أصدر المبدع رضا نازه مجموعته "صف وصفوة" بعد عمله الأول الذي يحمل عنوان "الذمة المعكوسة" ويشتمل على ست وعشرين نصا على مساحة 177 صفحة.
المسألة العظمى، وسؤال الحداثة:
يعتبر النص الأول في مجموعة "صف وصفوف"، والذي يحمل العنوان التالي "المسألة العظمى" مفتاحا مهما لفهم رؤية الكاتب، وموقفه من بعض الظواهر الطارئة على حياتنا، والمثيرة للكثير من الجدل، بالإضافة إلى النص الذي منح العمل اسمه. مفتاح يبين تحليل القاص لمسألة الجنس التي يعده البعض، من خلال ممثلهم الأسمى المحاضرة بلغامي صاحبة رواية "عرس همجي"، أهم مدخل للحداثة، فضلا عن العتبات التي احتفت بالبعد الثقافي العربي الإسلامي فقط، فلا وجود، بتاتا، لأي مقتطف أجنبي، كيفما كان نوعه، وهو احتفاء يرتبط بالجانب الأخلاقي فيه، ويدعمه.
نص يطرح التساؤلات التالية، وغيرها، من مثل:
هل الجنس ضرورة وجودية، وطاقة ينبغي أن تفرغ، ورغبة لابد لها أن تشبع أم مرحلة أساسية من مراحل بناء الحداثة في الوطن العربي أم هو تبعية وإرضاء للسيد المتعالي الذي يفتح أبواب مراكزه لتمرير خططه البعيدة كل البعد عن بناء المجتمع القوي بناء صحيحا وسديدا؟ التلميح في النص إلى أن عرض الباحثة والروائية بمركز مغربي كبير يفترض فيه الاهتمام بالثقافة العربية بعامة، والمغربية بخاصة، وتركيبة الحضور، يخبرنا بموقف السارد من أبعاد المحاضرة، حيث قام ببترها معتمدا كلمة تدل على الحذف، وهي: إلخ، أكثر من مرة، مما يعني إعفاء القارئ من ثقل كلام هو في غنى عنه، ولأنه مجرد تكرير لأقوال سابقة لفلاسفة غربيين، ورجع صدى لها من دون تمحيص ولا نقد؛ بل إنه كان وراء تسريع تحقق الرغبة، وبذلك قام بتعرية أهداف المحاضرة والحضور. ففعل التعرية قصد به أمران: التفسخ الذي يراد بلوغه، وتعرية الهدف من وراء القصد. هكذا، نجد كلمة تعرية ذات مرام مختلفة باختلاف زاوية الناظر ؛ فهي حرية الجسد بالنسبة للمحاضرة والحضور؛ وهي تفسخ ومادية مقيتة، واستعباد للجسد، من منظور السارد؛ إضافة إلى أنها حداثة معطوبة، اهتمت بالقشور ونسيت الجوهر الإنساني فيها.
العتبات:
ونحن نتصفح مجموعة المبدع، رضا نازه، والتي تحمل العنوان التالي: "صف وصفوة"، ذات الصرخة الناقدة للخراب والدمار، ولكل ما يهدد انسجام الإنسان مع نفسه والآخرين، بفعل سيادة الأنانية واحتقار الذات بفعل الشعور بالنقص أمام الأجنبي، والاستلاب الناجم عن المسلسلات التركية التي تمنح المشاهد حبات مسكنة تبعده عن التفكير في شرطه الاجتماعي والديني، لاحظنا الأمر التالي:
احتفاء المجموعة بالنص الموازي، ونقصد به العتبات، ولا نقصد كل العتبات، بل نشير، فقط، إلى تلك التي تسبق كل نص على حدة، حتى صارت ملتصقة به، تشكل بابه الخاص، لا يمكن بلوغ النص إلا عبر المرور بها؛ فقد لاحظنا أن هذا النص الموازي يستغرق المجموعة بالكامل، يتصدرها، ويحف بنصوصها، ولعل الاستدعاء قد حكمته جملة شروط، إذ التوظيف ليس مجانيا، ولا يمكن أن يكون حلية.
والواضح من قراءتنا، أن المجموعة لم تهدف من وراء العتبات سوى تقوية الدلالة، وتدعيم الجانب الفني والجمالي، لكون تلك العتبات قواسم مشتركة بين المبدع والقارئ، فهذا الأخير، يستنشق حضورها، فهي جزء من بنيته المعرفية، وتشكل خلفيته، وزاده المعرفي.
لقد توسل القاص بترسانة من المقتبسات، والاستهلالات، والتصديرات، والأسانيد. أسماء لمعنى واحد لتلك المقدمات التي اختارها المبدع بعناية فائقة لتزين بها نواصي النصوص.
إنها بمثابة تجسيرات نصوصية موازية، تحوي قدرا من الحكمة والتبصر والمتعة والعبرة. خطابات قائمة بذاتها. عتبات على هيئة متون مضمرة تشارك في بنية النصوص. خطاب منتج لمعادلات سردية. نص ملحق بنص. نص مواز لنص يحقق في عمقه أغراضا فنية وبلاغية، وأخرى جمالية مرتبطة أساسا بالمتن القصصي.*1
وتعمل تلك العتبات على إضاءة جوانب خفية في النص؛ إنها دليل القارئ حتى لا يضيع في متاهات النص، ويقوم بتأويلات بعيدة عنه، إنها تأخذ بيده، تشير له بالطريق التي ينبغي له سلوكها للقبض على المعنى. صحيح أنها تنير له الطريق لكنها لا ترغمه على السير فيه، بل تترك له حرية الاختيار. ما هو مؤكد، أن العتبات النصية التي وردت بين العنوان والنص، أساسية لا يمكن تخطيها، ثم إن لا شيء زائد في النصوص، ولذاـ ينبغي إيلاء تلك العتبات ما تستحقه من أهمية. خاصة وأنها جاءت مقطرة المعنى، وكأنها تلخيص مركز للمتن. هناك خيط ناظم بين العنوان والعتبة التي تليه والنص القصصي، وشيجة لا ينفصم عراها بين العناصر الثلاثة. ثم إن معظم تلك العتبات تنحو باتجاه البعد الأخلاقي، وتدعمه، وأبرز مثال على ذلك، العتبة التالية:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن** بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل. ص139.
و
وإن بليت بشخص لا خلاق له*** فكن كأنك لم تسمع ولم يقل. ص126.
الوصف
ليس شرطا أن يكون الوصف إيجابيا حول الموصوف، فقد تصف حلما مزعجا أو
أو عاصفة مدمرة، ولذلك فقد يلتزم الواصف أحيانا بالموضوعية لكنه لا يلتزم بالحياد إلا في حالات علمية صرفة. والوصف فنّ من فنون الاتصال اللّغوي، يُستخدم لتصوير المشاهد وتقديم الشخصيات والتعبير عن المواقف والمشاعر والانفعالات بوسائل وطرق عديدة.
وله دوران أساسيان:
الأول: ذو طابع تزييني ويشكل استراحة للقارئ وسط الأحداث السردية، ويكون له دور جمالي خالص.
أما الثاني: فذو طبيعة تفسيرية ورمزية في نفس الوقت.
يبدو وصف الطبيعة بفصولها المتقلّبة, ومناخاتها المتباينة, هدفا جماليا, ودلاليا, أثيرا لدى السارد بصيغه المتعدّدة: «المتكلّم, الغائب ». وغالبا ما يأتي هذا الوصف ليمهّد للحدث أو ليلقي بظلاله على الحالة النفسيّة للشخصيّة. فقوس قزح الذي بدا بعد صحو صيره الوصف سلما لترتقيه الشخصيات الطاهرة؛ إنه فعل عجائبي معبر عن قوة الشخصية الخارقة لنواميس الطبيعة، ومعبرا عن كرامة من كراماتها.
وقد تغيا السارد من وصف الطبيعة, التأثير في المتلقيّ وإيهامه بالواقعية, وخرقها، بالربط بين تقلبّ الأحداث، كما في هذا المثال:
كان الجو يومها صحوا قبل أن يتقلب ويكفهر. تأمل الثياب مشدوها. كان منها المفتول حول نفسه وحول الأسلاك، لفتته الفوطة الكبيرة كانت منجمعة على نفسها مثل أخطبوط، وكان منها المنثور أرضا قد عفره المطر الممزوج بعجاجة الأمس، وكان منها المبروم في أحد الأركان حتى لم يعد يُعرف أيُّ نوع هو من الثياب.. ومنها المفقود.. ص111.
فالوصف، ها هنا، كان بهدف إشعار القارئ أن اللباس، ببعده الرمزي، صار غريبا عن صاحبه الذي تنكر له بلابس غيره، والمقصود، لباسا غير مغربي، ناجم عن التأثير السلبي الذي أحدثته المسلسلات التركية في نفسية، وسلوك، ولباس المغاربة: أغمض عينيه وهمس لها: يا ملابسي، لم لا تناديني باسمي؟ فردت عليه: لو ذكرتنا لذكرناك ! الصفحة نفسها.
ويمكن أن يكون تنكر اللباس لصاحبه ناتج عن الخيانة الزوجية التي ضربت عرض الحائك الأية التي تقول: هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن، فقد ضج اللباس المعنوي من الخيانة، وما غياب الزوجة، من جهة، والتنكير، من جهة ثانية إلا دليل على هذا الفعل الفادح.
والوصف في المجموعة يتجاوز الطبيعة حدوده التزيينية والإيهامية إلى التفسير والترميز وإلقاء الظلال النفسية على المشهد وعناصره.
يتعرّف القارئ إلى الشخصيّة عبر وصف السارد لها, أو ما يستنتجه من أقوالها, وأفعالها, أو مما تخبر به الشخصيات عنها. ويسلك السارد في إخباره منحيين: منحى الوصف الفيزيقي «الخارجي» للشخصية, ومنحى الوصف النفسي»الداخلي» الذي ينشغل باستبطان الدوافع والنوازع وتفسير السلوك. وقد يمزج بين ما هو فيزيقي ونفسي في الوقت ذاته. واجتماعهما مندمجين معا، يمنح النص ثراء يمكنه من جذب القارئ وإقناعه بمصداقية العالم القصصي المتخيل.
هذا التنوّع في الوصف يسهم في نمذجة الشخصيّة وبلورة الانطباع العام عنها, كما يمنح المتلقّي المفاتيح الأولى لفهمها والدخول إلى عالمها.‏ ولعل نص "بلفقير موريسكي" ص35، خير معبر عن ذلك. فالباطرون، من خلال مجموع الأوصاف الحافة به، يظهر مستبدا، وشخصا متعاليا، يخلق حوله هالة من الرعب والخوف: تقدما في صمت وخشوع. كان مسؤول العمال ينحني بقدر اقترابه من المكتب حتى كاد يمشي على أربع، لو طالت المسافة أكثر لكان مقابل نظرية التطور والارتقاء، نظرية للتقهقر. ص39.

جدلية الصعود والسقوط:
تتميز كثير من شخصيات نصوص المجموعة بصعودها السريع، وسقوطها الأخلاقي المدوي، من مثل شخصية المحاضرة، والمدير الشاب، والمترشح الدائم، وما سقوطها الأخلاقي إلا لكونها إما انتهازية، كالشاب الذي صدق حلمه، وسار خلفه ليجد نفسه في مواجهة شابة ثلاثية الصبغية فيخيب أمله، ويحصل على العقاب الذي يستحقه، وإما لكونها شخصية عديمة الكفاءة، كاذبة الوعود كالمترشح الذي سقط في الانتخابات هو الذي عمر في الكرسي لمدة ربع قرن، وإما لتبعيتها وانسلاخها عن أصولها، كالمدير الشاب، و الأستاذة المحاضرة. وكجابي التذاكر بفعل شعوره بالنقص أمام الأجنبي.
لقد كان سقوطها عقابا لها على مواقفها البعيدة عن الأخلاق، وغير المسنودة بالبعد الإنساني.

الخيبة كنوع من العقاب:
إن الطموح الزائد ما هو إلا وصولية مقيتة، يبغي المرء من ورائها الحصول على أشياء ليس من حقه ، لكونه لم يبذل أي مجهود مستحق. لقد سعت شخصية قصة "رقاص" ص28، بفعل إتقانها الرقص إلى الحصول على حظوة، تتمثل في الزواج بابنة المدير، خارقا بذلك الموانع، وغير عابئ بالنتائج، فقط، لأنه صدق حلمه، وسار خلفه، ليجد نفسه أمام عقاب مستحق:
من غدهِ جلسَ إلى بُوعْبِيد نادلِ الإدارة يحتسي كوب شاي، فتحسَّس وتجسس إن كان للمدير بنت. ماطله الرجل في البداية، ثم استسلم لإلحاحه هامسا:
– نعم لديه بنتٌ وحيدة .. لكنها.. مسكينة.. مسكينة..
سكت بُوعْبِيدْ متوجسا.. ثم وضع سبابتيه على صُدْغَيه وسحَبَ جفونَه أفقيا فصارت كعيونٍ آسيوية، وفتحَ فاهُ ومدَّ لسانَه كالمُخْتَل..
الارتقاء كإثابة:
بخلاف الشخصيات السلبية الساقطة أخلاقا، نجد شخصيات أخرى تعرف مسارا مختلفا ومضادا، بفعل سموها الأخلاقي، وبعدها الإنساني. وأبرز مثال شخصية قصة "إمام غير رتيب"، حيث نجدها تمتلك كاريزما مكنتها من التأثير في محيطها تأثيرا إيجابيا؛ ولعل أثوى دليل على هذا التأثر المذكور، استطاعتها تحويل مسار يساري من النضال من أجل تحسين الأوضاع المادية إلى النضال من أجل إرضاء الله. وحق لها، وصحبها، النجاة من الطوفان؛ وهو عنوان، بالمناسبة، أحد كتبها.
ثم إن ما منع هذه الشخصيات من السقوط، وحقق لها الارتقاء، ارتباطها بجذورها، وتمسكها بثقافتها، والحرص على أصالتها.
وجدلية الارتقاء والسقوط تدخل ضمن مجال الحجاج، إذ يستعدى السارد، ومن ورائه، المؤلف، إلى إقناع القارئ/المتلقي، بضرورة الاقتداء بالنماذج الحسنة ليحقق لنفسه الخلاص الديني والدنيوي.
اللغة وتعدد الأصوات
تميزت المجموعة بلغة شفافة وعميقة وقوية، والظاهر أن القاص يولي عناية كافية للغته الباذخة والرشيقة التي ترتقي بنفسها لتواكب العصرنة، وفي الآن نفسه لا تتخلى عن ارتباطها باللغة العربية الأصيلة، وبهذا فالكاتب يبتكر أسلوبا لغويا وسطا يخدم لعبة الكتابة وينشر البهاء ويحفر في الدلالات، ويخلق متعة الإبهار والإمتاع والتشويق في نفس القارئ الذي بدوره يبحث عن هذه العناصر بين ثنايا اللغة كما يبحث عن فكرة جديدة وعميقة بين ثنايا الحكي والسرد. *2
1- تعدد الأصوات
المجموعة زاخرة بتعدد الأصوات، فالشحصيات لها رؤيتها وأراؤها الخاصة التي تعبر بها عن قناعتها وإن كان هناك تدخل من السارد بين الفينة والأخرى حيث يشعر القارئ أنه يجبر الأحداث على أن تسير وفق رغبته لا وفق رغبتها ومنطقها الخاص..، ونجد مثل هذا التعدد في قصة "عازف" ص68 فشخصيتا القصة تعبران عن وجهات نظرهما المتباينة حول قصة العازف، كل يسردها بطريقته الخاصة، ويرمي إلى إقناع الطرف الآخر بمنطق سرده. ويكون منطلق سرد الشخصيتين، سؤال سرغوف المضمر للتحدي، مشفوعا بطلب الحكي، كما في "ألف ليلة وليلة". لقد تباينت وجهات نظرهما حول القصة، كل حكاها بطريقته الخاصة المعبرة عن رؤيته للعالم.

السارد وموقعه
اعتمد الكاتب في هذه القصص على نظام التبئير ، والذي يجعل القارئ يتدرج مع السارد رويدا رويدا حتى يبلغ به إلى لحظة التنوير التي يظهر فيها الحدث واضحا، لهذا فالسارد –في أغلب الأحيان- يكتفي بلعب دور الملاحظ بتسجيل ما يقع حتى يُقلق القارئ أو يكاد ! وفي إقلاق القارئ، ثمة مساحة لطرح الافتراضات وإنتاج تصورات خاصة قد تصح في النهاية ، أو قد تنكسر وتضمحل حين يبلغ القارئ حد اكتمال القصة وتمامها وينتهي بذلك دور السارد كي يبدأ دور القارئ، أي في زمن ما بعد القصة والذي غالبا هو ما يتركه النص في عمق المتلقي من أثر.. "بمعنى أن القصة القصيرة محكومة في شكلها الملفوظ وحجمها الملحوظ بعدد معين من الصفحات لكن لها امتدادات زمنية في نفسية القارئ؛ لما تشكل لديه من رؤية ارتدادية في أعماق الذات لتجسيد انفعالاتها".
بيد أن دور السارد والذي قلنا إنه الملاحظة والتسجيل لا ينفي أن الرؤية في أغلب النصوص جاءت من الخلف، والسارد عليم يُعقِّب على الحدث ويبدي وجهة نظره، وحينا يصير محايدا، مع وجود نصوص يتحدث السارد بنفسه من داخل النص كشخصية محورية تنظم عناصر الحدث فصارت الرؤية من الداخل *2، ك"بانت سعاد" ص95، و"الشيخ مخ.." ص62، هذا النص الذي يسخر من العملية الانتخابية برمتها، قارئا رموز الأحزاب المتبارية بطيرقة تهكمية. ويعبر فيه السارد عن سعادته كونه لم يكن ضمن المصوتين، وإن وجد سبابته مخضوبة بمداد التصويت، فالتصويت كان مجرد تمثيلية هزلية، نتائجها محسومة سلفا، يقول الشيخ مؤكدا هذا الطرح:
لقد كفيت هم الاقتراع، عد إلى يقظتك.. الحاجة مقضية.. أيا ما كان اختيارك أو لا اختيارك. فقد اخترنا لك.. الأمر سيان.. ص67.
الاسترجاع والاستباق:
ينبغي الإشارة إلى تقنية الاسترجاع حيث أن توظيفها كان مهما جدا في سَير أحداث بعض القصص وتطورها نحو الخاتمة، فضلا عن الحلم كتقنية تستبق الأحداث وتعبر عن احتمالية حدوثها؛ هذا الحلم الذي لعب دورا تنويريا في الكشف عن نوايا الشخصيات، وسر أفعالها. ومن النصوص التي استخدم فيها الكاتب هاتين التقنيتين على سبيل الذكر: "الشيخ مخ.." ص62، "المخيتير" ص43، و"رقاص" ص28.
السخرية عبر المقابلة:
تنبع السخرية من خلال المقارنة بين شخصيتين متباعدتي الزمن والاهتمام، بين أبي العباس السبتي صاحب الكرامات، والشاب الغر صاحب التفكير الديكارتي. وتكمن السخرية من خلال العقاب الذي أنزله السارد به ، حين حتم عليه، بفعل مغص ناتج عن القهوة، اللجوء إلى الحمام الإلكتروني، ليرتاح، وهنا، يحصل على العقاب، حيث يتلطخ ببقاياه، مما يسبب له في انحطاط حقيقي يناسب تصرفاته الرعناء، الناجمة عن قطعه الصلة بتراثه، والسخرية منه، بخلال أبي العباس الذي بدا في النص إنسانا كريما، يؤثر الآخرين على نفسه، مؤمنا أن الأرزاق بيد الخالق، ليحصل على إثابة كجزاء له على كرمه، بحصوله على ثياب جديدة كانت بمثابة هدية ربانية تعلي من شأنه.
- شْكُونْ عَاوْدْ لكْ هَذْ الخرافة؟
- هذه ليست خرافة .. هذه كرامة من الله لأوليائه.. حكاها لي والدي وأنا صغير، وأكدَها لي ابني حين قرأ الكتب..
افتعلَ المديرُ الشابُّ الدِّيكَارْتِي اندهاشاً طفولياً ومدَّ لسانَه بصبيانية ثم أمر بْلْعْبَّاس أن ينصرف. احتسى القهوةَ، وسألَ الفنجانَ هازئاً أن يُنسيَه الحكاية كيلا تشغل ذاكرتَه القصيرة دون جدوى أو مغنم. الحياة أهداف صغيرة. وفقط. دون غايات. ثم وضع الفنجان وغاص في جداولَ ورسومٍ بيانيةٍ ولوحاتِ قيادة وتقاريرَ لاجتماع مركزي في الغد. أين من هذا بْلْعْبَّاس. بْلْعْبَّاس قُرُوسْطَوِي.. ص123.
لكنَّ للقهوة مقالب. ما لبث أن أحس المدير بمغص شديد، فقام مسرعاً لبيت الراحة. ومع أنه لاحظ مستوى الماء في قعر مقعد المرحاض ينخفض ويرتفع، إلا أن الحاجَة استبدت به فلم يأبه. جلس. وما إن قضى حاجتَه حتى انخفض منسوب الماء لأدنى مستوى ثم اندفع كانفجار بركان ردَّ للمدير بضاعتَه. آه.. فعلتها مضخةُ الصرف الصحي الإلكترونية.
رؤية الكاتب:
أستطيع الزعم أن النصوص أولَت موضوعَ الأخلاق أهمية بالغة، على اعتبار أن هذه القيمة أساس بقاءِ الإنسان على إنسانيته وبقاء كرامته واستمرار فعله الحضاري الراقي داخل مجتمع يقف على شفا جرف هار. القيم الأخلاقية، وعلى اعتبار أن المجتمع أحوج إليها من أيِّ سلم آخرَ للصعود والارتقاء -مجازا أو حقيقة- أو أي حبل أو يدٍ تمتد من غيب. لا يمكن أن يخفى على القارئ أن الكاتب ضِمن نصوصه يشير إلى هذا العنصر سواء تصريحا أو تعريضا وتلميحا. *3
تجب الإشارة إلى أن بعض النصوص، ومن خلالها، المجموعة بكاملها، تحتفي بالطفل، وتعتبره ركيزة أساسية في بناء الوطن، لذا، ينبغي تربيته تربية سليمة، غير منقطعة عن أصولها، منفتحة على العالم، متفاعلة معه من دون نقص. وما هذا الاحتفاء إلا دليل على الأمل الذي يحمله السارد، ومن ورائه المؤلف، بغد أفضل، قصة "رجل في الشمس" ص102 و"عازف" ص68.

لابد من الإقرار بامتلاك القاص لكل مقومات وأدوات الكتابة القصصية الجادة، واعتماده لغة أنيقة سلسة بسيطة، مضمخة بعطر النص القرآني، وثراء أفكاره وتنوع المواضيع التي يعالجها.

• "صف وصفوة" مجموعة قصصية، رضا نازه، المطبعة والوراقة الوطنية، الطبعة الأولى، سنة 2018.
• 1 نقوس المهدي في تقديمه لمجموعة "في انتظار حب الرشاد" لسعيدة عفيف
• 2 و3 و4رشيد أمديون، بلاغة الانتماء وأزمة القيم في قصص الذمة المعكوسة
http://www.qabaqaosayn.com/node/11902