملأ، ما جعل ولد عباس يغضب منه، كل هذه الأمور تركت آثارا سيئة على الأداء النيابي، حيث تحول فيها المجلس الشعبي الوطني من غرفة تسجيل (للأسئلة الشفهية و الكتابية و الإجابة عليها) إلى تدجين، و ذلك لغياب المصداقية و الموضوعية في طرح القضايا، و لم يعد للأقلية خارج التحالف الحق في فرض موقفها، و كل من يدعو إلى التغيير و التجديد فمصيره الإقصاء.
أغلب من تابعوا الأحداث يرون أن الأزمة داخل المجلس ذهبت نحو الانسداد، بحيث عطلت كثير من الملفات و المشاريع، و باتت أبواب التغيير موصدة، و مقفلة بسلاسل من حديد، و قد تستغل الهيئة لتنفيذية هذا الوضع لكسب نقاط إلى صفها ، فيما ذهب آخرون بالقول أن الأزمة داخل البرلمان مفتعلة، و أن الذين أخاطوها في محاولة منهم تدجين البرلمان، لهم غاية مبيتة لتحقيق أجندات، الهدف منها تغييب كلي للمشروع الوطني، و الضحية الأول هو المواطن الذي تمكنه اليأس، فالمواطن ينتظر من نوابه أن يرفعوا مشاكله أمام الحكومة، و ليس ما يجري بين بوحجة و ولد عباس من صراع، و هو في الحقيقة صراعا جهويا، كل طرف يريد أن يغلب مصلحته، و من له الحق في تسيير أمور الحزب و البلاد معا، تشير بعض المؤشرات أن سيناريو العزل قد يطال السعيد بوحجة، كما طال من سبقوه ، ليس من رئاسته للمجلس الشعبي الوطني فحسب ، و إنما من عضويته كقائد في الحزب العتيد، و ليس مستبعدا أن يتخذ جمال ولد عباس ضده هذا القرار ، لأن من يخرج عن حظيرة الولاء مآله العزل، إذا لم يقف مناضلي حزب جبهة التحرير الوطني و منظماته وقفة تضامن معه لنصرته.
السؤال الذي وجب أن يطرح اليوم هو: هل في الجزائر برلمان؟ و إن كانت الإجابة بالإيجاب، فالسؤال يعاد طرحه بالصيغة التالية: ماذا بقي من البرلمان، و هل الجزائر قادرة على أن تنتهج مستقبلا النظام البرلماني، تكون فيه الرقابة هي السيدة كما في الدول المتقدمة؟ و السؤال يطرح بصيغة أخرى، في أيّ خانة نصنف المنظومة التشريعية في الجزائر، و كيف يعمل الجهاز التشريعي في الجزائر؟ إذا قورن بالأجهزة الأخرى في الدول المتقدمة، أم أن الجزائر ستظل حبيسة فكرة العالم الثالث؟ ، في ظل ما تشهده الساحة من حراك سياسي و سلسلة التغيرات التي يجريها رئيس الجمهورية في سلك الولاة و القطاع العسكري ، ما يجعل البرلمان أمام تحديات كبيرة، لكي يستعيد موقعه بالقضاء على الصراعات الداخلية، و إن تمكن من تجاوزها يكون قد حقق معجزة، في نشر ثقافة الحوار و التعاون بين النواب مهما اختلفت أفكارهم و توجهاتهم السياسية، و وضع برنامج مشترك يخدم مصلحة البلاد و العباد، و من ثم ممارسة وظيفته الرقابية على أحسن وجه.
علجية عيش